الكتاب: كتاب الصلاة
المؤلف: تقرير بحث المحقق الداماد ، للآملي
الجزء:
الوفاة: ١٣٨٨
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع: جمادي الأولى ١٤٠٥
المطبعة:
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
ردمك:
ملاحظات: تقرير أبحاث آية الله العظمى الحاج السيد محمد المحقق الداماد (وفاة ١٣٨٨)

كتاب الصلاة
تقرير أبحاث فقيه أهل البيت " عليهم السلام "
آية الله العظمى
الحاج السيد محمد المحقق الداماد
" قدس سره "
تأليف
عبد الله الجوادي الطبري الآملي
الجزء الثاني
تعريف الكتاب 1

الكتاب: تقرير أبحاث آية الله العظمى المحقق الداماد (قدس سره) في الصلاة
المؤلف: عبد الله الجوادي الطبري الآملي
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين ب‍ - قم المشرفة
المطبوع: 500 نسخة
تاريخ النشر: جمادي الأولى 1405 ه‍. ق
تعريف الكتاب 2

بسم الله الرحمن الرحيم
وإياه نستعين
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على جميع الأنبياء والمرسلين سيما خاتمهم
وأفضلهم محمد وأهل بيته الطاهرين سيما بقية الله أرواح من سواه فداه.
بعد: فيقول العبد المفتاق إلى مولاه الجواد عبد الله الجوادي الطبري الآملي
غفر الله له ولكل من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا.
- 1 -
إن الإنسان سائر إلى مولاه وكادح إلى ربه كدحا حتى يلاقيه، فلا يتطرقه
الوقوف أبدا، كما لا يناله الزوال أصلا، إذا لموت ليس إلا انتقالا من دار إلى دار
أخرى، فلا يترك الإنسان سدى، بل له سائق يسوقه إلى خالقه، كما له قائد
يقوده إلى بارئه، قال الله تبارك وتعالى:
" يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه " (1).

(1) سورة الانشقاق: 6.
مقدمة المؤلف 3

" أيحسب الإنسان أن يترك سدى " (1).
" وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد " (2).
- لا بد للمسافر أن يتزود بزاد يتقوى به في السير ويسلك المسير بسرعة
وسهولة، وحيث إن الصراط الذي يمر عليه الإنسان السالك إلى الله أدق من الشعر
وأحد من السيف، فلا محيص عن زاد أرق من كل رقيق وألطف من كل لطيف،
وليس ذلك إلا اتقاء الله حق تقاته حيث قال سبحانه: "... وتزودوا فإن خير
الزاد التقوى " (3) فكل من كان تقواه أشد فزاده أكثر وسلوكه أسرع وأسهل،
ووصوله أيسر، وهو عند الله سبحانه أقرب منزلة وأخص زلفة (4) وقد أشار إلى مثال
منه مولانا الحسن بن علي العسكري عليهما السلام في قوله: " إن الوصول إلى الله عز وجل
سفر لا يدرك إلا بامتطاء الليل " (5) وذلك لأن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا (6)
فلذا لا مطية كالليل وإحيائها، ولا امتطاء كامتطائها بالتهجد والقيام، فأشار عليه السلام
في هذا البيان الجامع الذي هو من غرر أحاديثنا الإمامية إلى أمور شتى.
- 3 -
وحيث إن السالك إلى الله يطير إليه بجناحي العلم والعمل، فلا بد له من

(1) سورة القيامة: 36.
(2) سورة ق: 21.
(3) سورة البقرة: 197.
(4) راجع دعاء الكميل.
(5) أعيان الشيعة الطبع الحديث 2 / 42
(6) سورة المزمل: 6.
مقدمة المؤلف 4

زاد علمي يعلمه، وزاد عملي يعمله، حتى يتحد مع علمه ويتصور بصورة عمله
ويحشر على نيته إذ " لكل امرء ما نوى " (1) كما " أن ليس للإنسان إلا ما سعى " (2)
وكل ما يرجع إلى التعليم فهو بفيض من الله سبحانه إذ هو " علم الإنسان ما لم
يعلم " (3) وكل ما يرجع إلى التعلم والعمل فهو من الإنسان السالك إليه تعالى،
وإن كان الكل منه كما قال: " وما بكم من نعمة فمن الله " (4) لأن الحسنات كلها
من الله كما أنها من عند الله، فلا تكون من الإنسان كما لا تكون من عنده لأن ذاته
ووصفه الكمالي وفعله الخير كلها فانية في ذاته تعالى ووصفه تعالى وفعله تعالى، إذ
لا إله إلا الله وحده ذاتا ووحده وصفا ووحده فعلا، فلذا قال تعالى: " ولولا فضل الله عليكم
ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم " (5).
- 4 -
إن من العلوم التي تتكفل لبيان زاد التقوى هو الفقه، لأنه بالمعنى المصطلح
منه حكمة عملية يتعلم بها كيفية ارتباط الإنسان مع مولاه الذي خلقه وسواه
وقد ره وهداه، وكذا كيفية معاملة الإنسان مع غيره من أفراد نوعه، فلا بد
للسالك أن يتفقه وإلا يتيه في أرض الجاهلية الجهلاء، ويرتطم في نار الحمية
وهوى الأمنية، وقد أشار إلى مثال منه مولانا أمير المؤمنين عليه أفضل صلوات
المصلين في قوله: " من أتجر بغير فقه فقد ارتطم في الربا " (6) ومن المعلوم أنه

(1) وسائل الشيعة 1 / 35.
(2) سورة النجم: 39.
(3) سورة العلق: 5.
(4) سورة النحل: 53.
(5) سورة النور: 21.
(6) نهج البلاغة قصار الحكم: 447.
مقدمة المؤلف 5

لا اختصاص لضرورة الفقه بالاتجار بل تعمه وغيره من أي عمل فردي أو اجتماعي
عبادي أو معاملي، اقتصادي أو سياسي، أخلاقي أو نظامي أو غير ذلك.
فمن أراد أن يروض نفسه بالتقوى بغير فقه فقد ارتطم في الرهبانية، وهو
لا يعلم أن رهبانية أمة محمد صلى الله عليه وآله هو الجهاد في سبيل الله. (1) ومن أراد أن يسوس
الناس بغير فقه فقد ارتطم في البغي والطغيان، وهو لا يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال:
" لإطاعة لمخلوق في معصية الخالق " (2) ومن أراد أن ينكح بغير فقه فقد ارتطم
في السفاح، ومن أراد أن يتعزز بغير فقه فقد ارتطم في تيه المذلة والمسكنة
وهكذا...
فعلى الإنسان الذي يريد أن ينال سعادة الدنيا والآخرة أن يتفقه حتى يعلم
ما يجب أو يحرم عليه وما يباح أو يحل له. نعم الفقه موصل إلى السعادتين لا السعادة
الآجلة فقط، وإن كانت هي الأهم، ولذا قال في المدارك: غايته (أي الفقه) حفظ
الشريعة وتصحيح الأعمال وإقامة الوظائف الشرعية والارشاد إلى المصالح الدينية
والدنيوية والارتقاء عن حضيض الجهل وربقة التقليد ومرجعها إلى تكميل القوى
النفسانية واستجلاب المراحم الربانية. (3)
- 5 -
وأيضا أن رقي المجتمع الانساني رهين معرفة أحكام الله والعمل بها، إذ
بها يتجافى الإنسان عن دار الغرور وينيب إلى دار الخلود، ويستعد للموت قبل
حلوله، وبها يتعالى عن حضيض الأرض إلى أوج السماء. ويشهد له ما رواه

(1) سفينة البحار: 1 / 540.
(2) من لا يحضره الفقيه 4: 381.
(3) مقدمة المدارك.
مقدمة المؤلف 6

علي بن أبي طالب عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله إنه قال: " ما من عبد اهتم بمواقيت الصلاة
ومواضع الشمس إلا ضمنت له الروح عند الموت وانقطاع الهموم والأحزان والنجاة
من النار. كنا مرة رعاة الإبل فصرنا اليوم رعاة الشمس " (1).
وهذا من مآثر الإسلام القيمة حيث إنه أوجب صعود المجتمع الراعي
للآبال إلى عرش الرقي.
- 6 -
إن الفقه كما تقدم حكمة عملية يبتني عليها سعادة الدنيا والآخرة بلا
اختصاص له بإحديهما، فلذا لما ألحق الغزالي الفقه بعلم الدنيا كالطب، وألحق
الفقهاء بعلماء الدنيا كالأطباء، قال الفيض - قدس سره - في تهذيب مقالته: ما
ذكره أبو حامد من أول الفصل إلى آخره ليس على ما ينبغي، وليس معنى علم
الفقه ما زعمه، بل هو علم شريف إلهي نبوي مستفاد من الوحي ليساق به العباد إلى
الله عز وجل وبه يترقى العبد إلى كل مقام أسنى، فإن تحصيل الأخلاق المحمودة
لا يتيسر إلا بتهذيب الأخلاق وتنوير القلب بنور الشرع وضوء العقل... (2)
فليس الفقه من علوم الدنيا كما زعم الغزالي، بل من علوم الدنيا والآخرة
كما حققه الفيض - قدس سره - ولعله لذا قال في مقدمة " مفاتيح الشرائع "
... ورتبته... في فنين: فن العبادات والسياسات وفن العادات والمعاملات (3).
وقد تقدم كلام صاحب المدارك: إن غاية الفقه حفظ الشريعة... والارشاد
إلى المصالح الدينية والدنيوية... (4)
نعم لما كانت الآخرة خيرا وأبقى، وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع، قد

(1) أمالي المفيد: المجلس 16 ص 136.
(2) المحجة البيضاء 1 / 54 و 59.
(3) مفاتيح الشرائع 1 / 7.
(4) مقدمة المدارك: الأمر الثاني.
مقدمة المؤلف 7

يذكر خصوص تحصيل سعادة الآخرة غاية للفقه كما في الذكرى (1) من دون اختصاص
بها. والدنيا والآخرة وإن كانتا ضرتين بمعنى، ولكنهما متلازمتان بمعنى أدق
فلا يمكن انفكاك سعادة إحديهما عن سعادة الأخرى. فلذا أدبنا القرآن الكريم
بأن ندعو الله سبحانه بما علمنا من قوله تعالى: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة
حسنة وقنا عذاب النار (2).
- 7 -
حيث أن الفقه لتحصيل سعادة الدنيا والآخرة، ومن المعلوم أن السعادة
لا تحصل بمجرد العلم به، فلا يكفي في تحققها تعليم الفقيه وإفتاؤه، كما لا يكفي
فيه تعلم المقلد واستفتاؤه، بل حصول السعادة متوقف على العمل به، ومن الواضح
أن كثيرا من المسائل الفقهية ترجع إلى الحكومة الإسلامية، كما أن من أهم
مناصب الفقيه الصائن لنفسه التارك لهواه المطيع لمولاه، هو التصدي لمنصب
الحكومة الإسلامية التي لا يحكم فيها إلا الله دون غيره: " فلا وربك لا يؤمنون
حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا
تسليما " (3).
ومعلوم أن التصرف في النفوس والأموال العامة والخاصة والأنفال وغير
ذلك من شؤون الولاية الإلهية التي آتي رسول الله صلى الله عليه وآله الأئمة المعصومين عليهم السلام
إياها، فالولاية لهم أولا حتى في زمن الغيبة.
ثم إنهم عليهم السلام قد نصبوا الفقيه الجامع للشرائط منصب التصدي للحكومة

(1) الذكرى: 2.
(2) سورة البقرة: 201.
(3) سورة النساء: 65.
مقدمة المؤلف 8

الإلهية في زمن الغيبة، وهذا هو المسمى بولاية الفقيه الممتازة عن وكالته عن قبل
الأمة، وبين الولاية والوكالة بون بعيد، لأن للحكومة الإسلامية أمورا هامة
ليس للناس فيها حق حتى يوكلوا شخصا لتصديها، إذا التوكيل عبارة عن
التسبيب فيما يصح للموكل تصديه مباشرة، وأما إذا كان هناك أمور لا مجال
للناس أن يدخلوا فيها كاجراء الحدود وتصدي القضاء والتصرف في الأنفال
والأموال والنفوس ونحو ذلك فلا يصح التوكيل.
فالفقيه الجامع للشرائط منصوب من قبل الإمام المعصوم الذي هو اليوم
" حجة بن الحسن العسكري المهدي الموعود بقية الله " أرواح من سواه فداه.
فأسنى المناصب للفقيه الجامع للشرائط هو الولاية الدينية التامة الموجبة
للعمل بأحكام الإسلام الفردية والاجتماعية و... لا مجرد الافتاء، لأنه ليس
هاما في جنب تلك الولاية الجامعة، إذ يستوي فيه الفقيه الحي والميت، لأنه كما
يجوز تقليد الحي وأخذ الفتوى منه كذلك يجوز البقاء على تقليده بعد موته
فالمهم في النظام الإسلامي هو تصدي الحكومة الموجبة لتحقق جميع قواعد الإسلام
وأحكامه: من الحدود والقصاص والديات والقضاء والدفاع وما إلى ذلك من الشؤون
الإسلامية في حين تحقق العبادات والمناسك والقربات والدعوات والزيارات
وغير ذلك.
- 8 -
إن أقصى درجات الكمال للسالك إلى الله هو لقاؤه سبحانه، وهو لا يحصل
إلا لصاحب النفس المطمئنة التي راضت ورضيت ما قضى الله له في السراء والضراء وصارت
نفسه مرضية له تعالى ذاتا وصفه وفعلا، إذ يؤذن لمن جمع هذه الشرائط أن يدخل
في عباده سبحانه ويدخل جنته كما قال تعالى: " يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي
مقدمة المؤلف 9

إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي " (1).
والآية تدل على أن الوصول إلى الاطمئنان القلبي التام ليس هو الغاية القصوى
للسالك، كما أن نيل مقام الرضوان بكلا شقيه أيضا ليس كذلك، بل له مقام
أقصى من ذلك كله لا يخاطب لنيله إلا النفس الواجدة لتلك الدرجات الرفيعة،
بخلاف غير ذلك المقام فإن المخاطب فيه هو الإنسان لا النفس المطمئنة وإن كان
توجه الخطاب مطلقا إنما هو إلى النفس، ولكن قد يصحبه البدن وقد لا يصحبه
لا نقول إن الواصل إلى ذلك المقام السامي مجرد عن البدن، بل المراد أنه لاحظ
للبدن هنالك مع أن الإنسان البالغ إليه ذو بدن أيضا.
والغرض أنه لا ينال ذلك المقام إلا بعد اجتماع شرائط: منها الرضا بكلا
طرفيه، والرضا لا يحصل إلا لمن يخشى ربه حيث قال تعالى: " رضي الله عنهم
ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه ". (2) وهذه الخشية لا تحصل إلا بالعلوم الإلهية،
قال سبحانه: إنما يخشى الله من عباده العلماء " (3).
ومن تلك العلوم التي توجب الخشية - بعد معرفة الله وأوصافه الجمالية
والجلالية ومعرفة مظاهرها من الجنة والنار - هو العلم بما يجوز فعله وما
لا يجوز والعلم بما يجب فعله وما لا يجب و... وهذا هو الفقه الدارج، فالفقه
موجب للخشية، والفقيه يخشى ربه ويرضى ربه عنه كما يرضى هو عن ربه ويأذن
له أن يدخل في عباده ويدخل جنته التي هي غير الجنات التي تجري من تحتها
الأنهار وكذا غيرها من جنان أخر كائنة ما كانت.
وهؤلاء الفقهاء الجامعون للعلم والعمل هم الذين سلم عليهم وأثنى عليهم
وبجلهم العلامة الحلي، الحسن بن يوسف بن المطهر - رحمة الله عليه - حيث قال:

(1) سورة الفجر: 30 - 27.
(2) سورة البينة: 8.
(3) سورة فاطر: 28.
مقدمة المؤلف 10

" فإن الفقهاء عليهم السلام هم عمدة الدين ونقلة شرع رسول رب العالمين وحفظة فتاوى
الأئمة المهديين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وهم ورثة الأنبياء والذين يفضل
مدادهم على دماء الشهداء، وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وآله النظر إليهم عبادة والمجالسة
لهم سعادة واقتفاء أثرهم سيادة، والاكرام لهم رضوان الله والإهانة لهم
سخط الله... " (1).
وكما أن العمل بدون الاعتقاد غير ناجح، كذلك الاقرار بالمبدء بدون
العمل الصالح غير مجد، بل الذي يصعد إليه تعالى هو الاعتقاد الطيب والعمل الصالح،
قال سبحانه: " إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه " (2) وقال أحدهما عليهما السلام
" ومن قال: لا إله إلا الله، فلن يلج ملكوت السماء حتى يتم قوله بعمل صالح " (3) فالمؤمن
الصالح يرى ملكوت ربه ويلجها ويشاهد ما فيها بإراءة ربه، وذلك كله من
حسنات الفقاهة، لعدم حصول تلك الدرجات إلا بها وإن كانت هي وحدها أيضا
غير كافية في الفوز بها.
- 9 -
إن في بيان معنى الفقه وأنه ما هو؟ وأن الفقيه من هو؟ تعابير متعددة لا تخلو
عن معنى جامع وإن اختلفت المصطلحات حسب اختلاف العصور، كما قال المولى
محمد تقي المجلسي - قدس سره -: والظاهر من الفقيه في عرف القدماء: " المحدث
العالم " وهو قريب من عرف المتأخرين وهو المجتهد... وقد يطلق الفقيه على
العالم التارك الدنيا الراغب في الآخرة أيضا كما يظهر من الخبر. ومن بديع ما

(1) تذكرة الفقهاء: 1 / 2.
(2) سورة فاطر: 10.
(3) أمالي الشيخ المفيد، المجلس الثالث والعشرون ص 184.
مقدمة المؤلف 11

أفاده - رحمه الله - هو أنه يجب على الفقيه اظهار كونه فقيها ليتبعه الناس (1)
أقول: وقد تقدم أن المهم هو اتباع الأمة الإسلامية وتوليهم للفقيه الجامع
لشرائط الافتاء والهداية والتدبير والإدارة وما إلى ذلك من الخصائص النفسية
النفيسة، لا مجرد أخذ الفتوى وتحصيل الوجود الكتبي واللفظي والذهني للأحكام
بل لتحقيق وجودها العيني في الجوامع البشرية بجهد جهيد لتصير كلمة الله
هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى.
قال شيخ مشايخنا العظام في " كشف الغطاء ": وإذا لم يحضر الإمام بأن كان
غائبا أو كان حاضرا ولم يتمكن من استيذانه وجب على المجتهدين القيام بهذا
الأمر (الدفاع عن بيضة الإسلام...) ويجب تقديم الأفضل أو مأذونه في هذا المقام
ولا يجوز التعرض في ذلك لغيرهم، ويجب طاعة الناس لهم ومن خالفهم فقد
خالف إمامه... (2).
- 10 -
إن التكامل الحقيقي للفقه رهين التطور الحقيقي لأصول الفقه كما أن
توقفه وركوده وليد توقف أصول الفقه وركودها: وحيث إن لله على الناس
حجتين: العقل والوحي، فكلما أدي حق هاتين الحجتين بأن حكم بحجية العقل
المصون عن زيغ القياس الطاهر عن رين الاستحسان القائم على ركن وثيق من
الاجتهاد والتدبر والاستنباط، وكذا حكم بحجية الخبر - المروي عن المعصوم
عليه السلام - السالم عن وهن المتن وضعف السند الواجد لشرائط الاعتبار الراجع بعضها
إلى أصل الصدور وبعضها إلى جهة الصدور وبعضها الآخر إلى الدلالة، يتطور الفقه

(1) روضة المتقين 1 / 10.
(2) كشف الغطاء: 394.
مقدمة المؤلف 12

ويتكامل دائما لا وقوف له ولا ركود، بل يجري مجرى الشمس والقمر إلى أن
يرث الله الأرض ومن عليها.
والسر في ذلك: هو أن العقل الحر الذي لم يستعبده التقليد الحاكم على
غير واحد ممن ينتمي إلى العلم سراج منير، والخبر المعتبر المأثور عن المعصوم
عليه السلام وحي ممثل ظاهره أنيق وباطنه عميق لا نفاد لمعارفه ولا حد لمطالعه لارتباطه
إلى الله سبحانه، الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض.
فكما يقال لقارئ القرآن: " إقرأ وارق " (1) كذلك يقال للمجتهد الذي
لم يأسر هواه عقله ولم يستعبد التقليد تحقيقه ولم يحكم مجرد شهرة أمر على
اجتهاده ولا صرف شيوع حكم على استنباطه: إقرأ الخبر المأثور عن أهل بيت الوحي
والعصمة وارق إلى معنى أدق مما فهمه القوم، إذ كم ترك الأول للآخر! ومثل
هذا المجتهد قد يستنبط ما لم يعهد مثله مع التحفظ على الأصول الجامعة للاجتهاد
والسر في ذلك - كما أشير إليه - هو أن قول المعصوم صلى الله عليه وسلم حبل وثيق أحد
طرفيه بيد الناس والطرف الآخر بيد الله سبحانه وتعالى، يعني أنه لا انقطاع
للمعارف المستفادة منه. ولنأت بشاهد قوام بالقسط وهو ما رواه المفيد - قدس سره -
في أماليه... عن سالم بن أبي حفصة قال: لما هلك أبو جعفر محمد بن علي الباقر
عليهما السلام قلت لأصحابي: انتظروني حتى أدخل على أبي عبد الله جعفر بن محمد عليهما السلام
فأعزيه، فدخلت عليه فعزيته ثم قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون ذهب والله
من كان يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يسأل عمن بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وآله لا والله
لا يرى مثله أبدا، قال: فسكت أبو عبد الله عليه السلام ساعة ثم قال: قال الله عز وجل
إن من عبادي من يتصدق بشق تمرة فأربيها له فيها كما يربي أحدكم فلوه
حتى أجعلها له مثل أحد، فخرجت إلى أصحابي فقلت: ما رأيت أعجب من هذا
كنا نستعظم قول أبي جعفر عليه السلام: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلا واسطة، فقال لي

(1) سفينة البحار 2 / 413.
مقدمة المؤلف 13

أبو عبد الله عليه السلام: قال الله عز وجل بلا واسطة (1).
ولا ينال ما عند الله إلا بطي الدرجات الرفيعة التي هي الصحف المكرمة
بأيدي سفرة، كرام بررة، وحيث إن ذلك كله من القرآن ومعارفه القيمة (لا أنه
وحي تشريعي جديد) فله ما للقرآن من المآثر والآثار التي منها ما أشير إليه من أن
أحد طرفيه بيد العباد والطرف الآخر بيد الله سبحانه، فللمجتهد أن يتدبر ويترقى
إلى حيث تحتاج إليه المجتمعات البشرية في المسائل المستحدثة.
- 11 -
كل ما يتطور بالتكامل فهو مادي ذاتا أو فعلا كالصورة التي في المادة والعرض
الذي على الموضوع وكالنفس التي مع البدن، وكل ما لامساس له بالمادة أصلا
لا في أصل الذات ولا في مقام الفعل فلا مجال لتطوره التكاملي، بل هو ثابت بحاله،
لا أنه ساكن كما أنه ليس بمتحرك لأن السكون المقابل للحركة وصف سلبي
للموجود المادي بخلاف الثبات لأنه وصف وجودي للموجود المجرد.
وحيث إن العلم بما هو علم أمر مجرد عن التعلق بالمادة بأي نحو من التعلق
فلا مجال لتطوره وتكامله بل المتطور المتكامل إنما هو النفس العالمة التي ينكشف
لها شئ بعد شئ، لا أن العلم تطور وتكامل، إذ هو أمر حقيقي ثابت بحياله وله
درجات بعضها فوق بعض، بل العالم هو الذي ينال درجاته تدريجا ويطلع عليها
حينا بعد حين، وهذا الأمر مبني على تجرد العلم وثباته على ما هو عليه، كما
قرر في موطنه. ويؤيده ما نجده من ثبات علومنا مدى الدهر.
بيانه: إن خاصة التطور هي أن الموجود المتطور وإن كان منحفظا في
جميع أدوار تكامله بما هو الجامع لمراتبه، ولكن لا يبقى شئ من درجاته الخاصة

(1) أمالي المفيد: 354.
مقدمة المؤلف 14

بخصوصيتها، سواء في ذلك الجوهر المادي المتحرك والعرض المادي المتحول،
مثلا إذا صار التراب شجرا بالتطور الجوهري لا يكون شئ من حدود مسافاته
الجوهرية باقيا بحاله وإن كان أصل الوجود المنحفظ بحياله باقيا وكذا إذا صار
الماء البارد حارا بالتحرك الكيفي لا يكون شئ من أجزاء مسافاته العرضية باقيا
بحاله وإن كان السنخ الجامع الخارجي باقيا. وأما العلم فهو مع أي حد كان فهو
منحفظ بحياله بلا تحول فيه أصلا، مثلا إذا تعلم إنسان في مطاوي عمره علوما
كثيرة مختلفة في درجات الكمال يكون جميع حدود علومه المتفاوتة في السهولة
والصعوبة وفي السذاجة والعمق وفي الظهور والبطون و... محفوظة بحيالها إذ لم
يتبدل شئ منها بآخر، بل النفس إنما تبدلت وتطورت من حد منه إلى حد
آخر منه، إذ التعلم إنما هو بأن يتحرك العالم نحو العلم، لا أن العلم ينتقل إلى
العالم ولا بأن ينتزع العالم الثابت بحاله شيئا من العلوم ويجرده أو يعممه أو غير ذلك مما
يوهم تحول العلم وأنه يتحرك من المحسوس إلى المتخيل ثم منه إلى المعقول
بل النفس إنما هي تنتقل من مرتبة الحس إلى مرتبة المثال والخيال، ثم منها
إلى مرتبة العقل، وفي كل مرتبة تدرك ما يحاذيها من المعلومات.
ولا ميز في ذلك كله بين شخص واحد في أدواره العلمية وبين المجتمع في
تطوراته الفكرية، لأن المتطور في جميع ذلك إنما هي النفس العالمة لا العلم بما
هو علم، فتوصيف العلم بالتكامل من باب توصيف الشئ بوصف متعلقه لا بوصف
نفسه، فالاسناد مجازي.
نعم إذا صار العلم وصف النفس واتحد بها كما اتحدت به انسحب حكم
أحد المتحدين إلى الآخر وهذا الانسحاب هو المصحح لاسناد التطور إلى العلم.
ثم إن كل أمر أبدعه الفكر البشري فهو لا يخلو عن شوب نقص وقصور في
بادئ أمره، ثم يتطور بالتكامل الموجب لخلوصه عن شائبة النقص إلى أن يصير
كاملا بحسبه في ختام أمره. وأما كل أمر أبدعه الوحي الإلهي فهو خالص عن أي
مقدمة المؤلف 15

شوب، وإنما التطور التكاملي للأفراد والمجتمعات عصرا بعد عصر حتى يدركوه
كما هو حقه ويصلوا إلى كنه مراده.
فمن كان قريبا من مبدء الوحي ولم يكن بينه وبين من أتى به حجاب
ولم يكن في أذنه وقر ولم يكن قلبه في أكنة فهو يدرك المقصود ويعترف به
ويعمل بمقتضاه، سواء قرب عهده الزماني بمبدء الوحي أو بعد عنه إذا المدار هو
التقرب المعنوي لا القرب الزماني المادي، ومن لم يكن كذلك فهو محروم عن
إدراكه كذلك، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن إمكان إدراك معارف
الوحي لمن كان قريب العهد منه أوفر لقلة الوسائط أو فقده، ولسهولة سؤال أهل
الذكر الحقيقي عن المراد، بخلاف من كان بعيد العهد منه لتخلل الوسائط.
ومن ناحية ثالثة يعكس الأمر وهو أن كل من تأخر عهده عن طلوع أية
صناعة علمية فهو في فسحة من التحقيق، لانتفاعه بتجارب من تقدمه من المحققين
واستفادته من النتائج المترتبة على مبانيهم وأصولهم المستنبطة. وإلى ذلك أشار
شيخ مشايخنا الإمامية في العلوم العقلية في إلهيات الشفا حيث قال - رحمه الله -:
" إن كل صناعة فإن لها ابتداء نشأة تكون فيها نية فجة غير أنها تنضح
بعد حين، ثم إنها تزداد وتكمل بعد حين آخر ولذلك كانت الفلسفة في القديم
ما اشتمل به اليونانية خطبية ثم خالطها غلط وجدل وكان السابق إلى الجمهور
من أقسامها هو القسم الطبيعي ثم أخذوا يتنبهون للتعليمي ثم للالهي وكانت لهم
انتقالات من بعضها إلى بعض غير سديدة " (1) فكم فرق بين الفلسفة السابقة على عصره
وبين الفلسفة المتجلية في عصره الذي كان هو المفكر لها ببركة الإسلام.
وهذا التطور التكاملي إنما هو بلحاظ أصل الصناعة ولا ينافي ذلك أن يوجد
في القدامى أو حدي من أهل الحدس والتحقيق قلما يوجد مثله في الأعصار القادمة
إذا الكلام إنما هو في التطور العلمي مع قطع النظر عن النوابغ الذين يعدون

(1) الفصل الثاني من المقالة السابعة.
مقدمة المؤلف 16

من نوادر الدهر.
وإلى هذا التطور التكاملي في صناعة الفقه أشار شيخ مشايخنا الإمامية
في العلوم النقلية في المبسوط حيث قال - رحمه الله -:
" وكنت على قديم الوقت وحديثه متشوق النفس إلى عمل كتاب يشتمل
على ذلك تتوق نفسي إليه فيقطعني عن ذلك القواطع وتشغلني الشواغل وتضعف
نيتي أيضا فيه قلة رغبة هذه الطائفة فيه وترك عنايتهم به لأنهم ألقوا الأخبار
وما رووه من صريح الألفاظ حتى أن مسألة لو غير لفظها وعبر عن معناها بغير
اللفظ المعتاد لهم تعجبوا منها وقصر فهمهم عنها... " (1).
فكم فرق بين الفقه السابق على عصر محمد بن الحسن الطوسي وبين الفقه
المتبلور في عصره الذي كان له في تأسيسه وتنويره وتكثير فروعه وأطروحة استنباطه
وما إلى ذلك من المآثر الفقهية سهم وافر، لأنه ورث أمورا هامة من قواعد
الفقه وفروعه ما لم يرثه ممن تقدمه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وهو - رحمه الله - مع كونه في عصر الفقاهة: عصر المشايخ العظام كالشيخ
المفيد - رحمه الله - والسيد المرتضى - رحمه الله - و... وقد أدركهم، فقد بلغ حد
الابتكار والابداع فوق ما ناله مشايخه. بحيث لم يسبقه الأولون ولم يدركه
الآخرون إلى أمد بعيد، وإن كان الكل قد بذلوا جهودهم في صيانة ما ورثوه
واستنباط ما أورثوه، فلله تعالى درهم وعليهم رضوانه.
- 12 -
إن للتطور العلمي عوامل خارجية وداخلية بعضها أهم من بعض،
ولا ريب في تأثير الحوزات العلمية التي تتشكل من جهابذة العلم وأساتذة الفن

(1) مقدمة المبسوط: 2.
مقدمة المؤلف 17

والتلاميذ الأذكياء المجدين والمكتبات الجمة التي فيها كتب قيمة وما إلى ذلك من
عناصر الرقي والتكامل في تطور العلم وترقيه، إلا أن ذلك كله عوامل خارجية
لا بد من فرضها منحفظة بحالها ثم يبحث عما هو العامل الهام في التطور مع
انحفاظ تلك العوامل ونحوها بحالها.
والذي ينبغي أن يقال: هو أن العلم إذا كان مبنيا علي صرح ممرد من
المباني الراقية والبراهين الساطعة يرى ما لا يراه غيره وينال ما لا تصل إليه أيدي
غيره مما ليس له مبنى متين ولا برهان رصين، إذا العلم إنما يغتذي بالمبنى وينمو
بالبرهان فيدور مدارهما حيث دارا.
ومن المعلوم: أن الفقه حكمة عملية تعتمد على النقل، وإن كان للعقل فيه
سهم وافر أيضا إلا أن تأثيره إنما هو في حوزة النقل فقط، وأما العقل الصراح
القائم بنفسه بحيث لا تستند إلى مقدمة نقلية أصلا فإنما هو في العلوم العقلية
كالفلسفة الإلهية والعلم الرياضي... فأساس الفقه هو النقل والاعتماد عليه والاستناد
إليه والاستنباط منه والثقة به والدور معه والخوض فيه والسعي له وإن كان
ذلك كله بالعقل، ولكن بحيث ليس له إلا الادراك، وأما المواد المدركة فكلها
أو جلها منقولة من الشرع الأنور.
فكل عصر قوي أساس النقل واستحكم بنيانه المرصوص رصن فيه الاستنباط
واشتد الاجتهاد وكثرت الفروع وأينعت ثمار الحوزات وما إلى ذلك من البركات
كعصر الشيخ الطوسي - قدس سره - من القدماء، والعلامة الحلي - رحمة الله عليه -
من المتأخرين، وكل عصر ضعف أساس النقل واستوهن بنيانه صعب الاستنباط
وركد الاجتهاد كعصر السيد المرتضى - قدس سره - مع كونه قريبا من عصر
الشيخ - رحمه الله - ومتقدما عليه بيسير، وهكذا عصر ابن زهرة وابن إدريس - رحمهما الله -
مع كونه بعد عصر الشيخ - رحمه الله - والمتوقع أن يكون الاستنباط فيه أسهل
والاجتهاد أكمل من العصر المتقدم.
مقدمة المؤلف 18

والسر في ذلك: هو ما أشير إليه آنفا من أن الفقه علم مبني على براهين
جلها نقلية من الكتاب والسنة، والكتاب وإن كان قطعي الصدور إلا أن ما يرجع
منه إلى المسائل الفقهية قليل جدا كما أن نطاق هذا المقدار القليل ليس ناصا
بل أقصاه الظهور المحتمل للخلاف، والمستفاد منه غالبا هو التشريع لا التبيين،
وعلى فرض التبيين ليس غالبا إلا العموم أو الاطلاق إن لم يكن مجملا أو مهملا
ومن المعلوم: تخصيص غير واحد من عموماته وكذا تقييد كثير من مطلقاته، كما
أن من الواضح عدم جواز التمسك بشئ من ذلك قبل الفحص عن المخصص
أو المقيد وما إلى ذلك من القرائن الدالة على إرادة خلاف الظاهر، فلا يستفاد
من القرآن الكريم إلا فروع قلائل.
وأما السنة: فالخبر المتواتر أو الواحد المحفوف بالقرينة القطعية منها
وإن كان مفيدا للقطع إن كان من حيث الدلالة نصا أو مفيدا للظن المعتبر عند
الكل إن لم يكن كذلك بل كان ظاهرا، إلا أنه قليل جدا أيضا بحيث يمكن
دعوى خلو أكثر الفروع الفقهية عن ذلك.
فلم يبق من السنة إلا الخبر الواحد الظني الواجد لشرائط الحجية مما
يرجع إلى السند أو المتن. وهذا الدليل هو الأساس والأصل للفقه الإسلامي
بحيث يدور معه حيثما دار، ولا يمكن الاستغناء عن الخبر الواحد بسائر الأدلة
كالعقل أو الاجماع أو الشهرة أو السيرة أو نحوها من الظنون الخاصة، لأن منها
ما يتوقف اعتباره على حجية الخبر الواحد كالاجماع المنقول به، فلا مجال للاعتماد
عليه مع فرض عدم حجية خبر الواحد. ومنها ما لا يتوقف اعتباره عليها، فيمكن
الاستناد إليه مع كونه مفيدا للقطع أو الوثوق، لكنه أيضا قليل جدا لا يغني الفقيه
عن الخبر الواحد. وأما إذا لم يكن مفيدا للقطع والوثوق فهو على فرض اعتباره
دليل لبي يؤخذ بالمتيقن منه ولا ظهور لفظي له حتى يصلح لاستنباط المسائل الكثيرة
منه فلا يغني عن الخبر الواحد أيضا، كما لا يخفى.
مقدمة المؤلف 19

- 13 -
إن الذي تقدم ترصيصه: من أن الحجر الأساسي لتطور الفقه وتكامله إنما
هو اعتبار الخبر الواحد، فالمراد منه هو الاعتقاد بحجيته على صراط الأصوليين،
لا على سبيل الأخباريين، لأن الخبر الواحد وإن كان صراطا يهدي سالكه إلى
أكثر الأحكام والفروع إلا أن طي ذلك الصراط والانتفاع به لا يتيسر إلا بمصباح
العقل، حيث إن العقل وإن لم يكن كافيا للهداية إلى الفروع التعبدية ولكنه
لازم لادراك ما تعبد به الشرع، إذ هو متوقف على معرفة المحكم والمتشابه
وإرجاعه إلى المحكم، ومعرفة الناسخ والمنسوخ وتقديم الناسخ عليه، ومعرفة
المطلق والمقيد وتقييد المطلق به، وهكذا الأمر فيما يرجع إلى السند، للزوم
معرفة الصحيح والضعيف، والمروي والمجعول والمنقول والموضوع وهكذا.
ومن هنا يتضح أن القول باعتبار الخبر الواحد كما أنه موجب لتطور
الفقه كذلك موجب لتكامل أصول الفقه، لأن غير واحد من المباحث الدقيقة
الأصولية متوقف عليه.
فإذا تبين تأثير القول بحجية الخبر الواحد في تطور الفقه وتكامله، يتضح
سر تكامل الفقه في مدرسة الشيخ الطوسي - رحمه الله - وعدم تكامله في مدرسة
أستاذه السيد المرتضى - رحمه الله - وكذلك عدم تحوله في مدارس السيد
ابن زهرة وابن إدريس وغيرهم من منكري حجية الخبر الواحد ممن تقدم
على الشيخ - رحمه الله - أو تأخر عنه.
فليس سر ذلك التحول والتكامل نبوغ الشيخ - رحمه الله - فقط وإن كان
له سهم وافر، إذ لو فرض اعتقاد الشيخ بما ذهب إليه أستاذه من عدم حجية الخبر
الواحد لما أتيحت له فرصة البسط والاستنباط والتخريج، إذ ليس في وسع سائر
مقدمة المؤلف 20

الأدلة كالاجماع والعقل أن يتكفل ما يتصداه الخبر الواحد، كما تقدم توضيحه.
- 14 -
ليس إنكار ابن إدريس - رحمه الله - لحجية الخبر الواحد راجعا إلى خصوص
الخبر الضعيف ونحوه مما هو فاقد لشرائط الاعتبار، لأنه غير معتبر عند القائل
بحجية الخبر الواحد أيضا، بل إنكاره إنما هو لأصل اعتباره، والشاهد لذلك
هو استدلاله بما استدل به السيد المرتضى - قدس سره - في بعض رسائله:
منها: ما في أجوبة المسائل الموصليات الثالثة (1) ومنها: ما في أجوبة المسائل
التبانيات (2) من أن الخبر الواحد لا يوجب علما ولا عملا لأن الخبر الواحد
إذا كان عدلا فغاية ما يقتضيه خبره هو الظن بصدقه ومن ظننت صدقه يجوز أن
يكون كاذبا فإن الظن لا يمنع من التجويز، فعاد الأمر في العمل بأخبار الآحاد
إلى أنه إقدام على ما لا نأمن من كونه فسادا أو غير صلاح.
والمتتبع إذا طابق ما في مقدمة " السرائر " مع ما في رسائل السيد المرتضى
- قدس سره - يذعن بتطابق رأيهما، ومن المعلوم: أن السيد - قدس سره -
قائل بعدم اعتبار خبر العدل الواحد في الأحكام ولم يخص ذلك بالخبر الضعيف
فكذا ابن إدريس - رحمه الله -.
نعم: قال السيد - رحمه الله - بعدم امتناع تعبد الشرع بالقياس وبالخبر
الواحد خلافا لمن قال: باستحالته، حيث قال في الموصليات الثالثة:
"... وقد تجاوز قوم من شيوخنا - رحمهم الله - في إبطال القياس في الشريعة
والعمل بأخبار الآحاد أن قالوا: إنه مستحيل من طريق العقول العبادة بالقياس في

(1) رسائل السيد، المجموعة الأولى: 202.
(2) رسائل السيد، المجموعة الأولى: 74 - 21.
مقدمة المؤلف 21

الأحكام وأحالوا أيضا من طريق العقول العمل بأخبار الآحاد وعولوا على أن
العمل يجب أن يكون تابعا للعلم وإذا كان غير متيقن في القياس وأخبار الآحاد
لم نجد العبادة بها. والمذهب الصحيح هو غير هذا، لأن العقل لا يمنع من العبادة
بالقياس والعمل بخبر الواحد، ولو تعبد الله تعالى بذلك لساغ ولدخل في باب
الصحة - إلى أن قال - وإنما منعنا من العمل بالقياس في الشريعة وأخبار الآحاد
مع تجويز العبادة بهما من طريق العقول لأن الله تعالى ما تعبد ولا نصب دليلا عليهما،
فمن هذا الوجه أطرحنا العمل بهما ونفينا كونهما طريقين إلى التحريم والتحليل ".
والأمر اللائح من كتب السيد ورسائله هو جعل الخبر الواحد كالقياس
ممنوع الاستناد إليه جدا، ووافقه ابن إدريس بلا اختصاص للمنع بالخبر الضعيف.
15 -
إن القائل بعدم حجية الخبر الواحد قد يعتمد على الاجماع ويستند إليه
مع أن الاجماع نفسه كثيرا ما مستند إلى الخبر الواحد الموجود في المسألة أو
يحتمل قويا استناد المجمعين إليه، وكذا قد يعتمد على السيرة الدارجة بين المتشرعة
أو الشهرة القائمة بين الأصحاب مع استناد تلك السيرة أو هذه الشهرة إلى خبر
العدل الواحد.
فكم فرق! بين الاعتماد على الخبر الواحد الواجد لشرائط الحجية وجعل
الاجماع مستندا إليه ومؤيدا له - كما هو دأب المحققين من المتأخرين الناهجين
على صراط الأصوليين - وبين الاتكال على الاجماع أو الشهرة أو السيرة أو العقل
- إن أمكن - مع الاعراض عن خبر العدل الواحد، إذ القول الأول مبني على
أساس الحجة وبنيان الاعتبار، والقول الثاني مبني على الاعراض عن الأساس
ومبتن على الاعتماد على الفرع.
مقدمة المؤلف 22

وحيث إن الاجماع ونحوه على فرض اعتباره دليل لبي لا نطاق له، لا يمكن
توسيع محتواه وتكثير نتاجه، ولهذا - ولغيره - لا مجال لتطور الفقه وتكامله
على مبني عدم اعتبار الخبر الواحد.
- 16 -
إذا تبين اتحاد مقالتي السيد المرتضى المتقدم على الشيخ الطوسي
وابن إدريس المتأخر عنه يتضح النبوغ العلمي الذي ناله الشيخ - رحمه الله - أولا،
وكذا سر تكامل الفقه في مدرسته دون مدرستهما ثانيا.
وأيضا لما تبين أن من أهم عوامل تطور الفقه هو القول بحجية الخبر
الواحد على طريق الأصوليين لا على سبيل الأخباريين يظهر سر تكامل الفقه في
مدرسة العلامة الحلي والشهيدين والأستاذ الأكبر وصاحب الجواهر والشيخ الأنصاري
من المتأخرين ومن اقتدى بهم ومشى مشيهم. دون مدرسة غيرهم ممن يمشي
مشي الأخباريين.
ولذا قال العلامة - قدس الله نفسه الزكية - في كتابه القيم: منتهى المطلب
في تحقيق المذهب: "... فشرعنا في عمل هذا الكتاب المحتوي على المسائل اللطيفة
والمباحث الدقيقة الشريفة وإن كان أصحابنا المتقدمون وعلماؤنا السابقون
- رضوان الله عليهم - قد أوضحوا سبيل كل خير ونهجوا طريق كل فائدة خصوصا
شيخنا الأقدم والإمام الأعظم المستوجب للكرامة والمستحق لمراتب الإمامة:
أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي - قدس سره - فإنه الواصل بنظره الثاقب إلى
أعظم المطالب، ولما انتقل إلى جوار الرحمن ونزل ساحة الرضوان درس هذا العلم،
وبعده طمست معالمه وأمحت مراسمه ولم يتعلق المتأخرون بفوائد، ولم يغترفوا
إلا من بحر فرائده، ولم يستضيئوا إلا بأنواره، ولم يستخرجوا إلا درر نثاره، إلا
مقدمة المؤلف 23

أن من أصحابه المتأخرين عنه قبل زماننا من استنبط بنظره ما لم يثبته في كتبه وإن كان
يسيرا لا اعتداد به، فوضعنا هذا الكتاب الجامع لتلك الفوائد الحاوي لتلك الفرائد.
هذا مع أن كتابنا هذا لا يخلو عن مطالب دقيقة ومباحث عميقة لم يوجد في شئ
من صحف الأولين ولم يسطر في دفاتر الأقدمين مما استنبطناه من فكرنا ونظرنا،
ومن الله تعالى نستمد المعونة والتوفيق وأن يجعل ذلك خالصا لوجهه، عليه توكلت
وإليه أنيب " (1).
ولو لم يسد الطريق الذي سلكه الشيخ - رحمه الله - ولم يمنع عن العمل
بالخبر الواحد ولم يسو بينه وبين القياس كما ذهب إليه ابن إدريس - رحمه الله -
وموافقوه ممن تأخر عن الشيخ - رحمه الله - وفاقا لمن تقدمه كالسيد المرتضى
- رحمه الله - لأسرع تطور الفقه ولتكامل قبل المحقق الحلي والعلامة الحلي، إذ
الفقهاء الذين نشأوا بعد الشيخ وقبل الفاضلين كانوا من جهابذة العلم وأساطينه
كابن إدريس الذي قد أوتي من الفقاهة والشجاعة العلمية والقيام تجاه فتاوى سائر
الفقهاء ما لم يؤت إلا الأوحدي منهم.
قال في " السرائر " فعلى الأدلة المتقدمة أعمل، وبها آخذ وأفتى وأدين
الله تعالى، ولا ألتفت إلى سواد مسطور وقول بعيد عن الحق مهجور، ولا أقلد
إلا الدليل الواضح والبرهان اللائح ولا أعرج على أخبار الآحاد، فهل هدم الإسلام
إلا هي... (2)
فالمانع الهام من تطور الفقه في عصر ابن إدريس - رحمه الله - هو ترك
رأس المال للتكامل وهو الخبر الواحد الواجد لشرائط الحجية، وكذلك التطور
في زمن العلامة من بركات الأخذ بالخبر الواحد، وإن كان للجهات الخارجية
المقتضية للتطور والتكامل في عصره أيضا سهم، ومن أقواها نبوغه العلمي وذكاؤه

(1) المنتهى ص 3.
(2) مقدمة السرائر ص 5.
مقدمة المؤلف 24

الفقهي ولذا بلغ في صغره ما لم يبلغ غيره في كبره، وفي شبابه ما لم يبلغه غيره في
كهولته، وفي كهولته ما لم يبلغ غيره في شيخوخته، حيث كان عمره - قدس سره -
حين تصنيف كتابه المعروف بالمنتهى اثنين وثلاثين سنة. قال في المقدمة التاسعة من
مقدمات كتاب منتهى المطلب:
" لما رأينا أن الغالب على الناس في هذا الزمان الجهل وطاعة الشهوة والغضب
والرفض لادراك المعاني القدسية وترك الوصول إلى أنفس المعارج العلوية...
حتى أتى في مدة عمرنا هذا وهو اثنان وثلاثون سنة لم يشاهد من طلاب الحق
إلا من قل، ومن القاصدين للصواب إلا من جل أحببنا اظهار شئ من فوائد
هذا العلم... (1).
أقول: هذا يشبه قول شيخ الاشراق الذي تقدمه حيث قال: في خاتمة
المطارحات بعنوان الوصية ما هذا لفظه:
ولولا انقطاع السير إلى الله في هذا الزمان ما كنا نغتم ونتأسف هذا التأسف
وهو ذا قد بلغ سني إلى قرب من ثلاثين سنة وأكثر عمري في الأسفار والاستخبار
والتفحص عن مشارك مطلع ولم أجد من عنده خبر عن العلوم الشريفة ولا من
يؤمن بها... (2)
فتحصل أن تطور أصول الفقه وتكامله في القول بحجية الخبر الواحد قد
أثر أثرا بالغا في تحول الفقه وتكثير فروعه، كما أن له أيضا تأثيرا تاما في حل
المسائل المستحدثة بارجاعها إلى القواعد الفقهية أو العمومات أو الاطلاقات
المستفادة من ألفاظ الأخبار بالوضع أو بمقدمات الحكمة.
وليس في وسع الاتكال على الاجماع أو السيرة أو الشهرة أو ما إلى ذلك
مما كان السيد - قدس سره - وموافقوه يميلون إليه ويعتمدون عليه أن يتكفل

(1) منتهى المطلب 1 / 3.
(2) المطارحات:
مقدمة المؤلف 25

بيان أحكام الفروع المستحدثة التي لم يعهد مثلها في الأعصار الغابرة والأمصار
الخربة التي باد أهلها، كما أن العقل بما هو عقل ليس قادرا على إدراك الفروع
التي لم يعنون مثلها في الكتب من الأحكام.
- 17 -
قد تبين أن مدار الفقاهة هو الدراية التامة في فحاوي الروايات المعتبرة،
إذ الفقه ليس علما معتمدا على العقل البحت كالفلسفة الإلهية ولا معتمدا على
على النقل فقط كما يقوله الأخباريون، بل هو علم معتمد على تعقل المنقول
عن أهل بيت طهرهم الله تطهيرا. والفقهاء - رحمهم الله - وإن كانوا قاصدين إلى
الجمع بين الدراية الكاملة في محور الروايات المعتبرة، ولكن منهم من لم يوفق
له بل مال إلى جانب الدراية والعقل وانحرف عن سمت الرواية والنقل، أو مال
إلى سمتها وانحرف عن الدراية والعقل ولم يجمع بينهما إلا جمعا مكسرا. ومنهم
- وهم الورثة للأنبياء - من وفق له وجمع بينهما جمعا سالما بلا ميل إلى جانب
الدراية ولا زيغ عن جانب الرواية.
ومن هؤلاء سيدنا الأستاذ الأوحدي المتضلع في الفقاهة (الذي كان عمدة
ما تلقينا من الفقه هو ما أفاده) آية الله العظمى الحاج السيد محمد المحقق اليزدي
الشهير ب‍ " الداماد "، وحيث إنه - قدس سره - قد جمع بين الدراية والرواية
جمعا سالما فقد بلغ حدا قلما يدركه بعد الهمم المتعارفة أو يناله غوص الفطن
المعهودة.
وكان رحمه الله لم يأل جهدا في التعليم فلذا كان يدرس في أيام التحصيل
بعض كتب الفقه، كالزكاة والخمس والصوم والحج و... وفي أيام التعطيل بعضها
الآخر، كالصلاة. فلما فرغ من تدريس كتاب الحج شرع في إتمام مباحث الصلاة
مقدمة المؤلف 26

التي قد أخذ فيها في أيام التعطيل (فلذا فاتني الحضور من أول كتاب الصلاة
إلى مبحث الساتر) وكان الشروع في هذا المبحث يوم 22 ج 2 سنة 1385 من
الهجرة النبوية - على هاجرها آلاف الثناء والتحية - وكان آخر درس أفاده - رحمه الله -
هو بحث مناط الجهر والاخفات في قراءة الصلاة.
وقد ارتحل في اليوم الثاني من ذي حجة الحرام عام 1388 في بلدة قم المحمية
والسلام عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حيا.
وكنت أكتب كل ما كان يلقيه في محاضراته بعد أن كان جلها مسبوقا
بالمطالعة والفحص والنقد. ثم لتصحيح إسناد الكل إليه - رحمة الله عليه - سألته
أن يطالع كل ما كتبته ويشرف على كل ما ضبطته، فأجاب - قدس سره - مأمولي
فطاع جميع ما كتبته وتدبر في ذلك كله سطرا بعد سطر، فإن رأى فيه تفاوتا في
المبنى أو اختلافا في البناء صححه، وإن رأى وهنا في الدليل العقلي أو ضعفا في
الدليل النقلي شيده وقواه، وإن رأى نقصا أو زيادة عدله وسواه، وإن شاهد
صدقا وعدلا أيده وأبقاه، كما هو سيرته ودأبه. فلله تعالى دره وعليه جزاؤه.
فالمرجو من الله تعالى أن يحشره مع سميه محمد المصطفى وأهل بيته الطاهرين
الذين هم أولو النهى والحجى، كما نرجوه أن يمن على من في مشارق الأرض
ومغاربها من أهل الولاء، وأن ينصر الغزاة والمجاهدين في سبيل الله لتكون كلمة الله
هي العليا، وأن ينصر الثورة الإسلامية ب‍ " إيران " بقيادة زعيمها المؤسس لنظام
الجمهورية الإسلامية الإمام الخميني (دام ظله) وأن يحفظ الحوزات العلمية
سيما الحوزة المقدسة في قم حرم أهل البيت الذين بيمينهم رزق الورى حتى
يرث الله الأرض ومن عليها.
حرره بيمناه الداثرة عبد الله الجوادي الطبري الآملي في ليلة الجمعة
25 ج 2 عام 1406 المطابق 15 / 12 / 1364 ه‍ ش.
مقدمة المؤلف 27

بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم فقهنا في الدين
فصل
في الستر والساتر
قال السيد العلامة الطباطبائي اليزدي (قدس سره) في العروة الوثقى:
اعلم أن الستر قسمان: ستر يلزم في نفسه وستر مخصوص
بحالة الصلاة.
فالأول: يجب ستر العورتين القبل والدبر على كل مكلف
من الرجل والمرأة عن كل أحد من ذكر أو أنثى ولو كان مماثلا
محرما أو غير محرم ويحرم على كل منهما أيضا النظر إلى عورة
الآخر، ولا يستثني من الحكمين إلا الزوج والزوجة والسيد والأمة
إذا لم تكن مزوجة ولا محللة، بل يجب الستر عن الطفل المميز
خصوصا المراهق، كما أنه يحرم النظر إلى عورة المراهق بل
الأحوط ترك النظر إلى عورة المميز.
3

إن تنقيح البحث عن أصل وجوب الستر في نفسه وحيثية حكمه في ذاته
وعن مقدار المستور: من أنه في الرجل كم هو؟ وفي المرأة كم ذا؟ وعن من
يجب الاستتار؟ وعلى من يجب الستر؟ وهكذا عن حرمة النظر والناظر والمنظور
إليه وعما يلحقه من الأمور على ذمة جهات كافلة لها.
الجهة الأولى
في وجوب الستر وحرمة النظر
أن المستفاد من المتن هو كون الستر بعنوانه واجبا في نفسه، ولكن الذي
يقوى في النظر هوان الواجب هو الصون عن أن ينظر إليه وعدم التمكين من نظر
الغير، سواء كان بالستر، أو الاحتجاب خلف الجدار ونحوه، أو الانغمار في الدجى
والاستتار في الظلام، أو البعد عن النظر بنحو لا يرى إلا شبحا مثلا، إلى غير ذلك
مما تتحقق به الصيانة عن النظر وعدم التمكين منه فلا ميز لعنوان الستر عما
ذكر، ولعله الملائم لأدلة الباب كما يتضح.
والذي يمكن أن يستدل له غير واحد من النصوص المستفيضة الوارد بعضها
مفسرا لما في كتاب الله عز وجل: من لزوم الغض ووجوب الحفظ - ولا مجال
للنقاش في سند بعض منها بعد الاعتضاد بالعمل والبلوغ حد الاستفاضة والاشتمال
على الصحيح ونحوه.
فمن تلك النصوص ما رواه عن حريز عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا ينظر
الرجل إلى عورة أخيه (1). وظاهرها حرمة النظر، وأما وجوب الحفظ وعدم
التمكين فأمر آخر
وما رواه عن النبي صلى الله عليه وآله في حديث المناهي قال: إذا اغتسل أحدكم في

(1) الوسائل باب 1 من أبواب أحكام الخلوة ح 1.
4

فضاء من الأرض فليحاذر على عورته، وقال: لا يدخل أحدكم الحمام إلا بمئزر،
ونهى أن ينظر الرجل إلى عورة أخيه المسلم، وقال: من تأمل عورة أخيه المسلم لعنه
سبعون ألف ملك، ونهى المرأة أن تنظر إلى عورة المرأة، وقال: من نظر إلى عورة
أخيه المسلم أو عورة غير أهله متعمدا أدخله الله مع المنافقين الذين كانوا يبحثون
عن عورات الناس ولم يخرج من الدنيا حتى يفضحه الله إلا أن يتوب (1).
لأن ظاهر الأمر بالمحاذرة واتخاذ المئزر عند إرادة الدخول في الحمام هو
وجوب الحفظ فيما يكون هناك مظنة النظر، ولولا في الذيل من تشديد الأمر
وتأكيد مبغوضية النظر لأمكن ذهاب الوهم إلى كون النهي في قوله: نهى أن
ينظر الرجل... الخ تنزيهيا. فالمستفاد منها حرمة النظر ووجوب ملازمه، وهو
الحفظ وعدم التمكين منه، لأن حرمته تستلزم وجوب الحفظ.
وما رواه عن الفقيه قال: سئل الصادق عليه السلام عن قول الله عز وجل - قل
للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم - فقال: كل ما
كان في كتاب الله من ذكر حفظ الفرج فهو من الزنا إلا في هذا الموضوع فإنه
للحفظ من أن ينظر إليه (2).
وظاهرها وجوب الحفظ وعدم التمكين بأي نحو كان من الستر وغيره.
وما رواه عن علي عليه السلام في قوله عز وجل: قل للمؤمنين... الخ معناه لا ينظر
أحدكم إلى فرج أخيه المؤمن أو يمكنه من النظر إلى فرجه، ثم قال: قل
للمؤمنات.. الخ أي ممن يلحقهن النظر كما جاء في حفظ الفروج، فالنظر سبب
ايقاع الفعل من الزنا وغيره (3).

(1) الوسائل باب 1 من أبواب أحكام الخلوة ح 2.
(2) الوسائل باب 1 من أبواب أحكام الخلوة ح 3.
(3) الوسائل باب 1 من أبواب أحكام الخلوة ح 5.
5

والمستفاد منها كلا الحكمين المتلازمين: من حرمة النظر ووجوب الحفظ
فعلى الغير أن يغض بصره لحرمة النظر عليه، وعلى الشخص نفسه أن يحفظ
فرجه لوجوب عدم التمكين عليه، وأما الذيل فلعله نكتة وحكمة للحكم من
دون علية له، إذ قد ينفك النظر عن الايقاع في الفعل كما في المتماثلين حيث
لا سببية للنظر إلى عورة الرجل للزنا ولا لغيره إذا كان الناظر رجلا مماثلا له.
ومن تلك النصوص ما رواه عن حنان بن سدير عن أبيه قال: دخلت أنا وأبي
وجدي وعمي حماما بالمدينة فإذا رجل في البيت المسلخ فقال لنا: من القوم؟
إلى أن قال: ما يمنعكم من الأزر؟ فإن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: عورة المؤمن على
المؤمن حرام، قال: فبعث أبي إلى عمي كرباسة فشقها بأربعة ثم أخذ كل واحد
منا واحدا، ثم دخلنا فيها (إلى أن قال:) فسألنا عن الرجل فإذا هو علي بن
الحسين عليه السلام (1).
وظاهرها لزوم الحفظ وعدم التمكين ملازما لحرمة النظر، ولما كان
النظر حراما حثهم وحرضهم على الإزار قائلا: ما يمنعكم من الأزر.
وما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وعن أبي جعفر عليه السلام: من كان يؤمن بالله واليوم
الآخر فلا يدخل الحمام إلا بمئزر (2).
وما رواه عن أبي الحسن عليه السلام قال: لا تدخل الحمام إلا بمئزر وغض بصرك، (3)
فتدل على ذينك الحكمين المتلازمين: من لزوم الحفظ وحرمة النظر أو وجوب
الغض عن عورة الغير، حيث إنها المقطوع بها عند حذف المتعلق. إلى غير ذلك من
النصوص الأخر البالغة حد الاستفاضة، بحيث يشرف الفقيه على الاطمئنان بصدورها
في الجملة وحجية نطاقها كذلك، فهي على اختلاف ألسنتها دالة على ما أشير إليه

(1) الوسائل باب 9 من أبواب آداب الحمام ح 4.
(2) الوسائل باب 9 من أبواب آداب الحمام ح 5 و 6.
(3) الوسائل باب 9 من أبواب آداب الحمام ح 7.
6

من وجوب الستر وحرمة النظر، وليس المراد من الستر هنا ما هو المغني به
في الصلاة - كما يأتي - إذ هناك يجب الستر فيها سواء كان هناك ناظر أم لا، وهذا
بخلاف المقام، إذ لا وجوب فيما لا ناظر فيه، لاختصاص الوجوب بما فيه مظنة النظر
ولا اختصاص لحرمة النظر بما إذا كان لشهوة بل يحرم مطلقا لاطلاق الأدلة.
ثم إنه قد يتخيل التعارض بين ما دل على حرمة النظر وبين ما يأتي مما ظاهره
تفسير النبوي - الدال على تحريم العورة - بإذاعة سر المؤمن.
وبيانه: بأن حرمة الإذاعة لما كانت أجنبية عن النظر إلى عورة الغير يحكم
بأن المحرم إنما هو ذلك - كما فسر به الحديث - لا النظر، حيث إنه روى عن
حذيفة بن منصور قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: شئ يقوله الناس عورة المؤمن
على المؤمن حرام، فقال: ليس حيث يذهبون إنما عنى عورة المؤمن أن يزل
زلة أو يتكلم بشئ يعاب عليه فيحفظ عليه ليعيره به يوما ما (1) ونحوها روايتا
عبد الله بن سنان وزيد الشحام عن أبي عبد الله عليه السلام (2).
تقريب المعارضة: بأن ظاهرها نفي ما ذهب إليه ذهن السائل من حرمة
النظر، بل المحرم هو التعيير يوما بعد حفظ الزلة ونحوها.
وفيه أولا: أن ظاهرها إنما هو نفي الحصر بإفادة معنى عام شامل للنظر
وغيره لا الاختصاص بما عد النظر بنحو لا يندرج تحتها ولا تشمله، وذلك لبيان
بعض المصاديق المهمة عند الشرع المبذولة عند الناس، نحو ما فسر قوله تعالى:
أوفوا بالعقود - بعهود الولاية، مع أنه لا ريب في بقاء الآية على العموم وجواز
الاستدلال بها للزوم العهود الدارجة بين الناس، فالمعنى: أن المحرم ليس هو
خصوص ما يذهب إليه الناس من النظر إلى عورة المؤمن بل أعم منه ومما ذكر
في الرواية، مع أن علي بن الحسين عليه السلام تمسك بذلك لوجوب الستر.

(1) الوسائل باب 8 من أبواب آداب الحمام ح 1.
(2) الوسائل باب 8 من أبواب آداب الحمام ح 2 و 3.
7

ثانيا: على التسليم يكون أقصى ما يستفاد منها هو عدم دلالة النبوي
المعروف على حرمة النظر وعدم إرادة هذا المعنى منه، وأما أنه يجوز النظر إلى
عورة الغير فلا البتة.
فحينئذ تبقى الأدلة الأخر عدا النبوي سالمة عن المعارضة ومصونة عن
النقاش، ولو كان هذا الحمل خلاف الظاهر أيضا للزم ارتكابه جمعا بين النصوص.
ومما يعارض ما مر ما رواه عن حماد بن عمرو وأنس بن محمد، عن الصادق عليه السلام
في وصية النبي صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام قال: إن الله كره لأمتي... دخول الحمام إلا
بمئزر (1). وفيه أنه لا ظهور له في الكراهة الاصطلاحية أولا، وعلى التسليم
لا وجوب للمئزر بما هو، فيمكن الحمل على استحبابه، لكونه أوسع من ساتر
غيره ولربما انكشف لصغره بخلاف المئزر لاتساعه، ولعله أيضا لرعاية ما في
الماء من السكان.
وما رواه عن ابن أبي يعفور، عن الصادق عليه السلام إذ فيه: سئل الصادق عليه السلام
أيتجرد الرجل عند صب الماء... الخ قال: كان أبي بكره ذلك من كل أحد (2).
وفيه احتمال الحرمة من الكراهة أولا، مع ما في الاستناد إلى أبيه عليه السلام من
احتمال التقية ثانيا، واعراض الأصحاب عن ذلك الموجب لوهنه ثالثا، فالمعارض
قاصر، فما عن بعض المتأخرين من احتمال جواز النظر وعدم وجوب الحفظ
لولا مخالفة الاجماع غير سديد.

(1) الوسائل باب 9 من أبواب آداب الحمام ح 8.
(2) الوسائل باب 9 من أبواب آداب الحمام ح 3.
8

الجهة الثانية
في المقدار الذي يجب ستره في المتماثلين
وحيث إنه يختلف باختلاف من عليه الستر من الرجل والمرأة، فلنبحث
عن حكم كل منهما على حدة، فتمام الكلام في طي أمرين:
الأول: قد اشتهر بين الأصحاب (ره) شهرة تامة تحديد المقدار الواجب
ستره على الرجل بالقبل والدبر فقط، وعن القاضي كونه من السرة إلى الركبة،
وعن أبي الصلاح كونه من السرة إلى نصف الساق.
ولما كانت ألسنة النصوص الكافلة لأصل الوجوب ناطقة بمقدار الواجب
حسبما يستظهر من العناوين المأخوذة فيها، فبالحري أن نستأنف النظر فيها،
وهي على طائفتين:
إحديهما: ما وردت تفسر الآية حفظ الفرج وغض البصر، وقد تقدم
نقلها في الجهة الأولى، ولا ريب في عدم شمول الفرج ما زاد عن القبل والدبر
فضلا عن السرة والركبة.
والأخرى: ما أخذ فيها عنوان العورة، وهي كما في المجمع ونحوه معنى
السوأة، ويقال في وجه تسميتها بها أنه يسوء الإنسان النظر إلى عورته ومن
المعلوم أن الذي يسوءه هو خصوص القبل والدبر، ونحوه ما في الكريمة النازلة
في قصة الهبوط.
فهاتان الطائفتان ناطقتان بالمقدار الواجب ستره.
أضف إلى ذلك: تعاهد معنى العورة في خصوص ما ذكر وتبادره إلى الذهن عند
الاطلاق، ويشهد له ما مر من رواية عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
سألته عن عورة المؤمن على المؤمن حرام؟ فقال: نعم، قلت: أعني سفليه... الخ (1).

(1) الوسائل باب 8 من أبواب آداب الحمام ح 2.
9

فيستفاد من ذلك كون العورة بمعنى السفلين هو المرتكز في الذهن، ومصب
الاستشهاد بها هو هذه الفقرة منها، وإن كانت هذه الرواية مما تخيل معارضته
لأصل الوجوب. هذا كله حسب الدليل الاجتهادي، الدل على مقالة الأصحاب (ره).
وعند انتهاء الأمر إلى الشك يحكم بالبراءة عن وجوب الأكثر والاكتفاء
بالمقطوع وهو الأقل أعني خصوص القبل والدبر، فلا اتجاه لمقالة غيرهم.
ثم إنه قد يستدل لمقالة الأصحاب (ره) بروايات غير خالية عن الضعف، ولا
احتياج إليها بعد ما مر، كما أنه قد يستدل لمقالة غيرهم بما هو كذلك أيضا،
فلا بأس بالإشارة إلى ذلك وإلى العلاج ورفع ما يتخيل من التعارض.
فمن الروايات المحددة بما هو المشهور: ما رواه عن أبي يحيى الواسطي عن
بعض أصحابه عن أبي الحسن الماضي عليه السلام قال: العورة عورتان: القبل والدبر
والدبر مستور بالأليتين فإذا سترت القضيب والبيضتين فقد سترت العورة (1).
حيث إنها دالة على خروج ما ذكر عن حد العورة وعلى عدم وجوب ستره.
وقريبة منها مرسلة الكليني (2) ومرسلة الصدوق (3) قال: قال الصادق عليه السلام: الفخذ
ليس من العورة، ونحوها رواية الميثمي (4).
ومنها: ما رواه عن عبد الله المرافقي أنه دخل حماما بالمدينة فأخبره صاحب
الحمام أن أبا جعفر عليه السلام كان يدخله فيبدأ فيطلي عانته وما يليها ثم يلف إزاره
على أطراف إحليله فأطلي سائر بدنه (5). فيدل على عدم وجوب ستر ما زاد عن
أطراف الإحليل قطعا، وأما وجوب جميع ما لفه من الأطراف فلا، نعم أصل
القبل مقطوع الحكم. ولا اعتداد بالسند بعد عدم اتضاح صاحب الحمام أنه من هو؟

(1) الوسائل باب 4 من أبواب آداب الحمام ح 2.
(2) الوسائل باب 4 من أبواب آداب الحمام ح 3.
(3) الوسائل باب 4 من أبواب آداب الحمام ح 4.
(4) الوسائل باب 4 من أبواب آداب الحمام ح 1.
(5) الوسائل باب 4 من أبواب آداب الحمام ح 2.
10

وما رواه عن الصدوق قال: وكان الصادق عليه السلام يطلي في الحمام وإذا بلغ
موضع العورة قال للذي يطلي تنح ثم يطلي هو ذلك الموضع (1) فتدل على عدم
وجوب ستر ما زاد عن العورة، وإن كان الاعتماد على مثل هذا لنقل غير خال عن
التأمل، لأن ستر ما زاد عنها إلى السرة وإلى الركبة وإن لم يكن واجبا إلا
أنه لا ريب في رجحانه، فكيف تركه المعصوم عليه السلام؟ سيما بنحو الاستمرار. إلى
غير ذلك من النصوص البالغة حد الاستفاضة، فيطمئن بصدور بعض منها، فمنه
يحكم بعدم وجوب ستر المقدار الزائد.
وأما الروايات المعارضة لذلك فمنها: ما رواه عن بشير النبال في حديث أن
أبا جعفر عليه السلام دخل في الحمام فاتزر بإزار وغطى ركبتيه وسرته، ثم أمر صاحب
الحمام فطلى ما كان خارجا من الإزار، ثم قال: اخرج عني ثم طلى هو ما تحته
بيده ثم قال هكذا فافعل (2).
تقريب الدلالة على وجوب ستر الركبة إلى السرة: أن مجرد فعله عليه السلام
وإن لم ينطق بالوجوب لاحتمال رجحان الزائد عن القبل والدبر، إلا أن أمره عليه السلام
في الذيل بقوله عليه السلام: هكذا فافعل، ظاهر في اللزوم.
وفيه: أنه - بعد الغض عما في السند - إن استفادة الوجوب من الأمر بعيد
جدا بعد اشتمال الصدر على غير واحدة من الخصوصيات التي لا وجوب لها، فلا
يمكن الحمل على وجوب المشار إليه بأسره، فمن المحتمل أن يكون ستر الزائد
أيضا راجحا لا واجبا.
ومنها: ما رواه عن أمير المؤمنين عليه السلام ليس للرجل أن يكشف ثيابه عن فخذه
ويجلس بين قوم (3) وفيه أن اشتمالها على خصوص الرجل وعلى الجلوس بين القوم

(1) الوسائل باب 31 من أبواب آداب الحمام ح 3.
(2) الوسائل باب 31 من أبواب آداب الحمام ح 1.
(3) الوسائل باب 10 من أحكام الملابس ح 3.
11

مشعر بكونها لبيان آداب المحاورة والجلوس بلا لزوم، وإلا لما أخذ قيد الجلوس
بينهم، لأن الستر واجب وإن لم يكن بين قوم بل كان مع واحد منهم.
ومنها: ما عن قرب الإسناد عن الحسين بن علوان عن جعفر عن أبيه عليه السلام
أنه قال: إذا زوج الرجل أمته فلا ينظرن إلى عورتها، والعورة ما بين السرة
والركبة (1). وفيه: أن النظر إلى ذلك الحد المبتدئة من الركبة المنتهي إلى السرة لما
كان أقوى تهييجا للشهوة لأمكن اختصاصه بالنهي في هذا الموضوع بنحو التنزيل
لا أن الحد المذكور بتمامه عورة حقيقة، مع ما في السند من الضعف واعراض
الأصحاب عن التحديد الكذائي.
والحاصل: أنه لا صلوح لما ظاهره المعارضة لأن يعارض ما مر، وعلى
تقديره يكون الرجحان والتقدم لذاك، وعلى التسليم وانتهاء الأمر إلى الشك
يحكم بالبراءة عن الأكثر، فلا يجب ستر ما عدا القبل والدبر كما هو المشهور.
ولا خفاء في أن التحديد بهذا القدر فيما إذا كانا متماثلين، وأما عند
الاختلاف كالرجل والمرأة ففيه كلام آخر يأتي بمنه تعالى.
الجهة الثالثة
في تساوي جميع المكلفين في وجوب الستر وحرمة النظر
لا ارتياب لمن تدبر النصوص المتقدمة في تساوي جميع المكلفين من الكفار
والمسلمين في وجوب عدم التمكين وحرمة النظر، سواء في ذلك عورة المسلم
وغيره ونظر المسلم وغيره، لاطلاق تلك الأدلة بلا تقييد ولا اختصاص.
عدا ما رواه عن أبي عبد الله عليه السلام قال: النظر إلى عورة من ليس بمسلم مثل
النظر إلى عورة الحمار (2) لأن ظاهرها جواز النظر إلى عورة الكافر للمسلم والكافر

(1) الوسائل باب 44 من أبواب نكاح العبيد والإماء ح 7
(2) الوسائل باب 6 من أبواب آداب الحمام ح 1.
12

فيبقى المحرم هو عورة المسلم كذلك - أي للمسلم والكافر - ولا اشكال في السند
لأن المرسل إنما هو ابن أبي عمير، ولكن أعرض الأصحاب طرا عن العمل بها،
عدا ما عن صاحب الوسائل (ره) في محكي هدايته، ولم أعثر على ذلك، إذ لم
تحضرني الهداية.
وما رواه عن الصدوق قال: روي عن الصادق عليه السلام أنه قال: إنما أكره
النظر إلى عورة المسلم، فأما النظر إلى عورة من ليس بمسلم مثل النظر إلى عورة
الحمار (1).
ولا اعتداد بالسند لارساله، مع أنه لم يسنده إلى المعصوم عليه السلام (كما في
بعض مراسيله) بل قال: روي عن الصادق عليه السلام - كما مر منا التنبيه عليه غير مرة.
ولا يمكن اسناد الفتوى بمضمونها إلى الصدوق (ره) أيضا اتكالا على ما في
صدر كتاب الفقيه: من أنه لا ينقل فيه شيئا إلا ما يكون حجة عليه من الله تعالى
لما يشاهد أيضا من نقله المتعارضين، مع أنه لا يمكن العمل بهما، فمجرد النقل
في الفقيه لا يدل على أنه فتواه، فلم يوجد من أفتى بذلك عدا محكي هداية
الحر العاملي كما أشير، ولا اعتداد بمخالفة مثل هذا المتأخر (ره) مع انعقاد الاجماع
على التسوية بين المسلم وغيره من القدماء ومن يليهم. وأما اشتمالها على كراهة
النظر إلى عورة المسلم، فقد مر علاجها بحمل الكراهة على معناها اللغوي الملائم
للحرمة، لعدم اتضاح معناها المصطلح عند الفقه في لسان الحديث.
والحاصل: أن المسلم وغيره سيان في وجوب عدم التمكين من أن ينظر
إلى عورته وفي حرمة النظر إلى عورة الغير نصا وفتوى، وسيتضح لك اطلاق
نصوص الباب مزيد اتضاح، فارتقب، كما أن المحرم وغيره فيما هو المهم
هنا سواء.

(1) الوسائل باب 6 من أبواب آداب الحمام ح 2.
13

الجهة الرابعة
في استثناء الزوج والزوجة والسيد والأمة
لا اشكال في استثناء كل من الزوج والزوجة من كل واحد من ذينك
الحكمين - أي وجوب الستر وعدم التمكين وحرمة النظر - إذ يجوز لكل واحد
منهما النظر إلى جميع أعضاء الآخر ويجوز لذاك الآخر أن يمكنه من النظر
كذلك، لشهادة غير واحد من النصوص، وحيث إنه متفق عليه نصا وفتوى فلا
نطيل القول فيه.
وأما السيد والأمة فكذلك أيضا بلا وجوب للستر ولا حرمة للنظر، إذا لم
تكن الأمة مزوجة للغير ولا محللة له، فأما إذا كانت كذلك، فحينئذ يصير السيد
كالأجنبي في ذينك الحكمين - على ما في المتن - وهو في المزوجة كما ذكر
لورود النص الخاص، نحو ما رواه عن قرب الإسناد وقد تقدم (1).
وما رواه عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل
يزوج مملوكته عبده، أتقوم عليه كما كانت تقوم فتراه منكشفا أو يراها على
تلك الحال؟ فكره ذلك وقال: قد منعني أن أزوج بعض خدمي غلامي لذلك (2).
وفي رواية عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله عليه السلام هل ينبغي له أن ترى عورته؟
قال: لا (3).
وأما في المحللة: فحيث أن دائرة جواز النظر وعدم وجوب الستر سعد
وضيقا متوقفة على كيفية التحليل كذلك، فلا ينبغي استثنائها بنحو الاطلاق، إذ ربما
لا يجوز النظر إلى العورة ويجب الستر إذا اختص التحليل بما عدا ذلك، كأن حلل

(1) الوسائل باب 44 من أبواب نكاح العبيد والإماء ح 7.
(2) الوسائل باب 44 من أبو أب نكاح العبيد والإماء ح 1.
(3) الوسائل باب 44 من أبواب نكاح العبيد والإماء ح 4.
14

له النظر إلى جميع البدن تلذذا عدا ذينيك الموضعين، وهكذا في التقبيل وغيره
من أنحاء التمتع، كما في تجويز الانتفاع من الملك الخاص للغير، حيث إن جواز
التصرف لذلك الغير متوقف على مقدار التجويز وكيفية ما أجيز له من أنحاء
الانتفاع.
الجهة الخامسة
في أن المراهق بل الطفل المميز كالبالغ
لا ريب في انتفاء التكليف عن الصبي حتى يحتلم، ولكن قد ينحدر الحكم
على البالغ بقياسه إليه كما في المقام، لأنه وإن لم يجب عليه الستر وعدم التمكين
وكذا لم يحرم عليه النظر إلى عورة الغير، ولكن يمكن أن يجب على البالغ
ستر عورته منه، وكذا يحرم عليه (أي على البالغ) أن ينظر إلى عورته، فتمام
الكلام في طي أمرين:
أحدهما: وجوب الستر وعدم التمكين عن الصبي، والآخر: حرمة
النظر إلى عورته.
أما الأول: فمتوقف على استئناف النظر في نصوص الباب، حتى يتجه
الاطلاق الدال على وجوب عدم التمكين من النظر على البالغ، سواء كان الناظر
بالغا أم لا.
والذي يمكن التمسك به غير واحد مما في أحكام الخلوة وفي آداب الحمام
فمن ذلك: ما مر في حديث المناهي: إذا اغتسل أحدكم في فضاء من الأرض فليحاذر
على عورته، وقال: لا يدخل أحدكم الحمام إلا بمئزر... الخ (1).
إذ لا ريب في أن المحاذرة والستر ليس واجبا بتا من باب التعبد سواء كان

(1) الوسائل باب 1 من أبواب الخلوة ح 2.
15

هناك ناظر أم لا، بل هو مختص بما فيه مظنة النظر، وحيث إنه لم يقيد بكون
الناظر بالغا فيشمل غيره، نعم ينصرف عن الصبي غير المميز، لأنه في حكم
العدم من هذه الجهة، فيجب الاحتراز وعدم التمكين من المميز، فضلا
عن المراهق.
ومنه ما مر أيضا (ح 3 منه) إذ فيه تفسيرا للكريمة: كل ما في كتاب الله
من ذكر حفظ الفرج فهو من الزنا إلا في هذا الموضع، فإنه للحفظ من أن ينظر
إليه. حيث إنه أوجب الحفظ وعدم التمكين من النظر ممن له شأنية ذلك وإن
كان صبيا لعدم التقييد بغيره، مع أن اطلاق الآية أيضا محكم.
ونحوه ما رواه عن علي بن الحسين المرتضى نقلا من تفسير النعماني عن
علي عليه السلام لا ينظر أحدكم إلى فرج أخيه المؤمن أو يمكنه من النظر إلى فرجه (1).
اللهم إلا أن يناقش في صدق الإخوة على الصبي، ولكنه مندفع أيضا بشهادة الشرع
والعرف في غير مورد على عدم اعتبار البلوغ فيها، فالمميز سيما المراهق أخ
للمؤمن إذا تكون فيه مبادئ الايمان، نعم لا اطلاق له بالنسبة إلى غيره لا أنه
ظاهر في التقييد كما ينبه عليه عن قريب.
ومنه ما رواه عن تحف العقول عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: يا علي إياك ودخول
الحمام بغير مئزر ملعون ملعون الناظر والمنظور إليه، (2) وللنقاش فيه مجال،
حيث إن المراد من الناظر هو خصوص البالغ، إذ لا حرمة ولا لعن على غيره، فلو
كان المراد من المنظور إليه أعم لزم الخلل في السياق.
ولكن التحقيق خلافه، لأن كل واحد منهما حكم مستقل منحاز عن الآخر
لشهادة الانفكاك، مثل ما لو ستر أحد عورتيه ولم يمكنهما من أن ينظر إليهما

(1) الوسائل باب 1 من أبواب أحكام الخلوة ح 5.
(2) الوسائل باب 3 من أبواب أحكام آداب الحمام ح 5.
16

ولكن احتال الناظر ولو من تحت ونظر إلى العورة، إذ لا اشكال في ارتكابه
محرما مع عدم ارتكاب المنظور إليه شيئا مبغوضا، وكذا العكس فيمن مكن
من النظر وتحرك عاريا في ملأ من الناس ولكنهم لم ينظروا إلى عورته امتثالا
للآمر بغض البصر.
والحاصل: أن الانفكاك بين الناظر والمنظور إليه غير عزيز، فمعه يمكن
أن يختص الناظر بخصوص البالغ دون المنظور إليه.
ومنه ما رواه عن رفاعة بن موسى، عن أبي عبد الله عليه السلام وما رواه عن محمد بن
عمر، عن بعض من حدثه، عن أبي جعفر عليه السلام وقد مر نقلهما (1).
وكذا ما رواه عن علي بن الحكم، عن رجل، عن أبي الحسن عليه السلام في حديث
قال: لا تدخل الحمام إلا بمئزر وغض بصرك (2) حيث إن الأمر بعدم التمكين من
دون تقييد بناظر خاص يدل على الاطلاق، وإن انصرف عن غير المميز، لأنه
كالجدار لا يدرك شيئا.
ومن ذلك ما رواه عن عبيد الله بن علي الحلبي، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام
عن الرجل يغتسل بغير إزار حيث لا يراه أحد، قال: لا بأس (3).
ونحوه ما رواه عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام إذ فيه: فقال: عليه السلام إذا لم
يره أحد فلا بأس (4) إذ مفهوم ذلك هو ثبوت البأس إذا رآه أحد من دون التقييد
بالبالغ، فلو كان بنحو يراه الصبي المميز يكون فيه بأس، والقيد مأخوذ في
كلام المعصوم عليه السلام في الثانية دون الأولى.
ويمكن التمسك أو الاستئناس بما ورد من النهي عن دخول الرجل مع
ابنه الحمام، كما في (باب 2 من أبواب آداب الحمام) إذ في رواية قال عليه السلام: قال

(1) الوسائل باب 9 من أبواب آداب الحمام ح 5 و 6.
(2) الوسائل باب 9 من أبواب آداب الحمام ح 7.
(3) الوسائل باب 11 من أبواب آداب الحمام ح 1 و 2.
(4) الوسائل باب 11 من أبواب آداب الحمام ح 1 و 2.
17

رسول الله صلى الله عليه وآله: لا يدخل الرجل مع ابنه الحمام فينظر إلى عورته، وقال: ليس
للوالدين أن ينظرا إلى عورة الولد وليس للولد أن ينظر إلى عورة الوالد، وقال
لعن رسول الله صلى الله عليه وآله الناظر والمنظور إليه في الحمام بلا مئزر (1).
أما ظهوره في منع النظر إلى عورة الولد فسيأتي في الأمر الثاني، وأما
ظهوره في منعه من النظر إلى عورة الوالد فلعله في البالغ بقرينة التكليف
بقوله عليه السلام " ليس... الخ " نعم ذيله تام حسبما قد مناه من امكان الانفكاك،
إلا أن التكليف أعم من اللزومي وغيره.
وأما ما في رواية حنان بن سدير (2) من دخول علي بن الحسين عليه السلام مع
ابنه محمد بن علي عليه السلام الحمام، فلا يعارض ما ذكر حتى يعالج بأن الإمام عليه السلام
معصوم في صغره وكبره لا يقع منه النظر إلى عورة في حمام ولا في غيره - كما
في الوسائل - لأنه عليه السلام كان يدخله بمئزر البتة ومعه لا مجال للنظر.
فتحصل: أنه يجب على البالغ أن لا يمكن غيره من النظر إلى عورته،
سواء كان بالغا أم لا، عدا من لا يميز: من المجنون والطفل، وأما المميز منهما
فيجب الستر عنهما أيضا.
وأما الثاني: (أي حرمة النظر إلى عورة الصبي) فمتوقف على بيان ما هو
المراد منه بنحو يخرج غير المميز.
فنقول: إن للصباوة مراحل مختلفة في الادراك والتمييز، لأن الصبي في
بعض تلك المراحل كالجدار لا يميز شيئا، كما إذا كان في المهد أو قريبا منه،
ولا ريب في جواز النظر إلى عورته، لانصراف عن الأدلة القادمة، بل لقيام السيرة
القطعية، حيث إنه يحتاج إلى أم تحتضنه وتقوم به وتغسله وتلبسه وهكذا، فلا
خفاء في تعارف النظر إلى عورته قطعا، وفي تلك المراحل يميز الحسن

(1) الوسائل باب 21 من أبواب آداب الحمام ح 1 و 3.
(2) الوسائل باب 21 من أبواب آداب الحمام ح 1 و 3.
18

عن القبيح في الجملة وإن لم يراهق، وفي بعضها يكون مراهقا للبلوغ فضلا عن
كونه مميزا، بحيث لا فرق بينه وبين البالغ في الادراك ونحوه عدا ساعات
قليلة في السن.
فهل يكون المميز والمراهق سيان أم لا؟ والذي يستفاد من المتن هو
الفرق، حيث قال: يحرم النظر إلى عورة المراهق بل الأحوط ترك النظر إلى
عورة المميز... الخ - حيث أفتى بالحرمة في المراهق واحتاط بلا فتوى في
المميز، فالمهم هو التأمل المستأنف في نصوص الباب يتضح نطاقها.
فمنها: ما مر عن حريز عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا ينظر الرجل إلى عورة
أخيه (1).
لا إشكال في اندراج المراهق الذي لا فرق بينه وبين البالغ إلا قليلا كيوم
أو نصفه، كما أنه لا ريب في انصرافه عن غير المميز، وأما المميز غير المراهق فيدور
مدار صدق الإخوة عرفا نفيا واثباتا.
ومنها: ما مر أيضا عن النبي صلى الله عليه وآله في حديث المناهي، إذ فيها: من نظر
إلى عورة أخيه المسلم أو عورة غير أهله متعمدا... الخ (2).
ولا إشكال في اطلاق قوله " غير أهله " للمميز أيضا، إلا أن يقال: بأنها بصدد
بيان حصر الجواز في الأهل ومنعه عن غيره فلا إطلاق له من هذه الحيثية، فتأمل.
ومنها: ما ورد تفسيرا للآية نحو ما رواه عن علي بن الحسين المرتضى نقلا من
تفسير النعماني عن علي عليه السلام " معناه: لا ينظر أحدكم إلى فرج أخيه المؤمن "... الخ (3)
والكلام في اندراج المراهق وعدم اتضاح شمول غيره وإن كان مميزا
هو ما مر.

(1) الوسائل باب 1 من أبواب أحكام الخلوة ح 1 و 2 و 5.
(2) الوسائل باب 1 من أبواب أحكام الخلوة ح 1 و 2 و 5.
(3) الوسائل باب 1 من أبواب أحكام الخلوة ح 1 و 2 و 5.
19

ومنها: ما رواه عن حمزة بن أحمد عن أبي الحسن الأول عليه السلام قال: سألته
أو سأله غيري عن الحمام فقال: ادخله بمئزر وغض بصرك - الحديث (1).
وظهورها في لزوم الغض مطلقا - خرج ما خرج - مما لا إشكال فيه، فتدل
على حرمة النظر إلى عورة المميز، إذ لا انصراف عنه ولا دليل خارجي دال على
استثنائه، إنما الكلام في اشتمالها على بعض ما ليس بواجب، لأن تمامها هو ما رواه في
(باب 11 من أبواب الماء المضاف ح 1) وهو هكذا: قال: ادخله بمئزر وغض بصرك
ولا تغتسل من البئر التي تجمع فيها ماء الحمام فإنه يسيل فيها ما يغتسل به الجنب
وولد الزنا والناصب لنا أهل البيت وهو شرهم. لأن اغتسال الجنب وإن أمكن كونه
مصحوبا لملاقاة النجس وكذا الناصب - حيث احتمل نجاسته - وأما ولد الزنا
فالظاهر أنه طاهر فلا ينجس ما لاقاه.
فحينئذ يكون النهي عن الاغتسال من البئر التي يجتمع فيها الماء معللا
بما ذكر تنزيهيا لا تحريميا، فمعه لا ظهور للأمر بغض البصر في اللزوم، إلا أن
يقال: بأن كل واحد من تلك الأحكام المذكورة فيها مستقل بحياله، فالأمر
منها ظاهر في البعث، والنهي منها ظاهر في الزجر، ومجرد الاشتمال على حكم
غير لزومي لا يخرج ما عداه من اللزوم إلى غيره، فعليه يحفظ ظهور الأمر بغض
البصر في اللزوم، وحيث إنه لم يقيد بمبصر خاص يؤخذ باطلاقه فيما لا انصراف عنه.
ومنها: ما رواه عن رجل عن أبي الحسن عليه السلام في حديث قال: لا تدخل
الحمام إلا بمئزر وعض بصرك (2) وظهورها الاطلاقي هو ما مر. ولا وجه لاحتمال
كون هذه هي عين سابقتها لأن السند مختلف، لأن تلك رواها الشيخ (ره) بإسناده عن محمد بن علي بن محبوب عن عدة من أصحابنا عن محمد بن عبد الحميد عن

(1) الوسائل باب 3 من أبواب آداب الحمام ح 2.
(2) الوسائل باب 9 من أبواب آداب الحمام ح 7.
20

حمزة بن أحمد عن أبي الحسن الأول عليه السلام، وأما هذه فرواها الكليني (ره) عن محمد بن
يحيى عن أحمد بن محمد عن علي بن الحكم عن رجل عن أبي الحسن عليه السلام. وهكذا
في المتن أيضا، لأن ذيل هذه " لا تغتسل من غسالة ماء الحمام فإنه يغتسل فيه ولد
الزنا والناصب لنا أهل البيت وهو شرهم " فلا مجال لاحتمال الاتحاد، بل هما
روايتان مستقلتان، نعم للتأمل في اعتبار السند مجال في الجملة.
ومنها: ما مر من رواية تحف العقول عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: يا علي إياك
ودخول الحمام بغير مئزر، ملعون ملعون الناظر والمنظور إليه (1).
ولكن في ظهورها في المطلوب نظر، لأن الخطاب متوجه نحو علي عليه السلام،
وبعد إلقاء الخصوصية والاذعان بأنه مخاطب لأجل كونه عليه السلام أحد المكلفين، فلا
يتعدى منه إلى غير المكلف أي الذي لم يبلغ الحكم والتكليف.
فحينئذ يكون المستفاد منها هو التحذير عن دخول الحمام بغير مئزر، فإن
لم يتحذر منه ودخل فيه عاريا ونظر إلى عورته ناظر يكونان ملعونين، والمراد من
المنظور إليه حينئذ - أي بعد التعدي منه عليه السلام إلى غيره - هو البالغ المكلف المأمور
باكتساء المئزر عند الدخول، فلا اطلاق له حتى يشمل من لم يبلغ وإن راهق
التكليف فضلا عمن لم يراهق، فلا تدل على حرمة النظر إلى عورته.
ومنها: ما مر من رواية محمد بن جعفر عن بعض رجاله، عن أبي عبد الله عليه السلام
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس للوالد أن ينظر إلى عورة الولد وليس للولدان ينظر
إلى عورة الوالد، وقال: لعن رسول الله صلى الله عليه وآله الناظر والمنظور إليه في الحمام
بلا مئزر (2).
إن ظاهر الفقرة الأولى الناهية للوالد أن ينظر إلى عورة الولد هو الاطلاق
الشامل للمراهق والمميز وإن لم يراهق وإن ينصرف عن غير المميز.

(1) الوسائل باب 3 من أبواب آداب الحمام ح 5.
(2) الوسائل باب 21 من أبواب آداب الحمام ح 1.
21

وأما الفقرة الثانية فيمكن الاختصاص بالبالغ من الولد بقرينة التكليف،
فحينئذ يشكل الاتكال على إطلاق الفقرة الأولى، ولكن لا بعد في دلالة الفقرة
الثانية على الالزام مطلقا حتى بالنسبة إلى من لم يبلغ، ولأجل حكومة حديث
رفع القلم الوارد في مقام الامتنان الملائم لرفع اللزوم دون الندب والرجحان
- كما حقق في مشروعية عبادته - يحكم بارتفاع الوجوب عن خصوص من لم
يبلغ من الولد، فيصير النهي بالنسبة إليه إنما هو لبيان الآداب الراجحة،
ولا غرو في ذلك.
نعم لو احتمل كون هذا الحديث بصدد بيان استواء الولد وغيره وكذا
الوالد وغيره في الحكم وأن الولادة غير مائزة أصلا، فلا إطلاق له من الحيثية
المبحوث عنها، لأن نطاقه حينئذ هو أن ما ثبت للمكلف بالنسبة إلى صبي لا يكون
ولدا له فهو ثابت له بالنسبة إلي ولده، وأما أن ذلك الثابت ما هو؟ فلا. إلى غير
ذلك من النصوص التي يمكن العثور عليها عند الفحص.
فتحصل من جميع ما ذكر: أن الأقوى هو حرمة النظر إلى عورة المراهق
لاندراجه تحت عنوان الإخوة البتة، وأما غيره من المميزين فالأحوط ترك النظر
إلى عورته - كما أفتى به في المتن - لعدم خلو ما يتمسك به لاثبات الحرمة
من نقاش.
22

الجهة السادسة
في بيان ما يجب على المرأة من الستر عن الأجنبي
وما يحرم عليه من النظر إليها
واعلم: أن بين وجوب الستر وحرمة النظر تلازما عرفيا، فلو وجب الستر
في موضع يحرم النظر هناك أيضا، إذ لا معنى للتعبد القراح بوجوب الستر مع أن
للغير جواز النظر، للزوم كونه لغوا حينئذ.
نعم لا تلازم بين جواز الكشف وعدم وجوب الستر وبين جواز النظر وعدم
حرمته، إذ يمكن أن يلاحظ الشارع سهولة الأمر على من جوز له الكشف مع
عدم ترخيص الغير في النظر إليه، نحو ما أجيز للرجال من كشف شعر الرأس
وكذا الوجه مثلا مع عدم جواز النظر إلى ذلك للنساء الأجنبيات، فحينئذ إذا
ثبت جواز كشف الوجه والكفين للمرأة بالفرض، يلزم البحث المستأنف عن جواز
النظر إلى ذلك للرجال. والذي يستفاد من المتن هو عدم التعرض لحكم النظر
الخالي عن التلذذ والريبة للرجل، بل أفيد وجوب ستر تمام البدن عدا الوجه
والكفين عند عدمهما على المرأة، وأما معهما فيجب عليها ستر الوجه والكفين
أيضا، كما أنه معهما يحرم النظر حتى بالنسبة إلى المحارم.
والحاصل: أن البحث عن الستر ومقداره لو أنهى إلى جواز كشف الوجه
والكفين للمرأة، فلا يجدي ذلك في جواز نظر الرجل إليها. فالمهم هو الفحص عن
النظر ونطاق دليله.
ويستدل له بالكتاب والسنة أولا، ثم عن وجوب الستر ومقداره ثانيا، ثم
عما استثنى ثالثا.
23

الأمر الأول: في حرمة النظر
ويدل عليها من الكتاب قوله تعالى: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم
ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون (1).
والمراد من الغض: إما هو النقص والخفض، نحو قوله تعالى " واغضض من
صوتك " وإما هو الاطراق والكسر صونا عن النظر والرؤية، فعلى الأول: يدل
على جواز النظر وعدم حرمته إذا كان خفيفا بلا ملأ العين تحديقا، وعلى الثاني:
يدل على المنع الشديد حيث أمر بكسر الطرف والاطراق، لئلا يقع على ما لا يجوز
وقوعه عليه من النظر، ولا ريب في أن المراد من قوله صلى الله عليه وآله فيما مر من الأمر
بدخول الحمام بمئزر وبغض البر هو عدم النظر قطعا، لا مجرد الكسر وإن
صحبه النظر، كما أن المستفاد من النهاية الأثيرية هو ما يدل على ذلك أي عدم
النظر رأسا لا النظر الخفيف، حيث إنه فسره بالكسر والاطراق وعدم فتح العين،
ومن الواضح: أن الأمر بالغض المفسر به هو كناية عن تشديد الأمر بترك النظر
كما هو الدارج في العرف من الأمر بالعمى تارة وبالاطراق أخرى عند إرادة
ترك النظر.
وهذا المعنى أيضا هو الملائم لما ورد من النصوص الشارحة للكريمة، إما
ببيان شأن نزولها، وإما بالاستدلال بها لتحريم أصل النظر.
فمن ذلك: ما رواه عن الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن بكر بن
صالح عن القاسم بن يزيد عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث
طويل... إلى أن قال عليه السلام: وفرض على البصر أن لا ينظر إلى ما حرم الله عليه
وأن يعرض عما نهى الله عنه مما لا يحل له وهو عمله وهو من الايمان فقال تبارك

(1) سورة النور - آية 30.
24

وتعالى " قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم " أن ينظروا إلى
عوراتهم وأن ينظر المرء إلى فرج أخيه، إلى أن قال عليه السلام: فهذا من فرض الله على
العينين من غض البصر... الخ (1).
حيث إن الاستدلال على تحريم أصل النظر بالأمر بالغض في الكريمة يشهد
بأن ليس المراد هو النظر الخفيف بل تركه رأسا، ولما كان التناسب بين الحكم
والموضوع من أقوى الأمارات على انحدار ذلك الحكم نحو مسير خاص فلا مجال
لتوهم لزوم تخصيص الأكثر، إذ ليس المراد هو غض البصر عن جميع الأشياء من الإنسان
والحيوان والنبات وغير ذلك، بل المراد بقرينة تقابل الآيتين وبمعونة استدلال
المعصوم عليه السلام هو الغض عن غير المماثل مطلقا، وعن خصوص عورة المماثل.
نعم لو دل دليل على جواز النظر إلى الوجه والكفين لكان ذلك تخصيصا،
وهكذا نحوه من موارد الاستثناء.
وأما خروج مثل الجدار ونحوه فبالتخصص حسب التناسب المذكور.
ولا يناقش في السند باشتماله على " بكر " مثلا إذ ليس المقصود عدا الاستشهاد به
لبيان أن المعنى السابق إلى الذهن من الغض - في مثل المقام - هو الكناية عن
ترك النظر رأسا، ومن المعلوم: أنه لو أريد الجعل والاختلاق لكان على النهج
الدارج، فعلى فرض ضعف الرواية أيضا يتم المقصود، فتبصر.
ومن ذلك: ما رواه عن سيف بن عميرة عن سعد الإسكاف (2) عن أبي جعفر
عليه السلام قال: استقبل شاب من الأنصار امرأة بالمدينة، وكان النساء يتقنعن خلف
آذانهن، فنظر إليها وهي مقبلة، فلما جازت نظر إليها ودخل في زقاق قد سماه
بيني فلان فجعل ينظر خلفها واعترض وجهه عظم في الحائط أو زجاجة فشق
وجهه، فلما مضت المرأة نظر فإذا الدماء تسيل على ثوبه وصدره، فقال: والله

(1) الوسائل باب 2 من أبواب جهاد النفس ح 1.
(2) لا اشكال فيمن تقدم الإسكاف في السند، إنما الكلام فيه حيث وثقه بعض وضعفه
آخر، لكونه واقفيا، ولكن الظاهر اعتبار ما يرويه من الأئمة الذين يعتقد بإمامتهم كأبي جعفر (ع)
وأبي عبد الله (ع)، أضف إلى ذلك أن مجرد الوقف غير ضار ما دام كون ذلك الواقفي ثقة في النقل.
25

لآتين رسول الله صلى الله عليه وآله ولأخبرنه، فأتاه، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وآله قال: ما هذا؟
فأخبره، فهبط جبرئيل عليه السلام بهذه الآية " قل للمؤمنين... الخ " (1).
ولا خفاء في أن المراد هو ترك النظر رأسا، لا النظر المنكسر الخفيف، إذ
لا يعالج مثل ما ابتلى به ذلك الشاب الأنصاري إلا بترك النظر جدا، وإلا لأدى
إلى ما أدى به من اعتراض العظم وشق الوجه وسيلان الدم، بل أسوء من ذلك
وأفحش، فالذي يصون عن الابتلاء بمثل ذلك هو الترك رأسا، وهو المعنى بالغض.
ولا تفاوت فيما هو المهم بين كون لفظة (من) في الكريمة زائدة، أو تبعيضية،
أو بيانية، أما على الزيادة فالأمر واضح، وكذا على البيانية الدالة على أن
المغضوض هو البصر لا الصوت مثلا ولا غيره، وأما على التبعيضية فليس المراد هو
الترخيص في بعض والمنع عن آخر، بحيث يدل على جواز النظر الخفيف، لأن
المتعلق هو البصر الذي هو آلة النظر لأنفس النظر، وقد أشير إلى أن الأمر
بكسر الآلة ونقصها كناية بالغة عن عدم أعمالها فيما تعلق بها، فالنقص المأمور
به هو نقص البصر لا النظر، والمراد من البصر في مثل المقام هو الآلة لا الفعل، كما
في قوله تعالى: تشخص فيه الأبصار، شاخصة أبصارهم.
فتحصل: أن الكريمة دالة على حرمة نظر الرجل إلى من لا يماثله من
النساء مطلقا بلا استثناء شئ منها كالوجه والكفين للاطلاق. نعم بعد البحث عن
حكم الستر يبحث عما ورد من دليل الاستثناء وموارده.
ويدل عليها من السنة: ما رواه عن علي بن عقبة عن أبيه عن أبي عبد الله
عليه السلام قال: سمعته يقول: النظرة سهم من سهام إبليس مسموم وكم من نظرة
أورثت حسرة طويلة (2) وقريب منها في الجملة ما رواه هشام بن سالم، عن عقبة
عن أبي عبد الله عليه السلام (3).

(1) الوسائل باب 104 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه ح 4 و 1 و 5.
(2) الوسائل باب 104 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه ح 4 و 1 و 5.
(3) الوسائل باب 104 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه ح 4 و 1 و 5.
26

لا ريب في أن التناسب بين الحكم والموضوع يهدي إلى أن ليس المراد هو
أية نظرة إلى الجدار والنبات وغير ذلك، ولا إلى المماثل عدا ما مر من العورة،
ومما لا ريب فيه أيضا أن نظر الرجل إلى من لا يماثله أو العكس مندرج تحتها
قطعا، ولمكان التعبير بالسهم وكونه من سهام إبليس وكونه مورثا للحسرة الطويلة
يستفاد منها المنع، سواء في ذلك النظرة الأولى والثانية، وكذا النظرة التي تكون
بشهوة والتي تكون بدونها، ولعل التعبير بالسهم لأجل أنها قد تخطي وقد تصيب
كما أن السهم كذلك، فلا بد من الاجتناب عنها صونا عن الإصابة، فالنظر قد
يستتبع مفاسد أخرى وقد لا يستتبع، فيلزم الاحتراز عنه رأسا، صونا عن الابتلاء
بتلك المفاسد التي تذر الديار بلاقع.
وما رواه عن أبي جميلة عن أبي جعفر عليه السلام وأبي عبد الله عليه السلام قالا: ما من أحد
إلا وهو يصيب حظا من الزنا، فزنا العينين النظر، وزنا الفم القبلة، وزنا اليدين
اللمس، صدق الفرج ذلك أو كذ ب (1).
وحيث إن النظر المطلق الشامل للأولى والثاني قد عد زنا فيحكم بعدم
جواز ه كذلك. وأما من حيث كونه بشهوة وبدونها، فلعله يمكن الانصراف عما
يكون بدونها بقرينة الزنا، إلا أن يناقش في قرينيته.
وما رواه عن الكاهلي قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: النظرة بعد النظرة تزرع
في القلب الشهوة، وكفى بها لصاحبه الفتنة (2).
لا مرية في شمول ما يتخلل الفصل بينه وبين النظرة الأولى، وأما النظرة
المستدامة فهي أيضا مندرجة البتة، لأنها وإن كانت نظرة واحدة ولكن إدامتها
واتباعها بمنزلة التعدد جدا، حسب التناسب الدارج في مثل المقام، نعم لا شمول
لها بالنسبة إلى النظرة الأولى المنقطعة عما يليها مع عدم استمرارها في نفسها.

(1) الوسائل باب 10 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه ح 2 و 6.
(2) الوسائل باب 10 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه ح 2 و 6.
27

وأما المراد من كونها زارعة للشهوة فليس هو خصوص النظر المصحوب
للشهوة بأن يكون النظر الساذج خارجا، بل المراد أنه عرضة لها، وهذا المقدار
من المعرضية كاف في المنع عنه، فلا يجوز النظر مطلقا لكونه عرضة لها، كما
أن الشهوة أيضا للافتنان والزنا، لا أنها منتهية إليه دائما قطعا.
فالشارع الأقدس نفسه قد لاحظ تلك الحكمة فمنع مطلقا، بحيث تكون
تلك المصلحة موجبة للجعل العام لا أنها علة قد أنيط بها الحكم حسب تشخيص
المكلف حتى يجوز له النظر في مورد زعمه خاليا عن الشهوة.
والحاصل: أن نطاق الحكم سعة وضيقا ليس بيد تشخيص المكلف بكون
المورد زارعا للشهوة أو غير زارع له، بل الشارع حيث إنه لاحظ كون النظر
بذاته ولو خلي وطبعه عرضة لزرع الشهوة حكم بعدم جوازه مطلقا إذا كانت النظرة
ثانية أو مستدامة من الأولى، لأنها في حكم الثانية بقاء وإن لم يكن كذلك حدوثا
فهذه الرواية قاصرة عن إفادة الحرمة حدوثا وإن لم تدل على الجواز البتة.
نعم إن في الباب ما ظاهره جواز النظرة الأولى نحو ما رواه عن الفقيه قال:
قال عليه السلام: أول نظرة لك والثانية عليك ولا لك والثالثة فيها الهلاك (1).
إن النظرة الأولى، إما أن تكون قهرية بلا سبق إرادة واختيار، وإما أن
تكون مصحوبة لذلك، فعلى الأول لا معنى لانقسامه إلى ما بداعي الشهوة والتلذذ
وإلى ما ليس بذلك الداعي، إذ لا إرادة ولا داعي إليها حتى تنقسم بكيفية. وأما
على الثاني: فهي منقسمة إلى ذينك القسمين، لا إشكال ظاهرا في انصرافها عن
النظرة المصحوبة للتلذذ والريبة، لعدم صدور تجويز مثلها عن الشرع الأنور
البتة مع قيام الاجماع على عدم جوازها. وأما القهرية من النظر فالظاهر نفي
الاشكال في اندراجها تحتها. وأما الاختيارية منها العارية عن التلذذ فالظاهر
اندراجها أيضا. وأما النظرة الثانية فلا تجوز فضلا عن الثالثة.

(1) الوسائل باب 104 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه ح 8.
28

ونحو ما رواه عن الحسن بن عبد الله بن محمد الرازي عن أبيه عن الرضا عن
آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من قتل حية قتل كافرا، وقال: لا تتبع
النظرة النظرة فليس لك يا علي إلا أول نظرة (1).
وقريب منها (13 و 14 و 15 و 17 باب 104 من أبواب مقدمات النكاح)
وشمولها للنظرة الواحدة المستمرة كما تقدم لأنها أيضا من اتباع النظرة للنظرة
كما أنه كذلك أن تخلل بينه الفصل الزماني. وتقريب دلالتها على جواز الأولى
دون ما عداها هو ما مر.
فالمستفاد من هذه الطائفة هو جواز النظرة الأولى العارية عن التلذذ والريبة
ولكنها غير مختصة بالوجه والكفين، فإن تم نصاب دليل الحصر في ذلك يحكم
عليه بالتقييد، فارتقب.
وما رواه عن محمد بن سنان عن الرضا عليه السلام فيما كتبه إليه من جواب مسائله:
وحرم النظر إلى شعور النساء المحجوبات بالأزواج وإلى غيرهن من النساء لما
فيه من تهييج الرجال وما يدعو إليه التهييج من الفساد والدخول فيما لا يحل
ولا يحمل، وكذلك ما أشبه الشعور، إلا الذي قال الله تعالى: " والقواعد من النساء
اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة "
أي غير الجلباب، فلا بأس بالنظر إلى شعور مثلهن " (2).
إن توجيه ما أخذ فيها من التهييج وأنه حكمة الجعل لا علة الحكم هو
ما مر، ولذلك يحرم النظر إلى شعورهن وإن لم يكن بالتلذذ والريبة، وأما ما
يشبه الشعر فهو يشمل الوجه والكفين البتة، كما أنها تشمل النظرة الأولى وغيرها،
وسيوافيك العلاج.
فالمستفاد من هذه الطائفة هو المنع مطلقا، كما أن المستفاد من تلك

(1) الوسائل باب 104 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه ح 11 و 12.
(2) الوسائل باب 104 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه ح 11 و 12.
29

الطائفة هو التفصيل بين النظرة الأولى وغيرها.
ويمكن التمسك لحرمة أصل النظر بعدة روايات أخر واردة في جواز
النظر لمن يريد التزويج.
فمنها: ما رواه عن هشام بن سالم وحماد بن عثمان وحفص البختري كلهم
عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا بأس بأن ينظر إلى وجهها ومعاصمها إذا أراد أن
يتزوجها (1).
حيث إن مفهومها دال على عدم جواز النظر إلى الوجه فضلا عن المعاصم
لمن لا يريد التزويج، سواء أراد التلذذ أم لا. والمنطوق للجواز والمفهوم لعدمه
فلا تغفل. نعم إن المنطوق لتجويز الجميع والمفهوم لعدم جواز المجموع الصادق
بعدم جواز المعصم، فتبصر.
وما رواه عن الحسن بن السري قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: الرجل يريد
أن يتزوج المرأة يتأملها وينظر إلى خلفها وإلى وجهها، قال: نعم لا بأس أن
ينظر الرجل إلى المرأة إذا أراد أن يتزوجها ينظر إلى خلفها وإلى وجهها (2).
ودلالتها على حرمة النظر إلى الوجه كالخلف عند عدم إرادة التزويج
واضحة سواء أزاد التلذذ أم لا (3).
وفي رواية عبد الله بن الفضل، عن أبيه، عن رجل، عن أبي عبد الله عليه السلام
قال: قلت: أينظر الرجل إلى المرأة يريد تزويجها فينظر إلى شعرها ومحاسنها؟
قال: لا بأس بذلك إذا لم يكن متلذذا (4).
فتدل على أن الجائز من النظر حينئذ هو خصوص الاختباري منه لا الأعم

(1) الوسائل باب 36 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه ح 2 و 3.
(2) الوسائل باب 36 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه ح 2 و 3.
(3) لا خفاء في أن منطوقها هو جواز النظر إلى الخلف والوجه جمعا ومفهومها هو
عدمه بالنسبة إلى المجموع الصادق بانتفاء أحد جزئيه.
(4) الوسائل باب 36 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه ح 5.
30

منه ومن التلذذ وغيره، نعم لو كان النظر للاختبار وحصلت اللذة قهرا فلا
بأس حدوث الابقاء، فعليه أن ينقطع ولا يديم حسبما يستفاد من هذه الرواية،
لعدم اختصاص المنع بالتلذذ الحدوثي بل يعمه والبقائي أيضا.
وفي رواية داود بن أبي يزيد العطار، قال أبو عبد الله عليه السلام: إياكم والنظر
فإنه سهم من سهام إبليس، وقال: لا بأس بالنظر إلى ما وصفت الثياب (1).
والمستفاد من الصدر هو ما مر من المنع المطلق بلا ميز بين النظرة الأولى
وغيرها، وبلا فرق بين الشهوة وغيره، وأما المراد من الذيل ليس هو النظر إلى
الجسد المحكي من وراء الثياب الرقيقة التي تلبسها الكاسيات العاريات، بل
النظر إلى الحجم المدرك من وراء الثياب المتداولة الضخام أيضا لا الأزيد من ذلك
نعم قد رخص الترقيق لمن يريد التزويج كما هو المستفاد من بعض آخر من
روايات هذا الباب.
ويمكن التمسك أيضا لحرمة النظر إلى المرأة الأجنبية حتى وجهها بما
ورد من تجويز النظر إلى نساء أهل الذمة.
نحو ما رواه في المستدرك عن الجعفريات... ليس لنساء أهل الذمة حرمة
لا بأس بالنظر إلى وجوههن وشعورهن ونحورهن وبدنهن ما لم يتعمد (2).
تقريب الاستدلال: أن التقييد بنساء أهل الذمة في مثل المقام يستفاد منه
التحديد، فينعقد له مفهوم دال على عدم الجواز بالنسبة إلى النساء المسلمات،
وحيث إنه عد الوجه أيضا من موارد الامتياز كالشعر والبدن فيدل على حرمة
النظر إلى وجه المسلمة البتة، فلا بد من العلاج بينه وبين ما يدل على جواز
النظر إلى الوجه.

(1) الوسائل باب 36 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه ح 9.
(2) المستدرك ج 2 ص 555 ب 86 ح 2.
31

وأما المراد من التعمد: ففي المستدرك تفسيره بالنظر عن شهوة، فالمفاد
حينئذ هو عدم جواز النظر الكذائي مطلقا مع جوازه خاليا عن الشهوة بالنسبة
إلى نساء أهل الذمة.
ويحتمل أن يكون المراد من التعمد في قبال القهري من النظر.
وبيان: بأن الأمر القهري لخروجه عن حوزة الاختيار غير صالح لأن
يقع تلو التكليف البتة، ولكن بماله من المبادي الاختيارية صالح لأن يثاب أو
يعاقب عليه، والنظر إلى الأجنبية قهرا قد يكون مع تحفظ المبادي بالاحتياط
فحينئذ لا بأس فيه جدا، وقد يكون بلا تحفظ ولا احتياط فعليه لا غرو في انحدار
تكليف نحوه، فمن الممكن أن يجب الغض أي كسر آلة النظر ونقصها في الطريق
ونحوه صونا عن النظر القهري إلى المسلمة، وأما بالنسبة إلى غيرها فلا يجب الغض
أي التحفظ، ففي الأولى يكون النظر قهريا بحتا إذ المفروض تحفظ المبادي
لئلا يقع النظر، وفي الثانية لا يكون قهريا، بل هو تعمد في قبال القهري المحض
وإن لم يكن تعمدا في قبال من كان قصده ذلك.
والحاصل: أن الذي كان من قصده النظر فهو خارج عن الكلام، وأما الذي
لا يكون من قصده ذلك بل قد يتفق فهو على قسمين: أحدهما: من يكون متحفظا
للمبادي لئلا يقع النظر، والآخر: من لا يكون متحفظا لمبادي الترك، كما لم
يكن مريدا للفعل وقاصدا إياه بل كان مشتغلا بما يعنيه من مهام أمره، فالنظر
على الأولى قهري بحت، وعلى الثاني غير قهري بالقياس إلى الأول، وإن كان
قهريا بالقياس إلى من قصده ذلك، فالمعنى حينئذ هو التفصيل بين قسمي القهري
لجواز الثاني في نساء أهل الذمة دون المسلمة، فيجب التحفظ لئلا يقع النظر إليها
دونهن فلا وجوب فيهن.
هذا محصل ما أردنا نقله من الطوائف الثلاث الدالة على حرمة النظر إلى
الأجنبية المسلمة مطلقا، وإن تخلل في ثناياها ما ظاهره تجويز النظرة الأولى.
32

الأمر الثاني: فيما يدل على جواز النظر إلى الوجه والكفين
وليعلم: أنه اتفق الأصحاب (ره) على عدم استثناء شئ مما عدا الوجه
والكفين، بل تحريم النظر إلى ذلك بلا خلاف، سواء كان بشهوة أم لا، وإنما
الاختلاف بينهم فيما ذكر.
وهذا يؤكد تمامية دلالة تلك الأدلة من الكتاب والسنة على حرمة النظر،
فإن تم نصاب دليل الاستثناء سندا ومتنا يمكن العلاج بحمل ما تقدم على الكراهة
في خصوص مورد الاستثناء، وإلا فهو باق على الحرمة كسائر الأعضاء.
ويستدل للجواز بعدة روايات لا يخلو بعضها عن النقاش الدلالي وبعضها
الآخر عن الوهن السندي.
فمنها: ما رواه عن مروك بن عبيد عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام
قال: قلت له: ما يحل للرجل أن يرى من المرأة إذا لم يكن محرما؟ قال:
الوجه والكفان والقدمان (1).
فالنظر إلى ما ذكر حلال وإن كان المراد هو خصوص ما لم يكن بشهوة
للانصراف أو للتقييد بالاجماع، لاتفاق الكل على المنع عنه إذا كان بشهوة.
وفيه: أن السند مرسل، ولا يمكن إحراز جبره بما اشتهر من التجويز
إذ لم يحرز الاعتماد عليها، مع ما فيها من تجويز النظر إلى القدمين الخارج
بالاتفاق، فلا يمكن أن يحرز جبره بذلك.
ومنها: ما رواه عن سيف بن عميرة عن عمرو بن شمر عن أبي جعفر عليه السلام عن جابر
بن عبد الله الأنصاري قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يريد فاطمة وأنا معه فلما انتهينا
إلى الباب وضع يده عليه فدفعه، ثم قال: السلام عليكم، فقالت فاطمة عليها السلام: وعليك
السلام يا رسول الله، قال: أدخل؟ قالت: ادخل يا رسول الله، قال: أدخل ومن معي؟

(1) الوسائل باب 109 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه ح 2.
33

قالت: ليس علي قناع، فقال: يا فاطمة خذي فضل ملحفتك فقنعي به رأسك،
ففعلت، ثم قال: السلام عليك، فقالت: وعليك السلام يا رسول الله، قال: أدخل؟
قالت: نعم يا رسول الله، قال: أنا ومن معي؟ قالت: ومن معك، قال جابر: فدخل
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودخلت، وإذا وجه فاطمة عليها السلام أصفر كأنه بطن جرادة، فقال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما لي أرى وجهك أصفر، قالت: يا رسول الله الجوع، فقال
رسول الله صلى الله وآله وسلم: اللهم مشبع الجوعة ودافع الضيعة أشبع فاطمة بنت محمد، قال
جابر: فوالله لنظرت إلى الدم ينحدر من قصاصها حتى عاد وجهها أحمر، فما
جاعت بعد ذلك اليوم (1).
لا ريب في صراحتها في وقوع النظر إلى وجه فاطمة عليها السلام ولا يمكن حمله
على القهري منه بشهادة الذيل على اختياريته ودقته، وحيث إن جابر بن عبد الله
من الصحابة الأتقياء سيما كونه ممن يروي عنه أبو جعفر عليه السلام وكان ذلك في حضور
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يكشف ذلك كله عن الجواز، وإلا لردعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولوبخه الوصي ولا أقل من عدم النقل عنه.
وفيه أولا: إن عمرو بن شمر ممن ضعفه النجاشي، وجعله العلامة (ره)
في الخلاصة من قسم الضعفاء، واستنتج أخيرا عدم الاعتداد بروايته، ولم يحرز
اعتماد الأصحاب المجوزين للنظر إلى الوجه على هذه الرواية حتى يجبر الوهن
مع أنها لخصوص الوجه دون غيره.
وثانيا: إن المتن غير خال عن الحزازة وما لا يطمئن به النفس: من أن
فاطمة عليها السلام ما جاعت بعد ذلك اليوم مع اشتمال التواريخ المستفيضة المعتبرة على
تكرر جوعها عليها السلام إيثارا.
وثالثا: إن تاريخ وقوع هذه الحادثة غير معلوم، فلعله قبل نزول آية الحجاب

(1) الوسائل باب 120 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه ح 3.
34

المانعة عن النظر، وأما تحاشي فاطمة عليها السلام من الإذن بلا قناع، فلعله من الآداب
المحمودة التي لا يتركها الأوحدي من الناس مثل فاطمة عليها السلام، أو لغير ذلك.
ورابعا: إن ظاهرها النظر إلى القصاص الذي هو المنبت للشعر حيث قال..
لنظرت إلى الدم ينحدر من قصاصها... الخ، مع أن النظر إلى المنبت ملازم عادة
للنظر إلى النابت مع حرمته بالاتفاق، إلا أن يتجشم بخروج المبدء عن النظر
وأن المراد هو النظر إلى ما دونه.
وأنت خبير بأن الرواية التي هذا شأنها لا يجوز الاتكاء بها تجاه تلك الأدلة
الناصة على المنع بالاطلاق أو التقييد.
ومنها: ما رواه عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر عليه السلام قال سألته عن
المرأة المسلمة يصيبها البلاء في جسدها إما كسر وإما جرح في مكان لا يصلح النظر
إليه، يكون الرجل أرفق بعلاجه من النساء، أيصلح له النظر إليها؟ قال: إذا
اضطرت إليه فليعالجها إن شاءت (1).
تقريب الاستدلال: أن ارتكاز السائل قد استقر على أن في جسد المرأة موضعا
يصلح النظر إليه وموضعا لا يصلح حيث عبر بذلك، فأمضاه المعصوم عليه السلام، ولما
كان القدر المقطوع مما يصلح النظر هو الوجه والكفان، فتدل على جواز النظر
إلى ذلك اختيارا كما يجوز النظر إلى غيره اضطرارا.
وفيه أولا: إن غير واحد من الذين جعل الرشد في خلافهم قد جوزوا النظر
إلى ذلك، فيمكن صدورها وتجويزه اتقاء منهم.
وثانيا: إن أقصى ما قيل في التقريب هو امضاء ما ارتكز في ذهن السائل
اجمالا، ومن المعلوم: أن مثل هذا لا يقوى على تخصيص ما مر في الأمر الأول
أو تقييده.

(1) الوسائل باب 130 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه ح 1.
35

ومنها: ما رواه عن علي بن سويد قال: قلت لأبي الحسن عليه السلام: إني مبتلى
بالنظر إلى المرأة الجميلة فيعجبني النظر إليها، فقال: يا علي لا بأس إذا عرف
الله من نيتك الصدق، وإياك والزنا فإنه يمحق البركة ويهلك الدين. (1)
حيث إن المستفاد من الجواب هو جواز النظر العاري عن كذب الريبة
والشهوة.
والقدر المقطوع من ذلك هو الوجه والكفان، لخروج ما عداهما بالاتفاق.
وفيه: أن المراد من الابتلاء هنا ليس الاشتياق المانع عن الترك بحيث يكون
مصب السؤال هو الاعتياد بالنظر المعجب، ويكون مفاد الجواب هو تجويزه، لأن
ذلك حرام قطعا واتفاقا، بل المراد منه هو الابتلاء المنتهى إلى النظر للجوار
في المسكن بأن يكون مجاورا لها في الدار، أو للاعتياد في التجارة بأن يكون
بائعا لأمتعة تشتريها منه، أو لغير ذلك، فيقع النظر إليها قهرا أو اختيارا وتعمدا
عن ضرورة، لكونها ممن تشتري المتاع منه كل يوم مثلا.
كما أن المراد من الاعجاب ليس هو المقارن للنظر لحرمته بالاتفاق حتى
ممن استثنى الوجه والكفين، بل هو الاعجاب اللاحق عقيب النظر بتجسم صورتها
الخيالية، فيكون وزان الاعجاب هنا وزان العجب بعد الصلاة، فيحتمل أن يكون
مصب السؤال هو حكمه، كما سئل عن العجب اللاحق للعمل.
فيحنئذ اتضح أن المسؤول عنه هو لزوم التحفظ وقطع الربط المنتهي إلى النظر
قهرا أو اختيارا عن ضرورة الكسب ونحوه، فأجاب عليه السلام بنفي البأس وعدم لزوم
التحفظ الكذائي بقطع الربط إذا علم من نيته عدم الانتهاء إلى الفاسد وأن الاعجاب
اللاحق لا يتعدى عن طور الخيال إلى عالم الخارج، فلا مساس لهذه الرواية
باستثناء الوجه والكفين، بل ظاهرها جواز النظر قهرا أو عمدا عن ضرورة مع

(1) الوسائل باب 1 من أبواب النكاح المحرم ح 3.
36

العلم بالانحفاظ. وهذا هو سر ما قيد الجواز بعض الأصحاب (ره) بالحاجة،
كما عن العلامة في بعض كتبه، فتبصر.
ومنها: ما رواه عن مفضل بن عمر قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: جعلت فداك
ما تقول في المرأة تكون في السفر مع الرجال ليس فيهم لها ذو محرم ولا معهم
امرأة فتموت المرأة ما يصنع بها؟ قال: يغسل منها ما أوجب الله عليه التيمم ولا تمس
ولا يكشف لها شئ من محاسنها التي أمر الله بسترها، قلت: فكيف يصنع بها؟
قال: يغسل بطن كفيها ثم يغسل وجهها ثم يغسل ظهر كفيها (1).
تقريب الاستدلال: هو لزوم غسل مواضع التيمم وعدم كشف ما أمرت بالستر
مع جوازه فيما عداها وهو ملازم للنظر عادة وإن منع المس.
وفيه بعد اتضاح أن المراد من ذلك ليس هو الغسل الواجب (2)، أن
المستفاد من الصدر هو غسل مواضع التيمم، وهي عبارة عن الجبهة، والحاجبين
لزوما أو احتياطا إلى أعلى الأنف، وعن ظهر اليدين من الزند إلى الأصابع،
دون البطن.
وأما المستفاد من الذيل هو غسل بطن الكفين وظهرهما وغسل الوجه، مع
أن أكثر مواضع الوجه يكون خارجا عن حد ما يتيمم فلا يندرج تحته، وكذا
الكفين، اللهم إلا أن يندرج تحته من حيث كونه ماسحا كما أن الظهر ممسوح
به، فلو أمكن إدراج البطن بهذا التمحل تحت ما يتيمم، فلا احتيال في البين لادراج
الوجه بماله من المفهوم الوسيع الشامل لما عدا ما يسمح في التيمم من المواضع
أيضا تحته، فلا يتم المقصود من جواز النظر إليه.
وأما تبعيض الكشف: بأن يجوز بالنسبة إلى بعض المواضع دون بعض فمتوقف

(1) الوسائل باب 22 من أبواب غسل الميت ح 1.
(2) ولذا صرح الأصحاب بدفنها كما هي على ما وردت به النصوص. نعم مال
بعضهم إلى استحباب هذا الغسل الخاص، فراجع.
37

على كون قوله عليه السلام " التي أمر الله بسترها " قيدا احترازيا، فيدل على أنه يجوز
للرجل الأجنبي أن يكشف بعض المواضع التي لم تؤمر تلك المرأة حال حياتها
بالستر، فحينئذ يلازم النظر عادة، والقدر المتيقن من تلك المواضع هو الوجه
والكفان.
وأما بناء على كون ذلك القيد توضيحيا - كما لا يبعد - فلا.
أضف إلى ذلك كله إنكار التلازم بين الغسل والنظر، فلعله من وراء الثياب،
وعلى التسليم لا يمكن التعدي من مورد الضرورة إلى المبحوث عنه من الجواز مطلقا.
ومنها: ما رواه عن أبي سعيد قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إذا ماتت
المرأة مع قوم ليس لها فيهم محرم يصبون عليها الماء صبا، ورجل مات مع نسوة ليس
فيهن له محرم، فقال أبو حنيفة: يصببن الماء عليه صبا، فقال أبو عبد الله عليه السلام: بل يحل
لهن أن يمسسن منه ما كان يحل لهن أن ينظرن منه إليه وهو حي، فإذا بلغن الموضع
الذي لا يحل لهن النظر إليه ولامسه وهو حي، صببن الماء عليه صبا (1).
تقريب الاستدلال: هو أن المستفاد من قوله عليه السلام " بل يحل... الخ " (ردا لما
قاس أبو حنيفة) والمقطوع من ذاك الموضع الذي يحل لها النظر إليه وهو حي، هو
الوجه والكفان، وحيث إنه لا فرق في هذه الجهة بين الرجل والمرأة فإذا جاز لها
النظر إلى وجهه وكفيه يجوز له أيضا ذلك بالاجماع المركب والقول بعدم الفصل.
وفيه (2): أن المستفاد من الصدر الوارد في خصوص المرأة هو عدم جواز المس

(1) الوسائل باب 22 من أبواب غسل المت ح 10.
(2) والحاصل: أن نطاق الصدر هو منع الرجل عن مس الأجنبية، وأما الذيل
فظاهره جواز مسها لبعض مواضع الأجنبي وهو خلاف الاجماع القطعي، مع أنه لو جاز
التعدي من المرأة إلى الرجل بأن يجوز له النظر إليها كما في الاستدلال فلا بد من الالتزام
بجواز مسه لها لمكان التلازم المأخوذ في الرواية، لأن جواز نظر المرأة لبعض مواضع
الرجل مصحوب لجواز مسها إياه فليلتزم به في الرجل أيضا مع أنه لم يقل به أحد، لأن
المس ممنوع من الطرفين بالاجماع.
38

حسب الاكتفاء بالصب وعدم تجويز ما عداه، فلا بد من التزام التفصيل بين الرجل
والمرأة بأن يجوز لها مس بعض مواضعه دون العكس، كما هو المستفاد من الرواية (1)
وأضف إلى ذلك كله ابتلاء هاتين الروايتين بالمعارض على ما في بابه، فراجع.
فتحصل: أنه لم يتم نصاب حجية دليل التخصيص بالوجه والكفين تجاه
تلك الأدلة الناطقة بالحرمة مطلقا، ولعله نشير إلى بعض آخر مما تمسك به
للجواز وإلى ما فيه، وهو رواية علي بن جعفر، فارتقب.
الأمر الثالث: في بيان ما يجب ستره على المرأة
لقد اتضح لك الميز بين النظر والستر بامكان حرمة الأول وعدم وجوب
الثاني، فبعد الفراغ عن حرمة نظر الرجل إلى الأجنبية يلزم البحث عما يجب
عليها من الستر، نعم لو تم الدليل على لزوم الستر عليها لحكم بحرمة النظر عليه
إلى ما وجب ستره، للتلازم بينهما في هذه الجهة - كما تقدم - ويمكن أن يستدل
للوجوب بالكتاب والسنة.
أما الكتاب: فقوله تعالى: وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن
فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن
ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آباءهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء
بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت
أيمانهن أو التابعين غير أولي الأربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات
النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيها
المؤمنون لعلكم تفلحون (2).

(1) ولم يقل به أحد لأن المس ممنوع بالاجماع القاطع سيما مع امكان الصب
فالأولى طرح الرواية.
(2) سورة النور - آية 31.
39

تقريب الاستدلال بهذه الكريمة على لزوم الستر وبيان مقداره إنما يتم
في مقامين: أحدهما: بلحاظ ما يستفاد منها مع قطع النظر عما ورد في تفسيرها
من النصوص، والآخر: بلحاظ ما ورد في تفسيرها منها.
أما المقام الأول:
فهو أن ظاهر النهي عن الابداء هو الزجر التام المولوي عنه، فيحرم الاظهار
ويجب الستر. والمراد من الزينة، إما نفس الأعضاء الجالبة المهيجة كالعين والعذار
والشعر ونحوها، وإما ما يتزين به مما هو خارج عن العضو ذاتا وإن يتصل به
عند التزين كالخضاب والكحل ونحوهما مما هو المطلي على الوجوه والشفاه
والأنامل وغيرها، أو لا يتصل به بل كان معلقا عليه من الذهب وغيره المعمول لذلك.
فعلى الأول: لا احتياج إلى التقدير، فتدل على لزوم ستر تلك الأعضاء،
وعلى الثاني: يلزم تقديره حسب التناسب بين الحكم والموضوع، إذ لا وجه لحرمة
ابداء ما يتزين به من تلك الأشياء بذواتها، فالمراد هو مواضعها من البدن فيجب
سترها.
والظاهر: رجحان الوجه الأول، ولا استيحاش من كون ما هو جزء من
البدن نفسه زينة، كما لا استبعاد كون بعض ما هو كذلك عورة وسوءة يستحيي
منها، كذلك هنا بعض الأجزاء زينة يتزين بها ويصير الإنسان بها مسرورا،
وسيوافيك ما يرجحه
وأما المراد من الاستثناء، فهل هو المقدار الظاهر من البدن في عصر النزول؟
أو ما هو الدارج في كل عصر بحسبه؟ أو هو المقدار الظاهر من زينة البدن لا نفسه؟
أو خصوص الوجه والكفين؟ أو خصوص الكفين والأصابع؟ أو غير ذلك؟ وجوه
وأقوال:
40

لا مجال للوجه الأول بعد عدم معلومية ما هو المقدار الظاهر في عصر
النزول، لأن الكريمة إنما نزلت للتحديد تهديدا، فلا بد من دلالتها على تقليل
ما كان رائجا، وبيان لزوم ستر ما كان مكشوفا، وإلا لصارت امضاء وتنفيذا لتلك
السيرة، وهو كما ترى.
كما أن احتمال تحديد المستثنى في كل عصر بحسبه مساوق للغوية النزول
بعد ما تغيرت السيرة وصارت بلاد الإسلام كغيره مملوة من العاريات، بل مع
تغيير من تستر نفسها ولا تبدي زينتها من النساء المؤمنات.
بل المراد هو ما ظهر من الأعضاء التي تكون زينة لهن قهرا وبلا اختيار
بإطارة الريح أو عند الركوب والنزول من الدواب والسيارات مع التحفظ أو مع
الأمن واليقين بعدم الناظر، إذ لا ريب في أن لزوم الستر ليس واجبا نفسيا كالصلاة
والصيام، بل وجوبه إنما هو بلحاظ الاستتار عن الناظر لشهادة التناسب المتقدم.
وما عد في الآية من موارد الاستثناء ونحو ذلك مما هو خارج عن الاختيار وإن
كانت مقدماته اختيارية، فالشرع الأنور لم يسد أبواب تلك المبادئ الاختيارية
بايجاب الاحتياط وتحتم القرار في البيوت وتحريم الخروج منها، بل سهل
الأمر وأجاز الخروج وامتن بتجويز ما ظهر قهرا مع التحفظ بالستر، فحينئذ
يصير الاستثناء منقطعا إذ ليس الظهور الكذائي مستندا بابدائهن حتى يكون خارجا
عن عموم المستثنى منه، ومعه تكون الدلالة على حرمة الابداء ولزوم الستر آكد
وأقوى، لأن انقطاع المستثنى مؤكد لاستيعاب المستثنى منه وعدم خروج فرد
منه أصلا، فلذلك يقال عند إرادة الاستغراق وتأكيد الاستيعاب: جاءني القوم
إلا حمارا، بمعنى أن القوم بأسرهم جاءوا ولم يخرج منهم أحد أبدا، وهذا بخلاف
اتصاله، لأن خروجه موجب لانكسار ظهور العام - كما في محله - فراجع.
فالكريمة بالغة الدلالة على حرمة الابداء مطلقا، ويؤيده عدم استثنائه
41

ثانيا عند قوله تعالى " ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن... الخ "، فلو كان المراد
من " ما ظهر " هو العضو الخاص كالوجه أو نحوه للزم أن يقال: ولا يبدين عدا ما ظهر
منها إلا لبعولتهن... الخ، واحتمال الاكتفاء بالسابق خال عن الوجه.
هذا بناء على كون المراد من الزينة هو العضو نفسه، وأما بناء على كونها
ما يتزين به مما هو خارج عنه ذاتا فهي على قسمين: أحدهما ما يكون ظاهرا
والآخر ما لا يكون كذلك.
أما الأول: فكالخمار والقناع والقميص، ونحو ذلك من الثياب، إذ هي
قد تكون فاخرة جالبة مزينة، بحيث تزيد في حسن الحجم وبهاء الجسد قطعا،
فقد استثنى إبدائها فلا يحرم ابداء ذلك بأن يجب عليهن الحبس في البيوت وعدم
الخروج إلا بثياب مرقوعة، بل يجوز لهن الخروج لابسة لتلك الثياب الفاخرة،
وهذا هو خيرة الطبرسي المفسر الشهير في جامع الجوامع حيث قال (ره) ما مثاله:
أن المراد من قوله تعالى " إلا ما ظهر " هي الزينة الظاهرة كالثياب، وقيل: هي
نحو الكحل والخضاب والخاتم، وقيل: هو الوجه والكفان، وعنهم عليهم السلام هو
الكفان والأصابع، وأما الزينة الباطنة فكالخلخال والسوار ونحو ذلك - انتهى
ملخصا، فخيرته هو ما اخترناه: من إرادة الثياب دون ما عداها.
وأما القول بأنها الكحل ونحوه، فهو ملازم عادة للنظر إلى نفس العضو
المكتحل وكذا المختضب أيضا.
وأما القول بأنها الوجه والكفان، فهو مبني على كون المراد من الزينة
هو نفس الأعضاء وجعلهما مما ظهر.
وأما ما نقله أخيرا عنهم عليهم السلام فهو دال على خروج الوجه بحسب النصوص.
فتحصل: أن المراد من الزينة هو نفس الأعضاء، فيكون الاستثناء لتأكيد
استيعاب المستثنى منه، فلا يجوز لهن إبداء جزء منها اختيارا أبدا بلا استثناء شئ
42

منها، وعلى فرض إرادة الزينة الخارجة من ذات البدن فالمراد من المستثنى هو
الثياب الفاخرة التي تعد زينة ظاهرة، فيكون المستثنى متصلا فيجوز لهن إبدائها
اختيارا، وأما ما عدا من ذلك مما يستلزم لظهور أي جزء من الجسد فلا البتة.
وعن ابن مسعود تفسير الزينة باللباس مستدلا بقوله تعالى: " خذوا زينتكم عند
كل مسجد " حيث إن المراد منها هو الثوب الفاخر الحافظ للعزة والعظمة لا المرقوع
الموجب للانزجار في المحفل العام كالمسجد، وهذا أيضا يؤيد ما ذكر بعض التأييد.
وأما المقام الثاني:
فلقد روي عن الفضيل أنه قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الذراعين من المرأة
هما من الزينة التي قال الله " ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن " قال: نعم وما دون
الخمار من الزينة وما دون السوارين (1).
لا اشكال في السند لصحته، كما أنه لا سترة في أن المرتكز في ذهن السائل
صحة إطلاق الزينة على نفس العضو وكون بعض الأعضاء زينة قطعا، وإنما الشك
في بعضها الآخر كالذراع، والمستفاد من الجواب أيضا كون العضو زينة.
وإنما المهم في مفاد ما تطفل في الجواب تفضلا، لاحتمال كونه لبيان استثناء
الوجه والكفين - كما استدل به في الحدائق - ولاحتمال كونه لبيان استوائهما
مع سائر الأعضاء، فيحرم ابدائهما كما يحرم إبدائها، وذلك لأن الخمار هو ما
يستر الرأس والسوار ما يستر الزند وإن كان قليلا. فإن أريد من لفظة " دون "
التحت المرادف للسفل المقابل للعلو، فيدل بالمنطوق على حرمة إبداء الوجه
والكفين لكونهما زينة، وإن أريد منها التحت المرادف للباطن المقابل للظاهر،
فيدل بالمفهوم على جواز الابداء وعدم الستر.
وتوضيحه: بأنه على الأول يدل بالمنطوق على أن الوجه زينة لكونه

(1) الوسائل باب 109 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه ح 1.
43

سافلا بالقياس إلى الخمار (حيث إنه في الرأس) وكذا على أن الكف زينة لكونه
سافلا بالقياس إلى السوار (حيث إنه في الزند)، إذ لا مرية في أن الخمار الواقع
في الرأس عال والوجه الواقع تحته سافل، وكذا السوار الواقع في الزند عال
والكف الواقع تحته سافل، فإذا حكم بأن ما يكون سافلا لهما زينة يقطع بحرمة
إبدائه، فيكون وزان الوجه والكفين وزان سائر الأعضاء.
وأما على الثاني: فيدل بالمفهوم على أن الوجه والكف ليسا بزينة، لأن
المراد من " دون الخمار " هو الرأس، لكونه باطنا ومستورا والخمار الواقع
فوقه ظاهرا ساترا، وكذا من " دون السوار " هو خصوص الزند، لكونه باطنا
ومستورا والخمار الواقع فوقه ظاهرا ساترا، فإذا حكم بأن الرأس زينة يحكم
بأن الوجه ليس بزينة أداء لحق المفهوم المستفاد من اللقب الواقع في مقام التحديد
وكذا إذا حكم بأن الزند زينة يفهم أن الكف ليس بزينة لذلك التحديد، ولا مجال
للتفكيك بين لفظي " دون " بإرادة أحد المعنيين من موضع والآخر من الآخر،
لإباء وحدة السياق عنه.
فإن لم يكن لها ظهور في الأول، فلا أقل من التساوي الموجب للاجمال
المسقط لهذه الصحيحة عن صلوح الاستدلال مع بقاء الكريمة بحالها.
ولذلك لم يتمسك جل من قال باستثناء الوجه والكفين بهذه الصحيحة.
نعم في الحدائق: قوله عليه السلام " وما دون الخمار " أي ما يستره الخمار من
الرأس والرقبة فهو من الزينة، وما خرج عن الخمار من الوجه فليس منها، و
دون السوارين يعني من اليدين وهو ما عدا الكفين، وكأن " دون " في قوله " دون
الخمار " بمعنى تحت الخمار و " دون السوار " بمعنى تحت السوار، يعني الجهة
المقابلة للعلو، فإن الكفين أسفل بالنسبة إلى ما فوق السوارين من اليدين، انتهى.
وفيه: أنه إن أراد اتحاد معنيي لفظة " دون " في ذينك الموردين بإرادة التحت
44

منها - كما هو الظاهر من بعض فقراته - فلا غبار عليه، لتمامية المقصود بذلك،
لأن الوجه وكذا ما عدا موضع السوار إلى الأصابع خارج بالمفهوم عن الزينة،
فيجوز الابداء، ولكنه لا يلائمه قوله... يعني الجهة المقابلة للعلو.
وإن أراد التفكيك بين المعنيين: بإرادة التحت المرادف للباطن المستور
بالنسبة إلى الخمار، وبإرادة التحت المرادف للسفل المقابل للعلو بالنسبة إلى
السوار، بأن يكون مراده: ما هو دون السوار وأسفله إلى المفصل المنشعب
منه الكف - لأن بين موضع السوار وبين المفصل مقدارا من اليد - وأريد إدراجه
أيضا في حرمة الابداء مع إرادة خروج خصوص الكف نفسه عن حد الزينة.
فيرد عليه أولا: إن التفكيك غير ملائم لوحدة السياق جدا.
وثانيا: إذا أريد من لفظة " دون " في السوار، السافل المقابل للعالي وفرض
الفصل بين موضعه وبين الزند، فمن أين يقتصر على خصوص ذاك المقدار؟ إذ كما
أن ذلك المقدار سافل كذلك الكف أيضا سافلة بالنسبة إلى موضع السوار، إذ
يصدق على جميع ذلك أنه دون السوار - أي أسفل من موضعه - فما السر في اخراج
خصوص الكفين؟
أضف إلى غلق العبارة وحزازتها: أنه (ره) استدل بهذه الرواية الدالة
على جواز الابداء - على التسليم - على جواز النظر إلى الوجه والكفين، مع
أن بين جواز الابداء وجواز النظر فرقا وميزا مانعا عن التلازم - كما مر - نعم
لو دل شئ على جواز النظر فلعله مستلزم لجواز الابداء ولا عكس، فراجع.
هذا كله مع الغض عما في استدلاله، إذ لا ظهور للفظة " دون " في التحت
المرادف للباطن المستور، مع احتمال إرادة ما هو المرادف للسفل - كما مر -
ولا أقل من الاجمال المسقط لهذه الرواية عن صلوح الاستدلال مع بقاء الكريمة
بحالها.
45

والذي يمكن أن يرجح به الاحتمال الثاني الذي أبديناه المنتج لحرمة
الابداء، هو أن المفتى به لدى كثير من علماء العامة هو الجواز بالنسبة إلى
الوجه والكفين من حيث النظر المستلزم لجواز الابداء.
قال ابن رشد: والسبب في اختلافهم أنه ورد الأمر بالنظر إليهن مطلقا،
وورد المنع مطلقا، وورد مقيدا أعني بالوجه والكفين، على ما قاله كثير من
العلماء في قوله تعالى " ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها " أنه الوجه والكفان،
وقياسا على جواز كشفهما في الحج عند الأكثر، ومن منع تمسك بالأصل وهو
تحريم النظر إلى النساء، انتهى.
فيمكن أن يكون ذهن السائل قد استقر على جواز كشفهما تبعا لما هو
الدارج بين هؤلاء وكونه مفروغا عنه، فلذا اقتصر في السؤال على الذراعين وأنه
هل الذراع زينة يحرم إبدائها أو لا؟ كالكف الجائز ابدائه، فأجاب عليه السلام بأن
الذراع زينة، وتطفل ثانيا بكون الوجه والكف أيضا من الزينة ردعا لما ارتكز
في ذهنه وردا لما استقر في رأيه، فعليه يكون المراد من لفظة " دون " هو السافل
في كلا الموضعين.
والغرض أنه مع التنبه لمثل هذه النكتة يذعن بعدم الظهور فيما
ادعاه (ره).
ومما ورد أيضا تفسيرا للكريمة هو ما رواه عن القاسم بن عروة عن عبد الله بن
بكير عن زرارة عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل " إلا ما ظهر منها " قال:
الزينة الظاهرة الكحل والخاتم (1).
ولا اشكال في السند إلا بوقوع القاسم بن عروة، حيث إنه لم يوثق إلا على
الطريقة الدارجة بين المتأخرين، الذين يتطرقون بها إلى التوثيق، وهو نقل
الرواة الأجلاء عنه، إذ به يحصل الوثوق، لأنه لو لم يكن المروي عنه موثقا

(1) الوسائل باب 109 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه ح 3.
46

عندهم لما نقلوا عنه، ولما كان القاسم بن عروة ممن يروي الأجلاء عنه فتكشف
وثاقته بذلك.
وأما المتن: فالمستفاد منه، هو إرادة الزينة الخارجة عن البدن التي يتزين بها
لأنفس الأعضاء الجالبة - على ما في رواية الفضل المتقدمة - وحيث إن الكحل متقوم
وجودا بالجفن المكتحل وكذا الخاتم متصل بالأصبع المتختم ولا يمكن الفك بين
الحال والمحل، فجواز إبداء هذين مستلزم لجواز إبداء ذينك العضوين.
ولا سترة أيضا في أن جواز إبدائهما مع هاتين الزينتين مستلزم لجواز
إبدائهما لو خليا وطباعهما بلا تزين بهما قطعا، إذ لا يعقل جواز إبداء الإصبع
المتختم وعدم جواز إبدائه وحده بلا خاتم، وكذا في المكتحل.
نعم لا يستفاد جواز إبداء ما زاد عنهما، كما أنه لا يستفاد جواز إبدائهما
أيضا بزينة أقوى تهييجا وأشد تحريكا للغريزة الحيوانية.
ولك أن تقول: إن ظهور الزينة وخفائها دائر مدار ظهور العضو المتزين
وخفائه، فالمراد من الزينة الظاهرة ما هو الواقع في العضو الظاهر، كما أن غيرها
ما هو الواقع في العضو المختفي، فلعل السائل كان مركوز الذهن بجواز اظهار
بعض الأعضاء البتة واستفاد من الكريمة جواز إبداء الزينة الواقعة في ذلك
العضو الذي يجوز إبدائه فسأل عن تلك الزينة، فأجاب عليه السلام بالكحل والخاتم
تحديدا لها، فعليه إذا تزين ذاك العضو كالوجه مثلا بزينة أخرى فلا يجوز
الابداء تبعا لتلك الزينة الزائدة المهيجة، وسيتضح هذا مزيد اتضاح، فارتقب.
ومن ذلك أيضا ما رواه عن سعد بن مسلم عن أبي بصير عن أبي عبد الله قال:
سألته عن قول الله عز وجل " ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها " قال: الخاتم
والمسكة وهي القلب (1).

(1) الوسائل باب 109 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه ح 4.
47

أن السند باعتبار سعد بن مسلم قابل للنقاش، لأنه مجهول.
وأما المتن: فالكلام فيه هو ما مر، فيستفاد منه أن جواز إبداء بعض
الأعضاء كان مفروغا في محله، وحيث إنه أجيز إبداء زينة ذاك العضو التي تكون
ظاهرة بظهوره، ولم يعلم أن تلك الزينة ما هي؟ وكم هي؟ فسئل عنها، فأجيب
بأنها الخاتم والمسكة (بفتحتين) ولما كان المسك شاملا للسوار والخلخال فسر
بخصوص القلب الذي بمعنى السوار وإن كان نوعا خاصا منه مصنوعا من العاج،
فيدل على جواز إبداء موضعه أيضا، بل يدل على الكف نفسه، إذ لا يساعد العرف
تقطيعه بجواز إبداء الإصبع والزند مثلا دون ما عداهما من أجزائه، ونظير ذلك
في الكحل، لبعد جواز إبداء خصوص الجفنتين دون نفس العين مثلا.
ومنه: ما رواه في المستدرك (1) عن أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله
تعالى " ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها " فهي الثياب والكحل والخاتم وخضاب
الكف والسوار، والزينة ثلاثة: زينة للناس، وزينة للمحرم، وزينة للزوج،
فأما زينة الناس فقد ذكرناها، وأما زينة المحرم فموضع القلادة فما فوقها
والدملج وما دونه والخلخال وما أسفل منه، وأما زينة الزوج فالجسد كله.
تقريب الاستدلال بها لجواز الابداء هو ما مر، وفيها إضافة الخضاب
المستوعب للكف مع الاشعار إلى جواز النظر، لأن جواز الابداء وإن لم يستلزم
بنفسه جواز النظر، إلا أن التعبير بقوله " للناس " في قبال قوله " للمحرم " و
" للزوج "، غير خال عن الاشعار به لو لم يكن ظاهرا. نعم يشكل الاعتماد عليها
لضعف أبي الجارود.
وأما التحديد بما ذكر بالنسبة إلى المحرم مع جواز إبداء جميع الجسد
عدا العورتين، فلعله لاستحباب الترك أو كراهة الفعل بالنسبة إلى ما زاد عنه،
كما أفتى به عدة من الأصحاب (ره).

(1) المستدرك ج 2 ص 555.
48

وحيث إن في السند بعض النقاش، فهي إن لم تكن دليلا فلا أقل من
التأييد.
كما أنه يمكن أيضا تأييد عدم حرمة إبداء الوجه بقوله تعالى " وليضربن
بخمرهن على جيوبهن " حيث إنه مضروب على الرأس إلى الجيب بلا إسدال إلى
الوجه، فهو مضروب خلفا لا قداما، فيستر الرأس لا الوجه، فلم يؤمر به فلا
يحرم إبدائه حينئذ، أو يكون مسدولا إلى الجنب فأمر بضربه على الجيب أيضا
- كما يأتي - فلا يدل على منع الابداء.
هذا محصل القول في الكريمة بلحاظ ما يستفاد منها وحدها، وبلحاظ
ما ورد تفسيرا لها.
أما السنة:
فمنها: ما رواه عن عبد الله بن جعفر في قرب الإسناد عن هارون بن مسلم
عن مسعدة بن زياد قال: سمعت جعفرا - وسئل عما تظهر المرأة من زينتها - قال:
الوجه والكفين (1).
لأنها وإن لم تكن منقطعة المساس بالكريمة، ولكنها لم ترد مفسرة لها،
ودلالتها على جواز إبداء ما فيها تامة جدا، فيتقيد بها إطلاق ما مر.
إنما الكلام في السند، ولكن الحق صحته فيحكم بجواز إبداء الوجه
والكفين بهذه الصحيحة، مع جعل ما مر تأييدا له.
أضف إلى ذلك: أنه ليس للآية ظهور تام في حرمة الابداء حتى يتجشم في
التقييد، وذلك لما أشير إليه من أن المراد من قوله تعالى " وليضربن بخمرهن
على جيوبهن " أن الخمار هو القناع الساتر للرأس وكان مسدولا إلى الجنب
- على ما هو المستفاد من مجمع البيان والجوامع لمؤلفهما الطبرسي (ره) - وكان

(1) الوسائل باب 109 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه ح 5.
49

النحر والجيب مكشوفا، فأمر الله تعالى بضربه على الجيب سترا له وللنحر، ومن
المعلوم: أنه كما يمكن الضرب عليه باسدال الخمار من الفوق إلى الجيب بامتداد
الوجه بحيث يصير الوجه أيضا مستورا به كذلك يمكن جعل إحدى حاشيته على
الأخرى عند تلاقيهما في الجيب فيستر هو والنحر معا بهذا الانطباق بلا ستر الوجه
كما هو الدارج عند كثير من النساء، فحينئذ لا ظهور لها في الوجه الأول الدال
على حرمة الابداء، ولا إطلاق تام في الباب حتى يتعب لتحصيل المقيد له.
فتحصل من جميع ما مر: أن الأقوى هو جواز إبداء الوجه والكفين للمرأة،
نعم لا يستلزم ذلك جواز النظر كما مر غير مرة، وقد مر النقاش فيما تمسك به
لجواز النظر إلى ما ذكر.
ثم إنه قد يتمسك هنا بما يدل على جواز النظر إلى الوجه والكفين المستلزم
لجواز الابداء، وهو ما رواه الحميري في قرب الإسناد عن عبد الله بن الحسن العلوي
عن جده علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام، قال: سألته عن الرجل ما يصلح
له أن ينظر من المرأة التي لا تحل له؟ قال: الوجه والكفان وموضع السوار. (1)
والسند لاشتماله على عبد الله بن الحسن غير موثق، إذ لم نجده مذكورا
في كتب الرجال حتى يوثق، وإن أفاد النوري (ره) في المستدرك أنه هو الذي
يتكرر النقل منه في الكافي وغيره، إلا أنه ليس أزيد من الحدس، فلعله غيره
فمن أين الوثوق؟ أضف إلى ذلك اشتمالها على استثناء موضع السوار - وهو ما
فوق الكف من الساعد إلى الزند لا خصوص المفصل - وهو ما يحرم إبدائه البتة،
والعجب أنه لم ينقله الشيخ الأنصاري (ره) في شرح الارشاد حينما نقل الرواية
عن كفاية السبزواري، ونقل أنه (ره) لم يستبعد صحتها، حيث إنه اكتفى على
الوجه والكفين دون موضع السوار مع اشتمالها عليه.

(1) ص 102 في آخر كتاب الصلاة.
50

وقد يحمل هذا الخبر على المحرم بحمل قوله: التي لا تحل له، على التي
يحرم نكاحها وإن كانت محرما، ولا ريب في أنه خلاف الظاهر جدا، اللهم إلا أن
يتكلف بجمعها مع أدلة حرمة النظر بحمل هذا على ما أشير مع التصرف الآخر
بحملها أيضا على الكراهة أو الندب.
والحاصل: أنه لو تم سند هذه الرواية لأمكن الحكم بجواز النظر إلى
الوجه والكفين اعتمادا عليها، وجعل ما عداها من المرسلة المتقدمة مؤيدة لها
ونحو ذلك.
ومن الكتاب أيضا قوله تعالى: يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء
المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا
رحيما (1).
وأقصى ما يمكن الاستدلال به لوجوب الستر مطلقا هو الأمر بادناء الجلباب
أي إرخائه، وحيث إنه محذوف المتعلق يؤخذ باطلاقه ويحكم بوجوب الستر
كذلك، فحينئذ يلزم وجوب ستر الوجه والكفين كسائر الأعضاء مما يحرم
إبدائه.
وفيه: أن العثور على سر النزول مع انضمام الصدر إلى الساقة يعطي خلاف
ما استدل، ويشرف الفقيه على الاطمئنان بأن الحكم من الآداب الراجحة بلا
لزوم، وذلك لأنه لم يتضح أولا: أن الجلباب ثوب خاص معد لستر الوجه أو
الرأس والوجه ونحوه، أو هو ثوب لم يستعد له بل يمكن أن يستر الوجه به،
إذ الجلباب قد فسر بأنه فوق الخمار ودون الرداء أو ثوب واسع ونحو ذلك، بلا
اختصاص له بالوجه، فعليه لا ظهور له في إلزام ستره، نعم يشمله بالاطلاق المبتني
على حذف المتعلق ونحوه.

(1) سورة الأحزاب - آية 59.
51

وثانيا: أن مورد النزول هو أنه لما كانت الإماء في تلك الآونة عرضة للأذى
أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله أن يرشد النساء الحرائر إلى ارخاء الجلباب الموجب
لامتيازهن عن الإماء حتى يصن عن التعرض ويحفظن عن أذي اللئام، ويلائمه
قوله تعالى " أدنى أن يعرفن فلا يؤذين... الخ " حيث رتب عدم الأذية على
المعروفية فإذا صرن بالستر ممتازات عن الإماء التي لم تكن ساترات الوجوه
والرؤوس يحفظن عن عرضة الأذى، ومن المعلوم: أن هذا اللسان لا ينطق باللزوم
أصلا، نعم لو توقف صون المرأة على إرخاء الجلباب لوجب، كما أنه لو توقف
على شئ آخر وراء الستر كالفرار ونحوه لوجب أيضا، وأين هو من الوجوب النفسي
المبحوث عنه؟
فالكريمة قاصرة عن إفادة الوجوب بالنسبة إلى ستر الوجه، لأن سائر
الأعضاء عدا الوجه والكفين مما لا إشكال في وجوب سترها ولا خلاف فيه ظاهرا
فلا احتياج إلى تجشم زائد، إنما الكلام في لزوم ستر الوجه والكفين.
ومنه أيضا قوله تعالى " وإذا سألتموهن متاعا فسألوهن من وراء حجاب
ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن... الخ " (1) وهذه هي الآية المشهورة بآية الحجاب
المعنى بها إذا قيل: حدث ذاك الشئ قبل نزول آية الحجاب أو بعدها.
تقريب الاستدلال بها على وجوب الستر هو إيجابه تعالى الحجاب المانع
عن اللقاء عند السؤال، وحيث إنه لا خصوصية له - أي للسؤال - يستفاد منه
لزوم الحائل بين الرجل والأجنبية حتى لا يراها ولا تراه، ولا تفاوت في ذلك بين
إرادة خصوص الثوب الحاجب أو الأعم منه ومن الجدار ونحوه، لدلالته على
لزوم التحفظ في معرض النظر.

(1) سورة الأحزاب - آية 53.
52

ويؤيده ما ورد في (ابن أم مكتوم الأعمى) وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله بعض نساءه
بالاحتجاب عنه، لأن العمى وإن كان حجابا بالنسبة إليه، ولكنها لما كانت غير
محجبة كانت عرضة لأن تراه، فأمرها بالاحتجاب حتى لا تراه، لأن نظر الأجنبية
إلى الأجنبي حرام كالعكس، بل الأمر فيها أشد، لعدم استثناء الوجه والكفين
ونحو ذلك فيها، وإن قيل بذلك فيه.
وأما قوله تعالى " ذلكم أطهر... الخ " فلا ظهور له في دوران الحكم مدار
خوف فوات طهارة القلب وقداسته اللازمة حتى يقال: بخروجه عن حريم
البحث، للزوم الستر حينئذ بلا كلام، ولحرمة النظر الكذائي بلا خلاف، بل
المحتمل هو لحاظ الشرع الأنور ذلك حكمة للحكم لا علة له، فأوجب الستر
صونا عن ارتكاب خلاف القداسة الباطنة أحيانا، فمعه يجب الستر مطلقا، سواء
كان في مورد الريبة والتلذذ ونحو ذلك أم لا، وسواء كان بالنسبة إلى الوجه
والكفين أم ما عداهما، للاطلاق المستفاد من حذف المتعلق.
فالحجاب المطلوب للشرع لزوما مما أمرت المرأة بتحصيله لا الرجل،
وإن كان لو حصله بستر نفسه أو استتاره خلف الجدار ونحوه لحصل التحفظ،
ولكن التكليف والالزام منحدر نحوها دونه.
وأنت خبير بأن وجوب ستر الوجه والكفين المستفاد من الآية حسب
الاطلاق المرهون لحذف المتعلق ليس دليله قويا بنحو يقوى على معارضة ما ظاهره
جواز إبدائهما، بل تحمل الآية بالنسبة إلى خصوصهما على الندب نظير غير واحد
من النصوص الآمرة بحبسهن في البيوت وعدم إذنهن للخروج عنها، فليكن على
ذكر منك.
53

الأمر الرابع: فيما يدل على عدم وجوب ستر الوجه والكفين
قد لاح لك في ثنايا الأمر الثالث - الباحث عما يجب على المرأة من الستر -
ظهور بعض النصوص المعتبرة في جواز إبداء الوجه والكفين، وقد يتمسك أحيانا
بما ورد من تروك الاحرام مما ظاهره أو محتمله جواز الاظهار، فيلزم نقل ذلك
أولا، والإشارة بما في الاستدلال به ثانيا.
وهو ما رواه عن أحمد بن محمد عن أبي الحسن عليه السلام قال: مر أبو جعفر عليه السلام
بامرأة محرمة قد استترت بمروحة فأماط المروحة بنفسه عن وجهها (1) - ورواه
الصدوق مرسلا، إلا أنه قال: فأماط المروحة بقضيبه.
تقريب الاستدلال: هو أنه لو وجب ستر الوجه وحرم إبدائه لما أماط عليه السلام
المروحة عن وجهها، وليس ذلك إلا لعدم الوجوب.
وفيه أنه ما لم يعلم كيفية الإماطة لا يمكن الاستدلال بذلك لعدم الوجوب
وتوضيحه: بأن الاستتار بالمروحة لعله ظاهر في لصوقها بالوجه صونا عن حر
الشمس وهبوب الرياح ونحو ذلك، فإماطتها يتصور على وجهين:
الأول: أن تكون برفعها عن الوجه بحيث تصير فوقه مظلة عليه، أن ما كان
لاصقا بالوجه من العالي إلى السافل جعل مرفوعا عنه فهو بعد باق بحاله ولكن
مسدولا مع الفصل بلا لصوق.
الثاني: أن تكون بابعادها عن الوجه رأسا بحيث تصير ملقاة على الأرض مثلا
بلا مساس لها بالوجه ولا بالقصاص ونحو ذلك أصلا.
فعلى الأول: لا يلازم الابداء إذ يمكن الاستتار حينئذ بنحو الاسدال بلا لصوق
وهو ساتر بلا ريب، والفرق بين اللاصق والمسدول مع الفصل هو صيانة الوجه عن تغير
اللون في الأول دون الثاني، حيث إنه يتخلل الحر وهبوب الريح فيؤثران فيه.

(1) الوسائل باب 48 من أبواب تروك الاحرام من كتاب الحج ح 4.
54

وعلى الثاني: يلازمه بل يشعر بجواز النظر أيضا فضلا عن جواز الابداء،
لأن إبعاد تلك المروحة عن الوجه رأسا مستلزم لاسفاره بلا ريب، وحيث إن الإماطة
الكذائية غير منفك عادة عن النظر، فلزم أنه عليه السلام قد نظر إلى وجهها إذ لو غمض
عليه السلام عينيه أو حول رأسه أو وجهه لئلا يقع النظر لنقل إلينا، لأنه أمر مهم خارج
عن العادة فيتوفر الدواعي إلى نقله.
والحاصل: أن الإماطة يمكن أن تتحقق على وجهين، ولا ظهور لها في
خصوص الثاني، فإن أقيم الشاهد على رجحان أحدهما فهو.
والذي يسهل الخطب هو ورود روايات عديدة يستفاد منها الاكتفاء في
أسفار الوجه المأمور به في إحرام المرأة بعدم اللصوق وإن كان الثوب من النقاب
وغيره مسدولا من العلو إلى السفل، على اختلاف مراتبه الواردة تلك الروايات
فيها كما يتضح، فمعه يستأنس الظهور العرفي لترجيح الوجه الأول، حيث إنه
لمكان كفايته واجزائه يبعد أنه عليه السلام قد أماط المروحة رأسا بنحو يبدو الوجه.
فمن تلك الروايات: ما رواه عن عيص بن القاسم قال: قال أبو عبد الله عليه السلام
في حديث كره النقاب يعني للمرأة المحرمة، وقال: تسدل الثوب على وجهها،
قلت: حد ذلك إلى أين؟ قال: إلى طرف الأنف قدر ما تبصر (1).
والمراد من الاسدال هو ما يكون الارخاء مع الفصل وبلا لصوق بالوجه.
وفي رواية الحلبي فقال عليه السلام: أحرمي وأسفري وأرخي ثوبك من فوق
رأسك، فإنك إن تنقبت لم يتغير لونك قال رجل: إلى أين ترخيه؟ قال: تغطي
عينها، قال: قلت: تبلغ فمها؟ قال: نعم (2).
والجمع بين الاسفار وبين الارخاء أصدق شاهد لما قلناه من الاكتفاء بارخاء
الثوب في الاسفار المأمور به بلا لزوم الابداء البحت بلا ارخاء شئ من الثياب أصلا.

(1) الوسائل باب 48 من أبواب تروك الاحرام ح 2 و 3.
(2) الوسائل باب 48 من أبواب تروك الاحرام ح 2 و 3.
55

وفي رواية حريز: المحرمة تسدل الثوب على وجهها إلى الذقن (1).
وفي رواية زرارة: إلى نحرها (2).
وفي رواية معاوية بن عمار: تسدل المرأة الثوب على وجهها من أعلاها
إلى النحر إذا كانت راكبة (3).
وقد حققنا سر ذلك في مباحث الحج: من أن الراكبة يرى من وجهها
ما لا يرى من وجه غيرها، لأن الماشي معها لكونه أسفل وهي أعلى منه موضعا
يمكن أن يرى من وجهها ما لا يمكن أن يرى من وجه غيرها مع الاسدال، فلذا
أمر بالارخاء إلى النحر صونا عنه، كما أنه قد حقق هناك أن الثوب المسدول
وإن يقع على الوجه سيما الأنف أحيانا فيصير بذلك مغطى به، إلا أنه لا ضير
فيه لكونه غير ثابت، ولا بأس بمثل هذه التغطية التي لاثبات لها.
وفي رواية سماعة: إن مر بها رجل استترت منه بثوبها ولا تستتر بيدها
من الشمس (4).
وهذه ظاهرة في اللزوم فيما يكون عرضة للنظر، كما أن المستفاد من
المجموع هو عدم لزوم الاسفار البحت بلا إرخاء ولا سدل أصلا، فحينئذ يمكن
جعل ذلك كله شاهدا على أن ما أماطه عليه السلام كان بالوجه الأول لا الثاني.
أضف إلى ذلك كله: أنه لو تم نصاب ما يدل على جواز إبداء الوجه حال
الاحرام، فيشكل التعدي إلى غيره بقول مطلق، لأن هناك من موارد الحاجة
والصعوبة، فيمكن الترخيص تسهيلا، فلا يجوز التعدي إلى غير حال الاحرام.
وقد يتمسك لعدم وجوب ستر الوجه والكفين بما رواه عن النوفلي عن
السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قال: إن أمير المؤمنين عليه السلام نهى عن القنازع
والقصص ونقش الخضاب على الراحة، وقال: إنما هلكت نساء بني إسرائيل من

(1) الوسائل باب 48 من أبواب تروك الاحرام ح 6 و 7 و 8 و 10.
(2) الوسائل باب 48 من أبواب تروك الاحرام ح 6 و 7 و 8 و 10.
(3) الوسائل باب 48 من أبواب تروك الاحرام ح 6 و 7 و 8 و 10.
(4) الوسائل باب 48 من أبواب تروك الاحرام ح 6 و 7 و 8 و 10.
56

قبل القصص ونقش الخضاب (1).
تقريب الاستدلال - على ما أفاده الشيخ الأنصاري (ره) في شرح الارشاد -
أنه لو وجب ستر الوجه والكفين كغيرها لم يكره تزيينها كما لا يكره تزيين
غيرها كيف شائت، انتهى.
وفيه: أنه لا تعرض فيها للوجه أولا، مع دلالتها على عدم تزيين ما يجب
ستره بالاجماع ثانيا، لأن القنازع هو ما يبقى من الشعر وسط الرأس مع حلق
ما عداه، والقصة هو شعر مقدم الرأس فنهى عن التزيين بذلك، فيمكن أن يكون
ستر الراحة واجبا كسترهما، وأن يكون النهي ولو تنزيها لرعاية الاحتياط،
حيث إنه مما يحتمل انكشافه لقضاء الأوطار عند المعاملات ونحوها.
والغرض: أن ما هو العلاج في نهي القنازع والقصص التي يجب الستر فيها
بالاجماع هو العلاج في نهي الخضاب، فلا دلالة له علي عدم الوجوب، مع ما في
السند من الضعف.
نعم يمكن أن يتمسك للعدم بما رواه عن عبد الله بن جعفر في قرب الإسناد
عن أحمد بن محمد بن عيسى عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن الرضا عليه السلام قال: سألته
عن الرجل يحل له أن ينظر إلى شعر أخت امرأته؟ فقال: لا، إلا أن تكون
من القواعد، قلت له: أخت امرأته والغريبة سواء؟ قال: نعم، قلت: فما لي
من النظر إليه منها؟ فقال: شعرها وذراعها (2).
لا إشكال في السند لصحته، وأما تقريب الاستدلال على عدم الوجوب: أن
اختصاص السؤال بالشعر وعدم ذكر الوجه مع كونه أشد ابتلاء منه غير خارج
عن الوجهين: الأول: أن يكون ارتكاز السائل هو المنع وعدم جواز النظر إلى
الوجه، والثاني: هو الجواز وعدم المنع.

(1) الوسائل باب 100 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه ح 1.
(2) الوسائل باب 107 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه ح 1.
57

فعلى الأول: لا معنى للسؤال عن الشعر، لأن من ارتكز في ذهنه عدم
جواز النظر إلى الوجه - أي وجه أخت الزوجة - وكان عالما بعدم جواز النظر
إلى شعر غيرها فلا بد من أن يكون عالما بعدم جواز النظر إلى شعرها - أي
أخت الزوجة - إذ ليس الشعر أسهل من الوجه بل هو أشد منه، لقيام النص
والاجماع على حرمة النظر فيه.
وأما على الثاني: فينطبق النظم الطبيعي الواقع بين السؤال والجواب مع
وقوع السؤال في محله، لأن من ارتكز في ذهنه جواز النظر إلى وجهها ويحتمل
جواز النظر إلى شعرها لخصيصة المورد يتمشى منه السؤال.
والحاصل: أن ارتكاز السائل هو الجواز ولم يردعه المعصوم عليه السلام، اللهم أن
يكون قوله عليه السلام " نعم " دالا على الردع وهو بعيد جدا، بل المراد منه هو التسوية
بينهما في حرمة النظر إلى الشعر.
وأما المراد من الذيل فهو الترخيص إذا كانت من القواعد كغيرها من
القواعد الأخر.
فبملاحظة عدم ردع الارتكاز يستفاد جواز النظر، وحيث إنه مستلزم
لجواز الكشف - كما مر مرارا - يستفاد منه عدم حرمة الابداء بالنسبة إلى
الوجه. وأما الكفين: فإن جرى فيهما ما قررناه في الوجه فيحكم بعدم حرمة
ابدائهما أيضا، وإلا فلا.
ويمكن الاستدلال على جواز كشف الوجه والكفين بتقريب معصور من
جميع ما تقدم، وهو أن مجموع ما ورد من النصوص الظاهرة في جواز النظر إلى
الوجه والكفين والدالة على جواز كشفهما بالغ حد الاستفاضة المحكومة بحكم
التواتر الاجمالي، حيث إنه يقطع أو يوثق بصدور بعضها، فلا بد من أخذ ما يشترك
فيه مداليلها، وذاك الجامع هو جواز كشفهما، إذ علي تقدير صدور ما يدل عليه
فواضح، وعلى تقدير صدور ما يدل على جواز النظر إليهما فبالملازمة المتقدمة،
58

لأن الستر إنما هو للتحفظ عن النظر، فإذا فرض جوازه في مورد فلا معنى لايجابه
- أي الستر - فيصير الكشف المذكور المشترك فيه مما قامت الحجة عليه.
وأما جواز النظر: فهو بعد في مرحلة التأمل.
ولا يعارضه - أي جواز كشف الوجه - ما رواه الشيخ في الاستبصار عن محمد بن
الحسن الصفار قال: كتبت إلى الفقيه عليه السلام في رجل أراد أن يشهد على امرأة ليس
لها بمحرم، هل يجوز أن يشهد عليها وهي من وراء الستر ويسمع كلامها إذا شهد
رجلان عدلان أنها فلانة بنت فلان التي تشهدك وهذا كلامها أو لا يجوز له الشهادة
عليها حتى تبرز ويثبتها بعينها؟ فوقع: تتنقب وتظهر للشهود إن شاء الله. (1)
تقريب التعارض المتوهم: هو ظهور قوله عليه السلام جوابا بالترفيع " تتنقب "
في وجوب النقاب، فمعه يحرم كشف الوجه.
وفيه أولا: إن النقاب غير مستوعب لتمام الوجه، فعلى فرض تمامية دلالته
لا يدل على المقصود.
وثانيا: إن في السؤال قد أخذ قوله " إذا شهد رجلان عدلان أنها فلانة "
ولا ريب في جواز الاجتزاء حينئذ بلا لزوم تبرزها، فيكون الجواب حكما غير
لزومي، إذ المفروض عدم وجوب الظهور بنفسها، فالأمر بالظهور لعله لشدة
الاحتياط الراجح في القضاء، والأمر بالتنقب لعله لإباء المرأة عن التكشف غيرة
ومروة لكونها متسترة مستحيية.
ومما يدل على الاجتزاء بشهادة العدلين هو ما رواه عن ابن يقطين عن أبي
الحسن الأول عليه السلام، قال: لا بأس بالشهادة على اقرار المرأة وليست بمسفرة، إذا
عرفت بعينها أو حضر من يعرفها، فأما إن كانت لا تعرف بعينها أو لا يحضر من
يعرفها فلا يجوز للشهود أن يشهدوا عليها وعلى إقرارها دون أن تسفر

(1) الاستبصار باب 13 ح 2 في كيفية الشهادة على النساء.
59

وينظرون إليها (1).
لأن قوله عليه السلام " أو حضر من يعرفها " دال على عدم لزوم حضورها بنفسها بل
يجتزى بشهادة الغير إجمالا، كما أن قوله عليه السلام " دون أن تسفر وينظرون إليها "
قاصر عن إفادة جواز كشف الوجه في نفسه فضلا عن جواز النظر، لوروده لبيان
حيثية أخرى بلا تعرض لما نحن فيه، وعلى التسليم لا يمكن الاستدلال به لجواز
الكشف أو النظر مطلقا، لأنه ورد في مقام الحاجة إلى الاسفار والنظر دون غيره.
والحاصل: أنه لا يمكن التمسك بشئ من هاتين الروايتين الواردتين في
الشهادة على شئ من طرفي المسألة جوازا ولا منعا.
فالأقوى: جواز كشف الوجه والكفين للمرأة حسب تلك النصوص المشتملة
على الصحيح وغيره.
وأما جواز النظر إليهما: فلعدم اتضاح صحة سند ما مر من قرب الإسناد
عن " علي بن جعفر " فهو بعد محل تأمل.
تنبيهات
الأول: في النظر إلى نساء أهل الذمة:
أن للمرأة غير المسلمة خصيصة لا بد من افراز البحث عنها لأجلها، وذلك
لما يستفاد من غير واحد من النصوص جواز النظر إلى شعور نساء أهل الذمة
وأيديهن ووجوههن، فتكون مخصصة لتلك العمومات المارة، ومقيدة لتلك
الاطلاقات المتقدمة.
فحينئذ لو اشتبهت امرأة - لعدم العلم بعقيدتها من الإسلام والكفر -
لا يحكم فيها بحرمة النظر، وذلك لأنه من قبيل التمسك بالعام في الشبهة المصداقية

(1) الوسائل باب 43 من أبواب الشهادة ح 1.
60

(إلا أن ترتفع الشبهة بالأصل المحرز) فعليه لا بد من الرجوع إلى الأدلة العامة
- الدالة على حلية كل شئ - عند عدم تمامية ما يستدل به للزوم الاحتياط في
الفروج والأموال ونحوها، وذلك في محله، فانتظر.
وحيث إنه قد لاح لك في ثنايا المباحث السابقة التلازم بين جواز النظر
وبين عدم حرمة الكشف، فكل مورد حكم فيه بجواز النظر يحكم فيه بجواز
الكشف وعدم وجوب الستر، فإن استنتج في المقام جواز النظر إلى شعور نساء
أهل الذمة مثلا يحكم فيه بعدم حرمة الكشف عليهن في خصوص ما جاز النظر
إليه: من الشعر وغيره.
ثم إن الوارد في الباب طائفتان من الروايات، إحديهما: لبيان جواز
النظر في الجملة، والأخرى: لبيان أن أهل الذمة مماليك للإمام عليه السلام فحينئذ
يعامل معهم ذكورا وإناثا معاملة العبيد والإماء إلا ما خرج بالدليل، فإن حكم
بجواز النظر إلى الإماء وعدم وجوب الستر عليهن (لا جميع الجسد بل بعضه)
يحكم بجواز النظر إليهن - أي إلى النساء الذمية - فيما كان يجوز نظره من الإماء.
أما الطائفة الأولى:
فمنها: ما رواه عن النوفلي عن السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا حرمة لنساء أهل الذمة أن ينظر إلى شعورهن وأيديهن. (1)
لا إشكال في السند إلا بالنوفلي والسكوني، والحق صحة ما يرويانه، أما
النوفلي: فلم يتوقف فيه إلا العلامة (ره) لأنه مقبول الرواية لدى الشيخ (ره)
وقد عمل المحقق بما يرويه في المعتبر وغيره. وأما السكوني: فلأن نقل الأجلاء
عنه وتكرر وقوعه في الاسناد موجب للوثوق، مع أن جل ما يرويه معمول به
لدى الأصحاب، فلا نقاش في السند.

(1) الوسائل باب 112 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه ح 1.
61

وأما المتن: فظاهر جدا في جواز النظر إلى شعورهن وأيديهن بالاطلاق
الشامل لجميع مواضع اليد، ومنه يستفاد جواز النظر إلى وجوههن بالأولوية
مع شدة الابتلاء بالنظر إليها، كما أنه يستفاد منه بالملازمة جواز الكشف وعدم
وجوب ستر الشعر والوجه واليد. وأما ما زاد عن ذلك فباق تحت الاطلاقات
المانعة بلا تفاوت بين المسلمة وغيرها.
ولما كان الحكم منحدرا نحو أهل الذمة الظاهر في لزوم انحفاظ العنوان
يمكن الحكم بزواله عند عدم انحفاظ هذا لعنوان بأن لم تعمل بشرائط الذمة
كما في باب الخمس - إذ عند اشتراء الذمي أرضا من مسلم يجب على المشتري
إخراج خمسها ولكن يحكم هناك باختصاصه بما إذا عمل بشرائط الذمة وإلا
فلا - فكذلك المقام، اللهم إلا أن يستفاد عدم الاختصاص فيما نحن فيه بالأولوية،
بأن يقال: إذا لم يكن للنساء العاملة بشرائط الذمة حرمة بل يجوز النظر إلى
شعورهن وأيديهن، ففيما إذا لم تعمل بها لا حرمة لها بالأولوية.
فهذه تامة الحجية لجواز النظر في الجملة وإن لم يحرز استناد الأصحاب
القائلين به إليها، إذ في الباب ما يمكن التمسك به دونها أيضا مع عدم احتياجها
إلى الجبر.
ومنها: ما رواه عن قرب الإسناد عن السندي بن محمد عن أبي البختري عن
جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال: لا بأس بالنظر إلى رؤوس
نساء أهل الذمة، وقال: ينزل المسلمون على أهل الذمة في أسفارهم وحاجاتهم
ولا ينزل المسلم على المسلم إلا بإذنه (1) - والسند مما يشكل الاعتماد عليه.
وأما المتن: فظاهر الصدر جواز النظر إلى شعور رؤوس النساء الذمية،
وكذا الرؤوس أنفسها، ولعله يتعدى منه إلى الوجه بالأولوية وأما اليد فلا البتة.

(1) الوسائل باب 112 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه ح 2.
62

وأما الذيل: فإن أريد منه جواز نزول المسلم على الذمي بلا إذن فهو
مستلزم لجواز النظر إلى اليد والقدم ونحو ذلك مما لا يكون مستورا في البيت،
ولكنه مستلزم لجواز التصرف في مال الذمي بلا إذن منه، وإباحة ماله للمسلم
بهذا النحو المذكور في الحديث (وهو كما ترى) غير مقبول لدى الأصحاب (ره)
وإن أريد منه جواز النزول مع الإذن فهو مخالف للظاهر، إذ التفصيل قاطع
لاشتراك المسلم والذمي، فحينئذ يشكل الاعتماد على هذه الرواية.
ومنها: ما رواه عن أحمد بن محمد بن عيسى عن ابن محبوب عن عباد بن صهيب،
قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: لا بأس بالنظر إلى رؤس أهل تهامة والأعراب
وأهل السواد والعلوج، لأنهم إذا نهوا لا ينتهون، قال: والمجنونة والمغلوبة على
عقلها لا بأس بالنظر إلى شعرها وجسدها ما لم يتعمد ذلك (1).
قد يناقش في السند باشتماله على " عباد بن صهيب " ولكن الحق صحة
ما يرويه، سيما مع نقل " ابن محبوب " عنه لأن قدحه مستند إلى الغلو، وقد
ثبت في موطنه أن المراد من الغلو المهروب عنه في تلك الآونة هو الولاء الممدوح
عندنا لا الزائد منه، فمن كان يتولى عليا عليه السلام وآله بمثل ما نتولاه لكان مرميا
بالغلو ومهجورا بعدم الاعتداد بنقله، فلا قدح فيه من هذه الجهة.
وأما ما هو المشهور في ألسنة بعض المتأخرين من التأمل فيه - أي في عباد -
لأجل عدم اتضاح عقيدته، ففيه: أن المهم في قبول ما يرويه هو الوثاقة وإن كان
فاسد العقيدة. فالسند تام.
وأما المتن: فعن الفقيه والعلل... إلى نساء أهل تهامة... وأهل البوادي،
وعن الفقيه من أهل الذمة والعلوج لأنهن إذا نهين لا ينتهين.
والعلوج جمع العلج، وهو - كما في المجمع وغيره - الرجل الضخم القوي

(1) الوسائل باب 113 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه ح 1.
63

من كفار العجم، وبعضهم يطلقه على الكافر عموما، انتهى.
فعلى الأول: لا يشمل الكافر من غير العجم، بخلافه على الثاني، نعم يمكن
استفادة العموم من التعليل بعدم الانتهاء عند النهي، فيستوي فيه العرب والعجم،
كما يستوي فيه الكافر والمسلم، مع ما فيها من تجويز النظر إلى هؤلاء الأعراب
وأهل السواد وتهامة مع كونهم جميعا مسلمين أو بعضهم كذلك، فحينئذ لا اختصاص
للرأس وشعره بل يتعدى إلى غير ذلك من اليد والقدم، أداء لحق عموم التعليل،
حيث إنه معمم للحكم، كما أنه مخصص له أحيانا، فيجوز النظر مطلقا إلى
ما عدا لعورة إذا لم يكن بشهوة وتلذذ، وذلك للانصراف والاتفاق.
نعم لا اختصاص له بالنظر القهري وما هو خارج عن الاختيار، بل يجوز
التعمد البتة، لأن الظاهر اختصاص قوله عليه السلام " ما لم يتعمد ذلك " بالفقرة الأخيرة
المصدرة بلفظة " قال " لظهور هذا التصدير في استقلالها عن تلك الفقرات السابقة.
ويمكن تأييد جواز النظر إلى شعور الذمية ويديها ونحو ذلك بما ورد
من تجويز النظر إلى عورة غير المسلم لأنها بمنزلة عورة الحمار - إذ لو كانت هذه
الرواية المجوزة للنظر إلى العورة غير معرض عنها لكانت حجة في المقام بنحو
الأولوية، وحيث إنها لم تعمل بها في موردها فهي غير صالحة للاستدلال، نعم
لا تخلو عن الاشعار بتأييد المقام.
ثم إن المستفاد من التعليل أمور قد أشير إلى بعضها:
فمنها: هو حرمة النظر إلى الذمية وغيرها من المعدودات في الرواية عند
انتهائهن بالنهي وتسترهن بالساتر - كالمرأة المسلمة الحرة - لدوران الحكم
وجودا وعدما مدار الانتهاء وعدمه، حسب ظهور التعليل.
ومنها: أن جواز النظر هنا ليس حكما أوليا كما في المحارم مثلا، بل
حكم ثانوي مترتب على عصيانهن بعدم الانتهاء، فلا يدل جواز النظر هنا على
64

عدم وجوب الستر بالتلازم المتقدم مرارا، لأن ذلك فيما يكون بالطبع الأولي،
وأما إذا كان بنحو الترتب على العصيان فلا تلازم بينهما، فيجوز النظر حينئذ مع
حرمة الكشف ووجوب الستر.
ومنه انقدح أن وجوب الستر مما يستوي فيه العاكف والباد والمسلم والذمي
إذ المنساق من قوله عليه السلام " إذا نهين... الخ " أن فيهن شأنية النهي، وليس ذلك
إلا للتكليف بالستر، إذ مع جواز الكشف لا نهي حتى ينتهين أو لا ينتهين إلا
أن يرتكب ما هو المخالف للظاهر من عدم التكليف، مع جعل عدم الانتهاء بالنهي
سببا وإرشادا إلى عدمه، أي التكليف، فحينئذ لا وجوب عليهن بالنسبة إلى الستر،
وهو كما ترى، مع اشتمالها على غير واحدة من الطوائف المسلمة ولو بالاطلاق،
إذ ليست تلك النساء التهامية وغيرها كافرات بأسرهن، بل فيهن مسلمات قطعا.
والحاصل: أن ظاهر قوله " إذا نهين... الخ " هو وجوب الستر على الذمية
أيضا، فينافيه ما يأتي: من أنها بمنزلة الإماء، إذ لا يجب الستر على الأمة، فلا بد
من العلاج، فارتقب. هذا محصل القول في الطائفة الأولى.
وأما الطائفة الثانية:
فمنها: ما رواه عن... أبي بصير المرادي عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته
عن رجل له امرأة نصرانية له أن يتزوج عليها يهودية؟ فقال: إن أهل الكتاب
مماليك للإمام وذلك موسع منا عليكم خاصة، فلا بأس أن يتزوج، قلت: فإنه
تزوج عليهما أمة، قال: لا يصلح له أن يتزوج ثلاث إماء... الخ (1).
لا اشكال في السند لصحته، وأما المتن: فإن المستفاد من قوله عليه السلام " إن أهل
الكتاب مماليك للإمام " هو جواز ترتيب ما لمملوك الغير من الآثار على أهل الكتاب
فيحكم بجواز النظر إلى نسائهم كما يجوز النظر إلى الإماء، ولا يجب عليهن الستر

(1) الوسائل باب 8 من أبواب ما يحرم بالكفر ونحوه ح 1.
65

كما لا يجب على الإماء.
والمتتبع في الأخبار والآثار يعثر على ترتيب ما للأمة من الحكم على الذمية.
نحو ما ورد في باب قسم المضاجعة: من أن لليهودية مثلا نصف ما للمسلمة،
كما أن للحرة مثلي حظ الأمة، وأن لها نصف ما للحر من الليالي، فإن كانت
للأمة ليلة فللحرة ليلتان، وكذلك إن كانت لليهودية مثلا ليلة كانت للمسلمة ليلتان.
ونحو ما عبر به المحقق في الشرايع، حيث قال في كتاب النكاح: ويجوز
النظر إلى أهل الذمة وشعورهن لأنهن بمنزلة الإماء، انتهى، وكذا في جامع
المقاصد عن النهاية، وسيتضح لك في البحث عن الستر الصلاتي تظافر النصوص على
عدم وجوب ستر الرأس على الأمة في الصلاة.
ومنها: ما رواه عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام، قال عليه السلام إن أهل الكتاب
مماليك الإمام ألا ترى أنهم يؤدون الجزية. (1)
ومنها: ما رواه عن ابن محبوب عن أبي ولاد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ليس
بين أهل الذمة معاقلة فيما بجنون من قتل أو جراحة إنما يؤخذ ذلك من
أموالهم، فإن لم يكن لهم مال رجعت الجناية على إمام المسلمين لأنهم يؤدون
إليه الجزية كما يؤدي العبد الضريبة إلى سيده، قال: وهم مماليك الإمام فمن
أسلم منهم فهو حر. (2)
ولم نجد عدا هذه الصحاح الثلاث شيئا، فما في الجواهر: من التمسك
بصحيحة محمد بن مسلم يفتقر إلى تتبع زائد لو لم يكن سهوا منه.
ثم إن المستفاد من الطائفة الثانية، هو أن النظر إلى شعور الكتابية
ووجوههن وأيديهن جائز بالطبع الأولي كالإماء وأن الكشف جائز لهن كذلك،
كما أن المستفاد من رواية النوفلي عن السكوني المتقدمة هو أن النظر إلى تلك
المواضع من نساء أهل الذمة جائز بالطبع الأولى، وكذا الكشف.

(1) الوسائل باب 45 من أبواب العدد ح 1.
(2) الوسائل باب 1 من أبواب العاقلة من كتاب الديات ح 1.
66

وأما المستفاد من رواية عباد، فعلى نقل " العلل " و " الفقيه " فهو أن الستر
واجب عليهن بالحكم الأولى ولو عصين وصرن سافرات يجوز النظر إليهن بالحكم
الثانوي، فيقع التعارض، لظهورها في أن الحكم الأولي هو وجوب الستر وحرمة
النظر وفي أن النظر جائز في رتبة عصيانهن بالكشف.
والعلاج على نقل " الكافي " سهل، لأن العلوج شامل للكتابي وغيره، فيمكن
تخصيص الكتابي بما مر، فيكون وزان غير الكتابي وزان المسلم في وجوب
الستر وإن جاز النظر عند العصيان.
وأما على نقل " الفقيه " و " العلل " فيمكن حمل التعليل بالنسبة إلى الفقرات
السابقة على فعلية التكليف، وبالنسبة إلى أهل الذمة على الشأنية، أي أنهن
لا تكليف عليهن بالستر ولكنهن بحيث لو كلفن به ونهين عن الكشف لما انتهين.
ويمكن تحصيص تلك العلة بحصص متعددة: منها حملها على التقية بالنسبة
إلى أهل الذمة - لأن العامة لا يعتقدون بكونهن مماليك للإمام عليه السلام - وأريد بيان
جواز النظر فأدرج في تعليل عام، كما أنه يمكن اخراج هذه الفقرة من التعليل
بمخصص خارجي، وهو ما مر. كل ذلك خلاف الظاهر البتة إلا أنه يرتكب
للعلاج ورفع التنافي.
الثاني: في وجوب ستر المرأة وجهها وكفيها إذا كان الناظر متلذذا
أو مع ريبة
قد انصرح لك فيما مر لزوم الستر على المرأة بالنسبة إلى جميع الجسد
عدا الوجه والكفين، واتضح أيضا حرمة النظر إلى جسدها بلا استثناء شئ منه
- على تأمل في الوجه والكفين - ولا بد هنا من التنبه بأن ذينك الحكمين إنما
هما فيما لم يكن النظر للتلذذ والريبة، وأما معهما فيمكن الحكم بوجوب ستر
الوجه والكفين أيضا وبحرمة النظر إليهما كغيرهما، فتمام الكلام في أمرين:
67

أحدهما: في لزوم الستر، والآخر: في حرمة النظر.
أما الأول: فحيث إنه لم يرد نص خاص فيه، فلا بد من الالتماس ببعض
القواعد العامة.
فمنها: قاعدة حرمة المعاونة على الإثم، ولا خفاء في توقف تماميتها هنا
على كون النظر الكذائي إثما فيحرم العون عليه بالكشف، فيجب الستر تحفظا
عن ذاك العون المحرم، وسيتضح حرمة النظر الكذائي في الأمر الثاني.
وأما المعاونة فهي ليست بذاتها من الأمور المتقومة بالقصد بحيث لولاه لم
تتحقق، نعم: قد تتوقف عليه أحيانا فيما يأبى العرب عن صدقها بدونه، وقد
تمثل له بالكسب، حيث إنه موجب لتجمع الأموال التي يأخذ منها العشار عشرها،
ولكنه ليس بمعاونة على ذاك الإثم أي أخذ العشر، إذ ليس الكسب بقصده، بل
ربما يكون مع الانزجار عنه جدا، بل هو الغالب، ولذلك لا يحكم بحرمة ذلك
الكسب وما يضاهيه، كما أنه قد يتحقق عنوان المعاونة وإن لم يكن مصحوبا
للقصد، ويمثل له باعطاء السوط أو السيف لمن تصدى القتل المحرم أو الضرب
المحرم، حيث إنه يصدق ذاك العنوان وإن لم يكن مقرونا بالقصد.
والحاصل: أنه دائر مدار الصدق العرفي، ففي أي مورد صدق على الكشف
أنه معاونة على النظر الكذائي يحكم بحرمته ووجوب الستر.
وحيث إنها من القواعد العامة، فلا ميز بين المماثل وغيره، كما لا ميز بين
الرجل والمرأة، وبيانه: بأنه إذا نظرت المرأة إلى أخرى مثلها كذلك، أو نظر
الرجل إلى مثله من الرجال كذلك، أو نظرت المرأة إلى وجه الرجل أو كفيه
مثلا كذلك وصدقت المعاونة عرفا، يحكم في جميع تلك الموارد بوجوب الستر
وحرمة الكشف، فعلى الرجل أن يستر حينئذ، كما أنه على المرأة كذلك،
لا من باب وجوب الستر بما هو ستر، بل من باب حرمة المعاونة على الإثم،
68

وهو النظر للتلذذ أو الريبة، ولا ميز بين المحرم وغيره من هذه الجهة.
ومنها: قاعدة وجوب النهي عن المنكر: وتماميتها أيضا متوقفة على حرمة
النظر الكذائي، فارتقب.
ولا إشكال في وجوب النهي عنه كفاية، كما أنه لا ريب في صيرورته واجبا
بالتعين عند انحصار الناهي في شخص خاص، نحو ما يصير بعض مراتبه وأقسامه
الممكنة بالطبع الواجبة تخييرا واجبا تعيينيا عند انحصار المخلص فيه، فحينئذ
يحكم بأنه لو انحصر العلاج والنهي بالتستر يجب تعيينيا، كما أنه لو كان له مخلص
آخر في عرضه لوجب الستر تخييرا.
ويمكن التأييد بما ورد: من أن الفضل بن عباس كان رديف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
في حجة الوداع، ونظر إلى امرأة شابة، وصرف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وجه الفضل
عنها، وقال: رجل شاب وامرأة شابة، فخشيت أن يدخل بينهما الشيطان.
ورواها في المستدرك عن بعض نسخ " الفقه الرضوي " وهو خال عن السداد،
نعم: رواها العلامة المجلسي (ره) في " البحار " على ما نقله المحدث القمي في
السفينة في كلمة " الفضل " وأنه ممن رادفه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع، ولم
أعثر في كتب الخاصة من المرأة الخثعمية هنا على شئ، نعم: يبحث عن إتيانها
في حجة الوداع واستفتائها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث طويل الذيل في كتاب
الحج، وإن نقلها الترمذي وغيره من العامة.
ولا خفاء أيضا في الميز بين رواية " المستدرك " ورواية " البحار " وإن كان
يسيرا غير ضار في المقام، ولا نقاش في سند ما في " البحار ".
وأما المتن: فالاستمداد به هنا متوقف على أن الصرف المذكور من باب
النهي عن المنكر، كما لعله يشعر إليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم " فخشيت... الخ " وأنه غير
69

مختص بالنهي عن النظر المنكر، بل كان أيضا لايجاد المانع، تحصيلا للستر الواجب
ونهيا عن الكشف المحرم، إذ لو اختص بالنظر وأنه نهي فعلي عنه في قبال النهي
القولي فلا شهادة له على لزوم الستر من باب النهي، حيث إنه يمكن أن يكون
النظر حراما فقط دون الكشف، وكم له من نظير.
والحاصل: أن التأييد بالصرف المذكور لوجوب الستر على المرأة حينئذ من
باب النهي عن المنكر متوقف على عدم اختصاصه - أي الصرف - بالنظر، بل يعمه
والكشف أيضا، فيكون ذاك الفعل الواحد نهيا عمليا عن منكرين: أحدهما النظر
الكذائي، والآخر الكشف.
وأما الثاني: فلا ريب في حرمة النظر بقصد اللذة والريبة، وبيانه: بأنه لو
اخترنا المنع المطلق - لعدم تمامية ما يدل على جواز النظر إلى الوجه والكفين -
فالأمر واضح، إذ الفرض حرمة النظر مطلقا، وإن كان المقرون باللذة والريبة
أشد منعا وعذابا.
وأما لو اخترنا جواز النظر إلى الوجه والكفين - كما هو خيرة الشيخ (ره)
ومن يحذو حذوه، لتمامية دليل الاستثناء - فلا بد من التفصيل بين النظر الذي
لا يكون بقصد اللذة أو الريبة بدوا وإن يتبعه أحيانا وبين النظر الذي يكون بداعي
ذلك، بجواز الأول دون الثاني.
أما جواز الأول: فلأن تجويز النظر إلى النساء اللاتي منهن الحسان دال
على جواز ما يستتبع اللذة، للتلازم الغالبي سيما في الشابين، نعم: لو أدام
النظر بداعيها لكان ذلك مندرجا في القسم الثاني، حيث إن الإدامة في حكم
النظر الحادث المستقل، وإن كان بقاء النظر الواحد المتقدم.
وأما منع الثاني: فلظهور جميع تلك الأدلة الناطقة بأن النظر سهم مسموم
... الخ فيه، إذ المتيقن منها ما كان بقصد الشهوة فيحرم قطعا.
70

ولا تفاوت فيه بين المحرم وغيره، فكما أنه يحرم النظر مع التلذذ أو الريبة
إلى الأجنبية، كذلك يحرم بالنسبة إلى المحرم، بل إلى المماثل أيضا، واتضاحه
في ضوء ما في الروايات العديدة.
ولنمهد قبل الخوض فيها مقدمة نافعة، وهي: أن من الدارج في الألسنة،
هو أن الأمر الكذائي مثلا حكمة للحكم وليس بعلة له، وبالعكس، وتفسر
العلة بما يدور الحكم مداره وجودا وعدما، دون الحكمة لتخلفها عن ذاك الحكم
أحيانا.
وتنقيح ذلك بنحو لا يحوم حوله الريب: هو أن اللطيف بالعباد والخبير
بمصالحهم ومفاسدهم قديري أمرا هاما لا مجال لفواته في ظرف الوجود أو العدم،
فيصير ذلك الهام محبوبا له أو مبغوضا، فيأمر بشئ أو ينهي عنه إذا كان غالب
المصادفة وإن كانت الصدفة الاتفاقية على خلافه، فيلزم الامتثال في جميع الموارد
باتيان الأول وترك الثاني، حتى فيما أدرك أنه عار عن ذلك الأمر الهام الملحوظ
ملاكا، إذ ليس الضبط والميز بيد إدراك المكلف حتى يدور مداره، بل لشدة
الاهتمام به جعل قانونا عاما لا يجوز التخلف عنه في مورد أصلا، وإن تخلف ذاك
الأمر عن مورد خاص بحسب تشخيص المكلف.
وهذا المعنى مما له نظير في الشرع وتعارف في الناس.
أما الأول: فكما يحكم بلزوم العدة بعد الدخول في مواردها المضبوطة
لحكمة تحفظ الرحم عن اختلاط المياه، ولا ميز فيه بين المرأة التي تكون عاقرا
وبين التي لا تكون كذلك بل تكون ولودا، إذ العقر وإن يمنع عن اختلاط
المياه، إلا أنه لشدة مبغوضيته لدى اللطيف الخبير يحكم بلزوم الاعتداد معه
أيضا كما يلزم في الولود، لامكان الخطأ في التشخيص، ولا مكان تبدل الأوضاع
أحيانا، ونحو ذلك مما يوجب الخلط المبغوض شديدا، فجعل الانحفاظ وعدم
71

الاختلاط في بعض الموارد فداء للاختلاط في بعضها الآخر، فحكم بالمنع مطلقا
لشدة الاهتمام.
وأما الثاني: فكما يحكم المقنن اليومي في المملكة حكما عاما بعدم
ورود أحد من المملكة الخارجة أصلا، لئلا يدخل من هو عين من عيون الأعداء
فيخبرهم بما أعدلهم ما أستطيع من قوة، ولم يجعل تشخيص هذا الملاك بيد من
أمره بسد الباب ومنع الورود، إذ يمكن أن يخطئ في التشخيص عند تلبس
ذاك العين بلباس الفقيه الورع، فيصيب المملكة بما صنع قارعة وهلاك.
والحاصل: أن لحاظ الأمر الهام ملاكا لقانون عام - وإن يتخلف أحيانا
عن بعض موارده - معهود شرعا وعرفا.
نعم: لو لم يبلغ ذاك الأمر نصاب الاهتمام الشديد لأمكن الترخيص في
موارد قد يتفق صدفة بعضها بذاك المحذور، نحو ما حكم باليأس وعدم الاعتداد
في سن خاص، لأن المقنن لما رأى ندرة الحبل بعد بلوغ المرأة ذاك الحد من
السن جدا حكم بعدم الاعتداد تسهيلا على العباد، فما يشاهد من حبل اليائسة
أحيانا فهو غير ناقض للحكم العام، إذ الشرع السمح قد يجعل النادر كالمعدوم،
وذلك فيما لا يفوت معه أمر يعنيه ويهمه، كما أن التعارف قد استقر على الاعتناء
بخبر الثقة والاتكال على ما ينقله من الحس أو ما هو في تلوه مما له مباد قريبة
من الحس وإن أمكن الخطأ أحيانا، إذ الغالب هو الإصابة، ومن المستقر في
الغريزة: أن ترك الإصابة الكثيرة للخطأ القليل النادر خطأ كثير.
وليكن هذا لأمر النافع على ذكر منك، حتى يتبين في ضوئه: أن النظر
بداعي اللذة أو الريبة محرم مطلقا، سواء كان المنظور إليها أجنبية أو محرما،
مماثلا أو غير مماثل.
فيلزم النظر المستأنف في روايات الباب، لأن حرمة النظر الكذائي إلى
72

الأجنبية والمحرم وإن كانت اجماعية، ولكن يشكل الجمود على مثل هذا الاجماع
المحتمل استناد مجمعيه إلى ما في الباب من الأدلة، فعليه يلزم التأمل فيها،
لامكان الاختلاف في كيفية الاستنباط.
فمن تلك الروايات: ما مر من رواية عبد الله بن الفضل عن أبيه عن رجل
عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قلت: أينظر الرجل إلى المرأة يريد تزويجها فينظر
إلى شعرها ومحاسنها؟ قال: لا بأس بذلك إذا لم يكن متلذذا (1).
والسند مرسل والمتن خاص، لأن نطاقه منع النظر بداعي اللذة إلى
الأجنبية، وأما غيرها من المحارم فلا، إلا بدعوى القاء الخصوصية.
وظاهره تجويز النظر الاختباري البحت، وأما ما يكون مع اشتراك قصد
اللذة فلا، فضلا عما إذا كان متمحضا بداعيها، نعم: لو صحب الاختبار اللذة
القهرية فلا بأس، للتلازم العرفي.
والمراد بالمحاسن لعله عدا الوجه والكفين عند من يجوز النظر إليهما
مطلقا بلا اختصاص بحالة الاختبار، لأن هذا السؤال الخاص إنما هو عما لا يجوز
بحسب الطبع الأولي وبدون الاختبار، وأما ما يكون جائزا بدونه أيضا فلا احتياج
إلى السؤال عنه، فالمفهوم هو المنع عن الشعر والمحاسن بداعي اللذة، وأما
الوجه فلا.
والحاصل: أنه - مع الارسال وعدم احراز استناد الأصحاب إليه - دال على
منع النظر بداعي اللذة إلى الأجنبية، ولا إطلاق له بالنسبة إلى المحرم، كما أنه
غير متعرض للمنع إذا كان مع الريبة وخوف الافتتان أصلا، كما أنه لا يدل على
منع النظر إلى الوجه والكفين بداعي اللذة، بناء على جوازه بالطبع الأولي.
ومنها: ما رواه عن ابن أبي نجران عمن ذكره، عن أبي عبد الله عليه السلام، وعن
يزيد بن حماد وغيره عن أبي جميلة، عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام، قالا: وما

(1) الوسائل باب 36 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه ح 5.
73

من أحد إلا وهو يصيب حظا من الزنا، فزنا العينين النظر، وزنا الفم القبلة،
وزنا اليدين اللمس، صدق الفرج ذلك أو كذب (1).
والسند على الأول مرسل دون الثاني، وإن كان أبو جميلة مختلفا فيه.
وأما المتن: فظاهره التحذير عن النظر بشهوة للسياق، حيث إن قبلة
الترحم والعاطفة فيما يجوز أصل التقبيل ليست بزنا البتة، مع أن لفظة الزنا أصدق
شاهد على الاختصاص، فيحرم النظر بداعي الشهوة إلى الأجنبية أو المحرم،
بلا تفاوت بين انجراره إلى زنا الفرج وعدمه، وهو بالاطلاق شامل للوجه
والكفين، وعلى القول بجواز النظر إليهما لتمامية دليل الاستثناء يقع التعارض
بينهما، ومادة الاجتماع هو النظر إلى الوجه أو الكف بشهوة، حيث إن دليل
الاستثناء باطلاقه يجوزه، وهذا لدليل باطلاقه يمنعه.
والعلاج بترجيح ما هو الأظهر في مادة الاجتماع من المتعارضين، والظاهر
رجحان هذا الدليل على ذاك لو لم يكن منصرفا إلى ما لا يكون بشهوة، لأن
شمول ذاك الدليل المجوز لما إذا كان بشهوة ضعيف البتة. بخلاف هذا لدليل.
أضف إليه: ورود غير واحدة من الروايات الآنفة أيضا - كما سيتضح -
فيكون النظر بقصد اللذة إلى الوجه والكفين محرما، فحينئذ يجب الستر للنهي
عن المنكر فعلا، أو للزوم الاجتناب عن التعاون على الإثم - كما مر.
ومنها: ما رواه عن سعد الإسكاف عن أبي جعفر عليه السلام قال: استقبل شاب
من الأنصار... إلى أن قال: فهبط جبرئيل عليه السلام بهذه الآية: قل للمؤمنين يغضوا
من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون (2).
وقد مر الكلام في السند بسعد الإسكاف.
وأما المتن: فظاهره أن شأن النزول هو النظر بشهوة وأن النازل هو

(1) الوسائل باب 104 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه ح 2 و 4.
(2) الوسائل باب 104 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه ح 2 و 4.
74

خصوص ما ذكر لا الزائد عنه، إذ لم يذيل بما يفيد أنه بعض ما نزل، وظاهره:
- كما مر - حرمة النظر مطلقا، ولا يمكن اخراج النظر إلى الوجه والكف
بشهوة بناء على تمامية دليل الاستثناء وإطلاقه، لأن المورد وإن لا يكون مخصصا
ولكن الوارد كالنص فيه وإن كان ظاهرا في غيره، وحيث إن المورد هو النظر
بشهوة والقدر المتيقن منه هو الوجه، فلا يمكن ترجيح إطلاق دليل الاستثناء.
فحينئذ يحكم بحرمة النظر بشهوة بلا تفاوت بين الأجنبية وغيرها، نعم،
لا تعرض فيها لما إذا كان بداعي الريبة أو خوف الفتنة إلا بالأولوية.
ومنها: ما رواه عن محمد بن سنان عن الرضا عليه السلام فيما كتبه إليه من جواب
مسائله: وحرم النظر إلى شعور النساء المحجوبات بالأزواج وإلى غيرهن من
النساء لما فيه من تهييج الرجال وما يدعو إليه التهييج من الفساد والدخول فيما
لا يحل ولا يحمل وكذلك ما أشبه الشعور... الخ (1).
والمراد من قوله عليه السلام " لما فيه من تهييج الرجال... الخ " ليس هو التعليل
بأن يدور المنع مدار الهيجان الفعلي أو ما يكون عرضة له، بحيث يجوز فيما ليس
كذلك سيما النظرة الأولى، مع أنه يحرم النظر إلى الشعور مطلقا، بل هو
حكمة له، نظير اختلاط المياه المذكور في لزوم الاعتداد للمدخول بها مطلقا
وإن كانت عاقرا.
فيستفاد منها: أن هذا الملاك مبغوض للشارع جدا فعليه يتعدى إلى المحارم
أيضا إذا كان عرضة للهيجان المحرم بأن كان بداعي اللذة، وكذا الحكم فيما إذا
كان عرضة لارتكاب الدخول في المحرم، فعليه كما يحرم النظر بشهوة كذلك يحرم
إذا كان مع الريبة وخوف الفتنة، إذ لا يعتبر فيه أزيد من الاحتمال العقلائي
المعتد به أو الخوف مثلا.

(1) الوسائل باب 104 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه ح 12.
75

ومنها: عن الكاهلي، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: النظرة بعد النظرة تزرع
في القلب الشهوة وكفى بها لصاحبها فتنة (1).
ولا ريب في ظهورها في مبغوضية النظر الشهوي إذ كفى به فتنة مرغوبا
عنها، فحينئذ كما يحرم إذا كان ثانيا كذلك يحرم إذا كان أولا، وكما يحرم إذا
كان إلى الأجنبية كذلك يحرم إذا كان إلى المحرم، مع أن الفتنة فيها أشد من
الافتتان في الأجنبية عذابا.
ومنها: عن علي عليه السلام في حديث الأربعمائة، قال: لكم أول نظرة إلى المرأة
فلا تتبعوها نظرة أخرى واحذروا الفتنة (2).
ظهورها في التحذير من الافتتان بين، وليس المراد منه هو خصوص مورد
العلم به بل المنساق من مثله عرفا هو التحذير عما يخاف فيه منه، ولا تفاوت فيه
بين المحرم وغيرها، كما لا تفاوت فيه بين الرجل والمرأة.
ومنها: ما رواه عن عقاب الأعمال عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال... من ملأ عينيه
من امرأة حراما حشاهما الله يوم القيامة بمسامير من نار وحشاهما نارا حتى يقضي
بين الناس ثم يؤمر به إلى النار (3).
والظاهر أن المراد من ملأ العينين هو تحديق الباصرة نحو المرئي ليبصره
تاما، والمراد من الحرمة هو ما كان بشهوة مثلا، فيدل على حرمة النظر الكذائي.
وفي قبال ذلك ما يدل على حرمة نظر المرأة إلى الرجل كذلك.
نحو ما رواه عن عقاب الأعمال أيضا، قال: قال النبي صلى الله عليه وآله: اشتد غضب الله
على امرأة ذات بعل ملأت عينها من غير زوجها أو غير ذي محرم منها، فإنها إن
فعلت ذلك أحبط الله عز وجل كل عمل عملته فإن أوطت فراشه غيره كان حقا على
الله أن يحرقها بالنار بعد أن يعذبها في قبرها (4).

(1) الوسائل باب 104 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه ح 6 و 15 و 16.
(2) الوسائل باب 104 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه ح 6 و 15 و 16.
(3) الوسائل باب 104 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه ح 6 و 15 و 16.
(4) الوسائل باب 129 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه ح 2.
76

إذ القدر المتيقن من هذه الرواية هو ما إذا كان بشهوة أو ريبة مع انحفاظ
الاطلاق أيضا، فيكون نظر المرأة إلى غير الزوج والمحرم حراما مطلقا، وأشده
ما إذا كان بشهوة أو ريبة، وأقواه ما إذا كانت المرأة ذات بعل، ولعله لذا قال صلى الله عليه وآله وسلم
" اشتد... الخ ".
إلى غير ذلك من الروايات الناطقة بالحرمة سيما عند الشهوة أو الريبة،
وحيث إن حكمة المنع عن النظر الشهوي هو العرضة للتهييج واستفيد من تلك
الأدلة مبغوضيته لدى الشرع الأنور جدا، يحكم باستواء المحارم وغيرها عدا
الزوج فيه، فيحرم على الرجل أن ينظر إلى إحدى محارمه تلذذا أو ريبة،
وبالعكس.
ثم إنه قد ينفك التلذذ عن الريبة في مادتين: إحديهما: أن يكون النظر
بداعي اللذة والشهوة مع الوثوق بعدم الانجرار إلى ما هو أفحش منه من الزنا،
إما لعدم القدرة، وإما للاقتدار على ضبط النفس الأمارة بالسوء، ونحو ذلك.
والثانية: أن لا يكون النظر بداعيها، ولكن يكون عرضة للافتتان كما
إذا نظر إلى الوجه ولم يكن حسنا جالبا ولكن أوجب تخيل المواضع الأخرى
المعدة لذلك من باب التداعي، ونحو ذلك، والغرض إمكان الانفكاك بينهما.
فتحصل من جميع ما ذكر: أن النظر بداعي اللذة أو الريبة محرم، سواء
كان إلى الأجنبية أو إلى المحرم، وأن ستر الوجه والكفين معهما واجب على المرأة
لاندراج المقام حينئذ تحت قاعدتي المعاونة على الإثم والنهي عن المنكر عملا.
الثالث: في عدم وجوب ستر ما عدا العورة عن المحارم
قد تبين فيما مر لزوم ستر ما عدا الوجه والكفين من تمام الجسد على
المرأة عن الأجنبي، فهل المحرم بمنزلة الأجنبي حتى يجب الاستتار عنه أيضا؟
أولا؟ وكذا من حيث النظر.
77

قد اشتهر بين الأصحاب شهرة كادت تكون إجماعا على الثاني، خلافا للعلامة
في محكي التحرير، ولما عن ظاهر التنقيح عدا الثدي حال الارضاع، ولثالث
بالإباحة في المحاسن خاصة وفسرها بمواضع الزينة.
قد يستدل لحرمة النظر بعموم آية الغض، للزوم الأخذ بعمومها وإطلاقها
فيما لم يخرج بالدليل، فما لم يثبت جواز النظر إلى المحارم يحكم باستوائها
مع الأجانب، وإن كان الأمر فيهن سهلا، ولذا حكم بجواز النظر إلى الثدي حال
الارضاع للعسر والرج، لأن الأم المرضعة التي لها أولاد كبار كيف يمكن الحكم
بحرمة النظر إلى ثديها على هؤلاء الأولاد؟ كما لا يمكن الحكم عليها بلزوم
الستر للعسر البالغ.
وهكذا قوله تعالى " ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها " حيث إنه يستوي
في حرمة إبداء ما عدا الظاهر من الزينة المحارم وغيرها، مع إمكان استفادة الاطلاق
الشامل لها من بعض ما ورد في منع النظر أو لزوم الستر، فالحكم العام هو المنع
إلا ما خرج.
والحق هو عدم لزوم الستر عن المحرم وجواز النظر إليها، ويدل عليه
الكتاب والسنة، وعند اتضاح البرهان على ما ادعيناه ينقدح ما في الاستدلال
على المنع.
أما الكتاب:
فقوله تعالى " فلا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن... الخ "
تقريب الاستدلال على جواز الابداء: هو إرداف المحارم للزوج، فيجوز
لهن إبداء زينتهن للمحارم كما كان يجوز بالنسبة إلى الزوج - عدا ما خرج
بالدليل وهو العورة - إذ المراد من الزينة ليس هو خصوص ما يكون خارجا
عن الجسد ويتزين به كالكحل والسوار ونحوهما، بل أعم منه ومن الأعضاء
78

أنفسها كالوجه والثدي ونحو ذلك.
ويشهد بهذا التعميم ما مر من رواية الفضيل قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام
عن الذراعين من المرأة هما من الزينة التي قال الله تعالى " ولا يبدين زينتهن إلا
لبعولتهن " قال: نعم... الخ (1).
ولا ريب في ظهورها في إطلاق الزينة على نفس العضو، ومن المعلوم أنه إذا.
كان الذراع زينة، فالثدي والساعد والنحر والعجز والفخذ أولى بأن تكون زينة.
وما مر أيضا من رواية قرب الإسناد: وسئل عما تظهر المرأة من زينتها،
قال: الوجه والكفين. (2)
وما مر أيضا من رواية أبي الجارود المروية في (المستدرك) إذ فيها...
والزينة ثلاث: زينة للناس، وزينة للمحرم، وزينة للزوج... وأما زينة المحرم
فموضع القلادة وما فوقها... وأما زينة الزوج فالجسد كله (3).
حيث إن الجسد بأسره عد زينة، كما أن تلك المواضع منه عدت زينة،
والغرض هو الاستشهاد باطلاق الزينة على العضو نفسه وأن جسد المرأة كله
زينة، وإن اشتملت هذه الرواية (الضعيفة بأبي الجارود مع عدم العمل بكثير
مما يرويه) على أن الجسد كله ليس زينة للمحرم وأن زينته إنما هي
مواضع القلادة والدملج والخلخال وما يليها، فيحمل على الاستحباب بعد التسامح
في الدليل.
فالمستفاد من الآية حينئذ هو جواز إبداء جميع الجسد للمحرم كالزوج،
إلا ما خرج بالنص، وهو العورة.
ولا خفاء في أن وجواز الكشف وعدم الستر بما هو غير مستلزم لجواز نظر

(1) الوسائل باب 109 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه ح 1 و 5.
(2) الوسائل باب 109 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه ح 1 و 5.
(3) المستدرك ج 2 ص 555.
79

الغير، ولكن المنساق من جواز الابداء لشخص هو جواز نظر ذاك الشخص إلى
ما أبدته، إذ فرق بين أن يعبر بعدم وجوب الستر وبين أن يعبر بجواز الاظهار
لأشخاص خاصة، حيث إنه يفهم عرفا جواز نظر هؤلاء إلى ما أظهرته أيضا، وإن
أبيت عن ذلك فانتظر ما يأتي.
وأما السنة:
فمنها: ما رواه عن ابن محبوب عن أبي أيوب الخزاز عن أبي عبد الله عليه السلام
في حديث قال: يستأذن الرجل على ابنته وأخته إذا كانتا متزوجتين (1).
إذ المستفاد من المفهوم عدم لزوم الاستئذان عند عدم تزوجهما، بل يجوز
له الدخول مفاجأة، فحينئذ يلازمه عادة النظر إلى الشعر والنحر والقدم ونحو
ذلك، فضلا عن الوجه والكفين، وأما سر لزوم الاستئذان بعد التزوج، فلعل
الدخول فجأة المستلزم غالبا أو أحيانا للنظر إليهما حال كونهما متزينتين لبعلهما
موجب للعار والحياء المبغوض لدى الشرع.
ويشهد له استئذان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من فاطمة عليها السلام وقولها " ادخل " مع
عدم استتار رأسها، فإذا قال صلى الله عليه وآله وسلم: أدخل ومن معي؟ قال عليها السلام: ليس علي
قناع... إلى آخر ما تقدم نقله من رواية عمرو بن شمر، وإن يشكل الاستدلال
بها وحدها - لما مر.
ومنها: ما تقدم عن البزنطي عن الرضا عليه السلام قلت له: أخت امرأته والغريبة
سواء؟ قال نعم... الخ (2).
لا اشكال في عدم شمول لفظة الغريبة للمحرم، كما أنه لا سترة في أن ارتكاز

(1) الوسائل باب 120 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه ح 1.
(2) الوسائل باب 107 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه ح 1.
80

السائل على أن المنع مختص بالغريبة، وحيث إنه قد أمضى هذا الارتكاز بعد
تسوية أخت الزوجة والغريبة، يستفاد منه عدم المنع بالنسبة إلى المحرم.
وكذا ما مر من مرسلة مروك بن عبيد عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قلت
له: ما يحل للرجل أن يرى من المرأة إذا لم يكن محرما؟ قال: الوجه والكفان
والقدمان (1).
إذ المستفاد منها استقرار الغريزة على اختلاف حكمي المحرم والأجنبي،
وأما اشتمالها على استثناء القدمين فلا ضير فيه بعد أن الغرض هنا التأييد.
ومنها: ما رواه عن صفوان بن يحيى عن منصور قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام
عن الرجل يخرج في السفر ومعه امرأته أيغسلها؟ قال: نعم وأمه وأخته ونحو
هذا يلقي على عورتها خرقة (2) ونحوها ما رواه الصدوق بإسناده عن منصور بن
حازم (3) إذ الغسل ملازم للمس فضلا عن النظر، وأما إلقاء الخرقة على العورة
فلحرمة النظر إليها مطلقا عدا الزوجة.
واحتمال أن النظر إلى المحرم جائز في خصوص ما بعد الموت بعيد جدا،
كما أن احتمال الاختصاص بالأم والأخت مع اشتمالها علي قوله عليه السلام " ونحو هذا "
مما لا ينبغي انقداحه أصلا، إلى غير ذلك مما يمكن استفادة جواز النظر وعدم
وجوب الستر بالنسبة إلى المحارم منها.
نحو ما رواه عن السكوني عن جعفر بن محمد عن أبيه عليه السلام قال: لا بأس أن
ينظر شعر أمه أو أخته أو بنته. (4)

(1) الوسائل باب 109 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه ح 2.
(2) الوسائل باب 20 من أبواب غسل الميت ح 1.
(3) الوسائل باب 20 من أبواب غسل الميت ح 2.
(4) الوسائل باب 104 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه ح 7.
81

الرابع: في بيان صور اشتباه من يجوز النظر إليه بمن لا يجوز، وأحكامها
بعد الفراغ عن جواز النظر إلى عدة من النساء في الجملة، كالزوجة،
والمحرم، وغير المسلمة من الذمية - مع اختلاف ما بينها في مقدار النظر - وبعد
مقطوعية الحرمة بالنسبة إلى غيرها من الأجنبيات، يلزم البحث عن صور الاشتباه
وأحكامها.
إذ الشبهة بدوية تارة، ومصحوبة بالعلم الاجمالي أخرى، وفي بلد الإسلام
تارة، وفي غيره أخرى.
وعند العلم الاجمالي: قد يدور الأمر بين كون تلك المرأة زوجة أو أجنبية،
وقد يدور بين كونها ذات قرابة أو أجنبية، وقد يدور بين كونها مسلمة
أجنبية أو ذمية.
وهيهنا شبهة أخرى دائرة بين المماثل وغيره، حيث لا يدري أن ذاك الشخص
المشهود من بعد رجل أو امرأة، حتى يجوز النظر على الأول ولا يجوز على الثاني،
فتمام الكلام في مقامين: أحدهما: في الشبهة المحصورة، والآخر: في الشبهة البدوية.
أما الأول: فلو اشتبهت الزوجة بغيرها، أو المحرم بغيرها، أو المسلمة الأجنبية
بغيرها من الذمية وما يضاهيها، يحكم بحرمة النظر ووجوب الغض عن جميع
الأطراف لوجهين: أحدهما: تنجز العلم الاجمالي بحرمة بعض الأطراف، فيلزم
الاحتياط المستوعب - كما في محله - والآخر: استصحاب العدم الأزلي في جميع
تلك الأطراف، لأن الزوجية وإن كانت مقطوعة العدم حين الوجود فلا احتياج إلى
أصالة العدم الأزلي فيها، إلا أن القرابة وكذا الإسلام والذمية ليس لهما سابقة
حال الوجود أصلا، لأن المحرم توجد ذات قرابة بلا فصل وتأخر أصلا، ولأن
إسلام المولود وذميته تابع لوليه، فيولد محكوما بحكم ذاك الولي، فلا سبق عدم
له بعد الوجود، فإن كان فيه سبق عدم فإنما هو باعتبار العدم الأزلي.
82

فيجري في كلا الطرفين مثلا أصالة العدم الأزلي في اشتباه المحرم بغيرها
واشتباه الذمية بغيرها، وأصالة العدم بعد الوجود في اشتباه الزوجة بغيرها،
ولا ينافيه العلم الاجمالي، إذ المراد من " اليقين الناقض " ما هو المتعلق بالمشكوك
نفسه، وهو اليقين التفصيلي دون الاجمالي، لعدم تعلقه بما تعلق به الشك، وهو كل
واحد من الطرفين بخصوصه.
ولا يلزم من جريانها في كلا طرفي الشبهة مخالفة عملية، فلا محذور من هذه
الحيثية أيضا، كما في استصحاب نجاسة الكأسين من العلم الاجمالي بانقلاب حالة
إحديهما إلى الطهارة، نعم، لو كانت الحالة السابقة لهما هي الطهارة يحكم بالتعارض
وعدم جريانهما معا، وإلا لزم المحذور العملي في ارتكاب النجس، بخلاف المثال،
إذ لا محذور في الاجتناب عن الطاهر، وهكذا في المقام.
فبمقتضى أصالة عدم الزوجية يحكم بالبناء العملي على الغض تعبدا،
وهكذا في أصالة عدم النسب وأصالة عدم المحكومية بحكم الإسلام.
ولا ريب في أن هذا الأصل كغيره من الأصول العلمية ليس محرزا للواقع
بالوجدان ولا موجبا لاندراج مصب الأصل تحت الدليل اللفظي، بأن يصير مصداقا
له حتى ينطبق عليه ذاك الدليل اللفظي بنفسه، لأن موضوع ذاك الدليل الاجتهادي
ليس إلا العنوان الواقعي، لا الأعم منه ومما حكم به تعبدا.
نعم: لو أحرز بالوجدان أو قام الطريق أو الأمارة عليه لانطبق ذاك الدليل
الاجتهادي بنفسه عليه، وأما لو أحرز بالتعبد فلا انطباق له، بل يكون معنى التعبد
بالموضوع هو التعبد بالبناء العملي بما يماثل مدلول ذاك الدليل الاجتهادي.
فهيهنا إذا أحرز وجدانا بأن هذه المرأة ليس بزوجة ولا ذات قرابة ولا ذمية،
أو قام الطريق المعتد به على العدم، يحكم باندراجها تحت آية الغض وغيرها من
الأدلة الاجتهادية.
83

وأما لو أحرز بالأصل فلا يحكم بالاندراج ولا الشمول، إذ ليس في وسع
الأصل والتعبد توسعة الواقع بعد التنبه بأن موضوع الدليل الاجتهادي هو الذات
الواقعية، لا الأعم.
فمعنى التعبد بعدم كونها زوجة مثلا، هو التعبد بالعمل بما يماثل مدلول
ذاك الدليل من المنع، صونا له عن اللغوية، فحينئذ لا يلزم المحذور في البين أصلا،
إذ لا يتمسك بالعام، حتى يقال بالتنافي، للقطع بخروج أحد الطرفين وتخصيصه
منه، بل الحكم في كل واحد من الطرفين حكم ظاهري مماثل للواقعي المستفاد
من العام، فتبصر.
ولو نوقش في الأصل لكان تنجز العلم الاجمالي بحاله، ولكن الظاهر تماميته
هنا، إذا العلم الاجمالي غير ناقض، فيجري الأصلان ولا تعارض بينهما، حيث لا يلزم
من اجرائهما المحذور العملي، بل لا مجال للتعارض في بعض الفروض كاشتباه
المسلمة والذمية، لأن أصالة عدم المحكومية بحكم الذمة جارية بلا إشكال، لأخذ
عنوان الذمة في لسان الدليل، فيمكن إجراء الأصل في حاشيتي وجوده وعدمه،
وأما الإسلام فلا، لأن المستفاد من آية " الغض " بعد الانصراف عن الجدار والشجر
ونحو ذلك هو حرمة النظر إلى غير المماثل مطلقا بلا دخل للإسلام، فيكون جميع من
عدا الذمية مندرجة تحت الاطلاق، ووزان المقام وزان استثناء المذكى في قوله
تعالى " حرمت عليكم الميتة... إلا ما ذكيتم " فيكون المذكى خارجا وغيره
داخلا، سواء انطبق على ذاك الغير عنوان الميتة أم لا. فلو قيل: بأن المنصرف من
الآية حسب أخذ الايمان هو المنع عن المسلمات، فجوابه: بأن الضابط بعد التقييد
هو عنوان غير الذمية كائنة من كانت، فلا مساس للإسلام.
فحيث إنه لا أثر لبعض الأطراف في مورد، فلا تعارض في ذاك الفرض والمورد
84

الخاص، فتحصل: لزوم الاحتياط في جميع موارد الشبهة المحصورة الدائرة بين من
يجوز النظر إليه ومن لا يجوز.
أما الثاني: (أي الشبهة البدوية) فكأن لا يعلم أن هذه المرأة الواحدة ممن
يجوز النظر إليها أو ممن لا يجوز، فالظاهر: وجوب الغض عنها أيضا، لا للعلم
الاجمالي - إذ المفروض كون الشبهة بدوية غير مصحوبة له - بل لأصالة عدم كل
ما يحتمل الجواز لأجله، كالقرابة، والزوجية، والذمية.
أما عدم الزوجية: فواضح، لأن هذه المرأة لم تكن حين الوجود زوجة،
فالآن كما كانت.
وأما عدم الرحامة وكذا الذمية: فلأجل جر العدم الأزلي، ولا يعارضه
جر عدم الإسلام وكذا الغرابة والأجنبية، لما مر من أن المستفاد من الآية بعد
الاستثناء هو دوران الحكم في غير مورد ذاك الاستثناء بلا عنوان خاص، فليس
المنع منحدرا نحو المسلمة أو الأجنبية حتى يترتب الأثر عليهما وينفى ذاك الأثر
بنفيهما، بل الحكم عام بلا أخذ عنوان خاص فيه، ومن دون لزوم إثبات قيد الإسلام
ونحوه حتى يثبت المنع، بل المنع ثابت بمجرد عدم الرحامة والذمية، ثبت عنوان
خاص أم لا، ومن هنا يندفع توهم الاثبات.
وقد لاح لك أيضا أن التعبد بعدم الموضوع أو وجوده تعبد بالبناء العملي
على ذاك الحكم الملائم له لا من باب الاندراج تحت الدليل اللفظي الناظر بالواقع.
هذا إذا لم تقم الأمارة الحاكمة على الأصل، وإلا فلا مجال له، مثلا لو
اشتبهت امرأة بين المسلمة والذمية في بلد الإسلام يحكم بعدم جواز النظر، لأن
ذاك أمارة على كونها مسلمة.
وأما معنى أمارية بلد الإسلام وتوقفها على كون الغالب والأكثر مسلمين
أو كون حكومة ذاك البلد حكومة إسلامية ففي محل آخر، كما أنه يعكس
الأمر في بلد الكفر إذا تم نصاب الأمارية.
85

نعم: لو اشتبه شبح خاص بين المماثل وغيره، فلا يدرى أنه رجل أو امرأة؟
فيمكن الحكم بجواز النظر لأنه شبهة مصداقية لنفس العام، بخلاف غيرها من
الشبه المارة، لكونها شبهة مصداقية للمخصص.
وبيانه: بأن المنصرف إليه من آية الغض ونحوها هو ما عدا المماثل فيحرم
النظر إلى غيره، فعند اشتباه الشبح الخاص بين المماثل وغيره يكون شبهة مصداقية
للعام نفسه، ولا يمكن جر العدم الأزلي بالنسبة إلى غير المماثل لتعارضه بشقيقه،
فتبصر حتى لا يختلط عليك الميز.
فحينئذ يجوز النظر إلى من لا يدرى أنه مماثل أو غيره.
86

مسألة 1 - الظاهر وجوب ستر الشعر الموصول بالشعر سواء
كان من الرجل أو المرأة وحرمة النظر إليه، وأما القرامل من
غير الشعر وكذا الحلي ففي وجوب سترهما وحرمة النظر إليهما
مع مستورية البشرة اشكال وإن كان أحوط.
إن استيفاء القول - من حيث الشعر نفسه، وأن الموصول منه بحكم الأصيل
أم لا؟ ومن حيث اندراجه تحت الحلي وغير ذلك - في جهتين:
الجهة الأولى
في أن الشعر الموصول بحكم الأصيل أم لا
والمستفاد من المتن هو لزوم ستر الموصول وحرمة النظر إليه كالأصيل،
وأقصى ما يمكن الاستدلال به على الاستواء، هو أن الدارج في العرب الشعر
الوافر والممتد في النساء لمحبوبية ذلك لديهم، وترى شعرائهم يحرضون فيه
ويمدحونه بما لا ينكر، ومن المعلوم: احتياج ذلك إلى شعور منفصلة وإلى قرامل
به توصل تلك المنفصلات وتصير متصلات بالأصيل، بحيث يحسب لدى الناظر أن
ذاك الشعر واحد متصل.
فإذا لو حظ هذا المحيط ونزول آية " الغض وعدم الابداء " يحكم بلزوم
ستر الموصول وحرمة النظر إليه كالأصيل.
وفيه: أن المنصرف من الآية هو ما يكون معدودا من الأجزاء، سواء كانت
مما تحله الحياة الحيوانية كالجسد، أو لا، كالشعر والظفر ونحو ذلك، وأما ما
87

هو خارج عن ذلك جدا فلا.
ولا ميز فيما هو المهم بين كون الشعر الموصول من شعور أجنبية أخرى التي
لا يحل للرجل النظر إليها وعدمه.
ولا يتوهم الاستصحاب فيما إذا كان من شعور من يحرم للرجل النظر إليها،
بأن يقال: هذا الشعر الخاص كان مما يحرم النظر قبل انفصاله فالآن كما كان.
لا لتغاير الموضوع، إذ الفصل والوصل من الأطوار غير الدخيلة فيه، ولذلك يحكم
بترتب آثار العضو المتصل على العضو المبان: من حرمة النظر إذا كان من المسلمة
الأجنبية، وغير ذلك من النظائر الفقهية، بل لقيام السيرة القطعية الحاكمة على
الأصل على خلافه.
وتوضيحه: بأن الاستصحاب كما ينتج حرمة النظر، كذلك ينتج وجوب
الستر على المرأة الأولى التي انفصل الشعر من رأسها، فيجب على من يسرح
رأسها وتنفصل منه الشعور أو تقصر أو تحلق شعرها أو تقلم أظفارها ونحو ذلك
أن تستر ذلك كله بالدفن أو غيره، وهو مما قامت السيرة القطعية على الخلاف،
إذ النساء في الحمامات وغيرها كان من دأبهن التسريح وقص بعض الشعر وقلم
الظفر مع عدم الاعتداد بالمفصول أصلا.
ونحو ما يشاهد في الحج من التقصير والقلم وطرح المقطوع على الأرض
من زمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى زماننا هذا، فهذه الأمارة القطعية حاكمة على الأصل.
ومما يؤكد ما ذكرناه، أنه لو جرى الأصل لحكم بحرمة النظر على تلك
المرأة نفسها بالنسبة إلى الشعر الموصول بشعرها إذا كان من الرجل، لأن القائل
بحرمة نظر المرأة إلى شعر الرجل يلزم عليه الحكم بعدم جواز نظر هذه المرأة
إلى ما وصل بشعرها من شعر الرجل استصحابا. وهذا وأشباهه مما يشكل
الالتزام به جدا، بل يمكن أن يستدل لجواز النظر ببعض ما ورد في الباب.
88

نحو ما رواه عن ثابت بن سعيد قال: سئل أبو عبد الله عليه السلام عن النساء تجعل في
رؤوسهن القرامل، قال: يصلح الصوف وما كان من شعر امرأة لنفسها، وكره للمرأة
أن تجعل القرامل من شعر غيرها، فإن وصلت شعرها بصوف أو بشعر نفسها
فلا يضرها (1).
لا إشكال في السند إلا ب‍ " ثابت بن سعيد " حيث إنه لم يوثق، لا أنه ضعف،
ويمكن كشف وثاقته بنقل " أحمد بن محمد بن عيسى " المتصلب في عدم النقل عن
الضعاف، عنه في الجملة، مع نقل غيره من الأجلاء عنه.
وأما المتن: فإن أريد من الكراهة معناها المصطلح في الفقه - كما لا يبعد -
لشيوع هذا الاصطلاح في عصر الصادق عليه السلام فالأمر واضح، لاطلاق لفظة (شعر غيرها)
فتشمل ما إذا وصلت شعر الأجنبية التي يحرم للزوج النظر إلى شعرها وإن كانت
من محارم الزوجة وأقربائها، وما إذا وصلت شعر بعض محارم الزوج كأخته مثلا
ممن يجوز للزوج النظر إليها ولا يجب على الزوجة ستره، لأن وجوب الستر
لأجل حرمة النظر، ومع عدمها لا مجال له، فلو كان النظر إلى الشعر الموصول
حراما يكون تجويز الوصل الملازم لوقوع نظر الزوج إليه البتة بلا إشارة إلى
الستر اغراء بالجهل - تعالى الشارع عنه علوا كبيرا.
وإن أريد منها الحرمة أو الجامع فيثبت المطلوب، مع بعد احتمالها أيضا
لأن المنع حينئذ ليس لأجل عدم جواز النظر إلى الشعر الموصول، إذ المفروض
إطلاق لفظة (الغير) وشمولها لما إذا كان ذاك الشعر من شعور إحدى محارم الزوج
ولا منع من النظر البتة، فلعله لأجل ما ورد في بعض النصوص من التعليل أو الاشعار
بكونه كالميتة فينبغي الاجتناب عنه.
والحاصل: أن آية " الغض " وغيره منصرفة إلى الشعر الأصيل، والاستصحاب
محكوم بالسيرة القطعية على الخلاف، وظاهر هذه الرواية المجوزة على الكراهة

(1) الوسائل باب 101 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه ح 1.
89

هو جواز النظر.
فالأقوى: عدم وجوب ستره وعدم حرمة النظر إليه من حيث كونه
شعرا، وأما كونه زينة ففيما يلي:
الجهة الثانية
في حكم الشعر الموصول من حيث كونه زينة
لا ريب في وجوب ستر الزينة وحرمة النظر إليها في الجملة، إنما الكلام
في المراد منها، فإن كان المراد هو خصوص الزينة الخلقية، كاليد، والساق، ونحو
ذلك من الأعضاء - كما لا يبعد - على ما مر من شهادة رواية الفضيل وغيرها عليه،
فلا يجب ستر الشعر الموصول ولا يحرم النظر إليه، لخروجه عن الزينة الخلقية،
إذ ليس كالأصيل.
وأما إن كان المراد هو خصوص الزينة الخارجية التي بها تتزين، كالسوار
والخاتم، ونحو ذلك، فلا يجب الستر ولا يحرم النظر أيضا، لما مر من أن الزينة
المنفردة عن البدن في الرؤية وإن كانت معلقة عليه وجودا لا حكم لها حسب
الانصراف.
وذلك بعد الفراغ عن خروج الزينة المنقطعة عن البدن وجودا عن
الحكم جدا - بأن كانت في العيبة والصندوق أو في زاوية من زوايا البيت أو معلقة
على الجدار - يحكم بأنه لو التصقت بالبدن ولكن امتازت عنه بالرؤية مع
مستورية ذاك البدن لا حكم لها أيضا، وأما إذا اشتركت معه في الرؤية لكانت
محكومة بحكمه، أي يصير المنع عن البدن حينئذ أشد بعد ممنوعيته في نفسه
وبلا زينة، فالبدن العاري عن الزينة واجب الستر ومحرم النظر، والزينة المنفردة
عنه في الرؤية جائز الابداء والنظر، وأما البدن المتزين بها المشتركين في
90

الرؤية فحكمه أشد من العاري.
ولا بعد فيه، لأن القواعد من النساء - مع ما أجيز لهن من وضع الجلباب
عنهن وإبداء بعض ما كان واجب الستر على غيرهن من النساء - يحكم عليهن
بحرمة الابداء حينئذ إذا كن متبرجات بزينة.
فتبين الميز بين البدن والزينة: بانفكاك الأول عن الحكم بدون الثاني كما
في القواعد من النساء، وانفكاك الثاني عنه بدون الاشتراك مع الأول في الرؤية
كما في غيرهن أيضا، واجتماعهما الموجب للحرمة كما في القواعد، ولشدتها كما
في غيرهن.
فالشعر الموصول غير واجب الستر ولا محرم النظر، إذ ليس من الزينة الخلقية
ولا حكم للزينة الزائدة المنفردة عن البدن في الرؤية.
ومن هنا يتضح حكم القرامل والحلي البتة من جواز النظر والابداء عند
انفرادها عن البدن في الرؤية، فما في " المستند " من استواء الشعر المتصل والمنفصل
- لاطلاق حرمة النظر إلى شعورهن - مقدوح.
مسألة 2 - الظاهر حرمة النظر إلى ما يحرم النظر إليه في المرآة
والماء الصافي مع عدم التلذذ، وأما معه فلا اشكال في حرمته.
لا ريب في أن النظر المحرم لا تفاوت بين مراتبه القوية والضعيفة بعد فرض
اندراجها تحت مفهوم واحد، فحينئذ لا مجال لتقييد الماء بالصفا زعما بأن الكدر
منه لا يوجب الابصار التام والرؤية القوية، وإلا لجاز النظر لمن في عينه عاهة
مانع عن الابصار التام، ونحو ذلك مما لا يمكن الالتزام به، نعم لو بلغت الكدورة
حدا لا يتيسر معه الفرد الخفي من النظر أيضا لا بأس، لخروجه موضوعا.
91

فكيف كان قال في " المستند ": الظاهر جواز النظر إلى كل ما لا يجوز النظر
إليه في المرآة والماء ونحوهما، لانصراف النظر إلى الشايع والمتعارف، ولعدم
العلم بكونه نظرا إلى المرء والمرأة، لجواز كون الرؤية فيهما بالانطباع، وكذا
يجوز النظر إلى الصور المنقوشة، للأصل، انتهى.
وفيه: أن دارجية الأفراد الخاصة وشيوعها غير موجب لانصراف المطلق عن
النادر أولا، مع أن للمقام خصيصة مانعة عنه ثانيا، وهي حكمة التحفظ عن
التهييج، كما سيجئ.
وأما احتمال خروج عن الفردية والاندراج وكون الاطلاق من باب
المجاز والمسامحة، فمندفع بأن المتبع في سعة مفهوم اللفظ وضيقه هو العرف
الذي لا يتسامح في حوزته، وإن أمكن أن يكون بالدقة العقلية تسامحا. وهذا
نظير ما يعتبر في صدق (النقض) وجريان الاستصحاب من اتحاد القضيتين المقطوعة
والمشكوكة الموجب لبقاء الموضوع ووحدته، إذ العرف الدقيق في حوزته يرى
الموضوع منحفظا وإن تغير بعض أحوالها التي لأدخل له فيه، مع أن العقل
القراح يراه متغيرا.
ونظير ما يقال: بطهارة ما بقي من لون الدم في الثوب المغسول، إذ العرف
الدقيق يحكم بزوال النجس رأسا وأن الباقي من اللون ليس مصحوبا لنفس الدم
بل هو أثر باق منه، مع أن العقل القاضي بامتناع انتقال العرض عن موضوعه
- لأنه متقوم وجودا به - يحكم ببقاء الأجزاء الصغار الحاملة لذاك اللون من
الدم لا محالة.
ومن المعلوم: أن العرف يرى النظر بالمرآة أو الماء نظرا إلى المرئي
الخارجي البتة. وحديث الانطباع المحتمل في كلامه (ره) - مع مقدوحيته في
محله عند أهله - غير ضار في مثل المقام الذي أسسه الفهم العرفي وشيده
الارتكاز العقلائي، دون العقلي.
92

نعم: لو تسامح العرف في مورد كقبض ما ينقص عن المقدار المبيع بعنوان
أنه نفس ذاك الحد فغير متبع.
ولمزيد الايضاح نقول: إن النظرة تارة بالمرآة، وتارة أخرى إلى المرآة.
أما الأولى: فلجعلها وصلة إلى المنظور الخارجي ورؤية ماله من الآثار.
وأما الثانية: فلتشخيص جرم تلك المرآة وأنها من أي جنس صنعت، وغير
ذلك مما يرجع إليها نفسها.
ولا سترة في أن العرف قاض بأن وزان النظر بالمرآة أو الماء وزان النظر
إلى ذاك الشئ الخارجي بلا واسطة، وأما النظر إليها فهو خارج البتة عن كونه
نظرا إلى ذاك الخارجي.
والحاصل: أن النظر بواسطة المرآة ونحوها كالنظر بدونها عند العرف،
ولاجه للانصراف، فيحرم.
أضف إلى ذلك: أن في البين غير واحد من النصوص يمكن الاستدلال
ببعضها والاستمداد من الآخر على حرمته.
فأما الطائفة الدالة:
فمنها: ما مر من رواية علي بن عقبة، عن أبيه، عن أبي عبد الله عليه السلام إذ
فيها " النظرة سهم من سهام إبليس مسموم وكم من نظرة أورثت حسرة طويله " (1)
وفي رواية هشام بن سالم، عن عقبة، عن أبي عبد الله عليه السلام... من تركها
لله لا لغيره أعقبه الله أمنا وإيمانا... الخ (2)، إذ المسمومية بلحاظ كون النظر
عرضة للحسرة متحققة في المقام البتة.
وفي مكاتبة محمد بن سنان عن الرضا عليه السلام... لما فيه من تهييج الرجال
وما يدعو إليه التهييج من الفساد والدخول فيما لا يحل ولا يحمل... الخ (3).

(1) الوسائل باب 104 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه ح 1 و 5 و 12.
(2) الوسائل باب 104 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه ح 1 و 5 و 12.
(3) الوسائل باب 104 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه ح 1 و 5 و 12.
93

حيث إنه جعل هذه الحكمة - وهي الانحفاظ عن التهييج - علة للمنع المطلق
مع جعل تشخيصها بيد الشرع لا المكلف، وقد مر أن المدار هو ما يكون عرضة له
لا ما هو الحاصل بالفعل، ومن المعلوم: أن ما هذا شأنه يجب الاجتناب عنه،
بلا تفاوت بين ما يكون بلا واسطة أو معها.
وهذا نظير جعل العدة وتشريعها لحكمة انحفاظ الرحم عن اختلاط المياه،
فيحكم حينئذ بحرمة التلقيح الموجب له وإن لم يكن على المجرى العادي،
إذ المدار ذاك الغرض، لا الجرى العادي حتى يحل التلقيح مثلا.
وفي رواية " عقاب الأعمال " عن رسول الله صلى الله عليه وآله... ومن ملأ عينيه من
امرأة حراما حشاهما الله يوم القيامة بمسامير من نار... الخ (1).
وفي حديث المناهي... من ملأ عينيه من حرام... الخ، بلا أخذ الامرأة.
ولا ريب في أن ملأ العين كما يحصل بالنظر المحرم إلى الأجنبية بلا واسطة،
كذلك يحصل به معها، ولم يؤخذ فيها عنوان النظر حتى يتخيل انصرافه عما
يكون مع الواسطة، بل عنوان الملأ الصادق معها أيضا.
وفي صدر هذه الرواية (أي رواية عقاب الأعمال): من اطلع في بيت جاره
فنظر إلى عورة رجل أو شعر امرأة أو شئ من جسدها كان حقا على الله أن يدخله
النار مع المنافقين الذين كانوا يتبعون عورات النساء في الدنيا... الخ.
ولا خفاء في أن المستفاد من هذه الفقرة، هو مبغوضية الاطلاع على العورة أو
شعر المرأة أو شئ من جسدها، بلا امتياز فيها بين النظر المنتج له بلا واسطة
أو معها، إذ لا يمكن أن يتفوه بجواز الاطلاع عليها بالمرآة أو الماء الصافي ونحو
ذلك، إلى غير ذلك مما يستفاد منه المنع.

(1) الوسائل باب 104 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه ح 16.
94

وأما الطائفة المؤيدة:
فمنها: ما مر نقله من رواية أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر عليه السلام، قال:
سألته عن المرأة المسلمة يصيبها البلاء في جسدها إما كسر وإما جرح في مكان
لا يصل النظر إليه يكون الرجل ارفق بعلاجه من النساء، أيصلح له النظر إليها؟
قال: إذا اضطرت إليه فليعالجها إن شاءت (1).
بيان التأييد: بأنه لو جاز النظر إلى ذاك الموضع بتوسط المرآة ونحوها
لما اضطر إلى ذلك، إذ الغرض حاصل بالنظر بتوسط المرآة، مع احتمال كون
المورد المسؤول عنه مما لم يكن النظر مع الواسطة مجديا، ولذا جعل مؤيدا،
وإلا لصار دليلا.
ونحوها روايتا علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام وفي الأخيرة:
قال عليه السلام: إذا لم يكن عورة فلا بأس. (2)
والسر هوان المجوز المنظر إلى العورة لا بد من أن يكون الحد الكامل من
الضرورة، لا مجرد الحاجة.
ومنها: ما ورد من تجويز النظر لمن يريد التزويج، حيث إنه لو جاز
النظر بتوسط المرآة، لما احتيج إلى تجويز ما هو حرام بطبعه الأولى مع حصول
الغرض بذلك، وليس إلا لتساويهما في الحكم.
ومنها: ما ورد: من حضور المرأة المعهودة المدعية أو المدعي عليها مثلا،
إذ لو جاز النظر بتوسط المرآة لحصل الغرض بدون الاحتياج إلى تجويز ما كان
ممنوعا بطبعه الأولى - إلى غير ذلك مما يمكن جعل بعضها دليلا فضلا عن
التأييد.

(1) الوسائل باب 130 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه ح 1 و 3 و 4.
(2) الوسائل باب 130 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه ح 1 و 3 و 4.
95

ومن هنا ينقدح حكم النظر من وراء الزجاجة أو الناظورة أو الآلات الأخر
التي تقرب البعيد جدا، لانطباق حكمة التهييج ومبغوضية الاطلاع على العورة
أو شعر المرأة أو جسدها على ذلك كله، فيحرم بلا كلام.
وأما النقش والصورة المرسومة في الجدار أو القرطاس أو نحو ذلك، فأمرها
يدور مدار انطباق تلك الحكمة المجعولة علة وتلك المبغوضية، كما أنه لا يخلو
بعض الموارد منها عن ذلك فيحرم، دون بعضها الآخر فلا يحرم، بلا تفاوت في
ذلك بين معرفة ذات الصورة والنقش وعدمها، إذ لا إشكال في أن النظر إلى النقش
ليس نظرا إلى الأجنبية، بخلاف المرآة ونحوها، فحينئذ لا بد في التحريم من
انطباق المعرضية للتهييج الداعي إلى الحرام لا مطلقا، أو انطباق الاطلاع على
العورة ونحوها مما عد مبغوضا للشرع وموجبا لدخول النار، وإلا فلا دليل على
المنع عنه.
مسألة 3 - لا يشترط في الستر الواجب في نفسه ساتر
مخصوص ولا كيفية خاصة، بل المناط مجرد الستر ولو كان باليد
وطلى الطين ونحوهما.
لا إشكال فيما أفاد، بل يمكن أن يقال: إن التعبير بوجوب الستر غير خال
عن التسامح، إذ الواجب هو عدم التمكين من النظر، سواء كان بالستر، أو
الاستتار في المظلم، أو الاختفاء خلف الجدار، أو التبعد الموجب للخروج عن
مكنة النظر، ونحو ذلك.
نعم: عند الانحصار يتعين الستر. فحينئذ يحكم بعدم لزوم ساتر خاص
96

من الطاهر والمباح وعدم كونه مما لا يؤكل لحمه ولا من الحرير الخالص
وغيرها، ولا كيفية مخصوصة، لحصول الغرض بالأعم من ذلك كله، فلا نطيل
الكلام بعد اتضاح الحكم وسنده.
وأما الثاني - أي الستر حال الصلاة - فله كيفية خاصة ويشترط
فيه ساتر خاص، ويجب مطلقا، سواء كان هناك ناظر محترم
أو غيره أم لا، ويتفاوت بالنسبة إلى الرجل والمرأة، أما الرجل:
فيجب عليه ستر العورتين، أي القبل (من القضيب والبيضتين)
وحلقة الدبر لا غير، وإن كان الأحوط ستر العجان - أي ما بين
حلقة الدبر إلى أصل القضيب - وأحوط من ذلك ستر ما بين
السرة والركبة، والواجب ستر لون البشرة، والأحوط ستر الشبح
الذي يرى من خلف الثوب من غير تميز للونه، وأما الحجم
- أي الشكل - فلا يجب ستره.
إن استيفاء القول فيما أفاد - من حيث لزوم ستر العورتين وبيان حدهما
ومن حيث الاجتزاء بستر اللون دون الشبح فضلا عن الحجم، وغير ذلك - في
طي أمور:
الأمر الأول: في لزوم ستر العورتين حال الصلاة وضعا
لا إشكال في أن المنساق من الأمر والنهي بالطبع الأولي هو البعث نحو الفعل
والزجر عنه تكليفا، وأما إذا انحدرا نحو المركب ذي الأجزاء والشرائط يستفاد
97

منهما الارشاد إلى الجزئية والشرطية وضعا، فلا يصح ذاك المركب الفاقد لهما،
أو لأحدهما - كما في محله.
وكيف كان: قد يستدل للزوم ستر العورتين حال الصلاة وبطلانها بدونه
بالاجماع، وهو وإن أمكن تحصيله فضلا عما نقل، إلا أنه لوجود غير واحد من
النصوص الصالحة للاستدلال - المحتمل تمسك المجمعين بها - مما يشكل الطمأنينة
إليه والاتكال عليه.
فالمهم هو الفحص عما استدل، أو يمكن أن يستدل به، أو يستمد منه، حتى
يحصل من المجموع الوثوق التام بلزوم ذلك وضعا.
فمن تلك النصوص: ما رواه عن محمد بن مسلم (في حديث) قال: قلت لأبي
جعفر عليه السلام: الرجل يصلي في قميص واحد؟ فقال: إذا كان كثيفا فلا بأس به يعني
إذا كان ستيرا. (1)
وأورد صدر هذه الصحيحة في (ح 1 باب 22 من أبواب لباس المصلي) عن محمد بن
مسلم قال: رأيت أبا جعفر عليه السلام يصلي في إزار واحد ليس بواسع قد عقده على
عنقه، فقلت له: ما ترى للرجل يصلي في قميص واحد؟ فقال: إذا كان كثيفا
فلا بأس به.
إن المستفاد من الصدر والذيل هو تستر المعصوم عليه السلام بإزار واحد غير واسع
معقود على عنقه، ولا يمكن الاطمئنان بأن ذلك للستر عن الناظر، إذ لا دلالة
للصحيحة على كونه عليه السلام في مرأى الناظرين أو معرض له، لامكان كونه عليه السلام في
بيت داره واتفق انكشاف الباب حين مرور الراوي فرآه كذلك، وحيث إنه رآه
عليه السلام يصلي في ثوب واحد تجهز للسؤال عن حكمه مع ما في ذهنه من محبوبية
الزائد عنه، فسأل عنه وأجيب بالجواز إذا كان كثيفا - أي ستيرا - لاتحاد معناه
في الموردين.

(1) الوسائل باب 21 من أبواب لباس المصلي من كتاب الصلاة ح 1.
98

فيدل على اشتراط صحة الصلاة بالساتر في الجملة، ولا مجال لتوهم كونه
للحفظ عن النظر بعد اختصاص مصب السؤال بالصلاة، مع إطلاقه الشامل لما إذا
صلى في معرض الرؤية أو في غيره.
نعم: لا يستفاد منه لزوم ستر العورتين بالخصوص وإن كان هو المتيقن من ذلك،
بل المستفاد منه لزوم ستر ما يحويه القميص الواحد، وهو أعم من العورتين في
طرفي الفوق والتحت، فيلزم ستر ما فوقهما وكذا وما تحتهما بمقدار يغطيه
القميص الواحد المتعارف.
فلو قام دليل آخر على عدم لزوم ذينك الطرفين يحكم بالاستحباب والفضل
بالنسبة إلى الطرفين مع بقاء اللزوم المستفاد بالنسبة إلى العورتين بحاله.
ومنها: ما رواه عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: سألته عن الرجل
يصلي في قميص واحد أو قباء طاق أو في قباء محشو وليس عليه إزرار؟ فقال: إذا
كان عليه قميص صفيق أو قباء ليس بطويل الفرج فلا بأس، والثوب الواحد يتوشح
به والسراويل كل ذلك لا بأس به، وقال: إذا لبس السراويل فليجعل على عاتقه
شيئا ولو حبلا (1).
والطاق: هو ضرب من الثياب بغير جيب، والصفيق: هو الثوب الكثيف النسج
ومصب السؤال إنما هو بلحاظ ما يعتبر في الصلاة، ومفاد الجواب هو لزوم كون
القميص ساترا وكون القباء غير طويل الفرج، وظاهره نفي البأس إذا كان قصير
الفرج، فيدل على عدم لزوم ستر القدم ولا الساق.
فحينئذ يستفاد: أن الستر بالنسبة إلى ما تحت العورتين غير واجب الاستيعاب
لجواز كشف الساق وما يليه. نعم: لا دلالة له بالنسبة إلى ما زاد عن ذلك حتى
يستفاد منه جواز كشف ذلك الزائد أيضا فينحصر الستر في العورتين، بل لا بد من
التماس دليل آخر.

(1) الوسائل باب 22 من أبواب لباس المصلي ح 2.
99

ومنها: ما رواه عن أبي مريم الأنصاري (في حديث) قال: صلى بنا أبو جعفر
عليه السلام في قميص بلا إزار ولا رداء، فقال: إن قميصي كثيف فهو يجزي أن لا يكون
علي إزار ولا رداء (1).
إن الذيل الذي هو المهم في الاستدلال يحتمل أن يكون منحدرا نحو الستر
عن الناظر، لا ما هو المعتبر في الصلاة، حيث إنه عليه السلام كان بمرأى من المأمومين
المقتدين به عليه السلام، فقال: بأن القميص لكثافته وساتريته مجز بالنسبة إلى
التكليف بما يستر عن الناظر، فيحنئذ لامساس له بالمقام.
ولكن الانصاف: أنه ظاهر في بيان ما يجزي في الصلاة فيدل على بطلانها
إذا لم يكن ستيرا. نعم: لا يستفاد لزوم ستر خصوص العورتين وإن كان هو المتيقن.
ومنها: ما رواه عن علي بن جعفر عن أخيه، قال: سألته عن الرجل صلى
وفرجه خارج لا يعلم به، هل عليه إعادة أو ما حاله؟ قال: لا إعادة عليه وقد
تمت صلاته (2).
حيث إن اختصاص السؤال بصورة الجهل بالموضوع كاشف عن استقرار ارتكازه
على المنع حال العلم، فلو جاز الكشف مطلقا للزم بيانه بتخطئته السائل وردعه
عما ارتكز في ذهنه، فالاكتفاء في الجواب بعدم الإعادة ظاهر أو مشعر بتقرير
ارتكازه، فعليه يكون ستر الفرج معتبرا في صحة الصلاة عند العلم بالموضوع،
حسبما يستفاد من هذا النص.
ومنها: ما رواه عن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: سألته عن الرجل يصلي
فيدخل يده في ثوبه، قال: إن كان عليه ثوب آخر إزار أو سراويل فلا بأس، وإن
لم يكن فلا يجوز له ذلك، وإن أدخل يدا واحدة ولم يدخل الأخرى
فلا بأس (3).

(1) الوسائل باب 22 من أبواب لباس المصلي ح 7
(2) الوسائل باب 27 من أبواب لباس المصلي ح 1.
(3) الوسائل باب 40 من أبواب لباس المصلي ح 4.
100

والظاهر: أن المنع عند دخول اليدين في الثوب هو كونه عرضة للحركة
والتحول من موضع إلى آخر فينكشف ما لا بد من ستره، وأما عند خروج إحدى
اليدين من الكم وإن دخلت الأخرى فهو مانع عن التحول الموجب للكشف،
فلو لم يكن الستر في الجملة معتبرا في صحة الصلاة لما فصل بين الصورتين
جوازا ومنعا.
نعم: لا يستفاد منها تعين ستر العورتين، وإن تدل على عدم وجوب ستر
الزائد عما يحويه الإزار ويستره السراويل من جهة فوق العورتين، حيث قال عليه السلام
" وإن كان عليه ثوب آخر إزار أو سراويل فلا بأس... الخ " حيث إنه يدل على
عدم لزوم ستر الزائد عما ما يحويه السراويل، وقد مر عدم لزوم ستر القدم والساق،
لتجويز الصلاة فيما ليس بطويل الفرج وإن كان قصيره، فحينئذ يتضيق ما يحتمل
لزوم ستره من الطرفين، ولعله ينحصر في العورتين، فارتقب.
ومنها: ما رواه عن علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام، قال: سألته عن
الرجل قطع عليه أو غرق متاعه فبقي عريانا وحضرت الصلاة كيف يصلي؟ قال:
إن أصاب حشيشا يستر به عورته أتم صلاته بالركوع والسجود، وإن لم يصب
شيئا يستر به عورته أومأ وهو قائم (1).
لا نقاش في السند.
وأما المتن: فقد انحدر السؤال نحو كيفية الصلاة مع فقد الساتر، فكان
ذهن السائل قد ارتكز فيه لزوم ما صار هنا مفقودا، فأجيب بلزوم ستر العورة
بالحشيش عند الامكان، فيستفاد منه شرطية الستر، كما أنه يستفاد منه عدم لزوم
ستر ما زاد عنها وإن وجد ما يستره، بل المعتبر هو خصوص ستر العورة.
ولا خفاء في أن مصب الاستدلال إنما هو الفقرة الأولى من الجواب، لا الثانية

(1) الوسائل باب 50 من أبواب لباس المصلي ح 1.
101

لخروجها عن الكلام الآن، كما أنه لا مرية في نفي الخصوصية للحشيش، بل لو
أصاب ساترا آخر نحوه لوجب وكفى، ولا سترة أيضا في أن ايجاب ستر العورة عند
الإصابة ليس للحفظ عن الناظر، للاطلاق الشامل لما إذا كان هناك ناظر محترم
أم لا.
ومنها: ما رواه عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام... وإن كانت امرأة جعلت
يدها على فرجها، وإن كان رجلا وضع يده على سوأته، ثم يجلسان فيؤميان
إيماء، ولا يسجدان ولا يركعان فيبدو ما خلفهما، تكون صلاتهما إيماء
برؤسهما... الخ (1).
وظاهرها ترك بعض الأركان الهامة حفظا لستر العورة، ولا اختصاص لذلك
بما إذا كان هناك ناظر، للاطلاق، فيكون لزومه بلحاظ الصلاة لا غير، وحيث إنه
لم يجعل لما عد العورة حكما، يستفاد منه أن سترها هو المتعين، دون ما عداها.
ومنها: ما رواه عن محمد بن علي الحلبي، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل
أجنب في ثوبه وليس معه ثوب غيره (آخر)؟ قال: يصلي فيه فإذا وجد الماء
غسله (2).
وبهذا المضمون غير واحد من النصوص التي رواها في ذاك الباب.
ومنها: رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام... وإن لم يجد ماء صلى
فيه ولم يصل عريانا (3).
وقد اختلف الأصحاب (ره) فيما لو انحصر ثوبه في نجس مع التمكن من
النزع لعدم البرد ونحوه على أقوال ثلاثة:
الأول: تعين الصلاة في ذاك الثوب النجس وعدم جوازها عريانا، والثاني:
التخيير بين الصلاة فيه وبين الصلاة عاريا، والثالث: تعين الصلاة عاريا.

(1) الوسائل باب 50 من أبواب لباس المصلي ح 6.
(2) الوسائل باب 45 من أبواب النجاسات ح 1 و 5.
(3) الوسائل باب 45 من أبواب النجاسات ح 1 و 5.
102

والأول هو خيرة الماتن (ره) في أحكام النجاسات، وهو الموافق لظواهر هذه
النصوص العديدة التي لم نأت إلا بنزر منها.
وتقريب الاستدلال بها على لزوم الستر في الجملة: هو أنه لا مرية في شرطية
الطهارة أو مانعية النجاسة، فلو حكم بجواز الصلاة في النجس أو تعينها وعدم
جواز التعري، فلا بد من أن يكون لأمر لزومي آخر مساو لها أو أقوى منها، وهو
الستر، فعلى القولين الأولين يتم التقريب، لأن تجويز الصلاة في النجس المستلزم
لفوات الشرط لا بد من أن يكون للزوم الستر، وحيث إن تلك النصوص مطلقة
لا يمكن حملها على خصوص ما إذا كان الستر عن الناظر لا للصلاة.
نعم: على القول الثالث (أي تعين التعري وعدم جوازها في النجس)
لا يتم المطلوب.
ومنها: ما رواه عن صفوان بن يحيى، أنه كتب إلى أبي الحسن عليه السلام يسأله
عن الرجل معه ثوبان فأصاب أحدهما بول ولم يدر أيهما هو وحضرت الصلاة
وخاف فوتها وليس عنده ماء كيف يصنع؟ قال يصلي فيهما جميعا (1).
تقريب دلالتها على لزوم الستر في الجملة للصلاة: هو أنه لو جازت عاريا
وبلا ستر لما أوجب التكرار بأن يصلي تارة في هذا الثوب وأخرى في ذاك، بل
لزم الحكم بعدم الاحتياج إلى الامتثال الاجمالي بالتكرار، للاكتفاء بالامتثال
التفصيلي، وهو إتيانها عاريا فيما لا ناظر هناك، وأما الحكم بالتكرار مطلقا سواء
كان هناك ناظر أم لا، فليس إلا لوجوب الستر فيها.
نعم: لا ظهور لها كغيرها من نصوص (باب 45) في تعين ستر العورة، وإن
كان القدر المتيقن منها بأسرها هو سترها. وهذا بخلاف رواية علي بن جعفر
المتقدمة، لظهورها في تعينها وعدم لزوم ستر ما عداها.
ومنها: ما رواه عن حماد بن عثمان عمن رواه عن أبي عبد الله عليه السلام، في

(1) الوسائل باب 64 من أبواب النجاسات ح 1.
103

الرجل يصلي في الخف الذي قد أصابه القذر؟ فقال: إذا كان مما لا تتم فيه الصلاة
فلا بأس (2). ونحوها غير واحدة من النصوص المروية في ذاك الباب.
حيث إن المستفاد منها لزوم الستر في الصلاة إجمالا، وأنه لا تصح عاريا
بالاختيار وإن لم يبين فيها حد ذلك.
فالمتحصل من هذه الروايات المشتملة على الصحاح وغيرها: هو لزوم ستر
العورتين في الصلاة وأنها لا تصح بدونه، لأنها على قسمين: أحدهما: ما يكون
القدر المتيقن منه ذلك، والآخر: ما يكون ظاهرا فيه بالخصوص كرواية
علي بن جعفر.
الأمر الثاني: في تحديد ما يجب ستره في الصلاة على الرجل
قد مر تمام القول في تحديد العورتين (ص 9) فراجع، وإنما التعرض له هنا
للإشارة إلى خروج العجان عن الحد وأن انكشافه غير ضار لصحة الصلاة، وذلك
لأن التحديد المستفاد مما ورد في مستورية الدبر بالأليتين ومستورية القبل باليد
فيما فرض ستره بها دال على خروج ما عدا ذلك من الحد ولو كان هو العجان،
ولذا احتاط في المتن ندبا بلا وجوب.
الأمر الثالث: في كيفية الستر وبيان لزوم استتار الشبح
إن للستر أنحاء خاصة حسب الخصوصيات المختلفة في المستور، إذ له حجم
بمعنى البعد الخاص، كالصغر والكبر، والضخم والدقة المقابلة له. وكذا له حجم
بمعنى الشكل الخاص من الكروية والاستدارة، أو التربيع والاستطالة، وما إلى
ذلك من الأشكال القائمة بالأجسام. وله لون خاص من البياض والحمرة ونحو
ذلك، فهل يجب ستره بجميع هذه الخصوصيات؟ أو يكفي ستر بعضها؟
وليعلم: أن المرجع عند الشك في شرطية الزائد عن المتيقن هو البراءة

(1) الوسائل باب 31 من أبواب النجاسات ح 2.
104

لا الاشتغال، إذ لا تفاوت بين الوضعي والتكليفي من الحكم، وأن الزائد منه فيهما
منفي بالأصل الجاري في الارتباطي من الأقل والأكثر، كما في الاستقلالي
من ذلك.
لا اشكال ظاهرا في صدق عنوان الستر عند استتار البشرة واللون مع امكان
تميز الحجم من البعد والشكل، وإلا لما صدق عنوانه في المرأة المستورة عن نظر
الأجنبي عند إمكان تميز ذلك، وهو كما ترى، إذ لا ارتياب في صدق الستر هناك
مع امكان تميزه في المرأة المتعارفة التي تمشي ساترة جميع جسدها، وإن شك
فالمرجع هو البراءة.
وأما البشرة واللون: فالظاهر تحتم الستر وعدم تحقق عنوانه بدون مستورية
ذلك، سواء كان الانكشاف وعدم المستورية لأجل أن للساتر خللا يرى من
أثنائه، أو لأجل صفائه ورقته يحكي ما وراءه، وإن كان مسدود السدى واللحمة
جدا بلا خلل، أما الأول: فواضح البتة لأنه بمنزلة فقد الساتر رأسا، إذ المفروض
أن الخلل بمنزلة الشبكة للفصل بين السدى واللحمة، فالمرئي حينئذ إنما هو نفس
البشرة لا غير.
وأما الثاني: فهو وإن لم يكن بهذا الوضوح ولكن يزول خفائه - إن كان - في
ضوء مقدمة نافعة، وهي أن كل كيفية كانت محرمة في النظر تكون مانعة في
الصلاة، إذ لا فرق بينهما في مفهوم الستر وعنوانه، وحيث إنه لو سترت الأجنبية
نفسها بكسوة رقيقة جدا تحكي ما ورائها من لون الجسد البتة لحكم بعدم الاكتفاء
بها حينئذ وبحرمة النظر إليها هكذا، وذلك لعدم صدق الستر، إذ ليس المعنى به
هو مجرد وضع شئ على الجسد شف أو غلظ، بل المراد هو ما به يختفي عن النظر،
فلذلك لا يجتزي بالاستتار خلف الزجاجة الحاكية.
ففي المقام أيضا لو ستر الرجل عورته بثوب رقيق يحكي شبحها يحكم
بعدم الكفاية، لأن المرئي أو لا وإن كان هو نفس الساتر الحائل بين الباصرة وبين
105

الجسم، إلا أنه لرقته وصفائه في حكم عدم الحيلولة لدى العرف، فيتعين ستر
الشبح بهذا المعنى، وأما ستر الحجم بمعنييه فلا.
وأما المرأة فيجب عليها ستر جميع بدنها، حتى الرأس
والشعر، إلا الوجه المقدار الذي يغسل في الوضوء، وإلا اليدين
إلى الزندين، والقدمين إلى الساقين ظاهرهما وباطنهما، ويجب
ستر شئ من أطراف هذه المستثنيات من باب المقدمة.
يستفاد من المتن كون الأمر في الرأس والشعر ليس على وزان الجسد، بل
مما نوقش فيه، فلذا صرح بالاستواء ولزوم الستر، فتمام القول في المستثنى
والمستثنى منه وما يتلو ذلك في ضمن أمور:
الأمر الأول: فيما يجب على المرأة من الستر في الصلاة
لا ريب في عدم التلازم، بين الستر الواجب للتحفظ عن نظر الأجنبي، وبين
الستر المعتبر في صحة الصلاة، فلا يدور أحدهما مدار الآخر سعة وضيقا، فعليه
لا بد من التماس الدليل الدال على لزوم ستر جميع الجسد في الصلاة حتى يبحث
عما يستثنى منه، وإلا فيكون الجواز في موارد الاستثناء مطابقا للأصل، فيلزم
الفحص البالغ عن نطاق ما ورد في الباب من النصوص التالية.
فمنها: ما رواه عن الفضيل، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: صلت فاطمة عليها السلام
في درع وخمار على رأسها، ليس عليها أكثر مما وارت به شعرها وأذنيها (1).

(1) الوسائل باب 28 من أبواب لباس المصلي ح 1.
106

قد يحتمل أن يكون نقل أبي جعفر عليه السلام - حسب هذا الخبر - لبيان الحكم
وتحديد مواضع الستر، فحينئذ يلزم الأخذ بما يستفاد من نطاقه، وأنه لا يلزم
أكثر من الدرع والخمار، وكذا لا يلزم ستر أكثر من الشعر والأذن من الوجه
إذا كان المراد بلحاظ العرض، ومن العنق إذا كان بلحاظ الطول، إذ الأكثرية هنا
إما مرادفة للأعرضية أو للأطولية.
فإن لو حظ الحد الطولي، يحكم بعدم ستر ما طال عن الأذن وخرج عن
حده في امتداده الطولي، أي العنق.
وإن لو حظ الحد العرضي، يحكم بعدم ستر ما خرج عن حده في الامتداد
العرضي، أي الوجه. وإن أمكن إرادتهما معا يحكم بعدم ستر ما خرج عن حديه.
وأما بالنسبة إلى الساق والقدم: فهو رهين لما تعارف من الدرع في ذاك العصر
وأنه هل كان طويل الذيل مجرورا على الأرض حتى يستر القدم أو لا؟
وقد يحتمل أن يكون النقل لبيان ما كانت فاطمة عليها السلام من الفقر وفقد ما
يستر به الزائد عن ذاك الحد - كما ورد في شأنها عليها السلام من ابتلائها بالجوع
أحيانا مع التحمل والصبر في سبيل الله - فعليه لا صلوح له للاستدلال، لأنه بلحاظ
مقام الضرورة التي يجوز فيها التعري فضلا عن الاكتفاء بذلك، ولا يبعد هذا
الاحتمال، إذ المأخوذ فيه ليس إلا " صلت " بلا إشعار بالاستمرار حتى يستفاد
منه الاختيار وعدم الضرورة، ونحو ذلك.
ومنها: ما رواه عن علي بن جعفر، أنه سأل أخاه موسى بن جعفر عليه السلام عن
المرأة، ليس لها إلا ملحفة واحدة، كيف تصلي؟ قال: تلتف فيها وتغطي رأسها
وتصلي، فإن خرجت رجلها وليس تقدر على غير ذلك فلا بأس (1).
والمراد من الملحفة ما يلبس فوق الثوب، وقد ارتكز في ذهن السائل لزوم
الستر في الجملة، فيسأل عن كيفيته إذا كانت لها ملحفة واحدة.

(1) الوسائل باب 28 من أبواب لباس المصلي ح 2.
107

والمستفاد من الجواب هو لزوم الالتفاف - إذ ليس لها أزرار حتى تعقد
فيتحقق الستر، بل لا بد من اللف المساوي لعقد الأزرار في غيرها - ولزوم تغطية
الرأس، فبالأول يستر العنق والنحر والثدي وغير ذلك من الأعضاء، وبالثاني يستر
الرأس وكذا الشعر البتة.
وأما المراد من الرأس: هل هو مقابل البدن حتى يجب ستر الوجه؟ أو
هو مقابل للوجه حتى يكون خارجا؟ فأمر آخر، ولعل المنساق من لزوم الالتفاف
وتغطية الرأس هو ستر الوجه أيضا، وأن يحكم باستثنائه نصا وفتوى، كما سيجئ.
وكذا المستفاد من الجواب أيضا بالمفهوم لزوم ستر الرجل عند الامكان،
وحيث إنه شامل للقدمين البتة لأنه من الرجل قطعا ومجرد التسمي باسم خاص
لا يخرجهما عنه يحكم بلزوم سترهما حسب هذا النص، وإن أمكن اخراجهما إن
تم دليل الاستثناء.
كما أنه يستفاد منه أيضا كون ستر الرأس أهم لدى الشارع من ستر الرجل
مع وجوبهما معا.
وأما الكف: فهو وإن كان مستورا هنا بالالتفاف إذ باليد يتحقق اللف غالبا،
ولكنه لا يدل على وجوب ستره، لأن مورد الحاجة إلى الالتفاف المتوقف على
مستورية الكف أيضا غير ناهض لوجوبه.
ومنها: ما رواه عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام، قال: المرأة تصلي في
الدرع والمقنعة إذا كان كثيفا، يعني ستيرا (1).
ودلالتها على لزوم الستر مع جواز التمسك بما يستفاد من حدها متوقفة
على كونها بصدد بيان التحديد أيضا، وأما لو كانت للإشارة إلى ما هو الواجب في
موطنه، فلا.
فعلى فرض كونها لبيان الحد أيضا لا يستفاد منها أزيد من لزوم ستر ما يستره

(1) الوسائل باب 28 من أبواب لباس المصلي ح 3.
108

الدرع والمقنعة على الجرى المتعارف في ذلك العصر، لا مطلق ما يصدق عليه الدرع
طال عما هو الدارج في ذلك العصر أو قصر عنه، فإن تحقق تعارف ما هو طويل
الذيل وواسع الكم لحكم بلزوم ستر ما يستره الدرع بطبعه الأولي المتعارف.
وكذا في المقنعة الساترة للرأس والشعر، وسيجئ الكلام في قوله... ستيرا.
ومنها: ما رواه عن يونس بن يعقوب، أنه سأل أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل
يصلي في ثوب واحد؟ قال: نعم قلت: فالمرأة؟ قال: لا، ولا يصلح للحرة إذا حاضت
إلا الخمار، إلا أن لا تجده (1)
أن ظاهرها - حسب التناسب بين الحكم والموضوع - هو أنه لما كان حد
الستر في المرأة للصلاة أزيد من حده في الرجل لها حكم بجواز صلاته في ثوب
واحد دون صلاتها فيه، لعدم كفايته بما يجب عليها من الستر، وأما قوله عليه السلام
" ولا يصلح " فلا ظهور له في الحكم غير اللزومي، لما مر من استعماله في التحريم،
وأما إرادة التنزيه منه فإنما هو لقيام الشاهد الخارجي أو المعارض ونحو ذلك،
فيحمل على المنع. وأما الحصر في الخمار فإضافي لا حقيقي، حيث إن الصبية قبل
أن يدركها البلوغ يجوز لها كشف الرأس في الصلاة، كما يجوز لها الكشف
للناظر، وأما إذا بلغت فلا تصح صلاتها بدون الخمار، ومن المعلوم: أنه لا موضوعية
له (أي للخمار بما هو خمار) فيحكم بأن المناط هو ستر الرأس، وبه يستر الشعر
أيضا على النحو الدارج.
ومنها: ما رواه عن المعلي بن خنيس عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: سألته عن
المرأة تصلي في درع وملحفة ليس عليها إزار ولا مقنعة؟ قال لا بأس إذا التفت
بها وإن لم تكفها عرضا جعلتها طولا (2).
لعل السؤال إنما هو لأجل ما ورد من تعدد الثياب من الإزار والدرع والخمار
ونحو ذلك، فسأل عن حكم ما إذا لم يكن عليها إزار ساتر للرجل ومقنعة للرأس

(1) الوسائل باب 28 من أبواب لباس المصلي ح 4 و 5.
(2) الوسائل باب 28 من أبواب لباس المصلي ح 4 و 5.
109

بل كان عليها في صلاتها درع وملحفة فقط، فأجيب بالجواز والصحة عند الالتفاف
بالملحفة، لما أشير إليه سابقا من احتياج مثل هذا الثوب الواسع الملبوس فوق
الدرع مثلا إلى اللف، وإلا لما ستر الشعر ولا العنق ولا الجيب ونحو ذلك
بخلاف ما إذا كان عليها خمار، لأنه معد للستر بلا احتياج إلى الالتفاف
المعني به هنا.
وأما المراد من الذيل: فهو لزوم ستر ما يستره الدرع بطبعه من الرجل،
إذ لو كان الدرع ساترا له لما احتيج إلى لفها طولا على نفسها. ولا يعارضه ما مر
من الصلاة في الدرع إذا كان ستيرا مع المقنعة، لاحتمال اختلاف الدروع قصرا
وطولا، ففي مورد الاكتفاء كان ساترا لما يعتبر ستره من الرجل، وفي هذا
المورد لم يكن كذلك، فلذا أمر بالالتفاف بالملحفة طولا عند عدم كفاية الالتفاف
بها عرضا لستر ما بقي من الرجل مكشوفا، لعدم استتاره بالدرع.
نعم: لا ظهور لها في الحد الذي يلزم ستره من القدمين أيضا، بل أقصى ما
يستفاد منها أن في الرجل موضعا لازم الستر ولا يستره الدرع المفروض.
ومنها: ما رواه عن النبي صلى الله عليه وآله، قال: ثمانية لا يقبل الله لهم صلاة: منهم
المرأة المدركة تصلي بغير خمار (1).
وظاهرها لزوم ستر الرأس بعد البلوغ في تجاه عدم لزومه قبله. ولا يغرنك
التعبير بلفظة (القبول) مع لحاظ ما هو الدارج في الألسنة من الميز بينه وبين الصحة
لأن هذا الميز لا يتعدى عن طور الاصطلاح الفقهي إلى حريم الأحاديث أصلا، بل
المراد من القبول ما هو المقابل للرد فإذا لم يقبل يكون مردودا، ولا نعني بالباطل
إلا المردود الذي لا جدوى فيه أصلا.
وأما ما يترائى من الحمل على نفي الكمال لا الصحة، فإنما هو لشاهد خارجي

(1) الوسائل باب 28 من أبواب لباس المصلي ح 6.
110

أو للعلاج بين المتعارضين، وأما بدون الدليل الخارجي فلا، وذلك نظير حمل قوله:
" لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد " على نفي الكمال، مع انحفاظ قوله: " لا صلاة
إلا بطهور " بحاله، والميز هو قيام الشاهد من الاجماع وغيره على إرادة نفي الكمال
في الأول دون الثاني.
ومن هنا حكم الأصحاب (ره) ببطلان عبادة (من لا ولاية له) حملا لما ورد
من عدم قبول عبادته على المعنى المقابل للرد، حتى ينتج أن عدم القبول هو الرد،
خلافا لصاحب الحدائق. فالمنساق من عدم القبول هنا هو بطلان صلاة من لم يستر
رأسها من النساء، إذ لا خصوصية للبالغة.
ومنها: ما رواه عن محمد بن مسلم (في حديث) قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام:
ما ترى للرجل يصلي في قميص واحد؟ فقال: إذا كان كثيفا فلا بأس به، والمرأة
تصلي في الدرع والمقنعة إذا كان الدرع كثيفا، يعني إذا كان ستيرا (1).
قد مر ما يرجع إليها عند بيان فقه رواية " محمد بن مسلم " بلا احتياج إلى
التكرار، وإنما المهم هنا هوان المستفاد منها ومن نظائرها هو التحديد، وأنه
يجوز أن تصلي في الدرع والمقنعة مثلا وإن لم يكن عليها أزيد منهما.
فحينئذ لا بد من لحاظ اختصاص الدرع بكونه ستيرا وما هو السر له؟ حيث
أنه لم يشرك المقنعة معه فيه، أي في هذا القيد، فهل السر هو بيان عدم لزوم
ستر الشعر؟ كما احتمل في المدارك، مع ما نوقش فيه بلزوم عدم استتار جلدة
الرأس حينئذ - كما في الجواهر - أو السر أمر آخر؟ وهو بيان جواز الاكتفاء
بثوب واحد - وهو الدرع إذا كان ستيرا وكافيا لستر ما يستره المقنعة أيضا، فإن أمكن
الاكتفاء به يجزيها بلا احتياج إلى ثوب آخر كالمقنعة - وأن ما حكم أولا من
التعدد إنما هو للجري المتعارف، وأن المناط هو ستر ما يستره الدرع والمقنعة
على العادة بلا خصوصية للتعدد، ويشهد له ما يلي، بلا اعتداد للاحتمال الأول،

(1) الوسائل باب 28 من أبواب لباس المصلي ح 7.
111

إذ لا مرية في لزوم ستر الشعر كالرأس نفسه حسب نصوص الباب.
ومنها: ما رواه عن ابن أبي يعفور، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: تصلي المرأة في
ثلاثة أثواب: إزار، ودرع، وخمار، ولا يضرها بأن تقنع بالخمار، فإن لم تجد
فثوبين تتزر بأحدهما وتقنع بالآخر، قلت: فإن كان درع وملحفة ليس عليها
مقنعة؟ فقال: لا بأس إذا تقنعت بملحفة، فإن لم تكفها فتلبسها طولا (1).
والمستفاد من الصدر - لولا الذيل - هو التحديد بثلاثة أثواب وعدم كفاية
ما دونها، وأما المستفاد من قوله عليه السلام " ولا يضرها بأن تقنع بالخمار " فليس هو
الاكتفاء بالخمار لستر الرأس وحده بأن تجعله قناعا، بل المراد من التقنع هو
التغشي بالثوب، فالمعنى حينئذ هو تجويز الاكتفاء بثوب واحد عند إمكان التقنع
والتغشي بما كان واجبا من المقدار، فعليه يكون الحكم الأول محمولا على الفضل.
وأما قوله عليه السلام " فإن لم تجد " أي لم تجد الثلاثة، فظاهره أنه في طول ما
ذكر أولا، لا في عرضه، فهما مرتبان مختلفان، فالأولى أفضل من الثانية، فإن
فقدت ثلاثة أثواب فلها أن تكتفي باثنين: تتزر بأحدهما وتجعله إزارا، وتقنع
بالآخر وتستر به باقي الجسد الذي كان عليها أن تستره بالجري المتعارف.
ولما سئل ثانيا عن حكم من لا مقنعة عليها وإن كان درع وملحفة، فأجاب
عليه السلام بعدم البأس إذا تسترت بثوب واحد وهو الملحفة بلا احتياج إلى الدرع أصلا
إذا تقنعت بها - أي تغشي بها - ولو لم تكن الملحفة وحدها كافية إذا جعلتها على
المعمول من العرض فلتجعلها حينئذ طولا لتصير كافية.
ولا يستفاد من هذا الذيل عدا أن في ناحية السفل من البدن مواضع لازمة
الستر قد لا تسترها الملحفة وحدها إذا جعلت عرضا بل لا بد من لبسها طولا لتسترها
وأما أن تلك المواضع كم هي؟ وأن القدمين مثلا داخلتان فيها أم لا؟ فلا تدل
على ذلك.

(1) الوسائل باب 28 من أبواب لباس المصلي ح 8.
112

فتحصل: أنه لا اعتبار للتعدد بالاثنين فضلا عن الثلاثة، إنما المناط هو ستر
ما يستره الدرع والخمار على العادة ولو بثوب واحد.
ومنها: ما رواه عن زرارة، قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن أدنى ما تصلي فيه
المرأة؟ قال: درع وملحفة فتنشرها على رأسها وتجلل بها (1).
وظاهر التحديد بالدرع والملحفة مع نشرها - أي الملحفة - على الرأس، لستره،
وحيث إنها واسعة على المتعارف حكم بالتجلل أي التغطي والتستر صونا عن
انكشاف الشعر والعنق والنحر ونحو ذلك، وليس التحديد إلا بلحاظ الجرى
العادي، لا أنه تعبد قراح بالثوبين ولو أمكن الاكتفاء بثوب واحد لستر
ما يسترانه.
فالمتحصل من هذه النصوص - على اختلاف ما بين ألسنتها الدائرة بين
الدرع والملحفة وبين الدرع والمقنعة وبين الدرع والخمار - هو الاكتفاء بالأخير
لكونه أقل من الجميع، فيحمل ما عداه على الفضل، نظير غيره مما ورد في الباب
لشدة الاستظهار بالستر، والقدر المتيقن من ذلك كله هو لزوم ستر ما يستره الدرع
والخمار على المتعارف، لا الزائد عنه.
نعم: يلزم البحث عما يستره الدرع حتى يتضح دخول القدمين أو خروجهما،
فارتقب.
فلم نجد في هذا الباب ما يدل على أن المرأة بتمام بدنها عورة يجب سترها
حتى يتجشم لاستثناء ما خرج، بل الدليل قاصر إلا عما أشير إليه.
ومنها: ما رواه عن عبد الرحمن بن الحجاج، قال: سألت أبا إبراهيم عليه السلام
عن الجارية التي لم تدرك، متى ينبغي لها أن تغطي رأسها ممن ليس بينها وبينه
محرم ومتى يجب عليها أن تقنع رأسها للصلاة؟ قال: لا تغطي رأسها حتى تحرم
عليها الصلاة (2).

(1) الوسائل باب 28 من أبواب لباس المصلي ح 9.
(2) الوسائل باب 126 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه ح 2.
113

فاكتفى بجملة واحدة جوابا عن السؤالين، ومعناها عدم وجوب ستر الرأس
إلى زمن يحرم عليها الصلاة، وهو زمن الحيض الكاشف عن البلوغ والادراك،
فتدل على وجوب ستر الرأس في الصلاة، كغيرها من الروايات المارة، وإنما القصد
إلى اتيانها هنا لبيان مقدار الوجه الذي سيأتي استثنائه الآن، فانتظر.
هذه هي النصوص التي أردنا نقلها، وقد عرفت نطاقها، فتبين لك: أنه لا عموم
ولا اطلاق في البين يدل على لزوم ستر جميع البدن عليها في الصلاة، بل أقصاه ما مر.
الأمر الثاني: في أنه لا يجب على المرأة ستر الوجه في الصلاة
إن الكلام في استثناء الوجه وبيان مقداره في جهتين:
الجهة الأولى
في عدم وجوب ستر الوجه في الصلاة
ويدل عليه أمور: أحدها: الاجماع البتي في المقام، لعدم انتساب الخلاف
إلا إلى " أبي بكر بن هشام " الذي لا نعرفه، فلا اعتداد به.
وثانيها: قصور أدلة الباب عن إفادة وجوبه، لأن المنساق منها - كما عرفت -
هو الدرع والخمار على النهج المعهود لدى العرف، ومن المعلوم: عدم استتار الوجه
بالخمار، مع شهادة خبر الفضيل الدال على أن فاطمة عليها السلام " ما وارت أكثر من
الشعر والأذنين " عليه، إن أمكن الاستدلال به، حسبما فصل سالفا.
وثالثها: ما أشير إليه آنفا من رواية " ابن الحجاج " المروية في النكاح، لأن
وحدة السياق مع الاكتفاء بجملة واحدة في الجواب عن السؤالين شاهدة على أن
وزان تغطية الرأس في الصلاة هو وزانها في الستر عن الأجنبي، لأن الجواب وإن
لم يصدر أولا وبالذات لبيان الكيفية بل لبيان أصل الوجوب، ولكن بعد ملاحظة
السياق يستفاد منه عدم الامتياز بينهما في الكيفية، فكما أنه لا يجب عليها ستر
114

الوجه عن الناظر. كذلك لا يجب عليها ستره في الصلاة.
ورابعها: ما رواه عن سماعة، قال: سألته عن الرجل يصلي فيتلو القرآن
وهو متلثم؟ فقال: لا بأس به وإن كشف عن فيه فهو أفضل، قال: وسألته عن
المرأة تصلي متنقبة؟ قال: إن كشفت عن موضع السجود فلا بأس به وإن أسفرت
فهو أفضل (1).
وظاهره أفضلية إسفار الوجه وإظهاره في الصلاة، فضلا عن جوازه، كما
لا يخفى على من لاحظها صدرا وذيلا، فلا مرية في أصل جواز الكشف وعدم
وجوب الستر.
الجهة الثانية
في حد الوجه الذي لا يجب ستره على المرأة في الصلاة
هل الوجه الذي لا يجب ستره في الصلاة هو الذي يجب غسله في الوضوء
أم لا؟ أن الأول هو الذي اختاره في " الجواهر " ومن احتذى حذوه كالماتن وغيره،
بناء على أن التحديد الوارد في الوضوء إنما هو لكشف معناه العرفي، وإن الشارع
مبين لما هو المبهم لدى العرف أحيانا، فإذا ترتب للوجه حكم في غير ذاك الباب
يحكم بأن المراد منه ما هو المحدد في الوضوء.
وفيه أولا: أنه لم يؤخذ عنوان الوجه في دليل الاستثناء بخصوصه حتى
يحكم عليه بما ذكر - كما عرفت - نعم: قد أخذ في معقد الاجماع ذلك.
وثانيا: إن نطاق ما ورد في ذاك الباب قاصر عن إفادة الحد العام، فتأمل
فيما يلي:
وهو ما رواه عن زرارة بن أعين، أنه قال لأبي جعفر الباقر عليه السلام: أخبرني عن
حد الوجه الذي ينبغي أن يوضأ، الذي قال الله عز وجل؟ فقال: الوجه الذي

(1) الوسائل باب 35 من أبواب لباس المصلي ح 6.
115

قال الله وأمر الله عز وجل بغسله، الذي لا ينبغي لأحد أن يزيد عليه ولا ينقص منه
إن زاد عليه لم يؤجر وإن نقص منه أثم، ما دارت عليه الوسطى والابهام من
قصاص شعر الرأس إلى الذقن وما جرت عليه الإصبعان من الوجه مستديرا فهو
من الوجه، وما سوى ذلك فليس من الوجه، فقال له: الصدغ من الوجه؟
فقال: لا. (1)
حيث إن السؤال وكذا الجواب قد أخذ فيهما قيد الخصوصية، بنحو يشكل
التعدي عن باب الوضوء إلى غيره، لست أقول: إنه دال على القيد حتى يعارض
ما كان محددا له بذلك مطلقا، بل أقول: لا يصح التعدي عن مثله إلى غيره لإباء
العرف عنه، فعليه يكون المستثنى مما يلزم ستره هو ما يعد من الوجه عرفا
حتى الصدغ ونحوه مما كان خارجا عن حد الوضوء، فلا يجب ستر ما يعد في العرف
وجها، لما مر، وللأصل أيضا عند انتهاء الأمر إليه.
الأمر الثالث: في أنه لا يجب على المرأة ستر الكفين في الصلاة
إن المستفاد من المتن، هو تحديد ما لا يجب ستره من اليد إلى الزند - أي
الفاصل بين الكف والذراع - فتمام القول فيه أيضا على ذمة بيان عدم وجوب
ستر اليد أو لا، وأنه محدد بالزند ثانيا.
أما الأول: فقد اشتهر بين الأصحاب شهرة تامة، خلافا للحدائق ونحوه،
ولا إجماع هنا كما في الوجه.
ويستدل له بقصور الدرع المتعارف عن ستر الكف، وحيث إنه أمر به في
الصلاة، فيكشف ذلك عن عدم لزوم ستره، بل لا يجب عدا المتيقن، للأصل النافي
للزائد المشكوك، فيتم الأمران.
وفيه: أنه لا يتم التحديد بالزند بخصوصه لتأتيه في كل ما شك في لزوم
ستره حتى المعصم وما فوقه من الساعد، إذ لا ريب في اختلاف الدروع وعدم تساويها

(1) الوسائل باب 17 من أبواب الوضوء ح 1.
116

في طول خاص.
وفي الحدائق: أن ذلك الاستدلال إنما يتم لو علم أن ثياب النساء في زمن
صدور النصوص في تلك الديار كانت على ما يدعونه، ولم لا يجوز أن دروعهن
كانت مفضية إلى ستر أيديهن وأقدامهن، كما هو المشاهد الآن في نساء أعراب
الحجاز، بل أكثر بلدان العرب، فإنهم يجعلون القميص واسعة الأكمام مع
طول زائد فيها بحيث تكون طويلة الذيل تجر على الأرض، ومن القريب كون
المشهود الحديث جاريا علي الدأب القديم في تلك البلدان، فجرت الأخلاف
على ما جرت عليه الأسلاف، انتهى.
وفيه: أن أصالة العدم بالقهقري وإن ثبتت في القول عند الشك في النقل
في الجملة لقيام السيرة عليه أحيانا، وأما في الفعل فلا، ولا أقل من الشك، ومعه
لا اعتداد بما يشك في حجيته، إذ الشك في حجيته مساوق للقطع بعدمها.
والتحقيق الكافل للأمرين، هو أن المعتبر في ستر البدن ليس أزيد من
الدرع الذي به ألسنة النصوص، ويمكن إثبات كونه قاصرا عن ستر الكف في زمن
الصدور، وفي ثنايا ذلك يثبت كون أقصى ما كان منكشفا هو الزند لا الزائد عنه،
فحينئذ يتم الأمران، إذ لا ريب في أن النصوص الآمرة بالدرع كانت ناظرة إلى ما
هو الدارج في ذاك العصر، لا كل ما يصدق عليه في أي عصر كان طال أو قصر، فلو
ثبت قصره عن ستر الكف إلى الزند يحكم بجواز كشفه في الصلاة. والذي يمكن
الاستدلال أو الاستيناس به لذلك أمور:
أحدها: ما عن ابن عباس، والضحاك، والعطاء، من تفسير قوله تعالى
" إلا ما ظهر منها " بالوجه والكفين.
والمستفاد منه، هو أن الكف كان ظاهرا بطبعه في ذاك العصر، لأنهم ممن
أدركوا الصدر الأول من الإسلام، سيما " ابن عباس "، إذ المراد من الكريمة هو
تجويز ما كان ظاهرا بطبعه، والتفسير المأثور من هؤلاء في التطبيق على الوجه
117

والكفين وإن لا يصح الاعتماد عليه لعدم حجية أقوالهم ولا آرائهم في ذلك، ولكنه
مجد في الكشف عما كان ظاهرا بطبعه في ذاك العصر، وهذا القدر مما يوثق به
فيؤخذ، وكم فرق بين هذين الأمرين! فلا تغفل.
وثانيها: ما رواه (في الوسائل باب 109) من النصوص المارة المشروحة في
الفصل الباحث عن الستر اللازم في نفسه عن الناظر، حيث إنه يستفاد منها أن
الوجه والكف مما كان ظاهرا بطبعه، فيلزم ذلك قصر الدرع عن سترهما على
المتعارف المأمور به في الصلاة، وهي ما يلي: إذ في أوليها: سألت أبا عبد الله عن
الذراعين من المرأة هما من الزينة التي قال الله " ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن "؟
قال: نعم وما دون الخمار من الزينة وما دون السوارين.
لأن الذيل دال على أن الوجه والكفين إلى الزندين مما يجوز إبدائه
واظهاره، لما مر من أن المراد من لفظة (دون) هو التحت، لا السفل، فيدل على أن
تحت الخمار - أي الشعر والرأس - وتحت السوار - أي المعصم - زينة يحرم إبدائها،
وأما ما عدا ذلك فلا، لمفهوم التحديد، لأنه وإن يحتمل فيه الأمر أن الموجب للاجمال
حسبما مر، ولكن أشير سابقا إلى اتضاحه ببركة غيره من النصوص الآتية.
وفي ثالثها: عن زرارة، عن أبي عبد الله عليه السلام، في قول الله عز وجل " إلا ما ظهر
منها " قال: الزينة الظاهرة الكحل والخاتم.
وحيث إن الكحل متصل بالعين وكذا الخاتم بالأصبع، يستفاد منها أن
الوجه والكف كانا مما ظهر في الجملة، لا بتمامهما البتة، لقصورها عن إفادة
التمام.
وفي رابعها: عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: سألته عن قول الله
عز وجل " ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها " قال: الخاتم والمسكة وهي القلب.
فتدل على أن الإصبع والزند مما ظهر بطبعه، إذ الخاتم متصل بالأول كما
مر، والقلب بالمعصم أو الزند، وإن مر التحقيق في عدم جواز إبداء المعصم،
118

وكذا عدم جواز النظر إليه، ولكن الكلام في أن القلب كان ظاهرا بالطبع، وهو
ملازم لظهور ما بين موضعه وموضع الخاتم بالطبع أيضا، فتدل على أن الكف مما
ظهر بطبعه، وهو لا يتصور عند طول الكم، فلا بد من أن يكون الدارج في ذاك
العصر قصره الموجب لظهور الكف بالطبع.
وفي خامسها: عما تظهر المرأة من زينتها؟ قال: الوجه والكفين.
وظاهره النظر إلى الكريمة تفسيرا لها، فيستفاد من اعتضاد هذه النصوص
المروية (في الوسائل) بعضها ببعض: عدم مستورية الكف إلى الزند الذي هو الفاصل
بين الذراع المعدود زينة وبين الكف المقول فيه أنه مما ظهر، وليس ذلك إلا
لما مر الآن: من قصر الكم في ذلك العصر عن ستره.
وثالثها: ما رواه في " المستدرك " عن أبي الجارود، عن أبي جعفر عليه السلام المتقدم
(ص 48) فراجع.
حيث إن فيه قد فسرت الكريمة بخضاب الكف والسوار... الخ، فيدل
على أن الكف كان مما ظهر بطبعه، كما أنه يدل على أن السوار نفسه كذلك
لا الزند، فعليه يحكم بقصر الدرع عن ستر الكف إلى الزند، فمعه يتم الأمران
بمنه تعالى، كما في المتن.
الأمر الرابع: في أنه لا يجب على المرأة ستر القدمين في الصلاة
إن المستفاد من المتن استثناء القدمين من الستر مع استواء الظاهر والباطن
منهما، كما أنه هو المشهور، وتردد فيه " المحقق " وخالف فيه غيره كالحدائق ونحوه.
ولعل منشأ الاختلاف والتردد هو تخالف نصوص الباب وعدم اتضاح أولها
إلى مآل معين، فاللازم هو الإشارة إلى قسمي النصوص اللذين هما المستندان
للقولين أولا، وإلى ما هو العلاج الرافع للتنافي المترائي بينهما ثانيا، فنقول: إن
نصوص الباب على كثرتها منقسمة إلى قسمين:
119

أما الأول: فهو ما أمر فيه بالدرع والخمار، أو الدرع والمقنعة، ونحو ذلك،
كما في رواية (1 و 3 باب 28 من أبواب لباس المصلي) المتقدمة سابقا،
وكذا ما ورد في اكتفاء الأمة المسلمة بالدرع، لأنها والحرة المسلمة فيما عدا
الرأس سواء.
تقريب الاستدلال بهذا القسم على عدم لزوم ستر القدم، هو أنه لا ريب في
انحدار الحكم بلبس الدرع إلى الدروع المتعارفة، بحيث لو لبست المرأة درعها
المتعارف وجعلت على رأسها الخمار وصلت لأجزأت، كائنا ما كان الدرع. ولزوم
ستر القدم حينئذ متوقف على تعارف الدرع الطويل الذيل المجرور على الأرض
جدا حتى يحكم باللزوم، إذ لو تعارف القصر وعدم الطول الموجب لانكشاف
القدم فلا يلزم سترها حال الصلاة، كما أنه لو تعارف الطول الساتر لظهر القدم
حال القيام بلا امتداد موجب لانجراره على الأرض فهو غير ساتر له عند الركوع
وغيره من الانقلابات الصلاتية، وحيث إن البعض والكل متحدان في الشرطية،
فجواز كشفها في بعض الأحوال دال على عدم اشتراط سترها أصلا.
فعلى القول بلزوم الستر يلزم احراز تعارف الطول الكثير الموجب لمستورية
القدم في جميع الانقلابات الصلاتية، حتى يكون الأمر بالدرع مشيرا إلى ما هو
الساتر للقدم أيضا، ولا يمكن احرازه، كما في الحدائق، من تعارفه كذلك في
الأعصار الأخيرة فيكتشف كون الأعصار الأول أيضا كذلك، لما مر من القدح
فيه، لعدم السيرة الكذائية في الأفعال، وإن ثبتت في الأقوال في الجملة، مضافا إلى
إمكان منع الصغرى.
ومما يبعد التعارف الكذائي في أي عصر كان هو عدم إمكان المشي عادة، إذ ليس
للجميع سادت متكفل لرفع الذيل، لاختصاص ذلك بالأعيان والسادة، ولا يجدي
أيضا ما لو تعارف الطول الكثير بالنسبة إلى الخلف دون القدام، لأنه وإن لا
يمنع من المشي، إلا أنه موجب لانكشاف ظهر القدم أيضا.
وأما ما في محكي التذكرة: من أن الدرع هو القميص السابغ الذي
120

يغطي ظهر القدمين، مما لم نتحققه، مع ما في المنتهى: من التعارف على عدم
استتار القدم بالدرع، كما يأتي.
فهذه الوجوه الملتئمة من النص والاعتبار توجب الوثوق بعدم مستورية
القدم بالدرع.
وأما القسم الثاني من النصوص: فهو ما أمر فيه بالالتفاف أو التقنع بالملحفة
بنحو تكفيها بالعرض أو الطول عند عدم كفاية العرض
نحو ما رواه عن المعلي بن خنيس، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: سألته عن
المرأة تصلي في درع وملحفة ليس عليها إزار ولا مقنعة؟ قال: لا بأس إذا التفت،
وإن لم تكن تكفيها عرضا جعلتها طولا (1).
ونحوها ما رواه عن ابن أبي يعفور عنه عليه السلام (2)
حيث إنها ظاهرة في عدم جواز الاكتفاء بالدرع لعدم ستره بعضا من الرجل
كالقدم ونحوه، فلا بد من لبس الملحفة بنحو يستر ذاك البعض أيضا، فحينئذ قد
يكون لبسها عرضا كافيا فيه وذلك لكونها طويلة، وقد لا يكون كذلك، بل
لا بد من لبسها طولا لتكفي، فيستفاد منها أمران:
الأول: أن الدرع المتعارف في ذاك العصر لم يكن مستوعبا في ناحية الذيل
للقدم أو غيره مثلا.
والثاني: لزوم ستر ما لا يستره الدرع كالقدم أيضا، ولذلك لم يكتف بالدرع
مع لبس الملحفة عرضا، حيث إنه يستر الرأس والبدن إلى قرب القدمين أو إليهما
بل حكم بلبسها طولا ليستر ما كان منكشفا بالدرع.
ولا ريب في أن المراد من الكفاية وعدمها ما هو الملحوظ بنسبة الذيل لا
الرأس، لوضوح كفاية الملحفة لستر الرأس بلبسها عرضا البتة.
والحاصل: أن المستفاد من هاتين الروايتين عدم كفاية الدرع ولزوم ستر ما
لا يستره من ناحية الذيل كالقدم، فحينئذ يعارض ما مر من النصوص الدالة على

(1) الوسائل باب 28 من أبواب لباس المصلي ح 5 و 8.
(2) الوسائل باب 28 من أبواب لباس المصلي ح 5 و 8.
121

الاكتفاء بالدرع والخمار ونحو ذلك، ولعل هذا التعارض أوجب تردد المحقق (ره)
في " الشرايع " فيمكن الجمع بينهما بوجهين:
الأول: هو حمل الطائفة الثانية على الندب، كما يحمل ما ورد من ثلاثة أثواب
عليه، وذلك لمحبوبية شدة الستر والاستظهار فيه.
والثاني: حمل الدرع على غير الستير منه، فحينئذ يحتاج إلى جعل الملحفة
في الطول بنحو تمتد إلى امتداد الدرع فتستر جميع مواضع الدرع، لأنه غير
كثيف فلا يستر البدن، فالمفاد حينئذ ليس أزيد من لبس ما يستره الدرع المتعارف،
ولكن لما كان الدرع المفروض غير كثيف، فلا بد من ثوب آخر يواري ما يحكيه
الدرع ويستر ما لا يستره، فلا تعارض بين الطائفتين أصلا.
وهذا الوجه غير خال عن الاعتساف والبعد، لأن الدرع الواقع في هذه
الطائفة هو الواقع في تلك الطائفة، وحمل أحدهما على الستير والآخر على غيره
بعيد. فالأقوى: هو الحمل الأول.
ولا ينافيه رواية " علي بن جعفر " المتقدمة، عن المرأة ليس لها إلا ملحفة
واحدة كيف تصلي؟ قال: تلتف فيها وتغطي رأسها وتصلي، فإن خرجت رجلها
وليس تقدر على غير ذلك فلا بأس (1) لدلالتها على لزوم ستر الرجل عند القدرة،
ولمكان شمولها جميع الحدود حتى القدم لصدق انكشاف الرجل عند عدم استتارها
- أي القدم - يحكم بلزوم سترها أيضا للاطلاق، فينتج لزوم ستر الرجل بأجمعها،
فينافي القول بندب الستر بالنسبة إلى بعض مواضعها كالقدم.
وبيان عدم التنافي: هو أنه لو كان مساق الرواية سؤالا وجوابا لبيان ما يجب
ستره في الصلاة بحسب الحكم الأولي وأنه كم هو؟ وكيف هو؟ لكانت دالة على
لزوم ستر الرجل حتى القدم بالاطلاق، كما قيل. وأما لو كان المساق لبيان أن
ما هو الواجب ستره في الصلاة قد لا يمكن الامتثال به لفقد ما يستره بتمامه فكيف

(1) الوسائل باب 28 من أبواب لباس المصلي ح 2.
122

يكتفى بالناقص؟ وأي موضع من مواضع البدن يقدم ستره على الآخر؟ ونحو
ذلك، فلا ينافي ما مر، لعدم دلالتها حينئذ على الحكم الأولي، فمعه لا انعقاد
للاطلاق الدال على لزوم ستر الرجل بتمامها، بل المستفاد منها لزوم تقديم
ستر الرأس على ستر الرجل في هذه الحال، فلا تعارض أصلا.
ومما يمكن التمسك به لعدم وجوب ستر القدم، هو ما رواه (في كتاب النكاح
وغيره) مما يدل على جواز اقتصار الأمة على القميص وحده، مع الاجماع على
عدم الامتياز بينها وبين الحرة إلا في ستر الرأس، وأما غيره فلا تفاوت بينهما أصلا.
وأما القميص: فقال العلامة (ره) في " المنتهى ": أنه غالبا ليس بساتر لظهر
القدمين، ويؤيده ما أشير إليه سابقا من صعوبة المشي إذا كان طويل الذيل ساترا
للقدم في جميع الحالات، للزوم كونه مجرورا على الأرض جدا.
وأما ما يستشهد للحدائق: من أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: من جر ثوبه
خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة، فقالت أم سلمة: كيف تصنع النساء بذيولهن؟
قال: يرخين شبرا، قالت: إذن تنكشف أقدامهن؟ قال: إذن يرخين ذراعا لا يزدن
فلا شهادة له، لأن الثياب على قسمين: أحدهما ما هو المعد للبيت، والآخر
ما هو المعد لخارجه، ومن المعلوم: عدم كون الأول كالثاني، لأن العفاف من
النساء وإن كن ساترات للأقدام بجر الذيول مثلا، إلا أن دروعهن في البيت لم
تكن كذلك، لعدم إمكان قضاء الأوطار معه، ويشهد له ما فهمته أم سلمة، لأنه
صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن منع من جر الذيل خيلاء يستفاد منه لزوم القطع أو محبوبيته،
بأن يصير بعد القطع على حد الدرع الملبوس في البيت، ولما كان ذاك الحد قاصرا
لسهولة التعيش وقضاء الحوائج معه ولم يكن بعض الرجل مستورا به إذا صار
ملبوسا للخارج من الدار، فسألت عن هذا الحكم، فأجاب صلى الله عليه وآله وسلم: بارخاء الشبر
أي بالنسبة إلى الدرع الدارج في البيت، حتى يكون التفاوت بين الدرعين شبرا،
123

فقالت ثانيا: بعدم كفاية الشبر لستر القدم، فحكم صلى الله عليه وآله وسلم بارخاء الذراع دون
الزائد عنه.
ومن المعلوم: أن الصلاة حسب الجرى العادي إنما هي في البيت وفي اللباس
المعد له لا في اللباس المعد للخارج، ولسنا الآن بصدد الاستدلال بهذا الخبر
المروي بطريق العامة، بل بصدد دفع ما استشهد للحدائق وتقريب أن الدرع
لم يكن بحيث يستر القدم أيضا.
فتحصل من الجميع: عدم لزوم ستره لا ظاهرا ولا باطنا، إذ لم يكن في الباب
ما يدل على لزوم ستر جميع البدن حتى يفتقر إلى الاستثناء، مع عدم إحراز
كون الدرع ساترا للقدم، بل يطمئن بعدم ساتريته له، فلا وجوب له بالدليل
الاجتهادي.
ثم إنه عند انتهاء الأمر إلى الشك يحكم بالبراءة أيضا لا الاشتغال.
نعم: إن التحديد بالقدم مما لا يمكن إثباته، بل يدور مدار المقدار المشكوك
فيه، فلعل بعض الأجزاء الفائقة للقدم أيضا كذلك، فلو فرض الشك فيها لحكم
بالبراءة وعدم الاشتغال.
الأمر الخامس: في أنه يجب ستر شئ من أطراف المستثنيات مقدمة
قد لاح لك: عدم وجوب ستر الوجه والكفين والقدمين ظاهرهما وباطنهما
في الصلاة، دون الزائد عن ذلك، على تأمل في تحديد القدم بحده الخاص، بل
يجوز كشف ما زاد عنه أيضا عند انتهاء الأمر إلى الشك في شرطية ستر ذاك الزائد.
ثم إنه قد يكون المستثنى مبين المفهوم والمصداق، وقد يكون مبين المفهوم
دون المصداق، وقد يكون مبهم المفهوم، فيتلوه الابهام في المصداق قهرا.
فعلى الأول: فلا خفاء فيه أصلا، لاتضاح عدم وجوب ستر ذاك الحد المستثنى
كالوجه مثلا، مع وجوب ستر ما عداه.
124

وأما على الثاني: فيجب الاحتياط بستر ما يطمئن معه بالفراغ، إذ المفروض
أن المفهوم المنحدر نحوه الحكم بين بلا خفاء، فالاشتغال به يقيني، فيستلزم
البراءة القطعية التي لا تحصل إلا بستر شئ من الأطراف، حتى يقطع بالامتثال.
وأما على الثالث: فلا تحتم للاحتياط وإن كان حسنا، إذ المفروض عدم
اتضاح التكليف بشعاعه وحده، فيقتصر في مرتبة ثبوته على الأقل المتيقن، ويتلوه
جواز الاقتصار على الأقل أيضا في مرتبة السقوط والامتثال.
فتبين من ذلك كله: أن وجوب ستر الأطراف مقدمة في ماذا ولماذا.
مسألة 4 - لا يجب على المرأة حال الصلاة ستر ما في باطن
الفم من الأسنان واللسان، ولا على الوجه من الزينة، كالكحل
والحمرة والسواد والحلي، ولا الشعر الموصول بشعرها والقرامل
وغير ذلك، وإن قلنا بوجوب سترها عن الناظر.
لعلك كنت مقروع السمع سالفا بأنه لا تلازم بين وجوب الستر عن الناظر
وبين الستر للصلاة، لما بينهما من البون دليلا وموردا، فعليه لا يمكن الاتكاء هنا
على الحكم الثابت هناك، فحينئذ نقول: إن تنقيح ما في المتن على ذمة جهتين:
إحديهما ما يرجع إلى الوجه، والأخرى ما يرجع إلى الرأس.
أما الجهة الأولى:
فمما يدل على عدم وجوب ستر باطن الفم وكذا ما في ظاهر الوجه من
الزينة، أمور:
الأول: الاجماع على استثناء الوجه، فيؤخذ باطلاق معقده، فالظاهر
125

والباطن سواء، والمتزين وغيره سيان.
والثاني: ما تقدم من رواية سماعة... قال عليه السلام: إن كشفت عن موضع
السجود فلا بأس، وإن أسفرت فهو أفضل (1).
حيث إنه لا ريب في بدو الأسنان وظهورها عند القراءة إذا كانت مسفرة، كما أن اطلاقها دال على الجواز إذا كانت متزينة الوجه بالحمرة ونحوها.
والثالث: ما رواه في المستدرك... قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا يقبل الله
صلاة جارية قد حاضت حتى تختمر، ولا تقبل صلاة من امرأة حتى تواري أذنيها
ونحرها في الصلاة (2).
والرابع: خبر الفضيل المتقدم... صلت فاطمة عليها السلام... ليس عليها أكثر
مما وارت به شعرها وأذنيها (3).
بناء على ورودها مقام التحديد، لا الحكاية عن الفقر، حيث إنها عليها السلام صلت
بادية الوجه، فيلزمه ظهور باطن الفم والسن عند القراءة.
وأما الجهة الثانية:
فبعد اتضاح عدم التلازم بين البابين، كما أشير إليه، فإن حكم هناك بوجوب
الستر لا يمكن أن يتعدى منه إلى هنا، إلا أن يكون مصحوبا للدليل، وأقصى
ما استدل هناك للزوم ستر الشعر الموصول أمران: أحدهما إطلاق النصوص الناهية
عن النظر إلى الشعر الشامل للأصيل وغيره، فيلزمه وجوب التستر أيضا، لما مر من
بعض القواعد العامة أو لدليل خاص، والآخر استصحاب حكم ما لو كان متصلا
بمنبته. ومن المعلوم: عدم تأتيهما هنا.
أما الأول: فعلى تسليم شمول الشعر للأصيل والموصول معا، فليس في الباب

(1) الوسائل باب 35 من أبواب لباس المصلي ح 6.
(2) المستدرك ج 1 ص 204.
(3) الوسائل باب 28 من أبواب لباس المصلي ح 1.
126

ما يدل على لزوم ستر الشعر في الصلاة حتى يؤخذ باطلاقه.
وأما الثاني: فلأن الحكم المستصحب إنما هو وجوب الستر على مرأة كان هذا
من شعر رأسها لا على مرأة أخرى وصلته إلى شعر رأسها، فمعه لا مجال للاستصحاب
ضرورة.
نعم: يمكن التمسك بخبر " الفضيل " المتقدم، بناء على وروده مقام التحديد
والاجزاء، وبناء على شمول الشعر للأصيل والموصول. وقد مر النقاش في هاتين
المقدمتين.
ولا مجال لتوهم دلالة أخبار الخمار والمقنعة وتغطية الرأس على ذلك،
إذ المستفاد منها لزوم استتار الشعر الأصيل المتعارف ستره بالخمار ونحوه، وأما
الموصول الخارج عن امتداده للزينة ونحوها فلا. والغرض عدم التلازم العرفي
بين وضع الخمار على الرأس، وبين استتار الشعر الموصول، نعم: يكون بينه وبين
استتار الشعر الأصيل تلازم عرفي، فتبصر.
مسألة 5 - إذا كان هناك ناظر ينظر بريبة إلى وجهها أو
كفيها أو قدميها يجب عليها سترها، لكن لا من حيث الصلاة،
فإن أثمت ولم تسترها لم تبطل الصلاة، وكذا بالنسبة إلى
حليها وما على وجهها من الزينة، وكذا بالنسبة إلى الشعر الموصول
والقرامل في صورة حرمة النظر إليها.
لا اشكال في وجوب ستر القدمين إذا كان هناك عرضة للنظر بريبة أو غيرها،
كما أنه قد مر وجوب ستر الوجه والكفين إذا كان هناك عرضة للنظر بريبة، ولكن
127

لما لم يكن لهذا الأمر مساس إلى متن الصلاة ذاتا وقيدا وتقييدا، بل هو أجنبي
عنها رأسا، فلو أثمت ولم تسترها حال الصلاة مع أن هناك ناظرا بريبة في الأولين
أو مطلقا في الأخير، لا تبطل صلاتها، لعدم انحدار النهي نحو الصلاة، حتى لا يكون
المبعد مقربا فتبطل، بل منحدر إلى شئ خارج عنها، نظير ما لو صلى الرجل مستمعا
للغيبة أو ناظرا للمحرم ونحو ذلك، مع ما في البطلان عند اجتماع الأمر والنهي
من النقاش في الجملة.
والحاصل: أن كشف الوجه حينئذ ليس على وزان الصلاة في المغصوب،
لاتحاد المحرم مع ما هو جزء لها، بل المحرم هنا أمر وراءها بلا مساس، عدا
المساس الظرفي الذي لا اعتداد به أصلا، وهو كون الصلاة مجرد ظرف للمنهي عنه
وتفصيله في محله.
مسألة 6 - يجب على المرأة ستر رقبتها حال الصلاة، وكذا
تحت ذقنها، حتى المقدار الذي يرى منه عند اختمارها على
الأحوط.
أما الرقبة: فلا ريب في لزوم سترها، لأن الخمار وكذا المقنعة ونحوها
يسترها على الجرى العادي، وبه أو بها أمر في النصوص المارة، فيجب سترها - ومنه
استظهر سالفا لزوم ستر الشعر الأصيل المنسدل إلى مؤخر العنق أو أزيد - فالعنق
يكون مستورا بالخمار ونحوه لا محالة. ويشعر به أو يدل عليه ما مر نقله من
" المستدرك " لأن الأمر بستر النحر إنما هو لتحفظه بعد الفراغ عن ستر العنق، لعدم
احتياج ذلك إلى التصريح.
وإنما الكلام في الذقن، وهو على جزئين: أحدهما ما يستره الخمار على
128

العادة، والآخر وهو ما يكون قريبا إلى الذقن نفسه مما لا يستره الخمار عليها.
أما الجزء الأول: فلا خفاء في وجوب ستره - كما في المتن - إذ الأوامر
المارة منحدرة نحو لبس الخمار أو المقنعة على العادة الساترة له، فتأمل.
وأما الجزء الأخير: فلا يجب ستره، إذ بعد الفراغ عن عدم استتاره بالخمار
المتعارف وبعد الاذعان بفقد العموم الدال على وجوب ستر جميع البدن عدا
ما يستثنى، فلا مجال للترديد، فضلا عن الاحتياط الوجوبي.
بل الترديد - إن كان له موقع هنا - فإنما هو في الجزء الأول، لأن ذاك
الجزء من تحت الذقن البعيد منه والقريب من النحر وإن كان مستورا عند الاختمار
إلا أنه عند التكلم والقراءة ونحو ذلك مما يوجب تحرك الفك والذقن يبدو شيئا
فشيئا حتى ينكشف بتمامه عادة. نعم: يبقى النحر بحاله.
ويدل على عدم لزوم ستر ما فوق النحر من تحت الذقن ما تقدم من معتبرة
" المستدرك " المحددة بالنحر. لا غير.
فالأقوى: عدم وجوب ستر ما لا يستره الخمار عادة، أي الجزء الأخير.
وأما الجزء الأول المستور عند الاختمار ففيه تردد. ولا يستوحش من الاجماع
على استثناء خصوص الوجه دون ما تحت الذقن أيضا، لأن المراد من الوجه ليس
ما هو المحدد في الوضوء كما مر، بل ما يواجهه الإنسان على المعنى العرفي،
ومن المعلوم جدا: أنه أوسع من حد الوضوء، فلعل مراد المجمعين هو ذلك
أيضا، فلا مخالفة له.
129

مسألة 7 - الأمة كالحرة في جميع ما ذكر من المستثنى
والمستثنى منه ولكن لا يجب عليها ستر رأسها ولا شعرها ولا عنقها،
من غير فرق بين أقسامها: من القنة والمدبرة والمكاتبة
والمستولدة، وأما المبعضة فكالحرة مطلقا.
إن البحث عن حكم الأمة وإن لم يكن مطلوبا لنفسه لعدم الابتلاء به، إلا أنه لاشتماله على ماله مساس نافع بالمقام - كما نشير إليه - يلزم التعرض له،
فنقول: إن مقتضى الاطلاقات الأولية هو استواء الأمة والحرة في الحكم، سواء
كان هو الستر عن الناظر أو الستر الصلاتي، ولكن الأدلة الخاصة أوجبت ميزها
عن الحرة في ذينك الحكمين، فبعد اتضاح الامتياز وأنه لا يجب عليها الستر عن
الناظر يتجه ما مر من حكم النساء الذمية وأنهن كالمماليك، إذ ما لم يتضح
حكم المملوكة لا يتبين حكم ما نزلت منزلتها، فحينئذ يلزم التنبه لما هو
المستفاد من الأدلة في بابي الستر النفسي والصلاتي حتى يتم ما ادعيناه سابقا:
من كون الذمية بمنزلة الأمة وأنها لا حكم لها من حيث الستر في خصوص ما
قام الدليل عليه.
فمن تلك الأدلة الخاصة ما تقدم من رواية يونس أنه سأل أبا عبد الله عليه السلام
عن الرجل يصلي في ثوب واحد؟ قال: نعم قال: قلت: فالمرأة؟ قال: لا،
ولا يصلح للحرة إذا حاضت إلا الخمار، إلا أن لا تجده. (1)
لأن قوله " فالمرأة " شاملة للحرة والأمة، فيدل على عدم اكتفاء المرأة

(1) الوسائل باب 28 من أبواب لباس المصلي ح 4.
130

بثوب واحد كما يكتفي به الرجل، على ما مر.
وأما قوله عليه السلام " للحرة " فهو تفضل بالميز بينها وبين الأمة، وكذا بالميز
بين البالغة وغيرها، بلزوم الخمار على الحرة البالغة فقط، لكونه في مقام التحديد،
فيؤخذ بمفهومه الدال على عدم لزوم الخمار على الأمة مطلقا، ولا على الحرة
غير البالغة، فيدل على جواز انكشاف ما كان الخمار ساترا له بالجري العادي:
من الرأس، والشعر، والرقبة.
ومنها: ما رواه عن عبد الرحمن بن الحجاج، عن أبي الحسن عليه السلام، قال: ليس
على الإماء أن يتقنعن في الصلاة، ولا ينبغي للمرأة أن تصلي إلا في ثوبين (1).
لظهورها في نفي وجوب التقنع - أي التستر بالقناع - لأنه المراد هنا،
لا ما مر في غيره، والفارق هو الشاهد في كل موضع بحسبه، فارتقب.
ومنها: ما رواه عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت: الأمة تغطي
رأسها إذا صلت؟ فقال: ليس على الأمة قناع. (2)
والتأمل في فقراتها المروية في (باب 22 و 28 من أبواب لباس المصلي)
هاد بأن نطاقها حكم الزامي، فتدل هنا على نفي الالزام بالنسبة إلى القناع،
فلا يلزم ستر ما كان يستره القناع عادة.
إلى غير ذلك من النصوص النافية لما يستر الرأس والرقبة عن الأمة حال
الصلاة بالخصوص.
ومنها: ما رواه عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام، أنه قال: على الصبي إذا احتلم
الصيام وعلى الجارية إذا حاضت الصيام والخمار، إلا أن تكون مملوكة فإنه ليس
عليها خمار، إلا أن تحب أن تختمر، وعليها الصيام (3).
إن المستفاد منها ليس هو خصوص الستر الصلاتي، إذ لا تعرض له أصلا، بل
المهم هو الستر النفسي المعبر عنه بالنسبة إلى الرأس ونحوه بالخمار، فتدل بالاطلاق

(1) الوسائل باب 28 من أبواب لباس المصلي ح 10.
(2) الوسائل باب 29 من أبواب لباس المصلي ح 1 و 3.
(3) الوسائل باب 29 من أبواب لباس المصلي ح 1 و 3.
131

على عدم لزوم الستر على غير البالغة وعلى لزومه على البالغة إلا الأمة، فإنها
لا خمار عليها في الصلاة ولا في غيرها، فيجوز لها إبداء الرأس والشعر والرقبة لغير
المحارم، وإنها كالجارية التي لم تحض.
ومنها: ما رواه عن أبي خالد القماط قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الأمة
أتقنع رأسها؟ قال: إن شاءت فعلت وإن شاءت لم تفعل، سمعت أبي يقول: كن
يضربن، فيقال لهن: لا تشبهن بالحراير (1).
وظاهرها أيضا نفي لزوم ستر الرأس بالقناع مطلقا، من دون الاختصاص
بحال الصلاة وإن ذكرت في كتاب الصلاة، كما أنه ظاهر الاطلاق الشامل بجميع
أقسام الأمة: من أم الولد، وغيرها.
ومنها: ما رواه عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قلت له: الأمة
تغطي رأسها؟ قال: لا، ولا على أم الولد أن تغطي رأسها إذا لم يكن لها ولد (2)
وظاهرها من حيث الاطلاق الشامل للصلاة وغيرها هو كما مر، فتدل
على عدم لزوم الستر النفسي بالنسبة إلى الرأس ونحوه من الشعر والرقبة، وفيها
تفضل بالتفصيل، بين أم الولد التي يكون لها ولد بالفعل، وبين التي لا يكون
بل كان لها ولد ومات مثلا، بلزوم الستر على الأولى دون الثانية مطلقا - أي
في الصلاة وغيرها - إذ لا تعرض فيها للصلاة حتى يختص الحكم بالستر الصلاتي،
بل يعمه والستر النفسي معا.
ولعل هذا الميز باعتبار استلزام عدم القناع على أم الولد محذور العار
على ولدها، لأن انكشاف الرأس كان أمارة على المملوكية وأنها ليست بحرة،
فيستلزم ذلك عارا على الولد، فحكم بلزومه ما دام لها ولد، فيقيد به ما دل
بالاطلاق على عدم الخمار وكذا القناع على الأمة.
ومنها: ما رواه عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: ليس على الأمة

(1) الوسائل باب 29 من أبواب لباس المصلي ح 11 و 4.
(2) الوسائل باب 29 من أبواب لباس المصلي ح 11 و 4.
132

قناع في الصلاة، ولا على المدبرة قناع في الصلاة، ولا على المكاتبة إذا اشترط عليها
مولاها قناع في الصلاة، وهي مملوكة حتى تؤدي جميع مكاتبتها ويجري عليها
ما يجري على المملوك في الحدود كلها، قال: وسألته عن الأمة إذا ولدت عليها
الخمار؟ قال: لو كان عليها لكان عليها إذا هي حاضت، وليس عليها التقنع
في
الصلاة. (1)
وظاهرها نفي لزوم القناع على هؤلاء الإماء، ولكن في خصوص الصلاة،
وكذا في أم الولد سواء كان لها ولد، أو لا، لاطلاق قوله: " إذا ولدت " مع
عدم الاستفصال، فيدل على أنها كغيرها من الإماء في الصلاة، فيقع التعارض
بينها وبين ما مر من التفصيل: بين التي كان لها ولد وهو باق بالفعل، وبين التي
لا يكون لها ولد بالفعل، فلا بد من العلاج.
قد كان يختلج بالبال في بادي النظر الجمع بحمل الوجوب على الستر النفسي،
وحمل عدم الوجوب علي الستر الصلاتي، وبيانه: بأن النسبة بينها وبين رواية
" محمد بن مسلم " هي العموم من وجه، لأن تلك مطلقة من حيث الصلاة وغيرها
مع اختصاصها بالتي يكون لها ولد بالفعل، وهذه مطلقة من حيث فعلية الولد
وعدمها مع اختصاصها بالصلاة، فمورد التعارض واجتماع القيدين هي التي لها ولد
بالفعل وأرادت الصلاة، فمقتضى إطلاق تلك الرواية يجب القناع، ومقتضى إطلاق
هذه الرواية لا يجب، وحملها على الندب غير خال عن الاعتساف.
فيحمل المثبت على خصوص الستر النفسي، وأما النافي فعلى حاله من الاختصاص
بالصلاة، ويساعده الاعتبار المار، لأن انكشاف الرأس بعدم الخمار وإن كان أمارة
على المملوكية المستلزمة للعار على الولد، ولكن ذلك بالنسبة إلى الستر النفسي،
دون الستر الصلاتي، لتحققها غالبا في البيت لا الخارج عنه، وهذا بخلاف المشي
في السوق والشارع مكشوفة الرأس.

(1) الوسائل باب 29 من أبواب لباس المصلي ح 7.
133

ويشهد لهذا الوجه من العلاج ما رواه عن محمد بن إسماعيل بن بزيع قال:
سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام عن أمهات الأولاد لها أن تكشف رأسها بين يدي الرجال؟
قال: تقنع (1).
والمتيقن من اطلاقها، هو ما إذا كان الولد باقيا، بمعنى أنه لا ريب في اندراج
هذا القسم تحت الاطلاق، فيدل على لزوم الستر النفسي على أم الولد مطلقا، فلو
خرج بعض أقسامها بدليل منفصل مثلا فلا ضير.
والغرض الاستشهاد بها لهذا العلاج، ولا استيحاش من مخالفة الاجماع
المحتمل استناده إلى نصوص الباب والجمع بينها.
ولكن الذي يقتضيه النظر المستأنف، هو العلاج المشار إليه في ثنايا البحث:
من حمل المثبت على الندب، وبيانه: بأن النسبة ليست هي العموم من وجه، لأن
صدر هذه الرواية وإن اختص بالصلاة، إلا أن الذيل غير موثوق الارتباط به، إذ
فيه - أي في الذيل - بعد قوله: في الحدود كلها " قال: وسألته " أي قال محمد بن مسلم
سألت أبا جعفر عليه السلام، وظاهره الانفصال عن الصدر المسموع، ولا شاهد على اتحاد
مجلسي السماع والسؤال، لاحتمال كون الثاني في مجلس آخر، فهما روايتان
لا رواية واحدة، فحينئذ لا يصير قوله " عن الأمة إذا ولدت عليها الخمار.. الخ "
مخصوصا بالصلاة، بل السؤال مطلق وكذا الجواب.
وأما قوله عليه السلام بعد ذلك " وليس عليها التقنع في الصلاة " فهو تفضل فيه
تسجيلا لتساوي الصلاة وغيرها في عدم لزوم الستر، فتدل بالاطلاق على عدم لزومه
في الصلاة وغيرها وفي التي لها ولد بالفعل أو مات.
ومما يشهد على أن الذيل رواية مستقلة، أنه نقلها في (باب 114 من أبواب
مقدمات النكاح) بدون هذا الذيل بلا إشارة إلى أن لها ذيلا كما هو دأبه (ره) فيما
كان هناك ذيل ليشير إليه.

(1) الوسائل باب 114 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه ح 1.
134

ومن الشواهد أيضا أنه نقلها " الكليني " بدون الذيل، وكذا نقلها " الصدوق "
نفسه الذي رواها هنا مذيلة بهذا الذيل في " العلل " بدونه، فيوثق بأن الذيل رواية
بحيالها، ولاغرو في نقلهما معا في موضع واحد، وكم له من نظير، كما في أسئلة
" علي بن جعفر " ولا قدح فيه بعد تكراره لفظة (قال) وتغيير مسير الحديث الكاشف
عنه كما أشير إليه.
فحينئذ يقوى في النظر الحمل على الندب، لإباء قوله عليه السلام: " لو كان عليها
لكان عليها إذا هي حاضت " الحمل على غيره، لقوة ظهوره في نفي الوجوب، فمعه
لا مجال لتوهم تقييد اطلاقها بالتفصيل المار بين وجود الولد فعلا وعدمه، ولعل
هذا هو السر في ذهاب الأصحاب (ره) طرا إلى عدم الميز بين الصلاة وغيرها وبين
فعلية الولد وعدمها، فحكموا بعدم وجوب ستر ما يستره الخمار عادة مطلقا.
وأما المبعضة: فظاهر الأصحاب (ره) التسالم على أنها والحرة سواء، ويمكن
الاستدلال لهذا التساوي بأمور:
الأول: ما مر من النصوص العامة الشاملة لجميع أصناف المرأة، بلا دخالة
لأية خصوصية صنفية، كالرومية، والزنجية، ونحو ذلك، ومن هذا القبيل
الرقية المطلقة والمبعضة، ولكن خرج خصوص الأولى، لأنها المنساقة من أدلة
خروج الأمة، فالباقي داخل تحت العمومات.
والثاني: ما رواه عن حمزة بن حمران، عن أحدهما عليهما السلام، قال: سألته عن
الرجل أعتق نصف جاريته، إلى أن قال: فتغطي رأسها منه حين أعتق نصفها؟
قال: نعم، وتصلي هي مخمرة الرأس (1).
وظاهرها عدم خصوصية النصف، بل غيره من الكسور التي هي دونه
مندرجة تحت الحكم بالقاء الخصوصية، كما أن منها يستفاد أيضا أن المراد من
الحرة - الواقعة في رواية يونس المتقدمة - هو الأعم من المبعضة، جمعا بين الدليلين،

(1) الوسائل باب 28 من أبواب لباس المصلي ح 12.
135

فلا ينافي ما ذكر مفهوم تحديد تلك الرواية.
والثالث: ما رواه عن محمد بن مسلم، وقد تقدم نقله، إذ فيه... ولا على
المكاتبة إذا اشترط عليها مولاها قناع في الصلاة... الخ (1).
حيث إن مفهوم هذا الحد، هو أن الأمة التي تصير حرة بمقدار ما أدته إلى
مولاها - بلا توقف على تأدية جميع المكاتبة - يجب عليها القناع.
وبالجملة: أن استواء المبعضة والحرة متسالم عليه فتوى، ويعضده ما مر
من النصوص، فلا نطيل.
ولو أعتقت في أثناء الصلاة وعلمت به ولم يتخلل بين عتقها
وستر رأسها زمان صحت صلاتها، بل وإن تخلل زمان إذا
بادرت إلى ستر رأسها للباقي من صلاتها بلا فعل مناف، وأما
إذا تركت سترها حينئذ بطلت، وكذا إذا لم يتمكن من الستر إلا
بفعل المنافي ولكن الأحوط الاتمام ثم الإعادة، نعم لو لم تعلم
بالعتق حتى فرغت صحت صلاتها على الأقوى، بل وكذا لو علمت
لكن لم يكن عندها ساتر أو كان الوقت ضيقا، وأما إذا علمت عتقها
لكن كانت جاهلة بالحكم وهو وجوب الستر فالأحوط إعادتها
إن البحث عن تبعض الحالة الصلاتية باعتبار حالتي المصلي: من الرقية
والعتق ومن الصغر والبلوغ، أمر هام لا بد من الغور فيه، ولو باعتبار القسم
الثاني منه.

(1) الوسائل باب 29 من أبواب لباس المصلي ح 7.
136

ثم إن الصور المذكورة في المتن - من حيث العلم بالموضوع تارة والجهل
به أخرى، ومن حيث التمكن من الستر تارة ومن حيث عدمه أخرى، ومن حيث
لزوم البدار وعدم المنافي وغيره - متضحة المفاد.
وأما تصوير قوله: " ولم يتخلل بين عتقها وستر رأسها زمان " فكأن تكون
قد استترت عند الشروع في الصلاة - إذ لا ريب في جوازه - أو في الأثناء قبل العتق،
أو آنا ما قبله، بأن كان زمان تمامية انشاء العتق مثلا مقارنا للاستتار بلا تخلل العدم
الزماني بينهما أصلا.
والذي ينبغي أن يقال: هو أن الستر المجعول شرطا في الصلاة يحتمل فيه أمور
ثلاثة، لأنه إن كان ساذجا وغير قابل للتبعيض، ففيه احتمالان: أحدهما لزومه
في مثل المقام من الأول إلى الآخر، وثانيهما عدم لزومه كذلك.
وأما إن كان صالحا للتبعيض ففيه يحتمل التفصيل بأن لا يجب بلحاظ زمن
الرقية ويجب بلحاظ زمن الحرية.
فالمحصل من الاحتمالات ثلاث: لزوم الستر كلا، وعدمه كذلك، والتفصيل
بين زماني الوصفين.
فعلى الثالث: يتأتي ما صوره في المتن، وأما على الأولين فلا بد من إثبات
صلوحه للتجزي والتبعيض أولا، ثم تعقيبه بتلك الصور ثانيا.
وأما لو فرض كون هذا الشرط على وزان شرطية الطهارة في الصلاة وحكم
بعدم صلوحها للتبعيض بوجودها في بعض حالات الصلاة دون بعضها الآخر فلا مجال
لها، وتمام القول في ذلك موكول إلى البحث عن الذهول وغيره مما يوجب عدم
تحقق الستر في بعض الحالات، فانتظر.
والتحقيق: أن نطاق أدلة شرطية الستر للصلاة ليس أزيد من اعتباره
مصاحبا لجميع حالات الصلاة، بلا تعرض للتبعض باعتبار تلك الحالات، وأما
العمومات الشاملة لجميع أصناف النساء اللواتي منهن الأمة المعتقة في الأثناء
137

فلا ضير في شمولها إياها، ولكن يلزمه وجوب الستر من الابتداء.
وظهور الثمرة فيمن تعلم بعتقها في الأثناء، فيجب عليها أن تستر رأسها عند
الشروع في الصلاة، وهذا القول مما لم ينقل عن أحد، لا من باب الاتفاق على عدمه
بل من باب عدم التعرض.
وقياس المقام بمن لم يكن واجدا للساتر ابتداء ثم وجده في الأثناء - حيث
يفصل هناك بين حالتي الوجدان وعدمه - مع الفارق، لأن هناك قد أحرز المقتضي
للتكليف إلا أنه للاضطرار معذور، وأما هنا فأصل الاقتضاء مشكوك فيه، فمع
احتمال عدمه لا مجال للتبعيض أصلا.
فلا يستفاد من أدلة الباب شئ يركن إليه. وعند انتهاء الأمر إلى الشك
يحكم بانتفاء شرطيته حينئذ، فلا يجب عليها الستر في الأثناء وإن أعتقت فيها.
ولكن المرجع هنا بخصوصه هو (قاعدة لا تعاد) المقدمة على الأصل، وحيث
إن تمامية الاستدلال بها في مثل المقام رهينة لاهداء مقدمتين فلنهدهما أولا،
حتى يتضح في ضوئهما المقصود ثانيا، فنقول:
أما المقدمة الأولى: فإنه لا اختصاص لجريان هذه القاعدة بما بعد الفراغ،
زعما بأن الإعادة إنما هي بعد العمل دون الاستئناف من الأثناء، لفساد هذا الزعم
باستعمالها في كلا الموردين، كما لا يخفي على من تتبع مواردها، نحو ما ورد في
بعض أبواب الحج، ونحو صحيحة ثانية ل‍ " زرارة " الواردة في الاستصحاب، حيث إنه
استعمل فيها الإعادة في مورد الاستئناف، فلا نقاش في شمولها للأثناء نحو شمولها
لبعد الفراغ.
وأما المقدمة الثانية: فهل يجدي إعمالها في الأثناء نفعا بالقياس إلى الأجزاء
القادمة أم لا؟ بيانه: بأنه إذا فرض لزوم أمر في الصلاة مستمرا معها وترك ذاك
الأمر في بعض أجزائها سهوا أو نحوه مما يندرج تحت القاعدة، ثم تذكر في
الأثناء، وكان ذاك الأمر مما لا يمكن تحصيله حينئذ أصلا أو يحتاج إلى زمان
138

قليل أو كثير، فهل يمكن تصحيح الأجزاء اللاحقة من الصلاة بإعمال تلك القاعدة
بعد مفروغية تصحيحها للأجزاء السابقة أم لا؟
وإذا تمهدت لك هاتان المقدمتان، فنقول: أما الفرع الأول الذي لم
يتخلل فيه بين العتق والستر زمان أصلا فتصحيحه بوجهين:
أحدهما: أن يتبعض الستر بلحاظ زماني الرقية والعتق بعدم الوجوب
في الأول مع الوجوب في الثاني، وحيث إنه في الفرض لم يتخلل الزمان بين
وجوب الستر وامتثاله يحكم بالصحة، وإن كان قد سبق بعض الأجزاء بلا ستر،
كما إذا صلت ركعة بلا ستر ثم اتفق الستر ثم تعقبه العتق، فما لم يتحقق فيه
الستر لم يكن هناك واجبا، وما كان واجبا فيه فلم يتخلف هناك.
والوجه الآخر: أن يكون حكم الأمة التي تعتق أثناء الصلاة حكم الحرة
واقعا من وجوب الستر عليها في جميع عمود الصلاة وأمدها بدوا وختما، بحيث لو
علمت بطريان العتق في الأثناء لوجوب عليها الستر من الابتداء، ويمكن تقويته
بما أشير إليه: من أن العمومات شاملة لجميع أصناف النساء اللاتي منهن الأمة
التي تعتق في الأثناء، ولم يخرج منها إلا الأمة المحضة التي لا تتبدل حالتها من
الرقية إلى الحرية في الأثناء، لأن المنساق من لفظة الأمة في النصوص المخصصة
هي التي لا تتبدل حالها، فحينئذ تكون الأمة المبحوث عن حكمها مع الحرة
سواء، فيجب عليها الستر واقعا.
نعم: لما كانت عالمة بالعدم للجري العادي أو شاكة فيه ولكن بنت على
البقاء على الرقية إلى انتهاء الصلاة، نظير غيره من الأصول العقلائية الدارجة البنائية،
فهي معذورة في ترك الستر، فعند استبانة الخلاف يمكن تصحيح الأجزاء المارة
الفاقدة للشرط بقاعدة (لا تعاد) أداء لحق المقدمة الأولى الدالة على جريانها في
الأثناء أيضا، وأما الأجزاء اللاحقة الواجدة له فلا كلام فيها، فعليه يحكم
بصحة الصلاة.
139

ولا غرو في هذا الوجه، لأنا وإن لم نجد من تعرض لهذا الحكم - أي
وجوب الستر على مثل هذه الأمة واقعا - إلا أنه غير ضار، إذ لا استيحاش إلا من
الاجماع على الخلاف، لا من عدم التعرض، وكلام الأصحاب في الفرع المبحوث
عنه هو كالمتن من الحكم بصحة الصلاة، وأما التحليل الذي أهديناه إليك فلا،
فيحتمل أن يكون نظر بعضهم إلى ما أدى إليه نظرنا. وكيف كان: لا احتياج في
هذا الفرع إلى المقدمة الثانية.
وأما الفرع الثاني - الذي تخلل فيه بين العتق والستر زمان مع البدار إلى
الستر بلا فعل مناف - فتصحيحه على الوجه الأول: بأن الستر لم يكن واجبا قبل
طرو العتق، فلا ضير في فقده بالنسبة إلى الأجزاء السابقة عليه من الصلاة، وأما
بعده وإن صار واجبا وتخلل بين الوجوب والامتثال زمان قليل، ولكن لا ضير
فيه أيضا بقاعدة (لا تعاد) لأن ظهورها الأولي هو نفي الإعادة مطلقا عند فقدما يوجب
تخلفه البطلان والإعادة حسب دليل اعتباره من الشرطية وغيرها، بلا اختصاص
بالسهو ونحوه، إذ لا لفظ لتلك الصحيحة الكافلة للقاعدة يدل عليه. نعم: يمكن
دعوى الانصراف عن صورة العمد والاختيار المحض، وأما في مثل الفرض الذي
يضطر إلى الكشف في زمن السلوك إلى الامتثال والتطرق إليه فلا انصراف، فحينئذ
تدل القاعدة على نفي الإعادة لأجل تخلف الستر في هذا العمود من الزمان، بناء
على المقدمة الأولى - كما مر - بلا احتياج إلى الثانية هنا أيضا.
وأما على الوجه الآخر: فبأن الستر وإن كان واجبا من البدو، إلا أنها
تركته معذورة، للعلم بعدم تخلل العتق في الأثناء، أو للأصل العقلائي، فيمكن
تصحيح تلك الأجزاء السابقة الفاقدة للشرط بهذه القاعدة للمقدمة الأولى.
وأما التصحيح بلحاظ الزمن المتخلل بين العتق والستر فعلى ذمة المقدمة
الثانية، فإن تم نصابها يحكم بصحة الصلاة هنا وإن لم تجر القاعدة نفسها بالنسبة إلى
الترك العمدي المتخلل بين العتق والستر، حيث إنه يكتفى بمجرد إعمالها لتصحيح
140

السابقة من الأجزاء المستلزم لتصحيح اللاحقة منها أيضا.
وإن لم يتم نصابها مع عدم جريانها بنفسها لتصحيح الترك العمدي وإن
كان للاضطرار بلحاظ خصوص الصلاة التي تشتغل بها لا مطلقا، فلا مجال للصحة
حينئذ، كما أنه لا مجال لها أيضا على الوجه الأول بناء على ما أشير إليه الآن من
عدم جريانها للترك العمدي الكذائي.
ولهذا الفرع نظير لا يخلو الإشارة إليه وإلى ما ابتلى به بعض المعاصرين
من جدوى، وهو أنه لا إشكال في الترتيب بين العشائين كالظهرين في الجملة، فلو
أتى بالعشاء قبل المغرب وتذكر بعد الفراغ حكم " الماتن " هناك بالصحة، وكذا
إذا تذكر في الأثناء وعدل إلى المغرب حيث كان للعدول مجال، وأما إذا لم يكن،
كما إذا دخل في ركوع الركعة الرابعة، فقد احتاط الماتن (ره) بالاتمام عشاء
ثم إعادتها بعد الاتيان بالمغرب.
والكلام حينئذ في أنه بعد قبول جريان القاعدة في الأثناء، هل يجدي
بالنسبة إلى الأجزاء اللاحقة أم لا؟ حيث إن العشاء بتمامه يلزم أن يكون متأخرا
عن المغرب، فعند تخلف شرط الترتيب سهوا مع التذكر في الأثناء يمكن
تصحيح الركعات السابقة عشاء بهذه القاعدة، وأما الركعة الواقعة بعد التذكر
فإنما تخلف شرط الترتيب فيه عن علم مع عدم إمكان تحصيله، وإن يتصور له
وجه بنحو وقوع الصلاة في الصلاة.
فإن تم نصاب المقدمة الثانية يحكم بصحة الركعة الرابعة أيضا هناك، كما
يحكم بالصحة بالنسبة إلى ترك الستر عن علم في زمن التطرق إلى الامتثال هيهنا، فمن
اختار في تلك المسألة الصحة فعليه اختيارها هنا. فما يترائى من بعض المعاصرين
من التمسك بالقاعدة هناك دون المقام غير مبين الوجه.
ومن هنا أيضا ينقدح ما في المتن من الحكم بالبطلان عند عدم التمكن من
الستر إلا بالفعل المنافي، إذ بناء على جريان القاعدة في الأثناء وشمولها للترك العمدي
141

إذا كان لعدم التمكن بدونه، فما الفرق بين زمن البدار وبين ما ذكر؟ بل يلزم القول
بالصحة وعدم لزوم تحصيل الستر بالنسبة إلى الأجزاء القادمة للاضطرار، فلا يجب
الستر عليها حينئذ حتى تبتلى بالمنافي، بل تصلي كما هي بلا ستر أصلا بالنسبة إلى
الرأس البتة، فوزان الزمن الكثير والقليل واحد.
ولكن هذا التعميم يستوعب فروعا يستوحش من الالتزام بها، ويستلزم
أحكاما لا يخلو الابتناء عليها من وحشة الانفراد.
فمنها: ما لو افتقد الستر بإطارة الريح العاصفة، أو بجر الطفل له لعبا منه
فنحاه بعيدا، أو غير ذلك مما يصير به الستر الواجب منتفيا بنحو لا يمكن تحصيله
إلا بالمنافي.
ومنها: ما لو صار البدن أو اللباس نجسا في الأثناء بما ليس معفوا عنه، كأن
أصابه يد الطفل الملوثة بالبول أو غير ذلك مما به يفتقد الشرط مع توقف تحصيله
على الفعل المنافي.
إلى غير ذلك من النظائر التي يتخلل فقد الشرط أو وجود المانع - الموجب كل
منهما لإعادة الصلاة - في أثنائها، فعند جريان (قاعدة لا تعاد) حينئذ يلزم الالتزام
بصحتها في جميع تلك الفروع المشار إلى بعضها.
ومنه يحدس: أن تفكيك الفرعين في المتن إنما هو للاتكال على الاجماع المدعى
في " الجواهر " على عدم الإعادة عند البدار إلى الامتثال وعدم تخلل الزمن المعتد به بين
العتق والستر، وحيث إنه لا إجماع في الفرع الآخر وهو الاحتياج إلى المنافي لتحصيله
حكم فيه بالبطلان، فتصحيح الفرع الأول بالاجماع المختص به، لا (قاعدة لا تعاد) حتى
يسئل عن الفرق بين الفرعين مع اشتراكهما فيها.
والحق الذي عليه يستقر آراء أبنائه ولا يستوحشون منه لقلة أهله، هوان
(قاعدة لا تعاد) بالغة على نصابها التام الشامل لجميع موارد الخلل التي توجب الإعادة
حسب أدلة اعتبارها، بلا اختصاص بحال دون حال.
142

نعم: إن الاخلال العمدي الاختياري خارج عنها، لانصراف اللفظ، وللزوم
لغوية جعل الحكم الوضعي، إذ يجوز ترك جميع الشرائط للصلاة عمدا واختيارا
من الابتداء، وهو كما تري.
نعم: لو قام النص الخاص أو الاجماع في مورد على الإعادة يحكم بها، وذلك
كله لعدم أخذ لفظ في لسان هذه القاعدة موجب لانصرافها إلى الحالات الخاصة،
فحينئذ لو اختل ما يوجب الإعادة أو الاستئناف لو خلي وطبعه يحكم بعدم تأثيره
في الإعادة، إلا الاخلال العمدي الاختياري، كما أشير إليه.
ولا يتوهم: أن صحيحة " زرارة " دالة على انتقاض الصلاة واستئنافها عند العلم
بنجاسة الثوب في الأثناء مع عدمه قبل ذلك، فلو لم يكن الخلل الكذائي موجبا
للبطلان لما حكم بالنقض والإعادة - أي الاستيناف -
لاندفاعه بأدنى تأمل في نطاقها، حيث قال: قلت له: أصاب ثوبي دم رعاف
أو شئ من مني، إلى أن قال: إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة؟ قال تنقض الصلاة
وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته، وإن لم تشك ثم رأيته رطبا قطعت
وغسلته ثم بنيت على الصلاة، لأنك لا تدري لعله شئ أوقع عليك، فليس ينبغي
أن تنقض اليقين بالشك أبدا (1).
حيث إن المراد من قوله: " تنقض الصلاة وتعيد... الخ " هو ما علم في
الاثنا تفصيلا بعد ما علم سابقا بالاجمال، بشهادة قوله عليه السلام: " إذا شككت في موضع
منه " لظهوره في أن إصابة النجاسة معلومة بالاجمال والشك إنما هو في موضعها لا فيها
نفسها، فحينئذ قد مضى بعض الصلاة مع النجاسة عالما، ولا إشكال في انتقاضها
بنفسها.
فلا دلالة لها على الإعادة عند حدوث العلم في الأثناء، بل هي إنما في تبدل العلم
الاجمالي بالتفصيلي، ولا مرية في البطلان حينئذ وإن لم يتبدل به، إذ المفروض هو

(1) الوسائل باب 44 من أبواب النجاسات ح 1.
143

مضي بعض الصلاة في النجس عن علم من الابتداء.
وكيف كان: لا إعادة في الفرعين مطلقا - أي الفرع الأول الذي بادرت فيه
إلى الامتثال وتخلل زمان غير معتد به بين العتق والستر، والفرع الأخير الذي لا تتمكن
فيه من الستر إلا بالفعل المنافي - لعدم لزوم الستر حينئذ، بل تتم صلاتها مكشوفة
الرأس.
نعم: لو تمكن منه ولم تستر عمدا فتبطل لخروجه عن القاعدة، ولا استيحاش
من الحكم بالصحة عند الاحتياج إلى الفعل المنافي، إذ لم يقم إجماع على الخلاف، لأنه
يستفاد من عبائر بعض الأصحاب التردد والبعض الآخر الميل إلى ما اخترناه، مع أنه
لو فرض الاجماع لاحتمل كونه من باب الاستنباط وكيفية الفهم، لا الكشف عن
التعبد القراح. ولأجل ما عرفت من أوج البحث إلى حضيضه الأوهد احتاط " الماتن "
بالاتمام ثم الإعادة بعد الحكم بالبطلان.
ومما مر يتضح حكم الزمن المتخلل بين العتق وبين العلم به - وإن لم يتعرض
له في المتن - لأن زمن الجهل بالموضوع أي العتق معفو عنه وغير موجب للإعادة،
لعموم القاعدة أو اطلاقها.
وأما لو لم تعلم بالعتق حتى فرغت، فلا إشكال في صحة صلاتها، لأنه المتيقن
من الاندراج تحت القاعدة، ولصحيحة علي بن جعفر (1).
ولعل سر تعبير المتن ب‍ (الأقوى) هو ما قد ينسب إلى الأصحاب من اختصاصها
بصورة السهو والنسيان، وأما الجهل فهو غير مندرج فيها، وهذا ممنوع صغرى
وكبرى.
وأما لو علمت بالعتق في الأثناء ولم يكن عندها ساتر أصلا، فصحة صلاتها

(1) رواها باب 27 رواية 1 (قد تقدم نقلها للزوم ستر العورة) إذ فيها... صلى
وفرجه خارج... الخ - ولا فرق بين العورة وغيرها مما يجب ستره، ورواها في محكي
المختلف بلفظة (يصلي) الشاملة للأثناء قطعا، وسيأتي بعض الكلام في اختلاف النقلين
وما لكل منهما من الأثر.
144

لأجل سقوط شرطية الستر عند الفقدان، وكذا لو كان هناك ساتر ولكن لا تتمكن
من تحصيل الستر لضيق الوقت لا لشئ آخر قد مر الكلام فيه، وذلك لتقدم مصلحة
الوقت على غيره من الستر، وكم له من نظير، إذ لا يتقدم على الوقت غيره من القيود.
نعم: لو أمكن تحصيل ركعة في الوقت فعلى شمول دليل التنزيل الدال على أن إدراكها كادراك الجميع لكان حكم هذا الفرع حكم سعة الوقت.
وأما إذا علمت بالعتق لكن كانت جاهلة بالحكم وهو وجوب الستر فاحتاط
" الماتن " بالإعادة. وحيث إن للجهل بالحكم صورا متفاوتة الأثر لا بد من الإشارة
إليها وإلى الميز بينها، وذلك لأن الجهل به، إما بسيط وإما مركب، وعلى
التقديرين: إما بالقصور أو التقصير، فالأقسام أربعة.
أما الجهل البسيط عن التقصير: فلا إشكال في لزوم الإعادة، لأنه ليس إلا شكا
في الحكم، فمع إمكان رفعه بالسؤال والتعلم يكون بحكم الترك العمدي وإلا لم
يجد تعلم الأحكام ورفع الجهل بها بالسؤال ونحوه - وهو كما ترى - فمن يحتمل
بطلان صلاته ومع ذلك يقدم على العمل فهو بمنزلة العامد، فحينئذ تنصرف القاعدة
عنه فتجب عليه الإعادة.
وأما الجهل البسيط عن القصور: فالظاهر اندراجه تحت القاعدة، إذ ليس في
وسعه رفع الشك، فبينه وبين العمد بون بعيد. ومنه يتضح الجهل المركب عن
قصور، كمن لم يأل جهدا في التعلم، بل بذل مجهوده في السؤال، ولكن قيل له
الحكم على خلاف الواقع، فلا نقص من ناحيته، فعليه يندرج تحت القاعدة.
نعم: الجهل المركب عن تقصير فلاندراجه تحتها نظر، بل الأقوى العدم،
لأنه بعد ما أمر الشرع بعدم التطرق بطريق خاصة معينة كالقياس فلم يمتثل العبد
وتطرقه وصار قاطعا بالخلاف، فهو وإن لا تكليف له حينئذ، لأنه بقطعه لا يرى
بينه وبين الواقع سترة وحجابا، إلا أنه قابل للعقاب عند ظهور السرائر وكشف
الحقائق، هذا بلحاظ العقاب. وأما الحكم الوضعي - أي الإعادة - فهو غير مندرج
145

تحت القاعدة، لإباء الفهم العرفي عنه.
نعم: لو قام دليل خاص على التفكيك بين العقاب وبين الحكم الوضعي لالتزم
به، كما في موردي القصر والاتمام، والجهر والاخفات - على التفصيل في محله -
حيث إن الجاهل المركب المقصر هناك يعاقب بلا إعادة، وأما في المقام فيشكل
اندراجه تحت القاعدة.
مسألة 8 - الصبية الغير البالغة حكمها حكم الأمة في عدم
وجوب ستر رأسها ورقبتها، بناء على المختار من صحة صلاتها
وشرعيتها. وإذا بلغت في أثناء الصلاة فحالها حال الأمة المعتقة
في الأثناء في وجوب المبادرة إلى الستر والبطلان مع عدمها إذا
كانت عالمة بالبلوغ
إن بين الصبية التي لم تبلغ وبين الأمة ميزا لا خفاء فيه، وهو أن العمومات
شاملة للأمة بجميع أصنافها التي منها المعتقة في الأثناء - كما مر - وأما الصبية
فلا، وذلك لأن المأخوذ في ألسنة تلك العمومات هو عنوان (المرأة) التي لا تنطبق
عليها، بل في شمولها للبالغة منها ما لم تصر كاملة - كالنساء المتعارفة - نظر.
نعم: لما وردت فيها أدلة خاصة دالة على لزوم التغطية عند الحيض الكاشف
عن البلوغ يحكم باستوائها حينئذ مع غيرها من النساء، فما أخذ من الدليل
عنوان (المرأة) في لسانه فهو غير شاملة لها، لأنها ليست بمرأة البتة، مع عدم
ورود دليل التنزيل الدال على أنها مرأة حتى يحكم على تلك العمومات بتوسعة
الموضوع. فالمهم هو ما ورد فيها بالخصوص - وقد مر نقل ذلك - فالأمة مشاركة
146

للحرة في الاندراج تحت العمومات الدالة على الدرع والخمار، إذ المأخوذ فيها
عنوان (المرأة) الصادقة عليهما على السواء، وقد خرجت الأمة المحضة منها بالنسبة
إلى خصوص الخمار، لأن ظاهر ما دل على عدم وجوب ستر الرأس على الأمة إنما
هو خصوص الأمة المحضة، لا المعتقة في الأثناء أيضا.
أما الصبية فلا مشاركة لها مع الكاملة أصلا، لا في الدرع، ولا في الخمار،
لانصراف العمومات عنها، إذ لفظة (المرأة) آبية الشمول لها.
وأما ما في المتن: من تصحيح ذلك بمشروعية العبادة حال الصبا دون
تمرينيتها، فبيانه موكول إلى ما أطنبنا القول فيه عند البحث عن صيام الصبي،
فلا نعيد.
وعصارته: أنه هل تكون عبادته تمرينية بحتة عارية عن الشرعية أوهى
مشروعة؟ وهل يفرق بين المعاملات والعبادات بالبطلان في الأولى والصحة في الثانية
أو يكون وزانهما واحدا؟
والذي يستدل هناك للبطلان هو ما ورد: من " دان عمده خطأ وقصده كلا قصد "
وكما أن التصرف المالي وغيره من الأمور المعاملية الصادرة عن النائم ونحوه
غير نافذ كذلك التصرف المالي ونحوه الصادر منه، فحينئذ تكون عبادته أيضا
غير شرعية لتقومها بالقصد المنتفي فيه.
وقد زيف هناك - بعد تسليم اتساع ذاك التنزيل - أن عمده خطأ، فإنما
هو بالنسبة إلى التصرف المالي في أمواله، وأما في غيره فلا، وذلك كالمحجور بالافلاس
ونحوه، ولذلك يشكل الحكم ببقاء ما احتطبه الصبي من الحطب على إباحته الأصلية
وجواز التصرف فيه لكل أحد، فحينئذ فما المانع من نفوذ العقد الصادر منه
لنكاح الغير؟ حيث إنه ليس تصرفا في ماله حتى يكون محجورا بالصبا، وكذا ما
المانع من شرعية عبادته المتقومة بالقصد المحقق منه؟ لعدم حجره عنه.
وأما توهم المنع بحديث " رفع القلم عنه حتى يحتلم " فمندفع بأنه لرفع
147

قلم الكلفة والعقاب، لا التشريع والعبادية والمحبوبية التي لا يساعد رفعها الامتنان
المنساق من الحديث، إلى غير ذلك مما يمكن التمسك به للتمرينية، مع قدحه
بما حققناه في كتاب الصوم.
وأما الذي يمكن أن يستدل به للمشروعية:
فمنه: ما هو الدراج بين المتأخرين: من أن ما يأتيه غير البالغ هو المهية
المعهودة التي أوجبها الله تعالى على البالغ، لا طبيعة أخرى مغايرة لها بالذات مشابهة
لها في الصورة كفريضة الصبح ونافلته.
نعم: أن الميز بينهما إنما هو في الحكم، لعدم وجوبها عليه وإن وجبت على
البالغ، وذلك لاندراجهما على السواء تحت ما دل على محبوبية تلك الطبيعة وكونها
" عمود الدين " وكونها " خير موضوع فمن شاء استقل ومن شاء استكثر " وكونها
" معراج المؤمن " وغير ذلك مما ورد في محبوبيتها بنفسها، نظير ما ورد: من " أن
الصوم جنة " ونحوه.
فعليه يكون الصبي والبالغ مشتركين فيها، فحينئذ يحكم عليه بما يحكم
على البالغ من الأجزاء والشرائط المستفادة من أدلة أخر، وإن اختلف الحكمان
في الوجه من اللزوم وغيره.
ويرد عليه أمران:
الأول: إن إطلاقات التشريع وإن تشمل الصبي كما ذكر، إلا أن التسوية
بينه وبين البالغ في الأجزاء والشرائط إنما هو فيما اشترك البالغون بأسرهم فيه
بلا اختلاف بينهم، وأما إذا تحزبوا صنفين يكون لكل منهما حكم خاص من
الجزء والشرط - بحيث ما يكون جزءا أو شرطا لأحدهما هو غير ما يكون كذلك
للآخر - فلا، لعدم تعين اشتراك الصبي مع أيهما في الأحكام الوضعية، وذلك
نظير انقسام المكلفين بالصلاة إلى قسمين: أحدهما الحاضر، والآخر المسافر، حيث
إن لكل منهما حكما وضعيا في صلاته يخصه، دون شقيقه.
148

والثاني: إن ذلك الاستواء إنما يتم فيما لو ذكر للفعل حكم وضعي مطلق
بلا خصوصية لأي فاعل من البالغين، بحيث انحدر ذاك الحكم نحو أصل الفعل ثم
أمر غير البالغ به، فإن العرف حينئذ يحكم بأن المستفاد من هذا الأمر هو إرادة
ذاك الفعل الواجد لماله من الحكم الوضعي، وذلك نحو ما ورد في الطهور: من
أنه لا صلاة إلا به، وكذا في فاتحة الكتاب الوارد فيها ذلك، وهكذا في الاستقبال
الذي أمر له بتولية الوجوه شطر المسجد الحرام، ونحو ذلك من الأمور العامة.
وأما في مثل الستر الذي لم يرد فيه شئ من ذلك - بل أخذ في لسان أدلته
ما يقصر عن الشمول لغير الرجل والمرأة من الصبي والصبية - فلا. مع عدم استواء
البالغين بأسرهم فيه - كما أشير إليه - لامتياز الأمة عن الحرة في ستر الرأس،
فمن أين يعلم بالاستواء؟
فتحصل: أن مشروعية عبادة الصبي أمر، واشتراك عبادته مع عبادة غيره
من البالغين في الأمور الوضعية أمر آخر، لدوران ذلك مدار لسان أدلة تلك
الأمور.
ومنه - أي من الذي يمكن أن يتمسك به للمشروعية عدى الاطلاقات
الأولية الدالة على أصل المحبوبية - هو ما ظاهره الوجوب والالزام، فكل دليل
ظاهره وجوب عبادة خاصة يمكن أن يستفاد منه بانضمام غيره من الأدلة استحبابه
للصبي، فحينئذ يصير مشروعا مثابا عليه. وبيانه - بنحو لا يلزم منه الاستعمال في
أكثر من معنى الذي تحاشى منه في " الجواهر " ومنع دعوى اتحاد المكلف به مع
اختلاف وصفي الوجوب والندب بل ادعى لزوم تعدد المسبب عند تعدد السبب
ولذا لا يجزي ما أتاه قبل البلوغ في الوقت عما يجب عليه مع بقاء الوقت، لأنهما
أمران ليس أحدهما بمجز عن الآخر -
وبنحو لا يقاس على باب الحج المنصوص فيه باجزاء حج من بلغ قبل الموقفين
عن حجه الذي يجب عليه بعد بلوغه وإن كان لا يجزي عن الواجب عليه فيما
149

بلغ قبل ذلك -
هو أن الأمر ليس مستعملا في الوجوب أصلا يلزم منه ما ذكر مع استحباب
المأمور به للصبي، بل هو ليس إلا البعث اللفظي نحو العمل وزان التحريك الخارجي
نحوه بلا استعمال في الحكم أصلا، ويستفاد منه - لدى العرف - الوجوب ما لم
ينضم إليه الترخيص في الترك، فأما إذا انضم منه إليه الترخيص في الترك فينفي
الوجوب، ولكن أصل المحبوبية بحالها، إذ لم يكن الوجوب مستفادا من الاستعمال
حتى يناقش فيه بلزوم الاستعمال في أكثر من معنى، ويستوحش منه من يقول في
(مسألة بقاء الجواز عند نسخ الوجوب) بما لا جدوى لنقله ونقده، بل كان مستفادا
من البعث بلا انضمام الترخيص، فمع انضمامه يبقى البعث غير اللزومي بحاله.
فتحصل: أن اختلاف الحكم غير موجب لاختلاف المهية، وحيث إن قوله
تعالى " كتب عليكم الصيام " وقوله تعالى " أقم الصلاة لدلوك الشمس " وغير ذلك من
الأوامر الباعثة نحو الفعل، قد انضم إليها الترخيص في خصوص غير البالغ ونحوه
بحديث " رفع القلم " يحكم ببقاء أصل المحبوبية بحالها، فحينئذ تكون عبادة الصبي
كغيره مشروعة.
نعم: لا جدوى لاثبات مشروعيتها في خصوص المقام ونحوه بعد اختصاص أدلة
الستر بالرجل والمرأة اللذين لا ينطبقان على الصبي والصبية، اللهم إلا أن يكون
المراد من (الرجل) من ليس بمرأة وكذا المراد من (المرأة) من ليس برجل، فحينئذ
ينعقد الاطلاق لأدلة الستر، فانتبه.
والحاصل: أن الاطلاقات الأولية الدلة على محبوبية نفس الطبيعة بلا
خصيصة لفاعل خاص، نحو " أن الصوم جنة من النار " و " أن الصلاة خير موضوع
فمن شاء استقل... الخ " دالة على مشروعيتها لغير البالغ البتة، كما أن الأوامر
الالزامية دالة عليها أيضا، لأن المستفاد منها ليس إلا البعث لا الوجوب. نعم:
150

عند عدم انضمام الترخيص إليها يفهم ذاك لدى العرف. ووزان حديث " رفع
القلم " ليس إلا الترخيص في الترك وعدم العقاب عليه. فحينئذ يبقى أصل البعث
بحاله فيكون مستحبا.
ومما يؤيد ما ذكر: أنه لا إشكال في حسن الاحتياط في الشبهة الحكمية البدوية
مع ما ورد فيها " رفع ما لا يعلم " إذ المرفوع هناك نفس ما لا يعلم لا تبعاته ولوازمه.
فيمكن القول هناك: بأن الحكم نفسه مرفوع فمع ذلك لا مرية لديهم في حسن
الاحتياط بالاتيان عند احتمال الوجوب إدراكا للواقع المحتمل، وفي المقام لا بد
منه بالأولوية.
فاثبات أصل المشروعية لعله سهل، ويتلوه سهولة إثبات الأحكام الوضعية
التي دل نطاق أدلتها على اعتبارها في نفس الطبيعة بلا خصوصية لأي فاعل.
وأما إثبات حكم وضعي قصر نطاق دليله عنه فصعب البتة - كالمقام - لأن نطاق
أدلة اعتبار الستر في الصلاة ليس بهذا الاتساع، نعم: يستفاد منه ذلك بالنسبة إلى
خصوص الرجل والمرأة المأخوذين في لسانه، وأما من عداهما من الصبي والصبية
فلا، سواء بلغا أثناء الصلاة أم لا، وهذا بخلاف الأمة، كما مر.
ثم إن في الباب نصوصا خاصة لعله يستفاد منها ذلك.
فمنها: ما تقدم عن يونس بن يعقوب... ولا يصلح للحرة إذا حاضت
إلا الخمار إلا أن لا تجده (1) ونحوها ما رواه عن أبي البختري عن جعفر بن محمد عليهما السلام (2).
وإن كانت شاملة للستر النفسي والصلاتي لظهورها في لزوم ستر الرأس عند
الحيض مع ما عليها من الدرع حسب التعارف، وحيث إن مساقها في الصلاة،
يستفاد منها اشتراط الستر فيها بلا تفاوت بين الأثناء وغيره، فتدل على لزوم
تحصيل هذا الشرط في الأثناء أيضا كالأمة المعتقة حينئذ، فيجري عليها ما مر: من

(1) الوسائل باب 28 من أبواب لباس المصلي ح 4 و 13.
(2) الوسائل باب 28 من أبواب لباس المصلي ح 4 و 13.
151

لزوم البدار إلى الستر، ونحوه من الفروع المارة.
وفيه: أن الحيض في الأثناء ناقض لأصل الصلاة، فلا مشروط حينئذ فضلا عن
الشرط، نعم: لو دلت الرواية على لزوم الستر إذا بلغت لجرى فيه ما ذكر، وهذا
الاشكال سيال في جميع ما أخذ في نطاقه الحيض، فلا تغفل.
ومنها: ما مر من مرسلة، الصدوق قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ثمانية لا يقبل الله لهم
صلاة، منهم المرأة المدركة تصلي بغير خمار (1).
لظهورها في لزوم ستر الرأس على البالغة في الصلاة، ولا طلاقها الشامل لمن
بلغت في الأثناء تدل على المقصود، ولا خفاء في أن التقييد (على الاحترازية) دال
على شمول عنوان المرأة بنفسها للمدركة وغير المدركة على السواء، فالنصوص
العامة شاملة لهما أيضا، نعم: تقيد حينئذ بهذه الرواية الدالة على عدم اللزوم
على من لم تدرك.
والمهم هو إرسال السند حتى على نقل " البرقي " في المحاسن، نعم: بناء على
الطريق الثالث - وهو باسناد حماد بن عمر - فهو مسند، إلا أن في " ابن عمر " بعض الكلام
وإن كان المتن (بناء عليه) سالما عما ذكر من احتمال شمول المرأة لغير البالغة،
حيث إن فيه: " الجارية المدركة ".
والحاصل: إن الاتكال على هذه الرواية العارية عن الوثوق مشكل.
ومنها: ما أشير إليه آنفا من رواية أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام (2). والكلام
في السند باعتبار اشتماله على " ابن حمزة " هو ما مر سالفا.
وأما المتن: فلا اختصاص لها بالستر الصلاتي، لاطلاقها الشامل للستر النفسي
بالظهور الأقوى، إذ فيها " وعلى الجارية إذا حاضت الصيام والخمار... الخ " من

(1) الوسائل باب 28 من أبواب لباس المصلي ح 6.
(2) الوسائل باب 29 من أبواب لباس المصلي ح 3.
152

دون تعرض لخصوص الصلاة.
والكلام فيها من حيث القصور عن الشمول لما نحن بصدده: من البلوغ في
الأثناء، هو ما مر من انتقاض الصلاة بالحيض.
ومنها: ما تقدم أيضا عن أبي إبراهيم عليه السلام حيث فيها - جوابا عن السؤالين
أحدهما بالنسبة إلى الستر النفسي والآخر للصلاتي - لا تغطي رأسها حتى تحرم
عليها الصلاة. (1)
لأن المراد من الحرمة هو الحيض الذي يحرم معه ذلك، فالاشكال السيال
الموجب لعدم شمولها للبلوغ في الأثناء آت هنا أيضا.
فتحصل: قصور أدلة الباب عاما وخاصا عن الشمول لما نحن بصدده: من
البلوغ في الأثناء، كما أنها قاصرة بالنسبة إلى ما قبل البلوغ، فعليه لو بلغت في
الأثناء فلا دليل اجتهادي على لزوم تحصيل الستر وعلى اشتراط الصلاة به، فلها أن
تستمر بحالها مكشوفة الرأس، وإن وجبت عليها الستر النفسي حينئذ إذا كان هناك
ناظر. فلو انتهى الأمر إلى الشك، فيحكم بعدم شرطية الستر لجريانه في الارتباطي
من الأقل والأكثر. وإن كان الاحتياط حسنا.
فمعه انقدح أنه لا تلازم بين مشروعة العبادة وبين شرطية مثل الستر، وأنه
لا مجال للفروع المارة في الأمة: من البدار إلى التستر، وعدم الفعل المنافي تارة،
ومن وجوده أخرى، إلى غير ذلك مما مر مبسوطا.
نعم: لو دل دليلا آخر على لزوم ترتيب جميع آثار المكلفين على من بلغ أي
وقت كان، فلها مجال، وببركة قاعدة (لا تعاد) يمكن تصحيح باقي الأجزاء الفاقد
للستر مطلقا بلا فرق بين البدار وغيره، إلا في خصوص الترك العمدي بأن يكون
هناك ساتر سهل التناول فتتركه عمدا.

(1) الوسائل باب 126 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه ح 2.
153

مسألة 9 - لا فرق في وجوب الستر وشرطيته بين أنواع
الصلوات الواجبة والمستحبة، ويجب أيضا في توابع الصلاة:
من قضاء الأجزاء المنسية، بل سجدتي السهو على الأحوط. نعم
لا يجب في صلاة الجنازة وإن كان هو الأحوط فيها أيضا،
وكذا لا يجب في سجدة التلاوة وسجدة الشكر.
قد انصرح لك نطاق النصوص المارة، حيث أخذ فيها عنوان الصلاة الشامل
للمندوب كالواجب بلا ميز. ولا مجال لاحتمال الانصراف إلى اليومية، لخلوه
عن الوجه.
وأما الركعات الاحتياطية: فلاندراجها تحت هذا العنوان يلزم تحصيل
الستر فيها.
وأما الأجزاء المقضية للنسيان: فاعتباره فيها لأجل استواء الجزء والكل في
الشرط والأداء والقضاء فيه أيضا، إذ الميز بين العنوانين ليس إلا المحل أو الوقت،
لأن المنساق من القضاء هو فعل شئ بجميع ما يعتبر فيه في محل آخر أو وقت آخر،
فلا مجال لتوهم سقوط بعض الشرائط في خصوص القضاء.
وأما سجدتا السهو: فلعدم انطباق عنوان الصلاة عليها مع عدم كونها من
الأجزاء، بل ليست إلا مرغمة لأنف الشيطان، فلا دليل على اعتباره فيها، فعند
الشك ينفى بالأصل.
وأما سجدة التلاوة وكذا الشكر: فأمرها متضح من عدم الاعتبار.
وأما صلاة الجنازة: فهي وإن يطلق عليها عنوان الصلاة عرفا وكذا نصا،
154

إلا أن في روايات تلك الباب ما يدل على أنها ليست بصلاة، بل هي ذكر ودعاء فلا
طهارة حدثية ولا خبثية فيها ولا ركوع ولا سجود، ونحو ذلك، فحينئذ يحكم
هذا المضمون على الاطلاق - لو فرض شموله لها - فلا يعتبر فيها الستر.
مسألة 10 - يشترط ستر العورة في الطواف أيضا.
قد يستدل لاشتراط ستر العورة في الطواف بالنصوص الناهية عن طواف
العريان، وكذا عن الطواف عاريا، وحيث إن المنساق من الأمر والنهي -
المنحدرين نحو ماله أجزاء وشرائط وموانع - هو الارشاد إلى الجزئية أو الشرطية
أو المانعية، يحكم بدلالة تلك النصوص الناهية على شرطية الستر أو مانعية الكشف
فمعه يبطل طواف العاري.
ويورد عليه تارة: بضعف السند، لأن تلك النصوص موهونة الاسناد،
وأخرى: بعدم انطباق متنها لما استدل له، وذلك لظهورها في المنع عن العرى
لاعن كشف العورة فقط، فلو سترها الطائف مع انكشاف ما عداها من أجزاء البدن
لصدق عليه العاري أيضا، فيلزم ستر ما عداها من البدن كالحالة المتعارفة حتى
لا يكون عاريا.
ويجاب عن الأول، باعتضاد تلك النصوص بعضها ببعض، لأن الكثرة البالغة حد
الاستفاضة ليست أنزل من رواية واحدة مسندة. وعن الثاني، بالاجماع على كفاية
ستر العورة وعدم الافتقار إلى ستر الزائد عنها، فيتوجه عليه: أنه تمسك بالاجماع
لا النصوص المشار إليها.
والذي ينبغي أن يقال: إن هيهنا محامل منقطعة الارتباط بالمقام لا يبعد
حمل تلك النصوص على بعضها.
155

فمن تلك المحامل: هو كونها بصدد إيجاب الستر النفسي، أي بلحاظ
الاستتار عن النار تكليفا، لا بلحاظ اعتباره في الطواف وضعا.
ومنها: كونها بصدد ردع ما التزموا به: من عدم جواز الطواف في ثوب
عصوا فيه، وكانوا يبتدعون من حيث لزوم العرى وعدم الاستتار عند الطواف
بثوب أذنبوا فيه.
ومنها: كونها بصدد ردع بدعة أخرى، وهي التزامهم - على ما أرخه بعض
أبناء التاريخ - بلزوم التصدق بثوب طافوا فيه، فمن طاف بثيابه فعليه أن يعطيها
صدقة بعد الفراغ من طوافه، ومنه انتهى الأمر إلى الاستعارة تارة والاكتراء أخرى،
فمن لم يجد شيئا من ذلك طاف عاريا حذرا من لزوم التصدق بثيابه عند الطواف
فيها، فيحتمل أن يكون مساق تلك النصوص هو ردع هذه البدعة والالتزام.
وفي مجمع البيان عند قوله تعالى " وما كان صلاتهم في البيت إلا مكاء
وتصدية " (1) عن بعض المفسرين من الطبقة الأولى ك‍ " ابن عباس " ما يدل على أنهم
كانوا يطوفون عراة ويصفرون ويصفقون... الخ، فجرت عادة قريش بذلك.
وفي تفسير البرهان عند قوله تعالى " براءة من الله ورسوله " (2) عن الكناني
عن أبي عبد الله عليه السلام ما يدل على ما ذكرناه أخيرا: من ابتداعهم لزوم التصدق بثوب
طيف فيه، إلى أن قال... جاءت امرأة وسيمة جميلة للطواف وقيل لها ذلك
- أي لزوم التصدق بالثوب - فلم تجد عارية ولا كرى، فطافت عارية فأشرف
الناس إليها وجعلت إحدى يديها على القبل وأخرى على الدبر، وقالت شعرا:
اليوم يبدو بعضه أو كله * فما بدا منه فلا أحله
إلى أن فرغت من طوافها، فخطبها جماعة، فقالت: إن لي بعلا.
وأما النصوص الناهية: فقد نقل جملة منها في الوسائل (باب 53 من أبواب الطواف)

(1) سورة الأنفال - آية 35.
(2) سورة التوبة - آية 1.
156

إذ في رواية (1 منه) عن ابن عباس في حديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله بعث عليا ينادي: لا يحج بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان،
وكذا في روايات (2 إلى 8 منه) ونقل جملة أخرى في أبواب متفرقة.
ومما يقوى في النظر كون تلك النصوص بصدد ردع ما ابتدعته قريش
ومن احتذى حذوهم، ولذا نودي في الموسم وأكد مرارا، فعليه لا تكون بصدد
بيان ما للطواف من الأحكام. ولا مجال أيضا للتمسك بما هو دارج من " أن الطواف
بالبيت صلاة " لعدم وروده في طرقنا حتى يعتمد عليه، نعم: قد رواها القوم الذين
جعل الرشد في خلافهم. فالأقوى: عدم اشتراط الطواف بالستر وضعا، فلو اتفق
الكشف لخلوة البيت لا يضر به، بل يقع صحيحا، لأصالة عدم الشرطية عند فقد
الدليل الاجتهادي عليها.
مسألة 11 - إذا بدت العورة كلا أو بعضا لريح أو غفلة لم
تبطل الصلاة، لكن إن علم به في أثناء الصلاة وجبت المبادرة
إلى سترها وصحت أيضا، وإن كان الأحوط الإعادة بعد الاتمام
خصوصا إذا احتاج سترها إلى زمان معتد به.
لا إشكال في الصحة إذا بدت العورة ولم يعلم بذلك حتى الفراغ، لاندراجه
تحت قاعدة (لا تعاد) وتوهم اختصاصها بالنسيان فقط مندفع بالاطلاق الشامل
للذهول ونحوه أيضا، مع النص الخاص هنا، وهو صحيح " علي بن جعفر "
المتقدم (1).

(1) الوسائل باب 27 من أبواب لباس المصلي ح 1.
157

وما إذا علم بذلك في الأثناء، فشمول صحيح " ابن جعفر " له مبني على نقل
(يصلي) بلفظة المضارع الشامل للمشتغل أيضا بلا اختصاص بما بعد الاتمام، وأما
على نقل (صلى) بلفظة الماضي القاصر عن شموله، فلا.
وأما قاعدة (لا تعاد) فالكلام فيها من حيث الشمول للأثناء ومن حيث تصحيح
الأجزاء اللاحقة كالسابقة مر بطوله في الأمة المعتقة في الأثناء. وبذلك يتضح حكم
البدار إلى الستر وكذا حكم التعلل عنه مع المكنة وغير ذلك، فلا نعيد.
مسألة 12 - إذا نسي ستر العورة ابتداء أو بعد التكشف في
الأثناء، فالأقوى صحة الصلاة، وإن كان الأحوط الإعادة،
وكذا لو تركه من أول الصلاة أو في الأثناء غفلة. والجاهل
بالحكم كالعامد على الأحوط.
لا اشكال في الصحة عند نسيان الستر ابتداء أو بعد التكشف في الأثناء إذا لم
ينتبه إلا بعد الفراغ، لقاعدة (لا تعاد) وأما عند الانتباه في الأثناء فمبني على
شمولها للأثناء أيضا. وأما صحيح " ابن جعفر " الوارد في الجهل بالموضوع فغير
شامل للنسيان، فيشكل التعدي إليه.
وأما الجاهل بالحكم: فقد مر الكلام فيه، من حيث انقسامه إلى أقسام أربعة
ومن حيث أحكام تلك الأقسام، فلا نعيد.
158

مسألة 13 - يجب الستر من جميع الجوانب بحيث لو كان
هناك ناظر لم يرها إلا من جهة التحت، فلا يجب. نعم: إذا
كان واقفا على طرف سطح أو على شباك بحيث ترى عورته
لو كان هناك ناظر، فالأقوى والأحوط: وجوب الستر من تحت
أيضا، بخلاف ما إذا كان واقفا على طرف بئر، والفرق من حيث
عدم تعارف وجود الناظر في البئر فيصدق الستر عرفا، وأما
الواقف على طرف السطح لا يصدق عليه الستر إذا كان بحيث
يرى، فلو لم يستر من جهة التحت بطلت صلاته وإن لم يكن
هناك ناظر، فالمدار على الصدق العرفي ومقتضاه ما ذكرنا.
قد يترائى من المتن كغيره من الفتاوى أن لجهة التحت من بين الجهات
الست خصيصة أوجبت استثنائها في الكيفية، نظير استثناء الوجه والكفين في الكمية،
ثم يستدرك بما إذا كان المصلي واقفا على موضع يتعارف وجود الناظر من تحته،
فلو كان هناك ناظر مع تعارف وجوده لرأى عورته، أو ما عدا الوجه والكفين من
البدن إن كانت مرأة.
والذي ينبغي أن يقال: إنه لم ينطق واحد من تلك النصوص المارة بلزوم
الستر في الصلاة حتى يستفاد منه شرطية عنوان الستر ولزوم صدق الاستتار، بل
أقصى ما تنطق به هو الاكتفاء بما هو المصداق له، كالدرع والقميص ونحو ذلك،
وهذا باطلاقه شامل لما إذا كان المصلي على سطح عال أو في قعر دان أو ما بينهما من
159

المكنة المتعارفة، فلو صلى في قميص لأجزأه أينما كان.
والفرق بين جهتي التحت وغيره خال عن السداد، إذ كما أن الناظر لو كان
مقابلا له لرآه، كذلك لو كان في جنبه قاعدا أو مضطجعا لرآه ولو في الجملة عند
الركوع، فإن أنيط الأمر بالتقدير فهما سيان.
وإن قيل بالتعارف فيما إذا كان على السطح، حيث إنه يتعارف وجود
الناظر من التحت، بخلاف الفرض، لعدم تعارف اضطجاع الغير في جنب المصلي
وهذا هو الفارق الموجب للاستدراك.
فيرد عليه، أولا: بأن اضطجاع الزوج في جنب زوجته أو الولد في جنب
أمه عند صلاتها في البيت مما يتعارف وجوده، وحيث إن الستر الصلاتي أضيق من
الستر النفسي لوجب الستر عن المحارم أيضا، لعدم الفرق في هذه الجهة بين المحرم
وغيره، وهكذا القعود في جنبها عند صلاتها، فيلزم الستر من جهة التحت مطلقا
بناء عليه.
وثانيا: بأن الأمر لو أنيط بتعارف وجود الناظر لزم الحكم بعدم وجوب
الستر أصلا إذا فرض كون المصلي في موضع من السجن الخاص أو الجبل النائي
المخصوص الذي لا يتعارف وجود الناظر فيه أبدا، بل قد يتفق عدم مرور أحد
هناك مدى السنة أو السنين، وهو كما ترى.
والحاصل: أن تقدير وجود الناظر وإمكان رؤيته كما أنه لا ضابطة له - حيث
أنه يقدر في البيت باضطجاع بعض المحارم أو قعوده جنب المرأة المصلية - كذلك
تعارف وجوده لا شأن له، وإلا لزم جواز الانكشاف لمن نأى في البيداء التي لا يمر
هناك أحد حسب التعارف أصلا. فاتضح أن جهة التحت كالفوق لا ميز لها عما عداها
من الجهات أصلا، وأنه لو صلى الرجل في قميص واحد بلا سراويل أو استشغار
لأجزأه أينما كان، وكذا المرأة إن صلت في درع وخمار بلا زائد عنهما وإن أمكن
النظر من تحت أو غيره.
160

نعم: يجب الستر وعدم التمكين من النظر بلحاظ الستر النفسي، وهو خارج
عن البحث وغير ضار - عند الانكشاف وعدم تحقق الستر النفسي - بصحة الصلاة، لما
مر من خروجه عن حريمها، فلا اتحاد بينهما.
ولنوضحه بمزيد إيضاح، هو أن الستر الصلاتي لامساس له بوجود الناظر
وعدمه أصلا، ولا ارتباط له بامكان النظر على تقدير وجوده أبدا، بل هو
تأدب خاص لو حظ تحصيله عند القيام لله. وذلك نظير أن يقال للطفل مثلا: البس
ثوبك صونا عن البرد، حيث إن المدار هو الصيانة عن البرد وأن اللبس ملحوظ
بحاله، وأما دوران كيفيته مدار تعارف وجود الناظر وامكان النظر، فلا. وهيهنا
قد حكم بلزوم لبس الدرع والخمار أو القميص الواحد مثلا صونا عن هتك عظمة
المولى وجلاله وإن لم يره أحد، تعارف أو لا، أمكن أو لا، وليس في الباب ما أمر
فيه بالستر عدا صحيحة " علي بن جعفر " الواردة فيمن غرق متاعه، وأقصاها لزوم
الستر التأدبي للصلاة، لا غير.
كما أن المراد من قوله عليه السلام في رواية " محمد بن مسلم "... إذا كان الدرع
كثيفا يعني ستيرا - هو ذلك أيضا، لا بلحاظ الصيانة عن نظر الغير، بل لأن الثوب
الرقيق الحاكي والشفاف الواصف غير جدير للتأدب والحضور لدى المولى الحقيقي
ويشهد له الاشكال في الكفن إذا لم يكن ستيرا مع أن الميت المكفن به مستور
بالأرض ولا تكليف. وكذا الاشكال في ثوبي الاحرام مع عدم وجوب الستر النفسي
في بعض الموارد، وليس ذلك إلا لفقد الشرط التعبدي الذي لاحظه المولى فأمر به،
وأين هو من الدوران مدار إمكان النظر!
فالأقوى: هو الاكتفاء بما حددته النصوص: من الدرع والخمار للمرأة،
والقميص الواحد أو نحوه للرجل، بلا تفاوت بين الدار وسطحها والصحن وبئره
والأرض وسطوحها المختلفة بالعلو والسفل والشباك ونحوه أصلا، لحصول التأدب
الصلاتي بهذا القدر، مع انتفاء الزائد بالاطلاق، وعلى الشك بالأصل.
161

وأما الستر النفسي: فهو أضيق منه في هذه الحيثية، لوجوب عدم التمكين
من النظر مطلقا.
مسألة 14 - هل يجب الستر عن نفسه بمعنى أن يكون
بحيث لا يرى نفسه أيضا، أم المدار على الغير؟ قولان: الأحوط
الأول، وإن كان الثاني لا يخلو عن قوة، فلو صلى في ثوب واسع
الجيب بحيث يرى عورة نفسه عند الركوع لم تبطل على ما
ذكرنا، والأحوط البطلان. هذا إذا لم يكن بحيث قد يراها
غيره أيضا، وإلا فلا اشكال في البطلان.
إن إيجاب الستر عن النفس يتوقف على إثبات كون القميص الدارج في عصر
صدور النصوص المجوزة للصلاة فيه ضيق الجيب جدا بنحو لم يمكن للمصلي أن
يرى عورته عند الركوع أو غيره، وهو عسير جدا منفي بالاطلاق الشامل لواسع
الجيب أيضا بعد عدم احراز الانحصار في الضيق حسب التعارف، فعليه لا يجب
الستر عن نفسه، للاطلاق، وللأصل عند الشك.
بل يمكن الاستدلال على العدم بما رواه عن زياد بن سوقه، عن أبي جعفر عليه السلام
قال: لا بأس أن يصلي أحدكم في الثوب الواحد وأزراره محللة إن دين محمد
حنيف (1).
لاستلزام حل الأزرار تمكن الرؤية لنفسه مطلقا أو عند الركوع مثلا.
وكذا بما رواه عن الحسن بن علي بن فضال، عن رجل، عن أبي عبد الله عليه السلام،
بل بما رواه عن إبراهيم الأحمري عنه عليه السلام (2)

(1) الوسائل باب 23 من أبواب لباس المصلي ح 1.
(2) الوسائل باب 23 من أبواب لباس المصلي ح 4 و 5.
162

وهيهنا بعض ما يمنع عن حلها عند الصلاة، يحمل على التنزيه لتقدم المجوز
عليه - حيث إن لسانه الناطق بأن " دينه صلى الله عليه وآله حنيف " حاكم على المنع كما هو
واضح - أو على التعبد المحض لا للزوم ستر العورة عن نفسه، أو غير ذلك.
مسألة 15 - هل اللازم أن تكون ساتريته في جميع
الأحوال حاصلة من أول الصلاة إلى آخرها، أو يكفي الستر
بالنسبة إلى كل حالة عند تحققها؟ مثلا إذا كان ثوبه مما يستر
حال القيام لا حال الركوع، فهل تبطل الصلاة فيه وإن كان في
حال الركوع يجعله على وجه يكون ساترا أو يتستر عنده بساتر
آخر، أو لا تبطل؟ وجهان: أقواهما الثاني، وأحوطهما الأول
- وعلى ما ذكرنا - فلو كان ثوبه مخرقا بحيث تنكشف عورته
في بعض الأحوال لم يضر إذا سد ذلك الخرق في تلك الحالة
بجمعه أو بنحو آخر ولو بيده، على اشكال في الستر بها.
قد يتخيل: لزوم حصول الساترية في جميع الأحوال من البدو إلى الختم،
بحيث يتحقق الآن ما يحتاج إليه في الحالات الآتية وإن لم يحتج إليه فعلا، فلو
فقد الآن ما يحتاج إليه فيما يأتي من الأحوال فهو فاقد الشرط وإن كان واجدا له
عند الاحتياج، للاطلاقات المحددة لأدنى ما يجزي في المرأة مثلا بالدرع والخمار
اللذين لهما الصلوح للستر بلحاظ جميع الأحوال الصلاتية بالفعل، وكذا في
عورة الرجل.
163

وفيه: أن المستفاد من النصوص المارة ليس أزيد من تحقق الأحوال الصلاتية
مع الستر، وأما الزائد عنه فلا، وحيث يفرض تحققه لدى الحاجة فلا مجال
للبطلان.
ولنوضحه ببيان بعض الفروع التي لها مساس ما للمقام وإن كانت خارجة عن
البحث، وذلك: بأنه لو صلى جالسا - من فرضه الجلوس - لكان احتياجه إلى
الساتر أقل من احتياج من يصلي قائما، إذ القيام أحوج إلى ستر العورة أو البدن
في المرأة من الجلوس، ويصدق الستر بما لا يصدق معه حال القيام. وكذا لو صلت
المرأة مستلقية - إذا كان فرضها الاستلقاء على الأرض - وغطت مقاديم بدنها بثوب
دون الزائد عنه، إذ حينئذ يصدق الستر مع عدم الاكتفاء بمقدار ذاك الثوب
لو كانت قائمة، وذلك لقلة الاحتياج حال الاستلقاء على الأرض الحافظة للظهر
ونحوه من الأجزاء المؤخرة للبدن والساترة إياها في خصوص هذه الحالة.
فاتضح بهذين الفرعين أن لكل حالة حكما يخصها كما وكيفا يدوران
مدار تحقق العنوان، ومن هنا لا يجتزي بما لو صلت المرأة قائمة ماسة للجدار
الساتر لمؤخر البدن من الظهر ونحوه مع ستر خصوص المقاديم بالثوب، لعدم
الصدق. وهكذا لو صلت في ثوب خرق وسترت موضع الخرق باليد، إلى غير ذلك
مما يأباه العرف عن الاندراج تحت العنوان.
فإذا ثبت أن المدار تحقق الأحوال الصلاتية مع الستر وأن لكل حالة أثرا
يخصها كما وكيفا، فما المانع من الصلاة في ثوب يتسر في بعض الأحوال دون
بعض، مع البدار إلى العلاج حين الافتقار؟ كان يجمع الثوب الخرق لئلا يحاذي
خرقه لما يجب ستره من العورة أو البدن، لا بأن يجعل يده في ذاك الموضع، لما
أشير إليه ولما سيأتي تفصيله: من لزوم كون الساتر شيئا وراء أجزاء البدن، سواء
فيه الاستقلال والاشتراك، إلا فيما لا يزاحم الصدق العرفي بلا تسامح وإن كان
لوضع تلك اليد أثر عقلا في الستر.
164

وعلى انتهاء الأمر إلى الشك يحكم بنفي هذه الخصوصية الزائدة المشكوك
فيها، لأنه المرجع في الأقل والأكثر الارتباطي سواء كان في الحكم التكليفي أو
في الحكم الوضعي.
مسألة 16 - الستر الواجب في نفسه من حيث حرمة النظر
يحصل بكل ما يمنع عن النظر ولو كان بيده أو يد زوجته أو
أمته، كما أنه يكفي ستر الدبر بالأليتين. وأما الستر الصلاتي
فلا يكفي فيه ذلك ولو حال الاضطرار، بل لا يجزي الستر بالطلي
بالطين أيضا حال الاختيار، نعم: يجزي حال الاضطرار على
الأقوى، وإن كان الأحوط خلافه. وأما الستر بالورق والحشيش
فالأقوى جوازه حتى حال الاختيار، لكن الأحوط الاقتصار على
حال الاضطرار. وكذا يجزي مثل القطن والصوف غير
المنسوجين، وإن كان الأولى المنسوج منهما أو من غيرهما مما
يكون من الألبسة المتعارفة.
قد مر الكلام في الستر النفسي وحصوله بأي شئ يمنع عن النظر، إذ الواجب
هناك هو عدم التمكين منه، وهو قد يحصل بالتباعد المكاني، وقد يحصل بالانغماس
في الماء، وقد يحصل بالاستتار خلف الجدار والشجر، وقد يحصل بغير ذلك مما أشير
إليه سالفا بلا احتياج إلى خصوص الستر. وأما إذا احتيج إليه فقد يحصل بكل
ما يمنع من النظر وإن كان بالطلي بالطين ونحوه من اللطوخات، أو باليد ونحوها
165

من الأعضاء، كالأليتين الساترتين للدبر.
وإنما المهم هو كيفية الستر الصلاتي: من اتحادها مع كيفية الستر النفسي
فيما يحتاج إليه لتحصل بأي ساتر كان ولو باليد أو الطلي، ومن اختلافها معها.
وعلى الاختلاف في الكيفية ولزوم كون الستر الصلاتي بساتر مخصوص. فهل يسقط
التكليف بفقد ذلك الساتر مع وجود غيره مما به يحصل الستر؟ أو ينتقل حال
الاضطرار إلى ذاك الساتر الثانوي؟ وعلى الانتقال، فهل يكون بين ما يحصل به ذلك
ترتيب بتقدم البعض على الآخر أم لا؟ وعلى أي تقدير، فهل يفرق بين الرجل والمرأة
أم لا؟ وجوه: لا بد من الإشارة إليها.
إن المنسوب إلى أكثر الأصحاب، هو عدم الترتب والطولية بين أنحاء الساتر
وأن الثوب والحشيش سيان، بل عن المجلسي (ره) نسبته الجواز اختيارا - حتى
في الطين - إليهم.
وحيث إن المقام ليس مما ينفعه الأقوال المنقولة أو يضره ذلك، فلا جدوى
لنقلها وإرجاع بعضها إلى الآخر، بل المهم هو الفحص عن نطاق أدلة الباب، ليتضح
أن جميع أنحاء الساتر سواسية أو لا. وعلى الثاني، فهل يكون بين الأمور الكافية
حال الاضطرار فقط ترتب وطولية بتقدم بعضها على الآخر، أم لا؟
والذي يستدل به لاستواء الجميع رتبة وأن الحشيش ونحوه كالثوب
والقميص أمران:
أحدهما: ان ما ذكر في النصوص المارة من عناوين: الدرع، والملحفة،
والثوب، والقميص، وما يضاهيها، أمثلة للجامع بينها وبين غيرها مما يحصل به
الستر كالحشيش ونحوه. واختصاصها بالذكر إنما هو لتعارفها والاعتياد بها، فلا
تكون تلك القيود المعنونة احترازية. ولا خفاء في أن القيد الغالبي وإن لا يصلح
لتقييد دليل آخر مطلق، ولكنه يحتمل أن يمنع من انعقاد الاطلاق لدليل قيد
بذلك القيد، إلا مع العلم بعدم دخالته. وتوضيحه - على ما مر مرارا - هو أن
166

الآية الدالة على حرمة الربيبة مقيدة بكونها في الحجر، ومعنى كون هذا القيد
غالبيا أنه لو فرض هناك قيام دليل مطلق دال على حرمتها وإن لم تكن في
الحجر لما أمكن تقييده بهذا القيد، لا أنه يحكم بانعقاد الاطلاق للآية، لأن احتمال
الاختصاص في محله، إلا أن يعلم بعدم دخالة هذا القيد. نعم: عند انتهاء الأمر
إلى الشك يرجع إلى الأصل الموجود في كل مسألة بحيالها، كأصالة عدم الشرطية في
المقام، فبالأصل المنضم إلى ذلك الدليل الاجتهادي القاصر عن إفادة الاطلاق يحكم
بعدم الترتيب والطولية بين أنحاء الساتر.
والثاني: مفهوم قوله عليه السلام في صحيحة " علي بن جعفر " المتقدمة "... وإن لم
يصب شيئا يستر به عورته أو ماء وهو قائم " لأن الشئ شامل للحشيش ونحوه، كما
يشمل الدرع والقميص ونحوهما، فمفهومه عدم تبدل الركوع إلى الايماء مع
إمكان الستر بأي شئ كان، وذلك: لأن قوله عليه السلام "... وإن لم يصب... الخ "،
تصريح بمفهوم الصدر مع تغيير ما، وهو الموجب لاستفادة العموم.
وأورد عليه: بدلالتها على ترتب الحشيش ونحوه على فقد اللباس وكون
المصلي عاريا، فحينئذ لا مجال للاجتزاء به اختيارا.
وأجيب: بأن هذا الترتيب إنما هو في كلام السائل لا الإمام عليه السلام
حتى يفيد
ذلك، مع أن الترتب المستقر في ذهنه إنما هو بلحاظ الداعي لا الحكم، بمعنى
أن الداعي إلى الستر بالحشيش إنما ينقدح عند فقد اللباس، لأنه المعد لذلك بسهولة،
لا الحشيش ونحوه، فلا داع يدعو إليه مع وجود اللباس، لا أن الترتيب بلحاظ
الحكم وأنه لا يجزي الستر بالحشيش مع وجوده.
والحق هو استقرار ارتكاز الترتيب بلحاظ الحكم في ذهنه - لا مجرد الداعي -
وأنه كان محتملا لسقوط التكليف بالستر لفقد اللباس، فلا يمكن انكار الغريزة،
وعلى أي تقرير: يشكل التمسك بها للاجتزاء بالحشيش ونحوه حال الاختيار،
لقصورها عن اثباته. كما أن الحق الذي لا ريب فيه هو امتياز الستر الصلاتي عن
167

الستر النفسي في الجملة، فلعل الشارع أوجب كيفية خاصة للستر الصلاتي. كما أنه يحتمل أن يفرق، بين الرجل المأمور بستر عورته فقط، وبين المرأة المأمورة
بستر بدنها عدا ما استثنى، فلا بد من لحاظ حكم كل منهما بحياله.
وكيف كان: فالذي يدل على الترتيب والطولية في الرجل غير واحد من
النصوص المشار إليها سابقا.
فمنها: ما رواه عن صفوان بن يحيى، أنه كتب إلى أبي الحسن عليه السلام يسأله
عن الرجل معه ثوبان فأصاب أحدهما بول ولم يدر أيهما هو وحضرت الصلاة
وخاف فوتها وليس عنده ماء كيف يصنع؟ قال: يصلي فيهما جميعا (1).
إذ لو كان غير الثوب - من الجلد والحشيش والورق ونحو ذلك - في عرضه لا
في طوله، لما أمر بلزوم التكرار احتياطا مع التمكن من الامتثال التفصيلي - الذي
ناقش بعض المتأخرين في الاكتفاء بالامتثال الاجمالي مع التمكن من التفصيلي منه -
فالأمر بالصلاة فيهما مع استلزامه وقوع إحدى الصلاتين في النجس إنما يتصور فيما
لا يكون ما عدا الثوب في عرضه، واحتمال عدم وجدان شئ من ذلك مقدوح
باطلاق الجواب مع ترك الاستفصال بين أقسام المسؤول عنه.
ومنها: ما رواه عن الحلبي، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام، عن رجل أجنب
في ثوبه وليس معه ثوب غيره (آخر)؟ قال: يصلي فيه فإذا وجد الماء غسله (2).
وتقريب دلالتها على الترتيب وأنه مهما أمكن انحفاظ ساترية الثوب فلا
يجتزي بغيره من الحشيش ونحوه وإن كان موجودا، هو ما مر آنفا، فبناء على
تعين الصلاة فيه أو التخيير بينه وبين العريان - جمعا بين المتعارضين - يتم المطلوب
ولا مجال لحملها وحمل ما يضاهيها من النصوص الآمرة بالصلاة في ذاك الثوب
النجس على ما إذا كان هناك ناظر، مع حمل ما يدك على الصلاة عريانا على ما إذا لم

(1) الوسائل باب 64 من أبواب النجاسات ح 1.
(2) الوسائل باب 45 من أبواب النجاسات ح 1.
168

يكن هناك ناظر، إذ المحذور ما يرتفع بعدم نزع الثوب المتنجس وبالصلاة فيه،
كذلك يرتفع بالجلد الطاهر والحشيش الطاهر ونحو ذلك، فلا مجال لصلاة في
النجس مع اشتراطها بطهارة الثوب، حيث إن الستر عن الناظر يحصل بما عدا
الثوب قطعا.
وليس ذلك، إلا لعدم اتحاد رتبتي الثوب وغيره من الجلد والحشيش ونحو
ذلك، فمن هنا يتجه إبقاء النصوص الآمرة بالدرع والقميص والملحفة والثوب
وما يضاهيها على القيدية، وأنه لا يجزي غير الثوب اختيارا، وإن كان لنفي خصوصية
الدرع والقميص ونحوهما مجال. فالرتبة الأولى للثوب الذي يتعارف لبسه في
كل عصر بحسبه وإن لم يكن بخصوصية ما هو المعمول في زمن الصدور، كما أنه
لو كان للثوب إجمال ولم يتضح شموله لمورد ومادة خاصة - كالعلف ونحوه - يحكم
بالاجتزاء إذا صنع منه درع أو قميص أو نحوهما من العناوين المأخوذة في ألسنة
النصوص، لأن المدار هو صدق هذه العناوين بلا دخالة لخصوص القطن أو الصوف،
فإذا فرض نسج قميص أو درع أو نحو ذلك من تلك العناوين من مادة أخرى غير
المادة الدارجة، فيؤخذ به ويكتفي البتة، وإن لم يصدق عليها الثوب. وهذا نظير
ما ورد في الاحرام على لسانين: أحدهما ما عبر فيه بثوبي الاحرام، والآخر ما عبر فيه
بإزار ورداء، فإن كان للثوب إبهام من حيث الشمول للجلد والعلف ونحوهما،
فلا إجمال للإزار ولا للرداء، فيحكم بالاجتزاء عند صدق هذين العنوانين وإن لم
يصدق هناك عنوان الثوب، فحينئذ يدور الأمر مدار الهيئة الخاصة المسماة:
بالدرع أو القميص أو سراويل أو نحوها مما أخذ في لسان النصوص المارة، بلا
خصوصية للقطن ولا للصوف ولا للثوب. بل المواد الدارجة اليوم مما يصنع
بها الدرع ونحوه كالمواد المعهودة سابقا أيضا، فوزان العلف والصوف واحد،
ووزان الجلد والقطن واحد، ووزان المواد المخترعة اليوم ووزان المواد الطبيعية
واحد، فالمدار هو صدق عنوان القميص ونحوه مما تكرر في النصوص، بحيث
169

لا يمكن حملها على التعارف والغلبة، ولا حملها على إرادة الجامع الشامل لها وللمواد
الصالحة لأن تصير معنونة بها ولم تعنون بعد، كالقطن والصوف والحشيش والجلد
والورق، وما إلى ذلك من المواد العارية عن هيئة الدرع أو القميص ونحو ذلك.
ولتحكيم ما ذكر واستقراره في النفس نشير إجمالا إلى بعض تلك النصوص
الكثيرة الناطقة بهذه العناوين.
فمنها: ما رواه عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: سألته عن الرجل
يصلي في قميص واحد أو قباء طاق أو في قباء محشو وليس عليه أزرار؟ فقال إذا كان
عليه قميص صفيق أو قباء ليس بطويل الفرج فلا بأس... الخ (1). وقريب منها
ما رواه علي بن جعفر في كتابه عن موسى بن جعفر عليه السلام (2).
حيث أخذ فيها عنوان (القميص) وكذا (القباء) فيلزم صدق أحدهما وإن
لم يصدق عنوان الثوب، بأن يصنع من النبات أو الجلد، لا القطن أو الصوف مثلا.
ومنها: ما رواه عن محمد بن مسلم، قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: ما ترى للرجل
يصلي في قميص واحد؟ فقال: إذا كان كثيفا فلا بأس... الخ (3).
حيث إنها اكتفى فيها بالقميص الصادق على الهيئة الخاصة، بلا دخالة لمادة
مخصوصة كالقطن. إلى غير ذلك مما يعثر عليه المتتبع، فيكفي مجرد صدق تلك
العناوين في الرجل: من القميص، والقباء، والسراويل، والأزار، والرداء، المأخوذات
في روايات (باب 22) صدق عنوان الثوب أم لا. ومن جميع ما ذكر تبينت جهتان
في خصوص الرجل:
الجهة الأولى: أنه يعتبر في ستر عورته للصلاة حال الاختيار أن يكون الساتر
معنونا بأحد تلك العناوين المارة: من القميص والقباء ونحو ذلك، بلا دخالة
لمادة خاصة، وأنه لا يجتزي في لك الحال بما عدا ذلك: من الحشيش والجلد

(1) الوسائل باب 22 من أبواب لباس المصلي ح 2 و 11.
(2) الوسائل باب 22 من أبواب لباس المصلي ح 2 و 11.
(3) الوسائل باب 28 من أبواب لباس المصلي ح 7.
170

والورق، فضلا عن الطين.
والجهة الثانية: أنه لا يسقط التكليف حال الاضطرار وعدم وجدان شئ
من تلك الأمور، بل يصح مع ستر عورته بشئ آخر، كالجلد والحشيش وما يضاهيهما
لأن هذه الأمور أبدال لتلك الأمور حال الاضطرار، بلا ترتب بين هذه الأمور
أنفسها، فلا تقدم للجلد على الورق، ولا للحشيش على الطين ونحو ذلك، وذلك لعموم
صحيحة " علي بن جعفر " بملاحظة قوله عليه السلام (إن لم يصب شيئا) الدال على استواء
جميع الأشياء الصالحة للساترية عند عدم وجدان ما هو الساتر حال الاختيار،
فلا ميز بينها.
هذا ملخص القول في المقام الأول الباحث عن حكم ستر العورة في الرجل.
وأما المقام الثاني: ففي بيان الستر الصلاتي للمرأة حالي الاختيار
والاضطرار
إن استيفاء القول فيه أيضا على ذمة جهتين كافلتين لحكمي الاختيار
والاضطرار.
أما الجهة الأولى: فيمكن الاستدلال - لتعين الثوب والدرع ونحو ذلك حال
الاختيار - بتلك النصوص الآمرة بالصلاة في النجس وحده أو بالتكرار - على
اختلاف الطائفتين الواردة إحديهما في الثوب المشتبه، والأخرى في الثوب المنحصر
النجس - لأن المسؤول عنه وإن كان هو الرجل، ولكن بتناسب الحكم والموضوع
يستفاد نفي الخصوصية، كما في السؤال عن الشك في القول بأن " الرجل يشك بين
الثلاث والأربع " حيث إنه يفهم عرفا أن الحكم للشك بلا خصوصية للشاك، وكذا
في المقام -
وبالنصوص المارة المأخوذ في لسانها عناوين: الدرع، والخمار، والثوب، ونحو
ذلك، لما ثبت في المقام الأول كونه بنحو التقييد والاحتراز لا مجرد التعارف والغلبة.
ويؤيد ذلك قول موسى بن جعفر عليه السلام "... قال تلتف فيها وتغطي
171

رأسها وتصلي، فإن خرجت رجلها وليس تقدر على غير ذلك فلا بأس (1).
لدلالتها على نفي البأس بالاطلاق الشامل لما إذا كان هناك حشيش أو جلد أو
نحوهما. ولو كان الحشيش مثلا في عرض الثوب بلا امتياز بينهما للزم تذكرة،
إذ المراد من قوله عليه السلام " ليس تقدر على غير ذلك " هو انتفاء القدرة بما في حكم
الملحفة من الثياب لا الحشيش ونحوه أيضا، فلو كان الحشيش كافيا في عرض الثوب
للزم التنبيه عليه، حيث إنه لا ينسبق الذهن إليه. بل ويمكن الاستدلال بها على عدم
الاكتفاء به حال الاضطرار في ستر بدن المرأة، كما يأتي في الجهة الثانية.
والكلام فيها - من حيث الاكتفاء بالدرع والخمار، وكذا الملحفة والمقنعة
وما إلى ذلك من العناوين إن لم يصدق الثوب - هو ما مر في عورة الرجل، فلا
خصوصية للمادة، بل المدار هو الهيئة المسماة بالدرع ونحوه.
وأما الجهة الثانية: (أي حال الاضطرار وعدم وجدان الثوب ونحوه) فيمكن
أن يفرق بين عورة الرجل وبين بدن المرأة، لاحتمال سقوط التكليف بالستر
حينئذ رأسا، فيتبدل الحكم مع وجدان الحشيش والجلد ونحو ذلك، إذ لا دليل
على البدلية حال الاضطرار بالنسبة إلى المرأة.
نعم: يمكن الحكم باستوائهما في خصوص العورة، بأن يكون حكم المرأة
حال الاضطرار حكم الرجل في هذا الحال، من حيث الاكتفاء بأي شئ يستر
العورة كالحشيش والطين، لامكان القاء الخصوصية من صحيحة " علي بن جعفر "
المتقدمة، وتأييده بالارتكاز الهادي إلى الفرق بين العورة وغيرها من الأعضاء (حتى
في المرأة) فيلائم التأدب لله. وأما الزائد عنه فلا دليل أصلا، فحينئذ لا يجب عليها
أن تستر بدنها بالحشيش أو الجلد أو نحوهما عند فقد الساتر الاختياري.
ويؤيده أو يدل عليه ما أشير إليه في الجهة الأولى، حيث إنه نفى البأس مع
انكشاف بعض الرجل وإن قدرت على سترها بالحشيش ونحوه، لأن فرض عدم

(1) الوسائل باب 28 من أبواب لباس المصلي ح 2.
172

القدرة على سترها بعيد جدا، مع لزوم التنبيه والاعلام - كما مر.
ويدل عليه أيضا قوله عليه السلام في رواية " يونس " المتقدمة "... ولا يصلح
للحرة إذا حاضت إلا الخمار إلا أن لا تجده " (1).
لظهورها في سقوط التكليف بالستر ونفى البدل الاضطراري بمجرد عدم
وجدان الخمار ونحوه من الثياب، فلو كان الحشيش بدلا عنه حال الاضطرار
للزم التذكرة والاعلام، حتى يستفاد منه بقاء التكليف بالستر بالبدل عند سقوط
التكليف بالمبدل.
ومما يؤيد ذلك، عدم التعرض في كلمات الأصحاب بالنسبة إلى ستر بدن
المرأة حال الاضطرار، بل المدار في كتبهم هو حكم ستر عورة الرجل في هذا الحال.
فتحصل أولا: أن الستر الاختياري منحصر في الثوب أو الدرع أو نحو ذلك،
دون الجلد ونحوه أصلا. ولا يتوهم الاجتزاء بذلك هنا كما في الستر النفسي، حيث
إنه يستفاد من رواية " عبد الرحمن بن الحجاج " المتقدمة (2) إذ فيها - بعد السؤال
عن وقت الستر النفسي ووقت الستر الصلاتي على الجارية التي لم تدرك - قال عليه السلام:
" لا تغطي رأسها حتى تحرم عليها الصلاة " لأنها تدل على استواء السترين في الكيفية
فكما أن الأول يحصل بجميع ما يستر، فكذلك الثاني.
لاندفاعه بأنه لا اطلاق لها من هذه الحيثية، لقصورها عنه، بل المفروض:
هو السؤال عن الستر المتعارف في البيت والشارع، وإنما ذلك بالثوب، لا الحشيش
ونحوه أيضا، فتبقى تلك الأدلة بحالها.
وثانيا: إن التكليف بالستر ساقط عن المرأة حال الاضطرار، فلها أن تصلي
عارية وإن وجدت الجلد والحشيش ونحو ذلك. نعم: لا بد لها من ستر عورتها بما
وجدته في هذه الحال، ولا ترتيب حينئذ بين ما تستر به عورتها، فالطين كالحشيش
بلا تقدم له عليه.

(1) الوسائل باب 28 من أبواب لباس المصلي ح 4.
(2) الوسائل باب 126 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه ح 2.
173

فصل
في شرائط لباس المصلي
وهي أمور:
الأول: الطهارة في جميع لباسه، عدا ما لا تتم فيه الصلاة
منفردا، بل وكذا في محموله، على ما عرفت تفصيله في باب
الطهارة.
الثاني: الإباحة وهي أيضا شرط في جميع لباسه من غير
فرق بين الساتر وغيره، وكذا في محموله.
فلو صلى في المغصوب ولو كان خيطا منه عالما بالحرمة عامدا
بطلت وإن كان جاهلا بكونه مفسدا، بل الأحوط البطلان مع
الجهل بالحرمة أيضا، وإن كان الحكم بالصحة لا يخلو عن قوة.
وأما مع النسيان أو الجهل بالغصبية فصحيحة. والظاهر عدم
الفرق بين كون المصلي الناسي هو الغاصب أو غيره، لكن
174

الأحوط الإعادة بالنسبة إلى الغاصب، خصوصا إذا كان بحيث
لا يبالي على فرض تذكره أيضا.
وحيث إن الشرط الأول (أي الطهارة) مما قد فرغنا عنه مستقصى في كتاب
الطهارة، فلا مجال للتكرار. وأما الشرط الثاني (أي الإباحة) فتنقيح المقال فيه -
من حيث اعتبارها في الجملة، ومن حيث استواء الساتر وغيره فيها، ومن حيث
استواء الملبوس والمحمول، ومن حيث كون المصلي عالما بالحكم أو لا ومن حيث
كونه عالما بالموضوع (أي الغصبية) أم لا، ومن حيث كون المصلي الناسي لها هو
الغاصب أو غيره - علي ذمة جهات.
الجهة الأولى: في تحرير محط البحث
إن النيل إلى محل النزاع قد يكون بتصريح أرباب ذاك النزاع وتعيينهم
إياه، وقد يكون بأمارات أخر، منها: اتضاحه من ثنايا الأدلة الناطقة به.
وأما في المقام: فهل النزاع منحدر نحو اشتراط الإباحة في خصوص الساتر،
أو الأعم منه ومن غيره من ألبسة المصلي فقط، أو الأعم من ذلك أيضا باندراج
محموله فيه؟ قد يمكن أن يستظهر - ممن أقام البرهان على اشتراطها: بأن
شرط العبادة إذا كان منهيا عنه يصير فاسدا فتبطل تلك فتبطل تلك العبادة المشروطة
بفواته - أن محور الكلام، هو خصوص الساتر للعورة أو للبدن في المرأة، لأنه
الشرط دون ما عداه من الثياب وغيرها، فلا يلزم أن يكون ما عداه مباحا.
كما أنه يمكن أن يستظهر اتساع محل البحث - ممن استدل على
اشتراطها: بقول علي عليه السلام في وصيته لكميل: أنظر فيما تصلي وعلى ما تصلي
... الخ - إذ لا اختصاص حينئذ للساتر، بل يعمه وغيره من الألبسة.
ويمكن أن يستظهر أوسع من ذلك - ممن استدل على اشتراطها: باقتضاء
الأمر برد المغصوب للنهي عن أضداده الخاصة التي منها الصلاة - إذ لا اختصاص
حينئذ للملبوس، نظير من استدل عليه: بلزوم اجتماع الأمر والنهي في شخص
175

واحد، إذ - بناء على الاتحاد - لا فرق بين الساتر وغيره من الألبسة، ولا بين
الملبوس والمحمول مما يتحرك بالحركة الصلاتية.
وأما من استدل بالاجماع - فحيث إنه لا نطق له - لا يستفاد منه الأزيد
من المتيقن. وكيف كان يستفاد من المتن اتساع حوزة البحث.
الجهة الثانية: في أدلة اشتراط الإباحة
وقد يستدل لذلك بأمور:
أحدها (الاجماع) وقد قرر: أن حجيته إنما تكون فيما يكشف عن دليل
أو نص معتبر، وأما عند عدم كشفه عنه - لاحتمال استناد مجمعيه إلى ما في الباب
من القواعد العامة ونحوها - فلا.
وقد يدعى: تمامية هذا الاجماع بالنسبة إلى خصوص الساتر، لعدم ثبوت
مخالفة " الفضل بن شاذان " أولا، وعدم قدحها على تقدير ثبوتها ثانيا.
وفيه: أنه ما لم ينسد احتمال الاستناد إلى القواعد، فلا مجال لكشفه عن
النص أو الدليل حتى يصير حجة مستقلة.
ومما يؤيد هذا الاحتمال مقال شيخ الطائفة (قده) في الخلاف، حيث إنه (ره)
نسب إلى فقهاء العامة بأجمعهم أمرين: أحدهما الجواز الوضعي، والآخر المنع
التكليفي، بمعنى أنهم مع اعترافهم بحرمة الصلاة في المغصوب حكموا بصحتها
فيه، واختار هو نفسه المنع الوضعي أيضا، واستدل له بالاجماع وبقاعدتين:
إحداهما: إن النية لا يتمشى هنا، لأن التصرف في المغصوب قبيح ولا تصح نية
القربة فيما هو قبيح، ولا صلاة إلا بنية القربة.
والأخرى: إن الاشتغال اليقيني بالصلاة مستلزم للبراءة اليقينية التي
لا تحصل إلا بالصلاة في المباح، بمعنى أن الأصل في الأقل والأكثر الارتباطي هو
الاشتغال، وهذا بعد فرض إمكان تمشي نية القربة. فمع استدلاله (ره) بهاتين
القاعدتين مصحوبا لدعوى الاجماع مما يوهن كشفه عن النص ويوجب ضعفه عن
176

عن الحجية.
وكذا ما في محكي " الناصريات " من الاستدلال على البطلان بفقد الدليل
في المقام مع احتياج صحة العبادة إليه، ولعله بعد تعارض الأمر والنهي، كما قيل.
والغرض: أنه يشكل الاتكال بهذا الاجماع المدعى مع استناد غير واحد من
الأصحاب (ره) بالقواعد العامة، كما أنه يشكل الاعتماد على ما يروى في الباب
من خبر " إسماعيل بن جابر " ورواية " تحف العقول " إذ لم يحرز استنادهم
إليهما أو إلى أحدهما حتى ينجبر. وهذا هو " المحقق " الذي هو من أساطين الفقه
قد صرح (ره) في المعتبر بقوله: إعلم: أني لم أقف على نص من أهل البيت عليهم السلام
بابطال الصلاة، وإنما هو شئ ذهب إليه المشائخ الثلاثة وأتباعهم، والأقرب: أنه
إن ستر به العورة أو سجد عليه أو قام فوقه كانت الصلاة باطلة، لأن جزء الصلاة
يكون منهيا عنه وتبطل الصلاة بفواته، أما لو لم يكن كذلك لم تبطل وكان كلبس
خاتم من ذهب.
إذ لو كان هناك نص خاص لبعد عدم عثوره (قده) عليه مع كونه أقدم إلى
مصادره من المتأخرين عنه، فيشكل الاتكاء على ذينك الخبرين أيضا، لعدم احراز
الاستناد الجابر، بعد تمامية المتن.
فحينئذ إن نوقش في هذه القواعد المشار إليها، أو نوقش في انطباقها على
المقام، لأمكن الحكم بالصحة، كما يمكن النقاش في مستند المحقق (ره) في الساتر
حيث إن المأخوذ منه في الصلاة هو مجرد التقيد لا القيد حتى يكون جزء، بل
هو شرط خارج عن حقيقتها الملتئمة من أجزائها، فلا ضير في أن يكون منهيا
عنه مع صحة الصلاة، كما أنه يمكن النقاش في مستند الشيخ (قده) بتصحيح تمشي
النية حينئذ وعدم امتناعه، إذ هؤلاء الفقهاء كانوا عاقلين البتة، وكيف يمكن
ذهابهم إلى صحة الصلاة المتقومة بقصد القربة مع عدم تمشيه من المصلي في
المغصوب عقلا؟
177

وبيان تمشيه هو أنه كما أن للمولي الآمر الناهي هنا إرادة وكراهة
وكذا حبا وبغضا باعتبار العنوانين، كذلك يمكن قصد الأمر والتقرب منه بهذا
الفعل المعنون بعنوان أمره، كما أنه بعينه معنون بعنوان نهيه. والحاصل: أن
المحذور العقلي لا يمتاز فيه المولى عن العبد، فكما أن له وصفين نفسانيين متنافيين
بالنسبة إلى شئ واحد خارجي - لأجل تعنونه بعنوانين - كذلك للعبد أن يقصد
أحدهما في عين حصول الآخر، لأن مصب الحكم وإن كان هو العنوان وعالم
العناوين مصحح التغاير، إلا أن انحدار الحكم نحوه إنما هو بلحاظ انطباقه
على الخارج المؤثر لا عليه نفسه، فمنتهى الأمر إلى الخارج الجامع للعنوانين،
وسيتضح لك مزيد إيضاح. كما أن استدلاله (ره) بقاعدة الاشتغال، مقدوح
بأن المرجع هو أصالة البراءة هنا.
فتحصل: أنه لا إجماع صالح للاتكاء ولا نص صالح للاتكال اجمالا، مع امكان
النقاش فيما استدل به من القواعد إشارة، وتفصيله فيما يلي.
وثانيها (قاعدة عقلية) تقرر بوجوه: نحو ما أفاده الشيخ (ره) في الخلاف:
من عدم صحة نية القربة بالتصرف الغصبي القبيح، ونحو ما يترائى من بعض: من
أن المبعد لا يمكن أن يكون مقربا، إلى غير ذلك من التقاريب.
وتمامية الاستدلال بها على البطلان تتوقف على أمور ثلاثة: الأول: اتحاد
متعلقي الأمر والنهي، بأن يجمعهما واحد شخصي. الثاني: امتناع الاتحاد عقلا
وعدم كفاية تعدد المتعلق عند وحدة ما يجمعهما خارجا. الثالث: عدم امكان
تصحيح الأمر بالترتب. وللنظر في هذه الأمور مجال واسع، كما يتضح.
أما الاتحاد: فالمعني به هنا، هو أن يصير الشئ الواحد الخارجي بلا كثرة
وجودية وبلا تغاير حيثية خارجية مجمعا للعنوانين المحمولين عليه، بأن يصدق
على هذا الوجود الخارجي أنه غصب أو تصرف في المغصوب أو نحو ذلك مما نهي
عنه، ويصدق عليه مع انحفاظ هذيته الخارجية أنه صلاة أو جزء صلاة أو نحو ذلك
178

مما أمر به، بحيث لا ميز بين هاتين القضيتين إلا في ناحية المحمول فقط، فحينئذ
إذا تغاير الموضوعان فلا اتحاد للمحمولين أصلا، سواء قام كل واحد منهما بنفسه،
أو اجتمعا في ذات واحدة مع تعدد الحيثية - كالعالمية والهاشمية القائمتين بالزيد -
أو قام أحدهما بالآخر، إذ ليس شئ من ذلك باتحاد أصلا، لأن الكثرة الوجودية
طاردة للوحدة المعتبرة هنا، ولذلك لا يتوهم البطلان فيما لو نظر المصلي حال
صلاته إلى الأجنبية، لأن الحيثية الخارجية منهما متغايرتان، كما أن العنوانين
الذهنيين منهما كذلك.
ثم إن أقصى ما يتشبث به للاتحاد المزبور وجوه: أحدها: أن الستر جزء
للصلاة كما أن الركوع ونحوه كذلك، وحيث إن كل واحد من هذه الأمور
أفعال للمصلي وأجزاء للصلاة فلها حكم واحد سيال، فيجب أن يؤتى بكل منها
" لله تعالى " لأن الصلاة عبادة وأجزائها عبادية لا محالة، ولا إشكال أيضا في أن
الستر نفسه محرم حيث إنه تصرف في المغصوب، فاجتمع العنوانان في واحد شخصي
فاتحدا.
وفيه: أن الصغرى ممنوعة، لإباء أدلة وجوب الستر عن إفادة أخذه في
الصلاة نحو أخذ الركوع والسجود فيها، حتى يستفاد منها الجزئية، بل ليس
إلا شرطا بمعنى دخول تقيده بالصلاة من دون دخول نفسه - أي ذات القيد - في
المأمور به، وفاقا لغير واحد من الأساطين وخلافا لظاهر " المعتبر " كما مر. وهذا
الوجه الفاسد لا يثبت البطلان فيما عدا الساتر من الملبوس وغيره.
وثانيها: أن الستر شرط للصلاة فيعتبر فيه القربة، لأن الصلاة بأجزائها
وشرائطها عبادية، وحيث إن الستر بالمغصوب محرم مع انحدار الأمر العبادي
نحوه يصير مجمعا بوحدته للعنوانين: الواجب والحرام.
وفيه: أن الكبرى ممنوعة، لأن الستر وإن كان شرطا إلا أن المنحدر نحوه
ليس إلا الأمر الوضعي المرشد إلى شرطيته للصلاة واعتبار تقيدها به فيها، لا غير.
179

ومن هنا لم يتوهم البطلان أحد فيما لو صلى بلا قصد القربة في الستر، وكذا بلا
التفات أصلا، وهكذا في غيره من الشرائط - كالاستقبال والطهارة ونحو ذلك - لأن
الطهارة وإن كانت بنفسها عبادة لا تحصل إلا بالقربة، إلا أن تقيد الصلاة بها
المعبر عنه باشتراطها فيها ليس بعبادة البتة، ولذا تصح صلاة من كان على طهارة
فتخيل فقدها ثم ذهل فصلي ذاهلا ثم تنبه بعد الصلاة بكونه مسبوقا بالطهارة،
لأن الاستصحاب هنا غير مصحح ولا محقق لقصد القربة البتة، وهكذا في الاستقبال
فليس هنا ما عد النهي النفسي - وهو المنحدر نحو الغصب - حكم آخر عبادي حتى
يتحد معه. وهذا الوجه الفاسد على فرض تماميته لا يثبت البطلان إلا فيما إذا كان
الساتر بخصوصه غصبا، وأما عداه من الملبوس فلا، فضلا عن المحمول.
وثالثها: إن الحركات الواقعة في المغصوب الحاصلة بالصلاة منهي عنها - لأنها
تصرف فيه - والنهي عنها نهي عن القيام والقعود والركوع والسجود، وهي أجزاء
للصلاة واجبة عبادية، فيجتمع فيها العنوانان ويتحد الحكمان، فتصير العبادة
المأمور بها منهيا عنها، فتفسد.
وفيه: أن المسألة هنا لما كانت عقلية لا مجال فيها للفهم العرفي ولا للبناء
المتسامحي فلا بد فيها من الدقة حتى يعطى حقها بالتحليل الهادي إلى أن موضع
الأمر ماذا؟ ومصب النهي ما هو؟
فنقول (بمنه تعالى): لو صلى في المغصوب بأن ابتدأ بالصلاة ونواها، فلا مجال
لتوهم اتحاد النية مع التصرف الخارجي لاستحالة صيرورة الأمر القلبي متحدا
مع الأمر الخارجي، وأما التكبير فهو وإن كان فعلا خارجيا، إلا أنه لامساس له
بالتصرف في المغصوب، نعم: به يحصل الموج في الفراغ الذي شغله المصلي، وللكلام
فيه عند البحث عن المكان المغصوب مجال في الجملة. وهكذا القيام والقراءة،
لقضاء العقل بأنه أين القيام من الغصب؟ وأين القراءة من التصرف في المغصوب؟
نعم: إن القائم غصب والقارئ متصرف على وزان ما مر: من أن المصلي ناظر إلى
180

الأجنبية، في توارد الحالتين المتقارنتين على موضع واحد، فأين مجرد المقارنة
والعينية والاتحاد؟
وأما الركوع: فإن فسر بالهيئة الخاصة الحاصلة من حدبة ظهر المصلي
وتقوسه حدا خاصا، فلا مجال أيضا لتوهم اتحاد جزء الصلاة مع الغصب أو التصرف
في المغصوب، لأن وزان تلك الهيئة وزان القيام في التغاير مع التصرف المحرم،
وإنما الذي لتوهم اتحاده معه مجال هو (الهوي) الذي هو نحو حركة معينة من
القيام إلى ذاك الحد المذكور، حيث يتحرك المغصوب بهذه الحركة، فتكون
الحركة الواحدة الشخصية واجبة باعتبار كونها من اجزاء الصلاة، ومحرمة
باعتبار كونها تصرفا في المغصوب.
وفيه: ان (الهوي) على تسليم اتحاده مع الغصب - لما فيه من النقاش الآتي -
ليس بجزء عبادي أصلا، إذ الواجب العبادي إنما هو الركوع المفسر بتلك الهيئة
الخاصة، و (الهوي) مقدمة لها، والواجب المقدمي ليس بعبادة، إذ الامر المقدمي
ليس بمقرب وكذا النهي المقدمي ليس مبعدا، فما هو المقرب - أي الركوع -
لا يكون متحدا مع الغصب، وما هو المتحد معه لا يكون مقربا، ولا ضير في الاتحاد
الكذائي، لان الاتحاد - على تسليم لزومه أولا وعلى فرض امتناعه ثانيا - فإنما
هو اتحاد المتنافيين لا المتلائمين، كما نشير إليه.
وأما لو فسر الركوع بنحو يصير (الهوي) جزء له، فالكلام فيه هو الكلام
في جزئيته للصلاة، باعتبار أن من الواجب فيها هو القيام المتصل بالركوع - أي
المتعقب به - فلو ركع لاعن قيام فلم يصح، كما لو انحنى بعد اتمام السورة لوضع
شئ على الأرض أو رفعه منها ثم قام متقوسا إلى الركوع ومنحنيا إلى حده،
لان هذا الركوع لا يكون عن قيام وذاك القيام لو كان وفرض لا يكون متصلا
به، فيجب ان ينحني عن القيام إليه، فهذا الانحناء والهوى واجب عبادي، وحيث
انه بعينه تحريك للغصب يلزم اتحادهما.
181

وفيه: أولا - ان التحريك الكذائي بعد لبس المغصوب لا يعد تصرفا زائدا
عن التصرف اللبسي عند العرف، فلا يشمله دليل المنع، نعم: لو كان موجبا
لاندراس ذاك الثوب أو لتلفه أو لتضرر مالكه بوجه فله حكم يخصه، وإلا فلا ريب
في أن وزان التحريك بالهوى ووزان التسكين بالقيام مطمئنا واحد، ولا ترجيح
لأحدهما على الآخر.
ولقد أجاد في " الجواهر " في ختام البحث عن المكان المغصوب - في رد بعض
متفقهة عصره القائل: بأنه يجب على المحبوس في مكان مغصوب الصلاة على الكيفية
التي كان عليها أول الدخول فيه إن قائما فقائم وإن جالسا فجالس، بل لا يجوز له
الانتقال إلى حالة أخرى في غير الصلاة أيضا لما فيه من الحركة التي هي تصرف في
مال الغير بغير اذنه - قال (قده) في نقده: ولم يتفطن ان البقاء على الكون الأول
تصرف أيضا لا دليل على ترجيحه على ذلك التصرف، كما أنه لم يتفطن انه عامل
هذا المظلوم المحبوس قهرا بأشد ما عامله الظالم، بل حبسه حبسا ما حبسه أحد
لاحد، اللهم إلا أن يكون في يوم القيامة مثله... الخ.
والحاصل: أن مسألة اجتماع الأمر والنهي وإن كانت عقلية صرفة، ولكن
على أساس عرفي - أي التصرف - لان الحرام منه ما يكون مصداقا للتصرف عرفا
حتى يشمله دليل المنع عنه، لا عقلا، والا لزم منه ما لا يمكن الالتزام به، والعرف
آب عن اطلاق التصرف على ما يتبع اللبس: من الأطوار الطارية والهيئات العارضة
التي لا أثر لها في الاندراس ونحوه زائدا عما هو اللبس من ذلك، فعليه لا يكون
المحرم إلا هو، ومن المعلوم انه - أي اللبس - غير متحد مع الصلاة أصلا،
كما مر.
وثانيا - على تسليم صدق التصرف الزائد عن اللبس - لا مجال لاتحاد المتعلقين
أصلا، لان هيهنا حركتين ومتحركين، كما أن هنا تحريكين ومحركين بلا
إمكان العينية والاتحاد أبدا، بيانه: بأن المصلي الهادي إلى الركوع يحرك بدنه له
182

فتصدر منه حركة قائمة بالبدن وتحريك منسوب إليه - أي المصلي نفسه -
فالمصلي محرك والبدن متحرك، وما لهذا حركة وما لذاك تحريك، ثم إن حركة
البدن محركة للثوب المغصوب، فتصدر منها حركة أخرى قائمة بالثوب
وتحريك منسوب إليها - أي إلى حركة البدن - فحركة البدن محركة والثوب
متحرك، وما لهذا حركة وما لتلك تحريك، وحيث إن تشخص الحركة بالمتحرك
فعند تعدده تصير متعددة، ومن المعلوم ضرورة: امتناع اتحاد الأشخاص المتعددة
والوجودات الخارجية المتكثرة، فلا غرو أن تكون حركة الثوب محرمة وحركة
البدن واجبة بلا مساس لهما أيضا.
ولا ميز فيما هو المهم هنا بين الحركة المستقلة التي للثوب بوساطة حركة
البدن (وساطة في الثبوت) وبين الحركة العرضية التي له بوساطة حركة البدن
(وساطة في العروض) لان الحركة ما لم تقم بالثوب ولو بالتبع لما صدق التصرف
فيه، فعند قيامها به تصير شخصا خاصا، فيمتنع أن تتحد مع الحركة القائمة
بالبدن لكونها شخصا آخر، وذلك: لان ما للواسطة هو غير ما لذيها وإن كانت
واسطة في الثبوت، إذ الفرد الأصيل ليس عين الفرد التبعي أو العرضي - فانتبه -
ولاخفاء عند الدقة في أن حركة الثوب منسوبة إلى حركة البدن لا المصلي، فالقول
بأن الفعل الواحد الشخصي الصادر منه حركة للبدن وتحريك للثوب ذهول عما
أفادته الفطرة السليمة الناطقة في المثال الدارج بأنه " تحركت اليد فتحرك المفتاح "
بتخلل لفظة (الفاء) المشعرة بتقدم حركة اليد على حركة المفتاح، لا زمانا، لوضوح
بطلانه، بل طبعا وذاتا، لان حركة اليد فاعلة ومحركة وحركة المفتاح فعل
وأثر، وهذا التقدم الطبعي خارجي لا عقلي وذهني فقط - كما هو عند أهله - حيث
إن العلة مقدمة خارجا على معلولها المقارن معها زمانا، لان الخارج أوسع من
الزمان، فراجع.
فهنا فعلان: أحدهما في طول الآخر، لان المصلي فاعل لحركة البدن وهي
183

فاعلة لحركة الثوب بالاستقلال أو بالتبع والعرض، لما حقق من عدم الفرق بين
الحركة المستقلة للثوب وبين العرضية له.
نعم: يمكن استناد حركة الثوب إلى المصلي تسبيبا لأنه الذي أوجد ما هو
سبب لها ومقدمة إياها، ولكن لا جدوى في ذلك للخصم، لان النهي متوجه إلى
المسبب لا السبب، وعلى التعدي منه إليه لا يكون أزيد من النهي المقدمي الذي لا شأن
له في المعصية والابعاد عن ساحة المولى، فلا مانع حينئذ من أن يكون مقربا منه
لجهة أخرى. وقد مر امكان اتحاد المقرب مع ما ليس بمقرب ولا مبعد لتلائمهما.
وأما اتحاده مع المبعد فمحل كلام جوازا ومنعا، وإن احتيج هذا البيان المشبع
إلى مزيد إيضاح فلعلنا نفي به في ثنايا المباحث القادمة.
وثالثا - على تسليم جميع ما مر - فلا يثبت إلا اشتراط الإباحة حال الركوع
ونحوه مما يستتبع حركة المغصوب، وأما حال القيام ونحوه فلا، فلو صلي قائما
في رداء مغصوب ثم نزعه عنه قبل الحركات الواجبة ثم لبسها إلى الخاتمة، لكانت
صلاته صحيحة. وكذا من ليس فرضه إلا القيام مع الايماء، والجلوس كذلك،
أو الاستلقاء أو الاضطجاع أو نحو ذلك، بلا حركة واجبة، فتصح صلاة هؤلاء
جميعا، فلا يمكن الاستدلال بالاتحاد المذكور على اشتراط صحة الصلاة مطلقا
بالإباحة، كغيرها من الشرائط المعتبرة في الواجب وغيره.
نعم: على تماميته لا فرق فيه بين الساتر وغيره من الألبسة، بل المحمول أيضا.
إلى هنا انتهى الكلام في الأمر الأول (أي اتحاد متعلقي الأمر والنهي) وقد
تبين انه لا مجال له أصلا.
وأما الأمر الثاني (أي الامتناع) فقد حققنا في الأصول: ان مجرد تعدد المتعلق
كاف في انحدار الحكمين إليهما وإن جمعهما وجود شخصي واحد، فعلى تسليم
اتحاد المصب الخارجي لا غرو في اجتماعهما، فراجع.
وأما الأمر الثالث (أي الترتب) فمجمل القول فيه: انه على تسليم الامتناع
184

وعدم جواز الاجتماع، إما أن يكون الوقت متسعا أو لا، فعلى الأول: وإن لا يكون
هناك أمر مع النهى - لامتناع اجتماعهما فرضا - ولكن له في لحاظ عصيان ذاك
النهي مجال - على الترتب المعهود - فتح الصلاة، فراجع.
ولو سلم عدم الامر رأسا لامع النهي - لامتناع اجتماعهما - ولابعد سقوطه
- لبطلان الترتب - لأمكن أيضا تصحيحها بما مر في ثنايا المباحث المشابهة للمقام:
من كفاية الحسن الفعلي المنضم إليه الحسن الفاعلي، إذ الصلاة هنا لا ريب في
وجدانها للملاك بحسب ذاتها وإن لم يؤمر بها، فلو أتى بها المصلي قاصدا إياها
فلا تبعد صحتها، لوجدان الفرق بين من صلي في الدار المغصوبة وبين من لم
يصلى أصلا.
وأما على الثاني: فلاحتمال تقدم الامر هنا مجال، فمعه تصح الصلاة بلا
إشكال، فلو نوقش في تقديمه فيجري فيه ما أشير إليه في الأول. فتحصل: انه لم
يتجه البطلان بعد.
وثالثها: أي ثالث تلك الأمور التي استدل بها للبطلان هو (اقتضاء الامر
بالشئ للنهي عن الضد) وتقريبه: ان الامر برد المغصوب مقتض للنهي عن اضداده
التي منها الصلاة، فتصير هي بنفسها متعلقة للنهي، فتفسد لأنها عبادة.
وفيه: أولا: ان الاقتضاء الكذائي مقدوح مشروحا في الأصول.
وثانيا: على تسليمه أجنبي عن المقام طردا وعكسا، إذ لا اختصاص لذلك
بالملبوس، بل يعمه وغيره مما هو خارج عن بدن المصلي رأسا، بأن كان مال الغير
تحت يده عدوانا فجعله في البيت مثلا ثم صلي هو بنفسه مع ثياب محللة بتمامها
في المسجد أو غيره، أو كان للغير عليه حق يجب عليه تأديته. فالثوب وغيره فيه سواء
ولبسه وعدم لبسه وكذا حمله وعدم حمله فيه سيان، بل وحق الله وحق الناس فيه
متساويان، إذ المدار هو الامر الوجوبي المتعلق بشئ مضاد للصلاة، ومن المعلوم:
انه لا يصح جعل مثله شرطا في لباس المصلي كغيره من الشرائط. كما أنه لا يمكن
185

ذلك الحكم بنحو العموم الشامل لجميع أفراده التي منها: ما لا ضدية للصلاة مع
الرد، كما لو كان المالك حاضرا وكان المال في موضع لا يكون رده إليه منافيا
للصلاة ولا هي مضادة له.
ومنها: ما لو توقف حفظ ذاك المال على لبسه أو حمله مثلا، إذ لا نهي حينئذ.
ومنها: ما لو ضاق الوقت وكان هو أيضا عازما على الرد وسالكا لسبيله، إذ
لا بد من لبسه أو حمله أو نحو ذلك ما دام في طريق امتثال الأمر بالرد، فحينئذ يلزم
أن يأتي بصلاته متحركا وماشيا كالمضطر ونحوه ممن توسط أرضا مغصوبة - على
التفصيل الآتي في محله - فلا يمكن الحكم بفسادها هنا.
ومنه ينقدح ما في مقال من زعم: أن المبعد ليس بمقرب وأن القبيح
لا تصح نية القربة به، إذ لو لم يكف تعدد الجهة فبما يقصد في هذا الفرض؟ وبأية
جهة يتقرب فيه؟ فتحصل: أنه ليس هذا الاقتضاء المقدوح فيه ضابطا لأن يرجع
إليه، مع ما فيه: من أن النهي عن الضد - لو سلم - فإنما هو نهي مقدمي غير مبعد
فلا غرو في تعلقه بما هو مقرب. وعلى تسليم كونه مبعدا أيضا، فيجري فيه ما مر
من جواز الاجتماع المستلزم للصحة، ومن الترتب - على فرض الامتناع - ونحو
ذلك مما تقدم.
فلاح لك أن الأقوى: صحة الصلاة في المغصوب ساترا كان أو غيره، إذ ليس
في تلك الأمور المارة عدا الاجماع أو الشهرة التامة، وقد أشير إلى احتمال استناد
المجمعين إلى بعض القواعد السابقة مع استدلال بعضهم صريحا بها.
ومما يؤيد ما مر - في بطلان الاقتضاء وأن الأمر بشئ لا يقتضي النهي عن ضده
بنحو يستلزم فساد ذلك الضد إن كان عبادة - أنه لم يتعرض في لسان شئ من أدلة
التوبة إعادة الصلاة أو قضاءها، مع أنها - أي التوبة - تكون مأمورا بها فورا ففورا
فلو اقتضى الأمر بها النهي عن أضدادها المستلزم لبطلان الضد العبادي منها، للزم
التعرض للإعادة أو القضاء جدا، مع خلو تلك الأدلة عنه رأسا.
186

ويشهد له عدم تعرض المعصوم عليه السلام لذلك في شئ من القضيتين المعهودتين
مما روى إحديهما " البطائني " والأخرى " أبو بصير " حيث تاب بعض كتاب بني أمية،
فأمره الصادق عليه السلام بخروجه عما فيه، مع ما في تلك القضية من ابتلائه بالأموال
المحرمة كثيرا، فلم لم يحكم بإعادة الصلوات أو قضاءها مع كونه مأمورا برد تلك
الأموال البتة؟ وهذا وأمثاله لو لم يدل على المطلب، فلا أقل من التأييد، بل يؤيد
عدم شرطية إباحة لباس المصلي مطلقا.
ورابعها: ما رواه عن الصدوق، قال: قال الصادق عليه السلام... ولو أخذوا
ما نهاهم الله عنه فأنفقوه فيما أمرهم الله به ما قبله منهم، حتى يأخذوه من حق
وينفقوه في حق (1).
أن السند مرسل، ومجرد الارسال البتي من " الصدوق " لا يثبت أزيد من
طمأنينته (ره) به، ومن المعلوم: إمكان النقاش فيما لم نثق به وإن وثق به " الصدوق "
نعم: لهذا النوع من المرسل ميز لا خفاء فيه، ولكنه ليس مجد يجب الأخذ
به في قبال ما يدعي من عدم نص من أهل البيت، كما مر.
وأما المتن: فالمراد من الفقرة الأولى، هو أن إنفاق المال المكتسب مما رخص
فيه فيما نهى عنه بتخيل عباديته والتقرب به غير مجد في القبول فلا أثر له أصلا، وليكن
هذا هو مفاد قوله عليه السلام "... فيما نهاهم عنه " لا غيره من المعاصي، حيث لا ترقب
قبول ولا ترصد ثواب عندما أخذه من حلال وصرفه في الزنا أو شرب الخمر أو نحو
ذلك، بل المراد هو صرفه فيما له جهة عبادية بزعمه ذاهلا عن كونه منهيا عنه،
كإعانة من تحرم معاونته لكونه ظالما يتقوى به على الظلم مثلا، وكصرفه في بناء
يكون تأسيسه مخالفا لما دعت إليه الشريعة الحقة، وهو عن ذلك ذاهل،
ولا اختصاص للانفاق بالاطعام ونحوه، بل المراد منه ما يعم جميع ذلك لكونه مقابلا
للأخذ والتحصيل، فمعناه مطلق الصرف.

(1) الوسائل باب 2 من أبواب مكان المصلي ح 1.
187

وأما الفقرة الثانية: فمعناها أيضا أنه لو أخذ المال مما لم يرخص فيه وحصله
من غير حل فصرفه فيما يكون بطبعه مطلوبا للشارع ومحبوبا له - كبناء المسجد
ونحوه - فلا يقبل منه ولا يثاب عليه. وهذا على قسمين: أحدهما - ما لا يكون
فيه أزيد من الثواب المترقب، والآخر - ما يكون فيه مع الثواب حكم وضعي شرعي.
أما الأول: فكانفاق المال المحرم في إطعام المؤمن الجائع أو إفطار صائم ورع،
حيث إنه لا أثر لهذا الصرف عدا الثواب المتوقع، وأما تبدل الجوع بالشبع والصوم
بالفطر فهو محقق حل المال أم لا، فمعنى عدم قبوله ليس إلا نفي الثواب دون غيره،
إذ لا أثر وضعي شرعي له حتى يحكم بانتفائه.
وأما الثاني: فكانفاقه في بناء المسجد ونحوه من الأوقاف وغيرها، حيث إن
له عدا الثواب المتوقع أثرا وضعيا، وهو الوقف الموضوع لغير واحد من الأحكام، فمعنى
عدم قبوله، هو انتفاء ذلك الأثر أيضا، فلا يتحقق الوقف بذلك، فالقبول إنما هو
فيما لو أخذ المال من حل وصرف فيما له ثواب وحده أو مع الأثر الوضعي أيضا،
فحينئذ يترتب ذاك الثوب وحده أو مع الأثر الوضعي، على ما يستفاد من الذيل.
وأما انطباقه على المقام، فالكلام فيه تارة: من حيث صرف المغصوب في الستر
الصلاتي، وأخرى: فيما عداه من ألبسته.
أما الأخير: فهو خارج عن مساق الحديث، لأن مجرد اللبس في حال الصلاة
ليس بطبعه مما يترقب الثواب عليه لأنه ليس بعبادة، فمن لبسه صونا عن البرد
وصلى فيه فلا ينطبق عليه قوله: " فأنفقوه فيما أمرهم به ".
وأما الأول - أي الستر الصلاتي - فهو وإن لم يكن عباديا - كما مر - فلا
ترقب ثواب عليه، لأنه شرط لا جزء فليس هو إلا التوصلي البحت، ولكن له أثر
وضعي شرعا تختل الصلاة بفقده وعدم قبوله، فلو شمل الحديث لمثله مما ليس فيه
إلا الحكم الوضعي البحت فللاستدلال به مجال، إذ عدم القبول مساو للبطلان
188

والرد اللازم منه عدم حصول الطهارة للثوب إذا غسل بماء مغصوب ولم يقل به
أحد. إلا فيما قام الدليل على إرادة نفي الكمال منه.
ولكن الكلام بعد في السند، إذ هو على نقل " الصدوق " مرسل وعلى نقل
" إسماعيل بن جابر " ضعيف ل‍ " محمد بن سنان " أضف إلى ذلك كله: احتمال وروده
مساق غيره مما ورد لتخطئة الجاهل المتنسك، نظير ما ورد في القصة المشهورة
التي رواها " الطبرسي " في " الاحتجاج " وغيره: من سرقة الرجل الرمان وتصدقه
للفقير، فأفحمه الصادق عليه السلام بأن الحسنة التي لها عشر أمثالها هي ما لم تكن بنفسها
سيئة، كما فيها فعله، فراجع. فحينئذ لامساس له بالمقام مع ما عرفت.
وما رواه عن " تحف العقول " عن أمير المؤمنين عليه السلام في وصيته لكميل، قال:
يا كميل أنظر فيما تصلي وعلى ما تصلي إن لم يكن من وجهه وحله فلا قبول (1).
إن السند مرسل فلا اعتداد به، وكذا ما عن بعض نسخ " نهج البلاغة " أما
أولا: فلعدم وجوده في جميع تلك النسخ، وأما ثانيا: فلأن السيد الرضي (قده)
قد جمع ما وصل إليه من خطبه عليه السلام ومكاتيبه عليه السلام وكلماته عليه السلام ونقلها بأسرها
بالارسال، حيث إن ما بأيدينا من " النهج " مرسل بلا سند.
وأما المتن: فالظاهر تمامية دلالته على بطلان الصلاة إذا لم يكن الملبوس
حلالا، وكذا إذا لم يكن المكان أو الفرش مباحا، نعم: لا مجال للاستدلال بالمرسل
غير المنجبر، لما مر.
فتبين قصور جميع أدلة الباب عن إفادة شرطية إباحة لباس المصلي، فالمرجع
هو أصل النافي للشرطية المشكوك فيها المنتج لصحة الصلاة في المغصوب.
تنبيه: أن المراد من قول المصنف (ره) " وكذا في محموله " هو ما إذا
تحرك ذاك المحمول بالحركات الصلاتية لا مطلقا كما يصرح (ره) بهذا القيد في
(مسألة 5) الآتية.

(1) الوسائل باب 2 من أبواب مكان المصلي ح 2.
189

الجهة الثالثة: فيما يتفرع على الصلاة في المغصوب من صور العلم
والجهل والنسيان
إن تنقيح المقال المايز بين الموضوع والحكم التكليفي والوضعي - من حيث
العلم ببعضها والجهل أو النسيان بالآخر ونحو ذلك - في مقامات:
أما الأول: ففي الحكم التكليفي.
إن المصلي في المغصوب، إما أن يكون عالما بحرمة الغصب والتصرف في
المغصوب حين الصلاة، أو ناسيا، أو جاهلا.
فعلى العلم: تبطل صلاته على جميع تلك المباني المارة، أما على مبنى (عدم
تمشي القصد في الحرام) فواضح جدا، بل لا صلاة له أصلا، وأما على مبنى (أن
المبعد ليس بمقرب) فظاهر أيضا، لفعلية الحرمة المبعدة حينئذ، وهكذا على
(مرسل تحف العقول) المستفاد منه التعبد بالشرطية المستلزمة لبطلان المشروط
بفقد الشرط.
وأما على النسيان: فحيث إنه يتمشى القصد من الناسي، فلا تبطل صلاته
على ذاك المبنى. نعم: على مبنى (عدم صلوح المبعد الواقعي للتقريب) فهي باطلة
كما أنها كذلك أيضا على (التعبد بالشرطية) نظير جزء ما لا يؤكل لحمه، لدوران
الأمر مدار الواقع بلا دخالة للعلم. ولكن يتم الأمر ببركة قاعدة (لا تعاد) فلو
صلى في المغصوب ناسيا بحرمته لا يجب عليه الإعادة.
وأما على الجهل: ففيه صور أربع لأنه، إما بسيط، وإما مركب. وعلى
أي تقدير، إما قاصر، أو مقصر.
أما الجهل البسيط بلا تقصير: فحيث إنه ليس إلا الشك في الحرمة، فيمكن
رفع شكه بأصالة البراءة كالمجتهد، إذ لا فرق بين العامي وبينه في هذه الجهة،
فيصير التصرف حلالا بالأصل، فمعه يتمشى قصد القربة، فلا مجال لبطلان صلاته
190

على مبنى (عدم تمشي الجد في القربة). نعم: على مبنى (أن المبعد الواقعي غير صالح
لأن يتقرب به) وكذا على (النص الدال على الشرطية) يحكم بالبطلان، إلا ببركة
قاعدة (لا تعاد) التي لا إشكال في شمولها للفرض.
وأما الجهل البسيط مع التقصير: فحيث إنه يحتمل فيه الحرمة ولا
علاج رافع لهذا الاحتمال، لإباء شمول أدلة البراءة له، فكيف يتمشى منه
قصد القربة؟ كما أنه على المبنيين الآخرين يحكم ببطلان صلاته أيضا، ولا مجال
لتصحيحها بقاعدة (لا تعاد) إذ يستلزم شمولها لمثله لغوية الأحكام وتشريعها - كما
في الترك العمدي - حاشا جناب الشرع الأنور وتنزهت ساحته عنه.
وأما الجهل المركب بلا تقصير: فيتمشى منه قصد القربة البتة فلا بطلان،
كما أنه على المبنيين الأخيرين وإن يحكم بالبطلان إلا أنه يمكن التصحيح
بقاعدة (لا تعاد) لعدم المحذور في شمولها له.
وأما الجهل المركب مع تقصير في تطرق ما أورثه اليقين بالخلاف: فهو وإن
يعاقب عليه، إلا أنه لتمشي قصد القربة لا بطلان لصلاته. نعم: على ما عدا هذا
المبنى يحكم بالبطلان مع الاشكال في التصحيح بقاعدة (لا تعاد) إذ في شمولها لمثله
تأمل - فاتضح: أن البطلان في ماذا، والصحة فيما هي. فاطلاق المتن غير سديد.
وأما المقام الثاني: ففي الحكم الوضعي..
لا فرق فيما هو المهم بينه وبين الحكم التكليفي، إلا في عدم إمكان تمشي
قصد القربة، وكذا قصد الصلاة نفسها، حيث إنه على الحكم التكليفي وإن لم
يتمش منه على ذاك المبنى قصد القربة، إلا أنه هنا أوضح في صورة العلم، فإن
من يعلم ببطلان صلاته كيف يعقل أن يقصدها؟ فضلا عن القربة بها. وأما النسيان
وكذا الجهل بأقسامه: فالظاهر عدم التفاوت المؤثر في المقام بينه وبين ما تقدم،
فلا نطيل.
191

وأما المقام الثالث: ففي الموضوع.
فلو علم بالغصبية، فالكلام فيه من حيث العلم بالحكم وعدمه هو ما مر،
وأما لو نسيها أو جهل بها، فلكل واحد منهما حكم يخصه. أما النسيان: فأما أن
يمكن التحفظ بالتكرار الموجب للتذكار المانع من النسيان عادة، أو لا يمكن
- لكونه كثير السهو أو قليل الضبط - فلا يجديه التكرار في الذهن أو الضبط بالكتابة.
فعلى الثاني: لا كلام فيه، إذ لا معنى لايجاب التحفظ هنا. وأما على الأول:
فلايجابه فيه مجال، نظير إمكان ايجاب الاحتياط في الشبهة البدوية، فلو أوجب عليه
التحفظ وفرط حتى نسي يصح أن يعاقب على ترك المنسي أو فعله، إذا الامتناع
بالاختيار لا ينافي الاختيار عقوبة وإن ينافيه تكليفا في ذاك الحين، ولكن يرتفع
بحديث الرفع، لأن أثره إنما هو فيما يمكن للشارع العقاب عقلا، وأما فيما
لا يمكنه ذلك فلا، كما في الفرض الأول.
والحاصل: أنه إذا لم يمكن علاج النسيان بالتكرار ونحوه، فالعقاب مرتفع
عن الناسي الكذائي عقلا، بلا افتقار إلى حديث الرفع أصلا. وأما إذا أمكن
العلاج به وفرط حتى نسي فلعقابه مجال عقلا، فيرتفع حينئذ بذاك الحديث شرعا،
كما أنه بناء على (ارتفاع الأحكام الوضعية به أيضا) يمكن تصحيح صلاته،
لارتفاع البطلان. وكذا تصحيحها بقاعدة (لا تعاد) إن لم تنصرف عن النسيان
المسبب عن التفريط مع العلم باستلزامه إياه.
وأما الجهل: فأما أن يكون مركبا أو بسيطا، فعلى الأول: لا ريب في تمشي
قصد القربة منه، لاعتقاده الإباحة وأن ذلك المال ملك له أو مأذون فيه، فتصح
صلاته لو كان المانع هو عدم تمشي القصد - كما هو أحد المباني - ولعدم فعلية
الحرمة وتنجزها في حقه يمكن أن لا يكون فعله مبعدا، فحينئذ يمكن أن
تصح عبادته الواجدة للملاك المقصود. نعم: على الشرطية التعبدية لا محيص عن
192

البطلان، إلا أن يتمسك بقاعدة (لا تعاد) كما أنه كذلك أيضا لو قيل: بأن المبعد
الواقعي غير صالح للتقريب علم أو جهل، حيث إن لتصحيحها بها مجالا.
وعلى الثاني: فإن كان هناك ما يحرز الوجود أو العدم، بأن تكون حالته
السابقة من الغصبية وعدمها معلومة، فباستصحابها يصير عالما بالموضوع عند المطابقة
للواقع وجاهلا مركبا عند المخالفة، وقد مر حكم كليهما. وأما إن لم يكن
هناك أصل محرز، فهل يمكن البناء على الحلية وعدم الغصبية؟ لأن كل شئ
حلال حتى يعلم، أو لا يمكن؟ لأن المورد من الأمور الهامة التي يحتاط فيها
- حيث إن مال المسلم كدمه وحرمته كحرمته - فيلزم الاحتياط بلا حلية،
وجهان بل قولان: تفصيل ذلك موكول إلى الأصول، ولاتضاح حكم كل واحد
منهما لا يحتاج إلى الإطالة.
الجهة الرابعة: في عدم الفرق بين كون المصلي الناسي هو الغاصب
أو غيره، وفيها الفرق بين من يبالي على فرض تذكره ومن لا يبالي
لا اشكال في أن مساق حديث الرفع هو المنة على العباد، حيث إنهم
بأجمعهم فيها سواسية، فلو كان رفع المنع والمؤاخذة بالنسبة إلى هذا الفرد مثلا
منة دون ذاك الفرد فلا يمكن استفادة مثله من الحديث الشريف، وأما عند عدم
الاستلزام لذاك فالظاهر هو الاطلاق بالنسبة إليه، بلا تفاوت بين أن يكون هو
الغاصب أم لا، إلا أن لا يجديه التذكر ولا ينفعه التنبه، لانصراف الحديث عنه
بوجهين:
الأول: ما أشير إليه آنفا من استواء الناس بأجمعهم في الامتنان، ومن المعلوم:
إن رفع المؤاخذة والمنع عن الناسي الذي لا يدعوه التذكر إلى الانتهاء عما
نهى الله، عنه - من عدم التصرف في مال الغير - وإن كان منة عليه، ولكنه
نقمة وعذاب على غيره.
193

والثاني: أن مساق الحديث هو ما يكون التخطي والتجاوز بالفعل أو
الترك مستندا إلى النسيان، بحيث لو تذكر لارتدع، وأما ما لا أثر فيه له بل
يكون هو والتذكر سواء، فيشكل اندراجه تحته جدا. فمدار الفرق حينئذ هو
المبالاة وعدمها، فالناسي الذي لا مبالاة له فهو ليس في اتساع المنة، دون من
يبالي ويرتدع بالتذكر.
وأما قاعدة (لا تعاد) فعند عدم انصرافها عن مثله أيضا فالحكم فيهما هو
الصحة، وإلا تختص بالأخير منهما.
مسألة 1 - لا فرق في الغصب بين أن يكون من جهة كون
عينه للغير أو كون منفعته له، بل وكذا لو تعلق به حق الغير
بأن يكون مرهونا.
إن المدار - بناء على تمامية تلك الأدلة - هو عدم جواز التصرف، سواء
كان العين أو المنفعة أو الانتفاع ملكا للغير أو كان متعلقا لحقه - كالمرهون - أو لم
يمس كرامة العين شئ أصلا، ولكن توجه تكليف بحت بمالكه بالمنع عن التصرف
الخاص أو العام فيه، حيث إنه نذر أو حلف على عدم تصرفه فيه لمصلحة أوجبت
نفوذ ما عقده وأوقعه، فحينئذ يحرم عليه التصرف فيه وإن لم يتعلق حق للغير
بالعين، ونعم ما أفاده الماتن (قده) في عقده البحث، حيث قال: " الثاني الإباحة "
فلا خصوصية للغصب ونحوه مما تكون العين فيه مصبا للحق.
194

مسألة 2 - إذا صبغ ثوب بصبغ مغصوب فالظاهر أنه لا يجري
عليه حكم المغصوب، لأن الصبغ يعد تالفا فلا يكون اللون
لمالكه، لكن لا يخلو عن اشكال أيضا. نعم: لو كان الصبغ أيضا
مباحا لكن أجبر شخصا على عمله ولم يعط أجرته لا اشكال
فيه، بل وكذا لو أجبر على خياطة ثوب أو استأجر ولم يعط
أجرته إذا كان الخيط له أيضا، وأما إذا كان للغير فمشكل،
وإن كان يمكن أن يقال: إنه يعد تالفا فيستحق مالكه قيمته،
خصوصا إذا لم يمكن رده بفتقه، لكن الأحوط ترك الصلاة
فيه قبل ارضاء مالك الخيط، خصوصا إذا أمكن رده بالفتق
صحيحا، بل لا يترك في هذه الصورة.
إن الصبغ قد يكون بنحو الطلي المصحوب للأجرام الجوهرية ذوات اللون،
وقد لا يكون كذلك، فعلى الأول: لا يعد تالفا، إذ المفروض بقاء تلك الأجرام
ولا ميز بينها وبين الأعيان المغصوبة الأخر، فيبطل الصلاة فيما هذا شأنه.
وأما على الثاني: فحيث إنه لا ازدياد فيه عد اللون، فيلزم البحث عن كونه
وصفا تابعا للمتلون بلا استقلال له أصلا لا في الوجود ولا في الاعتبار الملكي، أو
شيئا منحازا عنه في الاعتبار الملكي وإن لم يستقل عنه في الوجود.
والحق هو أن وزان لون الثوب هو وزان قصارته وصياغة الذهب وجعله
195

متهيأ بهيئة خاصة ونحو ذلك مما لا استقلال ملكي له وإن كان له أثر في ازدياد
القيمة، ويشهد له أنه ليس في حوزة الاعتبارات العقلائية - التي هي المرجع في
أمثال المقام - للون كالهيئة استقلال، بأن يبيعه البايع دون الثوب وكذا دون
المادة، أو يبيع الثوب دون اللون، أو المادة دون الهيئة، أو يبيع أحدهما من
شخص والآخر من شخص آخر. وكذا يشهد أنه لو أمره بالصياغة بلا استيجار لم
يحكم هنا بالشركة بين مالك العين ومالك الهيئة، بل يحكم بلزوم أجرة المثل،
حيث إن عمله محترم لا بد من العوض. وأما لو لم يأمره به، كما لم يستأجره له
فصاغه هو باقتراح من نفسه فما فعله هدر لا عوض له، كما أنه ليس يشترك مع
مالك الثوب فيه، بل هذا رزق رزقه الله بلا عوض عليه - أي على ذاك المالك -
إلى غير ذلك من الشواهد الدالة على أن اللون ونحوه يعد لدى العرف تالفا،
لا شيئا باقيا بحياله. نعم: له أثر في ازدياد الرغبة والقيمة، ولكن لا يحاذيه شئ
من المال أصلا، وذلك نظير بيع الدار التي تكون قريبة من المسجد أو الشارع
أو الماء أو المستشفى ونحوها مما يعم به البلوى، حيث إن الرغبة في تلك الدار
أزيد مما ليس كذلك وكذا قيمتها، ولكن لا بنحو تقسط تلك القيمة أو الثمن
على الدار وعلى وصفها، بل الثمن بتمامه لها بلا محاذاة لشئ منه لوصفها.
وكذا بيع الثوب الذي له لون خاص مرغوب فيه، أو الذهب الذي له
هيئة خاصة صاغه الصائغ بها. فحينئذ يعد اللون تلفا، إذ لا اعتداد عند العرف
بأن له جرما حاملا له لا محالة - حيث إن انتقاله عن موضوعه الأول إلى الثوب
حال، فلا بد من بقاءه على حالته الأولى قبل الصبغ من قيامه بموضوعه - لأن
هذا وأشباهه من الدقائق العقلية لامساس لها بالأحكام الفرعية التي تدور مدار
أفهام الناس وادراكاتهم، لا الأوحدي المائز عنهم بما يخصه. ولذلك يحكم العرف
بنفي الدم مع بقاء لونه، ويتبعه الفقه من الحكم بطهارته وأن يمتنع العقل
الدقيق عن فهمه والاذعان به.
196

فتبين: أن الصبغ لا حكم له من حيث الغصب، نعم: تشتغل ذمته ببدله
كسائر الديون التي لا ارتباط لها بالعين، فالصلاة في المصبوغ بالصبغ الكذائي
صحيحة لصيرورته بالتبع ملكا لمالك الثوب منقطع الارتباط عن مالكه الأول.
ومن هنا يتضح حكم ما لو كان الصبغ مباحا ولكن أجبر الصابغ عليه ولم يعط
أجرته، فإنه لامساس لذلك بالعين أصلا، لنزاهتها عن أن يحوم حولها الاشتراك
بين مالك الثوب ومالك الصبغ وبين الصابغ المجبور عليه. فليت المصنف (ره) لم
يفرق بين هذين الفرعين وحكم بصحة الصلاة فيهما بلا اشكال كما نفاه - أي الاشكال -
في الثاني.
بقي الكلام في فرعين آخرين - الأول: أنه لو أجبر شخصا على خياطة
ثوب أو استأجره لها ولم يؤد أجرته وكان الخيط له لا لذلك الخياط، فلا إشكال
في صحة الصلاة في ذاك الثوب المنزه عن تعلق حق الغير أو حكم المنع، فحيث
أنه يجوز له التصرف فيه - سواء أعطى أجرة الخياط أم لا - فلا ريب في صحة
صلاته فيه.
والثاني: هذا الفرض بحاله مع كون الخيط للخياط لا له، وفيه ثلاث
صور: إحديها: ما يمكن فيه رد الخيط صحيحا وبالفتق الموجب لبينونة اللحمة
عن السدي بسهولة أو نحو ذلك، فحينئذ لمالكه مطالبة عينه وعلى مالك الثوب
الغاصب لذاك الخيط رده، فيحرم تصرفه فيه قبل إرضاء مالكه، فتبطل صلاته
فيه حينئذ، وما أدري ما الاشكال فيه الذي أشار به في المتن؟ لأن احتمال التلف
وصيرورة الخيط الكذائي بحكم التالف مما لا وجه لانقداحه، بعد وجوده التام
بالفعل وإمكان رده كما كان.
ثانيتها: ما يمكن فيه رد الخيط معيبا، فالظاهر أيضا جواز مطالبة مالكه
لعينه، فعلى مالك الثوب الغاصب لذاك الخيط رده مع ضمان أرش النقصان
والعيب، فقبل الرد يحرم عليه التصرف وتبطل صلاته فيه، وبعده لا اشكال في صحة
197

صلاته فيه وإن لم يؤد الأرش بعد، والسر هو بقاء العين المغصوبة بحالها وإن
نقصت في الجملة، فمعه لا يرتب عليها أثر التالف من الانتقال إلى البدل، فتبصر.
ثالثتها: ما لا يمكن رد الخيط معيبا فضلا عن رده صحيحا، بل يصير بالفتق
وإخراجه عن الثوب منقطعا بقطع صغار لا قيمة لها أصلا وإن لم يصر كذلك قبل
الفتق، وهذا هو الحائز للاهتمام الفائق جدا، لتضارب الآراء فيه، كما لا يخفى
على من راجع كتاب الغصب ونحوه مما يبحث فيه عن مثله، كالزجاجة المغصوبة
إذا انكسرت، وغيرها مما زالت عنه الصورة وبقيت المادة وحدها عارية عن المالية
أيضا وإن بقت ملكيتها، حيث إنه لا اشكال في ضمان الغاصب للبدل بتمامه
مثليا كان أو قيميا، إنما الكلام في تلك القطع الصغار من المادة، فهل يجوز
للغاصب أن يتصرف فيها حينئذ أو لا؟ وجهان:
أحدهما: عدم جواز التصرف فيها، لأنها قبل انعدام الهيئة كانت ملكا
لمالكها كما كان المجموع المركب من المادة والهيئة مالا له، فيستصحب بقاء تلك
الملكية فيترتب عليها حرمة التصرف. لا للدليل اللفظي عليها، إذ الموجود منه
هو ما ينطق بعدم جواز التصرف لأحد في مال الغير فلا يشمل الملك، بل لاستقرار
غريزة العقلاء على امتناع الجمع بين ملكية الشئ لشخص وبين جواز التصرف
لمن عداه طاع المالك أو كره، وذلك لأن الملكية نحو ربط عقلائي واختصاص
عرفي بين الملك والمالك ولذا يستند إليه دون غيره، فإذا كان المالك والغير سواء
في جواز التصرف فيه مطلقا لما تقوم به، بل كان على وزان المباحات الأصلية،
وهذا المعنى الدارج بين العقلاء ممضي لدى الشرع، فلا يجوز التصرف فيه شرعا،
كما لا يجوز عرفا.
والثاني: هو جواز التصرف في تلك القطع الصغار للغاصب فقط بعد أداء
البدل، حيث إن ذاك البدل عوض لما تلف بتمامه، فلو كانت المادة باقية بعد على
ملك مالكها الأول للزم الجمع بين العوض والمعوض، فلا محيص من خروجها
198

عن ملكه إلى ملك الغاصب.
وأورد عليه نقضا: بما لو صار المغصوب تالفا بمادته وهيئة، حيث إن الغاصب
حينئذ مأمور بأداء البدل المطابق للمبدل كذلك من دون أن يرد في ملكه شئ
أصلا، فأداء البدل ليس معاوضة حتى يستلزم دخول شئ في ملكه، فتلك القطع
باقية على ملك مالكها الأول.
والتحقيق الحاسم للنزاع الهادي إلى ما هو الأصل الأصيل الذي يحوم
حوله الجواز والمنع المائز لحكم انعدام المغصوب رأسا عن حكم تلف صورته
فقط، إنما هو على ذمة مقدمة ومقامين:
أما المقدمة: فهي أن العقلاء بحسب غرائزهم وارتكازاتهم أصلا يرجعون
إليه في الضمان وفي كيفيته، وحيث إن الشرع الأنور لم يبين في شئ من موارد
الاتلاف والغصب ونحو ذلك عدا أصل الضمان، فلا بد من ايكال كيفيته إلى العرف
امضاء لها بهذا الايكال الضمني، والذي يتحصل بعد الغور البالغ في غرائزهم،
هو أن التالف بما هو تالف بعينه يستقر في الذمة، فلو غصب زيد شاة عمرو وذبحها
وأطعمها الغير أو نفسه فصارت معدومة عرفا، يقول عمرو المغصوب منه للغاصب:
أد شاتي، حسب الارتكاز الأولي، من دون أن يقول بدوا: أد بدل شاتي من المثل
أو القيمة، فهذه الغريزة الموجبة لهذا التعبير أصدق شاهد على اشتغال ذمة الغاصب
بالعين المغصوبة التالفة ولا وبالذات، بحيث لو فرض امكان عود تلك العين بحالها
في الخارج لكان له مطالبتها كما لو لم تتلف أصلا، وهذا بخلاف ما اشتغلت الذمة
بالبدل عند التلف، إذ لا يستحق المغصوب منه عدا ذاك البدل شيئا، فالعين على
فرض عودها للغاصب، لا له. نعم: لما لم يمكن أداء تلك العين التالفة يحكمون
بلزوم تأدية ما هو الأقرب إليها، وحيث إن الأقرب إلى تلك العين يختلف
باختلافها - إذ في بعض الموارد يكون الفرد الآخر من طبيعتها أو صنفها أقرب
إليها، وفي بعضها الآخر يكون ما يحاذيه من المالية كذلك - انقسم البدل إلى
199

هذين القسمين: من المثل والقيمة، فما هو الدارج في الفقه من المثلي والقيمي
يكون رهينا لما أسسته يد الارتكاز وشيدته الغريزة العقلائية، من دون صدوره
عن الشارع الصادع بما أمر.
وتستتبع هذه الغريزة آثارا أخرى، منها: كون القيمة محسوبة بلحاظ
يوم الأداء لا يوم التلف، كما في محله.
وأما المقام الأول: ففي انعدام العين المغصوبة رأسا
لو غصب ماء فصار بالتبخير هواء، أو حطبا فصار بالاحراق رمادا أطارته
الريح العاصفة - وما إلى ذلك من النظائر - فيحكم العرف في ذلك بانعدامه
رأسا، فلا مادة ولا هيئة ولا عروض لها فيها أصلا، بلا إصغاء إلى ما يناديه العقل
الدقيق من بقاء المادة لا محالة ولو منتشرة في أماكن شتى.
فتشتغل ذمة الغاصب بعين ما غصبه من العين ويصير ضمانها فعليا بعد ما كان
شأنيا، إذ بمجرد استيلاء يده العادية لا تشتغل ذمته بالعين المغصوبة مع وجودها بعينها
في الخارج، بل ذلك إنما هو بتقدير التلف وخلو صفحة الكيان عنها، فقبله شأني
وبعده فعلي، فيعامل معها حينئذ معاملة الدين وإن كان بينهما امتياز - نشير إليه في ثنايا
البحث - ومن المعلوم: أن لفراغ الذمة المشغولة طريقين: إحديهما: أن يشتري المدين
ما في ذمته من الدائن أو يصالحه أو نحو ذلك من المعاملات المعهودة، فحينئذ يملك
المدين ما في ذمته لأنه الأثر الهام للمعاملة، وحيث إنه لا اعتبار لهذه الملكية لدى
العقلاء - لآبائهم عن كون الإنسان مالكا لما في ذمته - فلا بد من الحكم بعدم
استقرارها، بل لا استهام لها من الثبوت إلا ما يتفرع عليه السقوط ك‍ (آن ما)
نحو اشتراء الإنسان أحد عموديه: من الوالد أو الولد، حيث إنه بالاشتراء يملكه
(آنا ما) فينعتق، وتفصيله في بيع الدين على من هو عليه.
فالغاصب حينئذ يملك ما في ذمته بالاشتراء (آنا ما) متعقبا بالسقوط
والفراغ.
200

وثانيتهما: أن يؤدي ما هو أقرب إلى تلك العين التالفة: من المثل أو القيمة،
لا بعنوان المعاملة الخاصة، بل بعنوان التأدية فقط، فمآله أيضا إلى أن ما يؤديه
من المثل أو القيمة هو بدل مما في ذمته، فيصير المبدل منه الذي كان ملكا للدائن
ملكا للمدين (آنا ما) كما أن البدل الذي كان ملكا له يصير ملكا للدائن وأن يستقر
هناك، فالغاصب حينئذ يملك ما في ذمته بالتأدية (آنا ما) متعقبا بالسقوط.
وأما المقام الثاني: ففي انعدام العين المغصوبة هيئة فقط
لو غصب كوزا فكسره، أو زجاجة فانكسرت، أو نحو ذلك مما تبقى فيه
المادة وحدها عارية عن المالية، فيحكم العرف في ذلك بانعدام الهيئة فقط دون
المادة، ولكن لما لم يكن لها وجود خارجا بلا مادة يحكم باشتغال ذمته بها مع
قيامها بمادة، فتتوقف وجودا واعتبارا عليها.
وتوضيحه: بأن لتلك العين المغصوبة مادة وصورة قائمة بها، فعند الكسر
ينقطع القيام والربط، فينقطع القائم وهو الموجود الرابطي، لأن تلك الهيئة كانت
قائمة بالمادة ومرتبطة إليها، فالكسر هو القاطع للربط، فينقطع وينعدم ما كان
متقوما به غير منحاز بالاستقلال. فتشتغل الذمة بما خلت صفحة الوجود عنه،
وهو الهيئة وقيامها بتلك المادة، وأما نفس تلك المادة فلا، لبقائها خارجا.
فلو فرض إمكان عود تلك الهيئة والقيام لجاز للمغصوب منه مطالبة عينه، فحينئذ
يمكن للمدين تخليص ذمته عما اشتغلت به بما مر من الطريقين، نعم: لما امتنع
وجود تلك الهيئة بلا مادة خارجا وليس في حوزة الاعتبارات العقلائية ما يشبهه،
فلا بد من الالتزام باشتغال ذمته بها مع قيامها بمادة، فيكون ما يؤديه المدين
من العين المماثلة لتلك العين بدلا عنها بتمامها، فيملك ما في ذمته من الهيئة مع
قيامها بالمادة بأداء ما يماثلها هيئة، كما أنه يملك ما في الخارج من المادة المكسورة
الباقية على ملك الدائن أو المغصوب منه كذلك، أي بأداء ما يماثله مادة.
201

والسوق أصدق شاهد لما قلناه، لآباء ارتكاز أهله عن بقاء تلك القطع
المكسورة على ملك المغصوب منه بعد أداء ما يماثل العين المغصوبة مادة وصورة.
فثمرة الأداء أو المبادلة هيهنا أمران: أحدهما: تملكه ما في ذمته المتعقب بالسقوط
والآخر: تملكه ما في الخارج من المادة.
ولا خفاء في أن مصب الكلام هو ما لا يكون الموجود من المادة مصداقا
للمغصوب ولو معيبا، وأما فيما يكون كذلك فحكمه هو ما مر: من لزوم رده
مع الأرش.
فتحصل: أن ما أفاده " الماتن " من الاشكال فيما إذا كان الخيط غصبا لا وجه له،
بل اللازم الجزم بالبطلان عند تمامية المباني المارة، كما أن ما احتمله: من عده
تالفا، ليس حجرا أساسيا يدور مداره الحكم ويبتني عليه الصحة والبطلان
لما مر: من أن التلف في ماذا، وأن الصلاة في تلك القطع العارية عن المالية باطلة
قبل تأدية البدل وصحيحة بعدها.
مسألة 3 - إذا غسل الثوب الوسخ والنجس بماء مغصوب،
فلا اشكال في جواز الصلاة فيه بعد الجفاف، غاية الأمر أن ذمته
تشتغل بعوض الماء. وأما مع رطوبته فالظاهر أنه كذلك أيضا،
وإن كان الأولى تركها حتى يجف.
ولعلك في غنى عن تكرار ما أصلناه آنفا. ونشير إلى محصوله اجمالا: بأن
الثوب المغسول بالماء المغصوب ونحوه، إما أن يكون مستصحبا معه شيئا من الأجزاء
المائية التي تحس بالعصر وإن لم تكن محسوسة قبله، وأما أن لا يكون كذلك،
202

بل ليس معه الآن إلا البلة والنداوة التي تقصر عن أن تجتمع ماء ولو بالعصر.
فعلى الأول: يكون وزان تلك الأجزاء وزان القطع الصغار من الخيط في
الفرع السابق، فما لم يؤد البدل لا يجوز التصرف فتبطل الصلاة. وأما إن أداه
فهي تصير ملكا للغاصب، فيجوز التصرف فيها فتصح الصلاة.
وعلى الثاني: لا حرمة، إذ لا موضوع، حيث إن العرف لا يرى لبس الثوب
المبلول تصرفا في الماء المغصوب أو نحوه، فكأنه قد انعدم لديه مطلقا.
مسألة 4 - إذا أذن المالك للغاصب أو لغيره في الصلاة فيه
مع بقاء الغصبية صحت، خصوصا بالنسبة إلى غير الغاصب.
وإن أطلق الإذن ففي جوازه بالنسبة إلى الغاصب اشكال،
لانصراف الإذن إلى غيره، نعم: مع الظهور في العموم لا اشكال.
لا اشكال في صحة صلاة المأذون له، سواء كان هو الغاصب أو غيره، إذ معه
يرتفع النهي الموجب للبطلان على أحد تلك المباني، ولا مساس له بالضمان الباقي
بعد على الغصب. وأما في الإذن المطلق أو العام فلا ريب في صحة صلاة غير الغاصب
وأما هو: فإن كان الحقد والضغن الموجب للانتقام بمنزلة المخصص اللبي المتصل،
فلا يجوز له، وإن لم يكن كذلك، بل انعقد لدليل الإذن ظهور بلا معارض، يصح
له أيضا، كما يصح لغيره. حتى على (وصيته عليه السلام لكميل) إذ مع شمول الإذن له
يصير تصرفه حلالا، فلا منع.
203

مسألة 5 - المحمول المغصوب إذا تحرك بحركات الصلاة
يوجب البطلان وإن كان شيئا يسيرا.
قد مر بعض الكلام في المحمول، ولكن الكلام حينئذ في سر انفكاكه عن
الملبوس، حيث لم يقيده بالحركة مع تقييده - أي المحمول - بها، مع أنه لو كان
سند البطلان هو الاتحاد ونحوه فهما فيه سواء. ولو كان هو النص، فالظاهر عدم شموله
له، إذا لمحمول مع المصلي لا أن المصلى فيه، فقوله عليه السلام في تكل الوصية "... فيما
تصلي وعلى ما تصلي " لا يشمله، ولذا يستند في المحمول النجش في الصلاة بما دل
على منع ما هو مع المصلي، لا ما يصلي هو فيه، بحيث لولا نص المصاحبة لما أمكن
استفادة المنع من نص الظرفية، فراجع.
والحاصل: أن اختصاص التقييد بالحركة التبعية بالمحمول دون غيره من
الملبوس خال عن الوجه.
مسألة 6 - إذا اضطر إلى لبس المغصوب لحفظ نفسه أو لحفظ
المغصوب عن التلف صحت صلاته فيه.
إن الاضطرار قد لا يكون مسبوقا بالاختيار وقد يكون. أما الأول: فكأن
وقع في يده مال بأحد الأسباب العقلائية: من البيع والوديعة وما إلى ذلك، ثم
تبين كونه مغصوبا، فلو اضطر من هذا شأنه إلى التصرف فيه - كاللبس الواجب
لحفظه أو لحفظ ذاك الملبوس - فلا نهي ولا عقاب، فلا مبعد حتى لا يتمشى معه قصد
204

القربة أو لا يكون هو بنفسه مقربا.
وأما الثاني: فكأن غصب ثوبا عمدا ثم اضطر إلى لبسه، فلا إشكال في سقوط
النهي حينذاك، وأما العقاب فلا، كما صرح " المحقق الخراساني ره " بأنه يعاقب
بالنهي السابق الساقط، فمن توسط أرضا مغصوبة حيث إنه مع الخروج المأمور
به يعاقب، وفي المقام لو اضطر إلى لبسه وهو في طريق الرد مثلا يعاقب عليه، فهو
مبعد، إذ لا عقاب على ما ليس بمبعد وإن لم يكن منهيا عنه الآن، فلا يكون
مقربا. فيلزم القول بالبطلان وإن ضاق الوقت حتى بمقدار ادراك الركعة.
ونظيره ما لو فقد الماء والتراب المباح وليس له إلا المغصوب منهما، حيث
أنه يحكم بأنه فاقد الطهورين فلا صلاة عليه. وفي المقام لا يمكن الصلاة إلا في
المغصوب، فيلزم الحكم بسقوطها، مع أنها صحيحة (هذا وأشباهه مما يؤيد ما
حققناه: من اجداء تعدد الجهة وأن الجهة المبعدة لا تسري إلى الأخرى المقربة
فيتمشى القصد وغيره من الشرائط الأخر) والحاصل: لزوم التفصيل بين القسمين
(على تمامية تلك المباني) وإلا فلا بطلان أصلا. كما مر.
مسألة 7 - إذا جهل أو نسي الغصبية وعلم أو تذكر في
أثناء الصلاة، فإن أمكن نزعه فورا وكان له ساتر غيره صحت
الصلاة، وإلا ففي سعة الوقت ولو بادراك ركعة يقطع الصلاة،
وإلا فيشتغل بها حال النزع.
لا خفاء في أنه لم يؤخذ عنوان (الفور) في لسان الدليل حتى ينصرف إلى
العرفي منه بلا اعتداد للعقلي من ذلك، فالمدار حينئذ على الاقتصار إلى عمود
205

الزمان قلة وكثرة، فإن أمكن له النزع في الأثناء مع أن له ساترا آخر، إنما
تصح صلاته لو لم يكن الاشتغال بها مانعا عن التسريع فيه - بأن يكون وجودها
كالعدم - وأما لو أمكن فورا ولكن في آنات أكثر من آناته لولا الاشتغال بها
فيلزم القطع فالنزع، ولا ريب في تصويره، إذ الاشتغال بها كالقيد يمنع عن التسريع
ولاغرو في جواز قطعها حينئذ بعد قوة حرمة دليل التصرف في المغصوب حدوثا
وبقاء.
والحاصل: أن صحة الصلاة بقاء إنما تتم لو ساوى زمن النزع مشتغلا بها
وزمنه قاطعا لها، وإلا فيندرج في الفرع الآخر لا الأخير (وهو لزوم القطع عند
الاتساع ولو بادراك ركعة) وأما عند الضيق فالاشتغال بها حال النزع إنما يصح
لو ساوى زمن النزع مشتغلا بها وزمنه قاطعا لها، وأما لو زاد على الثاني ولو بآن
واحد فلا يجوز الاشتغال بها أيضا، كما مر نظيره فيما لو فقد من الطهورين إلا
أحدهما المغصوب كالتراب الغصبي، حيث إنه يسقط التكليف، فلم لا يحكم به
على تمامية تلك المباني؟ والسر هو ما عرفت: من صحة الصلاة وإن وجب النزع
فورا ففورا.
مسألة 8 - إذا استقرض ثوبا وكان من نيته عدم أداء عوضه
أو كان من نيته الأداء من الحرام، فعن بعض العلماء: أنه يكون
من المغصوب، بل عن بعضهم: أنه لو لم ينو الأداء أصلا لا من
الحلال ولا من الحرام أيضا كذلك، ولا يبعد ما ذكراه. ولا يختص
بالقرض ولا بالثوب، بل لو اشترى أو استأجر أو نحو ذلك وكان
206

من نيته عدم أداء العوض أيضا كذلك.
إن هنا صورا ثلاثا نفى " الماتن " البعد عن بطلانها. الأولى: ما لو اقترض
وكان من نية ذلك المقترض عدم الأداء. الثانية: ما لو اقترض وكان من نيته الأداء
من الحرام. الثالثة: ما لو اقترض ولم ينو الأداء أصلا لا من الحرام ولا من الحلال.
ويظهر من الحكم بالغصبية في هذه الصور: توقف صحة الاقتراض على النية المتوقفة
على الالتفات إلى الأداء. ولقد تعدى في المتن عن القرض إلى غيره من المعاملات.
فتنقيح المقال على ذمة الجهتين: إحديهما: بلحاظ ما يقتضيه القواعد العامة،
ثانيتهما: بلحاظ ما يقتضيه النصوص الخاصة، حتى يتضح نطاق تلك النصوص أولا
وامكان التعدي عن موردها إلى غيره من الموارد الأخر ثانيا.
أما الجهة الأولى: ففي مقتضى القواعد الأولية
إن المعاملة قد تكون على عين خارجية، وقد لا تكون. والأول: كأن يشير
البايع أو المشتري إلى عين شخصية، ويقول: بعث هذا أو اشتريت بهذا، والثاني:
بخلافه، بأن يقع على مال كلي، بلا تفاوت بين كونه نقدا لعدم التأجيل، أو نسيئة
لذلك. فكما أن الأول أجنبي عن الذمة، لأن مصب القرار المعاملي هناك عين
خارجية لا يتعداها إلى عين أخرى فضلا عن التعدي إلى الذمة، كذلك الثاني لامساس
له بالعين الخارجية، لأن مصبه فيه كلي لا شخصي فلا محالة يكون في الذمة،
لأنها التي تصلح لأن تعيه وتصير وعاء له، فالتطبيق في مقام الأداء بيد من في ذمته
لا غير، فإن انطبق على فرد صالح لذلك شرعا فلا اشتغال للذمة به بعده، وإلا
فهي مشغولة به.
أما القسم الأول: فإن لم تكن العين الخارجية التي أشار إليها المشتري
207

ب‍ (هذه) ملكا له يصير العقد متنه فضوليا لا يجوز له التصرف في المبيع الذي اشتراه
بالعين المغصوبة قبل التصحيح - بناء على نفوذ الإجارة اللاحقة - كما في بابه -
وأما القسم الثاني: فالظاهر تمامية نصاب العقد بمجرد تحكيم ذاك القرار
المعاملي الدائر بين التمليك والتملك، بلا مساس له بموطن الأداء المنفصل عن
موطن اشتغال الذمة، ولا يعتبر فيه الالتفات إليه - أي الأداء - فضلا عن لزوم
قصده سيما قصده من الحلال، لخروج ذلك كله عن حريم القرار المعاملي رأسا،
فنية الأداء وجودا وعدما سواء، فإن أداه بعد ذلك من الحلال فهو، وإن أداه
من الحرام يصير الوفاء فضوليا، لا متن العقد، وكم له من فوائد بها يحتال
تخلصا عن بعض الشبهات.
ومما يؤيده استقرار غريزة العقلاء على صحة اقتراض المعسر الذي لا يقدر عادة
على الأداء، مع أنه لو اعتبر قصده لما صح اقتراضه لعدم تمشيه منه، إذ لا رجاء ولا
ترقب حتى يتمشى معه القصد. ولذلك لم يتعرض أصحابنا الإمامية (قدس سرهم)
قصده عند بيان شرائط صحة القرض، مع التعرض لوجوب قصد الايصال على من
بقي عنده مال شخص غاب عنه غيبة منقطعة فلا خبر عنه، مع أنه لو كان قصد
الأداء معتبرا في صحة الاقتراض لذكروه البتة. وأما بعض العلماء الذي نقل
عنه في المتن، فلعله من المتأخرين لا القدماء تبعا للنص الخاص زعما منه تمامية
دلالته على ذلك. وكيف كان لامساس لموطن الأداء بموطن القرار المعاملي.
ومن هنا ينقدح ما في مقال بعض مشايخنا (ره) من البطلان - لكونه أكل
مال بالباطل، فيبطل البيع المنتج لمغصوبية ما انتقل إليه صورة، فتبطل الصلاة
فيه بناء على اشتراط الإباحة - لما تبين من تباعد الموطنين وأن الأداء إذا
صار أكلا بالباطل غير مستلزم لكون التملك المعاملي والعقد المملك كذلك،
فلا ريب في صحة القرار المعاملي في البيع والقرض وما إلى ذلك من النظائر،
إذا أريد أداء العوض من الحرام، أو تركه رأسا.
208

وأما الجهة الثانية: ففي مقتضى النصوص الخاصة
فمنها: ما رواه الصدوق، عن أبي خديجة، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: أيما
رجل أتى رجلا فاستقرض منه مالا وفي نيته أن لا يؤديه فذلك اللص العادي. (1)
قد تضاربت الآراء في " أبي خديجة " بين التضعيف (كما عن الشيخ) وبين
التوثيق والتصليح (كما عن الكشي والنجاشي) حيث قال أحدهما: إنه ثقة،
والآخر: إنه صالح، ولا خفاء في الميز بينهما.
وأما المتن: فالمراد من (العادي) هو المتعدي الذي يشتد عقابه لعدوانه
الفائق عن لصوصيته - كمن يقطع الطريق ونحوه - لأن عقابه أشد من عقاب من
يسرق خوفا وخفية. والذي ينسبق منه إلى الذهن هو التنزيل بلحاظ العقوبة
وأن المحتال لجلب المال خداعا ومكرا كالقاطع العادي في شدة العذاب، وأنى
له التعرض للبطلان؟ ومن أين له العموم الشامل بجميع آثار المنزل عليه؟ لأنه
ليس بصدد بيان ذلك أصلا، إذ نطاقه لبيان تشديد العقوبة فقط، فلا يدل على بطلان
القرض الكذائي حتى يتعدى عنه إلى غيره من البيع ونحوه، كما تعدى " الماتن "
أو يقتصر في خصوص القرض، كما اقتصر عليه في الجواهر.
ويؤيده غير واحد من النصوص التي رواها (باب 5 من أبواب الدين والقرض
من الوسائل).
فمنها: ما رواه، عن عبد الغفار الجازي، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته
عن رجل مات وعليه دين؟ قال: إن كان أتى على يديه من غير فساد لم يؤاخذه
الله إذا علم من نيته إلا من كان لا يريد أن يؤدي عن أمانته فهو بمنزلة السارق (2).
حيث إنه عبر عن الدين ب‍ (الأمانة) التي لا تأبى عن الشمول لغيره، ونزل من

(1) الفقيه كتاب المعاش والمكاسب باب 3 (المعنون بباب الدين والقرض) ح 10
(2) الوسائل باب 5 من أبواب الدين والقرض ح 1.
209

لا يؤديها منزلة السارق لا في جميع الآثار التي لا يمكن الالتزام بها، بل في العقاب
وشدته - كما هو الدارج في المحاورات - ولذا قال عليه السلام بعد ذلك " وكذلك الزكاة
أيضا وكذلك من استحل أن يذهب بمهور النساء " فمن لا يؤدي الزكاة الواجبة
عليه وكذا المهر الواجب عليه فهو بمنزلة السارق عقوبة.
ومنها: ما رواه، عن ابن فضال، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
من استدان دينا فلم ينو قضاءه كان بمنزلة السارق (1).
ومنها: ما رواه " الكليني " عن حماد بن عثمان، عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
من تزوج المرأة ولا يجعل في نفسه أن يعطيها مهرها فهو زنا (2) ونحوها ما رواه
عن الفضيل بن يسار.
إذ لا اشكال في صحة النكاح وخروجه عن السفاح بتمامية العقد ولو جعل
المهر ما لا يملك - كالخنزير ونحوه - فضلا عن جعله ما يملك ولكن نوى أن
لا يعطيه. فالمراد من كونه (زنا) ليس هو التنزيل المطلق وإلا للزم أمور لا يلتزم
بها، فالمعنى هو التنزيل بلحاظ العقوبة والعذاب إن لم يؤده، كما أن المراد من
قوله " لا يجعل في نفسه... الخ " هو البناء على عدم الأداء لا مجرد عدم القصد،
لشهادة السياق. فتحصل: أنه ليس في الباب ما يدل على بطلان عقد القرض
حتى يتعدى منه إلى غيره من البيع والشراء ونحو ذلك، فجميعها صحيحة على
القاعدة.
نعم: قد يترائى من بعض النصوص ما يمكن التمسك به للبطلان مع دلالة
بعض آخر على الصحة، فلا بد من التعرض لذلك - مشيرا إلى العلاج الرافع
للتنافي بينهما - فمن ذلك: ما رواه عن محمد بن يحيى، قال: كتب محمد بن الحسن
إلى أبي محمد عليه السلام: رجل اشترى من رجل ضيعة أو خادما بمال أخذه من قطع

(1) الوسائل باب 5 من أبواب الدين والقرض ح 2.
(2) الكافي كتاب النكاح باب من يمهر المهر ولا ينوي قضائه.
210

الطريق أو من سرقة، هل يحل له ما يدخل عليه من ثمرة هذه الضيعة أو يحل
له أن يطأ هذا الفرج الذي اشتراه من سرقة أو من قطع طريق؟ فوقع عليه السلام:
لا خير في شئ أصله حرام ولا يحل استعماله (1).
تقريب الاستدلال بها للبطلان، هو أن المراد من الأصل هو المبيع الذي
يكون الثمرة (في الأول) والوطي (في الثاني) فرعا له، فنفي الخير عما أصله محرم،
فيدل على فساد ذلك الاشتراء، وإلا لما حرم المبيع الأصل ولما نفي الخير عما
يتفرع عليه من الثمرة والوطئ، ولعل المراد من نفيه أيضا هو المنع الالزامي
بشهادة قوله عليه السلام " ولا يحل ".
وفيه أولا: أنه يحتمل أن يكون المراد من (الأصل) هو المبدء الأول - أي
الثمن المحرم هنا - فيكون المبيع ذاته ومنافعه فروعا لذلك الأصل ولا خير فيها،
من دون التعرض لكون ذاك المبيع حراما، كما أن نفي الخير قاصر عن إفادة
الحرمة. ولا شهادة لقوله عليه السلام " لا يحل " بعد استعماله في التنزيه كثيرا، مع
احتمال رجوع الضمير إلى الأصل لا إلى (شئ) فالمعنى حينئذ: أن ما يكون
أصله محرما وممنوع الاستعمال فلا خير فيه، وأن لا يخلو عن تأمل.
والحاصل: أنه بناء على كون المراد من (الأصل) هو الثمن لا دلالة لها على
حرمة المبيع المستلزمة لبطلان البيع.
وثانيا: على التسليم يعارضه ما رواه عن إسماعيل السكوني، عن جعفر عن
أبيه عن آبائه عليهم السلام، قال: لوان رجلا سرق ألف درهم فاشترى بها جارية أو أصدقها
المرأة فإن الفرج له حلال وعليه تبعة المال (2).
حيث إنه نص في الجواز مقدم على ظهور ذاك في المنع، فيؤخذ بهذا، ويحمل
ذلك على التنزيه واستحباب الترك أو كراهة الفعل. وليكن هذا هو العلاج الحاسم

(1) الوسائل باب 3 من أبواب ما يكتسب به ح 1.
(2) الوسائل باب 3 من أبواب ما يكتسب به ح 2.
211

المتلقى بالقبول لدى العرف، لا ما ذكره بعض الفقهاء - على ما في الوسائل - من
حمل الأول المانع عنه على الشراء بعين المال، والثاني المجوز له على الشراء بما
بما في الذمة، لأن البيع الشخصي بالعين نادر جدا، فلا يصح حمل المطلق عليه،
وإن أبيت فالسوق ببابك، فراجع تجد صدق ما ادعيناه، لأن الغالب ما هو الواقع
على الذمم لا الأثمان العينية الخارجية، سيما ما هو الدارج في اليوم من الصكوك
والحوالات.
ومما يؤيد الحمل على التنزيه ما رواه، عن أبي خديجة، قال سمعت
أبا عبد الله عليه السلام يقول: لا يطيب ولد الزنا أبدا ولا يطيب ثمنه أبدا (1).
إذ لا اشكال في صحة بيع الولد المتولد من الأمة الزانية حيث إنه ملحق
بأمه في الملكية لمولاها فيجوز للمولى أن يبيعه بلا إشكال، وإن لم يطب ثمنه
تنزيها.
وما رواه عنه أيضا، قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: لا يطيب ولد الزنا
أبدا ولا يطيب ثمنه، والممزير لا يطيب إلى سبعة آباء، فقيل أي شئ الممزير؟
قال: الذي يكتسب مالا من غير حله فيتزوج أو يتسرى فيولد له، فذلك الولد
هو الممزير (2).
حيث إنه لا مجال للتأمل في صحة التزوج وإن كان ما أنفقه لذلك حراما،
فكذا التسري المبحوث عنه، فلو اشترى من الحرام أمة فقد تسرى من غير حل
فهو أيضا صحيح، وأما الكلام في نفي الطيب عن ثمن ولد الزنا فقد أشير إليه آنفا.
فتبين من ذلك: قصور ما ورد في الاشتراء بالمحرم أداء لا عقدا عن إفادة
البطلان، كقصور ما ورد في القرض، فالقاعدة الأولية محكمة، فعليها يصح الاستقراض
في جميع ما صوره في " المتن " وكذا المعاملات الأخر إذا لم تقع على عين خارجية
محرمة.

(1) الوسائل باب 96 من أبواب ما يكتسب به ح 8 و 9.
(2) الوسائل باب 96 من أبواب ما يكتسب به ح 8 و 9.
212

مسألة 9 - إذا اشترى توبا بعين مال تعلق به الخمس أو الزكاة
مع عدم أدائهما من مال آخر حكمه حكم المغصوب.
لا إشكال في أن العين التي تعلق به حق الغير مما لا يجوز التصرف فيها قبل
إرضاء ذي الحق، ولا ريب أيضا في أن الخمس وكذا الزكاة ليس تكليفا ماليا
منحدرا نحو المكلف مع نزاهة العين الخارجية عن أي تعلق، بل له مساس بها
قطعا أي نحو من التماس، كالإشاعة، أو الكلي في المعين، أو نحو حق الرهانة،
فعليه لو اشترى ثوبا بهذه العين الكذائية مع عدم تخليصها عن حق الغير يصير
العقد فضوليا بالنسبة إلى مقدار حق الغير.
فإن ثبت الولاية على المستحقين للحاكم الشرعي - حتى هذا النحو - فله
الامضاء تارة والرد أخرى، إذ لو كان الرد ضررا على المولي عليه يجب على الولي
الامضاء، كما أنه لو كان الامضاء ضررا عليه للزم على الولي الرد، حيث إن المناط
لحاظ غبطة المولى عليه وهو المستحق.
ثم إن الحق عندنا (في باب الزكاة والخمس) هو كونه بنحو الإشاعة استظهارا
من دليلهما، فيكون الأمر أضيق مما هو على الكلي في المعين، إذ التطبيق فيه
لما كان بيد المكلف، فله أن يتصرف في جميع ذاك المال إلى أن يبقى مقدار الخمس
أو الزكاة فيتعين الحق حينئذ فيه، كما في بيع صاع من صبرة، هذا بخلاف
كون التعلق على الإشاعة، لعدم جواز التصرف في شئ منه قبل التخليص أصلا.
إلى هنا انتهى ما أفاده " سيدنا الأستاذ مد ظله العالي " وكان ذلك في 20
شعبان المعظم 1385 للعطلة القادمة، وهي شهر رمضان المبارك، والمرجو من الله
(عز اسمه) أن يديم ظله الوارف حتى يستفاد من دراسته معالم الفقه الجعفري
بمنه وكرمه.
213

الثالث: أن لا يكون من أجزاء الميتة سواء كان حيوانه
محلل اللحم أو محرمه، بل لا فرق بين أن يكون مما ميتته
نجسة أو لا - كميتة السمك ونحوه مما ليس له نفس سائلة - على
الأحوط، وكذا لا فرق بين أن يكون مدبوغا أو لا.
إن استيفاء المقال فيما يرجع إلى المقام على ذمة أمور نشير إلى جملة منها
اجمالا، ثم نعقب البحث عنها تفصيلا. فمنها: أنه هل يختص الحكم باللباس، أو
يعمه وغيره مما يصدق عليه أنه صلى فيه بنحو من الظرفية، أو يعمهما والمصاحب
الذي لا يصدق عليه شئ من عنواني اللبس والظرفية؟ وجوه - فعلى الأول: لا ضير
عند عدم صدق اللبس وإن صدق الظرفية بأنه صلى في الميتة بنحو ما، وعلى الثاني:
لا ضير في استصحاب شئ منها حال الصلاة عند عدم صدق اللبس والظرفية، وهذا
بخلاف على الثالث، للبطلان حينئذ مطلقا.
ومنها: أنه هل التذكية شط لصحة الصلاة أو الميتة مانعة عنها؟ والثمرة
ظاهرة حال الشك، بعد الالتفات إلى أن الأمر وكذا النهي في مثل المقام غيري
دال على الحكم الوضعي.
ومنها: أنه هل يكون شرطية التذكية أو مانعية الميتة مغزاهما (شرطية
الطهارة. أو مانعية النجاسة) فلا أصالة إلا لذاك؟ أو لا يكون كذلك بل لهما استقلال
بذاتيهما، كما يكون لذاك كذلك؟ وهو المتجه، ويؤيده ذهاب بعض الأصحاب
(القائل بطهارة جلد الميتة بالدباغ) إلى بطلان الصلاة في المدبوغ منه، كما عن
ابن بابويه " فليس الحكم هنا دائرا مدار الطهارة أو النجاسة.
ثم إنه - على الاستقلال - يبحث عن عمومية الحكم لجميع أقسام الميتة
214

التي منها ما لأنفس سائلة له - كالسمك، حيث إنه طاهر وإن مات بلا تذكية
معتبرة فيه - وعن عدمها، بزعم الانصراف إلى بعض أقسامها وهو ما له نفس سائلة.
فهذه وأشباهها أمور لا بد من البحث عنها في ثنايا الكلام، حيث إن اتضاح
غير واحد منها يتوقف على الغور التام في نصوص الباب، فلنأتها مشيرا إلى
مقدار نطاقها.
فمن تلك النصوص: ما رواه عن محمد بن مسلم قال: سألته عن الجلد الميت
أيلبس في الصلاة إذا دبغ؟ قال: لا، ولو دبغ سبعين مرة (1).
لا ريب في خصوصية السؤال وعدم شموله لغير اللباس، وكذا لغير الجلد من
أجزاء الميتة لأخذ عنوان (اللبس) وكذا (الجلد) مع (الدبغ) الخاص به فيه
- أي في السؤال - وكذا الجواب قاصر عن شمول ما عداه، لأخذ عنوان (الدباغ). فيه أيضا. نعم: لا دلالة له على الجواز في غير مورد السؤال، فلا يعارض ما لو دل
على المنع فيه أيضا. وظاهره مانعية الجلد الميت - أي كونه ميتا - عن الصحة،
بلا دلالة على شرطية التذكية.
ومن تلك النصوص: ما رواه عن محمد بن أبي عمير، عن غير واحد، عن أبي عبد الله
عليه السلام في الميتة قال: لا تصل في شئ منه ولا في شسع (2).
إن السؤال غير منقول بتمامه، ولكن يستفاد نطاقه من الجواب البتة، إذ
لو كان له خصوصية زائدة لا يفيدها الجواب ولا يدل عليها، لكان تركها وعدم
نقلها تفويتا لها ومنافيا لوثاقة الراوي وأمانته في الحكاية، وكم له من نظير
فيما يكون الجواب دالا على السؤال بتمامه! حيث إن السؤال لا ينقل بتمامه هناك
وحيث إن المستفاد من الجواب هو التعميم الشامل للجلد وغيره واللبس وغيره
مما يصدق عليه الظرفية ولو بنحو ما يصدق في الشسع، يحكم بأن السؤال أيضا
كان كذلك. وقد يحتمل الاختصاص بالجلد بقرينة ذكر (الشسع) المعمول منه غالبا

(1) الوسائل باب 1 من أبواب لباس المصلي ح 1 و 2.
(2) الوسائل باب 1 من أبواب لباس المصلي ح 1 و 2.
215

فلا يشمل غيره من الأجزاء. ولكن يبعده أن ذكره لبيان شمول الحكم للفرد
الخفي منه، لا لبيان تضييق العموم - فظاهره مانعية الميتة بتمام أجزائها عن صحة
الصلاة الواقعة فيها بنحو من الوقوع والظرفية، بلا اختصاص للجلد، ولا لعنوان
اللبس.
ومنها: ما رواه عن الفضل بن شاذان، عن الرضا عليه السلام في كتابه إلى المأمون
قال: ولا يصلى في جلود الميتة ولا في جلود السباع. (1)
واختصاصها بالجلد واضح كوضوحها في المانعية. إلى غير ذلك مما يستفاد
منه المانعية.
ثم إن في الباب نصوصا أخر يستفاد منها شرطية التذكية لا مانعية الميتة،
فلنأت بشئ منها، ثم نعقبه بما هو المرجع في التمييز عند الشك.
فمن هذه النصوص: ما رواه، عن ابن أبي عمير، عن ابن بكير قال سأل زرارة
أبا عبد الله عليه السلام عن الصلاة في الثعالب والفنك والسنجاب وغيره من الوبر؟ فأخرج
كتابا زعم أنه إملاء رسول الله صلى الله عليه وآله أن الصلاة في وبر كل شئ حرام أكله
فالصلاة في وبره وشعره وجلده وبوله وروثه وكل شئ منه فاسدة لا تقبل تلك
الصلاة حتى يصلي في غيره مما أحل الله أكله، ثم قال: يا زرارة هذا عن رسول الله
فاحفظ ذلك يا زرارة، فإن كان مما يؤكل لحمه فالصلاة في وبره وبوله وشعره
وروثه وألبانه وكل شئ منه جائزة إذا علمت أنه ذكي قد ذكاه الذبح، وإن كان
غير ذلك مما قد نهيت عن أكله وحرم عليك أكله فالصلاة في كل شئ منه فاسد
ذكاه الذبح أو لم يذكه (2).
إن الصدر مسوق لبيان حكم المأكول وغيره فلا مساس له بالمقام. وأما
الذيل: فظاهره اشتراط الصحة بالعلم بالتذكية إذا كان الحيوان مأكول اللحم،

(1) الوسائل باب 6 من أبواب لباس المصلي ح 3.
(2) الوسائل باب 2 من أبواب لباس المصلي ح 1.
216

وأما إذا لم يكن كذلك فلا يجديه الذبح، وهذا باجماله واضح، وإنما الكلام في
قوله عليه السلام " وكل شئ منه جائز إذا علمت أنه ذكي " فهل المراد هو العموم
المستوعب لكل جزء استغراقا، أو العموم المجموعي؟ لا سبيل للعموم الاستيعابي
لأن غير واحد من الأمور المصرحة فيها غير قابل للتذكية - كالبول والروث واللبن -
فلا مجال لدوران الحكم مدار العلم بتذكيتها وعدمه، ولا يمكن إخراجها عن
عموم (كل شئ) لإباء مثل ذلك عنه، إذ العام وإن يصلح للتخصيص ولكن في غير
الأفراد المصرحة في المورد.
نعم: لا ضير في إرادة العموم المجموعي، فعند العلم بتذكية ذاك الحيوان
المحلل الأكل تصح الصلاة في أي جزء من أجزائه، وإليه يؤول ما لو قيل:
بالجواز عند العلم بتذكية مجموع تلك الأمور من حيث المجموع، والمفهوم
حينئذ نفي العموم لا عموم النفي، بخلافه على الأول.
وفي البين احتمال ثالث، وهو أن يكون المنع عند عدم العلم بالتذكية
لأجل النجاسة الذاتية كما في اللحم ونحوه، أو العرضية كما في الوبر والشعر
ونحوهما مما يلاقي ذاك النجس.
ويبعده دوران الحكم مدار التذكية وعدمها الظاهر في كون المنع لفقدها،
لا لأمر آخر أجنبي، ولذا صرح في الذيل بالمنع وإن ذكاه الذبح إذا لم يكن مأكول
اللحم. وعلى تسليم الاجمال لا يضر، لأن مساق الحديث هو أمر آخر - كما مر -
ولا إبهام فيه.
ثم إن الظاهر: أن المدار هو التذكية التي يختلف المراد منها باختلاف
الموارد: من الذبح، والنحر، والخروج من الماء حيا عند حضور المسلم، فلا اختصاص
لذلك بالذبح وإن صرح به فقط، لأنه من باب التمثيل لا التعيين، إذ لا ريب في
صحة التعدي إلى النحر، فيتعدى أيضا إلى الخروج من الماء حيا عند المسلم كما
في الحيتان، إذ المدار هو التذكية المختلفة باختلاف الموارد.
ومنها: ما رواه عن علي بن أبي حمزة قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام أو أبا الحسن
عليه السلام عن لباس الفراء والصلاة فيها؟ فقال: لا تصل فيها إلا ما كان منه ذكيا، قلت:
217

أوليس الذكي مما ذكي بالحديد؟ قال: بلى إذا كان مما يؤكل لحمه (1).
حيث إن ظاهرها توقف صحة الصلاة على التذكية، فهي شرط لها، لا أن
الميتة مانعة عنها.
ومنها: ما رواه عن تحف العقول، عن الصادق عليه السلام (في حديث) قال: وكل
ما أنبتت الأرض فلا بأس بلبسه والصلاة فيه، وكل شئ يحل لحمة فلا بأس بلبس
جلده الذكي منه وصوفه وشعره ووبره، وإن كان الصوف والشعر والريش والوبر
من الميتة وغير الميتة ذكيا فلا بأس بلبس ذلك والصلاة فيه (2).
والمراد من قوله ".... جلده الذكي " يحتمل أن يكون المذكى المصطلح
المقابل للميتة، فيدل على اعتبار التذكية شرطا، ولكن المراد من (الذكي)
الواقع في الذيل ليس هو المصطلح، بل المراد هو الطاهر، لأن الصوف ونحوه
لا يكون ذكيا بالمعنى المصطلح - كما مر سابقا - سيما بعد التصريح بالتعميم
من الميتة وغير الميتة، فيدل على اعتبار طهارة ذلك كله بلا مساس لها بالتذكية
المبحوث عنها، إذ الصدر لو خلي وطبعه وإن أمكن استفادة ذلك منه، ولكن
بشهادة الذيل يناقش فيه.
ومنها: ما رواه عن قرب الإسناد، عن علي بن جعفر، عن أخيه موسى عليه السلام
قال: سألته عن لبس السمور والسنجاب والفنك؟ فقال: لا يلبس ولا يصلى فيه إلا
أن يكون ذكيا (3).
لا ريب في ظهورها في اعتبار التذكية فتدل على شرطيتها. ونحوها رواية
عبد الرحمن بن الحجاج إذ فيها "... قال: إن كان ذكيا فلا بأس به " (4).
ومنها: ما رواه عن ابن أبي يعفور قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام إذ دخل
عليه رجل من الخزازين، فقال له الرجل: جعلت فداك ما تقول في الصلاة في

(1) الوسائل باب 2 من أبواب لباس المصلي ح 2.
(2) الوسائل باب 2 من أبواب لباس المصلي ح 8.
(3) الوسائل باب 4 من أبواب لباس المصلي ح 6.
(4) الوسائل باب 7 من أبواب لباس المصلي ح 11.
218

الخز؟ قال: لا بأس بالصلاة فيه، فقال له الرجل: جعلت فداك أنه ميت وهو
علاجي وأنا أعرفه، فقال له أبو عبد الله عليه السلام أنا أعرف به منك، فقال له الرجل:
أنه علاجي وليس أحد أعرف به مني، فتبسم أبو عبد الله عليه السلام ثم قال له: أتقول:
أنه دابة تخرج من الماء أو تصاد من الماء فتخرج فإذا فقد الماء مات؟ فقال الرجل:
صدقت جعلت فداك هكذا هو، فقال له أبو عبد الله عليه السلام: فإنك تقول: إنه دابة
تمشي على أربع وليس هو في حد الحيتان فتكون ذكاته خروجه من الماء،
فقال له الرجل: أي والله هكذا أقول، فقال له أبو عبد الله عليه السلام فإن الله تعالى أحله
وجعل ذكاته موته، كما أحل الحيتان وجعل ذكاتها موتها (1).
وظاهرها أيضا إناطة الصحة بالذكاة وأن الشرط وهو التذكية حاصل في
الخز بموته خارج الماء كما في الحوت.
فهذه النصوص هي التي عثرت عليها مما ظاهرها اشتراط التذكية لا مانعية
الموت حتف الأنف، وقد مر ما ظاهره الخلاف فلا بد من العلاج، فارتقب.
واعلم: أنه كما يمكن ثبوتا جعل التذكية شرطا أو جعل الموت حتف الأنف
مانعا، كذلك يمكن الجمع بين ذينك الجعلين بأن يكون الثاني مانعا مع كون
الأول شرطا. وإنما المهم هنا بيان ما لكل منهما من الحكم حسب جري الأصل
وعدمه، وبيان معنى التذكية وكذا الميتة، وبيان ما اشتهر بين الأصحاب: من
تبعيض الآثار بترتب بعضها على الأولى وبعضها على الثانية، وبيان الميز بينها،
إلى غير ذلك مما له مساس بالمقام، فتمام المقال في طي أمرين: أحدهما لبيان
الضابط وهي الكبرى، والآخر لبيان الصغرى.
أما المقام الأول: ففي بيان الكبرى
لو كانت التذكية شرطا لحكم ثبوتا فلا ارتياب في وجوده عند تحققها وعدمه

(1) الوسائل باب 8 من أبواب لباس المصلي ح 4.
219

عند فقدها. وأما عند الشك: فإن أمكن إحراز عدمها بالأصل فهو مقدم على غيره
من الأصول الحكمية ونحوها مما هو متأخر عن الاستصحاب الموضوعي، وإلا
ينتهي الأمر إلى غيره، مثلا لو توقفت حلية الأكل على التذكية، فأما أن يكون
ذاك الحيوان حال الحياة محرم الأكل بالفعل، أو لا.
فعلى الأول: يكون في ذاك الحيوان خبث موجب لحرمة لحمه لا يزول
إلا بالتذكية، نظير الخبث الذي لا يزول إلا بالتطهير، فما لم يتحقق ذاك المزيل
يحرم أكل لحمه - كالسمك الحي ونحوه من الحيتان الصغار - فلا يجوز أكلها
حيا، ولما كانت التذكية حالا مسبوقة بالعدم يقينا فبعد الموت وزهوق الروح
يشك في تحقق ذاك المزيل وعدمه، فيحكم ببقائه على ما كان من العدم، فينتج
حرمة الأكل، فيكون مقدما على أصالة الحل تقدم الأصل السببي على الأصل
المسببي، والموضوعي على الحكمي.
ولا فرق في هذا الحكم، بين أن يكون التذكية أمرا بسيطا مولودا من
الأسباب والأفعال الخاصة كالطهارة المحصلة من الغسل والمسح، وبين أن يكون
مركبا من تلك الأفعال الخاصة، إذ على أي تقدير كانت مسبوقة بالعدم فالآن كما
كانت، وإن كان بينهما فرق نشير إليه.
وأما على الثاني: فذاك الحيوان وإن لم يكن محرم الأكل حال الحياة
بل جاز بلعه حيا - كالسمك الحي الصغير مثلا - ولكن لما لكان محرما بعد الزهاق
والموت، فلجريان الأصل الموضوعي حينئذ مجال، إذ لا يلزم في جريه أن يكون
للمستصحب أثر شرعي حدوثا وبقاء، بل يكفيه الأثر في خصوص البقاء وإن خلي
عنه حدوثا، وذلك لحصول ما به يصان التعبد عن اللغوية، وحيث إن الحرمة
مترتبة على جزئين: أحدهما زهوق الروح، والآخر فقد التذكية - بنحو التركيب
لا التقييد - وقد أحرز الأول بالوجدان وأمكن إحراز الثاني بالأصل، فيترتب
ذاك الحكم، بلا تفاوت فيه أيضا بين معنيي التذكية، لأن كل واحد منهما كان
220

مسبوق العدم تعيينا. ومن هنا يتضح حكم النجاسة وأمثالها مما لم تكن ثابتة حال
الحياة، إذ يمكن ترتيب جميعها بعد الموت بالأصل، لكفاية الأثر بقاء - كما مر -
فلو توقفت الطهارة مثلا على التذكية لكان الكلام فيها هو ما أشير إليه، وكذا
غيرها من الأحكام.
نعم: إن بين معنيي التذكية فرقا لا بد من الإشارة إليه، وهو أنها إذا كانت
(أمرا بسيطا) فهو يسري إلى أجزاء ذاك الحيوان بلا اختصاص له به نفسه، لأن
الخبث الموجود بالفعل أو بالقوة يتوقف زواله على ذاك الأمر البسيط، وهو كما
أنه موجود في الحيوان نفسه، كذلك موجود في أجزائه، وذاك البسيط المزيل
كما ينحدر نحو الكل، كذلك ينحدر نحو الجزء. وأما إذا كانت (مجموع تلك
الأفعال الخاصة) فهي تختص بالحيوان، لأنه المصب لها فقط دون أجزائها، فإن
أريد اجراء الأصل فلا بد من جريه فيه فقط، نعم: بعد الجري فيه لاستغنى الاجزاء
عن الأصل المستأنف، فالتفاوت بين المعنيين حينئذ: بأنه لو لم يجر الأصل في الكل
لجهة خارجية فلا مانع من جريه في الجزء (على المعنى الأول) ولا مجال لجريه
(على المعنى الثاني) وتوضيحه بمثال نبه عليه " شيخنا الأستاد الحائري ره " هو
أنه لو كان هنا حيوانان يعلم تفصيلا بتذكية أحدهما وعدم تذكية الآخر،
وكان هناك جلد لا يعلم أنه أخذ من هذا أو ذاك، فلا مجال للأصل في نفس الحيوان
إذ لا شك فيه أصلا. وأما الجلد: فعلى المعنى الأول وإن يجر الأصل، وأما على
الثاني فلا مجرى له أبدا.
ثم إنه (قده) وإن عدى المنع عن الجريان من المعنى الثاني إلى المعنى
الأول أيضا، حيث قال: إن الجلد المفروض لما احتمل انفصاله عن الحيوان المقطوع
بتذكيته تفصيلا لا مجال لاستصحاب عدم تذكيته، لأن رفع اليد عن اليقين بالعدم
يمكن أن يكون من مصاديق النقض باليقين لا بالشك، بل يشك فيه، فهو شبهة
مصداقية لدليل الاستصحاب.
221

ولكنه غير مرضي عندنا، لأن احتمال انفصاله من الحيوان الذي علم تفصيلا
بعدم تذكيته ليس إلا منشأ الشك، وحيث إن الناقض هو اليقين التفصيلي لا الاجمالي
- ولذا نحكم بجريان الأصول في أطرافه وسقوطها بالتعارض - فلا محذور في
المقام. هذا مجمل القول فيما لو كانت التذكية شرطا.
وأما لو كان الموت بلا ذكاة مانعا: فيلزم البحث عن معنى (الميتة) أولا، وعما
يلزمه من الجريان وعدمه ثانيا. فأما (الميتة) فهي إما عبارة عن (غير المذكى)
كما عليه " الشيخ الأنصاري قده " فليست أمرا وجوديا، وإما عبارة عن (المائت
حتف أنفه) أو نحوه من العناوين الوجودية، فلا تكون عدمية.
فعلى الأول: لا أثر له في جريان الأصل، فحينئذ لا كلام في الجري على
الأول، فيترتب عليه ماله من الأحكام، لأن التذكية مسبوقة بالعدم فيمكن جر
عدمها حال الشك.
وأما على الثاني: فإن أريد استصحاب عدم التذكية فهو غير ناهض لاثبات
الميتة، إذ ليست الميتة عبارة عن الذي زهق روحه ولم يقع عليه التذكية، حتى يكتفي
في الثاني بالأصل بعد إحراز الأول بالوجدان، بل عبارة عن نحو خاص من الوجود
وهو الزهوق المقيد بكونه لاعن تذكية، ومجرد العدم المحمولي للتذكية لا ينتج
عدمها النعتي، فلا يثبت كون الزهوق مرتبطا بعدمها.
نعم: يمكن إجراء الأصل في نفس المقيد بتمامه، بأن يقال: إن هذا النحو
الخاص من الوجود كان مسبوق العدم فالآن كما كان، فيحنئذ يترتب عليه غير
واحد من الأحكام الثبوتية - كصحة الصلاة ونحوها - وهذا بخلاف ما لو كانت
التذكية شرطا، لأن الأصل هنا كان منتجا لغير واحد من الأحكام السلبية.
ولا خفاء في أن أصالة عدم التذكية في السابق موجبة لانتفاء الأحكام المشروطة بها
- أي بالتذكية - حيث إن المشروط ينتفي بانتفاء شرطه بلا احتياج إلى إثبات
222

عنوان (الميتة) كما أن الأصل هنا موجب لثبوت الأحكام الممنوعة بالموت الخاص،
حيث إن الممنوع يتحقق بفقد المانع، وهو (الموت بلا ذكاة) بلا احتياج إلى إثبات
عنوان (المذكى).
وأما المقام الثاني: ففي بيان الصغرى
قد اشتهر بين الأصحاب (ره) دوران الحلية مدار التذكية، ودوران
النجاسة وكذا بطلان البيع وعدم جواز الاستعمال مدار الميتة، حسبما يعنون
بذلك في كتبهم الفقهية. وأما في الصلاة فلها حكم نأتي به تفصيلا.
فإن أنيط الحل بالتذكية يحكم بانتفائه عند فقدها - ولو بالأصل - سواء
أحرز عنوان الميتة أم لا نحو قوله تعالى "... إلا ما ذكيتم " حيث إن الحكم
يثبت بمجرد فقد التذكية وإحراز عدمها - ولو بالأصل - كما أنه لو أنيط المنع
عن الاستعمال وعدم جواز البيع ونحو ذلك بالميتة يحكم بانتفاء هذه الأحكام عند
احراز فقدها - ولو بالأصل - وإن لم يثبت عنوان (المذكى) كما مر. كل ذلك
حسب نطاق الأدلة وألسنتها المختلفة باختلاف الموارد.
إذا اتضح لك ما تقدم، فلنبحث عن الصلاة وما أخذ فيها: من شرطية التذكية
أو مانعية الميتة، والعلاج بين روايات الباب عند عدم امكان الجمع ورفع التعارض.
فنقول: لو كانت التذكية شرطا لصحة الصلاة والميتة مانعة عنها، فإما أن
يفسر (الميتة) بما يرجع إلى أمر عدمي، وهو أن تكون الميتة هي (غير المذكى)
فلا أثر في البين في جريان الأصل، كما لا يخفى. وإما أن يفسر بما يرجع إلى أمر
وجودي - بحيث كانت النسبة بين التذكية والميتة الضدية وتكونان من قبيل ضدين
لا ثالث لهما - فلا إشكال في اجتماع الحكمين، إذ لا محذور في شرطية الأولى ومانعية
الثانية معا، كما لامساس للأصل الجاري في إحداهما بما هو الجاري في الأخرى،
فالأصل الجاري في ناحية الشرط يوجب ترتب الأحكام المرتبطة به دون ما يرتبط
بالمانع، وكذا العكس.
223

فحينئذ لا تعارض بين روايات الباب إذا اختلفت في المفاد، فهو وإن لا يناقش
فيه - من حيث إن الأصل الجاري في الشرط موجب لترتب أحكامه بلا مساس له
بأحكام المانع وبالعكس - إلا أن في جعل أحد الضدين اللذين لا ثالث لهما شرطا
والآخر مانعا كلاما لا يخلو التعرض له عن الفائدة.
قد يقال: إنه لا يمكن جعل أحدهما شرطا والآخر مانعا مع أنه لا ثالث
لهما، للزوم اللغوية في الثبوت، حيث إن ثبوت أحدهما مستلزم لسلب الآخر، كما أن سلبه مستلزم لثبوت ذاك الأخير، مع اشتراك الأحكام في مقام الثبوت، كما هو
المفروض. وببالي أن " الشيخ الأنصاري قده " قد أفاد في مبحث كون الطهارة شرطا
أو النجاسة مانعة: أنه لا يمكن الجمع بين الجعلين معا بشرطية الأولى ومانعية
الثانية، لما أشير إليه من لزوم اللغوية.
وقد يجاب بظهور الفائدة في جريان الأصل عند الشك، وبه يصان عن اللغوية.
وفيه: أنه يمكن أن تحرز تلك الفائدة بجعله شرطا، فالحق مع " الشيخ ره ".
فلو نوقش في الجمع بين ذينك الجعلين - ولم يكتف بما ذكر في الصيانة عن
اللغوية - لعلم باختلال أحد الأصلين، للقطع بكذب أحد الخبرين الدالين على
الجعلين، فأما الحكم المجعول فهو إما منحصر في شرطية التذكية، وإما منحصر في
مانعية الميتة. ولكن لما لم يلزم من جريان الأصلين مخالفة عملية فلا ضير في
إجرائهما عند الشك مع عدم اتضاح ما هو المجعول، نظير ما مر في محله: من جواز
جريان أصالة النجاسة في كلا الإنائين مع العلم بصيرورة أحدهما طاهرا.
هذا بلحاظ الأصل. وأما بلحاظ النص: فعند عدم إمكان الجمع بين الجعلين
مع تفسير (الميتة) بما يرجع إلى ضد (المذكى) بنحو لا ثالث لهما، فلا بد من
النظر المستأنف في روايات الباب حتى يعالج التعارض المترائي منها، حيث إن
بعضها ظاهر في شرطية التذكية وبعضها في مانعية الميتة - كما مر - فإن عولج بينهما
224

بما يرفع التعارض فهو، وإلا فيحكم باشتغال الذمة بالصلاة، دائرة بين تقيدها
بوجود التذكية وبين تقيدها بعدم الميتة، ويحكم حينئذ بلزوم تحصيلها بنحو يقطع
بالبراءة، وهو تقيدها بالتذكية. وكيف كان: فقد يتوهم لزوم الأخذ بظهور
النواهي المارة في المانعية وصرف ما ظاهره الشرطية عن مقتضاه. والسر هو أظهرية
النواهي الغيرية في المانعية.
ولكنه خال عن الوجه، إذ لا تفاوت بينها وبين الأوامر الغيرية الظاهرة في
الشرطية في الظهور، وادعاء الرجحان على مدعيه.
والذي ينبغي التنبه له، هو النصوص الشارحة للوظيفة حال الشك، فإن
دلت على لزوم الاجتناب يستفاد منها: أن التذكية شرط وما لم يعلم به يلزم
الاجتناب. وإن دلت على نفي البأس يستكشف منها: أن الموت بلا ذكاة مانع. وأما
إن دلت طائفة على الاجتناب وأخرى على نفي البأس، فلا بد من العلاج أيضا،
بحمل الأولى على ما تتم الصلاة فيه والثانية على ما لا تتم - إن ساعده الشاهد
الخارجي على هذا التفصيل أو بنحو آخر - فلنأت بما يدل على حكم صورة الشك
من النصوص الواردة في خصوص الصلاة، وأما الواردة في غيرها مما فيه الأمارة
أو لا يكون بلا مساس لها بالصلاة فهي خارجة عن المقام، اللهم إلا أن يرتبط به
للاطلاق الشامل له، كما يأتي.
فمن تلك النصوص ما يدل على الجواز مطلقا
منها: ما رواه عن سماعة بن مهران أنه سأل أبا عبد الله عليه السلام عن تقليد السيف
في الصلاة وفيه الفراء والكيمخت؟ فقال: لا بأس ما لم تعلم أنه ميتة (1).
إن ظاهرها عدم لزوم احراز التذكية في صحة الصلاة وأن المانع عنها هو
الميتة، وما لم يعلم بها فلا بأس، ولا أمارة في البين تدل على التذكية. نعم: لا إطلاق

(1) الوسائل باب 50 من أبواب النجاسات ح 12.
225

لها بالنسبة إلى ما تتم الصلاة فيه، إذ التقليد غالبا قاصر عن ذاك القدر.
ومنها: ما رواه عن الحلبي قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الخفاف التي تباع
في السوق؟ فقال: اشتر وصل فيها حتى تعلم أنه ميت بعينه (1).
ولا ظهور لها في خصوص سوق المسلمين، لاطلاق (السوق) الشامل لسوق
غيرهم، فتدل على جواز الاشتراء والصلاة مع عدم احراز التذكية ما لم يعلم بكونه
ميتة، فالمناط هو عدم العلم بالمانع، فلا شرطية للتذكية. ولكنها أيضا قاصرة
الشمول لما تتم الصلاة فيه.
ومنها: ما رواه عن علي بن أبي حمزة أن رجلا سأل أبا عبد الله عليه السلام وأنا عنده
عن الرجل يتقلد السيف ويصلي فيه؟ قال: نعم، فقال الرجل: إن فيه الكيمخت
قال: وما الكيمخت؟ قال: جلود دواب منه ما يكون ذكيا ومنه ما يكون ميتة،
فقال: ما علمت أنه ميتة فلا تصل فيه (2).
وهي أيضا دالة على جواز الصلاة بمجرد عدم العلم بالميتة من دون لزوم
احراز التذكية. نعم: في شمولها لما تتم الصلاة فيه نظر.
ومنها: ما رواه عن الحلبي، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: تكره الصلاة في الفراء
إلا ما صنع في أرض الحجاز أو علمت منه ذكاة (3).
ودلالتها على جواز الصلاة في المشكوك مبنية على إرادة الكراهة المصطلحة
منها، كما لا يبعد حسبما بيناه مرارا: من شيوع هذه الاصطلاحات في زمن
الأئمة عليهم السلام في الفقه العامي، فحينئذ تدل على أن المشكوك فيه جائز الصلاة مع
الكراهة التي ترتفع بالعلم بالذكاة أو الأمارة عليها، كأرض الحجاز، نعم - على
تماميتها - لا اختصاص لها بما لا تتم، بل تعم ما تتم فيه الصلاة أيضا.

(1) الوسائل باب 38 من أبواب لباس المصلي ح 2.
(2) الوسائل باب 50 من أبواب النجاسات ح 4.
(3) الوسائل باب 61 من أبواب لباس المصلي ح 1.
226

ومنها: ما رواه في الجواهر، عن الفقيه، عن جعفر بن محمد بن يونس: أن أباه
كتب إلى أبي الحسن عليه السلام يسأله عن الفرو والخف ألبسه وأصلي فيه ولا أعلم أنه
ذكي؟ فكتب: لا بأس به.
وظاهرها تعميم الجواز فيما تتم الصلاة فيه أيضا، ولا تعرض فيه لحال ذاك
الفرو والخف من الاشتراء من السوق ونحوه، حتى يحمل على أن هناك أمارة على
التذكية، فتدل على جواز الصلاة في المشكوك بمجرد عدم العلم بالميتة.
هذه هي الطائفة الأولى الدالة على جواز الصلاة في المشكوك ما لم يعلم أنه
ميتة. وهيهنا طائفتان أخريان: إحداهما: ما تدل على عدم جوازها فيه ما لم تعلم
أنه مذكى أو ما لم تقم أمارة عليه، والأخرى: ما تدل على التفصيل بين ما تتم الصلاة
فيه وبين ما لا تتم بالجواز في الثاني دون الأول.
أما الطائفة الدالة على المنع مطلقا فيما لم تقم الحجة على التذكية
فمنها: ما مر من رواية " زرارة " إذ فيها... فإن كان مما يؤكل لحمه فالصلاة
في وبره وبوله وشعره وروثه وألبانه وكل شئ منه جائز إذا علمت أنه ذكي... (1).
فتدل على عدم الجواز في المشكوك ما لم يبدل الشك بالعلم. نعم: قد أشير
سابقا إلى عدم امكان الحمل على العام الاستغراقي، بل يحمل على العام المجموعي
فالمفهوم حينئذ هو المنع عن المجموع عند عدم العلم، لا الجميع، لما مر: من الجواز
في الشعر ونحوه مطلقا، إذ لا صلوح له أن يذكي. وعلى أي تقدير: يدل على المنع
فيما لا يعلم التذكية في الجملة، وهو ينافي ما مر: من الجواز فيما لا يعلم.
ومنها: ما رواه عن إسحاق بن عمار، عن العبد الصالح عليه السلام أنه قال: لا بأس
بالصلاة في الفراء اليماني وفيما صنع في أرض الإسلام، قلت: فإن كان فيها غير أهل

(1) الوسائل باب 2 من أبواب لباس المصلي ح 1.
227

الإسلام؟ قال إذا كان الغالب عليها المسلمين فلا بأس (1).
وظاهرها عدم الاكتفاء بالشك، بل لا بد من ضم أمارة على التذكية
- كالغلبة ونحوها - فتنافي ما مر: من الجواز عند عدم العلم بالميتة، وأما نفي
البأس عن اليماني وعن المصنوع في أرض الإسلام فلقيام الأمارة على الذكاة.
ومنها: ما رواه عن إسماعيل بن عيسى قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن جلود
الفراء يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجبل أيسأل عن ذكاته إذا كان البائع
مسلما غير عارف؟ قال عليكم أنتم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون
ذلك، وإذا رأيتم يصلون فيه فلا تسئلوا عنه (2).
إن ايجاب المسألة إذا كان البائع مشركا شاهد على المنع حال الشك، إلا
أن يقال: بوجود الأمارة على عدم التزكية حينئذ، فالمهم هنا هو الذيل الدال
على عدم لزوم السؤال إذا كان المسلمون يصلون فيه، إما لأجل علمهم بمسبوقية
يد المشرك البائع بيد المسلم، أو لعلمهم بعدم مباشرته في الذبح بل الذابح كان مسلما
أو لغير ذلك، فمن رأى أن المسلمين يعاملون مع ذلك المبيع معاملة المذكى فله
أن لا يسأل بل يكتفي بمجرد ذلك،، فيدل على المنع حال الشك وأنه يلزم ضم
الأمارة عليه إلى غير ذلك مما يمكن العثور عليه بعد التتبع.
وأما الطائفة المفصلة بين ما تتم الصلاة فيه وما لا تتم: بالجواز في الثاني
دون الأول
فمنها: ما رواه عن إسماعيل بن الفضل قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن لباس
الجلود والخفاف والنعال والصلاة فيها إذا لم تكن من أرض المصلين؟ فقال: أما
النعال والخفاف فلا بأس بهما (3).

(1) الوسائل باب 50 من أبواب النجاسات ح 5 و 7.
(2) الوسائل باب 50 من أبواب النجاسات ح 5 و 7.
(3) الوسائل باب 38 من أبواب لباس المصلي ح 3.
228

وما رواه عن الريان بن الصلت أنه سأل الرضا عليه السلام عن أشياء منها الخفاف
من أصناف الجلود، فقال عليه السلام: لا بأس بهذا كله إلا، الثعالب (1).
إذ المستفاد منها التفصيل (فيما لا أمارة على التذكية) بين لباس الجلود وبين
النعل والخف - مع كونهما معمولين من الجلد غالبا - بالجواز في الثاني والمنع
في الأول، واحتمال خصيصة لنفس النعل والخف بعيد جدا، بل المدار - حسب
التناسب بين الحكم والموضوع - هو الفرق بين ما تتم وبين ما لا تتم حال الشك،
ولا ينافيه المنع من الشسع حال العلم، إذ المعلوم ممنوع مطلقا حتى الجزء اليسير
منه كالشسع، وأما المشكوك فموسع.
أضف إلى ذلك: اختصاص غير واحد من النصوص المجوزة المارة بما لا تتم
الصلاة فيه، بمعنى ورودها فيه وإن لم تكن مقيدة به.
فهذه هي الطوائف الثلاث التي قد أشرنا إليها سابقا، ولا ريب في استقرار
التعارض بين الطائفتين الأوليين.
ولا يتوهم: ظهور الطائفة المجوزة في خصوص ما إذا كان هناك أمارة على
التذكية لانصراف لفظ السوق إلى سوق المسلمين وهو أمارة على التذكية، إذ ليس
في بعضها لفظ السوق أصلا حتى ينصرف إلى ما ذكر، وأما البعض الآخر فهو مطلق
بلا وجه للانصراف. وعلى تسليمه: يكون المسؤول عنه - حسب ارتكاز ذهن السائل
وانسباق سوق المسلمين إليه - خاصا، لا أن الحكم مقيد به، وعليه لا يصلح لأن
يقيد المطلق الدال على الجواز، إذ ليس في ذهن السائل هو المنع عما لم تقم الأمارة
عليه، حتى يقال: بكون الجواب تقريرا لارتكاز ذهنه، بل أقصاه انصراف ذهنه
إلى قسم خاص، وحاصله نفي الاطلاق له، لا أنه مقيد لاطلاق غيره من النصوص.
فلا محيص عن العلاج بأحد وجوه:

(1) الوسائل باب 14 من أبواب لباس المصلي ح 5.
229

الأول: أن يحمل المانع على ما تتم الصلاة فيه، والمجوز على ما لا تتم، وتجعل
الطائفة المفصلة شاهدة على هذا الجمع.
الثاني: أن يؤخذ بالقدر المتيقن من كل من الدليلين وطرح ما عداه بتقديم
القدر المتيقن للآخر عليه، كما في قوله: ثمن العذرة سحت، وقوله: لا بأس بثمن
العذرة - حيث إن المتيقن من الأول هو عذرة ما لا يؤكل لحمه، ومن الثاني هو
عذرة ما يؤكل لحمه، فيؤخذ القدر المتيقن من كل منهما ويطرح ما عداه بالتصرف
في المادة. وهيهنا يحكم بأخذ القدر المتيقن من نصوص التجويز وهو (ما قامت
الأمارة عليه) والقدر المتيقن من نصوص المنع وهو (ما لم تقم عليه) بحمل كل
منهما على ما هو المتيقن منه.
الثالث: أن يتصرف في هيئة نصوص المنع بالحمل على الكراهة في المشكوك
ويجعل ما مر نقله - وهو رواية الحلبي، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: تكره الصلاة
في الفراء إلا ما صنع في أرض الحجاز أو ما علمت منه ذكاة (1) - شاهدا عليه، بابقاء
لفظ الكراهة على معناها المصطلح، لما مر تقويته من شيوع ذاك الاصطلاح في عصر
الصادق عليه السلام. ومما يؤيد الحمل على الكراهة المصطلحة لا الحرمة، هو أن أرض
الحجاز مقابلة لأرض العراق، فنفي الكراهة في الأولى اثبات لها في الثانية بقرينة
التقابل المعهود، ومن المعلوم: أن أرض العراق أرض المسلمين، ولكنهم لذهاب
أكثرهم إلى طهارة المدبوغ حكم عليه السلام بكراهة الصلاة في المصنوع بأرضهم. ولم
يقل أحد بلزوم الاجتناب عما يوجد في العراق وسوقهم، وهذا نظير الأمر بالتطهير
لما اشترى من النصراني المحمول على حكم غير لزومي - كما في محله - وهذا الجمع
هو الأقوى في النظر، ولا بعد في اختلاف مراتب الكراهة حسب الموارد شدة وضعفا.
فالمشكوك تجوز الصلاة فيه ما لم يعلم بكونه ميتة، وأن يكره ما لم تقم
الحجة على أنه مذكى، مع اختلاف مراتب الكراهة، لأنها فيما لا يكون هناك

(1) الوسائل باب 61 من أبواب لباس المصلي ح 1.
230

أمارة أصلا أشد مما يكون فيه الأمارة في الجملة، كأرض العراق وسوق
المستحلين بالدبغ.
فالأصل الأولي عند الشك: هو الجواز إلا ما خرج بالدليل، لا العكس، لأنه
وإن أمكن للشارع أن يجعل الأصل المعول عليه عند الشك هو المنع إلا ما خرج
بالدليل، ولكنه - حسب المستفاد من النصوص هنا - هو بنحو الأول، لا الثاني.
فحينئذ لو حكم بالمنع فيما لو كان بيد الكافر أو سوق الكفار أو أرضهم مثلا - حيث
إن ذلك وأشباهه مظنة عدم التذكية غالبا - فلا ضير بعد أن كان المرجع الأصيل
هو الجواز في غير ما خرج بالدليل. ومن هذا القبيل قوله عليه السلام في رواية " ابن عيسى "
المتقدمة... عليكم أنتم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك... الخ.
حيث إنه أوجب التوقف والمسألة إذا رأى أن المشرك هو البايع. ثم إن
فيه احتمالين:
أحدهما: أن يكون الرؤية طريقا بلا دخالة لها أصلا، بأن يدور الحكم
مدار الواقع، فإن كان البايع في الواقع مشركا يجب التوقف والمسألة، إلا فلا،
فعند الشك في حال البايع يجب الفحص عن حاله، ولا يجوز التمسك لعموم ما دل
على الجواز حال الشك في التذكية، لأنه قد خصص بما إذا كان البايع مشركا،
وحيث إن المفروض شبهة مصداقية للخاص فلا مجال معها للتمسك بالعام.
والآخر: أن تكون موضوعة، فلها دخالة في ترتب الحكم، فعند الشك في
كونه مشركا أو غيره لا يجب التوقف والمسألة، بل يجوز له ترتيب آثار المذكى
للعمومات المارة، إذ لم يخرج منها إلا ما لو علم فيه بكون البايع مشركا، نظير
ما يقال: بموضوعية الرؤية في قوله عليه السلام "... ترى في منقاره دما " حيث إن الحكم
بالتنجس وعدمه يدور مدار رؤية الدم في منقاره، لا الواقع البحت بلا دخالة
للرؤية.
231

وكيف كان: إذا علم في هذا المورد المفروض بكون المسلمين يصلون فيه
يحكم بالجواز مع كون البايع مشركا، لما مر: من أن صلاتهم فيه لعله لعلمهم
بمسبوقية يد ذاك المشرك بيد المسلم أو غيرها من الجهات.
والحاصل: أنه يحكم بالجواز فيما لم يخرج بالدليل، بلا احتياج إلى قيام
الدليل الخاص على التذكية حتى يرتب عليه آثار الجواز.
ومما يدل على الجواز عند الشك في التذكية وعدمها - لأجل الشك في كون
ذاك الشئ للمسلم أو غيره - هو ما رواه عن السكوني، عن أبي عبد الله عليه السلام: أن
أمير المؤمنين عليه السلام سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة كثير لحمها وخبزها
وجبنها وبيضها وفيها سكين، فقال أمير المؤمنين: يقوم ما فيها ثم يؤكل لأنه يفسد
وليس له بقاء، فإذا جاء طالبها غرموا له الثمن، قيل له: يا أمير المؤمنين عليه السلام
لا يدرى سفرة مسلم أو سفرة مجوسي؟ فقال: هم في سعة حتى يعلموا (1).
تقريب الدلالة: أنه لا ظهور لها في كون الطريق من أرض المسلمين أو غيرهم
ومع ذلك قد أجاز عليه السلام التقويم - أي للبيع - بلا تفاوت فيه ظاهرا بين أن يشتريه
الآكل أو غيره، فيدل على جواز بيع اللحم المشكوك تذكيته، مع أن الميتة مما
لا يجوز بيعها وكذا أكلها، ولعل ذهن السائل قد ارتكز فيه: أن بعض تلك الأشياء
هو اللحم الذي لا يجري فيه أصالة الطهارة ولذلك قال: كثير لحمها، وأيضا قال عليه السلام:
" هم في سعة حتى يعلموا " أي ما دام لا يعلم أنه لمسلم أو غيره يجوز ترتيب آثار المذكى
وأما إذا علم بأنه لمجوسي أو نحوه من غير المسلم فله حكم آخر، ولعله التوقف
والمسألة، لا ترتيب آثار الميتة عليه بمجرد ذلك.

(1) الوسائل باب 50 من أبواب النجاسات ح 11.
232

والمأخوذ من يد المسلم وما عليه أثر الاستعمال بحكم
المذكى، بل وكذا المطروح في أرضهم وسوقهم وكان عليه
أثر الاستعمال، وإن كان الأحوط اجتنابه. كما أن الأحوط
اجتناب ما في يد المسلم المستحل للميتة بالدبغ. ويستثنى من
الميتة صوفها وشعرها ووبرها وغير ذلك... الخ.
إن استقصاء المقال فيما أفاده (ره) في طي جهات:
الجهة الأولى
في أن المأخوذ من يد المسلم بحكم المذكى
إن استيلاء يد المسلم على جلد الحيوان الذي لا يحل إلا بالتذكية أو غيره
من أجزائه، قد يكون بنحو الملكية - كسائر أملاكه الواقعة تحت يده - ولا
إشكال حينئذ في أن اليد الكذائية أمارة على التذكية، حيث إن الميتة لا تصير
ملكا لأحد - كالخمر ونحوه من الأعيان النجسة - فإذا وقع شئ من الحيوان
الكذائي تحت يده ملكا له عليه، وكان بحيث يبيعه ويتصرف فيه تصرف
المالك في ملكه، فهو يكشف عن كونه مذكى. وهذا نظير استقرار مشكوك
الخمرية تحت يد مسلم ملكا له، حيث إن اليد المالكة أمارة على أنها ليست
بخمر، ولكونها أمارة على الملكية المستلزمة لعدم كونها خمرا يؤخذ بلازمها،
لكونها طريقا إلى الواقع.
وقد يكون بنحو حق الاختصاص لا الملكية، كاستقرار اليد الاختصاصية على
233

الخمر بما هي خمر لأجل علاجها خلا، وكالعذرة لبعض خواصها الزراعية، وما
إلى ذلك من النظائر. ولا إشكال في أن مثل هذه اليد قاصرة عن أمارية التذكية.
ومنه يتضح حكم ما لو وقع تحت يده حيث أراد نبذه وإلقائه، إذ لا سترة
في أن مجرد وضع اليد على ذلك ولو للنبذ والالقاء غير صالح للأمارية على التذكية
كما أن ما ورد في تجويز الاشتراء من السوق وترتيب آثار المذكى، فلعله لأصالة
الصحة، وإن كنا نحن في فسحة من هذا، إذ المرجع فيما لم تقم الحجة على
الخلاف هو ترتيب آثار التذكية.
الجهة الثانية
في أن أثر استعمال المسلم شاهد على التذكية
إن التصرف الواقع على ذاك الجلد ونحوه من أجزاء الحيوان الذي لم يعلم
بتذكيته، على أنحاء.
منها: التصرفات الأولية الصناعية فيه، لأن يجعل خفا أو نعلا أو فراء
ولباسا، وما إلى ذلك مما يصنع منه. ومنها: التصرفات الانتفاعية بعد الصنع،
ولكن في خصوص ما يشترط فيه الطهارة أو التذكية. ومنها: ما عدا ذلك من أنحاء
الانتفاعات المشتركة بين المذكى وغيره.
لا إشكال في أن القسم الثاني منها شاهد علي التذكية حسب التناسب، إذ المسلم
بما هو مسلم لا يستعمل الميتة فيما يشترط فيه التذكية أو الطهارة، فلو صلى في جلد
أو غيره يكشف ذلك عن كونه مذكى.
ويؤيده ما مر: من رواية " ابن عيسى " إذ فيها "... وإذا رأيتم يصلون فيه
فلا تسئلوا عنه " ولا تفاوت في كشفه عن التذكية بين كونه في أرض المسلمين أو
غيرهم، وفي أيديهم أو غيرهم، لما أشير إليه سالفا من أن مثله كاف للاعتماد،
لاحتمال اتكائهم على العلم بمسبوقية يد الكافر بيد المسلم، وهي كافية، كما تقدم.
234

وأما القسم الأخير: فهو وحده غير كاشف ما لم ينضم إليه ما يكشف عن
التذكية: من اليد ونحوها.
وأما القسم الأول: فهو أيضا وحده غير ناهض للكشف والشهادة، كما
يتضح فيما يلي.
الجهة الثالثة
في المطروح في أرض الإسلام
إن المطروح: إما هو في أرض الإسلام أو غيره، وإما عليه أثر الاستعمال
الأولي الصناعي أو لا. والذي يمكن الحكم بتذكيته هو خصوص ما كان في أرض
الإسلام مع ما عليه من أثر الصنع وإن لم يعلم الصانع من هو، لأن العمدة في الباب
هو خبر " السكوني " في السفرة المطروحة في الطريق، ولا إشكال في شمول السؤال
للطريق الواقعة في أرض الإسلام وغيره، فإذا انضم إليه ترك الاستفصال في الجواب
يستفاد منه الاطلاق، فهو من حيث اطلاق الطريق شامل لأرض المسلمين وغيرها
من أراضي الكفار. وأما من حيث الاستعمال فهو قاصر عن الشمول لما ليس عليه
أثره، لأن اللحم الكثير الموضوع في تلك السفرة قد أعدت للأكل، وليس ذلك
إلا بصنعه وعمله تحت يد انسان ما، وأين هذا مما يطرح في الوادي بعد افتراس
الذئب الضاري مثلا.
فهذا الخبر لو خلي وطبعه دال على جواز ترتيب آثار المذكي: من التقويم
والبيع، والأكل، ونحو ذلك، إذا كان عليه أثر الاستعمال والتصرف الانساني،
سواء كان في أرض الإسلام أو غيره.
ولعل تقييد المتن بكونه مطروحا في أرض المسلمين إنما هو للجمع بين
النصوص المطلقة والمقيدة، إذ في الباب بعض ما يمكن تقييد إطلاق خبر
" السكوني " به.
235

وهو ما رواه عن " إسحاق بن عمار " وقد مر نقله، حيث قال: لا بأس بالصلاة
في الفراء اليماني وفيما صنع في أرض الإسلام، قلت: فإن كان فيها غير أهل
الإسلام؟ قال: إذا كان الغالب عليها المسلمين فلا بأس (1).
حيث إنه دال على اختصاص نفي البأس بما إذا كان مصنوعا في أرض الإسلام
مع تحديدها بالغلبة، فلو لم يكن الغالب فيها المسلمين لما صدق عليها أرض
الإسلام، سواء كانوا هم وغيرهم سواء بلا غلبة لهم عليهم، أو كان الغالب عليها الكفار
فبه يقيد اطلاق ما دل على أنهم في سعة حتى يعلموا، فينتج اختصاص السعة بما
إذا وجد المصنوع في أرض الإسلام وإن لم يعلم أنه من صنع المسلم أو غيره.
وما رواه عن إسماعيل بن الفضل قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن لباس الجلود
والخفاف والنعال والصلاة فيها إذا لم تكن من أرض المصلين؟ فقال: أما النعال
والخفاف فلا بأس بهما (2).
حيث إن المرتكز في ذهن السائل هو المنع في خصوص أرض غير المسلمين
للأصل مثلا، وأما في أرضهم فلا، ولم يردع هذا التفصيل أصلا، بل أمضاه في
الجواب، وإن فصل في المنع بين ما تتم وما لا تتم - كما مر - فبامضاء هذه الغريزة
وتصديق المنع في لباس الجلود إذا لم تكن من أرض المسلمين يقيد إطلاق ما دل
على ترتيب آثار المذكي على المصنوع المطروح في الأرض مطلقا، فينتج الاختصاص
بأرض المسلمين.
فالماتن (ره) لما بنى الأصل على المنع وعدم التذكية في المشكوك، فقد حكم
وفق مبناه بالمنع إلا فيما خرج بالدليل، ولم يخرج - حسب الصناعة - بتقييد
الاطلاق إلا المطروح في أرض الإسلام مع ما عليه أثر الاستعمال، وأما المطروح

(1) الوسائل باب 50 من أبواب النجاسات ح 5.
(2) الوسائل باب 38 من أبواب لباس المصلي ح 3.
236

في غيره أو المطروح فيه بلا أثر للاستعمال - بحيث لا يدرى أنه افترسه الذئب أو
مات حتف أنفه ثم افترسه أو ذبحه الإنسان على الوجه اللازم أو دونه - فهو داخل
تحت الأصل الناطق بعدم التذكية، لقصور دليل التخصيص والاخراج.
الجهة الرابعة
في المطروح في سوق المسلمين
إن المراد من السوق هنا ليس هو ما يشترى هناك، لأن اليد المالكة التي
قد جعلت ذاك الجلد عرضة للبيع أمارة على التذكية، سواء علم بكون ذي اليد
مسلما بالوجدان أو لم يعلم كذلك بل اتكل على الغلبة، بل المراد منه هو ما
يكون مطروحا فيه بلا استقرار ليد عليه. فهل السوق بما هو السوق أمارة على
التذكية أم لا؟ وليعلم أنه قد يمكن أن يكون السوق للمسلمين مع كون الأرض
لغيرهم، وقد يمكن العكس، كما يمكن أن يكونا معا للمسلمين أو معا لغيرهم.
لا إشكال فيما لو كانا معا لهم، إذ يصدق على ذاك المطروح أنه في أرض الإسلام
فإذا كان عليه أثر الاستعمال يحكم بكونه مذكي، كما أنه لو كانا معا لغيرهم يحكم
بكونه غير مذكي، إذ لا مخرج حينئذ عن الأصل - بناء على أنه هو المرجع - وأما
لو كان الأرض لهم والسوق لغيرهم، فلا يبعد الحكم بكونه مذكى - إذ يصدق عليه
أنه مصنوع في أرض الإسلام وإن لم يعلم أن الصانع من هو - وإن لا يخلو عن تأمل.
وأما لو كان الأرض لغيرهم والسوق لهم، فيشكل الحكم بكونه مذكي جدا، لأن
السوق بما هو لم يجعل أمارة على التذكية، فإذا صدق على ذاك الجلد أنه مطروح
في غير أرض الإسلام فما الوجه في الحكم بكونه مذكى؟ بناء على أن الأصل الأولي
هو عدم التذكية.
نعم: بناء على أن الحكم عند الشك هو ترتيب آثار التذكية وفرض عدم
237

اندراجه تحت ما يدل على المنع، يحكم بكونه مذكي إن لم نقل بعدم انصراف
أرض غير الإسلام عنه، وإلا فهو داخل تحت دليل المنع.
والانصاف: أنه يمكن ادراجه في خبر " السكوني " لأن الطريق مطلق شامل
لمثل معابر السوق وشوارعه، ولم يخرج منه إلا ما عدا المفروض، فإذا وجد في طريق
سوق المسلمين جلد مطروح يحكم بالسعة ما لم يعلم.
فذلكة المقال
إن المتحصل مما يصلح للأمارية على التذكية أمور:
الأول (يد المسلم) فلو استقرت يده على أجزاء حيوان شك في تذكيته، بأن
جعله ملكا له وعامل معه معاملة الملكية - كالعرضة للبيع والشراء وما إلى ذلك
من آثارها - يحكم بكونه مذكى، حيث إن اليد الكذائية أمارة على الملك،
فتكشف عن صلوحه للملكية المتوقفة على التذكية.
نعم: لو استقرت عليه استقرار حق الاختصاص، فلا شهادة له عليها، فضلا
عما إذا كان وقوعها عليه للنبذ والالقاء - كما مر - فلو شك في إسلام ذي اليد فلا
أمارية له، وهو واضح.
الثاني (سوق المسلمين) فإذا جعل شئ من أجزاء الحيوان الكذائي في السوق
عرضة للبيع، فأما أن يكون البايع ذو اليد مسلما فلا كلام فيه - كما مر - وإذا
شك في إسلامه وكفره يحكم باسلامه أولا ثم بتذكية ما في يده ثانيا، بناء على
الغلبة، إذ المفروض أن السوق للمسلمين، ومعناه كون الغلبة لهم. ويمكن
استفادته من أخبار تصحيح ما يشترى في السوق - بناء على انصرافه إلى سوق
المسلمين - إذ لا إشكال في شمول اطلاقها لما إذا اشترى من مجهول الحال إذا
كان الغالب فيه المسلمين.
238

الثالث (المصنوع في أرض المسلمين) فلو صنع شئ من أجزاء الحيوان المشكوك
تذكيته في أرض الإسلام بأحد أنحاء الصنعة: من الخف والنعل والفراء واللباس
ونحو ذلك، يحكم بكونه مذكى وإن وجد في غيرها من أراضي الكفار. ولا
اختصاص لذلك بالصنع، بل لو عومل معه معاملة لا تعامل إلا مع المذكى عند
المسلمين وكان الأرض لهم يحكم بتذكيته، فلو عثر على عدة جلود مدبوغة مستعدة
للصدور من بلد إلى آخر للبيع ونحوه يرتب عليها آثار التذكية وإن وجد بعده
في يد الكافر. ويشهد له ما تقدم من رواية " إسحاق بن عمار "... لا بأس بالصلاة في
الفراء اليماني وفيما صنع في أرض الإسلام - وكذا رواية " إسماعيل " المقررة
لارتكاز المنع إذا لم تكن من أرض المسلمين.
نعم: لو كانت الأرض لهم بالغلبة ولكن يصنعه المسلم وغيره ثم وجد شئ من
ذلك في يد الكافر الذي هو من أهل تلك الأرض واحتمل أن ما في يده مما صنعه غير المسلم
وإن كان في أرض الإسلام للغلبة، فيشكل الحكم بتذكيته، لاحتمال اندراجه في
قوله "... وإذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك... الخ " إلا أن يعامل المسلمون
مع ما في يد ذاك الكافر البايع معاملة المذكى بالصلاة فيه ونحو ذلك، فحينئذ يحكم
بتذكيته، لدلالة قوله عليه السلام "... وإذا رأيتم يصلون فيه... الخ " على ذلك.
الرابع (المطروح في أرض الإسلام إذا كان عليه أثر الاستعمال) إذا وجد شئ
من أجزاء الحيوان المشكوك تذكيته مطروحا في أرض الغالب عليها المسلمون،
فهو إما بحيث لا ميز بين كونه مما افترسه السبع الضاري وبين كونه مما صنع فيه
الإنسان، أو بحيث يمتاز عنه بظهور أثر الاستعمال الانساني فيه.
فعلى الأول: لا شهادة لمجرد كون الأرض للإسلام على التذكية، مع قصور
خبر " السكوني " عنه، لأن اللحم الكثير الموجود في تلك السفرة سواء كانت
مطبوخة أم لا كان عليه أثر الاستعمال، وهو اعداده للأكل واد خاره له.
وأما على الثاني: فلا مانع من الحكم بتذكيته بعد اندراجه تحت اطلاق
239

خبر " السكوني " إذ لم يقيد بما عدا أرض الإسلام، حيث إنه كان شاملا باطلاقه
لأرض الكفر أيضا، ولكنه قيد بروايتي " إسحاق " و " إسماعيل " المتقدمتين بأرض
الإسلام.
الخامس (المطروح في سوق المسلمين إذا كان عليه أثر الاستعمال) فإذا وجد
في السوق الذي الغالب فيه المسلم شئ من أجزاءه مطروحا بلا استقرار لليد
عليه، ففي الحكم بتذكيته وعدمه نظر، إذ لم يرد نص خاص بالنسبة إلى الطرح
في السوق، مع قصور أخبار تجويز الاشتراء من السوق عنه، حيث إن مصبها
الاشتراء ممن له يد عليه، وقد مر أن السوق - بما هو سوق المسلمين - أمارة على
إسلام ذي اليد وإن كان مجهول الحال. وأما المطروح فيه بما هو، فهو غير مندرج
تحتها - اللهم إلا أن يتعدى إليه من اطلاق خبر " السكوني " لأن المأخوذ فيه هو
عنوان (الطريق) الشامل لمعابر القرى والقصبات وللشوارع المسلوك في البلد نفسه
أو في خارجه من الصحاري، بل لا خصوصية له بما هو طريق، إذ المناط حسب
التنقيح العرفي هو الغلبة، فحينئذ لو كانت الأرض للإسلام فلا ريب في كون
المطروح في السوق بحكم المذكى، وأما إذا كانت لغيره ولكن كان في تلك الأرض
سوق خاص للمسلمين أو موطن خاص لتعيشهم - كما هو الدارج من سكونة قبيلة
خاصة منهم في موضع مخصوص من البلد - ووجد في طريق ذاك السوق أو هذا
الموضع جلد مطروح، فلا يبعد الحكم بتذكيته، لدوران الحكم مدار الغلبة
الحاصلة هنا.
السادس (المأخوذ من يد المسلم المسبوقة بيد الكافر إذا عامل المسلمون معه
معاملة المذكى بل المأخوذ من يده أيضا على هذا التقدير) لأن استقرار يد الكافر
على شئ من أجزاء ذاك الحيوان وأن يسد بها طريق الكشف والأمارية، إلا
أن تعقبه بيد المسلم مع ما عليه المسلمون من ترتيب آثار المذكى عليه يكشف
240

عن عثورهم على ما هو العلاج، إما بمسبوقية يد ذاك الكافر بيد المسلم، أو بغيرها
من أنحاء التخلص عن الميتة.
ويشهد له ذيل رواية " ابن عيسى " المتقدمة "... عليكم أنتم أن تسئلوا
إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك وإذا رأيتم يصلون فيه فلا تسئلوا ".
حيث إنه فصل فيما في يد الكافر، بين ما يعامل المسلمون معه معاملة
المذكى بالصلاة فيه - أو غيرها مما لا يجوز إلا في المذكى بلا اختصاص للصلاة
لأنها ذكرت مثالا - وبين ما ليس كذلك.
نعم: لا بد من التنبه لأمر آخر، وهو أن المسلم الذي أخذه من يد الكافر
لو كان غير مبال لأحكام الإسلام لا جدوى في استقرار يده عليه، وكذا المسلمون
الذين يعاملون معه معاملة المذكى لا بد فيهم ممن ببالي بدينه ويعتد بأحكامه،
وأما (الرعاع من الناس) فلا.
ومما تقدم في ثنايا البحث اتضح سر استحباب الاجتناب عما في يد المسلم
المستحل للميتة بالدبغ - حيث إنه مظنة اكتفاءه به - من دون لزوم التحرز، لكفاية
مجرد الإسلام، مع ما في بعض النصوص المارة من عدم السؤال إلا عند كون
البايع مشركا، فيجوز الشراء من غير العارف من المسلمين بلا سؤال.
وأما استثناء الصوف ونحوه مما لا تحله الحياة، فلما ورد في الصوف من
التعليل بما يعم غيره أيضا - وهو أنه لا روح له - كما حقق في كتاب الطهارة.
241

مسألة 10 - اللحم والشحم أو الجلد المأخوذ من يد الكافر
أو المطروح في بلاد الكفار أو المأخوذ من يد مجهول الحال
في غير سوق المسلمين أو المطروح في أرض المسلمين إذا لم
يكن عليه أثر الاستعمال محكوم بعدم التذكية ولا يجوز
الصلاة فيه، بل وكذا المأخوذ من يد المسلم إذا علم أنه أخذه
من يد الكافر مع عدم مبالاته بكونه من ميتة أو مذكى.
لا احتياج إلى تكرار ما مضى بل نتكل عليه في شرح هذا المتن، فراجع.
مسألة 11 - استصحاب جزء من أجزاء الميتة في الصلاة
موجب لبطلانها وإن لم يكن ملبوسا.
قد تم نصاب البحث عن الملبوس مما يصدق أن المصلى كلا أو بعضا فيه حال
الصلاة حتى الشسع، إذ تصدق الظرفية بلحاظه أيضا. أما ما لا ظرفية بالنسبة إليه
أصلا كالمحمول والمستصحب - الذي لا يصدق فيه أزيد من أنه صلى ومعه الميتة -
فالظاهر قصور النصوص المارة عن شموله، فلا مانعية له بلحاظها، فلا بد من التماس
برهان مستأنف زائدا عما ورد في تقليد السيف، وما إلى ذلك من صدق اللبس
والظرفية على ذلك في الجملة.
وليعلم: أن البحث هنا متمحض في حمل الميتة بما هو حملها في الصلاة،
وأما من حيث كونها نجسا فالكلام فيه في كتاب الطهارة، ولا تلازم بين البابين
242

البتة، فيمكن أن لا يكون في حملها من جهة النجاسة منع وإن كان في حملها من
جهة الميتة منع أو بالعكس، فحينئذ لا بد من التأمل التام فيما ورد في معية الميتة
للمصلي وإن كانت طاهرة.
والذي يمكن التمسك به للمنع، هو ما رواه عن عبد الله بن جعفر قال:
كتبت إليه (يعني أبا محمد) يجوز للرجل أن يصلي ومعه فأرة المسك، فكتب:
لا بأس به إذا كان ذكيا (1).
لا ريب في ظهورها في المعية والاستصحاب، بلا فرق فيه بين المحمول وغيره
مما يكون مصحوبا بلا لبس ولا ظرفية، إنما الكلام في المراد من (الذكي) هل
هو الطاهر؟ كما في قوله " كل يابس ذكي " أو المذكى، كما هو المتفاهم منه
إذا قوبل بالميتة. وكذا الكلام في انطباق الجواب على السؤال مع اختلافهما
من حيث تذكير الضمير الراجع في الجواب وتأنيث المرجع في السؤال. وكذا
الكلام في العلاج بينها وبين ما يعارضها في الدلالة على نفي البأس، فهذه
وأشباهها جهات يبحث عنها:
أما الجهة الأولى: فحاصل القول فيها أنه لو أريد من (الذكي) الطاهر
لدل المفهوم على عدم جواز الاستصحاب إذا لم يكن طاهرا، ولا مساس له
حينئذ بما إذا لم يكن مذكى، لأن الكلام كما أشير إليه إنما هو متمحض في
التذكية وعدمها، وإن كان غير المذكى طاهرا - كما إذا لم تكن له نفس سائلة -
حيث إنه لا محذور في حمله حال الصلاة لطهارته، إنما الأمر فيه من حيث
كونه ميتة، ولا شهادة على إرادة المذكى من (الذكي) إلا التناسب بينه وبين
فأرة المسك التي هي معدودة من أجزاء الحيوان الصالح للتذكية.
وأما الجهة الثانية: فالضمير إذا رجع إلى المسك لانطبق معه من حيث

(1) الوسائل باب 41 من أبواب لباس المصلي ح 2.
243

التذكير، ولكن لا انطباق حينئذ للجواب على السؤال، لأن المسؤول عنه هو حمل
فأرته، لا حمله نفسه، فإما يرجع ضمير المذكى إلى الفأرة باعتبار الحيوان الذي
عليه التذكية وهو الظبي، وإما يرجع إلى المسك ويستفاد الجواب عن فأرته
بالملازمة، وتوضيحه: أن مفاد الجواب على هذا الفرض هو جواز الصلاة في المسك
إذا كان ذكيا، وهو لا يبلغ حد الذكاة إلا إذا بلغت الفأرة نصابها التام الموجب
لانفصامها عن الظبي الحي، فما لم تبلغ هذا الحد لا يصير ما فيها من المسك ذكيا،
إذ ليس إلا الدم المنجمد المتكون فيها أولا ثم يتكامل بالاستحالة إلى المسك
ثانيا، فيدل على عدم جواز حمل الفأرة إذا لم تبلغ نصابها.
وكلا الاحتمالين خلاف الظاهر، ولكن يرتكب أهونها إن كان. ولتعيين
المرجع احتمال آخر. ولا خفاء في أن اطلاق الذكي على المسك أو الفأرة بعد
إرادة المذكى منه إنما هو إذا كانت التذكية أمرا بسيطا، وأما إذا كانت نفس
الأفعال الخاصة فلا تنطبق إلا على الحيوان، نعم: إذا صار مذكى لسرت أحكام
التذكية على أجزائه، وكذا إذا صار ميتة.
وأما الجهة الثالثة: فقد يعارض هذه الرواية ما رواه عن علي بن جعفر، عن
أخيه موسى عليه السلام قال: سألته عن فأرة المسك تكون مع من يصلي وهي في جيبه
أو ثيابه؟ فقال: لا بأس بذلك (1).
لظهورها في نفي البأس عن الصحابة والمعية حال الصلاة، ولا ريب في اتحاد
المسؤول عنه في الخبرين فيما هو المهم، وكذا الجواب المنحدر نحوه فيما عدا
جهتي النفي والاثبات، وكذا من حيث تذكير الضمير هناك والإشارة هنا، فما قيل
هناك: من انطباق الراجع والمرجع، يقال هنا: في الإشارة والمشار إليها.
ثم إنه قد يجمع بينهما بما يترائى في بادئ النظر من حمل اطلاق هذه

(1) الوسائل باب 41 من أبواب لباس المصلي ح 1.
244

على تقييد تلك، فينتج البأس في غير المذكى، ولكن يناقش بأن تقييد الاطلاق
وإن كان دارجا، إلا أنه فيما لم يلزم الحمل على النادر - لاستهجانه - والمقام
من هذا القبيل، لأن فأرة المسك على أقسام: منها ما ينفصم بطبعه من الظبي الحي،
ومنها ما يفصم منه بالعلاج والآلة، ومنها ما يؤخذ منه بعد موته بلا تذكية،
ومنها ما يؤخذ بعده معها. والثلاثة الأول ميتة، إما لكونها بنفسها ميتة - كما
في القسم الثالث - وإما لكونها مبانة من الحي وهي محكومة بحكم الميتة أيضا،
فينحصر المذكى في الأخير، ولا ريب في ندرته بالنسبة إليها، لأن الدارج هو
المفصول من الحي، سيما القسم الأول وهو المنفصم منه بطبعه، فلو قيد الاطلاق
للزم الحمل على النادر، إلا أن يقال: بأن الدارج الشايع هو الأول، وهو غير مندرج
تحت ما يدل على كون المبان من الحي ميتة، لظهوره في قطع جزء من الحي،
وأما ما يقذفه الحيوان بطبعه فلعله غير مندرج فيه. فحينئذ لا يلزم الحمل على
النادر، لأن للذكي أيضا أفرادا غير نادرة.
مسألة 12 - إذا صلى في الميتة جهلا لم تجب الإعادة،
نعم: مع الالتفات والشك لا تجوز ولا تجزي. وأما إذا صلى فيها
نسيانا، فإن كانت ميتة ذي النفس أعاد في الوقت وخارجه،
وإن كان من ميتة ما لأنفس له فلا تجب الإعادة.
إن البحث تارة: من حيث القاعدة الأولية والثانوية، وأخرى: من حيث
النصوص الخاصة الواردة في الباب. وعلى الأول - يبحث تارة: من حيث الميتة،
وأخرى: من حيث النجاسة. وعلى أي تقدير - تارة: من حيث الشبهة الموضوعية،
وأخرى: من حيث الشبهة الحكمية.
وعلى الثاني أيضا - جهات نشير إليها ذيلا، فتمام الكلام في مقامين:
245

أما المقام الأول: ففي مقتضى القاعدة أولية كانت أو ثانوية
إن مقتضى القاعدة الأولية هو بطلان الصلاة في الميتة، من دون الفرق بين
مانعيتها وبين شرطية التذكية، لبطلان المشروط بفوات الشرط واقعا، وكذا
بالنسبة إلى وجود المانع من دون التفاوت بين الجهل والنسيان، وكذا من دون
امتياز بين قسمي الجهل من البسيط والمركب، لدوران الحكم مدار الواقع.
وأما مقتضى القاعدة الثانوية - وهي قاعدة لا تعاد - فانحصار الإعادة الكاشفة
عن البطلان في موارد خمسة، فالاختلال بما يعتبر في صحة الصلاة وجودا أو
عدما غير ضار في غير تلك الموارد، عدا مورد الانصراف من العلم ومن الجهل
البسيط، حسبما قدمناه سابقا: من لزوم لغوية الأوامر الواردة في الحث على
تعليم الأحكام وتعلمها، إذ لو صحت صلاة من لا يعلم أحكامها ملتفتا إليها غير
معتن لتعلمها للزم كون إيجاب تعلمها لغوا.
نعم: لا انصراف لها عن الجهل المركب، وكذا عن النسيان البتة. فمن
صلى في الميتة جاهلا مركبا أو ناسيا فلا إعادة عليه. وأما الفرق بين الأثناء والختم
فقد حققنا انتفائه. ولا تفاوت هنا فيما هو المهم بين كون الجهل لاشتباه الموضوع
أو الحكم. فمن اعتقد عدم اعتبار الحديد في التذكية اجتهادا أو تقليدا ثم انكشف
له الحق من اعتباره فيها كذلك وكان قد صلى فيما ذبح بغير حديد، أو كان ممن
اعتقد عدم الاحتياج إلى حضور المسلم في تذكية السمك لكفاية مجرد الموت
خارج الماء، أو غير ذلك مما يكون منشأ الصلاة في الميتة هو الذهول عن الحكم
والجهل به، وكذا بالنسبة إلى الموضوع - وهكذا لا امتياز بين قسمي الاشتباه
في النجاسة فيما كانت الميتة نجسة - فلا إعادة في شئ من هذه الموارد، وأن
يفرق فيها بين الجهل والنسيان.
246

وأما المقام الثاني: ففي النصوص الخاصة
وليعلم: أن النصوص مختلفة حسب اختلافات أحوال المكلفين: من الجهل
بالموضوع تارة وبالحكم أخرى، ومن النسيان كذلك، ومن كون الجهل قصورا
أو تقصيرا، ومن بقاءه إلى الفراغ عن الصلاة بعدم تبدله إلى العلم في الأثناء ومن
عدم بقاءه كذلك، ومن معذوريته للاستناد إلى أصل أو أمارة أو نحو ذلك - وإن
لم يعلم بهذا الاستناد أحيانا - ومن عدم معذوريته كذلك، إلى غير ذلك من
الحالات المتصورة التي يمكن الإشارة إليها في ثنايا البحث.
ولا بد من التنبه إلى امكان تقييد قاعدة (لا تعاد) الدالة باطلاقها على عدم
الإعادة في غير موارد خمسة بما يدل عليها في غيرها أيضا، مع علاج ما ينافي هذا
المقيد إن كان، وإليك نصوص الباب.
فمنها: ما رواه عن محمد بن مسلم، عن أحدهما عليهما السلام، قال: سألته عن الرجل
يرى في ثوب أخيه دما وهو يصلي؟ قال: لا يؤذنه حتى ينصرف (1).
إن المستفاد منها - حسب الشهادة والظهور - هو كون ذاك الدم لم يكن
مما عفي عنه وإلا لما فرق بين الايذان في الأثناء وبينه بعد الانصراف، وكون
العلم بعده غير موجب للإعادة وإلا لاستوى مع العلم به في الأثناء، فلا خصوصية
له، فيدل في الجملة على أن الجهل بالموضوع غير موجب للإعادة، بعد إلقاء
الخصوصية عن الدم إلى غيره من النجاسات فيما لم يقم الدليل على خلافه.
ومنها: ما رواه عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام في رجل صلى في ثوب فيه
جنابة ركعتين ثم علم به؟ قال: عليه أن يبتدي الصلاة، قال: وسألته عن رجل يصلي
وفي ثوبه جنابة أو دم حتى فرغ من صلاته ثم علم؟ قال: مضت صلاته ولا شئ
عليه (2).

(1) الوسائل باب 40 من أبواب النجاسات ح 1 و 2.
(2) الوسائل باب 40 من أبواب النجاسات ح 1 و 2.
247

إن المراد من الصدر - بشهادة الذيل (1) - هو الجهل بالحكم لا الموضوع،
إما بأن لا يعلم بنجاسة المني، أو لا يعلم بمانعية النجس عن صحة الصلاة أو
اشتراطها بالطهارة، فعليه الإعادة. فإن كان المراد من الطهور في قاعدة (لا تعاد
الصلاة) هو الطهارة عن الحدث فقط، فبمقتضى تلك القاعدة لا إعادة في الفرض،
وبمقتضى هذا النص الخاص يجب عليه الإعادة، والجمع بينهما إنما هو بتقييد
إطلاق تلك القاعدة. وإن كان المراد من الطهور فيها هو الأعم من الطهارة عن
الخبث في الثوب والبدن أيضا، فلا اختلاف بينها وبين هذا النص حتى تقيد به.
وأما المراد من الذيل: فهو الجهل بالموضوع، فيدل على عدم الإعادة فيه،
من دون الفرق بين الوقت وخارجه.
وسيأتي ما يدل على اختصاص الإعادة عند الجهل بالحكم بما لا معذورية
هناك.
ومنها: ما رواه عن عبد الله بن سنان قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل
أصاب ثوبه جنابة أو دم؟ قال: إن كان قد علم أنه أصاب ثوبه جنابة أو دم قبل أن
يصلي ثم صلى فيه ولم يغسله فعليه أن يعيد ما صلى، وإن كان لم يعلم به فليس
عليه إعادة، وإن كان يرى أنه أصابه شئ فنظر فلم ير شيئا أجزأه أن ينضحه
بالماء (2).
إن المراد من قوله عليه السلام " إن كان قد علم... ثم صلى فيه ولم يغسله " لعله
ما أشير إليه سابقا، من حمله على الجهل بالنجاسة أو الجهل بالمانعية على فرض العلم
بها - أي بالنجاسة - ولا يبعد شموله للنسيان أيضا، وإن أمكن اخراجه بدليل
منفصل.

(1) يمكن أن يكون المراد من الصدر هو لزوم الإعادة عند العلم بالمنى في الأثناء،
والاتمام حينئذ إنما هو للجهل بالنجاسة أو بمانعية النجس.
(2) الوسائل باب 40 من أبواب النجاسات ح 3.
248

وكيف كان: إن مفاد الذيل هو نفي الإعادة عند الجهل بالموضوع. وأما
(النضح) في مفروضه الأخير فهو محمول على الندب. والعلاج بينها وبين قاعدة
(لا تعاد) - على تقدير التعارض - بالتقييد المتقدم بيانه.
ومنها: ما رواه عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن
الرجل يصلي وفي ثوبه عذرة من الإنسان أو سنور أو كلب أيعيد صلاته؟ قال:
إن كان لم يعلم فلا يعيد (1).
إن ظاهر المنطوق هو نفي الإعادة عند الجهل بالموضوع، فمن صلى في النجس
جاهلا به فلا شئ عليه، بعد إلقاء الخصوصية عن العذرة والتعدي إلى غيرها
من النجاسات.
وأما المفهوم: فمفاده الإعادة عند العلم به المحمول على ما عدا التعمد، إذ
لا وجه للشروع في عمل يعلم بفساده، فمن جهل بالنجاسة أو علمها ولم يعلم بمانعيتها
عن الصلاة أو اشتراطها بالطهارة فهو مندرج تحت المفهوم، فعليه الإعادة - كما مر
نعم: يستثنى من ذلك ما يكون الجهل مستندا إلى أصل أو أمارة مثلا، كما يأتي.
ومنها: ما رواه عن العيص بن القاسم قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل
صلى في ثوب رجل أياما ثم إن صاحب الثوب أخبره أنه لا يصلي فيه؟ قال: لا يعيد
شيئا من صلاته (2).
لامساس لهذا النص بما نحن فيه، إذ لا اتضاح له من حيث كون اجتناب
صاحب الثوب عن الصلاة فيه لماذا، هل هو للنجاسة؟ أو لأنه مما لا يؤكل لحمه؟
أو للميتة بما هي ميتة وإن كانت طاهرة، كميتة غير ذي النفس؟ أو لغير ذلك من
المحتملات؟ فهو أجنبي عن المقام.
ومنها: ما رواه عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن أصاب ثوب الرجل
الدم فصلي فيه وهو لا يعلم فلا إعادة عليه، وإن هو علم قبل أن يصلي فنسى وصلى فيه
فعليه الإعادة (3).

(1) الوسائل باب 40 من أبواب النجاسات ح 5 و 6 و 7.
(2) الوسائل باب 40 من أبواب النجاسات ح 5 و 6 و 7.
(3) الوسائل باب 40 من أبواب النجاسات ح 5 و 6 و 7.
249

وظاهره التفصيل بين الجهل بالموضوع وبين النسيان عنه، بالإعادة في الثاني
دون الأول. فمن صلى في الميتة أو غيرها من النجاسات - بعد إلقاء الخصوصية عن
الدم - جاهلا بها صحت صلاته، وأما إذا صلى فيها ناسيا عنها فعليه الإعادة،
وسيأتي تمام البحث عن النسيان في المقام الثالث الذي يعقد له.
ويؤيده ما رواه، عن سماعة قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يرى
في ثوبه الدم فينسى أن يغسله حتى يصلي؟ قال: يعيد صلاته كي يهتم بالشئ إذا
كان في ثوبه، عقوبة لنسيانه، قلت: فكيف يصنع من لم يعلم؟ أيعيد حين يرفعه؟
قال: لا، ولكن يستأنف (1).
حيث إنه فصل بين الجهل بالنجس وبين النسيان عنه، بالإعادة في الثاني
فقط، وإن استحبت في الأول لشهادة الذيل عليه.
ثم إن الظاهر: اختصاص الإعادة ببعض صور النسيان دون جميعها، لأن من
يقطع بعدم طرو النسيان اعتمادا على ذاكرته القوية فلا عقوبة عليه، إذ لم يجب
على مثله الاهتمام بالضبط بعد وثوقه أو قطعه بالتذكر ولكنه طرء عليه النسيان
فجأة مثلا، لأن شمول قاعدة (لا تعاد) بين دون هذا النص. نعم: من كانت قوته
الذاكرة عرضة طرو النسيان وزوال الصورة المدركة فعلى مثله الاهتمام.
فيلزم التفصيل بين أنحاء النسيان بعد اندراجها جميعا تحت قاعدة (لا تعاد)
وظهورها فيها قويا، فلا بد من اخراج بعض صورها عنها إلى مخرج قوي.
بقي هنا أمران:
الأول: أنه قد لاح في ثنايا البحث عن النصوص المارة لزوم الإعادة على من
علم بالموضوع - أي النجس - ثم صلى فيه جاهلا بالحكم - أي نجاسته أو مانعيته -
ولكن لا بد من التفصيل بين أنحائه، إذ قد يكون الجهل قصورا وقد يكون تقصيرا

(1) الوسائل باب 42 من أبواب النجاسات ح 5.
250

فمن اعتمد في تشخيص الحكم الشرعي على اجتهاد نفسه بلا اهمال فيه أو اجتهاد
مفتيه كذلك أو على أصل عملي أو نحوه فلعله خارج عن مساق النصوص، لقيام الحجة
له. وهذا بخلاف من قصر في الاجتهاد أو التقليد أو في الاتكال على الأصل أو نحوه،
إذ لا نقاش في شمولها له.
ومما يشهد على هذا الميز هو ما رواه عن زرارة قال: قلت له: أصاب ثوبي
دم رعاف، إلى أن قال: قلت: فإن ظننت أنه قد أصابه ولم أتيقن ذلك فنظرت
فلم أر فيه شيئا ثم صليت فرأيت فيه؟ قال: تغسله ولا تعيد الصلاة، قلت: لم
ذاك؟ قال: لأنك كنت على يقين من طهارتك ثم شككت فليس ينبغي لك أن تنقض
اليقين بالشك أبدا (1).
لأن مورده وإن لم ينطبق على المقام - لعدم العلم بالموضوع فيها دون
المبحوث عنه الآن - ولكن التعليل منطبق على ما قلناه، بيانه: أن الاستصحاب
الجاري في مفروض السؤال إنما هو بلحاظ ما قبل الصلاة والأخذ فيها، إذ لا ريب في أنه لا مجال له بعد العلم والرؤية، وكذا لا جدوى له، فمن كان على يقين من
طهارته ثم شك فيها وصلى شاكا تصح صلاته لجريان الاستصحاب واقعا وإن لم يعلم
هو به، لأن حجيته واقعية، كترتب الأحكام الأخر على موضوعاتها بلا دخالة للعلم
والجهل، فمن تيقن بالسابق وشك فيه لاحقا ولم يعلم بحجية الاستصحاب أصلا
فهو محكوم بحكم السابق، كمن يعلم بحجيته - بلا ميز - لأن الأثر للواقع.
وقد يتمسك به لاجزاء الحكم الظاهري عن الواقعي، ولكن للنقاش فيه
مجال، لاحتمال استناد نفي الإعادة هنا إلى قاعدة (لا تعاد) إذ المفروض عدم فقد
الطهارة عن الخبث واقعا، وتمامه في محله.
وكيف كان: بعد إلقاء الخصوصية عن الاستصحاب، يستفاد من هذا التعليل:

(1) الوسائل باب 41 من أبواب النجاسات ح 1.
251

أنه لو كان الجهل لأجل الاتكال على أصل أو أمارة فهو عذر ومعه لا إعادة، كما هو
مفاد قاعدة (لا تعاد) بالاطلاق. لست أقول: إن مفاد هذه الرواية هو استناد الجهل
إلى الأصل، بل أقول: إنه يستفاد من تعليلها أن المكلف لو اعتمد على ما جعله
الشارع حجة بلا تقصير في تمهيدها فجهل بحكم من الأحكام ثم انكشف الخلاف فهو
ممن لا إعادة عليه في الصلاة، نعم: لو لم يعتمد إلا على هواه بالتقصير فهو ممن
عليه الإعادة.
والحاصل: أن مورد هذه الرواية ليس إلا مجرد الانطباق على الأصل
بلا استناد، إذ لم يكن عالما بحجية الاستصحاب بعد حتى يجريه ويتمسك به.
فمن استند إلى أصل واعتمد عليه فبالأولى لا إعادة عليه مع كون الواقع على
الخلاف، كما في مورد السؤال، فنصوص الإعادة على العالم بالموضوع منصرفة إلى
الجاهل بحكمه تقصيرا لا قصورا.
الثاني: أنه قد اتضح في المقام الأول الباحث عن الجهل بالموضوع أنه لا
إعادة فيه، ولكنه يعارضه بعض ما في الباب مما يدل على لزوم الإعادة، نحو ما رواه
عن وهب بن عبد ربه، عن أبي عبد الله عليه السلام في الجنابة تصيب الثوب ولا يعلم به صاحبه
فيصلي فيه ثم يعلم بعد ذلك؟ قال: يعيد إذا لم يكن علم (1) لظهورها في لزوم
الإعادة على من جهل بإصابة المني، فتعارض ما مر مما يدل على نفيها.
وكذا ما رواه عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: سألته عن رجل صلى
وفي ثوبه بول أو جنابة؟ فقال: علم به أو لم يعلم فعليه إعادة الصلاة إذا علم (2) وقد
يعالج بحمل نفي العلم هنا على نفيه في خصوص وقت الصلاة مع العلم قبل وقتها
فينطبق على النسيان، فلا تنافي بين لزوم الإعادة فيه وبين نفيها فيما مر من
الجهل بالموضوع.

(1) الوسائل باب 40 من أبواب النجاسات ح 8 و 9.
(2) الوسائل باب 40 من أبواب النجاسات ح 8 و 9.
252

ولكن الأقوى في النظر: هو التصرف في الهيئة، بحملها على الندب الملائم لعدم
الوجوب الذي يدل عليه غير واحد من النصوص الكثيرة مفهوما ومنطوقا، مع ما
في الأول من احتمال سقوط لفظة (لا) في قوله " يعيد إذا لم يكن علم " التئاما للسياق
والأمر واضح.
إلى هنا انتهى الأمر في مقامين: أحدهما الباحث عن الجهل بالموضوع،
والآخر عن الجهل بالحكم، فتبين: أن الحق في الأول نفي الإعادة مطلقا في الوقت
وخارجه، وفي الثاني هو التفصيل بين الجهل بالحكم تقصيرا وبين الجهل به قصورا
بالإعادة في الأول وعدمها في الثاني.
تتمة: ثم إنه قد يفرق بين الفحص وعدمه باختصاص عدم الإعادة بالأول (1).
وأما المقام الثالث: ففي الصلاة في النجس ناسيا
لو صلى في النجس ناسيا فهل عليه شئ أو لا؟ وعلى الأول: فهل يفصل بين
الإعادة في الوقت والقضاء بلزوم أحدهما دون الآخر أو لا؟
إن المستفاد من غير واحد من النصوص المارة لزوم الإعادة على الناسي، نحو
رواية عبد الله بن سنان المتقدمة، إذ فيها: إن كان قد علم أنه أصاب ثوبه جنابة
أو دم قبل أن يصلي ثم صلى فيه ولم يغسله فعليه أن يعيد ما صلى... الخ (2).

(1) هذا التفصيل محكي عن الذكرى، وغاية ما يستدل له ما رواه (2 باب 41)
وفيه: إن عدم الفحص داخل في مفهوم الصدر الشامل له بالاطلاق فيدل على عدم الإعادة
وداخل في مفهوم الذيل فيدل على لزومها، فعند عدم تقديم مفهوم الصدر يتعارض المفهومان
فيرجع إلى المطلقات الدالة على عدمها.
وكذا رواية (3 منه) لأنه وإن كان سالما عن التعارض المذكور، ولكن لا يبعد حمله
على صورة الاطمئنان بالإصابة، ومعها لا بد من الفحص الخارج عن البحث. وعلى التسليم
لا ظهور له بنحو يقاوم جميع ما مر من النصوص فليحمل على الندب. وأما (4 منه) فلعله
ليس نصا آخر، وعلى تسليم الجميع فالحكم خاص بالمنى.
(2) الوسائل باب 40 من أبواب النجاسات ح 3.
253

حيث إنه بالاطلاق شامل للناسي، لأن العالم بالموضوع التارك لغسله إما
جاهل بالحكم - كما مر - أو ناس، وإلا لما أقدم على الصلاة فيه.
وكذا رواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله عليه السلام إذ فيها... قال عليه السلام
إن كان لم يعلم فلا يعيد (1) لدلالتها على الإعادة عند العلم، وحيث إن العالم لا يقدم
فلا بد من الجهل بالحكم أو النسيان، فالمفهوم باطلاقه دال على لزوم الإعادة
على الناسي.
ورواية أبي بصير ناصة في النسيان ودالة على لزوم الإعادة فيه (2) ولا ريب في
شمولها للأداء البتة، وأما القضاء: فإن نوقش في شمولها له فلا ضير بعد ورود ما يدل
عليه أيضا، كما يلي:
فمنها: ما رواه عن قرب الإسناد، عن عبد الله بن الحسن، عن جده علي بن
جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال: سألته عن الرجل احتجم فأصاب ثوبه
دم فلم يعلم به حتى إذا كان من الغد كيف يصنع؟ قال: إن كان رآه فلم يغسله
فليقض جميع ما فاته على قدر ما كان يصلي ولا ينقص منه شئ، وإن كان رآه وقد
صلى فليعتد بتلك الصلاة ثم ليغسله (3).
لا مرية في ظهورها التام في لزوم القضاء بنحو يبعد الحمل على الندب، لما
أكد فيها ذلك حيث قال: " جميع ما فاته... ولا ينقص... الخ ": نعم: إن للتأمل
والبحث عن السند مجالا.
ومن ذلك: ما رواه عن محمد بن مسلم... وإذا كنت قد رأيته وهو أكثر من
مقدار الدرهم فضيعت غسله وصليت فيه صلاة كثيرة فأعد ما صليت فيه (4).
حيث إن المستفاد من قوله " صلاة كثيرة " ما هو المنطبق على القضاء، إذ ليست
الصلاة الأدائية الواحدة مما يصدق عليها الكثرة، فبعد فوات وقتها واجتماع غيرها

(1) الوسائل باب 40 من أبواب النجاسات ح 5 و 7 و 10.
(2) الوسائل باب 40 من أبواب النجاسات ح 5 و 7 و 10.
(3) الوسائل باب 40 من أبواب النجاسات ح 5 و 7 و 10.
(4) الوسائل باب 20 من أبواب النجاسات ح 6.
254

معها يصير المجموع كثيرا، فأطلقت الإعادة على القضاء مع القرينة، فالقضاء كالأداء
واجب على الناسي.
ثم إنها دالة أيضا على أمر قد مضت الإشارة إليه سابقا، وهو قصور الشمول
عن الناسي الذي لم يقصر في الضبط والذكر، فهيهنا لو علم بما هو أكثر من الدرهم
ولكن لم يجد ماء حتى يغسله به فلم يضيع فيه وإن نسي بعد ذلك فهو غير مندرج
تحت هذه الرواية، نظير قوله عليه السلام: في رواية سماعة عن أبي عبد الله عليه السلام: يعيد
صلاته كي يهتم بالشئ إذا كان في ثوبه، عقوبة لنسيانه... الخ (1).
والحاصل: أن النصوص الدالة على لزوم الإعادة على الناسي كثيرة جدا، مع
ما بينها من التفاوت باطلاق بعضها وورود بعضها في خصوص القضاء. وحيث إن
تكرر الحكم موجب لقوته، فلنأت ببعض آخر مما يدل على الإعادة حتى يسجل
لزومها.
فمن ذلك: ما رواه عن زرارة، إذ فيه... فأصبت وحضرت الصلاة ونسيت
أن بثوبي شيئا وصليت ثم إني ذكرت بعد ذلك؟ قال: تعيد الصلاة وتغسله (2).
ونحوه رواية الحسين بن زياد عن أبي عبد الله عليه السلام، إذ فيه... فيصلي ثم
يذكر بعد أنه لم يغسله؟ قال: يغسله ويعيد صلاته (3).
ومن ذلك: ما رواه عن إسماعيل الجعفي، عن أبي جعفر عليه السلام قال - في الدم...
وإن كان أكثر من قدر الدرهم وكان رآه فلم يغسل حتى صلى فليعد صلاته، وإن
لم يكن رآه حتى صلى فلا يعيد صلاته (4).
إلى غير ذلك مما يعثر عليه المتتبع في شتات الأبواب، كباب نواقض الوضوء،
والاستنجاء، وأحكام الخلوة.

(1) الوسائل باب 42 من أبواب النجاسات ح 5 و 2 و 6.
(2) الوسائل باب 42 من أبواب النجاسات ح 5 و 2 و 6.
(3) الوسائل باب 42 من أبواب النجاسات ح 5 و 2 و 6.
(4) الوسائل باب 20 من أبواب النجاسات ح 2.
255

هذا محصل ما أردنا نقله: من الطائفة الدالة على الإعادة والقضاء، وفي
الباب أيضا ما يدل على نفيها، فيلزم نقل تلك الطائفة أولا والإشارة إلى العلاج
الحاسم لمادة التعارض ثانيا.
فمن هذه الطائفة النافية: ما رواه عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله عليه السلام
في الرجل يتوضأ وينسى أن يغسل ذكره وقد بال؟ فقال: يغسل ذكره ولا يعيد
الصلاة (1).
وما رواه عن عمار بن موسى قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: لو أن رجلا
نسي أن يستنجي من الغائط حتى يصلي لم يعد الصلاة (2).
وظهورهما في نفي الإعادة بين، فيعارض ما مر من اثباتها.
ومنها: ما رواه عن عمرو بن أبي نصر قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام إني صليت
فذكرت أني لم اغسل ذكري بعد ما صليت أفأعيد؟ قال: لا (3).
حيث إن ظاهرها نفي إعادة الصلاة لا الوضوء، وإن حمله " الشيخ ره " على
ذلك. وفي الباب أيضا ما يدل على اللزوم، فراجع.
ومنها: ما رواه عن علي بن جعفر. عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال:
سألته عن الرجل يصيب ثوبه خنزير فلم يغسله فذكر وهو في صلاته كيف يصنع
به؟ قال: إن كان دخل في صلاته فليمض (4).
ودلالتها على النسيان بقرينة لفظة (الذكر) فتدل على أن الدخول في
الصلاة ناسيا عن الغسل كاف في الاتمام وعدم الاستيناف وإن تذكر في الأثناء،
فتدل على عدم لزوم الإعادة إذا تذكر بعد الفراغ بالأولوية، وذلك لأن الجاهل
بالموضوع إذا علم به في الأثناء يحكم عليه بالإعادة، وإن لا يحكم عليها بها إذا

(1) الوسائل باب 10 من أبواب أحكام الخلوة ح 2 و 3.
(2) الوسائل باب 10 من أبواب أحكام الخلوة ح 2 و 3.
(3) الوسائل باب 18 من أبواب نواقض الوضوء ح 6.
(4) " " 13 " النجاسات ح 1.
256

علم بعد الفراغ، فهنا إذا لم يحكم بها فيما تذكر في الأثناء لم يحكم بها فيما
تذكر بعد الفراغ بالأولوية.
وفيه: أنه خلاف الاجماع، لأن الجاهل بالموضوع إذا علم به في الأثناء
يجب عليه الاستئناف فيجب على الناسي بطريق أولى، فلا بد من حمل الرواية
على صورة الملاقاة يابسا، فتخرج عما نحن فيه.
ومنها: ما رواه عن العلاء، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن الرجل
يصيب ثوبه الشئ ينجسه فينسى أن يغسله فيصلي فيه ثم يذكر أن لم يكن غسله
أيعيد الصلاة؟ قال: لا يعيد قد مضت الصلاة وكتبت له (1) وظهورها في عدم لزوم
الإعادة مما لا ينكر.
ومنها: ما رواه عن علي بن مهزيار قال: كتب إليه سليمان بن رشيد يخبره:
أنه بال في ظلمة الليل وأنه أصاب كفه برد نقطة من البول، لم يشك أنه أصابه
ولم يره، وأنه مسحه بخرقة ثم نسي أن يغسله، وتمسح بدهن فمسح به كفيه
ووجهه ورأسه ثم توضأ وضوء الصلاة فصلى؟ فأجابه بجواب - قرأته بخطه - أما
ما توهمت مما أصاب يدك فليس بشئ إلا ما تحقق، فإن حققت ذلك كنت حقيقا
أن تعيد الصلوات اللواتي كنت صليتهن بذلك الوضوء بعينه ما كان منهن في
وقتها، فلا إعادة عليك لها من قبل، أن الرجل إذا كان ثوبه نجسا لم يعد الصلاة
إلا ما كان في وقت، وإذا كان جنبا أو صلى على غير وضوء فعليه إعادة الصلوات
المكتوبات اللواتي فاتته، لأن الثوب خلاف الجسد، فاعمل على ذلك إن شاء الله (2).
وفي دلالتها على عدم الإعادة عند نسيان النجاسة وارتباطها بالمقام منظور
فيها، إذا لظاهر منها صيرورة الكف الممسوح بالخرقة الباقي على نجاسته بعد
مدهونا بدهن مسح به الكف والوجه والرأس فصار الجميع متنجسة، ثم توضأ

(1) الوسائل باب 42 من أبواب النجاسات ح 3 و 1.
(2) الوسائل باب 42 من أبواب النجاسات ح 3 و 1.
257

بأعضاء متنجسة فلم تحصل الطهارة الحدثية أيضا كالخبثية، إذ لا ريب في لزوم
الإعادة على فاقد الوضوء مطلقا، بلا فرق بين الأداء والقضاء إجماعا، فالتفصيل بينهما
مما لم يذهب إليه أحد.
فهذه الرواية - مع عدم ارتباطها بالمقام المبحوث فيه عن نسيان النجاسة
بلا خلل في الطهارة الحدثية - مما لا يمكن الالتزام بمفادها. فيتضح هنا أمر آخر،
وهو أنه لو أريد الجمع بين طائفتي النفي والاثبات - بحمل الأولى على القضاء
والثانية على الأداء وجعل هذا النص المضطرب شاهدا - لما كان له وجه، بل يصح
أن يرمي بكونه تبرعا عاريا عن الشاهد، فلا بد في الجمع بينهما من العلاج
الصناعي، وهو غير خال عن الصعوبة، ولهذا اضطرب الأعلام وتضارب الآراء في
الجمع، إذ المنقول عن بعض كتب " الشيخ " هو حمل النافي على القضاء والمثبت
على الأداء - أي الإعادة في الوقت - وعن العلامة: حمل المثبت على الندب والنافي
على عدم الوجوب.
والذي ينبغي التنبه له، هو اشتراك الطائفتين في الاشتمال على عنوان
(الإعادة) فإن كان خاصا بالاتيان في الوقت أداء فينحدر النفي والاثبات نحو شئ
واحد بعينه، وإن كان عاما شاملا للقضاء أيضا فكذلك، فحمل ما دل على نفي
الإعادة على انتفاء القضاء، وما دل على ثبوتها على لزوم الأداء، لعله عار عن
الوجه ما لم ينضم إليه الشاهد الملائم له. أضف إلى ذلك: اختصاص بعض نصوص
طائفة الاثبات بالقضاء، نحو رواية علي بن جعفر المتقدمة (1) مع التأكد فيها
بما يكون للوجوب انسب منه للندب.
فالعلاج - بعد أن كانت النسبة بينهما التباين - هو لزوم الأخذ من كل
منهما بما هو أقوى ظهورا من الآخر، إذ لا ريب في إمكان تفاوت الأفراد المندرجة

(1) الوسائل باب 40 من أبواب النجاسات ح 10.
258

تحت الدليل بقوة ظهوره في بعضها دون بعض، فإذا كان لهذا الدليل أفراد بينة
الاندراج تحته دون ما عداها، ولذاك الدليل أيضا أفراد واضحة الاندراج تحته
دون ما سواها، فليؤخذ هذان الصنفان من الأفراد ويترك ما عداهما، حسما لمادة
النزاع كما مر، في قوله " ثمن العذرة سحت " و " لا بأس بثمن العذرة ".
ولا ريب هيهنا في أن شمول دليل الاثبات للإعادة في الوقت أداء أقوى من
شموله للإعادة في خارجه قضاء، إذ لا وجه لايجاب الثاني دون الأول، بخلاف
العكس. وكذا لا مرية في أن شمول دليل النفي للقضاء أقوى من شموله للأداء،
فالقدر المتيقن من الأول هو الأداء، ومن الثاني هو القضاء. وحيث إن القدر المتيقن
من كل منهما بين الاندراج تحت دليله الشامل له ولغيره دون ما عداه، فليؤخذ
كل منهما بمقدار ما هو أقوى فيه من الآخر، فيصير الجمع دلاليا عرفيا
بلا حاجة إلى الشاهد الخارجي حينئذ، فالقضاء حينئذ غير واجب. نعم: هو مستحب
مؤكد حسب لسان بعض أدلة الاثبات، وكم له من نظير! نحو غسل الجمعة
حيث إنه أكد بما يعبر به عن الواجب.
ولا يتوهم: أنه مع ذهاب الأصحاب إلى الوجوب مطلقا بلا ميز بين الأداء
والقضاء، فمن أين يمكن الحكم بعدم لزوم القضاء؟ لأنه يمكن أن يكون من
باب الاجتهاد في الجمع بترجيح طائفة الاثبات على النفي سندا بعد اليأس عن الجمع
الدلالي - حسب استنباطهم - فلا اعتداد بالاجماع الكذائي، فضلا عن الشهرة.
نعم: لو أبيت عن العلاج بما اخترناه لكان المخلص هو خيرة الأصحاب: من
الوجوب مطلقا، لأن نصوصه أكثر وأشهر، مع اشتمالها على الصحاح، ومع
أن نطاق غير واحد منها الفصل بين الجهل والنسيان، فلو لم يجب في الثاني كالأول
لما كان له مجال، اللهم اعتبار تأكد الاستحباب.
ولا يلائمه أيضا ما في بعضها من التعبير بالعقوبة، وفي بعضها التعبير بالتضييع.
والحاصل: أنه لولا الوجه الأول لتعين الثاني، فلا وجه لحمل الاثبات على الندب
مطلقا بأن لا يجب الأداء.
259

مسألة 13 - المشكوك في كونه من جلد الحيوان أو من غيره
لا مانع من الصلاة فيه.
إن الشك قد يكون لعدم العلم بكونه من أجزاء الحيوان أو من النباتات
مثلا، فلا علم حينئذ بكونه من الحيوان أصلا، وقد يكون لعدم العلم بكونه من
أجزاء ما لم يذك أو من أجزاء ما ذكي، بعد العلم بكونه من أجزاء الحيوان.
لا إشكال في عدم لزوم إحراز كونه من أجزاء الحيوان في الصلاة، إذ تجوز
من غير ذلك البتة، فلا شرطية له وإن أوهمها ظواهر بعض النصوص المارة كموثقة
" ابن بكير " نعم: على تقدير كونه من أجزاء الحيوان يلزم أن لا يكون ميتة.
ثم إنه على الفرض الأول من الشكين: لا مجال للاستصحاب البتي، إذ على
فرض كون الميتة عبارة عن غير المذكى - أي الأمر العدمي - فهو وإن يمكن
جريان الأصل إذا كانت مانعة عن الصحة، إلا أنه لا يقين سابق فيما لا يعلم بكونه
من أجزاء الحيوان رأسا، نعم: يعلم به سابقا على تقدير كونه من الحيوان.
وكيف كان: فلا إشكال في جواز الصلاة فيه بناء على جعل الميتة مانعة مع
كونها عبارة عن (عدم المذكى) للعلم التفصيلي هنا بجواز الصلاة فيه، إما لعدم
كونه من أجزاء الحيوان رأسا، أو لعدم المانع المحرز بالأصل بعد فرض كونه
منها.
وأما الفرض الثاني: فالظاهر عدم الاشكال فيه أيضا - وإن كانت الميتة أمرا
وجوديا - إذ قبل لبس ذاك اللباس كان متيقنا بعدم لبس الميتة أو بعدم وجود
المانع، فبعد لبسه يشك في لبس الميتة وعدمه فيحكم بالعدم.
وأما التمسك ب‍ (حديث الرفع) فمبتن على الشمول للحكم الوضعي كالتكليفي
وإلا فلا مجال له.
260

الرابع: أن لا يكون من أجزاء ما لا يؤكل لحمه وإن كان
مذكى أو حيا جلدا كان أو غيره، فلا يجوز الصلاة في جلد
غير المأكول، ولا شعره وصوفه وريشه ووبره، ولا في شئ من
فضلاته، سواء كان ملبوسا أو مخلوطا به أو محمولا حتى شعرة
واقعة على لباسه، بل حتى عرقه وريقه وإن كان طاهرا ما دام
رطبا، بل ويابسا إذا كان له عين، ولا فرق في الحيوان بين
كونه ذا نفس أو لا، كالسمك الحرام أكله.
إن استيفاء ما في المتن على ذمة أمور:
الأول: في بطلان الصلاة فيما لا يؤكل
بعد الفراغ عن عدم صيرورة الصلاة بما هي مظروفة لشئ من ذلك، فإن
أطلق نحو قولنا: " الصلاة فيما لا يؤكل لحمه " فإنما المراد ما هو الأقرب إلى
الظرفية المذكورة، نحو ما يكون محيطا للمصلي بنحو من الإحاطة اللبسية،
ويتلو هذه الرتبة ما يكون محيطا له بنحو من التلطخ لثيابه - كاللعاب المبلول
به الثوب ونحو ذلك - ويتلو هذه الدرجة ما لا إحاطة أصلا بل كان مجرد المعية
- كالحقة المحمولة في الجيب - وما إلى ذلك من النظائر.
فيلزم التأمل في نطاق أدلة الباب حتى يتبين أنه يستفاد منها المنع عن
جميع هذه المراتب، أو خصوص الأولى، أو هي مع الثانية دون الثالثة؟ وتحقيق
ذلك كله رهين نقل ما في الباب من النصوص، كما تلي:
261

فمنها: موثقة " ابن بكير " المتقدمة (1) والمستفاد منها أمور: الأول -
فساد الصلاة في أجزاء ما لا يؤكل سواء كان بنحو اللبس، أو التلطخ - كالروث
والبول - وأما المحمول فهو خارج عن مفادها، لقصور التعبير عن شموله، مع عدم
قيام الشاهد الخارجي على ما يعم الميتة.
والثاني - عدم اختصاص ذلك بما كان له لحم حتى لا يشمل الصغار من
الحشرات كالبرغوث ونحوه، إذ لم يؤخذ فيه قيد اللحم بل قال " حرام أكله "
ولا شهادة لقوله عليه السلام في الذيل "... فإن كان مما يؤكل لحمه... الخ " لعدم
التنافي الموجب للتقييد، إلا أن يدعى الانصراف إلى ذوي اللحم من الحيوان
بتناسب الأكل ووفور التعبير عن مثله، وإلا فلا وجه للاختصاص، كما يتضح.
الثالث - ربما يوهم قوله عليه السلام "... حتى يصلي في غيره مما أحل الله
أكله... الخ " لزوم كون اللباس من أجزاء الحيوان الكذائي بلا اكتفاء بما عدا ذلك
من النباتات، ولكن المقصود هو الاشتراط على التقدير - أي على فرض كون
اللباس من أجزاء الحيوان فلا بد من كونه مما يؤكل - نعم: لم يتضح بعد أن
المجعول حينئذ هو شرطية المأكولية أو مانعية عدمها حسبما استظهر كلا منهما
فريق، وتظهر الثمرة في الأصل، كما يأتي.
الرابع - أنه لا فرق فيما هو المهم في المقام بين كون الحيوان ذا نفس سائلة
وعدمه، لعمومية الصدر أولا، ولعدم شهادة الذيل المشتمل على الذبح على
اختصاص الحكم بما يذبح ثانيا، وإلا لزم خروج الإبل أيضا حيث إنه مما ينحر
ولا ذبح فيه، بل المدار هو التذكية، وإنما ذكر الذبح مثالا - كما مر في بحث
الميتة - والغرض هنا تعميم الحكم لغير ذي النفس أيضا.
الخامس - أنه لا فرق بين ما تتم الصلاة فيه وما لا تتم لعمومية قوله عليه السلام فيها

(1) الوسائل باب 2 من أبواب لباس المصلي ح 1.
262

صدرا وذيلا، نعم: ليس بنحو يأبى عن التخصيص، فإن دل ما يصلح له لأمكن
الحكم به، فارتقب.
إلى غير ذلك مما يمكن استفادته من عموم هذه الموثقة، كما يتضح
بعد ذلك.
ومنها: ما رواه عن علي بن أبي حمزة قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام أو أبا الحسن
عليه السلام عن لباس الفراء والصلاة فيها؟ فقال: لا تصل فيها إلا ما كان منه ذكيا، قال:
قلت: أوليس الذكي مما ذكي بالحديد؟ قال: بلى إذا كان مما يؤكل لحمه (1).
لا شمول لها لما عدا اللباس، لقصور السؤال المنحدر نحوه الجواب، ولا دلالة
لها على الاختصاص باللباس أيضا حتى تقيد اطلاق ما دل على المنع عند التطخ مثلا.
ومنها: ما رواه عن أبي تمامة قال: قلت لأبي جعفر الثاني عليه السلام: إن بلادنا
بلاد باردة فما تقول في لبس هذا الوبر؟ فقال: البس منها ما أكل وضمن (2).
إن المراد من الإشارة في السؤال إن كان هو الشخص الخارجي المشار إليه فلا
حجية لها حينئذ، إذ لا يستفاد منها عدا حكم الفرد الخاص لا الضابطة، ولعله
لا يلائمه الجواب أيضا. وإن كان المراد منها ما هو الدارج لبسه في تلك البلاد
فيكون إشارة إلى النوع لا الفرد، فحينئذ يدل الجواب على لزوم كونه مما يؤكل
علما أو لضمانة البايع وأخباره أو تعهده أو نحو ذلك، حيث إنه ذو اليد بناء على
إرادة (أو) من لفظة (و) نعم: لا تعرض لها بالنسبة إلى الصلاة، كما أنها قاصرة
الشمول للمحمول، بل مختصة بما يصدق فيه اللبس.
ومنها: ما رواه عن إبراهيم بن محمد الهمداني قال: كتبت إليه: يسقط على
ثوبي الوبر والشعر مما لا يؤكل لحمه من غير تقية ولا ضرورة؟ فكتب: لا تجوز
الصلاة فبه (3).

(1) الوسائل باب 2 من أبواب لباس المصلي ح 2 و 3 و 4.
(2) الوسائل باب 2 من أبواب لباس المصلي ح 2 و 3 و 4.
(3) الوسائل باب 2 من أبواب لباس المصلي ح 2 و 3 و 4.
263

وظاهرها المنع عن الشعر الملقى، فيستفاد منه المنع عن الملبوس بالأولوية،
بل الجواب بنفسه شامل له أيضا، وأما المحمول فهو خارج عن شمولها له.
ومنها: ما رواه عن الحسن بن علي الوشا قال: كان أبو عبد الله عليه السلام يكره
الصلاة في وبر كل شئ لا يؤكل لحمه (1).
والمراد من الكراهة إن كان معناها المصطلح في الفقه المقابل للحرمة،
فتدل على الجواز في وبر ما لا يؤكل لحمه، فتعارض ما دل على المنع عنه كغيره من،
أجزاءه، وأما إن كان المراد منها ما هو الجامع الملائم للحرمة أو خصوص الحرمة
بقرينة غيره من نصوص الباب، فلا تعارض. وعلى أي تقدير: لا اندراج للمحمول
الذي يكون مع المصلي، ولا تصدق (الصلاة فيه).
ومنها: ما رواه عن وصية النبي صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام قال: يا علي لا تصل في جلد
ما لا يشرب لبنه ولا يؤكل لحمه (2).
ودلالتها على المنع من الصلاة في جلد ما لا يؤكل لحمه واضحة، نظير غيرها
من النصوص السابقة. وقصورها عن شمول المحمول أيضا نحوها.
ومنها: ما رواه عن العلل... عن محمد بن إسماعيل باسناده يرفعه إلى
أبي عبد الله عليه السلام قال: لا تجوز الصلاة في شعر ووبر ما لا يؤكل لحمه، لأن
أكثرها مسوخ (3).
لا إشكال في تمامية دلالتها على المنع لولا الذيل، وأما هو فإن أريد منه
التعليل فيلزم دوران الحكم مدار المسخ وجودا وعدما بلا دخالة لعنوان (محرم
الأكل) أصلا، لأن العلة معممة من جهة ومخصصة من أخرى، فعند إناطة
الحكم بالمسخ يلزم انحصاره به منعا وجوازا، وهو كا ترى. وإن أريد منه بيان
الحكم لا العلة فهو غير مناسب في خصوص المقام، لأن بيان النكتة والجهة الحكمية

(1) الوسائل باب 2 من أبواب لباس المصلي ح 5 و 6 و 7.
(2) الوسائل باب 2 من أبواب لباس المصلي ح 5 و 6 و 7.
(3) الوسائل باب 2 من أبواب لباس المصلي ح 5 و 6 و 7.
264

إنما هو بذكر ما تناله يد الأفهام العرفية، فيكون البيان حينئذ بمثابة إحياء ما
ارتكز في الأذهان، نظير ما لو قيل في المنع عن التزويج في العدة: إنه لصيانة الرحم
عن اختلاط المياه، حيث إن العرف يدركه أيضا، وأما المقام الذي يكون بيان
ممسوخية كل حيوان بيد الشرع - بحيث لولا بيانه لما أدركه العرف أصلا - فلا،
ومعه لا يصلح تقريب الحكم بذكر المسخ حكمة له، إذ لا صلوح لمثله لأن يصير
نكتة حكمية له، لما نوضحه فيما يلي. وإن كان فلا بد، فليحمل على بيان ما يوجب
تنفر الطبع. والحاصل: أن صلوح صيانة الرحم عن الاختلاط للحكمة وعدم
صلوح الممسوخية لها، بأن (الثاني) تحديده وبيان موارده بيد الشرع، فلو بين
الممسوخ وميزه عن غيره فلا اشتباه، ولا مجال أيضا للاحتياط بسراية المنع إلى
الجميع لأجل كون الأكثر مسوخا.
وأما (الأول) فمما لا يمكن بيان موارده، إذ لا يمكن الحصر وعد أن أي
رحم يختلط فيها المياه وأيها لا تختلط؟ فلذا يمنع عنه بالمنع العام صونا عن ذاك
المحذور، وكم فرق بين المقامين، فالتمسك بهذه الرواية - مع كونها مرفوعة
تجاه تلك النصوص الناطقة بدوران الحكم مدار حرمة الأكل مطلقا بلا دخالة
للمسخ - غير سديد.
ومنها: ما رواه عن تحف العقول، عن الصادق عليه السلام في حديث قال: وكل ما
أنبتت الأرض فلا بأس بلبسه والصلاة فيه، وكل شئ يحل لحمه فلا بأس بلبس
جلده الذكي منه وصوفه وشعره ووبره، وإن كان الصوف والشعر والريش والوبر
من الميتة وغير الميتة ذكيا فلا بأس بلبس ذلك والصلاة فيه (1).
ودلالتها على المنع مما لا يؤكل لحمه متوقفة على كونها بصدد التحديد
الدال بمفهومه على ذلك ولا يبعد، فتدل بقوله عليه السلام " وكل شئ يحل لحمه... الخ "
على المنع فيما عدا مورد القيد، حيث إنه مأخوذ في كلامه عليه السلام بدوا، نعم: إن
نوقش في التحديد فلا مفهوم له حينئذ.

(1) الوسائل باب 2 من أبواب لباس المصلي ح 8.
265

فتحصل من هذه الطائفة بطلان الصلاة في أجزاء ما لا يؤكل لحمه، بلا فرق
بين أنواع ذاك الحيوان من السباع وغيرها - للاطلاق - وبلا فرق بين الملبوس
والمتلطخ الذي يصدق عليه الظرفية التسامحية، بخلاف المحمول الذي لا يصدق عليه
إلا المعية أصلا، وبلا فرق بين ما تتم الصلاة فيه وما لا تتم، لاطلاق بعض ما مر، وعموم
موثقة " ابن بكير " وسيأتي الكلام فيه، وبلا فرق بين ذي النفس وغيره لما مر أيضا.
الأمر الثاني: في عدم الفرق بين السباع وغيرها
ثم إن في الباب نصوصا أخر، لعله يتمسك بها للتفصيل بين السباع وغيرها،
باختصاص المنع بالأول دون الثاني، فيلزم نقلها والتأمل في كل منها أولا، ثم
الجمع بين الطائفتين ثانيا، فالكلام في مقامين: أحدهما في نقل تلك النصوص،
والثاني في علاج تعارضها.
أما المقام الأول
ففي النصوص المفصلة بين السباع وغيرها
فمنها: ما رواه عن عبد الله بن إسحاق، عمن ذكره، عن مقاتل بن مقاتل قال:
سألت أبا الحسن عليه السلام عن الصلاة في السنور والسنجاب والثعلب؟ فقال: لا خير في
ذا كله ما خلا السنجاب، فإنه دابة لا تأكل اللحم (1).
إن دلالة هذه المرسلة على اختصاص المنع بالسباع، بأن يكون الذيل
- تعليلا للجواز في السنجاب - دالا على إناطة المنع بآكلية اللحم، فالحيوان الذي
يأكل اللحم حسب الجري العادي ويعيش ويديم حياته به لا تجوز الصلاة في أجزاءه
ثم يجعل هذا كناية عن كونه سبعا، وما لا يأكل اللحم حسب العادة لإدامة المعاش
فليس بسبع فتجوز الصلاة في أجزاءه، وإن كان هو بنفسه محرم الأكل.

(1) الوسائل باب 3 من أبواب لباس المصلي ح 2.
266

ومنها: ما رواه عن علي بن أبي حمزة قال: سألت أبا عبد الله وأبا الحسن عليهما السلام
عن لباس الفراء والصلاة فيها؟ فقال: لا تصل فيها إلا ما كان منه ذكيا، قلت:
أوليس الذكي مما ذكى بالحديد؟ قال: بلى إذا كان مما يؤكل لحمه، قلت: وما
لا يؤكل لحمه من غير الغنم؟ قال: لا بأس بالسنجاب، فإنه دابة لا تأكل اللحم،
وليس هو مما نهى عنه رسول الله إذ نهى عن كل ذي ناب ومخلب (1).
إن في المتن - بعد الغض عن السند بابن حمزة البطائني - اضطرابا لا يستقر على
أمر، لأن مفاد قوله عليه السلام " بلى إذا كان مما يؤكل لحمه " هو دوران الحكم مدار
حرمة أكل اللحم وعدمها بلا دخالة لعنوان آخر، ومفاد التعليل هو دوران الحكم
مدار السبعية وآكلية اللحم وعدمها، سواء كان ذاك الحيوان بنفسه محرم الأكل
أم لا. وكذا مفاد قوله عليه السلام " وليس هو مما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وآله... الخ " إذ
المراد من النهي هنا إن كان النهي عن الصلاة في أجزاءه فيلتئم مع سابقه في الجملة،
وأما إن كان المراد منه النهي عن أكل لحمه فيلزمه أن السنجاب مما لم ينه عن
أكله، مع أنه محرم الأكل بالاجماع ظاهرا.
وكذا مفاد قوله " وما لا يؤكل لحمه من غير الغنم " حيث إن استثناء الغنم
مما لا يؤكل غير مناسب، لتلائمه مع ما يؤكل لا ما لا يؤكل - كما هو واضح -
ولذلك اختلفت النسخ، بل ادعى خلو الأصل المنقول منه عن لفظة (لا) فحينئذ يلزم
أن يكون السنجاب مأكول اللحم، إذ بعد حذف لفظة (لا) يصير ما بعد ذلك مما
يندرج تحت مأكول اللحم، وهو كما ترى. فلا مجال للتمسك برواية هذا شأنها
سندا ومتنا.
ومنها: ما رواه عن سعد بن سعد الأشعري، عن الرضا عليه السلام قال: سألته عن
جلود السمور، فقال: أي شئ هو ذاك الأدبس؟ فقلت: هو الأسود، فقال: يصيد؟

(1) الوسائل باب 3 من أبواب لباس المصلي ح 3.
267

قلت: نعم يأخذ الدجاج والحمام، فقال: لا (1).
إن ظهورها في دوران الحكم مدار السبعية وعدمها باستعلامه عليه السلام عن
حال ذاك الحيوان من حيث الصيد والافتراس، فلما أجيب بذاك حكم عليه السلام بالمنع،
فلو كان المنع دائرا مدار حرمة الأكل لما كان لهذا الاستعلام أثر فهو دال على
اختصاص الحكم بالصائد الذي هو عبارة أخرى عن المفترس، للسبعية الكائنة فيه.
نعم: لا تعرض فيها للصلاة.
ومنها: ما رواه عن إسماعيل بن سعد بن الأحوص قال: سألت أبا الحسن
الرضا عليه السلام عن الصلاة في جلود السباع؟ فقال: لا تصل فيها (2).
ولا دلالة لها على الاختصاص أصلا، لأن السؤال إنما هو عن جلودها فأجيب
بالمنع، بلا ظهور في جواز غيرها، إذ لا مانع من السؤال عن غيرها فيجاب
بالمنع أيضا، فليس في وسع هذا النص تقييد ما يدل على المنع بالاطلاق الشامل
للسباع وغيرها سواء.
ومنها: ما رواه عن قاسم الخياط أنه قال: سمعت موسى بن جعفر عليه السلام يقول:
ما أكل الورق والشجر فلا بأس بأن يصلى فيه، وما أكل الميتة فلا تصل فيه (3).
إن تقريب دلالتها على دوران الحكم مدار السبعية هو تحديده عليه السلام الجواز
بما يكون دوام عيشه وبقاء حياته بالجري العادي بأكل النبات، وتخصيصه عليه السلام
المنع بما يكون ذلك فيه بأكل اللحم - بناء على عدم اختصاص الميتة به لكون
ذكرها تمثيلا لا تعيينا كما هو الظاهر - مع جعل ذلك كناية مشيرة إلى السبعية
والافتراس.
نعم: يكون الحد الاثباتي مطلقا، لأن آكل النبات قد يكون محلل اللحم

(1) الوسائل باب 4 من أبواب لباس المصلي ح 1.
(2) الوسائل باب 6 من أبواب لباس المصلي ح 1 و 2.
(3) الوسائل باب 6 من أبواب لباس المصلي ح 1 و 2.
268

كالغنم وقد يكون محرم اللحم كالأرنب ونحوه، فلا مانع حينئذ من تقييده بما دل
على المنع فيما لا يؤكل لحمه إن أمكن التقييد بذلك، لكونه خاصا أو أظهر من
هذا الحد الاثباتي.
والسند غير معتبر لأجل " القاسم " نعم: عن المجلسي الأول (ره)
" هاشم الحناط ".
ومنها ما رواه عن عيون الأخبار عن الرضا عليه السلام في كتابه إلى المأمون قال:
ولا يصلى في جلود الميتة ولا في جلود السباع (1). وقريب منها رواية
الأعمش عن جعفر بن محمد عليهما السلام (2).
ودلالتهما على الاختصاص بالسباع إنما هي لأجل أخذها في كلام المعصوم
عليه السلام بدوا فلو لم يكن لها خصيصة لما أخذت بخصوصها في كلامه عليه السلام، بل يؤخذ
ما هو المناط نحن (ما لا يؤكل لحمه) مثلا.
وأما المقام الثاني
ففي الجمع بين نصوص الباب
قد يتخيل عدم الاعتداد بنصوص التفصيل بين السباع وغيرها، لقيام الاجماع
على البطلان في أجزاء ما لا يؤكل لحمه، سواء كان ذاك الحيوان سبعا أم لا.
وفيه: أنه محتمل المستند، إذ يحتمل أن يكون ذهاب الأصحاب إلى المنع مطلقا
إنما هو لترجيح نصوص إطلاق المنع على نصوص التفصيل سندا أو متنا، فاللازم
هو النظر المستأنف في تلك النصوص حتى يتجه سر تقدم تلك على هذه، فنقول:
أما رواية " مقاتل بن مقاتل " ففيها مع إرسال السند واشتماله على
" مقاتل " الضعيف، كلام يمكن التعرض له في البحث عن الجواز في السنجاب،

(1) الوسائل باب 6 من أبواب لباس المصلي ح 3 و 4.
(2) الوسائل باب 6 من أبواب لباس المصلي ح 3 و 4.
269

ولعله محمول على الاضطرار. وحيث إن الحكم غير متلقى بالقبول لدى الأصحاب
بل أفتوا بخلافه، فلا يمكن جبران ضعفه بالعمل.
وأما رواية " علي بن أبي حمزة " ففيها الاضطراب المار سابقا، مع اشتمال
سندها على " البطائني " الواقف على الكاظم عليه السلام المنكر لإمامة الرضا عليه السلام، ونحن
وإن رجحنا العمل بما يرويه (في كتاب الحج) ولكن لشواهد هناك دلت على
اختصاص الاعتداد بما يروى عن حال استقامته، وأما ما يروى عن حال وقفه
واعوجاجه فلا، بل لا ينقل الأجلاء الثقات المعتمد عليهم من الأصحاب عنه في
حالته المشئومة، وفي المقام قد نقل عنه " سليمان الديلمي " الذي ليس بثقة.
وأما رواية " سعد بن سعد الأشعري " فسندها وإن كان معتبرا، إلا أن
من المحتمل قريبا كون الاستعلام إنما هو ليتبين انطباق عنوان المحرم عليه،
لا لدخالة خصوصية الصيد والسبعية. توضيحه: أن مناط الحكم لدى المعصوم عليه السلام
- حسب النصوص المطلقة - هو ما لا يؤكل لحمه، فعند انطباقه على حيوان لحكم
بعدم جواز الصلاة فيه، وأما عند عدم اتضاح انطباقه يستعلم عن سائر ماله من
الأوصاف حتى يمتاز به عما عداه ويتبين به اندراجه تحت ذاك العنوان الأصيل
الهام، وحيث إن المندرج تحته أنواع من السباع والحشرات ونحوهما، فيستعلم
عن حال ذاك الحيوان الخاص - أي السمور - أنه يصيد أم لا؟ فإذا قيل: بأنه
يصيد يعلم بانطباق ذاك العنوان الأصيل عليه فيحكم في ضوئه بالمنع، لا لأن
الأصالة للصيد والافتراس، فمعه لا تنافي بينها وبين ما يدل على دوران الحكم
مدار ما لا يؤكل، فلا تعارض في البين أصلا.
أضف إلى ذلك كله ما أشير إليه سابقا: من عدم تعرضها للصلاة. اللهم إلا
بشاهد خارجي وهو (أن محرم الأكل ليس كالميتة مما لا يملك ولا يجوز الانتفاع
الدارج منه بل يجوز بيعه والانتفاع منه) فحينئذ لا بد من حمل قوله عليه السلام " لا "
270

على عدم جواز الصلاة فيه، بقرينة غيرها من النصوص. وأما رواية " سعد بن
الأحوص " فلا تنافي بينها وبين المطلقات، لكونهما مشتركين في الحكم، بلا دلالتها
على الحصر، لورودها في جواب خاص لسؤال مخصوص، كما مر.
وأما رواية " قاسم الخياط " فالسند ضعيف، لعدم العثور على حال
" قاسم الخياط " في كتب الرجال، فلا اعتداد بها بعد إعراض الأصحاب عن
العمل بمضمونها (1).
وأما روايتا " الفضل بن شاذان " و " الأعمش " فظهورهما في الجواز فيما
عدا السباع سكوتي، حيث إنه عليه السلام كان بصدد البيان وسكت عما عداها، فلو نطقت
نصوص أخر بما يعمها وغيرها مما لا يؤكل لحمه فلا ريب في تقدمها عليها، لقوة
الناطق وضعف الصامت.
فتحصل من السبر والتقسيم والفحص عن كل واحدة واحدة من هذه النصوص
- المتوهم ظهورها في التفصيل - أنها قاصرة عن ذلك، لدوران أمرها بين ضعف
السند أو المتن أو كليهما معا. وإن كان فيها ماله ظهور ما في ذلك، فهو غير آب
عن التقييد بما عداها - كما مر - فالأقوى وفاقا للأصحاب: هو عدم الفرق بين
السباع وغيرها.

(1) ويمكن أن يقال: بصحة السند على ما ضبطه المجلسي ب‍ " هاشم الحناط " وكذا
المتن أيضا بعدم الاعراض، لأن الأصحاب قالوا: مدار الحرمة هو كون الحيوان من السباع
أو المسوخ أو الحشرات، وحيث إن آكل الشجر أو اللحم ليس من الأخير، فإن حكم الشرع
بأنه من المسوخ يحرم أكله، فيكون مخصصا للفقرة الأولى.
271

الأمر الثالث: في عدم الفرق بين ذي النفس وغيره
والحق هو استواء ذي النفس وغيره في المنع واشتراكهما فيما مر، لعدم
قصور النصوص عن الشمول، ولعدم محذور في اندراجه تحتها، فتوهم الانصراف
عن غير ذي النفس خال عن السداد.
وغاية ما يمكن التشبث به لاختصاص المنع بذي النفس هو اشتمال ذيل
(موثقة ابن بكير) التي هي العمدة في الباب على عنوان لا ينطبق على غيره، وذلك
لقوله عليه السلام "... ذكاه الذبح " إذ لا بد في المقسم من صلوحه للذبح وهو إنما يكون
في ذي النفس لا في غيره.
ولبيان اندفاعه نقدم مقدمة وجيزة وهي: أنه وإن لا يتمسك بالعام في
الشبهة المصداقية للمخصص، ولكن يتمسك به في الشبهة المفهومية له إذا كان
منفصلا، فيؤخذ به فيما عدا المتيقن خروجه منه - أي من ذلك العام - كما في محله
فلا يسري الاجمال المفهومي للمخصص المنفصل إلى العام، إذا عرفت هذا فنقول:
إن المستفاد من صدر (الموثقة) هو التعميم الشامل لجميع أنواع ما لا يؤكل
وكان هذا الصدر حسب شهادتها املاء رسول الله صلى الله عليه وآله، فكان مطلقا بلا قيد، ثم
احتيج إلى قيد ليتم نصاب الجواز فيما يؤكل وهو افتقاره إلى التذكية، فمجرد
كون الحيوان مأكول اللحم بحسب طبعه شرعا غير كاف في جواز الصلاة في جميع
أجزاءه مطلقا (سواء ذكى أو صار ميتة) بل لا بد من التذكية، فهذا تقييد فيما
يؤكل وهو خارج عن البحث. وأما ما لا يؤكل فأفيد فيه: أنه غير جائز فيه مطلقا
سواء ذكي بالذبح أو لا، يعني أنه باق على منعه المطلق ولا يؤثر فيه التذكية
التي هي في كل شئ بحسبه: من الذبح في بعض، والنحر في بعض، والصيد في
بعض، والخروج من الماء حيا عند حضور المسلم في بعض. ولا يمكن اختصاص
التذكية بالذبح، وإلا لزم عدم جواز الصلاة في أجزاء البعير المنحور، لأن التذكية
272

والذبح في كلا البابين واحد - وهو كما ترى - فلا خصوصية للذبح أصلا. وعلى
تسليم احتمالها الموجب للاجمال المفهومي للتذكية سعة وضيقا في المقام، فلا بد
من التمسك بعموم الصدر المنفصل عنه صدورا وإن اجتمعا معا هنا.
ثم إنه يؤيد التعميم بروايتي (6 و 7 باب 2 من أبواب لباس المصلي)
لصلوحهما للتأييد، فراجع.
مسألة 14 - لا بأس بالشمع والعسل والحرير الممتزج ودم
البق والقمل والبرغوث ونحوها من فضلات أمثال هذه
الحيوانات مما لا لحم لها، وكذا الصدف لعدم معلومية كونه
جزء من الحيوان، وعلى تقديره لم يعلم كونه ذا لحم. وأما
اللؤلؤ فلا اشكال فيه أصلا، لعدم كونه جزء من الحيوان.
قد مر في ثنايا البحث المار عدم قصور ما هو الأصيل في الباب أعني (موثقة
ابن بكير) عن الشمول لغير ذي اللحم، إذ لم يؤخذ في صدرها المنفصل عنه الذيل
صدورا عنوان (اللحم) أصلا، وأما أخذه في الذيل فإنما هو لبيان لزوم التذكية
في المأكول، وذلك إنما يتحقق في ذي اللحم دون غيره، فلا صلوح له للتقييد،
إذ لا دلالة لها على الحصر المنافي للاطلاق.
نعم: لا يبعد دعوى الانصراف حسب قيام السيرة القطعية للمسلمين بما هم
مسلمون منتهية إلى عصر الأئمة عليهم السلام وذلك: لعدم انفكاكهم عن المزاولة والأكل
للعسل وكذا مزاولة الشمع عند الخياطة ونحوها، وكذا غير واحد من صغار
هو أم البدن حيا أو ميتا مع فضلاتها، وما إلى ذلك. فحينئذ لو انحدر الخطاب
273

نحوهم فيتلقون ما عدا ذلك قطعا، بل الإمام عليه السلام
نفسه كان ممنوا ببعضها أيضا،
كالعسل والشمع ونحوهما، فصدور حديث المنع في هذه الحالة يوجب انصرافها
إلى ذي اللحم، ولا مجال حينئذ لاحتمال كون عموم (الموثقة) رادعا للسيرة،
ولذلك لم تختلف تلك السيرة المستمرة قبل المنع وبعده، بل كانت بحالها الذي
كانت عليها قبل صدور المنع مع كونها بمرأى من الشرع الأنور ومسمع منه،
فلا بأس بشئ من أجزاء غير ذي اللحم أصلا، فلا نطيل بعد الاتضاح.
مسألة 15 - لا بأس بفضلات الإنسان ولو لغيره كعرقه ووسخه
وشعره وريقه ولبنه، فعلى هذا لا مانع في الشعر الموصول بالشعر
سواء كان من الرجل أو المرأة، نعم: لو اتخذ لباسا من شعر
الإنسان فيه اشكال، سواء كان ساترا أو غيره، بل المنع قوي
خصوصا الساتر.
لا إشكال في الجملة في جواز الصلاة في فضلات الإنسان من الشعر ونحوه،
وإنما الكلام في أنه خرج بالتخصيص أو بقصور الدليل المنصرف إلى ما عداه رأسا.
فعلى الأول: يقتصر على نطاق دليل الخاص، فإن قصر عن شمول ما إذا
اتخذ من شعره لباس يحكم بالمنع فيه، لتمامية نصاب حجية العام فيما لم يخرج
بالتخصيص. وعلى الثاني: لا يقتصر على أمر دون آخر، لاستواء الجميع في الجواز،
إذ الفرض انصراف ما لا يؤكل عن الإنسان، فعليه لا فرق بين الشعر الواحد الملقى،
وبين الشعر الكثير الموصول، وبين الشعر المجتمع المتخذ منه اللباس، إذ لا يصدق
على شئ من ذلك أنه من أجزاء ما لا يؤكل، لفرض الانصراف عنه.
274

نعم: تختلف هذه المذكورات في مراتب الانصراف شدة وضعفا مع
اشتراكها جميعا في أصله. والذي يقوى في النظر هو (الثاني) وذلك لقيام السيرة
القطعية على عدم الاجتناب عن الدموع المصبوبة حال الصلاة خوفا من جلال الله
تعالى كما في الأولياء، أو الغزيرة المصبوبة في مأتم أهل البيت عليهم السلام، أو في مصائب
أخرى، مع الصلاة بلا غسل وازالتها، وكذا المياه الأخر الخارجة من الأنف
والفم والأذن، أو حال الحركة العنيفة والحرارة المطيفة بالبدن الموجبة للعرق،
وما إلى ذلك من الشعر والظفر وغيرهما، بلا فرق في ذلك بين الإمام عليه السلام
وغيره،
لأن الإنسان كله في ذلك سواسية، هذا بالنسبة إلى نفسه. وأما بالنسبة إلى غيره
فكذلك أيضا، إذ قلما ينفك الإنسان عن تقبيل أولاده الصغار المصحوبين مع
فضلاتهم الطاهرة سيما الدمع والعرق، بل وكذا الزوجة عند المضاجعة، وحشر
الناس بعضهم مع بعض عند التصافح صيفا وشتاء، إلى غير ذلك من النظائر المختلفة
في الابتلاء شدة وضعفا الموجبة لاختلاف مراتب الانصراف كذلك.
فمع الالتفات إلى هذه السيرة القطعية المتصلة إلى عصر الوحي والحديث
لو صدر المنع عن ما لا يؤكل لانصرف إلى ما عدا مورد السيرة الحتمية لا محالة
فيكون المراد الجدي مما لا يؤكل لحمه هو غير الإنسان من أنواع الحيوان،
فحينئذ لا يدور الأمر مدار التعارف وأن الشعر الموصول كان متعارفا وأما المتخذ
منه اللباس فلا، لأنهما وإن اختلفا في التعارف وعدمه، ولكن المقسم وهو خروج
الإنسان رأسا مشترك فيه بينهما، فعليه لا غرو في تجويز الصلاة في اللباس
الكذائي أيضا.
نعم: لو كان الخروج بالتخصيص للزم الاقتصار على نطاق دليله، مع بقاء ما
عداه تحت عموم المنع. نحو ما رواه عن علي بن الريان بن الصلت، أنه سأل أبا الحسن
الثالث عليه السلام عن الرجل يأخذ من شعره وأظفاره ثم يقوم إلى الصلاة من غير أن ينفضه
275

من ثوبه؟ فقال: لا بأس (1).
وظاهره شعر الإنسان لنفسه وكذا ظفره، وأما لغيره فلا، فيمكن الاقتصار
على مثل ذلك للعسر والحرج، وأما ما عداه فيحتمل المنع، وإن كان الحق ما عرفت
من الجواز مطلقا (للانصراف) والغرض أنه لو كان الخروج للتخصيص بهذا النص
ونحوه أو للحرج لزم الاقتصار على مدلوله وعلى مورده وهو خصوص شعر الإنسان
وظفره لنفسه.
وكذا ما رواه عن علي بن الريان قال: كتبت إلى أبي الحسن عليه السلام: هل
تجوز الصلاة في ثوب يكون فيه شعر من شعر الإنسان وأظفاره من قبل أن ينفضه
ويلقيه عنه؟ فوقع: يجوز (2) ومن المحتمل اتحادهما وكونهما رواية واحدة
نعم: على فرض الاختلاف - بشهادة الكتابة والتوقيع في الثانية والسؤال في الأولى
مع تغير ما في المتن - تدل هذه على الجواز بالنسبة إلى الغير أيضا، لاطلاق لفظ
(الإنسان) بخلاف الأولى لقصورها عن الشمول لأي إنسان كان، بل ينحصر
بالنسبة إلى نفسه.
ونحو ما رواه عن قرب الإسناد، عن الحسين بن علوان، عن جعفر، عن أبيه
أن عليا عليه السلام سئل عن البصاق يصيب الثوب؟ قال: لا بأس به (3).
وفيه: أنه بعد قصور السند ب‍ " ابن علوان " لا ظهور لها فيما لا يؤكل لحمه،
للاحتمال القوي برجوع مصب السؤال والجواب إلى جهة النجاسة، ومعه لامساس
لها بالمقام، وعلى تسليم الشمول لا يجدي في الجواز المطلق.
فالمهم هو انصراف ما لا يؤكل عن الإنسان، ومعه تجوز الصلاة في جميع
فضلاته الطاهرة حتى الشعر المتخذ منه اللباس، مع جعل هذه النصوص الخاصة
وأشباهها مؤيدة لذلك في الجملة. ولا فرق حينئذ بين الساتر وغيره.

(1) الوسائل باب 18 من أبواب لباب المصلي ح 1 و 2.
(2) الوسائل باب 18 من أبواب لباب المصلي ح 1 و 2.
(3) الوسائل باب 17 من أبواب النجاسات ح 6.
276

مسألة 16 - لا فرق في المنع بين أن يكون ملبوسا أو
أو جزء منه أو واقعا عليه أو كان في جيبه، بل ولو في حقة هي
في جيبه.
إن الملبوس - وكذا الجزء المجعول سداه، أو لحمته، أو الجزء الملقى عليه
أو على اللابس - مما يصدق عليه أنه صلى فيه، بعناية الظرفية الكذائية، حسب
انسباق ذلك كله من (موثقة ابن بكير) التي هي الأصل في الباب، لشمولها التطخ
أيضا. وأما المحمول: فقد مر تحقيقه في ثنايا البحث عن نصوص الباب، واتضح
هناك قصورها عن شموله فلا منع فيه، إذ ليست لفظة (في) بمعنى (مع) بل
لم أتحقق استعمالها فيه مجازا وإن ادعى، فحينئذ يكون المفاد هو الظرفية اللبسية
أو التلطخ، وأما مجرد (المعية) فلا.
بقي في المقام الميز بين ما تتم الصلاة فيه وما لا تتم.
قد اختلفت النصوص الواردة في المقام وغيره مائزة بين ما تتم الصلاة فيه وما
لا تتم: من الجواز في الثاني والمنع في الأول، مع ورود بعضها في التسوية بينهما
وعدم اختصاص المنع بالأول بل يعم الثاني أيضا، فيلزم نقل هاتين الطائفتين أولا،
ثم العلاج والجمع بينهما ثانيا. فتمام الكلام رهين أمرين.
الأمر الأول
في نصوص الباب
فأما الطائفة المجوزة - فمنها: ما رواه عن زرارة، عن أحدهما عليهما السلام، قال:
كل ما كان لا تجوز فيه الصلاة وحده فلا بأس بأن يكون عليه الشئ مثل القلنسوة
277

والتكة والجورب (1).
وظاهرها العفو عما يكون مانعا عن الصلاة في نفسه إذا تحقق فيما لا تتم
الصلاة فيه وحده، سواء كان ذاك المانع هو التنجس أو الجزئية لما لا يؤكل أو غيرهما
ولا ريب في ظهورها القوي في عمومية العفو في جميع ما لا تتم.
ومنها: ما رواه عن زرارة قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إن قلنسوتي وقعت
في بول فأخذتها فوضعتها على رأسي ثم صليت؟ فقال: لا بأس (2).
أن المستفاد من السؤال هو اختصاص البول بخصوصية المنع في الجملة،
لا مثل بول ما يؤكل لحمه إذ لا حظر هناك حتى يسأل عن حكمه، فهذه الخصوصية
هي الموجبة للسؤال، نعم: لا اختصاص لذلك ببول الإنسان، فإن ادعى الانصراف
إليه - لأنه المبتلى به غالبا - فهو خال عن الشاهد. فيعم البول الذي صرح بالمنع
عن (موثقة ابن بكير).
ونحوها ما رواه عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا بأس بالصلاة في الشئ الذي
لا تجوز الصلاة فيه وحده يصيب القذر مثل القلنسوة والتكة والجورب (3).
وحيث إن القذر باطلاقه شامل لقذر ما لا يؤكل لحمه - لأنه المهم في
القذارة - فتدل هذه الرواية على جواز الصلاة فيه.
ومنها: ما رواه عن الحلبي، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كل ما لا تجوز الصلاة
فيه وحده فلا بأس بالصلاة فيه، مثل التكة الإبريسم والقلنسوة والخف والزنار
يكون في السراويل ويصلى فيه (4).
وظاهر الصدر: هو العفو عما يصلح للمانعية في نفسه، بلا اختصاص له بمانع
دون آخر، وبلا تقييد بشئ من الموانع. وأما الذيل: فهو نص في بعض موارد

(1) الوسائل باب 31 من أبواب النجاسات ح 1 و 3 و 4.
(2) الوسائل باب 31 من أبواب النجاسات ح 1 و 3 و 4.
(3) الوسائل باب 31 من أبواب النجاسات ح 1 و 3 و 4.
(4) الوسائل باب 14 من أبواب لباس المصلي ح 2.
278

خاصة كالإبريسم، وكيف كان: يدل بالعموم والاطلاق على الجواز.
إلى نحو ذلك مما يمكن العثور عليه بالتتبع، مثل ما رواه عن محمد بن
عبد الجبار قال: كتبت إلى أبي محمد عليه السلام أسأله هل يصلى في قلنسوة عليها وبر ما لا يؤكل
لحمه أو تكة حرير محض أو تكة من وبر الأرانب؟ فكتب: لا تحل الصلاة في الحرير
المحض وإن كان الوبر ذكيا حلت الصلاة فيه إن شاء الله (1).
إن المستفاد من السؤال هو أعم من المنسوج لشموله الشعر الملقى أيضا،
حيث إنه لو وقع على قلنسوة مثلا يصدق عليه أنه عليها. وأما الجواب، فحيث إنه
لا ضير في الحرير الممتزج فلذا منع عن المحض منه. وأما ذكاة الوبر فإن أريد منها
(التذكية) فلا ريب في عدم اعتبارها فيه، لجواز الصلاة في المجزوز من الميتة بلا
منع، وإن أريد منها (الطهارة) حيث إنها - أي التذكية - قد تستعمل بمعناها فلا
خلاف في عدم اعتبارها - أي الطهارة - فيما لا تتم، لجواز الصلاة في المتنجس منه
ويحتمل أن يكون المراد منها المعنى الأخير - أي الطهارة - ولكن لا على اعتبارها
نفسها فيما لا تتم كغيره، بل لأن نجاسته مستلزمة للسراية إلى غيره مما تتم فيه الصلاة
كالسراويل والأزار المناسب له التكة، فلو كان ذاك الوبر المعمول منه التكة مثلا
طاهرا بالأصل - كما إذا كان من المذكى أو مجزوزا من الميتة أو بالغسل كما إذا
كان منتوفا منها - فلا إشكال فيه. وليتنبه أن الجواب وإن كان مطلقا شاملا لما
تتم أيضا، إلا أنه نص في مصب السؤال، بحيث لا يمكن اخراجه عنه - فهذه هي
الطائفة المجوزة.
وأما الطائفة المانعة - فمنها: ما رواه عن علي بن مهزيار قال: كتب
إبراهيم بن عقبة: عندنا جوارب وتكك تعمل من وبر الأرانب فهل تجوز الصلاة

(1) الوسائل باب 14 من أبواب لباس المصلي ح 4.
279

في وبر الأرانب من غير ضرورة ولا تقية؟ فكتب عليه السلام: لا تجوز الصلاة فيها (1).
قد يمكن توثيق السند بأن " ابن مهزيار " من الأجلاء والثقات، وهو نسب
الكتابة إلى " إبراهيم بن عقبة " فلو لم يثبت له أنه كتب لم ينسب إليه، فلا بد من
أن يكون قد رآها أو ثبت له ذلك بالوثاقة بأن أخبره إبراهيم نفسه بأنه كتب وكان
إبراهيم ممن يثق به ابن مهزيار، ومن المعلوم: أن وثوق مثل ابن مهزيار بشخص
ليس أقل ولا أنزل من توثيق بعض أهل الرجال كالنجاشي له. وكيف كان: إن
الاسناد الجزمي للمكاتبة إيل إبراهيم دال على أنه ثبت لابن مهزيار أنه الكاتب،
فلا كلام حينئذ فيه.
وأما المكتوب إليه: فمن المحتمل بعيدا غاية البعد أنه غير الإمام عليه السلام
، إذ
لا ينقل ابن مهزيار كتابة عادية لا جدوى فيها من جهة التشريع أصلا، فالموثوق به
هو كونه المعصوم عليه السلام فمعه لا نقاش في السند.
وأما المتن: فظاهره المنع فيما لا ضرورة عند العمل ولا اتقاء عند الامتثال.
والمراد من التقية هنا هو تقية المكلف في مقام العمل، لا اتقاء الإمام عليه السلام
في موطن الحكم وبيان الواقع، كما سيتضح الميز بينهما، فارتقب.
ومنها: ما رواه عن علي بن مهزيار، عن أحمد بن إسحاق الأبهري قال: كتبت
إليه، جعلت فداك عندنا جوارب وتكك تعمل من وبر الأرانب فهل تجوز الصلاة
في وبر الأرانب من غير ضرورة ولا تقية؟ فكتب: لا تجوز الصلاة فيها (2).
لا مجرى للتمحل السابق في توثيق سند هذا الحديث بعد ضعف " ابن إسحاق "
وعدم جزم " ابن مهزيار " في إسناد الكتابة إليه، وبعد عدم إحراز استناد الأصحاب
القائلين بالمنع إليه وإن أردفه في الجواهر تصحيحا له - مع عدم احتمال اتحاد
المكاتبتين بعد تعدد الكاتب - فحينئذ لا مجال للاعتماد بهذا النص، فالمهم في باب
المنع هو المكاتبة الأولى.

(1) الوسائل باب 7 من أبواب لباس المصلي ح 3 و 5.
(2) الوسائل باب 7 من أبواب لباس المصلي ح 3 و 5.
280

الأمر الثاني
في الجمع بين نصوص الباب
ثم إنه بعد استقرار التعارض بين طائفتي المنع والجواز قد يجمع بينهما
بحمل المنع على الكراهة كما عن " الشيخ " في المبسوط " العلامة " في غير واحد
من كتبه ومن احتذى حذوهما. وقد يجمع بحمل الجواز على التقية أي اتقاء
المجيب في بيان الواقع زعما بموافقته للمحكي عن " أحمد بن حنبل " الذي شاعت
التقية منه في زمان العسكري عليه السلام.
وليعلم: أن التقية على وجهين - كما أشير إليهما سابقا - أحدهما: تقية
المعصوم عليه السلام في بيان الحكم، والآخر: اتقاء المكلف في مقام الامتثال. فأما الأول
- أي الحكم الصادر عن اتقاء - فهو ليس بحكم واقعي ضرورة لعدم انحفاظ جهة
الصدور. وأما الثاني - أي الحكم المعمول به تقية عند الامتثال - فهو أمر واقعي
في ذاك الظرف.
وشئ من هذين الوجهين غير صالح لأن يحمل عليه الجواز، أما الأول:
فهو من المرجحات السندية المتأخرية عن الجمع الدلالي، إذ مع امكانه لا مجال
لذلك، وستقف على امكانه. وأما الثاني: فهو يتوقف على صلوح دليل الجواز
له وعدم إبائه من الحمل عليه، والظاهر إبائه عنه، لأن حمل اطلاق قوله عليه السلام في
صحيح محمد بن عبد الجبار " وإن كان الوبر ذكيا حلت الصلاة فيه... الخ " على
خصوص مورد التقية - سيما الاتقاء في التكة التي لا يطلع عليها ولا احتياج إلى
تعب ومشقة في الاخراج والاجتناب عنه - بعيد جدا. فمع قوة ظهور طائفة
الجواز - بحيث لا يقاس لها المنع - يحكم بالتصرف فيه بالحمل على الكراهة
الشديدة، إبقاء لظاهر أدلة الجواز بحالها، ولا ينتهي الأمر بعد إمكان هذا الجمع
281

الدلالي إلى الحمل على التقية، مع بعدها في مثل التكة ولزوم حمل الاطلاق
على فرد نادر. فالأقوى: هو الجواز مع الكراهة.
مسألة 17 - يستثنى مما لا يؤكل الخز لخالص الغير
المغشوش بوبر الأرانب والثعالب، وكذا السنجاب. أما السمور
والقاقم والفنك والحواصل فلا يجوز الصلاة في أجزاءها على
الأقوى.
قد اختلف في جواز الصلاة في جلد الخز بعد الاتفاق في جوازها في وبره،
فالمشهور بين الأصحاب هو الجواز وعن بعضهم المنع، ولعل " الماتن " من المانعين،
بشهادة توصيف المستثنى بالخلوص من وبر الأرنب، إذ المغشوش به هو وبر الخز
لا الجلد، فحينئذ يندرج الجلد في عموم المنع. فلا بد من التأمل التام في نطاق
نصوص الباب حتى يتضح ظهورها في استثناء الجلد أو لا، كما أنه يلزم النظر في
انطباقها على الخز الذي هو مما لا يؤكل وعدمه، وذلك لأن الخز قد يطلق على
نفس ذاك الحيوان، وقد يطلق على المعمول من وبره من اللباس، وقد يطلق على
الإبريسم وعلى المنسوج من صوف وحرير.
فدلالة النصوص الكثيرة على الجواز في الخز في الجملة وإن كان مما لا كلام
فيها، إلا أن الأمر بعد في المراد من المأخوذ في ألسنتها من الخز هل هو الحيوان
أم لا؟ وعلى الثاني: هل تجوز في الجلد كالوبر أن يختص الجواز بالوبر؟
وتلك النصوص على طوائف - فمنها: ما يدل على الجواز في الخز ساكتة
عن تعيينه. ومنها: ما يدل على الجواز في وبره بعد إن كان المراد منه الحيوان.
ومنها: ما يدل على الجواز في جلده. ومنها: ما يدل على التلازم في الجواز بين
الجلد والوبر، إلى غير ذلك من الروايات المختلفة.
282

فمنها: ما رواه عن سليمان بن جعفر الجعفري أنه قال: رأيت الرضا عليه السلام
يصلي في جبة خز (1).
ودلالتها علي أصل الجواز في الخز في الجملة مما لا ريب فيها، إلا أنها
قاصرة عن تعيين المراد من ذاك الخز، هل هو الحرير الممتزج بالصوف أو غيره
مما هو المبحوث عنه؟ وهكذا نحو هذه الرواية (2 و 3 و 6 باب 8 من أبواب
لباس المصلي) لقصورها جميعا عن إفادة ما هو المهم.
ومنها: ما رواه عن معمر بن خلاد قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام عن
الصلاة في الخز؟ فقال: صل فيه (2)
وظاهرها الجواز حتى في المعمول من ذاك الحيوان من الوبر، لاطلاق
السؤال وترك الاستفصال، وحيث إن الدارج منه القميص والجبة ولا تلازم بينهما
وبين الجلد فلا شاهد في البين بالقياس إليه، فلم يتحصل إلى الآن ما يدل على
الجواز فيه - أي في الجلد - هذا ولكن الحق سقوطه عن الاستدلال للاجمال (3).
ومنها: ما رواه عن يحيى بن أبي عمران أنه قال: كتبت إلى أبي جعفر الثاني
عليه السلام في السنجاب والفنك والخز وقلت: جعلت فداك أحب أن لا تجيبني بالتقية
في ذلك، فكتب بخطه إلي: صل فيها (4).
لا إشكال في ظهورها في كون المراد من الخز هو ذاك الحيوان المعهود
بشهادة السياق، فعليه تجوز الصلاة في جميع أجزاءها من الجلد وغيره. إنما
الكلام في تمامية حجيتها بعد أن لم يتحصل حكم قرينيه من السنجاب والفنك
فمع ما فيها من احتمال المنع بعد يشكل التمسك بها لاثبات الجواز في الثالث
- أي الخز -.

(1) الوسائل باب 8 من أبواب لباس المصلي ح 1 و 5.
(2) الوسائل باب 8 من أبواب لباس المصلي ح 1 و 5.
(3) إذ من الواضح: أنه إذا دار أمر اللفظ بين المفاهيم المتعددة يصير مجملا، فمعه
لا مجال للاستدلال، وأين هذا من الاطلاق؟ فضلا عن شموله للجلد كما زعم.
(4) الوسائل باب 3 من أبواب لباس المصلي ح 3.
283

ومنها: ما رواه عن عبد الله بن إسحاق العلوي، عن الحسن بن علي، عن محمد بن
سليمان الديلمي، عن قريب، عن ابن أبي يعفور قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام
إذ دخل عليه رجل من الخزازين فقال له: جعلت فداك ما تقول في الصلاة في
الخز؟ فقال: لا بأس بالصلاة فيه، فقال له الرجل: جعلت فداك إنه ميت وهو
علاجي وأنا أعرفه، فقال له أبو عبد الله عليه السلام: أنا أعرف به منك، فقال له الرجل:
إنه علاجي وليس أحد أعرف به مني، فتبسم أبو عبد الله عليه السلام ثم قال له: أتقول
إنه دابة تخرج من الماء أو تصاد من الماء فتخرج فإذا فقد الماء مات؟ فقال الرجل:
صدقت جعلت فداك هكذا هو، فقال له أبو عبد الله عليه السلام: فإنك تقول: إنه دابة
تمشي على أربع وليس هو في حد الحيتان فتكون ذكاته خروجه من الماء،
فقال له الرجل: إي والله هكذا أقول، فقال له أبو عبد الله عليه السلام: فإن الله تعالى
أحله وجعل ذكاته موته كما أحل الحيتان وجعل ذكاتها موتها (1).
إن للتأمل في صحة السند مجالا، لأن " عبد الله بن إسحاق العلوي " ممن
لم يسبق ذكره توثيقا في الرجال،، ولم ينقل عنه حديث عدا هذا النص الواحد،
فيشكل الاعتماد عليه بعد عدم إحراز استناد الأصحاب المجوزين إليه. نعم:
لو لم يوجد في الباب ما يدل على الجواز في الجلد لأمكن القول إلى أن المستند
لهم هو هذا النص، وأما لو وجد ماله صلوح لذلك، فلا.
وأما المتن: فظاهر الذيل ربما يوهم حلية الأكل، ولكن المراد منها الحلية
في الاستعمال والصلاة، فلا تغفل. ثم إن الخزاز قد يطلق على بايع الخز، وقد
يطلق على الصانع المعالج له. وكيف كان: لا إشكال في أن لمراد من (الخز)
هنا هو ذاك الحيوان المعهود.
كما أنه لا ريب في دلالة النص على جواز الصلاة فيه تلويحا وتصريحا،

(1) الوسائل باب 8 من أبواب لباس المصلي ح 4.
284

أما الثاني: فلقوله عليه السلام " لا بأس بالصلاة فيه " وأما الأول: فحيث إن المرتكز في
ذهن السائل هو المنع لأجل كونه ميتا فرده بالتخطئة ببيان أن ذكاته هو الخروج
من الماء، فلا محذور فيه من جهة الميتة بلا تعرض لشئ آخر، فلو كان كونه مما
لا يؤكل مانعا للزم التنبيه لهذه النكتة وأن الحكم هو المنع ذكي أم لا، فالاكتفاء
برد توهم الميتة كاشف عن صيانته عن محذور آخر، مع ما في التصريح المصدر به
الجواب غنى وكفاية. فيدل على جواز الصلاة في ذاك الحيوان - أي في جميع
أجزاءه من الجلد والوبر وغيرهما - بالاطلاق، مع ما للجلد من الخصوصية الموجبة
للسؤال، وهو احتمال الميتة، إذ لو كان مصب الغرض هو الوبر لما كان الموت مانعا،
إذ يجوز استعمال وبر الميتة في الصلاة وغيرها، فالأصيل في السؤال هو الجلد
ونحوه من الأجزاء التي تحلها الميتة.
فهي تامة المتن من حيث الجواز في الجلد فضلا عن الوبر، إنما الكلام بعد
في السند.
ومنها: ما رواه عن سعد بن سعد، عن الرضا عليه السلام قال: سألته عن جلود
الخز؟ فقال: هو ذا نحن نلبس، فقلت: ذاك الوبر جعلت فداك، قال: إذا حل وبره
حل جلده (1).
لا اشكال في السند، وأما المتن: فقد قيل، إن (هو ذا) في كلامه عليه السلام بفتح
الهاء وسكون الواو كلمة مفردة تستعمل للتحقيق والاستمرار - وأيده في
الجواهر - فالمعنى حينئذ: أنه عليه السلام أخبر باستمرار لبسه، فيكون كالصريح في
الشمول لحال الصلاة، وإلا لنقل عنهم عليهم السلام النزع حالها. ولكن الذي يقوى
في النظر، هو كونها مركبة من الضمير والإشارة، فهي جملة مفيدة فائدة الجواب
فالمعنى: أن الخز هو هذا، مشيرا إلى ما لبسه خارجا، حيث إن ضمير التذكير

(2) الوسائل باب 10 من أبواب لباس المصلي ح 14.
285

يرجع إلى الخز المضاف إليه، لا الجلود المضافة إلى الخز، لعدم التناسب. ثم قال
السائل: بأن ذاك الملبوس وبر لا جلد مع أنه المسؤول عن حكمه لا الوبر،
فأجاب عليه السلام بنحو الضابطة الدالة على التلازم بين الوبر والجلد في الحلية.
والمراد من هذا التلازم إنما هو بلحاظ ما يؤكل وما لا يؤكل لا غير
- كالمذكى والميتة - إذ من الواضح: أنه لا ملازمة بين حلية وبر الميتة في الصلاة وبين
حلية جلدها، لجواز الأول ومنع الثاني، فالمراد هو خصوص ما يكون المنع فيه
لأجل كونه مما لا يؤكل، لأنه الذي لا فرق فيه بينهما جوازا ومنعا.
ومما يبعد احتمال الأول - أي كونها لفظة مفردة - أن المعنى حينئذ، أنه قال عليه السلام إنا نلبس دائما ومستمرا، فيكون قول السائل " ذاك الوبر " مستلزما
لكونه رقيبا ومطلعا على ما يلبسونه كذلك حتى يتيسر له القول: بأن ذاك وبر
لا جلد - وهو كما ترى - فالمعنى هو ما عرفت. فهي تامة الدلالة على جواز الصلاة
في الجلد كالوبر، مع صحة السند.
ولمزيد الايضاح نقول: إن المسؤول عنه هل هو الحكم التكليفي أو الوضعي؟
فعلى الأول: لا بد من أن يكون هناك احتمال عدم جواز اللبس لأجل الميتة أو
للنجاسة، وإلا فلا احتمال بدون شئ منهما للمنع التكليفي حتى يسئل عنه،
ولكن لا يتم إلا بالنسبة إلى أحد من هذين الاحتمالين، فمعه لا مجال للسؤال عن
الحكم التكليفي إلا بلحاظه، بيان ذلك: أن احتمال المنع من جهة الميتة لا يلائمه
الجواب بالتلازم بين حلية الوبر وحلية الجلد - كما مر - لجواز الأول ومنع
الثاني، فحينئذ لا يتم الأمر بالقياس إليه. وأما احتمال المنع من جهة النجاسة
بكونه كلبا بحريا فيلائمه الجواب، ولكن به يتم المقصود أيضا، وذلك: لأن
قوله عليه السلام " نحن نلبس " دال على عدم الاجتناب عملا وأنه لا منع من لبسه،
وقوله عليه السلام " إذا حل وبره حل جلده " دال على التلازم بين الحليتين - كما مر - وهو
286

كذلك في النجاسة، لأن الحيوان الذي يكون نجسا لا ميز بين وبره وجلده،
وكذا الحيوان الذي لا يكون نجسا لا فرق بين هذين فيه، فاستمراره عليه السلام في
اللبس مع قوله عليه السلام في الذيل دال على ارتفاع المنع التكليفي البتة، بل دال على
عدم النجاسة، إذ لو كان نجسا لعسر اللبس مع الاجتناب جدا، فمن ذلك يستكشف
عدم النجاسة. كما أنه يستكشف من الاستمرار في اللبس أنه لا منع وضعي له،
إذ لو كان مانعا عن الصلاة للزم نزعه حالها، سيما بالقياس إلى من يداوم الصلاة
ويحافظها فرضا ونفلا، فلو كان مانعا لنزع، ولو كان لبان.
والغرض أنه على الحكم التكليفي لا مجال للاحتمال من جهة الميتة، وأما
من جهة النجاسة فله وجه في الجملة، ولكن يستكشف منه حكمان وضعيان:
أحدهما - انتفاء النجاسة، والآخر - عدم المانعية عن الصلاة.
وأما على الثاني - أي الحكم الوضعي - فالأمر فيه تام بلا حزازة، ويدل
على عدم مانعية الجلد كالوبر.
ومما يؤيد كون السؤال عن الحكم الوضعي لاحتمال مانعيته، هو ما رواه
عن جعفر بن عيسى قال: كتبت إلى أبي الحسن الرضا عليه السلام أسأله عن الدواب التي
يعمل الخز من وبرها أسباع هي؟ فكتب: لبس الخز الحسين بن علي ومن بعده جدي
صلوت الله عليهم (1).
حيث إن المنقدح في الذهن هو المنع لأجل السبعية، فكتب في الجواب
بما دل على الجواز.
وما رواه عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: سأل أبا عبد الله عليه السلام رجل وأنا عنده
عن جلود الخز؟ فقال: ليس بها بأس، فقال الرجل: جعلت فداك إنها علاجي (في
بلادي) وإنما هي كلاب تخرج من الماء فقال أبو عبد الله عليه السلام: إذا خرجت من الماء
تعيش خارجة من الماء؟ فقال الرجل: لا، قال: ليس به بأس (2).

(1) الوسائل باب 10 من أبواب لباس المصلي ح 4 و 1.
(2) الوسائل باب 10 من أبواب لباس المصلي ح 4 و 1.
287

واحتمال المانعية لعله من جهة حصر حلية الأكل في السمك الخاص، فما
عداه محرم الأكل فمعه يكون مانعا، أو لخصوصيته الكلبية المذكورة. وعلى
أي تقدير: يدل اطلاق نفي البأس وعدم التفصيل والاستفصال على الجواز حال
الصلاة أيضا، وإلا لزم التنبيه.
وما رواه عن أبي داود بن يوسف بن إبراهيم قال: دخلت على أبي عبد الله عليه السلام
وعلي عباء خز وبطانة خز وطيلسان خز مرتفع، فقلت: إن علي ثوبا أكره لبسه،
فقال: ما هو؟ قلت: طيلساني هذا، قال: وما بال الطيلسان؟ قلت: هو خز، قال:
وما بال الخز؟ قلت: سداه إبريسم، قال: وما بال الإبريسم؟ قال: لا تكره أن يكون سدا الثوب إبريسم (1).
والمراد من (السدى) ما مد من خيوط الثوب وهو خلاف اللحمة، فيدل
على عدم المنع عن اللبس، ولأن كراهة السائل لبسه إنما هي لاحتمال منع ما سداه
إبريسم فسئل عنه، ولما قال: طيلساني هذا، قال عليه السلام: وما بال الطيلسان؟ قال:
هو خز... قال عليه السلام، لا تكره... الخ - فيدل على أن الثوب أي ثوب كان لأمنع
فيه عند كون سداه إبريسم.
والغرض هو أن (الخز) في هذه الرواية صدرا وذيلا استعمل في غير الحيوان،
فهي أجنبية عن الدلالة بالنسبة إلى الجلد.
فتحصل من جميع ما تقدم: أنه تجوز الصلاة في وبر الخز كما ادعى عليه
الاجماع، وفي جلده كما عزى إلى الأكثر بل الكثير، وأما ما عداهما من أجزاءه
كاللحم والعظم والروث ونحوه من الفضلات الخاصة به فلا، وذلك لقصور خبر
" ابن أبي يعفور " سندا مع عدم احراز الجبران، ولاشتمال خبر " يحيى ابن
عمران " على الفنك والسنجاب اللذين لم يتضح ما لهما من الحكم بعد مع عموم
أدلة المنع. نعم: لو تم نصاب دلالته وأمكن التمسك به لثبت حكم الخز بجميع
أجزاءه أيضا.

(1) الوسائل باب 10 من أبواب لباس المصلي ح 2.
288

دفع وهم
ثم إنه قد يتوهم التعارض بين تلك النصوص المارة في الجلد، وبين ما رواه
عن الحميري، عن صاحب الزمان عليه السلام أنه كتب إليه: روى لنا عن صاحب العسكر
عليه السلام أنه سئل عن الصلاة في الخز الذي يغش بوبر الأرانب، فوقع: يجوز،
وروى عنه أيضا أنه لا يجوز، فبأي الخبرين نعمل؟ فأجاب عليه السلام إنما حرم في
هذه الأوبار والجلود، فأما الأوبار وحدها فكل حلال (1).
حيث إنها تدل على الميز بين الوبر والجلد، بجواز الصلاة في الأول دون
الثاني، فتعارض ما تقدم من دليل الجواز فيه أيضا.
ولكنه يندفع باضطراب المتن المانع عن الظهور والحجية، وبيانه بأن
المنع إن كان للجلد دون الوبر - كما هو الظاهر من الذيل - فلا وجه للجمع
بينه وبين الجلد في الصدر الظاهر في أن المنع عند الانضمام، فالصواب حينئذ
أن يقال: بأنه حرم في الجلود دون الأوبار بلا جمع بينهما. واحتمال أن للانضام
مدخلا في المانعية بأن الوبر وحده ليس بمانع ولكن عند اجتماعه مع الجلد
يصير مانعا مستقلا - كما أن الجلد نفسه مانع مستقل سواء انضم إليه الوبر
أم لا - مقدوح بأنه لم يذهب إليه أحد، مع أنه لا دخالة للانضمام في المانعية أصلا
حسب الأصول الدارجة في الباب من الأدلة الأولية، فلا مجال لتوهم الجواز في
الوبر وحده وأما إذا انضم إلى الجلد فلا جواز فيه، مع أنه يلزم فيه أن يكون
هناك مانعان مستقلان، أحدهما الجلد نفسه، والآخر الوبر المنضم إليه، بحيث
يستند هذا المنع الثاني إلى الوبر في هذه الحالة.
أضف إلى ذلك: أن الذيل دال على الجواز في جميع الأوبار حتى وبر
الأرانب، وهو خلاف الاجماع، بناء على أن المعنى: أن الأوبار كلها حلال،

(1) الوسائل باب 10 من أبواب لباس المصلي ح 15.
289

كما عن بعض النسخ (حلال كلها) وأما إذا فسر بأن أوبار كل حلال اللحم
حلال بالإضافة فهو سالم عن هذا المحذور الأخير، ولكنه أجنبي حينئذ عن وبر
الخز. والحاصل: أن الانضمام المعتبر في الصدر مع أنه خال عن الوجه وأن الذيل
المضطرب ضبطا ومعنا يمنعان عن صلوح التعارض، فالأقوى - وفاقا لغير واحد
من الأصحاب - هو التسوية بين الجلد والوبر في الجواز.
تنبيه:
في أن الخز المتعارف الآن هو المراد من النصوص
قد يقال: إن التعب في الفحص عن نصوص الباب وعلاج ما فيها من التعارض
غير مجد، لأن الخز الدارج في أيدي التجار اليوم لعله غير ما نطقت به النصوص
المجوزة، فمع احتمال التغاير لا يمكن الحكم، هذا أولا، مع شهادة بعض تلك
النصوص بذلك أيضا ثانيا، لأن ظاهر خبر " ابن أبي يعفور " هو موت الخز
بالخروج من الماء، مع أن المعروف بين أهله اليوم هو أنه لا يموت بمجرد
الخروج، وليس على حد الحيتان بل يعيش في البر - على ما حكي عن المجلسي
(ره) من نقله عن بعض التجار.
وفيه: أن الشك في الاتحاد واحتمال التغاير مندفع بالأصل وأن مجرد
البقاء خارج الماء لا يضر بكونه بحريا، بيان ذلك: أما أولا: فلما حقق في الأصول
من جواز التمسك بأصالة عدم النقل في مثل المقام، ولكن مع الاختلاف فيه
موردا ودليلا.
إذ قد يقطع بالنقل وأن المعنى الدارج اليوم هو غير ما كان معهودا في السابق
ولكن لا يعلم زمن نقله، حيث إنه يستصحب عدم النقل إلى زمن القطع به من
الأزمنة التالية نحو (الصلاة) فإنها منقولة عن معناها اللغوي إلى العبادة المصطلحة،
290

فلو وردت لفظة الصلاة في رواية ولم يعلم إرادة المعنى المنقول عنه أو المنقول إليه
يستصحب عدمه إلى زمن القطع، فيحمل على معناها اللغوي، إلى غير ذلك من
الحوادث الطارية.
وقد يشك في أصل النقل، بل ليس في البين إلا احتمال بحت، حيث إن
اللفظ له معنى دارج اليوم، ولا يعلم أن هذا المعنى هو المعنى الأولي الذي أريد
منه من نطاق النصوص الصادرة في القرون الماضية؟ أو أن المعنى غير ذلك المعنى
وإنما اللفظ قد نقل عنه إليه؟ فهيهنا لا مجال للاستصحاب المصطلح لعدم تمامية
أركانه فيه، ولكن يمكن التمسك بأصل آخر من الأصول العقلائية، وذلك لأن
بنائهم في ترجمة كتب قدمائهم - مع اختلاف ألسنتهم ولغاتهم - وتفسير مداليل ألفاظ
تلك الكتب هو الرجوع إلى ما يتفاهم من تلك الألفاظ في هذا العصر، ثم يحكمون
بأن المراد منها فيها أيضا هو ذاك إلا فيما قام الشاهد على الخلاف، ومن هذا
القبيل هو ترجمة الخطب والمواعظ الصادرة عن معدن العلم ومهبط الوحي، حيث
أنه يكتفي في حملها على المعاني الخاصة بتبادر تلك المعاني من ألفاظها اليوم في
محاورات أهل اللسان، وليس ذلك كله إلا لطرد احتمال النقل، وعدم الاعتناء به
فحينئذ يحكم بجواز الصلاة في الخز الدارج اليوم، طردا لاحتمال اختلافه مع
ما هو المعهود من النص، اتكالا على هذه السيرة العقلائية - فما أفاده في الجواهر:
من أصالة عدم النقل، متين على هذا البيان.
وأما ثانيا: فلأن مجرد الخروج من الماء حيا وبقاءه في البر أحيانا
لا يوجب كون الحيوان بريا، وذلك لأن المراد من الحيوان البحري هو ذو حياة
واحدة، بحيث يكون تعيشها الأصيل في البحر، وأما الخروج الأحياني لقضاء
الوطر خارج الماء فلا يضره ما دام لا يعيش في الخارج زمانا طويلا، والجمود على انحصار الحياة في البحر بنحو يموت بمجرد الخروج عنه اعتمادا على خبر
" ابن أبي يعفور " خال عن الصواب، بل لا وجه له أصلا بعد ضعف سنده ودلالة
291

ما هو المعتبر سندا على الخلاف، وهو ما تقدم من صحيحة " ابن الحجاج " إذ
فيها: قال عليه السلام: إذا خرجت من الماء تعيش خارجة من الماء؟ فقال الرجل: لا،
قال: ليس به بأس (1).
لدلالتها على أن المدار في البرية هو التعيش الممتد به في البر، وأما
الخروج من الماء زمنا قليلا فلا يضر بكونه بحريا.
وما رواه عن حمران بن أعين، عن أبي جعفر عليه السلام: من أنه سبع يرعى في
البر ويأوى في الماء (2).
حيث إنها تدل على أن المأوى الأصيل هو البحر ولا يضره الرعي خارجه،
ونحو ذلك مما يشهد لما قلناه.
فتبين: أن الخز الدارج في العصر مما يجوز الصلاة في وبره وجلده،
وأما سائر الأجزاء ففيها كلام نشير إليه - في بحث السنجاب - فارتقب. إلى هنا
انتهى الكلام في (الأمر الأول) الباحث عن الجواز في الخز الخالص.
وأما الأمر الثاني
ففي المنع عن المخلوط بغيره من وبر ما لا يؤكل
قد اشتهر بين الأصحاب (ره) المنع عن المخلوط، لاقتصار الجواز على
الخالص البحت، خلافا للمحكي عن " الصدوق ره " من القول بالجواز في
المغشوش بوبر الأرنب، حيث أنه قال (في الفقيه) بعد نقل رواية " داود " الآتية:
وهذه رخصة الآخذ بها مأجور ورادها مأثوم، والأصل ما ذكره أبي (رحمه الله)
في رسالته إلي: وصل في الخز ما لم يكن مغشوشا بوبر الأرانب... الخ. وليعلم:

(1) الوسائل باب 10 من أبواب لباس المصلي ح 1.
(2) الوسائل باب 39 من أبواب الأطعمة المحرمة ح 2.
292

أن تصريح " المتن " كغيره بالمنع عن المغشوش بذينك الوبرين ليس للجواز في
المغشوش بغيرهما، بل للرد على توهم الجواز فيهما، لورود النص المجوز.
ثم إنه لا يغفل عن أنه لو كان في البين ما يقتضي بعمومه المنع وكان ما يقتضيه
خاصا - أي كان دليلا خاصا على المنع عن المغشوش - ولكن كان ضعيفا، لا يمكن
الحكم بانجبار سنده بعمل الأصحاب، لاحتمال استنادهم في المنع إلى العموم التام
سندا ومتنا، كما أنه لو ورد هناك نص خاص بالجواز فيه وكان ضعيفا فهو غير
صالح للتخصيص، لضعف سنده أولا، مع إعراض الأصحاب عنه ثانيا.
وكيف كان: فالذي يدل على المنع بالخصوص هو ما رواه عن أيوب بن نوح
رفعه قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: الصلاة في الخز الخالص لا بأس به، فأما الذي يخلط
فيه وبر الأرانب أو غير ذلك مما يشبه هذا فلا تصل فيه (1).
حيث إن هذا النص الخاص المتعرض للخليط يدل على المنع عن الخز
المخلوط بوبر الأرنب أو غيره مما يضاهيه في حرمة الأكل. نعم: لا اعتداد بالسند
لضعفه بالرفع، مع عدم احراز الاستناد.
وأما الذي يدل على الجواز، هو ما رواه عن داود الصرمي، عن بشير بن بشار
قال: سألته عن الصلاة في الخز يغش بوبر الأرانب؟ فكتب: يجوز ذلك (2).
والسند مورد النقاش أولا ب‍ " الداود " لأنه وإن كان إماميا إلا أنه مجهول،
وثانيا ب‍ " البشير " حيث إنا لم نجده في كتب الرجال، وفي (الجواهر) ضبطه
ب‍ " البشر " ولكنه ضعيف أيضا، وثالثا بالاضمار.
ثم إنه نقله في الوسائل بطريق آخر إلى " داود الصرمي " أنه سأل رجل أبا الحسن
الثالث عليه السلام، وظاهره أنه قد أدرك مجلس السؤال بنفسه، وظاهر ما تقدم نقله
بطريق آخر إليه هو أنه لم يدركه، بل نقل عن " بشير " أنه سأله، فعليه يحتمل
الارسال في هذا النقل الأخير قويا، فيكون وهنا على وهن، مع إعراض الأصحاب
عن العمل به.

(1) الوسائل باب 9 من أبواب لباس المصلي ح 1 و 2.
(2) الوسائل باب 9 من أبواب لباس المصلي ح 1 و 2.
293

فلا صلوح له لتخصيص عموم المنع القوي سندا ومتنا.
فالأقوى - وفاقا للأصحاب - هو المنع عن المغشوش مطلقا، سواء كان بوبر
الأرنب أو الثعلب أو غير ذلك. أضف إلى ذلك كله: هو احتمال التقية في هذه
المكاتبة، إما اتقاء المجيب في الحكم، وإما اتقاء المكلف في مقام الامتثال، بأن يختص
الجواز بصورة الاتقاء، ويؤيده التعبير (بالغش) لا (الخلط) كما في رواية " أيوب بن
نوح " المانعة، ومن المعلوم: أنه لولا الجواز عند التقية لصار ذلك موجبا لرد ما
يشترى من سوقهم من المغشوش بوبر الأرنب ونحوه، لأن الغش عيب مجوز للرد
والفسخ، فيوجب ذلك تبين حال الشيعة من الاجتناب عما لا يؤكل فيكون مثارا
للبغضاء والحقد، فليحمل الجواز على التقية.
أما الأمر الثالث
ففي بطلان الصلاة في السنجاب
قد اختلف بين الأصحاب في جواز الصلاة في السنجاب وعدمه، فعن الأكثر
بل الكثير الجواز، وعن آخرين المنع. وحيث إن المدار الوحيد هو نطاق نصوص
الباب - لأنه المعتمد عليه في الاستنباط بلا اتكاء على ما فهمه الغير - فيلزم نقلها
والتأمل البالغ في مفاد كل واحد منها حتى يتجه ما هو الحق.
فمن تلك النصوص: هو ما رواه عن الحلبي، عن أبي عبد الله عليه السلام أنه سأل عن
أشياء منها الفراء والسنجاب، فقال: لا بأس بالصلاة فيه (1).
أن الفراء قد تطلق على حمار الوحش المعمول من وبره الفراء، وقد يطلق
على نفس ذلك المتخذ، وكيف كان: ظاهرها جواز الصلاة في المتخذ منه ومن

(1) الوسائل باب 3 من أبواب لباس المصلي ح 1.
294

السنجاب. ولكن تمامها هو ما رواه في (2 باب 4) قال: سألته عن الفراء والسمور
والسنجاب والثعالب أشباهه؟ قال: لا بأس بالصلاة فيه.
فتدل على جواز الصلاة في جميع ذلك، وهو خلاف الاجماع، لأن المنع عما
يؤكل لحمه في الجملة مما لا مرية فيه أصلا، فلا يمكن الأخذ بها
ومنها: ما رواه عن عبد الله بن إسحاق، عمن ذكره عن مقاتل قال، سألت
أبا الحسن عليه السلام عن الصلاة في السمور والسنجاب والثعلب؟ فقال: لا خير في ذا كله
ما خلا السنجاب، فإنه دابة لا تأكله اللحم (1).
قد مر النقاش في السند، أولا بالارسال، وثانيا بضعف " مقاتل " فلا صلوح
لها حينئذ لأن تخصص الأدلة المعتبرة في المنع.
ومنها: ما رواه في (3 باب 3)، ولكن حققنا ما فيها بما لا مزيد عليه من
ضعف السند أولا ب‍ " عبد الله بن إسحاق العلوي " وثانيا ب‍ " محمد بن سليمان الديلمي "
وثالثا ب‍ " علي بن أبي حمزة البطائني " الواقف على إمامة الكاظم عليه السلام المنكر لإمامة
الرضا عليه السلام طمعا في الأموال المجلوبة وكالة عن الكاظم عليه السلام، ولم يتبين كون هذا
النقل في زمن استقامته أو اعوجاجه بالوقف.
ومن اضطراب المتن بضبط (لا) في قوله: وما لا يؤكل لحمه من غير الغنم
(في بعض النسخ) فلا يلائمه حينئذ استثناء الغنم، وبعدم ضبطها (في بعض النسخ)
فتدل على كون السنجاب مما يؤكل لحمه، وهو خلاف الاجماع، إلى غير ذلك مما
مر تفصيله المسقط لها عن الحجية.
ومنها: ما رواه عن داود الصرمي، عن بشير بن بشار قال: سألته عن الصلاة
في الفنك والفراء والسنجاب والسمور والحواصل التي تصاد ببلاد الشرك أو بلاد
الإسلام أن أصلي فيه لغير تقية؟ قال: فقال: صل في السنجاب والحواصل
الخوارزمية، ولا تصل في الثعالب ولا السمور (2).

(1) الوسائل باب 3 من أبواب لباس المصلي ح 2 و 4.
(2) الوسائل باب 3 من أبواب لباس المصلي ح 2 و 4.
295

قد مر البحث عن وهن السند ب‍ " الداود " وب‍ " البشير " وأما المتن: فهو مشتمل
على ما لا يلتزم به، وهو الجواز في المصيد ببلاد الشرك، مع أنه ميتة بالإمارة
العقلائية، ولا ريب في عدم الجواز فيما صاده المشرك. ولا فرق في هذا المحذور بين
كون الوصف وهو (الصيد ببلاد كذا) راجعا إلى خصوص الحواصل أو غيرها أيضا.
ومنها: ما رواه عن أبي علي ابن راشد قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: ما تقول
في الفراء أي شئ يصلى فيه؟ قال: أي الفراء؟ قلت: الفنك والسنجاب والسمور،
قال. فصل في الفنك والسنجاب، فأما السمور فلا تصل فيه (1) الحديث.
إن السند وإن صححه في (الجواهر) ولكن في " أبي علي بن راشد "
كلام، نعم: قد أفاد " المامقاني " ما يدل على توثيقه، حيث كان " أبو علي "
وكيلا للمعصوم عليه السلام، والتوكيل نوع توثيق، وكذا غير ذلك من الشواهد.
فحينئذ لا يخلو اعتباره عن قوة.
وأما المتن: فهو وإن فصل بين ما اجتمع في السؤال بالمنع عن السمور،
ولكن جمع في الجواز بين السنجاب والفنك، مع أنه لا يلتزم به. والحمل على التقية
أيضا مما يبعده الاشتراك، بأن يكون البيان الواحد بالنسبة إلى الفنك غير جدي
وبالنسبة إلى السنجاب جديا مطابقا للواقع، فلا يمكن القول باختصاص الجواز
بالسنجاب دون الفنك لأنه محمول على التقية، كما أنه يبعده أيضا التفصيل بينهما
وبين السمور، مع أن القوم الذين جعل الرشد في خلافهم لا يفرقون في الجواز
بين ذلك. والحاصل: أن السند وإن كان تاما، ولكن الأمر بعد في المتن، فارتقب.
ومنها: ما رواه عن يحيى بن أبي عمران أنه قال: كتبت إلى أبي جعفر الثاني عليه السلام
في السنجاب والفنك والخز، وقلت: جعلت فداك أحب أن لا تجيبني بالتقية في
ذلك، فكتب بخطه إلي: صل فيها (2).

(1) الوسائل باب 3 من أبواب لباس المصلي ح 5 و 6.
(2) الوسائل باب 3 من أبواب لباس المصلي ح 5 و 6.
296

والسند ضعيف ب‍ " ابن أبي عمران " وأما المتن: فهو بالنسبة إلى الخز تام،
لما تقدم من قيام ما يجوز الصلاة فيه، وأما بالنسبة إلى الفنك فمن ظهور فيه، لعدم
الالتزام به.
ومن هنا اتضح ما وعدناه سابقا: من بيان سر التأمل في تجويز ما عدا الوبر
والجلد من أجزاء الخز، وذلك لقصور أدلة ذاك الباب عن تجويز ما عداهما،
ولم يبق في البين ما يدل على تجويز جميع الأجزاء عدا هذه الرواية الضعيفة
سندا المخدوشة متنا بعدم الالتزام في الفنك، ولعله محمول على الاتقاء - كما
سيتضح المراد منه - حيث إنه عليه السلام وإن لم يتق في الجواب، إلا أن التجويز في
مورد التقية.
ومنها: ما رواه عن الوليد بن أبان قلت للرضا عليه السلام: أصلي في الفنك
والسنجاب؟ قال: نعم (1)
إن السند ضعيف ب‍ " الوليد " والمتن مشتمل على الفنك الذي لا يلتزم به.
ومنها: ما رواه عن ابن إدريس... عن محمد بن علي بن عيسى قال: كتبت
إلى الشيخ - يعني الهادي عليه السلام - أسأله عن الصلاة في الوبر أي أصنافه أصلح؟
فأجاب: لا أحب الصلاة في شئ منه، قال: فرددت الجواب أنا مع قوم في تقية
وبلادنا بلاد لا يمكن أحدا أن يسافر فيها بلا وبر ولا يأمن على نفسه إن هو نزع
وبره، وليس يمكن للناس ما يمكن للأئمة، فما الذي ترى أن نعمل به في هذا
الباب؟ قال: فرجع الجواب إلي: تلبس الفنك والسمور (2).
والسند قابل للاعتماد. وأما المتن: فهو وإن لم يتعرض للسنجاب، ولكن
لما كان فيه شهادة على الجمع بين أدلتي المنع والجواز نقلناه، وتوضيحه: بأن
مجرد نفي المحبوبية في الصدر غير ناهض للمنع فلا يدل عليه، ولكن بلحاظ

(1) الوسائل باب 3 من أبواب لباس المصلي ح 7.
(2) الوسائل باب 4 من أبواب لباس المصلي ح 3.
297

إصرار السائل في مكاتبته يستفاد أن المراد من نفيها هو المنع، وإلا لاكتفى
السائل بالجواب الأول الدال على الجواز حيث إن نفيها ملائم له، فبقرينة
تكرار السؤال يستفاد أن مفاد الصدر هو المنع، فحينئذ يكون الجواب الثاني
بلبس الفنك والسمور دالا على الجواز في مورد الضرورة والتقية - أي للمكلف
في مقام الامتثال - ولا خفاء في أن الدارج من الفراء وأمثاله المتخذة من الوبر
إنما هو المعمول من وبر ما لا يؤكل لحمه، وأما مأكول اللحم من الغنم ونحوه
فلا، كما لا يخفى على من راجع اللغات والتواريخ، إذ الموجود من ذلك كله
- عند بيان خواص الحيوانات أو تعاريفها - هو أن ذاك مما يتخذ منه الفراء، وذلك
كذا، وهذا كذا، من دون التعرض لاتخاذه من الغنم مثلا. نعم: لما استكمل
نصاب التشيع وقوى المنع الخاص به، هجر ما يتخذ من غير المأكول، وتعاهد
ما يتخذ من المأكول - كما في اليوم - فعليه تكون الضرورة إلى أوبار ما لا يؤكل
لحمه - صونا عن البرد مثلا أو للتقية - مما لا ينكر. هذا بلحاظ السير الخارجي
والفحص اللغوي والتاريخي.
وأما بلحاظ البحث الفقهي: فلأن مقتضى الصناعة عدم رفع اليد عن عمومات
المنع - سيما (موثقة ابن بكير) التي هي الأصل في الباب المصرحة في سؤالها
السنجاب والمصرحة في الجواب بأن المنع العام من إملاء رسول الله صلى الله عليه وآله ردا لمخالفة
العامة الذين يحتسبونه من مختصات الشيعة ومخترعاتهم - إلا بنص خاص قوى
سندا ومتنا.
ولكنه قد عرفت: أن تلك النصوص على اختلافها - من حيث اشتمال
بعضها على ما عدا السنجاب أيضا واختصاص بعضها به - غير ناهضة للتخصيص
أصلا، لأن ما هو التام سندا كرواية " أبي علي " قاصر متنا، لاشتماله على الفنك،
وما هو التام متنا قاصر سندا، فلم نجد ما يصلح له.
298

والذي يقوى في النظر: بعد شهادة رواية " ابن إدريس " هو حمل أدلة
الجواز على التقية - أي تقية المكلف حال الامتثال - نعم: يستفاد منها الامتياز
بين أنواع ما لا يؤكل لحمه، بتقدم بعضها كالفنك والسنجاب - أو السمور أيضا
حسب رواية ابن إدريس - على بعض آخر، ولا غرو فيه. فالأقوى: هو عدم جواز
الصلاة في السنجاب حال الاختيار، ولا ميز حينئذ بين جلده ووبره، لسريان المنع
إلى جميع أجزاءه، كغيره مما لا يؤكل.
الأمر الرابع
في بطلان الصلاة في السمور
إن تصريح المتن بالمنع عن السمور ونحوه، إما باعتبار ورود النص الخاص
على الجواز، أو بذهاب بعض الأصحاب إليه، كما أنه بالنسبة إلى ما عدا القاقم
من الثلاثة الباقية كذلك، حيث قيل بالجواز فيها. والظاهر أنه لم ينقل الجواز
من أحد منهم في القاقم بخصوصه.
والذي يدل على المنع - بعد العمومات الأولية وبعد ما دل عليه في السباع
التي يعد السمور منها - هو ما رواه البرقي عن سعد بن سعد الأشعري عن الرضا
عليه السلام (1) وقد مر: أن قوله عليه السلام في الجواب " لا " يدل على المنع الوضعي. وتوضيحه:
أن ما لا يؤكل لحمه ليس كالميتة ممنوع الاستعمال، إذ يجوز الانتفاع به دونها،
نعم: تختص الصلاة بالمنع، فحينئذ يكون النهي منحدرا نحو هذه الخصوصية بعد
انحفاظ أصالة ظهور (لا) في المنع البتي بلا احتمال الكراهة والتنزيه، وبعد
أن استعلامه عليه السلام إنما هو لانطباق العنوان المحرم عليه لانحصاره في السباع
والمسوخ والحشرات، وحيث إنه ليس من الأخيرة لوضوحه، ولا من الثانية لأن

(1) الوسائل باب 4 من أبواب لباس المصلي ح 1.
299

العلم بكون حيوان ممسوخا أم لا يرجع إلى الشارع دون غيره، فإن كان في
البين حرمة فلأجل السبعية فلذا سئل عليه السلام بأن قال: يصيد؟ قال الأشعري السائل
عن جلود السمور: نعم، فلما تبين أنه من السباع قال عليه السلام " لا ".
والحاصل: أنه عند انضمام هذه المقدمات الثلاث يتقوى ظهورها في المنع
الوضعي. ويدل عليه أيضا أو يؤيد ما رواه عن الطبرسي في " مكارم الأخلاق "
قال: وسئل الرضا عليه السلام عن جلود الثعالب والسنجاب والسمور؟ فقال: قد رأيت
السنجاب على أبي ونهاني عن الثعالب والسمور (1).
والسند مرسل، والمسؤول عنه غير مختص بحال الصلاة، ولكن النهي عن
الثعلب والسمور إنما يتم بلحاظ استعماله فيها، إذ ليسا كالميتة - على التقريب
المتقدم - نعم: لا يمكن الاستدلال بها، للارسال، ولذا لم نتعرض لها في الأمر
الثالث الباحث عن السنجاب.
ثم إنه يعارض ما مر بعض نصوص الباب، وهو ما رواه عن قرب الإسناد...
عن علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر عليهم السلام قال: سألته عن لبس السمور
والسنجاب والفنك؟ فقال: لا يلبس ولا يصلى فيه إلا أن يكون ذكيا (2).
حيث إنها تدل على الجواز عند التذكية المصطلحة لا الذكاة بمعنى
حلية اللحم، لأنها وإن تحتمل هذا المعنى في بعض النصوص، ولكنها آبية عنه
هنا، إذ المسؤول عنه ليس عاما صالحا للتقييد بالمذكى - أي حلال اللحم - بل
هو ليس إلا ما لا يؤكل لحمه، فحينئذ تتعين إرادة التذكية المصطلحة منها،
فتدل على جواز اللبس وجواز الصلاة، إذا لم يكن شئ من تلك الثلاثة ميتة،
فتعارض ما مر.
ولكن يجمع بين طائفتي المنع والجواز بحمل الأخيرة على حال الضرورة

(1) الوسائل باب 4 من أبواب لباس المصلي ح 5 و 6.
(2) الوسائل باب 4 من أبواب لباس المصلي ح 5 و 6.
300

والتقية، والشاهد هو مكاتبة " محمد بن علي بن عيسى " المتقدمة (1) بحيث إنها
تامة السند لوثاقة رواته، وشاهدة على التفصيل لكونها ناصة باختصاص الجواز
في الفنك والسمور بحال الضرورة والتقية، كما مر. وأما رواية " الحلبي " عن
أبي عبد الله عليه السلام (2) فلا اعتداد بها بعد ظهورها في الجواز اختيارا في جميع تلك
الحيوانات. وكذا ما رواه عن " الريان بن الصلت " عن الرضا عليه السلام (3) حيث إنها
وإن استثنى فيها الثعالب، ولكن لدلالتها على الجواز في جميعها التي منها
السمور اختيارا غير صالحة للاعتماد، ومجرد استثناء الثعالب غير مجد، لاحتمال
اختصاص جوازها بأسرها في حال الضرورة، مع ما بينها من الميز بتقدم بعضها
على بعض في تلك الحال أيضا.
فالأقوى: هو بطلان الصلاة في السمور - أي في أي جزء من أجزاءه.
الأمر الخامس
في بطلان الصلاة في القاقم والفنك
لا ريب في اندراجهما تحت عموم أدلة المنع عما لا يؤكل مع عدم التخصيص،
مضافا إلى ما ورد في خصوص الفنك من المنع فيما عدا حال الضرورة والتقية،
كما في مكاتبة " محمد بن علي بن عيسى " إلى الهادي عليه السلام (4) فما دل على الجواز
في الفنك، نحو خبر " ابن أبي عمران " (5) وغيره - بعد الغض عن ضعف السند -
محمول على حال الاضطرار، والشاهد هو ما أشير إليه من رواية الهادي عليه السلام
فلا مجال للإطالة بعد الإحاطة بما مر.

(1) الوسائل باب 4 من أبواب لباس المصلي ح 3 و 2.
(2) الوسائل باب 4 من أبواب لباس المصلي ح 3 و 2.
(3) الوسائل باب 5 من أبواب لباس المصلي ح 2.
(4) الوسائل باب 4 من أبواب لباس المصلي ح 3.
(5) الوسائل باب 3 من أبواب لباس المصلي ح 6.
301

الأمر السادس
في بطلان الصلاة في الحواصل الخوارزمية
قد يستدل للمنع عدا العمومات الأولية بما دل على المنع في السباع
بخصوصها - بناء على كون الحواصل منها كما قيل - فما لم تقم الحجة التامة
سندا أو متنا على التخصيص يحكم بالمنع.
وقد ورد في الباب بعض ما يوهم الجواز فيها، وهو ما رواه عن " بشير بن بشار "
إذ فيها... صل في السنجاب والحواصل الخوارزمية (1)... الخ. ولكن قد
عرفت ما فيه: من وهن السند ب‍ " الداود " أولا، وب‍ " البشير " ثانيا، وبالاضمار
ثالثا. ولا مجال لتوهم تعين المسؤول إذ لا يضمر إلا عن المعصوم عليه السلام لأن ذلك بعد
معرفة السائل وأنه أجل من أن يضمر عن غيره عليه السلام نحو " زرارة " حسب ما قيل
في مضمرته في الاستصحاب، لا مثل " البشير " الذي لم يوثق بعد، بل لم يعرف
أصلا. أضف إلى ذلك كله: عدم صلوح المتن للاستدلال.
أما أولا: فلأن المسؤول عنه هو أمور خمسة مع انحصار الجواب في الأربعة
بلا تعرض لحال الفراء، مع أنه لو كان المراد منه حمار الوحش - كما تقدم - لما
كان للمنع عنه مجال، حيث إنه مما يؤكل لحمه.
وأما ثانيا: فلدلالتها على الجواز في المصيد ببلاد الشرك المحكوم بكونه
ميتة، لأن بلاد الشرك أمارة على عدم التذكية، أوليس معها أمارة على التذكية
فحكم بعدمها للأصل، نعم: لو حكم بالجواز في المشكوك لقيام بعض النصوص
هناك عليه ولم نقل: بأن بلاد الشرك أمارة على عدم التذكية، لما كان فيه اشكال.
وما رواه أيضا عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: سألته عن اللحاف (الخفاف)

(1) الوسائل باب 3 من أبواب لباس المصلي ح 4.
302

من الثعالب أو الجرز (الخوارزمية) منه أيصلى فيها أم لا؟ قال: إن كان ذكيا
فلا بأس به (1).
والسند تام. وأما المتن: فمضطرب، من أجل عدم تعين اللحاف أو الخفاف،
مع استبعاد الأول، فيقوى الثاني الذي يكون مما لا تتم الصلاة فيه - وقد عرفت
الجواز فيه - فيخرج عما نحن فيه، ومن أجل التجويز في الثعالب مع الاجماع
على المنع فيها، ومن أجل عدم تعين الجرز أو الخوارزمية، حيث إن الأولى من
لباس النساء - كما قيل - فتصير منقطعة الارتباط عن المقام.
فمع هذه الوجوه من النقاش لا تصلح ناهضة لتخصيص أدلة المنع - فالأقوى:
بطلان الصلاة في الحواصل الخوارزمية.
وما في المستدرك (2) فهو دال على الخلاف، لدلالته على اختصاص الجواز
عند عدم ما يصلى فيه، فمع الاختيار لا تجوز.

(1) الوسائل باب 7 من أبواب لباس المصلي ح 11.
(2) المستدرك باب 3 من أبواب لباس المصلي ح 1.
303

مسألة 18 - الأقوى جواز الصلاة في المشكوك كونه من
المأكول أو من غيره، فعلى هذا لا بأس بالصلاة في الماهوت.
وأما إذا شك في كون شئ من أجزاء الحيوان أو من غير
الحيوان فلا اشكال فيه.
إن الكلام تارة في صور الشك، وأخرى في أن الحكم الأولي المجعول هنا
ما هو؟
الأول: فقد يشك في كون هذا الشئ من أجزاء الحيوان أو لا بعد العلم
بأنه على تقدير كونه من الحيوان يكون ذلك مما لا يؤكل، وقد يقطع بأنه من
الحيوان ولكن يشك في كونه مما يؤكل أو من غيره، وهو على صور - منها:
أنه يعلم بانفصاله من حيوان خارجي معين ولكن يشك في كون ذاك الحيوان
محلل الأكل أو محرمه، لشبهة موضوعية، أو لشبهة حكمية. ومنها: أن لا يعلم
بانفصاله من حيوان خاص، بل كان هناك حيوانان: أحدهما مأكول اللحم والآخر
غيره، ولم يعلم بانفصاله من هذا أو ذاك مع العلم بحكم كل واحد منهما. إلى
غير ذلك مما يمكن تصوره في المقام.
وأما الثاني: فيلزم البحث عن أن المجعول الأولي في الباب هو شرطية
مأكول اللحم أو مانعية غيره أوهما معا، بعد فرض إمكان الجمع بين الجعلين.
ثم إنه على أي تقدير هل الحكم منحدر نحو عنوان المأكول أو غيره؟ بما أنه المدار
الوحيد الذي يدور الحكم مداره وجودا وعدما، أو بما أنه عبرة للواقع والخارج
فحينئذ يكون المصداق الخارجي مناطا للحكم، فعليه يكون كل واحد من
المصاديق مستقلا بحياله في الحكم مستوعبا - كما يتضح - فاستيفاء المقال هنا
في طي جهات:
304

الجهة الأولى
فيما يستفاد من نصوص الباب من الشرطية أو المانعية
إن نصوص الباب على قسمين: أحدهما: ما يمكن الاستدلال به والاعتماد
عليه لاعتبار سنده، والآخر: ما لا يكون كذلك، فلنقدم القسم الأول منهما،
ثم نتبعه بالآخر.
أما القسم الأول: فالمدار الوحيد فيه هو (موثق ابن بكير) المتقدم، فيلزم
التأمل في نطاقه حتى يستفاد ظهوره في شرطية مأكول اللحم أو في مانعية غيره،
ونشير قبل الخوض في الاستظهار إلى الميز بينهما.
وهو أنه لو كان غير المأكول مانعا عن صحة الصلاة يمكن إحراز فقده عند
الشك، لأن النهي عن شئ نفسيا كان أو غيريا ظاهر في المنع عنه بنحو الطبيعة
السارية إلى جميع الأفراد، فيكون بمنزلة النواهي المتعددة ويتلوه التخصيصات
أو التقييدات العديدة للعموم أو الاطلاق الأولي، فكل فرد من تلك الأفراد له
نهي خاص موجب لتخصيص ذاك العام أو تقييد هذا الاطلاق بالنسبة إليه، فعند
الشك في اندراجه تحت الطبيعة - بأن لا يعلم أنه غير المأكول مثلا - يشك في
أصل التخصيص أو التقييد (1).
وأما لو كان المأكولية شرطا لصحة الصلاة فلا بد من إحراز تقيدها بما
هو مأكول اللحم، تحصيلا للشرط الذي لا محيص عن إحرازه، ومجرد أصل
الحل لا يثبت الحلية الواقعية، حيث إنه ليس من الأصول المحرزة للواقع، فلا بد

(1) لأن المانعية تعلقت بطبيعة سارية فيكون كل فرد مانعا برأسه فيندرج الشك حينئذ
في الشك في الأقل والأكثر الارتباطي، وسيأتي الكلام مبسوطا في جريان الأصل على المانعية
فتثبت الصحة دون الشرطية، فارتقب.
305

من الاشتغال بلا مجال للبراءة. وهذا غير مختص بالباب لسيلانه في غيره كالشك
في شرطية الطهارة أو مانعية النجاسة، وكالشك في شرطية التذكية أو مانعية الميتة،
وما إلى ذلك من النظائر.
فبعد الإحاطة بما ذكر، نقول: إنه لو أمكن الجمع بين شرطية المأكول
ومانعية غيره فلا تنافي بين ما يدل على الأول وما يدل على الثاني، وإلا فلا بد من
العلاج بينهما إن كانا كذلك.
وكيف كان: إن الذي يظهر من صدر (موثق ابن بكير) المتقدم الذي هو
الأصل في الباب، هو مانعية غير المأكول، لقوله صلى الله عليه وآله فيه " إن الصلاة في وبر كل
شئ حرام أكله.... فاسد " حيث إن ظاهره كون الفساد مستندا إلى وجود شئ
من تلك الأمور، ولا نعني بالمانع إلا ذلك، واحتمال أن الفساد لأجل فقدان
الشرط - أي المأكولية - خلاف الظاهر، فلا اعتداد به فيما لا أساس له إلا الظهور.
وأما قوله صلى الله عليه وآله في الذيل "... حتى يصلي في غيره مما أحل الله أكله " فهذا
لو خلي وطباعه لظاهر في الشرطية وأن صحة الصلاة متوقفة على وجود المأكولية،
ولكن بلحاظ تصدره بما عرفت، فهل هو من باب بيان أحد مصاديق ذلك؟ أو هو
مستقل بحياله؟ فعند استقرار ظهوره في الشرطية، فهل يكون أقوى من ظهور
الصدر في المانعية أو لا؟ فعند التساوي ما العلاج لو لم يمكن الجمع بين هذين
الحكمين الوضعيين؟ إذ لا تعارض عند الامكان فيحمل كل واحد منهما على ظاهره.
ولا خفاء في أن المهم في الاستظهار هوما أملاه الرسول صلى الله عليه وآله وأما ما فرعه
أبو عبد الله عليه السلام في الذيل فإنما هو لتقييده بقيد التذكية في خصوص ما يؤكل لحمه،
لا لبيان ما لم يفده الصدر من المانعية أو الشرطية، فلا جدوى في البحث عنه. فاللازم
هو العود إلى البدء حتى يتجه ما هو نطاق الاملاء.
ثم إنه يمكن ترجيح ظهور الصدر في المانعية بوجوه نشير إلى بعضها، وذلك
لأن مفاد ذيل الاملاء لو خلي وطباعه دال على شرطية المأكولية كالطهارة، فكما
306

أنه لا صلاة بلا طهارة، كذلك لا صلاة بدونها - أي تتوقف صحتها على لبس ما هو من
أجزاء المأكول - وهو خلاف الاجماع البتي والضرورة من الفقه، وإلا لزم بطلان
صلاة من صلى في قميص منسوج من القطن ونحوه.
فلا بد من التصرف والحمل على ما يساعده الاعتبار الفقهي أو لا ينافيه الأصول
الأولية، وذلك إما بالحمل على الاختصاص بما إذا لبس من أجزاء الحيوان، فعند
هذا المقسم - أي لبس جزء الحيوان - يحكم بلزوم كونه من قسم خاص وإن لم
يلزم وجود ذاك المقسم أصلا - أي لا يلزم أصلا لبس جزء الحيوان - أو بالحمل
على بيان بعض موارد الجواز، لا الحصر حتى يناقش بالجواز في مثل القطن وغيره
مما لا يكون من أجزاء الحيوان.
وفيه: أن حمله على بيان بعض مصاديق مفهوم الصدر أهون من هذا، فعليه
يكون المناط هو المانعية المستفادة من الصدر، وأما الذيل فلبيان بعض مصاديق
مفهومه لا أمر آخر.
ومن تلك الوجوه: أنه لا إشكال في صدق الشرط عند لبس ما يؤكل سواء
لبس معه شيئا آخر مما لا يؤكل أم لا، فحينئذ تلزم صحة الصلاة فيما لو لبس مع
ذاك المأكول بعض ما لا يؤكل، والسر هو تحقق وجود الطبيعة بوجود فرد ما
بلا دخالة للزائد عنه - وهو كما ترى.
هذا وأشباهه يوجب وهن ظهور الذيل في الشرطية مع قوة ظهور الصدر
في المانعية. أضف إلى ذلك كله: ظهور غير واحد من النصوص المستفيضة الأخر
المشتملة على الصحاح وغيرها في المانعية، كما تلي:
فمنها: مكاتبة إبراهيم بن محمد الهمداني، إذ فيها: لا تجوز الصلاة فيه (1) حيث
إن النفي ظاهر في المانعية وأن وجود شئ مما لا يؤكل لحمه مانع عن صحتها.

(1) الوسائل باب 2 من أبواب لباس المصلي ح 4.
307

وما رواه عن محمد بن علي بن الحسين باسناده، عن حماد بن عمرو وأنس بن محمد،
عن أبيه، عن جعفر بن محمد عليهما السلام إذ فيها: قال صلى الله عليه وآله يا علي لا تصل في جلد ما
لا يشرب لبنه ولا يؤكل لحمه (1).
وما رواه عن محمد بن إسماعيل باسناده يرفعه إلى أبي عبد الله عليه السلام قال: لا تجوز
الصلاة في شعر ووبر ما لا يؤكل لحمه لأن أكثرها مسوخ (2) وهذه مع ظهور النفي
فيما ذكر قد اشتملت على التعليل بأمر وجودي، فيدل على أن الممسوخية مانعة
عن الصحة.
ومنها: رواية مقاتل بن مقاتل، إذ فيها: فقال عليه السلام: لا خير في ذا كله
... الخ (3)، حيث عبر فيها بالنفي الظاهر في المنع لا الشرط.
وفي رواية بشير بن بشار: ولا تصل في الثعالب ولا السمور (4).
وفي رواية أبي علي بن راشد... فأما السمور فلا تصل فيه (5).
وفي رواية سعد بن سعد الأشعري عن الرضا عليه السلام: فقال عليه السلام يصيد؟ قلت:
نعم يأخذ... فقال عليه السلام: " لا " (6) حيث إن النفي - بعد انضمام المقدمة المارة في
موطنها السابق - دال على المانعية.
وفي مكاتبة محمد بن علي بن عيسى: فأجاب عليه السلام: لا أحب الصلاة في شئ منه
... الخ (7) بعد الالتفات إلى ما مر من كيفية دلالته على الحكم اللزومي، فيدل
نفي المحبوبية بنحو اللزوم على مانعية جميع ذلك.
وفي ما رواه عن " مكارم الأخلاق ": نهاني عن الثعالب والسمور (8) الظاهر من
النهي هو الارشاد إلى المانعية في نحو المقام.

(1) الوسائل باب 2 من أبواب لباس المصلي ح 6 و 7.
(2) الوسائل باب 2 من أبواب لباس المصلي ح 6 و 7.
(3) الوسائل باب 3 من أبواب لباس المصلي ح 2 و 4 و 5.
(4) الوسائل باب 3 من أبواب لباس المصلي ح 2 و 4 و 5.
(5) الوسائل باب 3 من أبواب لباس المصلي ح 2 و 4 و 5.
(6) الوسائل باب 4 من أبواب لباس المصلي ح 1 و 3 و 5.
(7) الوسائل باب 4 من أبواب لباس المصلي ح 1 و 3 و 5.
(8) الوسائل باب 4 من أبواب لباس المصلي ح 1 و 3 و 5.
308

وفي رواية سعد بن الأحوص عن الرضا عليه السلام: لا تصل فيها (1) أي في جلود السباع.
وفي رواية قاسم الخياط عن موسى بن جعفر عليهما السلام، وما أكل الميتة فلا
تصل فيه (2).
وفي رواية الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السلام ورواية الأعمش عن الصادق عليه السلام
ولا في جلود السباغ (3) أي ولا يصلي فيها.
إلى غير ذلك من الروايات المتراكمة، فلا غرو في ضعف بعضها بعد صحة
بعضها الآخر مع بلوغها نصاب الاستفاضة التي يكون القدر المشترك فيه بينها هو
الظهور في المانعية.
ثم إن في تجاه هذه النصوص ما ربما يوهم ظهوره في شرطية مأكول اللحم،
فلا بد من الإشارة إليها والعلاج بينها - إن استقر ظهورها فيها كظهور ما مر في
المانعية - وبين ما تقدم، على فرض امتناع الجمع بين مانعية ذاك وشرطية هذا.
فمنها: ما رواه عن علي بن أبي حمزة، إذ فيها: لا تصل فيها إلا ما كان منه
ذكيا قال: قلت: أوليس الذكي مما ذكي بالحديد؟ قال: بلى إذا كان مما
يؤكل لحمه... الخ (4).
حيث إن ظاهر قوله عليه السلام " بلى إذا كان مما... الخ " هو اشتراط الصحة
بمأكوليته، لمكان التعبير بأداة الشرط.
وفيه: أنه بعد وهن السند بجهات تقدم الكلام فيها، لا ظهور للمتن فيما
ذكر إلا بتمحل، وذلك: لأن اشتراط التذكية إنما هو بلحاظ الفراء المعمول من
الجلد المحتاج إليها، فسئل عنها بأن قيل: أوليس الذكي مما ذكي بالحديد؟
فأجاب عليه السلام بقوله " بلى.... الخ ".

(1) الوسائل باب 6 من أبواب لباس المصلي ح 1 و 2 و 3 و 4.
(2) الوسائل باب 6 من أبواب لباس المصلي ح 1 و 2 و 3 و 4.
(3) الوسائل باب 6 من أبواب لباس المصلي ح 1 و 2 و 3 و 4.
(4) الوسائل باب 3 من أبواب لباس المصلي ح 3.
309

وهذا الجواب يحتمل وجهين: الأول - أن يكون بصدد اعتبار قيد زائد
في التذكية نفسها، وهو (كون الحيوان مما يؤكل) فيدل على دخالة هذا القيد
كدخالة القيد المذكور في السؤال، وهو (كونها بالحديد) فما لا يؤكل لحمه غير
قابل للتذكية. ولكنه خلاف الاجماع البتي.
والثاني - أن يكون بصدد اعتبار ذلك في صحة الصلاة لا في قوام التذكية،
فحينئذ يتم في الشرطية. ولكنه غير ظاهر فيه، بل ظاهره هو الوجه الأول المخالف
للاجماع. أضف إلى ذلك: ما في قوله بعده " وما لا يؤكل لحمه من غير الغنم؟ قال
عليه السلام: لا بأس بالسنجاب... الخ " حيث إن الموجود في " الكافي " و " التهذيب " و " الوافي "
التي تكون بأيدينا خال عن لفظة (لا) في قوله " وما لا يؤكل " وإن كانت في " الوسائل ".
ولكل واحد من الثبوت والعدم اعتبار مناسب يخصه، فأما النفسي: فيساعده
استثناء السنجاب حيث إنه محرم الأكل ولكن أجيز حسب هذا الخبر الصلاة في
أجزاءه، ولكن لا يساعده استثناء الغنم حيث إنه محلل الأكل ضرورة. وأما
الثبوت: فبالعكس.
مع أن ذيله قد علل المنع عما عدا السنجاب بالنهي عن كل ذي ناب ومخلب
فيدل على أن سر بطلان الصلاة فيما عداه هو (كون ذلك مما نهي عنه) وظاهره أن
حرمة أكل ما عداه مورثة للبطلان والمنع، لا أن سره هو (فقدان حلية الأكل)
وبينهما ميز مبان.
والحاصل: أن الفقرة الأولى ذات احتمالين: أحدهما ظاهر منها ولكنه
خلاف الاجماع، والآخر غير ظاهر منها وإن يجدي في الشرطية.
والفقرة الثانية مضطربة الضبط بين ثبوت لفظة (لا) ونفيها، فعلى الثبوت:
تدل على أن السنجاب مما يؤكل لحمه وهو خلاف الاجماع، ولذا قال (في أطعمة
الجواهر) بلزوم طرح الخير الدال على حليته لكونه خلاف الاجماع. وعلى النفي:
دال على أن الغنم مما لا يؤكل لحمه، وهو كما ترى!
310

والفقرة الثالثة ظاهرة في المانعية، حيث علل فيها المنع وعدم جواز الصلاة
فيما عدا السنجاب بالنهي عن كل ذي ناب ومخلب، فسر عدم الجواز هو النهي عن
الأكل، فحرمة الأكل مانعة. ولعل هذه الحزازات في المتن لعدم تعاهد الحديث
من " الاسحاق العلوي ".
ومنها: ما رواه عن أبي تمامه قال: قلت لأبي جعفر الثاني عليه السلام إن بلادنا بلاد
باردة فما تقول في لبس هذا الوبر؟ فقال: البس منها ما أكل وضمن (1).
حيث إن ه قيد جواز اللبس بالمأكولية، وليس إلا شرطية ذلك، لأن توقف
جواز الشئ على وجود شئ دال على اشتراطه به، ولما كان هذا الاشتراط مطلقا
شاملا لحال الصلاة أيضا - لو لم يكن الاعتناء الهام لأجلها - فيدل على التوقف في
تلك الحالة أيضا، ولا نعني بالشرطية إلا هذا.
وفيه أولا: أن السند مرهون ب‍ " أبي تمامة " وثانيا: أن المتن قاصر عن إفادة
ذلك، لعدم تعين المشار إليه في السؤال من كونه الشخص الخارجي؟ أو النوع
الدارج في الاستعمال؟ وأن لا يلائم التشخص الخارجي ما في الجواب الملائم للتعميم
والتوسعة، ولعدم التناسب للضمان هنا، إذ لا يعتبر الجمع بين وصف المأكولية
وضمان البايع له مثلا، مع أنه لا جدوى لضمانه له، إذ المأكولية وعدمها ليست
بمثابة المذكى والميتة حتى يكفيه إخبار ذي اليد أو استعماله فيما لا يجوز استعمال
الميتة فيه مثلا، فحينئذ لا يتم الأمر أيضا لو جعل الواو بمعنى (أو) حتى يكون
المعنى أنه يعتبر أحد الأمرين: من المأكولية، أو ضمانتها والتعهد بها. اللهم إلا
أن يرجع الضمان إلى التذكية، فالمعنى حينئذ هو التوقف على أمرين: أحدهما
المأكولية، والآخر التذكية التي تثبت بضمان البايع وإخباره وإن كان بنحو
الاستعمال الذي يكشف بصدوره عن المسلم أن المستعمل فيه لا يكون ميتة،

(1) الوسائل باب 2 من أبواب لباس المصلي ح 3.
311

ولكنه أيضا خلاف الظاهر.
فلا يمكن الاعتماد على مثله مما هو موهون السند ومضطرب المتن
لاثبات الشرطية.
الجهة الثانية
في امكان جعل الشرطية لأحد الضدين والمانعية للآخر - ثبوتا واثباتا - وعدمه
قد لاح لك (في الجهة الأولى) أن المستفاد من نصوص الباب هو مانعية حرمة
الأكل فقط، وأما شرطية حلية الأكل فلم يقم عليها دليل نفيا ولا إثباتا، فهل
يمكن التمسك بتلك النصوص لنفيها من باب الملازمة العقلية أم لا؟
وذلك متوقف على امتناع الجمع بين الجعلين حتى يستكشف من ثبوت
أحدهما نفي الآخر، وأما عند امكانه فلا كشف له أصلا فيبقى على حاله من الاحتمال
إلى أن ينتهي الأمر إلى الأصل، فالاعتماد على نفيها بالدليل الاجتهادي رهين ذاك
الامتناع المشار إليه. ولنشر قبل البحث عن الامكان وعدمه إلى النسبة بين
مأكولية اللحم وغير مأكوليته وإلى الميز بينهما.
أما الأولى: فلا ريب في أنهما ضدان لا ثالث لهما واقعا، لأن كل حيوان
فهو إما محلل الأكل واقعا أو محرم الأكل كذلك، فعند انحفاظ المقسم لا جمع
بينهما ولا ارتفاع عنهما، وذلك نظير الطهارة والنجاسة أو المذكى والميتة، بناء
على كونها وجودية مضادة للتذكية كذلك.
وأما الثاني: - أي الميز - فهو أن شرطية المأكولية إنما تصح على تقدير
لبس أجزاء الحيوان، وإلا استلزم وجوب تحصيله. وهذا بخلاف مانعية غير
المأكولية لصحتها مطلقا، وتوضيحه: بأنه لو كان المأكولية شرطا لزم إحرازها
المتوقف على لبس أجزاء الحيوان الخاص، فمع عدم لبس الجزء الحيواني لما
312

أمكن تحصيل ذلك الشرط. وأما لو كان غير المأكولية مانعا لما وجب لبس أجزاء
الحيوان الخاص أصلا، إذ المهم هو ترك جزء ما لا يؤكل، سواء كان بلبس جزء
ما يؤكل أو بلبس شئ لا يكون جزء من الحيوان أصلا أو بترك اللباس رأسا
والاكتفاء بمجرد الستر بما يصلح له في الصلاة.
وهكذا الأمر في مانعية الميتة وشرطية التذكية، فعند لبس القطن ونحوه
من النباتات يصدق عليه: أنه ترك المانع.
ومن هنا يتضح لزوم انحفاظ المقسم في الضدية الكذائية بينهما، وإلا لكان
لهما ثالث، لأن القطن ليس بمحرم الأكل ولا بمحلله، كما أنه ليس بميتة
ولا مذكى.
ثم إنه قد يتخيل: عدم إمكان الجمع بين مانعية ذاك وشرطية هذا في مقام
الاثبات والخطاب، وكذا في مقام الثبوت والواقع.
أما محذور الجمع في الخطاب والاثبات: فهو أن البعث إلى أحدهما لما كان
مساوقا للزجر عن الآخر بعينه لما كان للزجر المستقل عن ذلك الآخر وجه أصلا،
لحصول الانزجار بلا زجر والترك بلا نهي. وتوضيحه: أن وجود المأكولية مستلزم
لترك غيرها وانعدام شقيقها الآخر الذي هو غير المأكولية، وبالعكس، لا بنحو التقدم
لوجود أحدهما على عدم الآخر بل لحصوله معه بلا احتياج إلى خطاب آخر، وحيث
إنه خال عن الفائدة حينئذ فلا مجال له صونا عن اللغوية وكثرة الكلام بلا جدوى
ولا تفاوت فيما هو المهم هنا بين الخطاب النفسي والغيري، فالتعبير بالبعث والزجر
لسهولة التعقل، وإلا فلا بعث ولا زجر بالمعنى المصطلح في المبحوث عنه.
وفيه: أنه إن كان في خطاب واحد لكان لما قيل وجه من عدم الافتقار إلى
الجمع بين الجعلين مع حصول الغرض بأولهما وخلو ثانيهما عن الأثر، وأما إذا كانا
في خطابين فلا، وذلك: لأنه ليس التعبير بما يفيد أحدهما أسهل من التعبير بالآخر،
فما المانع من إلقاء الخطاب تارة لجعل الشرطية وأخرى لجعل المانعية؟ حيث
313

إن كلتيهما طريقتان إلى الواقع المقصود، فليكن من باب التفنن في التعبير أو
التأكيد. ومن هنا يتجه الامكان في خطاب واحد أيضا، لأن التأكيد غرض مهم
يسرد لأجله غير واحد من التعابير المتعددة لفظا المتحدة معنا. نعم: لو كان لأحدهما
أثر يخصه لما كان للثاني وجه، لا من باب لزوم الاقتصار على أحد الضدين اللذين
لا ثالث لهما، بل من باب تفويته لذاك الأثر المطلوب.
وذلك: مثل ما لو تعلق الغرض بالاحتياط في مقام الشك في كون شئ مأكول
اللحم أو غيره لشبهة موضوعية تحفظا للواقع، إذ لا بد حينئذ من الاقتصار على
جعل الشرطية فقط، كما أنه لو تعلق الغرض بالبراءة في ذاك المقام تسهيلا على
العباد لزم الاقتصار على جعل المانعية فقط - على ما يقال من الميز بينهما في مقام
الشك والأصل العملي - والحاصل: أنه لا محذور في الجمع بين الجعلين خطابا وفي
مقام الاثبات بعد الالتفات إلى جدوى التأكيد وأثر التسجيل بالتفنن في التعبير.
وأما محذور الجمع بينهما ثبوتا: فهو أن مرتبة تأثير المانع متأخرة عن
وجود المقتضي والشرط، إذ لولا تمامية حوزة الاقتضاء بوجود هما لأستند عدم
المعلول إلى فقدهما وجد المانع أم لا، فعند عدم الشرط يكون عدم المعلول مستندا
إليه ووجود المانع وعدمه حينئذ سيان، نعم: لو وجد المقتضي والشرط لكان
عدم المعلول مستندا إلى وجود المانع.
فالأمر دائر بين استواء وجوده وعدمه وبين عدم وجوده رأسا، إذ على تقدير
انتفاء الشرط فذات المانع موجودة ولكن لا أثر لوجوده أصلا، بل يكون كالعدم
من حيث عدم الأثر. وعلى تقدير وجود الشرط لما كان المانع موجودا حتى يبحث
عن أثره، ولا يعقل جعل المانعية ثبوتا لما هذا شأنه.
وفيه: أن أجزاء العلل بأسرها في رتبة واحدة وجودا وعدما، فكما أن وجود
المعلول يستند إلى وجود المقتضي والشرط وفقد المانع بلا تقدم بعضها على آخر في
314

صلوح الاستناد، كذلك عدمه يستند إلى عدم المقتضي أو عدم الشرط أو وجود المانع
كذلك، كما أنه يستند إلى عدم ذينك ووجود هذا معا إذا اتفق فقد العلة التامة
بجميع أجزاءها.
نعم: التأثير الفعلي للمانع ومصادمته تجاه أثر المقتضي والشرط إنما يتوقف
على وجودهما بالفعل، وحيث إنه لا وجود للمانع فيما يوجد فيه الشرط في أمثال
المقام لا اتصاف له بفعلية المزاحمة والمانعية أصلا، ومجرد هذا المقدار لعله غير
كاف في الامتناع الثبوتي.
الجهة الثالثة
في جريان الأصل وعدمه عند الشك في المأكولية
ثم إنه قد يكون وجود غير المأكول بنحو الوجود المحمولي موضوعا
للحكم وهو المنع مثلا، وقد يكون الموضوع له هو الأمر المتقيد بعدمه. فعلى
الأول: لا إشكال في جريان الاستصحاب فيما كان لعدم المحمولي حالة سابقة.
وأما الثاني: فإما أن يكون عدمه قيدا للمصلي (بأن يعتبر فيه أن يكون متقيدا
بعدمه) أو يكون قيدا للصلاة (بأن تكون متقيدة به - كما في الطهارة) فعلى الأول:
يجري الأصل، لأن عدمه النعتي - أي اتصاف المصلي وتقيده بعدمه - كان مسبوقا
باليقين قبل لبس هذا اللباس فيحكم ببقائه بعده. وأما على الثاني: فلعدم مسبوقية
تقيد الصلاة بعدمه باليقين - إذ لم تكن صلاة في السابق حتى تكون مقيدة بعدمه -
فلا مجال لجريانه، لأن استصحاب عدمه المحمولي لا يثبت عدمه النعتي - أي
اتصاف الصلاة بعدمه -.
والذي ينبغي أن يقال: هو أن الاستصحاب وإن قصر عن إثبات اللوازم
العقلية أو العادية التي تكون خارجة عن حوزة التشريع وداخلة في ساهرة التكوين،
315

ولكنه ليس بقاصر عما يكون وضعه ورفعه بيد الشرع. توضيحه: بأن الطهارة
مثلا قد قيدت الصلاة بها شرعا حيث قيل: " لا صلاة إلا بطهور " فلو كانت بوجودها
المحمولي مسبوقا باليقين لأمكن استصحابها والاتيان بالصلاة معها، لأن المطلوب
هو تقيدها بوجودها، فيحرز أحدهما - وهو الوجود - بالأصل، والآخر بالوجدان.
ويؤيده ما في لسان بعض نصوص الاستصحاب: من جريانه في الطهارة عند احتمال
انتقاضها بالخفقة والخفقتين والاكتفاء بذلك، مع أن المأخوذ في لسان الدليل
هو تقيد الصلاة بها، لا مجرد وجودها، ولا تقيد المصلي بها - كما تمحله بعض
من لم يصل إلى ما هو السر - حيث يقال: بكونها قيدا للمصلي فإذا ثبت كونه
متطهرا لاكتفى به. وفيه ما لا يخفى، لخروجه عن نطاق النص. فمعنى التعبد
بالطهارة هو التعبد بتحقق أثرها وهو التقيد في الفرض.
وفي المقام أيضا يمكن إحراز عدم المأكولية المسبوق يقينا بالتعبد وتقيد
الصلاة به بالوجدان، فلا تفاوت فيما هو المهم بين كون عدمها قيدا للمصلي أو
للصلاة، إذ كما يمكن احراز اتصافه بعدمها فيما إذا كان عدمها النعتي مسبوقا
باليقين، كذلك يمكن إحراز اتصافها - أي الصلاة - بعدمها فيما إذا كان عدمها
المحمولي مسبوقا، من دون الفرق لاحراز التقيد هنا بالوجدان والقيد بالأصل.
هذا بلحاظ الاستصحاب وسيوافيك تمامه.
أما الاشتغال والبراءة: فمصب جريانهما وتعيين ما هو الجاري منهما رهين
الإشارة إلى كيفية انحدار الخطاب نحو المتعلق، فنقول: قد تكون المصلحة قائمة
بصرف الوجود لطبيعة خاصة فيراها المولى كذلك ثم يطلبها ويبعث إليها بنحو
الصرف، ولا ريب في أنه بعث واحد له امتثال واحد أو عصيان فارد، فعند حصولها
بأول الوجود الناقض للعدم لا مجال لها ثانيا.
وقد تكون قائمة بها بنحو السريان في جميع الأفراد - بحيث يكون لكل
316

منها مصلحة تخصه - فيراها كذلك ويبعث إليها هكذا، ولامرية أيضا في تعدد
البعث بتعدد تلك الأفراد، فهيهنا إطاعات ومعاصي، وهذان القسمان مما لا كلام
فيه، لظهور الخطاب الخاص بكل منهما فيه لفظا.
وأما إذا انحدر البعث نحو طبيعة لم يعلم حالها ولم يأت المولى في خطابه
بما يشرح كيفية بعثه: من كونه على النحو الأول أو الثاني، فبعد إجراء مقدمات
الاطلاق ينتج ما هو المساوق للقسم الأول - أي الاكتفاء بالصرف - لأن العقل
قاض بأن الطبيعة إذا انحدر نحوها البعث فلا بد من دخالة الوجود لها، فلا بد
من انقداحه لدى المولى، فأصل الوجود لا محيص عنه. وأما كونه بنحو السريان
فيحتاج إلى مؤنة زائدة مطرودة بالاطلاق، فيكتفي بأول الحصول، لا أن اللفظ
قد استعمل فيه أو قيد به، بل لعدم الدليل على الزائد عنه. هذا في الأمر النفسي
الذي فيه البعث إلى شئ، وسنشير إلى اتحاد الأمر الغيري معه.
وأما النهي: فيتأتى فيه هذا التقسيم أيضا، إلا أنه له ميزا من وجهين لا بد
من بيانهما، أما الأول: فهو أن النهي إذا كان على النحو الأول - المأخوذ فيه
ما يدل على أن المفسدة قائمة بصرف الوجود - يلزم ترك جميع الأفراد صونا
عن تلك المفسدة، إذ بمجرد ترك الفرد الأول وإن صين عن الفساد الناشئ منه
على فرض وجوده، ولكن هذا النشوء والبروز مترقب من غيره من الأفراد الأخر،
فيجب تركها بأسرها حتى لا يتحقق الفساد رأسا. نعم: لو عصى باتيان فرد لسقط
النهي، إذ لا موضوع حينئذ حتى يبقى له الحكم.
وأما الميز الثاني: فهو أن النهي إذا كان على النحو الثالث ينتج إجراء
مقدمات اطلاقه ما هو المساوق للقسم الثاني - أي الطبيعة السارية - فيجب الاحتياط
وترك الجميع. ومبدأ هذين الميزين أمر واحد لا محيص في حل ما اعتصاص فيه
عن التمسك بذيل الغريزة العرفية، وبيان ذلك فيما يلي: وهو أن الطبيعة كما
317

توجد بوجود فرد ما كذلك تنعدم بانعدام فرد ما، إذ كما أن لها وجودات باعتبار
الأفراد كذلك لها أعدام باعتبارها، وكما أن الوجود الأول الناقض للعدم يصدق
عليه: أنه صرف الوجود، كذلك العدم الناقض للوجود يصدق عليه: أنه صرف العدم،
فما السر في لزوم ترك جميع الأفراد إذا كان النهي بنحو الصرف أو أنتجه الاطلاق؟
والحل هو أنه وإن كان كذلك عقلا، إلا أن المعهود في باب النواهي لما
كان بنحو الطبيعة السارية في جميع الأفراد التي لكل منها مفسدة تخصه، فهذا
التكرر والتداول يوجب للخطاب ظهورا في العرف خاصا يستكشف منه ما هو
المساوق للطبيعة السارية، فيلزم ترك الجميع صونا عن الوقوع في تهلكة تلك
المفسدة المهروب عنها. نعم: يكون بين لزوم الترك في القسم الأول والثالث
ولزومه في الثاني فرق نتعرض له. هذا في النهي النفسي.
ولما كان وزان الأمر والنهي الغيريين وزان ما مر من النفسيين، لأن الحكم
وضعيا كان أن تكليفيا يستفاد من الهيئة الواحدة في ذينك الصنفين، فيتأتى في
الغيري منهما ما كان متأتيا في النفسي. فحينئذ ينقسم الشرطية أو المانعية إلى تلك
الأقسام، مع ما بين الأمر المفيد للشرطية والنهي المفيد للمانعية من الميز المار بين
النفسي منهما.
ثم إن الفرق بين الشرطية والمانعية، هو أن بعد إحراز شرطية شئ
لا بد من إحراز وجوده، للعلم بدخالة تقيده، فيحتاط في المشكوك. وأما المانعية:
فحيث إن المزاحم فيها هو وجود شئ بلا دخالة لتقيده فلا يحتاط، لامكان إحراز
عدمه بالأصل - كما يتضح في الجملة.
وحيث إنه قد تحقق الأمر فيما نحن فيه: من أن المجعول هو مانعية
غير المأكول لا شرطية المأكول، فيلزم البحث عن الاشتغال والبراءة عليها - أي
على المانعية - وذلك: بأن النهي المفيد لمانعية غير المأكول إن كان بنحو الصرف
318

فلا بد فيه من الاحتياط وذلك لأن التكليف هناك واحد مبين بحدوده وقيوده، وأما
لزوم ترك جميع الأفراد فمن باب توقف امتثال ذاك الترك الواحد على هذه التروك
بلا كثرة للتكليف.
وأما إذا كان بنحو الطبيعة السارية فهنا تكاليف عديدة مستقلة فكل منها
موجب لتخصيص العام أو الاطلاق الموجود في أصل المسألة، ففيه تخصيصات أو
تقييدات كثيرة، فعند الشك في كون هذا الشئ مأكول اللحم أو غيره يشك في
التخصيص الزائد أو التقييد الزائد المحكوم بحكم الشك في أصل التخصيص
أو التقييد المطرود بأصالة العموم أو الاطلاق. هذا إذا كان الشك لشبهة
موضوعية.
وأما إذا كان لشبهة حكمية، فحيث إن أولها إلى الشك في الموضوع
الخارجي فالكلام فيها أيضا هو ما أشير إليه. وتفصيل المقال في حكم الأقل والأكثر
الارتباطي - من الاحتياط مطلقا أو البراءة كذلك أو التفصيل بين العقل والشرع
بالاحتياط على الأول والبراءة على الثاني - في موطنه المعد له. هذا محصل
القول في الاشتغال والبراءة.
وأما أصالة الحل: فقد يتمسك بها لصحة الصلاة في المشكوك فيه، وتقريب
ذلك: أن الشك في جواز الصلاة فيه وعدمه مسبب عن الشك في حلية أكله
وحرمته، فعلى الأول تجوز دون الثاني، فمع إجراء أصالة الحل يطرد الشك
في الجواز، بل يعلم تعبدا به، فتصح الصلاة فيه.
وحيث إن المراد من الحلية المجعولة فيها هل هو التكليفي منها أو الأعم؟
يحتاج إلى بسط مقال يتضح في ضوءه النقاش في السببية، بل أصل التمسك بها
على بعض التقادير، فلا بد من البحث عنه في مقامين:
319

المقام الأول
في البحث عن أصالة الحل بمعنى الجواز التكليفي فقط
إن مدار البحث هنا هو كون المراد من الحل المستفاد من قوله " كل شئ
لك حلال... الخ " هو الترخيص في الأكل وتجويزه، فعلي هذا الفرض نقول:
لا مجال للاستدلال بها أصلا.
أما أولا: فلأن المانعية عن الصحة وحرمة الأكل أمران عرضيان موضوعهما
واحد وهو نفس الحيوان الخارجي - على ما يستفاد من نصوص المنع عن السباع -
إذ لم يؤخذ عنوان ما لا يؤكل موضوعا للمانعية في هذه الطائفة من النصوص،
فليس أحدهما في طول الآخر حتى يكون الشك في المانعية مسببا عن الشك في
الحرمة. نعم: إن المستفاد من (موثقة ابن بكير) التي هو الأصل في الباب وكذا
ما يتلوها من تلك الطائفة هو إناطة المانعية بحرمة الأكل، فهما مترتبان
لا عرضيان، ولا أشكال في أن المتلازمين المستندين إلى ملزوم وواحد لا يثبت أحدهما
بمجرد ثبوت الآخر بالأصل - على ما في محله - وأما اللازم والملزوم اللذين
يكون ترتب أحدهما على الآخر شرعيا مع كون ذاك اللازم بنفسه أيضا شرعيا
فهو وإن يمكن ثبوت اللازم بمجرد إحراز الملزوم بالأصل، إلا أن ما نحن فيه
ليس من هذا القبيل، لأن المستفاد من تلك الطائفة هو ترتب المنع على محرم الأكل
واقعا وبعنوانه الأولي لا الأعم من الواقعي والظاهري حتى يثبت الموضوع بالأصل،
كما أن المستفاد من أصالة الحل ليس تنزيل المشكوك منزلة الواقع - كالاستصحاب
المحرز - حتى يؤل مغزاه إلى ترتيب آثار الواقع عليه، فما لم يكن دليل المنع
ناظرا إلى الأعم من الواقع والظاهر - لانحداره إلى خصوص الواقع - ولم يكن أصل
الحل أيضا محرزا للواقع - كالاستصحاب - لا مجال للحكم بارتفاع المنع فيه أبدا.
320

وأما ثانيا: فعلى تسليم اتساع نطاق دليل المنع وشموله للأعم من الحرام
الواقعي والظاهري، فليس من باب الشك السببي والمسببي البتة، بل يحرز معه
الموضوع بنفسه وجدانا، فينتفي الشك في المنع كذلك لا تعبدا، إذ بعد احراز
الحلية الظاهرة فقد أحرز الموضوع وجدانا، فحينئذ يزول الشك في المانعية لا
بالتعبد بل بالوجدان.
أضف إلى ذلك كله: اختصاص جريانه بما إذا كان هناك اللحم موجودا
وموردا للابتلاء بنحو يصح جعل الترخيص والجواز التكليفي، إذ كما أن المعدوم
أو ما ليس موردا للابتلاء لا مجال لجعل الحرمة التكليفية فيه كذلك لا مجال لجعل
الحلية التكليفية له، لاتحاد المناط.
فحينئذ لو شك في جلد أو وبر أنه مما يؤكل أو من غيره مع انتفاء اللحم
رأسا أو فقده عن مورد الابتلاء لا مجال لتجويز أكله فلا وجه لأصالة الحل.
ولا يقاس بأصالة الطهارة الجارية لطهارة الملاقي مع انتفاء ذاك الماء المشكوك رأسا،
لأن المجعول هناك أمر وضعي فيصح الاجراء بلحاظ الأثر - كما يتضح في المقام
الثاني - وأما هنا فلا، لأن المجعول فيه ليس إلا جواز الأكل تكليفا وكم
فرق بينهما!
فتحصل: أن موضوع المنع هو محرم الأكل واقعا وبالعنوان الأولي، وأما
المحرم بالعنوان الثانوي - كمنذور الترك والمغصوب ونحو ذلك - فلا، وإلا لزم
الجواز فيما لا تنجيز للنهي - كما هو واضح - وأن أصل الحل قاصر عن احراز
الواقع فلا جدوى له، فحينئذ لا بد من عطف عنان الكلام عن التفصيل في مصب
جريانه سعة وضيقا، إذ لا أساس له على هذا الفرض أصلا.
321

المقام الثاني
في البحث عن أصالة الحل بمعنى الجواز الوضعي أيضا
أن المراد من الحلية الوضعية هو النفوذ والصحة تجاه الحرمة الوضعية
المفسرة بالبطلان وعدم النفوذ، فإذا كان في البين ما يدل على جعل الحلية الوضعية
بالعموم أو الخصوص عند الشك في وجود المانع أو مانعية الموجود يمكن التمسك
به لتصحيح الصلاة في المشكوك، من دون الاحتياج إلى حديث السببية والمسببية.
بيانه: بأن الشك في كون هذا الشئ مما يؤكل أو من غيره شك في كونه
مانعا أو لا، فإذا حكم الشرع على هذا الموضوع الخاص بالحلية والنفوذ الوضعي
يحكم معه بعدم المنع بلا إثبات، نظير قاعدة الطهارة عند الشك في نجاسة البدن
أو الثوب، وكذا لو شك في أن هذا الشئ من أجزاء ذاك الحيوان المعلوم حرمة
أكله أو من ذلك الحيوان المقطوع حليته، وما إلى ذلك من أنحاء الشك، لأن
الحلية والحرمة الوضعيتين لا تختصان بالحيوان نفسه، بل يعم ذانك الوضعيان
جميع أجزاءه، فحينئذ لو شك في وبر حيوان قد انتفى جميع أجزاءه ما عدا ذاك الوبر
الخاص يجري الأصل فيه هنا، بخلاف ما مر في المقام الأول.
فهذا في الجملة مما لا ريب فيه، إنما الكلام في صلوح هذه القاعدة لإفادة
الحلية الوضعية أيضا بعد تمامية دلالتها على التكليفية منها، فالمهم هنا هو تصوير
الجامع بين قسمي الحلية، والإشارة إلى الاستعمال فيه بإقامة بعض ما يشهد له.
فنقول: لا مرية في استعمال الحل في خصوص الوضعي منه في الكتاب والسنة
إجمالا، كما لا سترة في استعماله في التكليفي منه البتة، ولاتضاح القسم الأول منه
نشير إلى بعض النصوص المستعمل فيها الحل أو الجواز في خصوص الوضعي، ثم
نتبع ذلك بما استعمل فيه الحل أو ما في حكمه في الجامع بين ذينك المقسمين
حتى تصح دعوى استعماله فيه هيهنا أيضا.
322

أما النصوص المستعمل فيها الحل أو الجواز في خصوص الوضعي منه
فمنها: رواية ابن بكير عن أبي عبد الله عليه السلام إذ فيها: فالصلاة في وبره...
جائز... الخ (1)
إذ لا ريب في أن المراد من الجواز هنا هو خصوص النفوذ والصحة في
قبال الفساد.
ومكاتبة إبراهيم بن محمد الهمداني... يسقط على ثوبي الوبر... فكتب
لا تجوز الصلاة فيه (2) ومعناه البطلان وعدم النفوذ.
ومرفوعة محمد بن إسماعيل قال عليه السلام: لا تجوز الصلاة في شعر ووبر ما لا يؤكل
لحمه لأن أكثرها مسوخ (3).
ومنها: مكاتبة علي بن مهزيار... فهل تجوز الصلاة في وبر الأرانب؟
... فكتب عليه السلام: لا تجوز... الخ (4).
فاستعمل الجواز صدرا وذيلا في الصحة والنفوذ فقط. ونحوها مكاتبة أحد
ابن إسحاق الأبهري (5).
ومنها: رواية ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه السلام... فقال له أبو عبد الله عليه السلام
فإن الله تعالى أحله وجعل ذكاته موته كما أحل الحيتان... الخ (6).
وقد مر أن الخز مما يحرم أكله البتة، فمع ذلك يكون المراد من الحلية
هنا خصوص الصحة ونفوذ الصلاة فيه، كما تقدم مشروحا.
ومنها: رواية سعد بن سعد عن الرضا عليه السلام... قال عليه السلام إذا حل وبره
حل جلده (7)

(1) الوسائل باب 2 من أبواب لباس المصلي ح 1 و 4 و 7.
(2) الوسائل باب 2 من أبواب لباس المصلي ح 1 و 4 و 7.
(3) الوسائل باب 2 من أبواب لباس المصلي ح 1 و 4 و 7.
(4) الوسائل باب 7 من أبواب لباس المصلي ح 3 و 5.
(5) الوسائل باب 7 من أبواب لباس المصلي ح 3 و 5.
(6) الوسائل باب 8 من أبواب لباس المصلي ح 4.
(7) الوسائل باب 10 من أبواب لباس المصلي ح 14.
323

وقد مر أن التلازم إنما هو بين نفوذ الصلاة في الوبر وبين نفوذها في الجلد
وأما في الجواز التكليفي فلا، إذ يجوز الانتفاع بوبر الميتة دون جلدها، فالمراد
من الحلية في طرفي التلازم هو النفوذ الوضعي.
ورواية محمد بن عبد الله الحميري عن صاحب الزمان عليه السلام إذ فيها: فوقع عليه السلام:
يجوز، وروي عنه أيضا لا يجوز، فبأي الخبرين نعمل؟ فأجاب عليه السلام إنما حرم
في هذه الأوبار والجلود فأما الأوبار وحدها فحلال (1).
حيث إنه استعمل فيها الجواز الوضعي في موضعين، وكذا استعمل الحرمة
بمعنى البطلان والحلية بمعنى الصحة.
ومنها: مكاتبة محمد بن عبد الجبار إلى أبي محمد عليه السلام... فكتب عليه السلام: لا تحل
... إلخ (2). بناء على استواء ما تتم وما لا تتم في البطلان.
إلى غير ذلك مما لا احتياج إلى نقله. فلا مرية في استعمال الحل والجواز
في النفوذ والصحة، فمن شاء أكثر منه فليراجع باب ما تجوز الصلاة فيه وحده
وما لا تجوز - أي ما تتم وما لا تتم - من أبواب النجاسات.
وأما النصوص المستعمل فيها الحلية أو الحرمة في الجامع
بين التكليفي والوضعي
فمنها: رواية جابر الجعفي عن أبي جعفر عليه السلام إذ فيها: ويجوز أن تتختم
بالذهب وتصلي فيه (أي النساء) وحرم ذلك على الرجال إلا في الجهاد (3).
حيث إن الجواز في النساء - بمعنى مرخي العنان - الأعم من التكليف -
والوضع، والحرمة في الرجال - بمعنى المنع والحرمان - الأعم منهما، ولا خفاء
في تصوير الجامع بعد الظهور.

(1) الوسائل باب 10 من أبواب لباس المصلي ح 15.
(2) الوسائل باب 11 من أبواب لباس المصلي ح 2.
(3) الوسائل باب 16 من أبواب لباس المصلي ح 6.
324

ومنها: رواية موسى بن أكيل النميري عن أبي عبد الله عليه السلام... وجعل
الله الذهب في الدنيا زينة النساء فحرم على الرجال لبسه والصلاة فيه (1).
إذ المراد هو الجمع إذ لم يتكرر لفظ الحرمة ولو بالعطف، إذ الصلاة معطوف
على اللبس مع بقاء الحرمة بحالها من الوحدة وعدم التكرر.
إلى غير ذلك مما يمكن العثور عليه بعد التتبع.
ويؤيده (موثقة مسعدة بن صدقة) المصدرة بحلية المشكوك، الموسطة بأمثلة
خاصة، المذيلة بضابطة عامة، وهي " الأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك أو
تقوم به البينة ".
إذ لا ريب في أن حلية بعض تلك الأمثلة ليست إلا النفوذ والصحة، كالعبد
المحتمل كون اشتراءه مصحوبا بقهره أو خدعته، وغيره من الأمثلة المصرحة فيها.
فحينئذ يتيسر دعوى: استعمال الحل في الجامع عند صلوح المورد وعدم
قيام الشاهد على الاختصاص، والمقام من هذا القبيل، فعند الشك في الحلية لشبهة
موضوعية أو حكمية - حيث لا يعلم حال ذاك الحيوان المتولد من حيوانين مثلا
أو نحو ذلك - يحكم بالحلية والنفوذ، لقوله عليه السلام " كل شئ لك حلال " وقوله
عليه السلام " كل شئ فيه حلال وحرام فهو لك حلال ".
الجهة الرابعة
في نقد قاعدة المقتضي والمانع وتصحيح التمسك بالسيرة
قد شاع القول بأصالة عدم المانع عند الشك فيه، بحيث يستفاد من ذلك
كونه أصلا مستقلا بحياله معتمدا عليه لدى العقلاء، بتقريب اكتفائهم في ترتيب
المقتضى على المقتضي بمجرد إحرازه وعدم إحراز وجود المانع (إذ ينتفي المانع

(1) الوسائل باب 30 من أبواب لباس المصلي ح 5.
325

حينئذ بذاك البناء منهم) ويسمى بقاعدة المقتضي والمانع.
ولكن للنقاش فيها مجال، إذ لم يثبت بنائهم على ذلك بعد، بل يمكن
دعوى الخلاف، ولا أقل من الشك المساوق للقطع بالعدم في النتيجة، نعم: للمقام
خصيصة يمكن بها الحكم بالجواز في المشكوك، وهو قيام السيرة المعتبرة المستمرة
إلى عصر الوحي على عدم الاعتداد بالشك.
وتوضيحه: أن المتشرعين في كل عصر لم يكونوا محترزين عن الألبسة
المتخذة المعمولة من أجزاء الحيوان - كالغنم والبعير ونحوهما من حلال اللحم -
كما أنهم لم يكونوا محترزين من الهرة الطائفة في البيت بحيث يمنعونها من التردد
فيه، ومن المعلوم: انقداح احتمال سقوط شعراتها على تلك الألبسة أو على غيرها
مما هو في البيت بنحو يحتمل مساسه لتلك الأشياء المبتلى بها، فحينئذ لا بد من
احتمال وقوع شئ من تلك الشعرات عليها قطعا بحيث لا مجال لانكار الاحتمال،
فمعه لا يقطع بعدم الوقوع والسقوط فلا مزيل لذاك الاحتمال بعد.
وهكذا ينقدح الاحتمال من ناحية أخرى، وهو أن الأمكنة التي تجتمع
فيها أصواف تلك الحيوانات المحللة وأشعارها وأوبارها لا يقطع بخلوصها عن
شئ من أصواف الحيوانات المحرمة، فمعه يحتمل اللصوق والخلط بلا قطع
بالعدم. وهكذا في المكائن المعدة للنسج والعمل، إذ فيها قد يوجد الأصواف
والأشعار مما لا يؤكل لحمه، فأين يقطع بعدم خلط شئ منها بتلك الأصواف
مما يؤكل لحمه؟
أضف إلى ذلك: بناء بعض المكائن على الخلط، ومن المعلوم: أن لا أمارة
في شئ من هذه الموارد دالة على العدم حتى يطرد الاحتمال، لأن يد البايع مثلا
أو السوق ليست أمارة على كونه من مأكول اللحم، إذ وزانه وزان مأكول اللحم
في صلوح الملكية وجواز البيع والانتفاع فيما عدا الصلاة.
326

ولكن مع ذلك كله قامت السير المستمرة على عدم الاعتداد بشئ من هذه
الشكوك، بل كانوا يصلون فيها بلا إشكال، وإلا لزم اجتنابهم عن مثل تلك الألبسة
- وهو كما ترى - هذا عند احتمال السقوط والخلط، وأما عند احتمال اتخاذ
ذاك اللباس من وبر ما لا يؤكل لحمه فقط فلم تقم سيرة هناك.
فتبين جواز الصلاة في المشكوك الذي لا يحتمل فيه اتخاذه من وبر محرم
الأكل خالصا، لقيام هذه الأمارة، كما أنه تبين الجواز فيه مطلقا بذينك
الأصلين: أحدهما: البراءة في الأقل والأكثر، والآخر: أصالة الحل، على ما
استظهرناه من الجامع الذي يعم الحل الوضعي أيضا. فهذه طرق ثلاثة لبيان
الجواز.
الجهة الخامسة
في الأصل الموضوعي
قد آن موعد إنجاز الوعد، وهو تتميم الكلام في الاستصحاب، وليعلم: أن
الحكم هنا هو جواز الصلاة أو عدمه، والموضوع هو الشرطية أو المانعية بلحاظ،
وحرمة الأكل وحليته بلحاظ آخر. والبحث هنا متمحض في جريان الاستصحاب
الموضوعي، وهو الشرطية أو المانعية، وكذا حرمة ذاك الحيوان وحليته، إذ لو
أحرز عدم الشرطية مثلا لهذا المشكوك أو عدم الحرمة للحيوان الذي اتخذ من
أجزاءه هذا اللباس يحكم بجواز الصلاة وصحتها فيه، فتمام الأمور في مقامين:
المقام الأول
في أصالة عدم جعل الشرطية أو المانعية
لا ريب في مسبوقية جعل الشرطية بالعدم ولو أزلا، إذ قبل نزول الوحي
لم يجعل ذاك الحكم الوضعي على هذا الشئ الموجود اللحاظي، حيث إن الحكم
327

في القضية الحقيقية منحدر نحو الشئ المستوعب لجميع الأفراد المحققة والمقدرة
الملحوظة ولو إجمالا. فقد أتى على هذا الشئ حين من الدهر لم يجعل الشرطية
أو المانعية له، فإذا شك في التبدل بجعلها له يحكم ببقاء على ما كان من العدم.
ولا ميز فيما هو المهم هنا بين نشوء هذا الشك من الشبهة المصداقية أو غيرها، ولكن
لبعض المتأخرين هو " المحقق النائيني ره " مقال في المنع غير خال عن النقد،
ومغزاه النقاش في الجريان لوجهين: أحدهما - أن استصحاب عدم جعل الشرطية
لهذا لا يثبت وجوب الباقي، لأن لحاظ الطبعية المصحوبة بذاك المشكوك تارة
المجردة عنه أخرى مما لا بد منه، ولا رجحان لأحدهما على الآخر، فأين يرجح
الأقل ويثبت وجوبه بعد زوال الشرطية وعدم وجوب الأكثر مع تعارض الأصلين.
وثانيهما: أن الأثر مترتب على المجعول لا الجعل الذي هو فعل الشارع،
فانتفاء الثاني غير مجد ما لم ينتف الأول، وهو الشرطية.
وفيه: أولا - إن لحاظ أصل الطبيعة مما لا بد منه في الأقل والأكثر، والميز
بينهما بلحاظ أمر زائد عليها في الثاني وبلا لحاظ ما عدا لحاظها في الأول، إذ
ليس معنى وجوب الأقل هو لحاظ إطلاقه بأن يكون اللا بشرط قسميا، بل معناه
عدم لحاظ شئ آخر معه بأن يكون مقسميا، فليس فيه مؤنة زائدة وراء لحاظ
أصل الطبيعة، وهذا بخلاف الثاني المستلزم لتلك المؤنة البتة، فالزائد المسبوق
بالعدم يطرد احتمال حدوثه بالأصل.
وثانيا - إن الجعل وإن كان غير المجعول اعتبارا، ولكن الأمر فيه سهل
لا لخفاء الواسطة، بل لانحدار الأصل نحو المجعول مستقيما، وهذا كاستصحاب
عدم جعل الوجوب النفسي لشئ، فما قيل هناك يقال هنا أيضا، إذ لا مرية في
عدم الامتياز بينه وبين الوجوب الغيري في هذه الجهة، كما أنه لا ريب في جواز
جريان أصالة عدم الوجوب، فتوهم الاثبات وعدم الجريان فيهما واحد، وازاحته
أيضا فيهما فاردة.
328

فكل شئ شك في جعل الشرطية أو المانعية له يمكن إحراز عدمه
بالاستصحاب الموضوعي، فمعه يحكم بجواز الصلاة في المشكوك.
المقام الثاني
في أصالة عدم جعل الحرمة على الحيوان
لا خفاء في أن جعل حرمة الأكل على الحيوان لما كان من الحوادث اليومية
فهو مما يكون مسبوقا بالعدم، فعند الشك في حدوث الجعل عليه وعدمه يحكم
ببقائه على ما كان، فمع إحراز عدم حرمة ذاك الحيوان يحكم بجواز الصلاة في
أجزاءه، إذ لا حالة منتظرة في الحكم بعد إحراز الموضوع.
ولا يعارضها أصالة عدم جل الحلية، لأن الأثر مترتب على الحرمة - لما
مر من تقوية المانعية دون الشرطية - فلا أثر للحلية هنا.
ولا فرق بين الشبهة الحكمية والموضوعية، فالحيوان المردد أمره بين الغنم
وغيره مما لا يؤكل يحكم بعدم جعل الحرمة فيه، لأن القضية تكون بنحو الحقيقية
المستوعبة لجميع الأفراد محققة أو مقدرة بلحاظ واحد.
وأما الحيوان المتولد من الحيوانين الذي لا ينطبق عليه شئ من العناوين
المنصوصة - كالأرنب والثعلب والخنزير وغيرها - فيشك فيه بشبهة حكمية،
ولاحراز حليته طريق آخر عدا الاستصحاب، وهو الدليل الاجتهادي الدال على
الضابط.
وهو ما رواه عن الهاشم الحناط (على ضبط المجلسي ره) لا القاسم الخياط
(على ما في الوسائل) إذ فيه: ما أكل الورق والشجر فلا بأس بأن يصلى فيه وما
أكل الميتة فلا تصل فيه (1).

(1) الوسائل باب 6 من أبواب لباس المصلي ح 2.
329

بناء على إناطة الصلاة فيه منعا وجوازا بحرمة الأكل وحليته المستكشفة
بذلك - أي أكل الورق أو اللحم - نعم: لو أشكل الميز بهذا الضابط - إما لكون
ذاك الحيوان مثلا مما يأكل الورق واللحم معا أو لغير ذلك - يتمسك بأصالة
عدم جعل الحرمة.
والميز بينها وبين أصالة عدم جعل الشرطية، هو اختصاص الأولى بالحيوان
نفسه، لأن حرمة الأكل وصف له خاصة، بخلاف الثانية لجريانها في جميع أجزاءه
أيضا. فعليه لو كان هيهنا حيوانان: أحدهما مقطوع الحرمة، والآخر مقطوع
الحلية، ولم يعلم انفصال هذا لجزء من هذا الحيوان أو ذاك، لما كان لأصالة عدم
جعل الحرمة مجال، للقطع بأحد الطرفين، فلا بد من الاقتصار على عدم جعل
الشرطية لهذا الجزء.
هذا إذا كان حرمة الأكل بنفسها موضوعة للبطلان - كما استظهرناه -
وأما إذا كانت عبرة إلى الحيوانات الخاصة وعنوانا مشيرا إليها فلا مجال لجريان
الأصل فيها - أي الحرمة. حينئذ، بل يلزم احتساب الحيوان نفسه، ومن
المعلوم: أن الأرنب مثلا ليس له حالة سابقة لم يكن في تلك الحالة أرنبا ثم
احتمل صيرورته كذلك، لأن الذاتيات لا تختلف ولا تتخلف في الأزل والأبد،
فلا مجال لأصالة العدم الأزلي.
نعم: لاحتمال جريانه في أجزاءه من اللحم والصوف ونحوهما مجال، كما أن له مجالا أيضا بالنسبة إلى وقوع الصلاة في ذاك الحيوان المحتمل كون اللباس
من أجزاءه. وقد يفرد لكل من هذين الأمرين بحث يخصه مع إمكان الاكتفاء
ببحث واحد، حيث إنهما مشتركان فيما هو المهم من سر الجريان ومناطه.
وذلك: لأن اللحم مثلا ماهية خاصة يمكن أن تنسب إلى الأرنب أو غيره
مما لا يؤكل وإلى الغنم وغيره مما يؤكل، وهكذا الصلاة ماهية تمكن أن تنسب
بالوقوع في أجزاء ما لا يؤكل أو في أجزاء ما يؤكل، كالمرأة التي لها ماهية
330

ممكنة الانتساب إلى القرشية تارة وإلى غيرها أخرى، أو توجد خلق الساعة بلا
انتساب إلى قبيلة أصلا.
فيقال حينئذ: إن هذا اللحم أو الصوف لم يكن في الأزل منسبا إلى
الأرنب أو غيره مما لا يؤكل فالآن كما كان، ولا يعارضه عدم الانتساب إلى ما
يؤكل، إذ لا أثر له من هذه الجهة المبحوث عنها - لما مر: من أن المستفاد
من النصوص مانعية ما لا يؤكل، لا شرطية ما يؤكل - فيحرز عدم كونه مما
لا يؤكل بلا معارض.
ثم إنه لو كان الموضوع مركبا لا مقيدا فالأمر واضح، وإن كان مقيدا
(وهو تقيد الصلاة بعدم كونه مما لا يؤكل) فلا محذور فيه أيضا، لما مر في الجهة
الثالثة: من أن التقيد لما كان أمره وضعا ورفعا بيد الشرع - فلذا يحكم بالصحة
بعد التجاوز والفراغ وليس إلا لرفع اليد عن ذاك التقيد - يحكم بترتبه عليه،
ولذلك يكتفي في إحراز شرط الطهارة للصلاة المتقيدة بها - حسب قوله عليه السلام
" لا صلاة إلا بطهور " باستصحابها (أي الطهارة) ولا وجه لارجاعها إلى تقيد المصلي
بها، فمع إحراز عدم انتساب هذا الجزء إلى ما يؤكل يثبت القيد بالتعبد
والتقيد بالوجدان، كما كان إحراز الطهارة هناك بالتعبد وتقيد الصلاة بها
بالوجدان. هذا إذا كان مجرد عدم الانتساب إلى القرشية أو ما لا يؤكل لحمه
كافيا في ثبوت الأثر.
وأما إذا كان الأثر مترتبا على المنتسب إلى غير القرشية أو إلى غير ما لا يؤكل
لحمه - بأن لوحظت الماهية الموجودة تارة متصفة بالقرشية وأخرى متصفة بغيرها
بحيث يفرض لها فرد ثالث (وهو ما تكون مخلوقة الساعة بالاعجاز مثلا) حيث لا اتصاف
لها بشئ من ذينك الوضعين، وكذا فيما لا يؤكل - فلا مجرى للأصل، لأن عدم
القرشية بالعدم المحمولي غير مثبت للاتصاف بالعدم، وأما العدم النعتي - أي الاتصاف
بالعدم - فلم يكن مسبوقا باليقين، لأن تلك الماهية في الأزل وإن لم تكن متصفة
331

بالقرشية بالسالبة المحصلة، ولكنها لم تكن متصفة أيضا بعدم القرشية بالموجبة
المعدولة حتى يحكم ببقائها على ما كان. وهكذا مهية تلك القطعة من اللحم أو غيره
وإن لم تكن منتسبة إلى الأرنب أو غيره مما لا يؤكل لحمه، ولكنها لم تكن أيضا
منتسبة إلى غيره مما يؤكل لحمه، وحيث إن الانتساب إلى غير ما لا يؤكل
لحمه غير مسبوق باليقين بنحو الموجبة المعدولة فلا مجال لاجراء الأصل فيه.
ولما لم يكن المقام من هذا القبيل بل يكفيه مجرد عدم الانتساب إلى ما
لا يؤكل فللأصل مجال واسع، وذلك لأن الصلاة لم تكن موجودة ولم تلحظ
كذلك بل أمر بايجادها فيما لا يؤكل، وحيث إنها لم تكن منتسبة إليه قبل
وجودها فليحكم ببقائها كذلك بعد الوجود، فللتمسك بالأصل الأزلي هنا وجه.
إلى هنا انتهى الأمر بالنسبة إلى ما قبل الأخذ في الامتثال بالشروع في
الصلاة.
وأما بالنسبة إلى الأثناء: بأن شك في أن هذا الشئ الملقى على ثوبه حينئذ
هل هو من أجزاء ما يؤكل أو ما لا يؤكل؟ فالمرجع فيه أصالة الصحة في الجملة،
وتفصيله من حيث اثباتها للصحة التأهلية ونحوها موكول إلى محله.
مسألة 19 - إذا صلى في غير المأكول جاهلا أو ناسيا
فالأقوى صحة صلاته.
إن للجهل صورا يمتاز بعضها عن بعض، إذ هو قد يكون بالذهول وعدم
الالتفات رأسا، وقد يكون باعتقاد الخلاف (المسمى بالجهل المركب) وقد يكون
بالشك بعد الالتفات (المسمى بالبسيط منه) وهو أيضا قد يكون بلحاظ أصل الوجود
بأن يشك في وجود شئ مما لا يؤكل، وقد يكون بلحاظ وصف الموجود بأن
332

يشك في كون هذا الشئ الملقى على ثوبه مثلا مما لا يؤكل.
هذا بلحاظ الموضوع، وأما بلحاظ الحكم فقد يكون قاصرا، وقد يكون
مقصرا، مع تأتي بعض ما أشير إليه فيه أيضا. وهكذا للنسيان: من نسيان الموضوع
تارة والحكم أخرى، ولهذا انقسام على حدة بلحاظ عدم التحفظ في مظنته، إلى
غير ذلك مما مر في الميتة وغيرها من النظائر.
والذي يستدل للصحة أمران: أحدهما (صحيحة عبد الرحمن) والآخر
(قاعدة لا تعاد).
أما الأولي: فهي ما رواه عنه، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام
عن الرجل يصلي وفي ثوبه عذرة من إنسان أو سنور أو كلب أيعيد صلاته؟ قال
عليه السلام: إن كان لم يعلم فلا يعيد (1).
إن المستفاد من المنطوق هو اختصاص عدم الإعادة بما إذا لم يكن مسبوقا
بالعلم، وأما المسبوق به كالنسيان ونحوه، فلا. ولعدم سبق العلم أقسام - منها:
الاعتقاد بالخلاف، ومنها: الذهول والغفلة المحضة، ومنها: الشك في أصل الوجود
فجميع هذه الصور الثلاث مندرجة في المنطوق، فلا إعادة فيها.
وأما الشك في وصف الموجود فمحل تأمل، لأن المنساق من الرواية هو
عدم العلم بالوجود، لا الشك في وصف ما علم وجوده. كما أن المستفاد منها الجهل
بالموضوع لا الحكم، إذ ظاهرها عدم العلم بوجود ما ذكر في السؤال من تلك الأمور
لا حكمها، كما أن النسيان أيضا خارج عنها، فلا يمكن استناد ما في المتن إليها
إلا في بعض الصور - كما أشير إليه - والمذكور فيها وإن كان هو الجزء النجس،
ولكن يتعدى عنه إلى غيره - كالوبر - بالفحوى.
وأما المفهوم: فهو دال على لزوم الإعادة عند سبق العلم، ولكنه غير ظاهر

(1) الوسائل باب 40 من أبواب النجاسات ح 5.
333

في استنادها إلى نجاسته أو كونه من أجزاء ما لا يؤكل، لاحتمال دخالة النجاسة
أيضا، فلا يمكن التعدي إلى الأجزاء الطاهرة كالوبر والصوف، فلو صلى في وبر
الأرنب مثلا ناسيا لا يمكن الحكم بالإعادة المستندة إلى المفهوم. وهذا بخلاف
التعدي في المنطوق، لأنه إذا لم تجب الإعادة فيما لو صلى في الجزء النجس لا تجب
أيضا في الجزء الطاهر بالأولوية، إذ لا يحتمل دخالة النجس في عدم الإعادة.
ولا خفاء في أن الكلام بلحاظ عذرة السنور أو الكلب، وأما عذرة الإنسان
فالمنع فيها للنجاسة فقط، إذ لا يحتمل دخالة كونها من أجزاء ما لا يؤكل لحمه
المنصرف عن الإنسان. والحاصل: أن المفهوم لا يدل على المقام أصلا.
وأما الثانية - أي قاعدة لا تعاد - فتدل على نفي الإعادة من أي خلل كان
عدا الخلل الناشئ من تلك الأمور الخمسة، ومن المعلوم: أن الاختلاف قد
يكون بفقد ما يعتبر وجوده كالجزء والشرط، وقد يكون بوجود ما يعتبر عدمه
كالمانع. وكل واحد منهما، قد يكون عن جهل بالموضوع أو الحكم، وقد يكون
عن نسيان بهما أو بأحدهما، وقد يكون بالعلم والعمد.
وقد مر انصرافها عن العلم والعمد، وكذا عن الجهل عن تقصير. وأما غير
ذلك من الجهل والنسيان المتعارف فمندرج تحتها، فتدل على نفي الإعادة،
فحينئذ يتم ما في " المتن " المستفاد منه ما يستفاد منها.
وقد يتوهم: عدم شمولها للاختلال الناشئ من وجود ما يعتبر فقده كالمانع،
بشهادة استثناء أمور كلها مما يعتبر وجوده للجزئية أو الشرطية. ولكنه يزاح
بصلوح عموم المستثنى منه - لحذف المتعلق - للاستدلال بها على التسوية بين ما يعتبر
وجوده فافتقد وما يعتبر عدمه فوجد كالمقام، ولا يكون المستثنى قرينة على
التخصيص أصلا، ولعله لائح.
نعم: يعارضها (موثق ابن بكير) المتقدم، لقوله صلى الله عليه وآله فيه "... لا يقبل الله
تلك الصلاة حتى يصلي في غيره مما أحل الله أكله... الخ ".
334

حيث إن ظاهره بعد بيان المانعية في الصدر هو بيان حال الصلاة المفروض
وجودها فيما لا يؤكل: من عدم القبول، فالفقرة الأولى لبيان الحكم الأولي،
والثانية لبيان الحكم الثانوي، فظاهر الأولى بيان المانعية، وظاهر الثانية بيان
حكم الصلاة في المانع، ومقتضى إطلاقها فساد تلك الصلاة المفروض وجودها فيما
لا يؤكل على أي تقدير كان من الجهل والنسيان، فتعارض قاعدة (لا تعاد).
ولكن يمكن العلاج بأن مورد هذا الموثق وإن كان خاصا بالقياس إلى
تلك القاعدة التي تعمه وغيره، ولكن مناط الجمع العرفي بتقديم الخاص على
العام ليس مما يلزم الخضوع لديه تعبدا، بل لنكتة قوة ظهوره على ظهور العام
وهي مفقودة في المقام، بل الأمر فيه بالعكس، لأن ظهور قاعدة (لا تعاد) في نفي
الإعادة بين، كما أن المنساق منها الشرح لأدلة العناوين الأولية.
وأما ظهور الفقرة الثانية من الموثق في تأسيس حكم آخر وراء ما استفيد
من الفقرة الأولى فضعيف، وذلك: للاحتمال القوي بكونها تأكيدا لما دلت عليه
الفقرة الأولى من بيان المانعية لا شئ آخر، فحينئذ لا تكافؤ تلك القاعدة، إذ
المكافئة متوقفة على ظهورها - أي هذه الفقرة الثانية - في التأسيس تاما، ومع
انقداح ذاك الاحتمال فلا ظهور لها فيه كظهور تلك القاعدة في نفي الإعادة، فيقدم
ما هو الأقوى ظهورا وهي (قاعدة لا تعاد).
مسألة 20 - الظاهر عدم الفرق بين ما يحرم أكله بالأصالة
أو بالعرض كالموطوء والجلال وإن كان لا يخلو عن اشكال.
إن الذي يحرم أكله على أقسام: الأول: أن تكون حرمته ذاتية كالأرنب
ونحوه. والثاني: أن تكون عرضية غير قابلة للزوال بعد الحدوث وإن لم تكن
335

عارضة عليه حين الوجود كالموطوء للإنسان، فإن الحرمة عارضة عليه بالوطئ
لا قبله وغير قابلة للزوال البتة. والثالث: أن تكون كذلك - أي عرضية غير قابلة
للزوال - ولكن مصحوبة له حال الوجود، نحو ولد الموطوء، بناء على التوارث
وحرمة أكل ما يتولد منه. والرابع: أن تكون حرمته العرضية قابلة للزوال
كالجلال الذي يمكن استبرائه. والخامس: أن تكون حرمته العرضية ناشئة من
الحلف أو الغصب أو نهي الوالدين، وما إلى ذلك من النظائر، من دون حدوت صفة
في ذاك الحيوان، ومن دون اتساع شعاع حرمته، بل تختص بشخص خاص
كالحالف أو نحوه. فهذه هي الوجوه المتصورة في محرم الأكل.
ثم إنه لا ريب في اندراج القسم الأول تحت ما يمنع عن الصلاة فيما لا يؤكل
لأنه المتيقن منه، وإنما الكلام في اندراج ما عداه مما تكون حرمته عرضية لا
ذاتية بحتة، وانصرافه عنه، وفي بيان ما يدل على الجواز لولا الانصراف.
والذي ينبغي أن يقال: إذ ذاك الدليل منصرف عن غير واحد من تلك
الأقسام العرضية، نعم: يحتمل اندراج الثالث فيه.
ولكن يلزم التنبه بأن المناط هو كون ظهور دليل المنع في الشمول لجميع
تلك الأقسام وعدم انصرافه عنها أقوى؟ أو كون ظهور دليل الجواز في ذلك
أقوى؟ فيقدم ما هو الأقوى ظهورا.
والذي يدل على الجواز هو ما رواه عن هاشم الحناط أنه قال: سمعت موسى بن
جعفر عليه السلام يقول: ما أكل الورق والشجر فلا بأس بأن يصلي فيه... الخ (1).
والسند معتبر على ضبط المجلسي (ره) ب‍ " هاشم " لاما في الوسائل من ضبطه
ب‍ " قاسم الخياط " كما مر.
وأما المتن: فظاهره الجواز فيما يأكل الورق والشجر كالغنم والبقر

(1) الوسائل باب 6 من أبواب لباس المصلي ح 2.
336

ونحوهما مطلقا، بلا امتياز بين الموطوء من ذلك وغيره. ومن الواضح: أن
ظهوره في الجواز أقوى من ظهور دليل المنع - على تسليم عدم انصرافه عن
الحرمة العرضية - أضف إلى ذلك: أنه على فرض الشمول لا يحكم بلزوم
الاجتناب عن الشعر الكائن عليه حال عروض الحرمة، بل الحكم منحدر نحو ما
ينبت منه بعد ذلك، إذ يبعد الحكم بأن هذا الشعر لم يكن مانعا قبيل ذلك ثم
صار مانعا. والغرض أن هذا وأشباهه موجب لضعف ظهور دليل المنع لولا
انصرافه عن الحرمة العرضية رأسا.
وما رواه عن سعد بن سعد الأشعري المتقدم مرارا (1).
وقد أشير إلى أن دلالته على المنع متوقفة على بيان مقدمة مطوية، وهي أن
عدم جواز السمور ليس لعدم جواز الانتفاع به كالميتة، فلا بد من أن يكون بلحاظ
الصلاة، كما أن سر الاستعلام هو أن المنع عن الصلاة إما لكونه من الحشرات أو
السباع أو المسوخ، وحيث إن الأول معلوم العدم والثالث أمره بيد الشارع، فلا
مجال للاستعلام، فبقي الاحتمال الثاني، فلذا استعلم عن الصيد، فلما قيل: نعم
حكم عليه السلام بالمنع من دون التفصيل بين الموطوء منه وغيره، فيدل على الجواز
مطلقا، اللهم إلا أن يقال: بعدم صلوح السمور لوطئ الإنسان حسب صغر جثته
فحينئذ يقصر عن الدلالة فيصير مؤيدا.
فتحصل: أن دليل المنع لو لم يكن منصرفا سيما عن مثل المحلوف
والمغصوب لا يكون ظهوره فيه قويا بنحو يعارض ظهور دليل الجواز، فينحصر
المنع بالحرام الذاتي.

(1) الوسائل باب 4 من أبواب لباس المصلي ح 1.
337

الخامس - أن لا يكون من الذهب للرجال. ولا يجوز لبسه
لهم في غير الصلاة أيضا.
إن المستفاد من المتن أمران: الأول - هو الحكم الوضعي، أي بطلان الصلاة
في الذهب. والثاني - هو الحكم التكليفي، أي عدم جواز لبسه في نفسه للرجال
فيهما، فيقع الكلام في مقامين:
أما المقام الأول
ففي الحكم الوضعي وهو بطلان صلاة الرجل في الذهب
قد مر (في مانعية غير المأكول) لزوم الاكتفاء في البطلان بمجرد التلطخ أيضا،
لاشتمال ما هو المهم في ذاك الباب على الروث والبول (وهو موثق ابن بكير) فهل
المقام من ذاك القبيل أو لا بد فيه من تحقق الظرفية الحقيقية بنحو الإحاطة والاشتمال
بالنسبة إلى خصوص الذهب؟ فيلزم التأمل التام في نطاق دليل الباب حتى يؤخذ
بمفاده.
والذي يستدل به للبطلان هو غير واحد من النصوص.
منها: ما رواه عن عمار بن موسى عن أبي عبد الله عليه السلام (في حديث): قال: لا يلبس
الرجل الذهب ولا يصلي فيه لأنه من لباس أهل الجنة (1).
إن المستفاد من (الفقرة الأولى) هو عدم جواز لبس الذهب للرجل تكليفا،
سواء كان حال الصلاة أو غيرها. ومن (الفقرة الثانية) هو عدم جوازه وضعا، لأن
المنسبق إلى الذهن من النهي عن الصلاة في شئ هو مانعيته عن صحتها - كما مر - لأنه

(1) الوسائل باب 30 من أبواب لباس المصلي ح 4.
338

من خواص النهي المتعلق بمركب ذي أجزاء وشرائط وموانع، إلا ما قام الشاهد
على الخلاف. ولهذا المقام خصيصة دالة على أن المراد من (الفقرة الثانية) هو المنع
الوضعي لا التكليفي، وهي دلالة (الفقرة الأول) على المنع التكليفي بالنسبة إلى
حال الصلاة أيضا - كما أشير إليه.
ثم إن مرجع الضمير المجرور ب‍ (في) في الفقرة الثانية إما الذهب وإما
الملبوس، وعلى أي تقدير: لا بد من الاشتمال الظرفي المستفاد من لفظة (في) من
دون الاكتفاء بالمعية والتلطخ، بل لا يكتفي بمثل التختم ونحوه، فإن استقر
الحكم في هذه الأمور فلدليل آخر لا لهذه (الموثقة) القاصرة عن الشمول لها بنفسها
والعارية عن قرينة التعميم - كما في غير المأكول - نعم: لو استفيد من عمومية
التعليل لكان له وجه، ولكنه أيضا خاص في اللباس. إلا أن يقال: بأن اختصاص
لباس الذهب لأهل الجنة حكمة للمنع عن الذهب مطلقا وإن لم يكن لباسا،
ولا خفاء في اعتسافه.
والذي يوجب النقاش في دلالتها على الحكم اللزومي هو تصدرها بأمر غير
لزومي، وهو ما رواه (5 باب 32) في الرجل يصلي وعليه خاتم حديد؟ قال: لا
ولا يتختم به الرجل فإنه من لباس أهل النار.
حيث إن كل واحد من هذين الحكمين غير لزومي، فلا حرمة تكليفية في
في التختم بالحديد، ولا وضعية في الصلاة متختما، فلاتحاد السياق حكما وتعليلا
يحتمل كون الحكم في الذهب أيضا غير لزومي.
ولكن يمكن المنع، بأن قيام الشاهد الخارجي على أن حكم الصدر غير
لزومي لا يدل على أن حكم الذيل كذلك، فللانفكاك مجال.
ومنها: ما رواه عن موسى بن أكيل النميري، عن أبي عبد الله عليه السلام في الحديد
إنه حلية أهل النار والذهب إنه حلية أهل الجنة، وجعل الله الذهب زينة النساء
339

فحرم على الرجال لبسه والصلاة فيه (1).
إن المستفاد من الفقرة الثانية، هو المنع التكليفي لعنوان اللبس مطلقا
حال الصلاة أو غيرها، والمنع الوضعي للصلاة في الذهب - على التقريب المتقدم -
والنقاش فيه بأن الفقرة الأولى لحكم غير لزومي مندفع بما مر.
نعم: لا اعتداد بالسند لضعفه، ولا مجال لتوهم الجبران ما لم يحرز استناد
الأصحاب إليها، وأنى يحرز ذلك؟ مع ما في الباب من الموثقة المتقدمة، ومع
ما في كلمات غير واحد منهم من التمسك بالقاعدة الناطقة بأن المنهي عنه لا يكون
مقربا، ونحو ذلك، وإن كان للنقد فيها مجال متسع. والغرض أن إحراز الاستناد
إلى هذه الرواية بعيد جدا.
ومنها: ما رواه عن جابر الجعفي قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: ليس
على النساء أذان، إلى أن قال: ويجوز أن تتختم بالذهب وتصلي فيه، وحرم ذلك
على الرجال إلا في الجهاد (2).
وظاهرها المنع تكليفا ووضعا حتى بالنسبة إلى الخاتم أيضا، فالصلاة فيه
باطلة. وقد مر عدم إمكان استفادة مثل ذلك من تينك الروايتين.
إنما الكلام في السند، حيث ادعى " ابن الغضائري " أن " جابرا " وإن
كان موثقا، إلا أن جميع من رواه عنه ضعيف، فحينئذ لا اعتداد به بعد عدم
إحراز الاستناد الجابر أيضا، فليس في الباب إلا (موثقة عمار) مع ذاك الكلام
فيها. نعم: لو تم الأمر بالنسبة إلى الحكم التكليفي لقوى ظهورها في المنع
الوضعي أيضا، أما لو لم يتم ذلك بأن كان اللبس في نفسه مكروها - كما في الحديد -
فيشكل الاستدلال بها للمنع الوضعي، فارتقب.

(1) الوسائل باب 30 من أبواب لباس المصلي ح 5.
(2) الوسائل باب 16 من أبواب لباس المصلي ح 6.
340

وأما المقام الثاني
ففي الحكم التكليفي وهو حرمة لبس الذهب والتختم به
وحيث إن في الباب طائفتين من النصوص: إحديهما للمنع والأخرى
للجواز، فيلزم النقل والجمع حتى يتجه ما هو الحق من العلاج.
فمن الطائفة الدالة على الحرمة التكليفية: ما رواه عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله لأمير المؤمنين عليه السلام: لا تختم بالذهب فإنه زينتك في الآخرة (1)
ونحوها ما رواه عن أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام (2).
وظاهرها المنع عن اللباس بالأولوية - إذا كان ظاهرا - لأن حرمة التختم
مستلزمة لحرمة اللباس كذلك، مضافا إلى امكان استفادته من التعليل. نعم:
اصطياد الحكم العام متوقف على إلقاء الخصوصية وأنه لا امتياز لعلي عليه السلام فيه، مع
ما سيأتي من الميز الملائم لإمامة المسلمين، فعلى القاطع بعدم الخصوصية أن
يستدل بها للعموم.
وفي رواية جراح المدائني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا تجعل في يدك خاتما
من ذهب (3).
وفي رواية مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد عليهما السلام إن رسول الله صلى الله عليه وآله
نهاهم عن سبع منها التختم بالذهب (4).
ولا ظهور لها في مرجع الضمير من أن المراد من هؤلاء الذين نهاهم الرسول
صلى الله عليه وآله وسلم هل الأئمة عليهم السلام لكونهم زعماء الأمة المرحومة، أو كافة المسلمين؟ فعلى
الأول: يحتاج التعميم إلى إلقاء الخصوصية.
وفي رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليها السلام قال: سألته عن
الرجل هل يصلح له الخاتم الذهب؟ قال: لا (5).

(1) الوسائل باب 30 من أبواب لباس المصلي ح 1 و 6 و 2 و 9 و 10.
(2) الوسائل باب 30 من أبواب لباس المصلي ح 1 و 6 و 2 و 9 و 10.
(3) الوسائل باب 30 من أبواب لباس المصلي ح 1 و 6 و 2 و 9 و 10.
(4) الوسائل باب 30 من أبواب لباس المصلي ح 1 و 6 و 2 و 9 و 10.
(5) الوسائل باب 30 من أبواب لباس المصلي ح 1 و 6 و 2 و 9 و 10.
341

ودلالتها على الحرمة متوقفة على إمكان استفادتها من نفي الصلاح، وإلا
فلا ظهور لقوله (لا) - أي لا يصلح - إلا في المرجوحية.
وفي رواية حنان بن سدير عن أبي عبد الله عليه السلام قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام:
إياك أن تتختم بالذهب فإنه حليتك في الجنة... الخ (1). وظهورها في المنع
غير قوي بعد لحاظ السياق، كما أن استفادة العموم منها متوقفة على إلقاء الخصوصية.
إلى غير ذلك مما يعثر عليه المتتبع، لتظافره واستفاضته.
ومن الطائفة الدالة على الجواز: ما رواه جعفر بن محمد الأشعري، عن ابن
القداح، عن أبي عبد الله عليه السلام إن النبي صلى الله عليه وآله تختم في يساره بخاتم من ذهب ثم
خرج على الناس، فطفق ينظرون إليه، فوضع يده اليمنى على خنصره اليسرى
حتى رجع إلى البيت، فرمى به فما لبسه (2).
حيث إن ظاهرها الجواز، وإلا لما لبسه. وأما سر نظرهم إليه: فلعله
كان معجبا في زمن الفقر العام والمعيشة الهالكة، لا أنه للحرمة والمنع - وهو واضح -
إذ مدار المنع والجواز هو ما استفيد منه صلى الله عليه وآله وسلم وهذا أوان التشريع والتقنين،
فمن أين علموا بالمنع حتى ينظروا إليه نظر الاعجاب؟ كما أن حمله على
النسخ بعيد، لعدم تعرضه في شئ من موارد تعديد المنسوخات، ولإبائه ذلك،
لأن ظاهره الترك بمجرد الرجوع إلى البيت. واحتمال اختصاص الجواز بالنبي
صلى الله عليه وآله لزعامته الدينية آت فيما دل على المنع من توجهه إلى علي عليه السلام حيث
إنه يحتمل اختصاص المنع به عليه السلام فكيف يمكن التعدي عن الزعيم الديني إلى
غيره في الجواز أو المنع.
ومنها: ما رواه عن الحلبي، عن الصادق عليه السلام قال: قال علي عليه السلام: نهاني
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا أقول: نهاكم عن التختم بالذهب... الخ (3).

(1) الوسائل باب 30 من أبواب لباس المصلي ح 11 و 3 و 7.
(2) الوسائل باب 30 من أبواب لباس المصلي ح 11 و 3 و 7.
(3) الوسائل باب 30 من أبواب لباس المصلي ح 11 و 3 و 7.
342

إذ لو كان المنع عاما لما قال عليه السلام " ولا أقول نهاكم " فيكشف عما احتملناه
سابقا: من اختصاص المنع به عليه السلام.
ولكن الانصاف: قصور مثل هذا التعبير عن إفادة عدم النهي، وأقصاه التأييد،
لا الدلالة.
ومنها: ما رواه عن ابن عازب قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن سبع وأمر
بسبع، نهانا أن نتختم بالذهب وعن الشرب في آنية الذهب والفضة... وأمرنا
باتباع الجنائز وعيادة المريض وتسميت العاطس ونصرة المظلوم وإفشاء السلام
وإجابة الداعي وإبرار القسم (1).
حيث إن الحكم في غير واحد من تلك الأمور ليس بلزومي، فمن أين
يكون النهي تحريميا؟
والحاصل: أن انضمام مثل هذه الرواية إلى الرواية الأولى يتم الأمر
(وهو الجواز) فيعارض ما تقدم من أدلة المنع.
وقد يعالج بتقدم تلك الأدلة المانعة لاعراض الأصحاب عن دليل الجواز،
ولذا ادعى الاجماع على المنع.
وفيه: أنه لا اعتداد بالاجماع بعد ما في الباب من النصوص، لبعد احتمال
نيلهم إلى نص خاص غير ما بأيدينا، كما أنه لا مجال للاعتماد على عملهم ما لم
يحرز الاعراض عن أدلة الجواز، إذ يحتمل كونه لترجيح تلك الطائفة المانعة
استنباطا. ومن المعلوم: أن كيفية اجتهادهم غير حجة على من غيرهم.
وقد يعالج بحمل طائفة المنع على الكراهة - كما لا يبعد - فعند ضعف
دليل الحرمة يشكل الحكم بالمنع الوضعي أيضا، لما تقدم: من تصدره بحكم
(الحديد) المحمول على الكراهة، فلو حمل الحكم التكليفي الوارد في الذهب

(1) الوسائل باب 30 من أبواب لباس المصلي ح 8.
343

أيضا عليها لما تم ظهور ما ورد في الحكم الوضعي في المنع، إذ السياق واحد
والتعبير فارد.
ولكن الانصاف: لزوم الأخذ بالمنع، لأن في سند الجواز من لم يوثق
- كالأشعري - إلا بالتشبث بكثرة روايته. وكذا سند ما رواه الحلبي عن أبي
عبد الله عليه السلام، فالرجحان للمنع، بما سنشير.
ثم إنه بناء على رجحان المنع التكليفي على الجواز المعرض عن دليله
- أو لأن العمدة فيه هو خبر " جعفر بن محمد الأشعري " المتقدم وهو لم يوثق تاما -
قد يفصل في بطلان الصلاة بين كون الساتر ذهبا وكون غيره ذهبا، باختصاص
البطلان بالأول دون الثاني، لأن الستر شرط للعبادة فلا يكفيه الحرام فلا بد من
أن يكون حلالا، بخلاف غيره مما لا يكون شرطا، كسائر الألبسة.
وفيه: أنه على فرض الحرمة متوقف على مقدمتين كلتاهما ممنوعتان.
الأولى: أن يكون وزان الشرط هو وزان الجزء، فكما أن جزء المركب
العبادي عبادة كذلك شرطه. والثانية: أن يمتنع اجتماع الأمر والنهي في شئ
واحد، فحينئذ يصير الستر ك‍ (لا ستر) ومعه تبطل الصلاة لفقدها بعض الشرائط
ولكن كل واحدة منهما ممنوعة.
أما الأولى: فلأن المستفاد من الأمر العبادي المنحدر نحو المركب ليس
أزيد من عبادية أجزاءه، وأما الشرائط فلا، ولذا تصح صلاة من صلى مستقبلا إلى
القبلة بلا توجه بذلك أصلا، أو غسل ثوبه النجس بماء مغصوب، وما إلى ذلك
من النظائر، فالشرط من حيث هو شرط ليس بأمر عبادي. نعم: قد يجعل
الأمر العبادي مقدمة وشرطا لأمر آخر - كالوضوء أو الطهارة للصلاة - إذ الشرط
هنا إما الغسلتان والمسحتان بقصد القربة، أو الطهارة التي لا تحصل إلا بقصدها
- أي القربة - وعلى أي حال: قد جعل الأمر العبادي شرطا للصلاة، لا أن
الشرطية قد اقتضت العبادية.
344

وأما الثانية: فلأن الحق هو كفاية تعدد العنوان في تحمل الأمر والنهي،
فيجوز الجمع بينهما، لما في محله.
وأنت خبير بأن هذا التفصيل مبتن على عدم تمامية المنع الوضعي، وإلا
لما اختص بالساتر ولما خرج ما ليس بساتر فعلا أو شأنا، كالخاتم ونحوه مما
لا صلوح له للستر.
بقي الأمر في أن مدار الحرمة التكليفية هل هو صدق لبس الذهب؟
حتى لا ينطبق على نحو الخاتم وما يشد به السن وغير ذلك من الأشباه، أو التزين؟
حتى لا ينطبق على ما لا يكون مرئيا كالمستور تحت اللباس، أو هما معا؟
فعلى الأولين: لا يكون مورد الافتراق مشمولا للمنع، إذ على الأول
لا حرمة فيما لا يكون لبسا وإن كان زينة، وعلى الثاني لا حرمة فيما لا يكون
زينة وإن كان لبسا.
وأما على الأخير: فيحرم الجميع، وسيوافيك تحقيقه في ثنايا المقال.
ولا فرق بين أن يكون خالصا أو ممزوجا، بل الأقوى
اجتناب الملحم به والمذهب بالتمويه والطلى إذا صدق عليه
لبس الذهب.
لو تم دليل المنع الوضعي كما عليه " الماتن ره " للزم الاقتصار بقدر نطاقه،
ومن المعلوم: أن المنساق من لبس الذهب لبس ما هو المعمول منه خالصا، فلا
بطلان في الممزوج فضلا عن غيره.
إلا أن الحق هو التعدي عن الخالص، لنكتة نشير إليها - وهي قلة التعارف
345

بل فقده - إذ لا يعمل من الذهب الخالص بلا امتزاج غيره معه لباس، اللهم إلا
في مثل الدرع والبيضة.
نعم: لا يكون الممزوج بعزيز فلا اختصاص بالخالص، ولكن لا بد من صدق
الصلاة فيه، إذ الممتزج على أقسام:
منها: ما يتولد من المزج عنوان ثالث لا ينطبق عليه أحد المزيجين، نظير
تولد الحيوان الثالث من الحيوانين لا يصدق عليه اسم أحد منهما.
ومنها: ما يصدق عليه الذهب فقط، لغلبته وكثرته.
ومنها: ما يصدق عليه المزيج الآخر فقط، لذلك.
ومنها: ما يصدق عليه كلا العنوانين.
فعلى الأول والثالث: لا سند للبطلان إذ لا تصدق الصلاة في الذهب، دون
الثاني والرابع لصدقها فيه.
وحيث إنه ليس في الباب ما يشهد للتعميم الشامل لمثل التلطخ ونحوه،
كما في غير المأكول، لشهادة قوله " الروث والبول... الخ " في موثق
" ابن بكير " على ذلك، فلا بد من الاقتصار على ما يصدق هناك الظرفية الحقيقية.
ومن هنا يتضح حكم الملحم - أي الثوب الذي لحمته الذهب - من دوران
البطلان مدار صدق الصلاة فيه. وأما سر اختصاصه بالذكر دون ما كان سداه
ذهبا، فلعله لأن اللحمة هي الخيوط الواقعة عرضا فوق الخيوط الواقعة طولا
المسماة بالسدي حفظا للزينة المناسبة للظهور، وعند جعله سدى يصير مخفيا
باللحمة فلا يحصل الغرض النوعي وهي الزينة. كما أن من المحتمل أن السر
هو رد ما أفتى به بعض الأصحاب تصريحا بجواز الملحم.
وأما المذهب: فقد يكون بنحو التمويه الذي لا يبقى من الجرم والعين
إلا الأثر من اللون، وقد يكون بنحو الطلي المصحوب للجرم والعين، فعلى
346

الأول: لا تصدق (الصلاة في الذهب)، كما لا تصدق (الصلاة في السواد) عند لبس
الثوب الأسود، وعلى الثاني: تصدق وتبطل.
والحاصل: أن في الباب طوائف من النصوص، منها: ما يدل على الحرمة
التكليفية فقط، ومنها: ما يدل على المنع الوضعي كذلك، ومنها: ما يدل على
المنعين معا.
قد مرت الطائفة الثالثة (في المقام الأول الباحث عن الحكم الوضعي) واتضح
هناك تمامية نصاب دلالتها على البطلان في خصوص ما صدقت الصلاة في الذهب بأن
يكون ملبوسا، وإن نوقش فيه باقترانه بالمنع عن الحديد المحمول على التنزيه
ولكن أجيب بأن ظاهر الأمر هو البعث - أي أمر كان - وظاهر المنع والنهي هو
الزجر - أي نهي كان - فما لم يقم شاهد على ترخيص الترك في الأول والفعل في
الثاني يستفاد منه الوجوب والحرمة، ولا مساس لما قام الشاهد فيه على ما لم يقم،
إذ ليس للسياق الواحد شأن به يرفع اليد عن ظاهر اللفظ ما لم يقم الشاهد على
الصرف. كما أنه نوقش في تمامية دلالتها على المنع الوضعي تارة أخرى بصحابته
للمنع التكليفي في فقرة واحدة، مع أن في الباب ما يدل على الجواز، فلا استقرار
لظهورها في المنع التكليفي ومعه لا ينعقد ظهورها في المنع الوضعي أيضا لكونهما
معا مما أفيد بجملة واحدة، ولكن قد أشير إلى جوابه سابقا: بأن الطائفة الدالة
على المنع التكليفي فقط تامة لا مرية فيها لتظافرها واعتضاد بعضها ببعض المرتفع
به محذور ضعف سند بعضها في الجملة.
وأما الطائفة الدالة على الجواز التكليفي: فضعيفة السند، لأن عمدتها هو
رواية " ابن القداح " الموهون ب‍ " الأشعري " الذي لم يوثق إلا بالاحتيال إلى كونه
ممن يكثر الرواية، وكذا رواية " الحلبي " الموهون ب‍ " حمزة بن محمد العلوي " الذي
لم يوثق إلا بذلك، فهذا مما يوجب الحدس القوي بأن سر إطباق الأصحاب على المنع
347

التكليفي هو الاعراض السندي عن الطائفة الدالة على الجواز، فيتم نصاب حجية
الطائفة الدالة على المنع التكليفي بلا معارض، كما أنه قد تم نصاب حجية الطائفة
الدالة على المنع الوضعي المشتملة على المنع التكليفي أيضا.
فحينئذ يحكم بحرمة لبس الذهب للرجل وببطلان صلاته فيه إذا صدق
اللبس، لأن المأخوذ في لسان دليل المنع الوضعي هو الظرفية المتوقفة على صدق
اللبس، فعند عدم صدق اللبس بالظرفية الحقيقية لا دليل على البطلان أصلا.
وأما الحرمة التكليفية فيما لم يصدق اللبس - كالخاتم ونحوه - فيمكن
إثباتها بالطائفة الكافلة للمنع التكليفي فقط من دون أخذ عنوان اللبس فيها،
فالصلاة في الخاتم الذهب ونحوه مما لا يصدق اللبس صحيحة، إذ لأمنع وضعي مع
عدم اقتضاء المنع التكليفي عنه للبطلان.
ولا فرق بين ما تتم فيه الصلاة وما لا تتم - كالخاتم والزر
ونحوهما.
قد تبين لك أن مدار الحرمة التكليفية أوسع من مدار الحرمة الوضعية،
لانحصار الأخيرة فيما يصدق اللبس مع اتساع الأولى فيما يعم غيره أيضا، فحينئذ
تعميم البطلان بنحو يشمل ما لا تتم فيه الصلاة متوقف على عدم التعدي عن عنوان
(اللبس) فما لم يتعد عنه - كالتكة والقلنسوة والجورب والمنطقة والزر المتصل
بالثوب خيطا أو نسجا أو نحو ذلك - يندرج في عموم المنع الوضعي مع غمض النظر
عن دليل الاستثناء. وأما ما تعدى عنه - كالخاتم والزر المنفصل الذي بمنزلة
المحمول وما إلى ذلك من النظائر - فلا يندرج تحت دليل المنع الوضعي أصلا
حتى يحتاج إلى الاستثناء.
348

هذا بلحاظ ما يقتضيه عموم ما في الباب، ولكن يلزم تخصيصه بما رواه عن
الحلبي، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كل ما لا تجوز الصلاة فيه وحده فلا بأس بالصلاة
فيه مثل التكة الإبريسم والقلنسوة والخف والزنار يكون في السراويل ويصلي
فيه (1).
لا إشكال في السند ب‍ " أحمد بن هلال العبر تائي " المقدوح أشد القدح، لأن
نوادر " ابن أبي عمير " ككتاب " ابن محبوب " مما سمعه جل أصحاب الحديث كما
ادعى، فلا اعتداد بضعف الناقل بعد وضوح المنقول منه كالشمس في رائعة النهار
وسيوافيك تمام القول في تصحيحه عند البحث عما لا تتم الصلاة فيه من الحرير
فارتقب.
وأما المتن: فظاهره النظر إلى أدلة الموانع الأولية - كالنجاسة والحرير
والميتة والذهب وما إلى ذلك - وإن أمكن تخصيص هذا العموم أيضا بما ورد
في خصوص بعض أفراده.
فظاهره رفع المنع الوضعي عما لا تتم فيه الصلاة وحده - أي مانع كان -
ومنه المقام، فيلزم التفصيل بين ما تتم وغيره، فالتسوية بينهما كما ارتكبها
" الماتن ره " خالية عن السداد.
فعليه لا اشكال في صحة الصلاة مع الخاتم، إما لعدم صدق اللبس والصلاة
فيه - كما هو الحق - أو لخروج ذلك عن العموم بخبر " الحلبي " على فرض
الاندراج.
لا يقال: إن الخاتم بخصوصه مما نهي عنه في غير واحد من النصوص المارة
فمعه يلزم تخصيص عموم خبر " الحلبي " بذلك، لأنه يقال: يلزم العلاج بنحو آخر
وهو أن النهي عن الخاتم لعله للزينة لا من باب اللبس، ولا منافاة بين عدم اندراجه

(1) الوسائل باب 14 من أبواب لباس المصلي ح 2.
349

تحت المنع عن لبس الذهب وبين اندراجه تحت المنع عن الزينة به، وكم فرق
بينهما! ولا يبعد أن المحرم عنوانان: أحدهما - اللبس، زينة كان أو لا. والآخر -
الزينة، لبسا كان أو لا.
فحينئذ يلزم التفصيل في بطلان الصلاة بين اللبس والزينة، فمن حيث الزينة
وإن كان الاستعمال حراما تكليفا إلا أنه لامساس له بالبطلان أصلا، ومن حيث
اللبس وإن كان له مساس به إلا أنه في خصوص ما تتم فيه الصلاة دون ما لا تتم، فمن
استعمل الذهب لبسا بلا صدق الزينة فقد أثم، ومن استعمله زينة بلا صدق اللبس
فقد أثم أيضا، ومن استعمله لبسا مع صدق الزينة فقد أثم إثمين. وأما البطلان
ففي خصوص لبس ما تتم فيه الصلاة. ولهذه النكتة - أي حرمة الزينة بالعنوان
المستقل - يلزم النظر المستأنف في الطائفة الدالة على المنع.
إن المستفاد من قوله صلى الله عليه وآله: " لا تختم بالذهب فإنه زينتك في الآخرة " (1) هو
كون الذهب لأنه زينة في الآخرة يلزم الاجتناب عنه في الدنيا زينة، وحيث إن
الخاتم إنما يتختم به للزينة فالنهي عنه معللا بذلك دال على اتساع الحكم في غيره
فأي شئ من الذهب استعمله الرجل زينة يكون حراما عليه ما دام يصدق عليه
أنه زينة - كما إذا كان بارزا - وأما المستور: فلا.
وكذا المستفاد من قوله صلى الله عليه وآله في روايتي أبي الجارود وحنان بن سدير عن
الصادقين عليهما السلام (2)، إذ لا اختصاص للخاتم بذلك، لعموم التعليل.
ومما يؤيد حرمة التزين بالذهب على الرجال، هو ما رواه عن أبي الصباح
قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الذهب يحلى به الصبيان؟ فقال: كان علي عليه السلام يحلي
ولده ونساءه بالذهب والفضة (3)، ونحوه ما رواه عن داود بن سرحان عن أبي
عبد الله عليه السلام (4).

(1) الوسائل باب 30 من أبواب لباس المصلي ح 1 و 6 - 11.
(2) الوسائل باب 30 من أبواب لباس المصلي ح 1 و 6 - 11.
(3) الوسائل باب 63 من أبواب أحكام الملابس ح 1 و 2.
(4) الوسائل باب 63 من أبواب أحكام الملابس ح 1 و 2.
350

حيث إن المرتكز في ذهن السائل هو مفروغية المنع والحرمة بالنسبة إلى
الرجال، فلا يجوز لهم التحلي بالذهب، فلذا سأل عن حكم خصوص الصبيان،
وأجيب بالجواز لهم وللنساء.
وكذا ما رواه عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن حلية النساء
بالذهب والفضة؟ فقال: لا بأس (1).
إذ اختصاص السؤال بحلية النساء بالذهب كاشف عن استقرار حكم الرجل
من المنع في ذهن السائل.
وأما ما رواه عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن الرجل يحلي
أهله بالذهب؟ قال: نعم، النساء والجواري، فأما الغلمان فلا (2).
فظاهره المنع بالنسبة إلى الغلمان، فأما المراد منهم الصبيان أو البالغون،
فعلى الأول: يحمل المنع على الكراهة، وعلى الثاني: على الحرمة. ولكن الظاهر
هو (الثاني) إذ لو كان المراد هو الصبيان وكان تحليتهم مكروهة لما استمر دأب
المعصوم عليه السلام عليه، مع ظهور الروايتين السابقتين في استمرار دأب علي عليه السلام وكذا
أبي جعفر عليه السلام على ذلك، فالمراد هو خصوص البالغ فيدل على حرمة تحليته،
ويفهم منه أن ذاك البالغ أيضا لو أراد أن يحلي هو نفسه بالذهب لحرم عليه، إلى
غير ذلك مما يعثر عليه المتتبع.
فتحصل: أن استعمال الذهب زينة حرام مستقل، كما أن استعماله لبسا
كذلك، بلا فرق في ذلك بين ما تتم وما لا تتم. نعم: يختص البطلان بصورة لبس
ما تتم الصلاة فيه من الذهب.

(1) الوسائل باب 63 من أبواب أحكام الملابس ح 3 و 5.
(2) الوسائل باب 63 من أبواب أحكام الملابس ح 3 و 5.
351

نعم: لا بأس بالمحمول منه مسكوكا أو غيره، كما لا بأس
بشد الأسنان به.
إن تنقيح ما في المتن رهين أمرين: أحدهما في الحمل، والآخر في الشد.
فأما الأول: فالحق فيه الجواز تكليفا ووضعا، لأن المنع التكليفي كان
دائرا مدار اللبس أو التزين، وحيث إنه لا يصدق شئ منهما على الحمل فلا حرمة
فيه أصلا، إذ لا يقال عرفا - فيمن حمل دينارا مسكوكا مثلا - أنه لبسه أو تزين
به، وهكذا ما إذا جعل الخاتم في جيبه، ويؤيده استمرار السيرة على حمل النفقة
في الهميان في الحج وغيره من الأسفار، مع كون الغالب من النفقة في تلك الأعصار
هو الدينار ونحوه. ومن هنا يتضح انتفاء المنع الوضعي جدا، لأن دائرته أضيق
من دائرة المنع التكليفي، لاختصاصه بصورة اللبس، وتعميم ذاك بصورة التزين
وإن لم يصدق اللبس.
ويمكن الاعتضاد في الجملة ببعض ما ورد في جواز تحلية السيف والمصحف
بالذهب - كما يأتي - إذ لا ريب في صدق الحمل عند الصحابة، فانتظر. وكذا
ما ورد في جواز شد الأسنان في الجملة.
والحاصل: أن المقام لفقده ما يوجب التعدي عن الظرفية الخاصة باللبس
إلى ما يعم الاصطحاب والحمل أيضا باق على الحكم الأولي: من الجواز تكليفا
ووضعا.
وأما الثاني: فيقع الكلام فيه تارة من جهة القاعدة، وأخرى من جهة
النص الخاص.
أما القاعدة: فمقتضاها المنع عن شد السن أو تشبيكه بالذهب تزينا،
352

إذ المستفاد من تلك النصوص المارة هو استقلال التزين في الموضوعية للحرمة
وإن لم يصدق اللبس - كالفرض - لأن العرف آب عن اطلاق اللبس عليه حقيقة،
وأما الأعم منها ومن المجاز فلا دليل على حرمته في المقام.
فحينئذ يلزم التفصيل بين شد الطواحن ونحوها مما لا يرى وبين الثنايا
ونحوها مما يرى، لصدق الزينة على الثاني دون الأول، وكذا التفصيل بين
انحصار العلاج في الذهب وبين عدم انحصاره فيه، حيث إنه يجوز على الأول
دون الثاني، لقيام الأدلة المجوزة للحرام حال الضرورة.
هذا بلحاظ التكليف. وأما الوضع فقد أشير إلى الجواز بحسبه مطلقا،
لدوران المنع الوضعي مدار خصوص اللبس المنتفي في الشد ونحوه.
وأما النص الخاص: فمنه ما رواه عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام
(في حديث) إن أسنانه استرخت فشدها بالذهب (1) وأورد صدره في (3 باب
49 من أبواب آداب الحمام) قال: رأيت أبا جعفر عليه السلام يمضغ علكا فقال: يا محمد
نقضت الوسمة أضراسي فمضغت هذا العلك لأشدها، قال: وكانت استرخت فشدها
بالذهب.
لا إشكال في السند. وأما المتن: ففي الاستدلال به تأمل، إذ ليس مفاده
إلا حكاية الفعل الخارجي، ولا إطلاق له من حيث السن المسترخي، هل هو
من الأسنان البادية (كالثنية) أو الخفية (كالطاحن) وهل العلاج كان منحصرا أم لا؟
مع أنه يمكن الاستئناس بكونه من الأضراس الخفية بقرينة المضغ الخاص بها، حيث
إنه يلائم أن يكون لشد ما استرخى من الخفايا، وإن كان في شهادته نظر.
أضف إلى ذلك: عدم اتضاح كيفية الشد في ذاك العصر، هل كان بنحو
التشبيك أو غيره؟

(1) الوسائل باب 31 من أبواب لباس المصلي ح 1.
353

والحاصل: عدم امكان الاستدلال بها للجواز، لهذه الجهات.
ومن ذلك النص: هو ما رواه عن الطبرسي (في مكارم الأخلاق) عن الحلبي،
عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن الثنية تنفصم أيصلح أن تشبك بالذهب وإن
سقطت يجعل مكانها ثنية شاة؟ قال: نعم إن شاء فليضع مكانها ثنية شاة ليشدها
بعد أن تكون ذكية (1).
لا ريب في ارسال السند للفصل بين " الطبرسي " وبين " الحلبي " مع عدم
اتضاح سنده إليه.
وأما المتن: فظاهره الجواز مطلقا، إذ السؤال إنما هو بالنسبة إلى الثنية
بلا تقيد بانحصار العلاج، والجواب مطلق بلا استفصال، فلو جاز في الثنية لجاز
في الطاحن البتة، كما أنه يجوز اختيارا مع عدم انحصار العلاج أيضا، ولكن
في التشبيك.
وأما التقييد ب‍ (الذكاة) في وضع ثنية الشاة مكان السن، فلأن السن من
حيث إنه سن لا روح له وإن جاز وضعه ولو كان من الميت، إلا أنه لصحابة
الأجزاء اللحمية قيد بالذكاة، فالمتن تام.
ولكن لا يمكن الاستدلال به، لضعف السند، واحتمال الجبران بعمل
الأصحاب غير منقدح بعد امكان استناد الجواز عند الأصحاب إلى القاعدة المارة.
ومن ذلك: ما رواه عن الطبرسي، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله عليه السلام
قال: سألته عن الرجل ينفصم سنه أيصلح له أن يشدها بالذهب؟ وإن سقطت
أيصلح أن يجعل مكانها سن شاة؟ قال: نعم إن شاء ليشدها بعد أن تكون ذكية (2).
والكلام فيه: من إرسال السند كسابقه، ومن ظهور المتن في الجواز أيضا
نحوه. كما أن المقال فيه من عدم إمكان الاستدلال أيضا نظير ذلك، فلا نطيل.
ومن ذلك ما رواه عن زرارة وعن الحلبي (3) لدلالتهما على جواز وضع

(1) الوسائل باب 31 من أبواب لباس المصلي ح 2 و 3 و 4 و 5.
(2) الوسائل باب 31 من أبواب لباس المصلي ح 2 و 3 و 4 و 5.
(3) الوسائل باب 31 من أبواب لباس المصلي ح 2 و 3 و 4 و 5.
354

سن انسان ميت مكان السن للحي، وكذا وضع سن شاة، بلا مساس لذلك بالذهب
والشد به أصلا، لعدم التعرض له.
وتقريب الاستدلال: بأن الوضع يحتاج لا محالة إلى الشد، وحيث إن
الغلبة الخارجية كانت بشدة بالذهب، فيستفاد من التلازم الخارجي جواز ذلك.
ولكنه غير نقي عن غبار الاعتساف.
فتحصل: أن النصوص الخاصة على طائفتين: إحديهما - قاصرة المتن
وإن كانت تامة السند، والأخرى - بالعكس. فلا محيد عن القاعدة المفصلة بين
الزينة وعدمها، وبين إمكان العلاج بغير الذهب وعدمه، بالمنع في أول شقي كل
منهما.
بل الأقوى أنه لا بأس بالصلاة فيما جاز فعله فيه من السلاح
كالسيف والخنجر ونحوهما وإن أطلق عليهما اسم اللبس، لكن
الأحوط اجتنابه. وأما النساء فلا اشكال في جواز لبسهن
وصلاتهن فيه.
أما جواز تذهيب السيف ونحوه وتحليته بالذهب تكليفا فواضح فيما لامساس
له بأحد عنواني اللبس والزينة - كما إذا لم يكن متقلدا به ولا هو في يده بل كان
مذخورا في البيت زينة له لا زينة للرجل - إذ المحرم هو تزين الرجل به، وأما
ما عدا ذلك، فلا، ضرورة. وكذا إذا كان في يده مع عدم صدق اللبس والزينة
- بأن كانت قبضته محلاة بالذهب وفرض استتارها بالكف - إذ لا زينة هناك
كما لا لبس فيه.
355

وإنما الكلام في جواز ذلك مع صدق أحد العنوانين. والذي يدل عليه
هو ما رواه عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ليس بتحلية السيف
بأس بالذهب والفضة (1).
وما رواه عن داود بن سرحان، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ليس بتحلية المصاحف
والسيوف بالذهب والفضة بأس (2).
لا إشكال في السند. وكذا المتن، لظهوره في الترخيص مطلقا، سواء كانت
التحلية بتذهيب قبضة السيف أو غيرها من حدوده وأطرافه ونحوه ذلك، وسواء كان
الرجل متقلدا بذاك السيف أو المصحف أم لا. فعلى تقدير التقليد بنحو البارز منه
تصدق الزينة، وأما إذا كان السيف في غمده والمصحف في غلافه، فلا.
وأما اللبس: فعلى تعميمه شامل لمثل الفرض، وأما على ما قويناه: من
بقاءه على الصدق المتعارف بلا دليل على التوسعة، فلا. وعلى أي حال: يمكن
التجويز، للنص الخاص.
وأما الجواز الوضعي: فيمكن اثباته بطرق: منها - ما اخترناه من دوران
المنع الوضعي مدار خصوص اللبس وجودا وعدما، فما لا لبس حقيقي هنا لا بطلان فيه.
ومنها - اتحاد التكليف والوضع في الوجود والعدم للتلازم، فعند انتفاء
أحدهما ينتفي الآخر، وحيث إن المنع التكليفي منتف في المقام فليكن المنع
الوضعي كذلك.
ومنها - إطلاق هذا النص الخاص الشامل لحالة الصلاة أيضا، فبهذا الظهور
اللفظي يحكم بانتفاء المنع الوضعي، لا بالتشبث بالتلازم ونحوه.
وأما الجواز للنساء تكليفا ووضعا: فلتصريح النصوص المارة بالتفصيل
في الحكم بينها وبين الرجال، فلا كلام فيه.

(1) الوسائل باب 64 من أبواب أحكام الملابس ح 1 و 3.
(2) الوسائل باب 64 من أبواب أحكام الملابس ح 1 و 3.
356

وأما الصبي المميز فلا يحرم عليه لبسه، ولكن الأحوط
له عدم الصلاة فيه.
لا إشكال في الجواز وانتفاء الحرمة التكليفية بالنسبة إلى الصبي المميز
فضلا عن غيره، فيجوز له اللبس وكذا التزين، إذ لا تكليف عليه. وأما أنه
يجب على الولي منعه أو لا ولكن يحرم عليه التمكين والتسبيب، فقد مر في بحث
حرمة أكل النجس من حيث إطعامه إياه. وللمقام خصيصة وهي دلالة بعض
نصوص أبواب الملابس على جواز تحلية الصبي - كالنساء - بالذهب، فيجوز التمكين
والتسبيب في التحلي بالذهب.
إنما الكلام في الجواز الوضعي - فعلى تمرينية عبادة الصبي لا ريب في انتفاء
المنع، إذ لا أثر صحة عليها حينئذ حتى تشترط بشئ أو يمنعها شئ. وأما على
شرعية عبادته فحيث إنها منشأ غير واحد من الآثار الشرعية - كجواز استيجاره
لقضاء صلاة الميت، وكالاكتفاء بما أتى في الوقت قبل البلوغ ثم بلغ بعده مع بقاء
الوقت المضروب للعمل، ونحو ذلك من اللوازم - فلا بد من اشتراطها بشئ في
الجملة، لأن البحث عن التمرينية والشرعية بعد الفراغ عن وجدانها جميع ما
يعتبر في الصحة.
وأقصى ما يستدل به لاعتبار ما يعتبر في عبادة البالغين في عبادته أمران:
الأول: من باب أن الأمر بالأمر بشئ أمر بذلك الشئ، ولما أمر الشارع
الولي بأمر الصبي بالصلاة فكان الشارع نفسه أمره بها، وحيث إن الأمر بشئ
كان له أحكام خاصة منساق إلى انحفاظها فيه أيضا - فلذلك يحكم باعتبار جميع
ما يعتبر في صحة الصلاة الواجبة في المستحبة منها للانسباق المذكور - يلزم
357

اعتبار جميع ما يعتبر في صحة صلاة البالغ في صحة صلاة الصبي، حسب التبادر.
الثاني: من باب شمول دليل الاعتبار نفسه للبالغ والصبي على السواء، فما
دل على اعتبار وجود شئ أو عدمه في صحة الصلاة شامل لهما بلا ميز، كشمول
دليل أصل التكليف، ولكن قام حديث (رفع القلم) لبيان انتفاء خصوص التكليف،
وأما سائر الأحكام والآثار، فلا، ولذا أمكن الحكم ببقاء التكليف لولا رفع
قلم الكلفة عن الصبي. نعم: لا احتياج إلى حديث الرفع بالنسبة إلى غير المميز
منه، لانصراف الدليل الأولي عنه.
ومن هنا يحكم في المعاملات بضمان الصبي المتلف لمال الغير مع انتفاء
حرمة الاتلاف تكليفا عنه، فيمكن الميز. وهذا التقريب هو المهم في الباب،
دون الأول المنظور فيه في محله.
فحينئذ يكون دليل المنع الوضعي باقيا بحاله. لا يقال: إن المأخوذ في
لسانه عنوان (الرجل) القاصر عن الشمول للصبي، لأنه يقال: بأن التقابل بين
النساء والرجال دال على أن المراد من الرجل من لم يكن امرأة فيشمل الصبي
المميز.
وحيث إنه غير خال عن الاعتياص والغموضة احتاط " الماتن ره " بالنسبة
إلى المنع الوضعي، مع تقوية الجواز التكليفي قطعا.
مسألة 21 - لا بأس بالمشكوك كونه ذهبا في الصلاة
وغيرها.
قد مر استيفاء الكلام في اللباس المشكوك كونه من غير المأكول، وثبت
هنا انتفاء المنع الوضعي بطرق:
358

منها: كل شئ لك حلال... الخ بناء على شموله للحلية الوضعية، كما
هو الحق.
ومنها: أصالة عدم جعل المانعية قبل الشرع لهذا المشكوك.
ومنها: البراءة عن القيد الزائد في الشك في الأقل والأكثر الارتباطي.
وما إلى ذلك حرفا بحرف، إلا فيما يختص بكل واحد من البابين بالشذوذ، لأن
وزان الذهب من حيث المانعية وزان غير المأكول فيها.
وأما المنع التكليفي: فمنتف بأصالة الحل ونحوها أيضا، لأن الشك في
الحرمة وإن كان لشبهة موضوعية، فهو مجرى للبراءة النافية للحرمة ظاهرا،
والتفصيل قد تقدم.
مسألة 22 - إذا صلى في الذهب جاهلا أو ناسيا فالظاهر
صحتها.
قد أشير سالفا إلى انقسام الجهل إلى الجهل بالموضوع وبالحكم وكذلك
النسيان، وإلى انقسامه - أي الجهل - أيضا إلى البسيط والمركب، وإلى القصور
والتقصير. وقد تقدم أحكام ذلك كله مشروحا، واخترنا: عدم لزوم الإعادة في
جميع ذلك، لشمول قاعدة (لا تعاد) إذ لا اختصاص لها بالأمور الوجودية - كالجزء
والشرط - بل تجري في العدمية أيضا - كالمانع - نعم: تكون منصرفة عن الجهل
البسيط - أي الشاك مع التمكن لرفع شكه - وإلا لزم عدم صيانة جعل الأحكام
عن اللغوية.
وأما الجاهل المركب جهله: فهو معذور من حيث عدم الإعادة وإن قصر
في المبادئ عند تحصيل القطع بالحكم.
359

مسألة 23 - لا بأس بكون قاب الساعة من الذهب، إذ
لا يصدق عليه الآنية، ولا بأس باستصحابها أيضا في الصلاة إذا
كان في جيبه حيث إنه يعد من المحمول. نعم إذا كان زنجير
الساعة من الذهب وعلقه على رقبته أو وضعه في جيبه لكن
علق رأسه الزنجير يحرم، لأنه تزيين بالذهب. ولا تصح الصلاة
فيه أيضا.
إن من المفروغ عنه في موطنه الميز بين (الآنية) وبين (الوعاء) الذي هو
ما يستقر فيه الشئ، ومدار الحرمة هو الأول لا الثاني، لأنه المأخوذ في لسان
الدليل، لا (الوعاء) وليس في الفارسية ما يرادف (الآنية) يتضح معناها بذلك،
فحيث إن مطلق ما يستقر فيه الشئ لا يعد (آنية) فلا محذور حينئذ في قاب
الساعة ونحوه مما يأبى العرف عن اطلاق الظرف عليه فضلا عن (الآنية) فعلى
فرض دوران الحرمة مدار الظرف يكون مثل (ألقاب) خارجا، فلذا لا يعده
العرف ظرفا عند تعديد ظروف البيت.
ثم إنه ما الدليل على أن استعمال الظرف المتخذ من الذهب حرام مطلقا
بأي نحو كان ذاك الاستعمال؟ بل المسلم منه هو استعماله ظرفا فيما يترقب منه،
فحينئذ لو وضع عدة ظروف ذهبية في البيت - لمجرد الزينة، أو تحصيل الاعتبار
لدى الناس - لما أمكن الحكم بحرمته، إذ ليس هذا استعمالا ظرفيا. كما أنه لو
استعمال شيئا من تلك الظروف المترقب منها الصرف في الأغذية لجمع ما في
البيت من الكناسة مثلا، إذ يشكل الحكم بحرمة مثل هذا الاستعمال، لأنه
360

وإن كان المستعمل ظرفا وإن كان الاستعمال أيضا ظرفيا، إلا أنه غير مترقب من
ذاك الظرف، فينصرف عنه الدليل، فعليه لو جرد قاب الساعة عنها وصار صالحا
لأن يجعل فيه الأشياء الحقيرة كبعض الأدوية ونحوها يشكل الحكم بحرمة
ذلك، لعدم الترقب. وتفصيل هذا كله على ذمة كتاب الطهارة.
والحاصل: أنه لا يحرم استعمال الساعة الكذائية من حيث الآنية.
بقي الكلام في الصلاة فيها - لا إشكال أيضا في جوازها إذا كانت محمولة
- كان جعلها في الجيب مثلا - إذ تجوز الصلاة مع حمل الذهب، كما مر. كما أنه لا ريب في الجواز وضعا
وتكليفا فيما إذا كان زنجيرها خيطا من القطن أو
نحوه مثلا وعلقه على رقبته ظاهرا مع كون الساعة التي يكون قابها ذهبا في
الجيب، لعدم صدق لبس الذهب ولا التزين به عند الحمل مع فرض كون ما هو
الظاهر - أي الزنجير - خيطا لا ذهبا.
وأما إذا كان الزنجير ذهبا وعلقه على رقبته مثلا لحرم من حيث الزينة
إذا كان ظاهرا دون ما إذا كان مستورا باللباس، وأما من حيث اللبس فلا، لما
مر من أن المحرم من هذه الجهة هو ما يصدق عليه اللباس عرفا، ومن الواضح:
عدم صدقه على مثل ذلك.
نعم: قد يطلق اللبس على نحو تقليد السيف أو المصحف أو التختم وما
إلى ذلك من النظائر، ولكن ذلك كله على حسب القرينة، وإلا لما عد السيف
لباسا قطعا. ولما كان المهم في الباب هو (موثق عمار) المأخوذ في لسانه عنوان
(اللبس) يحكم بعدم الحرمة فيما لا يصدق فيه اللبس لو خلي وطبعه، لأن المدار
حسب التعليل المصرح به فيه هو اللباس. كما أنه لأمنع وضعي هنا أصلا لدورانه
مدار اللبس المنتفي في المقام، وقد مر أن التزين بالذهب وإن كان حراما
تكليفا، وأما وضعا فلا أثر له.
361

ولكن " الماتن ره " ومن احتذى حذوه قد اكتفى في المنع الوضعي
كالتكليفي بالمعني الوسيع من اللبس الشامل لمثل الخاتم، فحينئذ بحكم بالبطلان
لصدق اللبس، بلا احتياج إلى قوله: لأنه تزيين بالذهب، لأن البطلان متوقف
على صدق اللبس ومعه يكون حراما أيضا بلا افتقار إلى التعليل بالتزيين، ففي
العبارة نقاش.
مسألة 24 - لا فرق في حرمة لبس الذهب بين أن يكون
ظاهرا مرئيا أو لم يكن ظاهرا.
لتحقق عنوان اللبس المحرم في حالتي الخفاء والظهور. نعم: في الظهور
ينطبق عليه عنوان محرم مستقل آخر وهو التزين - كما مر.
مسألة 25 - لا بأس بافتراش الذهب، ويشكل التدثر به.
أما جواز الافتراش لعدم صدق اللبس فواضح، بل تجوز الصلاة عليه أيضا.
وأما من حيث الزينة: فلأن المقدار المحرم من التزين هو ما كان بلحاظ تزين
الرجل نفسه وأما بلحاظ داره وحجرته وما إلى ذلك مما يتعلق به فلا، فيجوز
الافتراش ونحوه مما لا يعد زينة للشخص وإن كان زينة للبيت أو السيارة أو نحو
ذلك.
وأما التدثر: فهو وإن يصدق عليه اللبس بما هو لبس لغة، إلا أن التعليل
باللباس موجب لانصراف المنع إلى ما تعارف لبسه، ومن المعلوم: أن الفرش
ونحو ذلك مما ليس معدا لذلك. ولبعد شمول الدليل له عبر عنه بالاشكال.
362

السادس - أن لا يكون حريرا محضا للرجال، سواء كان
ساترا للعورة أو كان الساتر غيره، وسواء كان مما تتم فيه الصلاة
أو لا على الأقوى - كالتكة والقلنسوة ونحوهما - بل يحرم
لبسه في غير حال الصلاة أيضا إلا مع الضرورة لبرد أو مرض،
وفي حال الحرب، وحينئذ تجوز الصلاة فيه أيضا وإن كان
الأحوط أن يجعل ساتره من غير الحرير.
إن استيفاء ما في المتن - من حيث المنع التكليفي والوضعي، ومن حيث
تساوي ما تتم فيه الصلاة وما لا تتم، ومن حيث استثناء حال الضرورة وما إلى ذلك -
في طي جهات:
الجهة الأولى
في مانعية الحرير المحض عن الصلاة للرجال
يمكن أن يستدل للمنع الوضعي بما رواه عن إسماعيل بن سعد الأحوص
(في حديث) قال سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام هل يصلي الرجل في ثوب إبريسم؟
فقال لا (1). ونحو ذلك رواية أبي الحارث عن الرضا عليه السلام (2). وكذا رواية
عمار بن موسى عن أبي عبد الله عليه السلام (3) بناء على أن (الديباج) هو الحرير.
لأن المنساق من النهي المتعلق بماله مساس إلى المركب هو كونه إرشادا
إلى مانعيته - كما مر - فيكون غيريا لا نفسيا، فمعنى النهي عن الصلاة في الحرير

(1) الوسائل باب 11 من أبواب لباس المصلي ح 1 و 7 و 8.
(2) الوسائل باب 11 من أبواب لباس المصلي ح 1 و 7 و 8.
(3) الوسائل باب 11 من أبواب لباس المصلي ح 1 و 7 و 8.
363

هو ما نعيته عن صحة صلاة الرجل.
وأما من حيث المنع التكليفي: فيحتمل كونه مفروغا عنه لدى السائل،
كما أن عدم ذلك أيضا محتمل وإن كان فيه نصوص تامة الدلالة أيضا.
و (4 باب 14) مع ما فيه من النقاش المتقدم.
ومن هنا يتضح حكم (القز) أيضا من المنع، لما رواه عن العباس بن موسى
عن أبيه عليه السلام قال: سألته عن الإبريسم والقز؟ قال: هما سواء (1).
وظاهر اطلاق التسوية هو المنع التكليفي أيضا، إذ الإبريسم كذلك. والفرق
بينه وبين القز: أن هذا ناقص وذاك كامل، ولهذا الناقص أن يصل حد ذاك الكامل
بالعمل.
وبالجملة: أن مفاد هذه الطائفة هو المنع الوضعي، ولكن يعارضها ما رواه
عن ابن بزيع قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن الصلاة في الثوب الديباج؟ فقال: ما
لم يكن فيه التماثيل فلا بأس (2).
وعالجه في " الجواهر " بوجوب طرحه أو حمله على التقية، لأن المشهور
عندهم صحتها وإن حرم اللبس، أو على إرادة الممتزج بالحرير من الديباج فيه،
كما يومي إليه مقابلته بالحرير المحض، انتهى.
والمراد من التقابل ما هو الواقع في (مكاتبة محمد بن عبد الجبار) قال: كتبت
إلى أبي محمد عليه السلام أسأله هل يصلي في قلنسوة حرير محض أو قلنسوة ديباج؟ فكيف
عليه السلام لا تحل الصلاة في الحرير المحض (3).
حيث إنه لو كان المراد من الديباج هو الحرير المحض لما كان لتكرار السؤال
وجه، بخلاف ما لو كان هو الممتزج منه.
ويؤيده أيضا ما رواه عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام قال: لا يصلح
لباس الحرير والديباج، فأما بيعهما فلا بأس (4).

(1) الوسائل باب 11 من أبواب لباس المصلي ح 4 و 10 و 2 و 3.
(2) الوسائل باب 11 من أبواب لباس المصلي ح 4 و 10 و 2 و 3.
(3) الوسائل باب 11 من أبواب لباس المصلي ح 4 و 10 و 2 و 3.
(4) الوسائل باب 11 من أبواب لباس المصلي ح 4 و 10 و 2 و 3.
364

لأن مقتضى العطف هو التغاير بين المعطوف والمعطوف عليه، وإن احتمل
أن يكتفي في التغاير بالعموم والخصوص، فيكون الديباج حينئذ أعم من الحرير
المحض، فمعه يمكن العلاج بالتقييد في خصوص الصلاة. والغرض: أن ظهور
هذه العبارة في التغاير ليس كظهور تلك فيه، لأن تلك كانت في الصلاة دون هذه،
ولأن التقابل هناك أظهر في التغاير من العطف هنا فيه.
وكيف كان: إن أريد من الديباج الحرير المحض فلا بد من الطرح، لقيام
الاجماع البتي على المنع، أو التقية - كما قيل - وأما إن أريد الأعم منه ومن
الممتزج أو خصوص الأخير، فلا إشكال بعد امكان تخصيص العام أو تقييد المطلق،
فيحمل على الممتزج، ويساعده ما في محكي " المغرب ": الديباج الثوب الذي
سداه أو لحمته إبريسم، لانحصاره في الممتزج حينئذ.
ومن هنا يتضح سر التعميم والتسوية بين الساتر وغيره، لأن المنع الوضعي
منحدر نحو اللباس بلا خصيصة للساتر منه. كما أنه لو انحصر المنع هنا في
التكليفي فقط لتساويا أيضا في الصحة والجواز الوضعي، إذ لا تلازم بين المنع التكليفي
والبطلان - كما مر غير مرة - فحينئذ لا امتياز للساتر عن غيره أصلا، إذ يمكن
التسبب بالحرام التكليفي في الأمر المقدمي، فما لم يكن في البين منع وضعي لما كان
لبطلان الصلاة مجال أصلا، سواء كان ساترا أو غيره. كما أنه لا فرق بينهما في البطلان
إذا كان المنع الوضعي منحدرا نحو اللباس بما هو لباس المصلي.
الجهة الثانية
في الميز بين ما تتم فيه الصلاة وحده وما لا تتم من الحرير
باختصاص المنع بالأول
قد تضارب آراء الأصحاب (ره) في صحة الصلاة فيما لا تتم فيه وحده من
الحرير للرجال، لتضارب النصوص واختلافها، إذ منها: ما يدل على المنع،
365

نحو ما رواه عن محمد بن عبد الجبار قال: كتبت إلى أبي محمد عليه السلام أسأله هل يصلى
في قلنسوة حرير محض أو قلنسوة ديباج؟ فكتب عليه السلام: لا تحل الصلاة في حرير
محض (1). وقريب منه مكاتبة أخرى لمحمد بن عبد الجبار (2).
لظهورها في البطلان، بل يكون عموم الجواب ناصا بالنسبة إلى خصوص
المسؤول عنه المذكور مثالا. وقد مر ما له مساس بذلك.
ومنها: ما يدل على الجواز نحو ما رواه عن أحمد بن هلال، عن ابن أبي
عمير، عن حماد، عن الحلبي، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كل ما لا تجوز الصلاة فيه
وحده لا بأس بالصلاة فيه مثل التكة الإبريسم والقلنسوة والخف والزنار يكون
في السراويل ويصلى فيه (3).
لظهورها التام في الجواز ونفي البأس عن الصلاة في التكة الإبريسم ونحوها
مما لا تتم فيه وحده.
إنما الكلام في السند باعتبار " أحمد بن هلال العبرتائي " الوارد فيه من
اللعن والذم، ومن نسبته إلى الغلو تارة، وإلى النصب أخرى، وإلى الوقف
ثالثة، فلا بد من بيان حاله صحة وسقما حتى ينتهي الأمر إلى التعارض بين
دليلي الجواز والمنع والعلاج بينهما.
قال " الكشي ": ورد على القاسم بن العلا نسخة ما خرج من لعن ابن
هلال، وكان ابتداء ذلك أن كتب عليه السلام إلى قوامه بالعراق: احذروا الصوفي المتصنع!
قال: وكان من شأن أحمد بن هلال أنه كان قد حج أربعا وخمسين حجة، عشرون
منها على قدميه، قال: وكان رواة أصحابنا بالعراق لقوه وكتبوا منه، وأنكروا
ما ورد في مذمته فحملوا القاسم بن العلا على أن يراجع في أمره، فخرج إليه:
قد كان أمرنا نفد إليك في المتصنع ابن هلال لا رحمه الله بما قد علمت، ولم يزل

(1) الوسائل باب 14 من أبواب لباس المصلي ح 1 و 4 و 2.
(2) الوسائل باب 14 من أبواب لباس المصلي ح 1 و 4 و 2.
(3) الوسائل باب 14 من أبواب لباس المصلي ح 1 و 4 و 2.
366

لا غفر الله ذنبه ولا أقاله عثرته يداخل في أمرنا بلا إذن منا ولا رضى، يستبد برأيه
فيتحامى ديوننا... الخ.
وفي جامع الرواة: عن " الفهرست " أنه كان أحمد بن هلال غاليا متهما في دينه،
وقد روى أكثر أصول أصحابنا. وعن " النجاشي ": أنه صالح الرواية يعرف منها
وينكر. وعن " الخلاصة " ورد فيه ذموم عن سيدنا أبي محمد العسكري عليه السلام ولد
سنة ثمانين ومائة، ومات سنة سبع وستين ومائتين، وتوقف " ابن الغضائري " في
حديثه، إلا فيما يرويه عن الحسن بن محبوب من كتاب المشيخة، ومحمد بن أبي
عمير عن نوادره، وقد سمع هذين الكتابين جل أصحاب الحديث واعتمدوه فيها،
وعندي أن روايته غير مقبولة، انتهى. ونقل هذا الجزء الأخير عن غير الخلاصة أيضا.
وعن " العلامة " أنه ما سمع ولا رأى متشيعا رجع عن تشيعه إلى النصب
إلا " أحمد بن هلال " إلى غير ذلك مما ورد فيه من النسبة إلى الوقف على
أبي جعفر عليه السلام.
وكيف كان: إن القول بكونه صالح الرواية - كما مر - نحو العمل
بما يرويه كثيرا - كما عن غير واحد من الأصحاب - يمكن أن يوجه بأمور:
الأول: عدم العثور على تلك الذموم وعدم بلوغها إليهم تاما.
الثاني: أن لا تكون تلك الذموم المأثورة قادحة في الرواية وإن كانت
قادحة في الراوي، لأنها بلحاظ ما اعتقده من عقائد باطلة ونحوها وهي غير
ضارة بالرواية ما لم يكن الراوي مقدوحا بالجعل أو الكذب، ولهذا يعمل بما
يرويه غير واحد من الواقفية التي قيل في حقها: أنها كالكلاب الممطورة، ولذلك
قيل: إنه صالح الرواية، لا أنه صالح في نفسه، وكان اللعن (في نقل الكشي)
راجعا إلى التحامي في الديون والأموال والمداخلة فيها: من التأنف عن توكيل
غيره، ونحو ذلك مما لا يخلو عن حبه وحب غيره من المناصب والشؤون الرياسية
إلا الأوحدي من الكملين.
367

الثالث: أن يكون النقل عنه والعمل بروايته بلحاظ حال استقامته، وأما
ما روى بعد انحرافه عن التشيع إلى النصب ونحوه، فلا - كما حققناه في كتاب
الحج عند تصحيح رواية " البطائني " المعروف بالوقف. ولعل المراد من النصب هنا
هو غير ما يتبادر منه إلى الذهن من عداوة أمير المؤمنين علي عليه السلام بل يعم العداوة
لغيره من الأئمة الأطهار عليهم السلام كما أن المراد من وقفه هنا لعله هو توقفه على
أبي جعفر الثاني، لا الأول عليهما السلام.
وأما سر عدم توقف " ابن الغضائري " فيما يروي " ابن هلال " عن ذينك
الكتابين، فلما أشير إليه سالفا: من أن نقله كلا نقل بعد ثبوت استنادهما إلى
مؤلفيهما، لأن وزانه حينئذ وزان إجازة المشايخ لتلاميذهم نقل ما يرويه
" الكليني " أو " الصدوق " من حيث كونه تشريفا محضا بلا جدوى له.
والغرض أن " ابن هلال " واقع في سند غير واحد من الروايات المتلقاة
بالقبول، ولذا لم يأل الأصحاب مجهودهم في التصحيح بأحد الوجوه المارة، فمعه
لا نقاش في السند من هذه الجهة.
فالمهم حينئذ هو علاج التعارض بين (صحيح عبد الجبار) وبين (خبر الحلبي)
وذلك لوجوه: بعضها علاج سندي، وبعضها جمع دلالي، ولا خفاء في توقف الأول
على فقد الثاني.
أما الجمع الدلالي: فهو أن (خبر الحلبي) ناص في الجواز وأما (صحيح
عبد الجبار) فظاهر في المنع، إذ ليس فيه عدا النفي القاصر عن النصوصية، فيقدم
نص الجواز على ظهور المنع فيحمل على الكراهة، ولكن بالنسبة إلى خصوص
ما لا تتم فيه - بيانه: بأن السؤال وإن كان خاصا، إلا أن الجواب عام بالنسبة
إلى ما تتم فيه أيضا، ولا ريب في المنع فيه اتفاقا، فمعه لا يحمل قوله عليه السلام:
" لا تحل... الخ " على الكراهة، نعم: لو كان الجواب خاصا بما لا تتم لأمكن
الحمل عليها، إلا أن يراد من ذلك الحمل على الجامع بين الحرمة والكراهة
368

حتى يدل على الأولى في خصوص ما تتم وعلى الثانية في خصوص ما لا تتم،
وإليه مآل خيرة " الشرايع " وإن لم يستدل بهذا الوجه.
ولا يمكن الجمع الدلالي بحمل (خبر الحلبي) على الممزوج مع بقاء
(صحيح عبد الجبار) بحاله من المنع في الحرير المحض، لاستواء ما تتم وما لا تتم
في الجواز عند الامتزاج اتفاقا - كما سيأتي ومن الواضح: أن سياق (خبر الحلبي)
هو بيان الخصيصة لما لا تتم عندما كان الحكم في غيره مما تتم هو المنع.
ويؤيده ما يأتي - في بحث الامتزاج - من ظهور غير واحد من نصوص
ذاك الباب في الجواز عندما كان العلم أو الزر أو نحو ذلك حريرا (1) إذ لو جاز
في العلم المفسر بالطراز ونحوه لجاز في مثل التكة التي لا ميز بينها وبين الطراز
في المقدار غالبا، وعليه لا غبار في الجواز.
وأما الجمع السندي: بتقديم (صحيح عبد الجبار) على (خبر الحلبي)
بصحة ذاك وضعف هذا ب‍ " ابن هلال " تارة، وبحمل الصحيح على التقية أخرى.
والمراد من الضعف - على الأول - هو النسبي منه لا الضعف الموجب للسقوط
عن الحجية، لأن الجمع فرع التعارض المتوقف على حجية كل واحد من المتعارضين
في نفسه. ولكن قد عرفت: عدم استقرار التعارض بعد امكان الجمع الدلالي.
والمراد من التقية هنا غير مبين، إذ المشهور بين العامة هو المنع التكليفي
دون الوضعي، فلو كان المراد من قوله عليه السلام " لا تحل " هو نفي الجواز الوضعي لكان
مخالفا للاتقاء منهم، وأما لو كان المراد منه هو نفي الحل التكليفي لكان مصونا
عن فتنة الخلاف، إذ لا ريب في الحرمة التكليفية عندهم حتى حال الصلاة البتة،
والذي يسهل الخطب هو ما مر: من الغناء عن تجشم الجمع السندي بعد امكان
الجمع الدلالي بتقديم النص على الظاهر.

(1) الوسائل باب 13 من أبواب لباس المصلي ح 6.
369

بل يحرم لبسه في غير حال الصلاة أيضا إلا مع الضرورة
لبرد أو مرض وفي حال الحرب، وحينئذ تجوز الصلاة فيه أيضا
وإن كان الأحوط أن يجعل ساتره من غير الحرير.
لا إشكال في حرمة لبس الحرير المحض على الرجال نصا وفتوى، وقد مر
ما يدل على بطلان الصلاة فيه أيضا. إنما الكلام في مورد الاستثناء من ذينك
الحكمين، فتنقيح ذلك في مقامين:
المقام الأول
في جواز لبس الحرير حال الضرورة والحرب
أما الجواز حال الضرورة: فيدل عليه غير واحدة من القواعد العامة الدالة
على ارتفاع الحكم عند الاضطرار، ولذا يجوز شرب الخمر عند انحصار العلاج،
ويدل عليه أيضا بعض ما ورد ترخيصا لدفع (القمل) - كما يأتي نقله - إذا احتيج.
وأما الجواز حال الحرب: فيدل عليه ما رواه عن إسماعيل بن الفضل، عن
أبي عبد الله عليه السلام قال: لا يصلح للرجل أن يلبس الحرير إلا في حال الحرب (1).
ونحو ذلك (2 و 3 و 5 باب 12 من أبواب لباس المصلي) على اختلاف بينها فيما
لا يهم في الباب. ولا يلحظ السند بعد اعتضاد بعضها ببعض.
وفي (4 منه) عن الصدوق قال: لم يطلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبس الحرير لأحد من
الرجال إلا بعبد الرحمن بن عوف، وذلك أنه كان رجلا قملا.
وظاهره الجواز لدفع القمل. ولا يناقش في السند بالارسال بعد أن كان

(1) الوسائل باب 12 من أبواب لباس المصلي ح 1.
370

بنحو البت الكاشف عن وثاقة الصدور، وعلى التعدي منه إلى ضرورة الحرب يدل
على الجواز فيها أيضا.
وفي (6 باب 16) عن جابر الجعفي قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول... ويجوز
للمرأة لبس الديباج والحرير في غير صلاة واحرام، وحرم ذلك على الرجال إلا
في الجهاد... الخ.
فلا إشكال في الجواز التكليفي بعد تظافر النصوص وتطابق الفتاوى.
المقام الثاني
في صحة الصلاة في الحرير حالتي الضرورة والحرب
أما صحة الصلاة في الحرير عند الاضطرار إلى لبسه: فلعله واضحة بعد قصور
نطاق أدلة المنع الوضعي عن الشمول، أو تخصيصها - على فرضه - بما يدل على
ارتفاع الحكم تكليفا كان أو وضعا حال الضرورة، فمع تحفظ الجواز التكليفي
في هذه الحالة مع تحتم الأمر بالصلاة يكشف عدم مانعية الحرير حينئذ عن صحتها.
وأما الصحة حال الحرب: فلا ريب فيها أيضا إذا فرض بلوغها نصاب الضرورة،
لاندراجها تحت ما تقدم. وأما على فرض عدم انتهائها إلى تلك الحال، فيمكن
اثباتها أيضا باطلاقات ما يدل على جواز لبسه حال الحرب، إذ ليس المراد منها
هو خصوص حالة القتال واشتعال النائرة بل أعم من ذلك ومن الاشراف والتهيؤ
القريب بالتجهيز المتاخم، دون البعيد منه.
فحينئذ كما أنه لا يجب النزع عند البيتوتة في البيت في ليالي الحرب
- لصدق حال الحرب على ذلك - كذلك لا يلزم النزع بلحاظ الصلاة، وإلا لنقل
شئ من ذلك في الآثار، إذ لو لزم الاقتصار على فعلية القتال لوجب النزع بمقدار
الصلاة، ولو كان لبان. والغرض شمول اطلاق الترخيص لمثل ذلك.
371

ثم إنه لا تلاحظ النسبة بين ذلك وبين اطلاق دليل المانعية الشامل لحالتي
الحرب وغيرها، حتى يقال: بكونها عموما من وجه، لأن المنساق من أدلة الترخيص
هو النظر إلى الدليل الأولي والشرح له، فمعه يرتفع المنع الوضعي كالتكليفي.
كما أنه بناء على أن المانع الوضعي ما هو الممنوع عنه تكليفا لا مجال
للتأمل في الصحة حينئذ، إذ المفروض أنه لا منع تكليفي حال الحرب، فلا منع
وضعي في تلك الحال - كما أشير إليه.
فإذا لاح أنه لأمنع وضعي في هذه الحالة يحكم بصحة الصلاة فيه وإن لم
يكن لابسا لساتر غير الحرير، فما احتاط (في المتن) صعب التوجيه حسب الصناعة،
كما أن ما (في الجواهر) من امكان منع التلازم بين ارتفاع المانعية وبين تحقق
الشرط خال عن السداد، إذ الحكم الوضعي الوحيد هنا هو مانعية الحرير لا شرطية
غيره، فمع ارتفاع المنع لا افتقار إلى شئ آخر.
ولا بأس به للنساء، بل تجوز صلاتهن فيه أيضا على
الأقوى.
إن استيفاء (ما في المتن) من جواز اللبس للنساء تكليفا ووضعا رهين
مقامين:
المقام الأول
في جواز لبس الحرير للنساء تكليفا
أما جواز لبسه لهن: فلعله متفق عليه لدى الأصحاب، ويدل عليه غير
واحد من نصوص الباب.
372

منها: ما رواه عن صفوان بن يحيى، عن عيص بن القاسم، عن أبي داود
بن يوسف بن إبراهيم، عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث: إنما يكره المصمت من
الإبريسم للرجال ولا يكره للنساء (1).
لظهورها في نفي الكراهة بالنسبة إليهن، فإن أريد منها الكراهة المصطلحة،
فيدل على الجواز الخالي منها، وإن أريد منها الحرمة فيدل على انتفائها الملائم
للكراهة المصطلحة، وعلى أي تقدير: لأمنع تكليفي البتة.
ومنها: ما رواه عن ليث المرادي قال: قال أبو عبد الله عليه السلام إن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم كسا أسامة بن زيد حلة حرير فخرج فيها، فقال: مهلا يا أسامة إنما
يلبسها من لا خلاق له فاقسمها بين نسائك (2).
ودلالتها على المنع للرجال دون النساء قابلة التوجيه والهضم بلحاظ الذيل،
وإنما الكلام في الصدر الدال على أنه صلى الله عليه وآله وسلم كسا ذاك الرجل حلة حرير، لا على أنه صلى الله عليه وآله وسلم أعطاه إياه، فلو حرم اللبس لما كساه.
إلا أن يفرق بين اللبس المستمر بنحو الملكة وبين الموقت من ذلك - نظير لبس
الرجل ثياب المرأة في المآتم إقامة للعزاء. وكيف كان: دلالتها على الجواز النساء
تامة.
ومنها: ما رواه عن ابن بكير، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
النساء يلبسن الحرير والديباج إلا في الاحرام (3).
وظهورها في الجواز فيما عدا الاحرام تام، وسيأتي بيان الاستثناء من
رجوعه إلى التكليف أو الوضع، فارتقب.
ومنها: ما رواه في حديث المناهي قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن لبس الحرير
والديباج والقر للرجال، فأما النساء فلا بأس (4).

(1) الوسائل باب 16 من أبواب لباس المصلي ح 1 و 2 و 3 و 5.
(2) الوسائل باب 16 من أبواب لباس المصلي ح 1 و 2 و 3 و 5.
(3) الوسائل باب 16 من أبواب لباس المصلي ح 1 و 2 و 3 و 5.
(4) الوسائل باب 16 من أبواب لباس المصلي ح 1 و 2 و 3 و 5.
373

ومنها: ما رواه عن جابر الجعفي قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: ويجوز
للمرأة لبس الديباج والحرير في غير صلاة وإحرام... الخ (1).
ومنها: ما رواه عن علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال:
سألته عن الديباج هل يصلح لبسه للنساء؟ قال: لا بأس (2).
فلا غرو في ضعف سند بعضها بعد تمامية الحكم نصا وفتوى. فما دل على
استواء الرجل والمرأة في الحكم (5 باب 13) فيحمل على الجامع بين الحرمة
والكراهة جمعا، أو يطرح لكونه معرضا عنه للأصحاب.
المقام الثاني
في صحة صلاة النساء في الحرير
وأما الجواز الوضعي: فهو المشهور لدى الأصحاب من الصدر - عدا
" الصدوق " و " أبي الصلاح " على نقل غير متحقق - إلى المسافة، عدا " الأردبيلي "
و " البهائي ".
قال في (مكي الفقيه): قد وردت الأخبار بجواز لبس النساء الحرير،
ولم ترد بجواز صلاتهن فيه.
وقد يستدل للمنع بعدة نصوص:
منها: ما مر من مكاتبة محمد بن عبد الجبار إلى أبي محمد عليه السلام يسأله هل يصلى في
قلنسوة حرير محض أو في قلنسوة حرير محض أو في قلنسوة ديباج، فكتب عليه السلام: لا تحل الصلاة في حرير محض (3).
تقريب الاستدلال: أن الجواب عام للرجال والنساء، فلا بد من المخرج
المفقود في البين، وخصوصية السؤال غير صالحة لتخصيص عموم الجواب.

(1) الوسائل باب 16 من أبواب لباس المصلي ح 6 و 9.
(2) الوسائل باب 16 من أبواب لباس المصلي ح 6 و 9.
(3) الوسائل باب 11 من أبواب لباس المصلي ح 2.
374

وفيه أولا: أن عموم الجواب شامل لما لا تتم فيه الصلاة أيضا، وقد حققنا
الصحة بالنسبة إليه، فحينئذ يكون المراد من هذا العموم هو الجامع بين البطلان
والحزازة غير البالغة حد الفساد، فمعه لا ظهور له في المنع الوضعي بالنسبة إلى
النساء، لاحتمال الحزازة دون الفساد في حقهن.
وثانيا: أنه لا إطلاق له من حيثية العموم الفردي حتى يشمل النساء
- لكونه مسوقا لبيان حكم آخر - وبيانه: بأن اختصاص السؤال بما لا تتم كاشف
عن مفروغية ما تتم فيه الصلاة لدى السائل، إذ لو كان حكم ذلك أيضا غير معلوم
له لما سئل عن خصوص ما لا تتم، فالسؤال إنما هو بعد مركوزية حكم ما تتم،
وإنما سئل عن استواء ما لا تتم مع ما تتم، والجواب منحدر نحو بيان حكم المنع
من اختصاصه بالمحض من الحرير دون غيره. وأما أنه بالنسبة إلى من يكون
كذلك، فلا. فالاطلاق الأفرادي خارج عن السؤال والجواب رأسا. أضف إلى
ذلك: أن السؤال غير خال عن اشعار بالاختصاص.
ومنها: ما رواه عن الحميري، عن صاحب الزمان عليه السلام أنه كتبت إليه يتخذ
بأصفهان ثياب فيها عتابية على عمل الوشى من قز وإبريسم، هل تجوز الصلاة فيها
أم لا؟ فأجاب عليه السلام لا تجوز الصلاة إلا في ثوب سداه أو لحمته قطن أو كتان (1).
تقريب الاستدلال على المنع الوضعي للنساء، هو ما مر: من عمومية نفي
الجواز الوضعي لهن أيضا.
وفيه: أن السؤال عن خصوص الوشى الذي هو التلوين بالقز والإبريسم
إنما هو بعد الفراغ عن حكم المتمحض منه، وإلا لسئل عنه، والجواب ينحدر
نحو مصب السؤال من دون النظر إلى خصوصيات المكلفين من الرجال وغيرهم،
وحيث إنه مسوق لبيان حكم آخر - كما تقدم - فلا مجال للأخذ باطلاقه، إذ لا
إطلاق له من هذه الجهة حتى يؤخذ به.

(1) الوسائل باب 13 من أبواب لباس المصلي ح 8.
375

فحينئذ لا مجال لتجشم لحاظ النسبة وكونها بالعموم من وجه - إذ الأدلة
المجوزة للبس مطلقة شاملة لحالة الصلاة وغيرها - ثم التعب لتقديمها في مورد
الاجتماع على أدلة المنع، إذ لا إطلاق لدليل المنع الوضعي بهذه الملاحظة أصلا.
ومنها: ما رواه عن عمار بن موسى، عن أبي عبد الله عليه السلام (في حديث) قال:
وعن الثوب يكون علمه ديباجا؟ قال: لا يصلى فيه (1).
بناء على كونه مبنيا للمفعول، فيشمل غير الرجال أيضا.
وفيه أولا: أنه مسوق سؤالا وجوابا لبيان حكم آخر - وهو الممتزج من
من الثوب والعلم الديباج - فلا إطلاق له من حيث آخر حتى يؤخذ به - كما مر -
لأنه بعد الفراغ عن حكم الحرير المحض.
وثانيا: أنه محمول على الكراهة في مفاده، لصحة الصلاة في الممتزج
(بالاتفاق) وفي العلم (بالشهرة التامة) كما سيأتي، فمدلوله في مفاده ومورده
ليس أزيد من الكراهة.
وثالثا: أنه لا ظهور له في المبني للمفعول الشامل لغير الرجال، وإلا لزم المنع
في الصبي أيضا. والغرض أنه مع احتمال قرائته مبنيا للفاعل قاصر عن التعميم.
ومنها: خبر الجابر المتقدم (2) الموهون بضعف السند، فلا حجية له. فليس
في البين ما يدل على المنع الوضعي بالنسبة إلى النساء. أضف إلى ذلك كله:
إمكان تأييد الجواز بغير واحد من النصوص الواردة للمنع.
منها: ما رواه عن الأحوط قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام هل يصلي
الرجل في ثوب إبريسم؟ فقال: لا (3). ونحو ذلك ما رواه عن أبي الحارث قال:
سألت الرضا عليه السلام... الخ (4).

(1) الوسائل باب 11 من أبواب لباس المصلي ح 8.
(2) الوسائل باب 16 من أبواب لباس المصلي ح 6.
(3) الوسائل باب 11 من أبواب لباس المصلي ح 1 و 7.
(4) الوسائل باب 11 من أبواب لباس المصلي ح 1 و 7.
376

إذ اختصاص السؤال بالرجل إنما هو للفراغ عن حكم المرأة، والظاهر
ارتكاز الجواز في الذهن المصوب بالتقرير، وإلا لكان السؤال عن حكمها أيضا
لازما لو لم يكن أنسب.
ومنها: خبر الحلبي المتقدم (1) - بناء على قراءة (يصلي) على المعلوم -
بشهادة القلنسوة المختصة بالرجال، ولعل التكة أيضا كذلك، لأنه وإن كان
للتجويز فيما لا تتم، ولكن مساق البيان إنما هو بلحاظ الرجال، فيؤيد اختصاص
المنع فيما تتم بهم - أي بالرجال -.
ومنها: ما تقدم من رواية ابن بكير، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله عليه السلام
قال: النساء يلبسن الحرير والديباج إلا في الاحرام (2).
إن المراد من الاستثناء، إما بيان المنع التكليفي للنساء بأن يكون له
من تروك الاحرام لهن، وإما بيان ما يشمل الوضعي أيضا، بأن لا يكون ثوبا
إحرامهن حريرا. فعلى الأول: لا تعرض للحكم الوضعي البتة، لدلالته على
الجواز التكليفي في جميع الحالات - حتى حال الصلاة - عدا حال الاحرام. وعلى
الثاني: دال على ارتفاع المنع الوضعي كالتكليفي إلا في خصوص ثوب الاحرام،
فلو صلت في الحرير صحت صلاتها، وأما لو أحرمت فيه - بأن جعلته ثوب إحرامها -
بطل ذلك الاحرام.
فعلى الأخير: يمكن الاستدلال به للجواز الوضعي دون الأول، إذ لا تلازم
بين الجواز التكليفي والجواز الوضعي، لوجود الأول دون الثاني في لبس
أجزاء غير المأكول، كما أنه لا تلازم بين المنع التكليفي والمنع الوضعي، لامكان
حرمة لبس شئ في نفسه مع صحة الصلاة فيه - كما حققناه في الصلاة في اللباس
المغصوب.

(1) الوسائل باب 14 من أبواب لباس المصلي ح 2.
(2) الوسائل باب 16 من أبواب لباس المصلي ح 3.
377

والحاصل: أن أدلة المنع قاصرة عن الشمول للنساء مع امكان التأييد
للاختصاص بالرجال. وعلى تقدير الشك في المنع الوضعي يحكم بعدمه، للأصل.
بل وكذا الخنثى المشكل.
أي يجوز له اللبس تكليفا ووضعا، والكلام فيه تارة: مع لحاظ العلم
الاجمالي بأنه إما رجل أو امرأة - بناء على نفي الطبيعة الثالثة - وأخرى: مع
قطع النظر عنه.
فعلى الأخير: يحكم بالجواز التكليفي والوضعي، إذ المفروض عدم اتضاح
اندراجه تحت دليل المنع، ولا يجوز التمسك بالدليل إلا بعد احراز موضوعه،
فكما لا يجوز التمسك بدليل المنع للشك في كونه رجلا، كذلك لا يجوز التمسك
بدليل الجواز للشك في كونه مرأة. نعم: يرجع إلى الأصل المنتج لما هو مفاد
دليل الجواز، بلا ميز في هذه الجهة بين التكليف والوضع، فيجوز له لبس
الحرير في الصلاة أيضا.
وأما على الأول: فيجب عليه الاحتياط في التكليف والوضع بلا ميز بينهما
أيضا، إذ يعلم إجمالا بأن هناك تكليفا ملزما لا يتعين شخصه، وذلك فيما يكون
على الرجل تكليف لازم يخصه وعلى المرأة كذا - كوجوب الستر لتمام البدن -
فأمر يدور بين أن يكون رجلا يحرم عليه لبس الحرير كالذهب وأن يكون
مرأة يحرم عليها كشف ما عدا المستثنى من البدن، فحينئذ يجب الاحتياط
بالجمع بين تكليفي الرجل والمرأة - للعلم الاجمالي - فيحرم عليه اللبس تكليفا
وكذا وضعا.
378

وكذا لا بأس بالممتزج بغيره من قطن أو غيره مما يخرجه
من صدق الخلوص والمحوضة.
وظاهره استواء التكليف والوضع في هذه الجهة، فيجوز لبس الحرير
الممتزج بغيره، كما تصح الصلاة فيه أيضا. وتنقيح ذلك كله على ذمة مقامات ثلاثة:
أحدها في أصل الجواز في الممتزج، وثانيها في عدم اختصاص المزيج الآخر بالقطن
والكتان والخز، وثالثها في عدم اختصاص المزج بكيفية خاصة من السدى أو اللحمة
أو نحو ذلك، مع احتمال المنع في بعض تلك الكيفيات.
أما المقام الأول
ففي جواز لبس الحرير الممتزج تكليفا ووضعا
لا إشكال في جواز لبس الممتزج بغير الحرير في الجملة نصا وفتوى، بلا
احتياج إلى تجشم البحث المستأنف، لاتضاحه في ثنايا ما مر، ولزيادة تبينه في خلال
ما يمر في مقامي الثاني والثالث. نعم: لو كان المزيج الآخر مما لا يجوز لبسه أيضا
- كالذهب - أو لا تصح الصلاة فيه - كوبر ما لا يؤكل لحمه - لا جدوى لمثل هذا
المزج إلا في خصوص الأخير تكليفا.
والحاصل: أن النصوص الدالة على المنع خاصة بالمحض والمبهم والمصت
وما إلى ذلك، فلا منع عند الخروج عن هذه العناوين بالمزج.
379

أما المقام الثاني
ففي الاكتفاء بأي مزيج كان بلا اختصاص للقطن والكتان
قد يتوهم: لزوم الاقتصار في الخروج عن المنع على ما إذا كان المزج بالقطن
أو الكتان أو الخز - وقد يربع بزيادة الصوف - جمودا على ذكرها في بعض نصوص
الباب ذهولا عن كونه تمثيلا لا تعيينا ومثالا لا حدا، لظهور غير واحد منها في أن
المدار الوحيد هو صدق المحوضة وعدمه بلا خصيصة لمزيج دون آخر، فحينئذ
وزان ما ذكر في بعضها وزان ما اندمج في مفاد ما يدل على جواز غير المحض بلا ميز
أصلا، فلا نطيل بعد الاتضاح.
أما المقام الثالث
ففي الاكتفاء بأية كيفية في المزج مع احتمال خصيصة لبعضها
إن للمزج صورا عديدة لا ريب في دخول بعضها في دليل الجواز، وأما بعضها
الآخر ففي اندراجه وعدمه تأمل، فلنأت بها أولا، وبحكمها من الجواز
وغيره ثانيا.
أما بيان تلك الصور - فمنها: ما يكون المزج بجعل السدى قزا أو إبريسم
وجعل اللحمة غير ذلك، أو العكس.
ومنها: ما يكون كل واحد من تلك الخيوط منسجما من الإبريسم وغيره،
بحيث لا امتياز بينهما، إذ المفروض جعلهما معا خيطا واحدا.
ومنها: ما يكون المزج بجعل النسج على نحو يوجد في متن الثوب مثلا
شكل خاص من الحرير المحض - كالمربع أو غيره من الأشكال الدارجة في الألبسة -
بحيث يكون الإبريسم المحض مستوعبا لذاك الشكل كله سدى ولحمة بلا تخلل
المزج فيه، وإن كان الخارج عن حده ممتزجا أو قطنا خالصا مثلا.
380

فيلزم التأمل في اندراجها جميعا تحت دليل الجواز وعدمه، فلا بد من
النظر المستأنف في نصوص الباب.
فمن تلك النصوص: هو ما رواه عن البزنطي قال: سأل الحسين بن قياما
أبا الحسن عليه السلام عن الثوب الملحم بالقز والقطن والقز أكثر من النصف أيصلى فيه؟
قال لا بأس قد كان لأبي الحسن عليه السلام منه جبات (1).
وظاهره التجويز في المزج بكون اللحمة قزا وقطنا مع كون الأول أكثر،
وأما ما عدا ذلك فهو قاصر عن اثباته، وأقصاه اندراج الأوليين فيه، وأما
الصورة الأخيرة: فلا.
ومنها: ما رواه عن عبيد بن زرارة، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا بأس بلباس
القز إذا كان سداه أو لحمته من قطن أو كتان (2).
والمستفاد منه أيضا التجويز إذا كان المزج على الأوليين، وأما على الثالثة: فلا
لأن القطن وكذا الكتان مما يمكن التعدي عنه إلى غيره، لكونه مثالا لا حدا.
وأما كيفية المزج: فلا سبيل إلى التعدي عنها، باندراج الصورة الثالثة أيضا.
ومنها: ما رواه عن إسماعيل بن الفضل، عن أبي عبد الله عليه السلام في الثوب يكون
فيه الحرير؟ فقال: إن كان فيه خلط فلا بأس (3).
لا إشكال في إطلاق السؤال وشموله لجميع تلك الصور المفروضة، إذ يصدق
عليها جميعا أن في الثوب حريرا. إنما الكلام في المراد من الجواب هل هو تكرار
لمفروض السائل أو تفصيل فيه بالتقييد؟ فعلى الأول: يدل على الجواز في جميع
تلك الصور، وأما على الأخير: فيدل على الجواز في خصوص صورة الخلط - كما
في الأوليين - وأما في الثالثة: فلا، إذ المفروض تمحض ذاك الشكل في القزية بلا
امتزاج أصلا وإن كان ما عداه من سائر أجزاء الثوب غير القز أو خليطا أيضا،
ولا يبعد هذا الاحتمال. فمعه لا مجال للاستدلال به على التعميم.

(1) الوسائل باب 13 من أبواب لباس المصلي ح 1 و 2 و 4.
(2) الوسائل باب 13 من أبواب لباس المصلي ح 1 و 2 و 4.
(3) الوسائل باب 13 من أبواب لباس المصلي ح 1 و 2 و 4.
381

ومنها: ما رواه عن زرارة قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام ينهي عن لباس الحرير
للرجال والنساء، إلا ما كان من حرير مخلوط بخز لحمته أو سداه خز أو كتان
أو قطن... الخ (1).
ومفاده من حيث امكان إلقاء الخصوصية من جهة المزيج الآخر بلا دخالة
للكتان أو القطن هو ما مر، وكذا من حيث عدم امكانه من جهة كيفية المزج،
فحينئذ لا يدل على أزيد من الجواز في الأوليين.
ونحو ذلك ما رواه عن الحميري عن صاحب الزمان عليه السلام إذ فيه: " فأجاب عليه السلام
لا تجوز الصلاة إلا في ثوب سداه أو لحمته قطن أو كتان " (2).
ومنها: ما رواه عن محمد بن عبد الجبار قال: كتبت إلى أبي محمد عليه السلام....
فكتب عليه السلام: لا تحل الصلاة في حرير محض (3).
وكذا مكاتبة أخرى لمحمد بن عبد الجبار (4).
وظاهره وإن كان اختصاص المنع بالمحض من الحرير مع جواز غيره من
الخيط حسب التحديد، إلا أن في شمول جوازه للصورة الثالثة نظرا بل منعا،
إذ يصدق الحرير المحض على ذاك الجزء المشكل بشكل خاص كالتربيع. وحمل
الحرير على الثوب اعتساف، وإن ارتكبه في الجواهر ميلا إليه، فمع عدم صدق
الثوب على ذاك الجزء يصدق أنه لبس الحرير المحض أو صلى فيه.
فتحصل: أن شيئا من هذه النصوص الواردة في الممتزج منطوقا أو مفهوما
لا يثبت الجواز في جميع صور الامتزاج حتى الأخيرة منها.
نعم: يمكن الاستئناس للجواز أو الاستدلال له بما رواه عن يوسف بن
إبراهيم، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا بأس بالثوب أن يكون سداه وزره وعلمه

(1) الوسائل باب 13 من أبواب لباس المصلي ح 5 و 8.
(2) الوسائل باب 13 من أبواب لباس المصلي ح 5 و 8.
(3) الوسائل باب 14 من أبواب لباس المصلي ح 1 و 4.
(4) الوسائل باب 14 من أبواب لباس المصلي ح 1 و 4.
382

حريرا، وإنما كره الحرير المبهم للرجال (1).
لأن الصدر ناص في تجويز العلم الذي هو طراز الثوب، فالمزج على هذه
الكيفية جائز كالمزج بالسدى، فحينئذ يكون الذيل غير شامل لما إذا كان الامتزاج
بنحو يحصل شكل خاص من الحرير المحض - كما هي الصورة الثالثة - إذ
العلم أيضا من هذا القبيل.
وبما رواه عن أبي داود بن يوسف بن إبراهيم عن أبي عبد الله عليه السلام (في حديث)
قال عليه السلام: لا تكره أن يكون سدى الثوب إبريسم ولا زره ولا علمه، إنما يكره
المصمت من الإبريسم للرجال... الخ (2).
وتقريب دلالته على الجواز في الصورة الثالثة هو ما مر، فحينئذ يقيد خبر
" إسماعيل بن الفضل " المتقدم (3) بذلك، فيحكم بالجواز وإن كان المزج على الصورة
الأخيرة، جمعا بين المطلق والمقيد للتصريح بالعلم.
ثم إنه لا إشكال في الجواز على الأوليين ما لم ينطبق عنوان الحرير المحض
قل أو كثر على ذلك. وأما على الثالثة: فيشكل الحكم بالجواز في الزائد عن قدر
ما لا تتم فيه الصلاة - كالقلنسوة ونحوها - فلو كان ذاك الجزء من الثوب المشكل
بشكل خاص مثلا حريرا صرفا وكان بقدر الذراع أو قريبا منه بنحو تتم فيه الصلاة
وحده - لكفايته عرضا وطولا - فلا يجوز، لعموم (خبر الحلبي) الدال على اختصاص
الجواز بما لا تتم، لظهوره في أن الإبريسم البالغ حدا تتم فيه الصلاة مانع عنها، إلا
أن يفرق بين المتصل والمنفصل بعدم الاستبعاد في الفرق بين صورتي الاتصال
والانفصال، فلو كان الإبريسم المحض متصلا بالثوب ومنسوجا معه لجاز وإن كان
مما تتم فيه الصلاة لو كان منحازا عن كله، وأما لو كان منفصلا لمنع، ولا يبعد هذا

(1) الوسائل باب 13 من أبواب لباس المصلي ح 6.
(2) الوسائل باب 16 من أبواب لباس المصلي ح 1.
(3) الوسائل باب 13 من أبواب لباس المصلي ح 4.
383

التفصيل بملاحظة توفر دواعي الزينة في العلم ونحوه ما يتجاوز عن حد ما لا تتم
فيه، ولكنه غير خال عن التأمل.
مسألة 48 - المصلي مستلقيا أو مضطجعا لا بأس بكون
فراشه أو لحافه نجسا أو حريرا أو من غير المأكول إذا كان له
ساتر غيرهما، وإن كان يتستر بهما أو باللحاف فقط فالأحوط
كونهما مما تصح فيه الصلاة.
أما الجواز في الصورة الأولى - وهي ما إذا كان لذاك المصلي ساتر غير ذلك -
فلقصور أدلة المنع رأسا أو انصرافها عرفا عن الشمول للافتراس أو الالتحاف، فما
أخذ فيها من عنوان اللبس أو الصلاة فيه غير منطبق على مثله، فلا منع حينئذ، لما
اتضح سالفا من الميز بين الستر المعتبر في الصلاة وبين الستر عن الناظر، لحصول
الثاني بمثل الغمس في الماء الكدر أو الابتعاد عن النظر أو الالتجاء إلى الظلمة وما
إلى ذلك مما به يصان عن النظر، بخلاف الأول - كما مر - فعليه لا بعد في عدم
صدق ما أخذ في أدلة المنع حال الصلاة على مثل الفراش واللحاف إذا كان هناك
ساتر غيرهما.
وأما الاحتياط في الصورة الثانية - فيلزم التنبه فيها لأمرين: أحدهما بيان
المنع وعدم الجواز، والآخر سر كونه بنحو الاحتياط لا الجزم والقوة.
أما الأول: فجهة المنع هو أن المنساق من أدلة الشرطية ونحوها هو لزوم
انحفاظ جميع ما اعتبر في الستر الاختياري في الستر الاضطراري، إلا فيما هو مصب
الاضطرار المصحح للتبديل والانتقال إلى البدل الاضطراري، وكم له من نظير!
حيث يحكم باعتبار شرائط الصلاة الواجبة - من الاستقبال وغيره - في النافلة،
384

لأن المستفاد من أمثال ذلك عرفا هو اعتبارها في أصل العمل، بلا ميز بين الفرض
والنفل أو الاختيار والاضطرار، ولما قام الفراش أو اللحاف مقام الثوب عند
الضرورة يحكم باعتبار ما كان معتبرا في المبدل في البدل، فعليه يلزم أن يكون
هذا البدل مما تصح فيه الصلاة. ولعل تعبير " الماتن " بالتستر إشعار إلى إعمال عمل
به يصدق الستر للصلاة، حيث إن الأرض لما لم تكن صالحة لهذا الستر لا بد للمرأة
من التستر بالفراش واللحاف معا، كما أن الرجل يكفيه اللحاف مثلا.
وأما الثاني: فالظاهر أن سر عدم الجزم والقوة هو احتمال أن مثل الفراش
واللحاف كما أنه لا يكون سترا للصلاة اختيارا، كذلك لا يكون سترا لها
اضطرارا. وأما ما في رواية " علي بن جعفر " من الحكم بجواز الصلاة قائما مع
الستر بالحشيش فليس ناصا في كونه سترا اضطراريا للصلاة، لبقاء احتمال كونه
سترا عن النظر.
فحينئذ لا يعتبر فيه ما يعتبر في الستر للصلاة، نعم: ليس هذا الأمر بمثابة
يوجب الجزم بذلك أيضا، فما أفاد من الاحتياط عند التستر - أي الأعمال بنحو
يصدق معه الستر للصلاة حينئذ - في محله.
مسألة 49 - إذا لبس ثوبا طويلا جدا وكان طرفه الواقع
على الأرض الغير المتحرك بحركات الصلاة نجسا أو حريرا أو
مغصوبا أو ما لا يؤكل فالظاهر عدم صحة الصلاة ما دام يصدق
أنه لابس ثوبا كذائيا، نعم: لو كان بحيث لا يصدق لبسه بل
يقال: لبس هذ الطرف منه، كما إذا كان طوله عشرين ذراعا
ولبس بمقدار ذراعين منه أو ثلاثة أذرع وكان الطرف الآخر
مما لا تجوز الصلاة فيه فلا بأس.
385

لا خفاء في إمكان النقاش فيما سواه في المتن بين تلك الأمور، لاختلاف
العناوين المأخوذة في ألسنة أدلتها، فلا بد من النظر في كل واحد منها على حدة،
وحيث إنه قد يبتلى بما صوره " الماتن " كمن يصلي جالسا وعليه رداء لا يتحرك
طرفه الواقع على الأرض بحركات الصلاة ونحو ذلك مما يمكن الابتلاء به، فلا بد
من الاهتمام به على ما يليق بذلك، فنقول:
أما النجس: فإن كان مدار المنع هو لبس النجس حال الصلاة، فيمكن الحكم
بنفي البأس بالنسبة إلى ذاك الطرف الآخر الذي لم يوجب اتصاله بهذا الطرف
صدق اللبس بالنسبة إليه، كما يصدق بالنسبة إلى هذا الطرف. وأما إن كان المدار
هو (الصلاة في ثوب فيه النجاسة) فيمكن المنع حينئذ، إذ يصدق أنه صلى في
ثوب فيه نجاسة وإن لم يصل هو في ذاك النجس، اللهم إلا أن يدعي الانصراف عن
مثله، أي انصراف بعض تلك النصوص عنه.
وأما في الحرير: فالمدار فيه هو صدق الصلاة فيه، فإن أوجب الاتصال
ذلك الصدق فهو، وإلا فلا منع، ولا دخالة فيما هو المهم هنا لتحرك ذاك الطرف
بحركات الصلاة وعدمه، لدوران الحكم هنا مدار غيره، إذ المنع فيه منحدر نحو
الصلاة فيه، كما أن الحرمة التكليفية متوجهة إلى لبسه.
وأما المغصوب: فالمدار فيه هو ما يكون مصبا للنهي التكليفي - بناء على
البطلان - وإلا فعلى المختار فلا منع وضعي فيه أصلا لانحصار الأمر في العصيان
فقط. وكيف كان: بناء على البطلان يدور الأمر مدار صدق الغصب - وهو التصرف
الخاص - بلا دخالة للتحرك وعدمه، إلا أن يكون من باب كونه تصرفا.
وأما ما لا يؤكل لحمه: فالمدار فيه هو صدق الصلاة فيه، إذ نطاق (موثقة
ابن بكير) التي هي العمدة في الباب، هو أنه " لا تصل في وبر ما لا يؤكل لحمه
وروثه وبوله ".
386

مسألة 50 - الأقوى جواز الصلاة فيما يستر ظهر القدم
ولا يغطي الساق، كالجورب ونحوه.
إن المترائي من المتن هو كون المسألة ذات قولين، وهو كذلك، إذ
المحكي عن غير واحد من قدمائنا الإمامية (ره) هو المنع، وعن غير واحد من
المتأخرين هو الجواز على الكراهة، وعن غيرهم الجواز بلا تعرض لها. وهل
المعتبر في مصب الكلام ما اجتمع فيه القيدان: أحدهما ستر ظهر القدم والآخر
عدم تغطية الساق كما هو المنساق من المتن؟ أو خصوص عدم تغطية الساق وإن
لم يستر ظهر القدم بل ستر باطنه؟
والتمثيل بالجورب ونحوه إنما هو للمنفي لا للنفي - على ما يشهد له في
الشرائع - حيث قال: لا تجوز الصلاة فيما يستر ظهر القدم كالشمشك وتجوز فيما
له ساق كالخف والجورب.
وليعلم: أن العنوان الجامع وهو (ما يستر ظهر القدم بلا تغطية الساق) ليس
هو المشهور بين القدماء، لاقتصار بعضهم على خصوص الشمشك والنعل السندي،
فحينئذ لا يخلو استناد ذلك إليهم من النقاش، إلا أن يكون التعرض لهما تمثيلا
لذاك العنوان الجامع لا تعيينا للاقتصار على النص مثلا.
وكيف كان: يلزم البحث عن الجواز والمنع أولا، وعن الكراهة على فرض
الجواز ثانيا.
فنقول: قد يحكم بالجواز للقاعدة الأولية الدالة على البراءة عقلا ونقلا
عند الشك في الشرطية أو المانعية - على ما هو المقرر في بحث الأقل والأكثر -
بلا افتقار إلى النص الخاص، وحينئذ لو قام دليل على المنع في خصوص المقام
387

للزم هجر تلك القاعدة المحكومة بهذا الدليل المفروض.
وقد يحكم به - أي بالجواز - لورود النص الخاص عليه، وحينئذ لو قام
على المنع دليل للزم حمل ذلك الدليل على الكراهة، جمعا بين الترخيص والمنع.
أما القاعدة الأولية: فلا تأمل فيها.
وأما النص الخاص: فقد يتمسك بما رواه عن الحميري أنه كتب إلى
صاحب الزمان عليه السلام يسأله هل يجوز للرجل أن يصلي وفي رجليه بطيط لا يغطي
الكعبين أم لا يجوز؟ فكتب في الجواب: جائز - الحديث (1).
و (البطيط) هو رأس الخف بلا ساق - على ما فسر - والاستدلال به إنما يتم
إذا أن المراد من (الكعب) هو العظم الفاصل بين القدم والساق، فعدم تغطيته
مستلزم لعدم تغطية الساق البتة، وحيث اقتصر في السؤال على عدم تغطيته يعلم
الفراغ من التغطية لما عداه من ظهر القدم بأسره إلى ذاك العظم الحاجز، فحينئذ
يدل على الجواز، ولكن قد مر التحقيق في (الكعب) عند البحث عن مسح الرجل
في الوضوء، وبين هناك أن له إطلاقات ثلاث - الأول: ما ذكر من العظم الفاصل،
والثاني: ما ارتفع من قبة ظهر القدم، والثالث: ما انتهي إليه الإصبع وانفصل به
عن ظهر القدم - على ما يستفاد من حد القطع في السرقة وفي الديات والقصاص -
فراجع، فعلى الأول: وإن تم المطلوب، وأما على الأخيرين: فلا، فعليه ينحصر
الدليل في تلك القاعدة الأولية.
وأما المنع: فقد يستدل له بما أرسله ابن حمزة (في محكي الوسيلة) حيث
قال: روي أن الصلاة محظورة في الشمشك والنعل السندية.
ورد باختصاصه بهذين الأمرين بلا تعميم، وبعدم العمل به ممن أرسله،
حيث إن خيرته هو الكراهة، وسيجئ البحث عن الكراهة.

(1) الوسائل باب 38 من أبواب لباس المصلي ح 4.
388

وقد يتمسك أيضا بعدم فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا الصحابة والتابعين له وبقوله صلى الله عليه وآله وسلم:
صلوا كما رأيتموني أصلي.
وفيه: أن أقصى ذلك عدم العثور على فعل هؤلاء له، وهذا القدر قاصر عن
إفادة الحصر، إذ لا ريب في جواز غير واحد من الأمور في الصلاة وغيرها مع عدم
العثور على ارتكابهم لها.
وأما ما نقل في خصوص الصلاة: فهو نبوي لم يصل إلينا من طريقنا فلا اعتداد
به، مع عدم التزام الفريقين بمضمونه، إذ من البديهي عدم لزوم الجمود على
الخصوصيات والأحوال الشخصية التي كان النبي صلى الله عليه وآله يأتي بها حال الصلاة من
الألبسة نوعا ولونا وما إلى ذلك.
والظاهر: أن المراد منه - على تسليم السند - هو الأفعال والأذكار
الصلاتية، وأما الحالات الحافة بها مما هو خارج عنها، فلا. وقد يتمسك أيضا
بما هو أهون مما مر، فلا جدوى لنقله ونقده.
بقي الكلام في الكراهة، حيث إنها تحتاج إلى الدليل الخاص البتة، ولقد
حكم بها " الماتن " وعده من مكروهات اللباس للمصلي.
وقد يقال: بكفاية المرسلة المتقدمة، لأنها وإن دلت على الحظر - كما ادعى -
ولكن لضعف سندها يحكم بالكراهة تسامحا في دليلها، كما يتسامح في دليل
الاستحباب، حيث يكتفى فيه بما ظاهره الوجوب مع ضعف السند.
وفيه - أولا: أن نطاق تلك المرسلة خاص بالشمشك والنعل السندية،
فلا يتعدى عنهما إلى غيرهما، اللهم إلا بالقاء الخصوصية باستفادة التمثيل لا التعيين.
وثانيا: على فرض شمول (حديث من بلغ) للترك كشموله للفعل لا يدل على
أزيد من محبوبية عنوان الرجاء فعلا أو تركا، وأما محبوبية نفس ذلك الفعل
أو الترك فلا، فحينئذ لا يثبت الاستحباب المصطلح هناك ولا الكراهة المصطلحة
389

هنا. كما أنه بناء على شموله لفتوى الفقهاء فهو أيضا كذلك، ولكنه مصون
عن النقاش الأول، إذ الفتوى بالمنع العام موروث عن بعض أصحابنا (ره) فتعين
أن الأقوى: هو الجواز مع رجحان الترك برجاء المبغوضية الوضعية.
ثم إن المصنف (ره) قد أخذ في بيان ما يكره من اللباس حال الصلاة، وحيث
إن جل ذلك مورد للتسالم - لعدم الحرمة وضعا وتكليفا بل الكراهة في بعضها محل
إشكال - فلا جدوى هام للبحث عن ذلك، عدا الثوب الذي له تماثيل - لكونه
موردا للخلاف - إذ المحكي عن بعض الأصحاب هو المنع فيه. وكذا في الخاتم
الذي له تمثال. وذلك على قسمين: أحدهما: ما يكون صورته المرسومة فيه
بارزة عن نفس ذاك الثوب أو الخاتم - كما هو كذلك عند حك أطراف تلك
الصورة - والآخر: ما يكون بمجرد الرسم والنقش. وكيف كان: فالمحكي عن
(مبسوط الشيخ ونهايته) هو المنع، وكذا عن " ابن البراج " في الخاتم أيضا.
وأما النصوص الخاصة - فمنها: ما رواه عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله
عليه السلام أنه كره أن يصلي وعليه ثوب فيه تماثيل (1).
وفي ما رواه عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام أنه
سأله عن الصلاة في الثوب المعلم، فكره ما فيه من التماثيل (2) بناء على إرادة كراهة
الاصطلاحية منهما، حيث إنها في عصر الصادقين عليهما السلام قد صارت بمعناها الدارج في
الفقه، إذ المتداول في ألسنة فقهاء العامة من الوجوب والندب والحرمة والكراهة
هو ما يكون معهودا اليوم، ومن المعلوم: أن وحدة العصر وشيوع اللغة وتداولها
في الكتب والأفواه توجب إرادة المعنى الدارج، لا الحرمة المفسر بها الكراهة في
اللغة الساذجة.
ويشهد له ما رواه عن الحميري قال: وسألته عن الخاتم يكون فيه نقش
تماثيل سبع أو طير يصلى فيه؟ قال: لا بأس (3).

(1) الوسائل باب 45 من أبواب لباس المصلي ح 2 و 4 و 23.
(2) الوسائل باب 45 من أبواب لباس المصلي ح 2 و 4 و 23.
(3) الوسائل باب 45 من أبواب لباس المصلي ح 2 و 4 و 23.
390

حيث إنه صرح بعدم البأس، وإن كان نطاقه في الخاتم ولكنه قريب الحكم
من الثوب، فتأمل، إذ لا وجه للسراية، مع ما في سند " قرب الإسناد " من
النقاش.
وفي قبال هذه النصوص ما يستفاد منه المنع، لا في خصوص الثوب الذي
فيه تمثال، بل في الخاتم أيضا.
فمن ذلك: ما رواه عن أبي جعفر عليه السلام قال: لا بأس أن تكون التماثيل
في الثوب إذا غيرت الصورة منه (1).
إذ مفهومه البأس عند انحفاظ تلك الصورة وعدم تغييرها، نعم: لامساس
لها بباب الصلاة، فلا يستفاد منه المنع الوضعي.
ومنه: ما رواه عن عمار، عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث عن الثوب يكون
علمه مثال طير أو غير ذلك أيصلى فيه؟ قال: لا، وعن الرجل يلبس الخاتم فيه
فيه نقش مثال الطير وغير ذلك؟ قال: لا تجوز الصلاة فيه (2).
وظاهره المنع الوضعي عن الصلاة في ذلك الثوب أو هذا الخاتم، وإن كان
ظهوره في الأخير - أي المنع بالنسبة إلى الخاتم - أقوى، لمكان التعبير بعدم
الجواز فيه دون الثوب، إذ ليس ظهور قوله عليه السلام في الجواب " لا " - أي لا يصلي
فيه - بمثابة ظهور قوله عليه السلام " لا تجوز الصلاة فيه " وكيف كان: يستفاد منه المنع
الوضعي بالنسبة إليهما.
ومنه: ما رواه عن علي بن جعفر، عن أبيه إلى أن قال: وسألته عن الثوب
يكون فيه التماثيل أو في علمه أيصلى فيه؟ قال: لا يصلى فيه (3).
لظهوره في المنع الوضعي فتبطل الصلاة في ذلك، كبطلانها فيما اقترن بغيره
من الموانع الوضعية.

(1) الوسائل باب 45 من أبواب لباس المصلي ح 13 و 15 و 16.
(2) الوسائل باب 45 من أبواب لباس المصلي ح 13 و 15 و 16.
(3) الوسائل باب 45 من أبواب لباس المصلي ح 13 و 15 و 16.
391

وقد يعالج بحمل المنع على الكراهة بظهور لفظ الكراهة في الطائفة
الأولى في جائز الفعل وراجح الترك، وعلى تسليم كونه للقدر المشترك يجب
في خصوص المقام إرادة هذا المعنى منه، للشهرة العظيمة بين الأصحاب، ولورود
المنع بالنسبة إلى غير ذلك من النهي عن التختم بالحديد ونحوه المحمول على
الكراهة.
وأيده (في الجواهر) بما رواه عن علي بن جعفر، عن أخيه أبي الحسن
عليه السلام قال: سألته عن رجل صلى وفي كمه طير؟ قال: إن خاف الذهاب عليه
فلا بأس - الحديث (1).
وفيه: أن الحمل المذكور وإن يتم في خصوص الخاتم، بناء على
اعتبار " قرب الإسناد " حيث نفى فيه البأس عنه، فيقدم هذا النص بالجواز على
ذاك المنع، ولكنه بالنسبة إلى الثوب منظور فيه، لعدم نقل قول عن المعصوم عليه السلام
حتى يكون لفظ الكراهة مأخوذا في مقاله عليه السلام فيحمل على معناها الدارج
اليوم، بل الظاهر من روايتي " عبد الله بن سنان " و " محمد بن إسماعيل بن بزيع "
المتقدمتين استفادة الراوي من كيفية هيئة المعصوم عليه السلام الانزجار والكراهة،
فحينئذ لا مجال للحمل على المعنى المصطلح وإن كان في عصر الصادقين عليهما السلام إذ
لا لفظ أصلا، فلا ظهور للجواب في جائز الفعل وراجح الترك وإن لم يكن ظاهرا
في المنع التام، بل لعله للقدر المشترك بينهما، فمعه لا يعارض الطائفة الثانية
الدالة على المنع، للتلائم بين مفاديهما.
اللهم إلا أن يطمئن بذهاب المشهور إلى الكراهة أن مراد الطائفة الأولى هو
ذلك أيضا، لاحتمال عثورهم على ما لم نعثر عليه، ولكنه خرص غير مشفوع بالبرهان
بعد أن كان خيرة " الشيخ " - الذي هو الأسطوانة العظيمة في الفقه - هو المنع.

(1) الوسائل باب 60 من أبواب لباس المصلي ح 1.
392

أضف إلى ذلك: أن ما عده في الجواهر مؤيدا من حديث (طيرا لكم)
ففيه أولا: أنه مذيل بذيل لم ينقله في " الجواهر " وهو خوف الذهاب والطيران،
ومن المعلوم: أن لخوف التلف حكما لا يتعداه إلى غيره.
وثانيا: أنه خاص بصورة أخذ الحيوان الحي وجعله في الكم، وأين هو
من المثال المبحوث عنه؟ للميز التام بين نفس الحيوان وبين تمثاله، كما يتضح
في اقتناء الصورة المجسمة، حيث إنه لا كلام في جواز اقتناء نفس الحيوان
الحي، وأما اقتناء صورته المجسمة فمورد خلاف، لاختيار بعض أصحابنا (ره)
حرمة اقتنائها، فلا مجال للتأييد أصلا.
كما أن الاستشهاد بالنهي عن التختم بالحديد ونحو ذلك خال عن التحصيل،
لدوران الحكم مدار دليل الترخيص، ففي أي مورد حصلت الرخصة يحمل
المنع الوارد فيه على الكراهة جمعا بين الدليلين، وفيما لم يرد - كالثوب - يؤخذ
بظاهر المنع.
فالأحوط - لولا الأقوى - هو المنع عن الصلاة في الثوب الذي فيه تمثال.
ثم إن المراد من التمثال هو ما يكون لذي الروح الذي لا يبقى بمجرد
التغيير بقطع الرأس مثلا، وأما مجرد النقش سواء كان لذي روح أو غيره فلا
يزول بمجرد التغيير أو محو بعض أجزاءه - لصدق النقش بحاله - كما أنه متفق
عليه أيضا، فلا ريب في جواز الصلاة في الثوب الذي فيه تمثال غير ذي روح
البتة نصا وفتوى.
393

فصل
في مكان المصلي
والمراد به ما استقر عليه ولو بوسائط وما شغله من الفضاء
في قيامه وقعوده وركوعه وسجوده ونحوها، ويشترط فيه
أمور: أحدها إباحته، فالصلاة في المكان المغصوب باطلة.
والمراد من المكان هنا ما يعد وعاء للمصلي في حال صلاته: من الأرض التي
تقله ولو بالوسائط، والفرش الذي يستقر عليه، والفضاء الذي يطيف به، وما إلى
ذلك مما يعد مكانا له عرفا، بلا احتياج إلى بيان ما تضارب الآراء في حقيقته،
لخروجه عن طور البحث.
ولما كان المستند لاشتراط الإباحة هو الأمر العقلي الدال على عدم تمشي
القربة بالحرام، أو على عدم كون المبعد مقربا، وعدم جواز اجتماع الأمر والنهي
بتعدد الجهة، وغير ذلك من القواعد العقلية - بلا نص خاص ودليل تعبدي
مخصوص يدل على الشرطية - فيلزم البحث عما هو الحرام، وعن كيفية ارتباطه
394

بالواجب: من التلازم، أو الاستلزام، أو العينية، حتى يتضح ما هو الملاك للمنع
الوضعي عما ليس كذلك، وأن المقام من أي قبيل من ذلك؟ فلنهد قبل الخوض
في الكلام مقدمة وجيزة - مر تمام القول فيها عند البحث عن لباس المصلي -
وهي: أنه لا إشكال في جواز التطرق إلى الواجب العبادي من الحرام - كركوب
الدابة المغصوبة في طريق الحج - إذ لا اتحاد بين الواجب والحرام، بل أحدهما
مقدمة للآخر فهما غيران، وكذا لا إشكال في جوازه من الحرام الملازم له فضلا
عن مجرد الصحابة والقرآن، لأن التلازم وكذا المقارنة ينادي بالغيرية المقابلة
للوحدة، فلا اتحاد في ذلك كله أصلا، كما أنه ليس شئ من ذلك مصبا للكلام
ولا داخلا فيه البتة.
إنما الكلام فيما لو اتحد الواجب العبادي والحرام، بأن اجتمعا في وجود
واحد شخصي بنحو تكون حيثية وجودية واحدة مصداقا لذينك العنوانين عقلا بلا
شائبة كثرة وجودية أصلا، فهل يجدي مجرد تعدد العنوان مع وحدة المعنون؟
حتى يجوز الجمع، أو لا يجدي؟ حتى لا يجوز.
فإثبات الاشتراط المار رهين تمامية برهان (امتناع الاجتماع) لعدم
جدوى لتعدد العنوان بعد وحدة المعنون.
ثم إنه يلزم التنبه بأن محذور الاتحاد مطبق بجميع الأحوال الصلاتية
أو خاص ببعض تلك، فعلى الأول: تبطل الصلاة مطلقا، وعلى الثاني: يختص
البطلان بالصلاة التي تكون مع تلك الحالة الخاصة من الركوع أو السجود، وأما
صلاة من لا سجود أو لا ركوع لصلاته لجواز اكتفاءه بالايماء مثلا، فلا.
فالبطلان يدور مدار محذور الاتحاد سعة وضيقا، إذا تمهدت لك هذه
فنقول:
إن الصلاة ملتئمة من الأقوال والأفعال، فلو صلى في أرض أو فرض مباح
ولكن في فضاء مغصوب لا مجال هنا للبطلان، إذ لا اتحاد بين شئ من تلك الأقوال
395

أو الأفعال الواجبة وبين الغصب أصلا، توضيحه: أن القول من حيث إنه لفظ وإن
استلزم تموج الهواء ويكون ذاك التمويج تصرفا غصبيا، إلا أنه غير متحد لذلك
اللفظ بعينه، بل هو مستلزم إياه لا أنه عينه. مع ما في غصبية تمويج الهواء من
النقاش، إذ لكل أحد أن يتصرف في فضائه المباح له بما يستلزم تموج هواء الغير،
لأن صرف التمويج ليس غصبا، نعم: نفس الكون في القضاء المغصوب غصب، وأين
هو من غصبية اللفظ؟ لأن الكون فيه محرم، وأما أطواره الخاصة المستلزمة لموج
ذاك الفضاء، فلا، إذ ليس تصرفا آخر.
والبحث وإن كان عقليا ولكن في حوزة العرف، بمعنى أن ما يعده العرف
تصرفا غصبيا لو صار عين الواجب العبادي ومتحدا معه يحكم العقل بالمنع (على ممشى
الامتناع) وأما ما ليس عنده تصرفا أصلا - كغمض العين وتحريك الجفن والطرف
أو العطاس أو نحو ذلك - فلا، وكذا ما ليس عنده تصرفا زائدا عن أصل الكون
الغصبي كما سيتضح. فحينئذ ليس اللفظ عين الغصب، كما أن مجرد التمويج ليس غصبا
فلا يتحد شئ من الأقوال الصلاتية مع الغصب فيما لو كان الفضاء مغصوبا فضلا عما
إذا كان الفضاء مباحا مع غصبية ما استقر عليه من الأرض أو الفرش، إذ لامساس
للفظ بالمستقر عليه من الأرض ونحوه. هذا مجمل الكلام في الأقوال الصلاتية.
وأما الأفعال - فليعلم أولا: أنه ليس الاستقرار على الأرض والكون
عليها واجبا في الصلاة، إذ لا دليل عليه، فلذا لو قدر أن يستقر على الماء أو الهواء
مثلا لصحت صلاته من حيث الاستقرار، فليس الكون على الأرض واجبا صلاتيا،
نعم: هو من المقارنات اللازمة للحياة، بل الواجب فيها من الأفعال أوضاع خاصة:
من القيام والركوع والسجود ونحو ذلك.
وثانيا: أن الغصب هو نفس الكون في مكان أو فضاء مغصوب، وأما الأطوار
المعتورة من الحركات الخاصة والسكنات المخصوصة فليست غصبا زائدا - كما مر -
396

فليس القيام غصبا وراء غصبية أصل الكون والبقاء في المغصوب، وكذا القعود ونحوه
من الحالات الخاصة.
فحينئذ إذا كان المستقر عليه مباحا ولكن الفضاء غصبا لا مجال هنا للبطلان
أصلا، لأن الكون في ذاك الفضاء وإن كان غصبا حراما إلا أن ذلك الكون ليس
واجبا صلاتيا، إذ الواجب الصلاتي هو أطوار الكون لا هو نفسه. وأما القيام
والقعود ونحو ذلك من الأوضاع الخاصة وإن كان واجبا، ولكنه بنفسه ليس بغصب
زائدا على أصل الكون والبقاء، فلا حرمة له من حيث إنه قيام أو قعود، فما كان
حراما لا يكون واجبا وما كان واجبا لم يكن غصبا، فمن أين الاتحاد الموجب
للبطلان بناء على الامتناع؟ هذا إذا كان الفضاء وحده غصبا، فاتضح أن لا محذور
فيه أصلا، لا من حيث الأقوال، ولا من حيث الأفعال.
وأما إذا كان المستقر عليه من الأرض ونحوه غصبا فقد مر الكلام في صيانة
اتحاد الأقوال مع الغصبية. وأما الأفعال: فالكلام فيها - من حيث عدم وجوب نفس
الكون على الأرض ومن حيث عدم غصبية الأطوار المعتورة على الكون في المغصوب -
هو ما مر، فلا غصبية للقيام والقعود والركوع والهوي والنهوض ونحو ذلك.
إنما المهم هو (السجدة) حيث إن المأخوذ فيها أمور: منها (وضع الجبهة
على الأرض) وحينئذ لو كان وزان لزوم الوضع على الأرض في السجدة لزوما
شرطيا مستفادا من دليل مستأنف - نحو لزوم كون مسجد الجبهة مما يصح السجود
عليه من الأرض أو ما تنبته مما لا يؤكل ولا يلبس مثلا بخلاف سائر المواضع
الستة الباقية إذ لا لزوم لذلك فيها - لأمكن القول بعدم المحذور أيضا، لأن
الوضع على الأرض وإن كان معتبرا في السجدة، ولكنه بنحو الشرطية، وقد مر
التحقيق بأن لا دليل على لزوم قصد القربة في الشرط كالجزء، لأن غير واحد من
الشرائط يحصل بدونه، فمعه يمكن الامتثال في ضمن الحرام.
397

وأما لو كان وزانه وزان غيره مما اعتبره الشارع جزء لحقيقة السجدة فحينئذ
يتحد الواجب مع الحرام، لأن هذا الوضع بعينه غصب، إذ المفروض غصبية تلك
الأرض، وهو بنفس وضع جبهته عليها غاصب لها مع كونه واجبا فيتحدا، وحيث
إن الأمر في وضع الجبهة هو الجزئية فيتأتى محذور الاتحاد في خصوص السجدة.
ومن هنا ينقدح أن لا اتحاد فيما عداها ولا بطلان لجميع الصلاة، لاختصاصه
بالسجدة فقط، فمن لا يجب عليه الوضع المذكور في سجدته لأن وظيفته الايماء
أو نحوه لا بطلان لصلاته في الأرض المغصوبة، فما اشتهر من الفتوى العام غير خال
عن التسامح.
ثم إنه يقع الكلام على فرض الاتحاد في جوازه وامتناعه.
فعلى القول بالجواز - لا بطلان أيضا لأنه عاص وممتثل بجهتين بلا سراية،
لكفاية تعدد العنوان وعدم الضرر من ناحية وحدة المعنون.
وأما على القول بالامتناع - فقد يستدل له تارة: بأن البطلان إنما هو لعدم
تمشي قصد القربة، وأخرى: بأن المبعد لا يصير مقربا، ولذا يختص البطلان
بصورة العلم والعمد وما بحكمه، دون السهو وما بحكمه، لتمشي القصد فيه ولعدم
كونه مبعدا حينئذ، فيصلح للتقرب به. وفي كليهما نظر.
أما الأول: فلما يترائى من تمشي قصد القربة من العصاة المصلين لله تعالى
مع ثيابهم المغصوبة في دورهم المنهوبة من الغير رباء أو غصبا أو إغارة ونهبا، أو
لعدم تأدية الحقوق الواجبة عليهم من الزكاة والخمس مع اشتراء ألبستهم من عين
ما لم يخمس، وما إلى ذلك، بعد تنبههم بحرمة ذلك كله تكليفا، إذ المشهور
أنهم يصلون مع تلك الأحوال لله تعالى لا لغيره، فيتمشى قصد القربة البتة، وذلك
مما يشهد على كفاية تعدد الجهة، فلا يتم البرهان بهذا الدليل، وسنوضحه مزيد
ايضاح، فارتقب.
398

وأما الثاني: فالحق أيضا إمكان حصول القرب من المبعد، وتوضيحه: بأن
الميز بين التعبدي والتوصلي إنما هو باعتبار قصد التقرب في الأول دون الثاني،
ولا اشكال في أنه لو غمس شخص في ماء مغصوب ورمس فيه وكان ثوبه قذرا مفتقرا
إلى الغسل وأمكن له غسله بلا تصرف زائد ولم يغسل وغمس شخص آخر فيه
كذلك وغسل ثوبه بذاك الماء المغصوب، لامتاز الثاني عن الأول بتحصيل بعض
مطلوب المولى ويثاب عليه لحصول غرض ذاك المولى، بحيث لا مجال لارتياب
فيه أصلا، فاتضح امكان حصول القرب من المبعد. وحديث عدم تمشي قصد القربة
قد مر النقاش فيه.
ولا خفاء في أن الميز الحيثي هو الموجب لحصول القرب، وإلا لما أمكن
حصوله من حيثية العصيان، إذ المفروض تعدد الجهة وإن اتحد الوجود الخارجي
المعنون بجهتين.
وقد يستدل للبطلان تارة ثالثة بفقد الأمر ومعه لا مجال لامتثال، إذ لا بعث
حتى ينبعث به ولا أمر حتى يؤتمر بذلك.
وفيه: أنه وإن لم يكن له مجال بناء على الامتناع كما هو الفرض،
ولكن لا مانع منه بعد سقوط النهي بالعصيان مع بقاء العقاب، ولنعم ما عبر به
المحقق الخراساني (ره) في الكفاية: من أن الغاصب يعاقب بالنهي السابق الساقط،
فحينئذ لا استبعاد في تحقق الأمر لوجود الملاك، لأنه المفروغ عنه في بحث الاجتماع
والامتناع، إذ لا بد من وجود الملاكين البتة. ونظيره من حيث تصوير الأمر ما
هو المعالج به في مبحث الترتب عند مصدومية الأمر بالضد الأهم، إذ يحكم هناك
بتحقق الأمر بالمهم في صورة عصيان الأمر بالأهم.
مع ما في أصل لزوم الأمر وعدم الاكتفاء بالملاك التام من النقاش، وقد مر
منا التحقيق - في كتاب الطهارة وغيره - من تصحيح ذلك بمجرد انضمام الحسن
الفعلي بالحسن الفاعلي، ولسنا الآن بصدد ذاك الأمر، بل للإشارة إلى ما في مبحث
399

الترتب (من تصوير الأمر بالمهم عند عصيان الأهم) إذ لأمنع من تحقق الأمر
بالمهم حينئذ، وكذا في المقام لا غرو في تحقق الأمر بالصلاة عند سقوط النهي
عن الغصب.
والحاصل: والحاصل: أنه لا إشكال في صحة الصلاة بناء على جواز الاجتماع عند
اتحاد المحبوب والمغضوب في الواحد الشخصي.
وأما بناء على الامتناع - فقد يستدل للبطلان تارة: بعد تمشي قصد القربة
ممن هو عالم بحرمة الغصب أو في حكم العالم بها، وأخرى: بعدم امكان حصول
القرب من المبعد، وثالثة: بفقد الأمر.
وقد مر النظر في هذه الوجوه بأسرها. ولنوضح بعض ذلك، لكون الحكم
من الدقائق العقلية، ثم نتبعه بما يؤيد ما اخترناه، فنقول:
أما حديث (عدم تمشي قصد القربة) فهو خاص بمن يعتقد البطلان، فالعالم
به - سواء كان علمه مطابقا للواقع أم لا - لا يمكن أن ينوي القربة ويقصدها. وأما
من عداه ممن هو عالم بالحرمة التكليفية فتمشي قصد القربة منه بغير جهة المعصية
بمكان من الامكان، ويشهد له أن جل العامة قائلون بالصحة في المروض من
البحث مع اعتقادهم حرمة الغصب تكليفا، فلو لم يمكن تمشي قصد القربة عقلا
كيف يصح لهم - مع كونهم عقلاء - الذهاب إلى صحة الصلاة، إذ الأمر العقلي
البين لا يختلف فيه الخاصة والعامة، إذ لا ارتباط للولاية بامكان تمشي قصد
القربة وعدمه.
وكذا يشهد له ما مر: من أن غير واحد من العصاة من الخاصة يصلون
لله تعالى في دورهم المغصوبة وفي ألبستهم المملوكة للغير بأحد أنحاء الملكية،
والسر في ذلك هو إمكان تمشي القصد من جهة المصلحة، إذ الجهة متعددة البتة،
وليست جهة الامتثال عين جهة العصيان، بل غيرها المتحدة معها وجودا فقط.
400

وأما قضية (عدم امكان حصول القرب من المبعد) فمضافا إلى ما مر: من
الميز بين التعبدي والتوصلي، أن المفتى به في كلمات غير واحد من الأصحاب
هو صحة صلاة من توسط في الأرض المغصوبة خارجا منها مع ضيق الوقت - كما
في الشرايع وغيره - مع أنه معاقب أيضا، إذ لا ريب في أن الخروج كالدخول غصب
يعاقب عليه وإن لم يكن منهيا عنه فعلا لعدم قدرته على الترك، ولكن لما كان
مقدورا له بالواسطة يصح النهي عنه بدوا والعقاب عليه عند الارتكاب، فلو لم
يكن المبعد من جهة الغصب مقربا من جهة الصلاة وإن اتحدا وجودا لما صحت
صلاته حينئذ، بلا تأثير لضيق الوقت وسعته، وبلا فرق بين الخروج والدخول
والتربص ونحوه. وأن اللازم هو سقوط تكليف الصلاة عمن ارتكب عمدا ما يوجب
حبسه في مكان مغصوب مدة مديدة عالما عامدا بذلك، فلا يجب عليه الأداء أصلا
لعدم حصول القرب من المبعد، إذ المفروض أنه بتسبيبه للحبس في المحل المغصوب
يعاقب على الغصب في أي تصرف من تصرفاته، هذا وأشباهه مما يشهد على إمكان
حصول القرب من المبعد.
ومما يؤيد ما اخترناه: من عدم البطلان، هو ما مر - في بحث الساتر -
من خلو النصوص الواردة في التائبين - من الكاتب الأموي وغيره - عن الحكم بإعادة
الصلوات الماضية، مع الحكم برد جميع ما كان ملكا للغير، إما بالرد إليه نفسه
إن كان معلوما، أو بالصرف في الصدقة ونحوها إن كان مجهولا، فلو كانت الصلاة
في المكان المغصوب أو الثوب المغصوب باطلة للزم التذكر البتة، لأن ذلك من
الأمور الهامة التي لا ينبغي الذهول عنها.
ويؤيده أيضا ما رواه الكليني (ره) (في باب الفرق بين من طلق على غير
السنة وبين المطلقة إذا خرجت وهي في عدتها أو أخرجها زوجها - من كتاب
الطلاق) من جواب " الفضل بن شاذان " ل‍ " أبي عبيد " في الفرق بين الطلاق في
الحيض وبين خروج المطلقة من البيت، حيث لا يحسب الطلاق في الأول وتحسب
401

العدة في أيام الخروج المنهي عنه في الثاني، بما حاصله: أن اللبث في البيت
وعدم خروجها منه ليس من شرائط صحة العدة فتحسب عدتها في تلك الأيام التي
خرجت أو أخرجت عصيانا، نحو من دخل دار قوم بغير إذنهم فصلى فيها، فهو
عاص في دخول الدار وصلاته جائزة، وكذا في الثوب المغصوب، لأن ذلك ليس
من شرائط الصلاة، لأنه منهي عن ذلك صلى أو لم يصل، وهذا بخلاف الصلاة
في الثوب النجس أو البدن النجس أو إلى غير القبلة، حيث إن الصلاة فيها فاسدة،
لأن ذلك من شرائط الصلاة... الخ.
فلو كان محذور تمشي قصد القربة أو عدم امكان حصول القرب من المبعد
متجها لرد عليه بذلك، ولما التزم به أيضا مثل " الفضل " الذي يكون أقدم
أوائل أصحابنا الإمامية.
وبعد التنبه لمقاله يتضح ما في توجيه " الجواهر " من احتمال صدور ذلك
من " الفضل " إلزاما للعامة على مقتضى قياسهم وأصولهم من القدح، إذ قد علل
في كلامه بالميز بين ما يكون مجرد معصية بلا مساس له بحدود الصلاة وبين ما يكون
من حدودها كالطهارة والاستقبال.
فتحصل: أن الحكم حسب القواعد الأولية هو الصحة. وأما بلحاظ التعبد
الخاص فقد يتمسك بالاجماع المحصل والمحكي صريحا وظاهرا، مستفيضا إن
لم يكن متواترا - كما في الجواهر. وفيه: أن التعليل في كلمات المجمعين يدور
بين ما مر: من عدم تمشي قصد القربة تارة، وعدم حصول القرب من المبعد أخرى
وفقد الأمر ثالثة، مع ما في قبال ذلك من تعليل " فضل بن شاذان " الذي يكون
من أقدم أصحابنا، فالاتكال بمثل هذا الاجماع الذي يدور كلام أهله بين هذه
العلل العقلية مشكل جدا، لاحتمال استنادهم إليها قويا، ويشهده أن كتب
" المحقق " و " العلامة " ونحوهما مشحونة بها، فاحتمال عثورهم على النص الخفي
على غيرهم بعيد جدا، بل صرح في " المعتبر " بفقدان النص، فراجع.
402

وقد يتمسك بنصوص دائرة بين ضعيف السند أو المتن، وقد مر تفصيل ذلك
في بحث اللباس المغصوب إذ " الغوالي " ضعيف السند، وكذا ما في بعض نسخ
" نهج البلاغة " من حديث " الكميل " فراجع.
فالأقوى: هو الصحة (على القاعدة) فمن اجترء على ذلك فهو، ومن لم
يجترء عليه فليس له الاقتحام بالفتوى بالبطلان أيضا، بل عليه الاحتياط خروجا
عن شبهة الخلاف للاجماع المدعى.
ولنعم ما في كتاب " المعالم " وإن كان في مثاله من الخياطة في المكان المغصوب
من النظر.
ولا فرق في جميع ما ذكر بين النوافل والفرائض، كما يتضح بعد التدبر.
سواء تعلق الغصب بعينه أو بمنافعه، كما إذا كان مستأجرا
وصلى فيه شخص من غير إذن المستأجر وإن كان مأذونا من
قبل المالك، أو تعلق به حق، كحق الرهن، وحق غر ماء الميت،
وحق الميت إذا أوصى بثلثه ولم يفرز بعد ولم يخرج منه، وحق
السبق كمن سبق إلى مكان من المسجد أو غيره فغصبه منه غاصب
على الأقوى، ونحو ذلك.
قد لاح لك خلو المقام عن التعبد الخاص، لعدم صلوح ما يتمسك به أحيانا
من الاجماع أو النصوص الخاصة للاستدلال، لفقد شرائط الحجية. فالمدار الوحيد
هو القاعدة الدائرة حول حرمة التصرف المتحدة مع الصلاة كلا أو بعضا، فعلى
القول بالبطلان: لا ميز بين موارد حرمة التصرف أصلا.
403

وحيث إن " الماتن " قد تعرض لفروع غير خالية عن الجدوى علما وعملا،
فلنعطف الكلام إلى بسطها حسبما يليق بالمقام، فتمام المقال على ذمة جهات:
الجهة الأولى
في التصرف في منفعة الغير
قد مر البحث عن التصرف في عين الغير. وأما التصرف في منفعته: فكان يتصرف
في مكان مستأجر، حيث إن عينه للمؤجر ومنفعته للمستأجر، ومن المعلوم: أنه
لا ميز في حرمة الغصب بين أنحاء المالية من العين والمنفعة شرعا ولا عرفا، لقبح
ذلك كله لدى العقلاء، ونهى الشارع عنه بلا ريب. كما أنه لا فرق في هذه الجهة
بين المؤجر وغيره لاختصاص المنفعة بالمستأجر، ولا يحل لأحد مؤجرا كان أو غيره
أن يتصرف فيها إلا بطيب نفس ذلك المستأجر، وإذا لم يكن لمالك العين نفسه أن
يتصرف فيها بدون طيب نفس المستأجر، لا يكون للمأذون من قبله ذلك بالأولوية
إذ لا جدوى لإذن من لا أثر لإذنه.
والحاصل: أن مناط البطلان - على القول به - هو اتحاد حيثية التصرف
المحرم مع حيثية واجبة صلاتية، فعند تحق عنوان (التصرف الممنوع) يتحقق ذاك
الحكم بلا كلام، فلا نطيل البحث بتعرض جميع ما يكون التصرف فيه تصرفا في
المنفعة، لأن حكم الغائب هو حكم الشاهد.
الجهة الثانية
في التصرف في العين المرهونة
لا إشكال في الجملة في عدم جواز تصرف الراهن وكذا المرتهن في العين
المرهونة بدون إذن صاحبه، لأن تلك العين وإن كانت باقية على ملك الراهن مع
ما لها من المنافع، إلا أنه محجور عن التصرف فيها بدون إذن المرتهن.
404

إنما الكلام في أنحاء التصرف الممنوعة، إذ لا ريب في حرمة بعضها، كما لا
مرية في جواز بعضها، فهل التصرف الصلاتي من قبيل الأول؟ أو الثاني؟ وتوضيحه:
أن الرهن لما كان وثيقة لدين المرتهن فلا محيد عن هجر الراهن وقطع سلطنته
ليتوفر دواعيه إلى الأداء وينبعث نحوه، فعليه يكون محجورا من الاتلاف،
وكذا التصرف الناقل: من البيع والإجارة نقلا للعين أو المنفعة، ومن الاستيلاء
ونحوه مما يوجب النقص فيه وتقل الرغبة حينئذ.
وأما التصرف الذي يعود نفعه إلى تلك العين - كعلاج المريض، أو رعي
الدابة وسقيها، أو تأبير النخل، وما إلى ذلك من التصرفات النافعة - فلا حجر
بالنسبة إليها.
فهل الصلاة من سنخ الأول المحجور عليه؟ أو الثاني المرخص فيه؟ والظاهر
عدم كونها من الثاني، فيشكل التصرف الصلاتي حينئذ، مع ما ورد من النبوي
المعمول به من أن " الراهن والمرتهن كلاهما ممنوعان من التصرف " ومن هنا
يتضح حكم محجورية المرتهن البتة، إذ لبس العين ولا منافعه ملكا له أصلا، فمن
أين يحل له ذلك! إذ ليس قرار العين لديه إلا وثيقة فحسب، فليس له التصرف
فيها بدون إذن الراهن أصلا.
الجهة الثالثة
في التصرف في تركة الميت الغريم
إن الموت كما يوجب حلول الذين المؤجل كذا يوجب تلون ما تركه
الميت الغريم بلون ما، فلا تكون الأعيان المتروكة طلقا بحيث تنتقل إلى الوارث
بلا مساس لحق الميت أو الدائن - عينا أو حكما أو حقا - بها أصلا.
وحيث إن أنحاء ذاك التلون مختلفة تصورا وأثرا، فلا بد من بيانها وشرح
ما يتفرع على كل منها والإشارة إلى ما هو الأقرب من الصواب منها، فلنأخذ ببيان
405

تلك الأنحاء وما لها من الآثار، وهي على وجوه:
الأول:
أن تكون تلك الأعيان ملكا للميت بتمامها فيما إذا كان الدين مستوعبا،
أو بمقدار الدين فيما لم يكن كذلك، ويلزمه عدم جواز التصرف فيها أصلا
- لا للوارث ولا لغيره - إذ لا إرث ولا انتقال أبدا، فما لم يؤد دين ذاك الميت لما
انتقل المال عنه إلى وارثه. ولا فرق في الأداء بين كونه من ذلك المال أو من غيره،
كما لا ميز بين تأدية الوارث وغيره، بل ولا ميز بين التأدية وبين إبراء ذمة الميت
بتبرئة من الدائن نفسه.
والغرض أنه ما دامت ذمته مشغولة بالدين يكون المال ملكا له، ويكون
الوارث وغيره من الدائم ونحوه محجورا من التصرف فيه وكذا في نما آته
المتصلة أو المنفصلة، لكون الجميع ملكا للميت حدوثا وبقاء.
وأورد عليه: بعدم صلوح الميت للمالكية، فكيف يبقى المال على ملكه
وهو فاقد للحياة التي تكون مبدء للآثار؟ بل وكيف يحدث النماء في ملكه مع أنه بالموت صار معدوما لا خبر عنه ولا به؟ إذ هو ليس بشئ حتى يعتبر له ذلك!
وأجيب: بأن الملكية ليست مما لا تناله يد الاعتبار نفيا واثباتا، بل هي
من الأمور الاعتبارية التي زمامها ايجابا وسلبا بيد من له الاعتبار من العقلاء،
وكم لها من النظائر الدارجة التي اعتبرت فيها إحدى الأمور الاعتبارية! كما
يلي: نحو اعتبار الملكية للرضيع الذي لا يقدر على شئ بل هو كل على المرضع،
وكذا المجنون، لأنه وإن كان محجورا ولكنه مالك. ونحو اعتبارها للجهات
والعناوين العامة - كالوقف على العلماء والفقراء - إذ ليس المالك هو الشخص العالم
حتى ينتقل إلى وارثه ما لم يؤد إليه، بل هو العنوان العام والجهة الفائقة، من
دون أن تكون (الجهة) شيئا في الخارج صالحا للتملك حسب ذاك الزعم. ومنه
406

الوقف على المسجد والسبيل والمقبرة، فيمكن اعتبارها فيما لا ذات له حية
مدركة فعالة.
أضف إلى ذلك كله: أن الموت ليس إلا الانتقال من دار إلى أخرى، لا أنه
عدم ونفاد، وما هو المهم في التشخص هو النفس الباقي بعد الموت البتة، ولذلك
يعتبر للميت ذمة بقاء كما كانت حدوثا، ويقال: إن ذمته مشغولة بالدين، ويصحح
تبرئة ذمته ويتصور افراغها بالتأدية من الوارث أو الشخص الثالث، فلو كان الموت
عدما رأسا لما كان للمعدوم ذمة ولما أمكن تبرئة ذمته أو افراغها.
ويؤيده ما ورد - فيما لو قطع عضو من أعضاء الميت - من أنه يجب على
القاطع تأدية مقدار خاص من المال من دون انتقال ذاك المال إلى الوارث، معللا
بأنه - أي الميت - ملكه بعد الموت لا قبله حتى يرثه الوارث بالموت ثم أمر
بصرفه في وجوه البر.
والغرض: أن هذا التعليل المنصوص مصحح لاعتبار الملكية للميت رغما
لأنف الدهري المتفوه بأنه: إن هي إلا حياتنا الدنيا وما يهلكنا إلا الدهر.
إلى غير ذلك من الشواهد الدالة على إمكان اعتبار الملكية للميت، ولكن
في التزامها في المقام نوع غموض قلما يلتزم بلوازمه: من كون النماء تبعا للأصل
في حدوثه ملكا للميت مثلا ونحو ذلك، وإن كان الحق صيانته أيضا عن الغموض،
فبعد تصحيح الملكية ثبوتا وجريان الاستصحاب اثباتا يؤخذ به، إلا بلحاظ أدلة
الإرث والاجماع، فارتقب.
الثاني:
أن تصير تلك الأعيان المتروكة ملكا للغرماء على قدر سهامهم في الدين،
كلا عند الاستيعاب، وبعضا عند عدمه، وحينئذ تفرغ ذمة الميت عن الدين رأسا
إذ المفروض انتقال ما في ذمته من الدين وتبدله إلى العين، ولا مجال معه لاشتغال
407

ذمته بعد، ويلزمه أنه لو تلفت تلك الأعيان بلا تفريط وإتلاف في الآن الثاني من
الانتقال الملكي لكانت محسوبة من الغرماء، فتبرأت ذمة الميت بنفس الموت
الموجب للتبدل من الذمة إلى العين، وتلفت تلك الأعيان من مال الديان.
ولو كانت أكثر من الدين وفرض الانتقال المذكور - وكان بنحو الإشاعة لا الكلي
والمعين - وتلفت تلك الأعيان لا بتمامها بل ببعضها، للزم احتساب التلف بالمقدار
المشاع أيضا على سهام الغرماء، فتحسب عليهم وعلى الوارث بمقدار النسبة.
والتزام ذلك أيضا غير خال عن الغموض والبعد، بل هو مخالف لما ارتكز
في الشرع: من بقاء ذمة الميت مشغولة وعدم فراغها من الدين إلا بالابراء أو
التأدية نصا وفتوى.
الثالث:
أن تصير تلك الأعيان المتروكة منتقلة إلى الورثة ولكن لا طلقا وبلا لون،
بل متعلقة لحق الغرماء بنحو تعلق حق الرهانة، فهي بمنزلة الأعيان المرهونة
لدى المرتهن، حيث إنها ليست طلقا بل تكون متعلقة لحق الرهانة.
فالكلام في ذلك حينئذ هو ما مر في حق الرهانة، فليس للغرماء ولا
للورثة أن يتصرفوا فيها قبل فراغ ذمة الميت الغريم إبراء أو تأدية، ولا يجب
على الورثة تأديته من عين تلك الأعيان بل لهم الخيار في مقام الأداء، كما أن للغير
التبرع به أيضا، فعند فراغ ذمة الميت تنفك الأعيان المتروكة عن قيد الرهانة.
وهذا الوجه وإن أمكن ثبوتا، إلا أن نطاق دليل الإرث هو كون الانتقال
إلى الوارث إنما هو بعد الوصية والدين، وسيجئ البحث عن تفسير البعدية،
فانتقال الكل مصدوم آية ورواية، فارتقب.
408

الرابع:
أن تصير تلك الأعيان منتقلة إلى الورثة، ولكن محكومة بحكم الملكية
للميت، فأصل العين ملك للوارث حقيقة وللميت حكما، ومنشأ الالتجاء إلى
الملكية الحكمية هو عدم النيل إلى ما قررناه من الملكية الحقيقية للميت، فجمعا
بين عدم إمكان الملكية الحقيقية للميت وبين عدم انقطاع ارتباطه عن تلك الأعيان
قبل فراغ ذمته يقال بالملك الحكمي، وحيثما حققناه - في الوجه الأول - من
امكان الملكية الحقيقية للميت فلا ضرورة حينئذ لتجشم الملكية الحكمية.
أضف إلى ذلك: ما في انتقال الجميع إلى الورثة من المنع اللهم إلا فيما
بعد الوصية والدين.
وهيهنا وجه آخر، لعله يرجع إلى بعض الوجوه المارة التي لبعضها قائل.
والرابع منها خيرة " ابن إدريس ". والحاصل: أن ما يرجع إلى الميت - من الدين
والوصية والكفن وما إلى ذلك - هل يبقى على ملكه حقيقة فلا انتقال إلى الغير
أصلا، أو حكما حتى يكون منتقلا إلى الوارث، أو لا هذا ولا ذاك بل ينتقل ما
يعادل الدين ونحوه من المال إلى الدائن بتبدل الذمة إلى العين وتفرغ ذمة الميت
بذلك، أو تنقل إلى الوارث مع تعلق حق الرهانة به؟
فيلزم الغور التام في أن أيا من تلك الوجوه مشفوع بالبرهان، فنقول:
إن الوجه الأول لا إشكال فيه ثبوتا، إذ الملكية ليست إلا أمرا اعتباريا يمكن
اثبات مثله للميت - كالزوجية - ولذا يقال: بأن المطلقة الرجعية زوجة، ولذا
يحكم بجواز تغسيل الزوج للزوجة بعد الموت مع انقطاع علقة الزوجية بموت
أحد الزوجين حقيقة، فاعتبار بقائها في بعض الأوضاع والشرائط أصدق شاهد على
إمكان اعتبار مثلها بعد الموت أيضا.
وأما الاثبات: فيكفيه استصحاب المالكية، إذ الموت ليس إلا نقلا من دار
409

إلى أخرى، مع انحفاظ ما هو الموضوع للمالكية بحاله، فإن كان هنا دليل
اجتهادي حاكم عليه فهو.
وقد يدعى الاجماع على عدم بقاء ذاك المال ملكا للميت، فإن تم فلا مجال
معه للاستصحاب، ولكن في الاتكاء على مثل هذا الدعوى تأمل، إذ المشهود في
كلمات المجمعين هو الاستدلال لذلك بأمر عقلي، وهو عدم صلوح الميت للمالكية،
فمعه يحتمل كون ذاك الاجماع مستندا إليه، وحيث إنه قد صح ما زعم كونه غير
معقول فلا مجال للاجماع حينئذ، وليس في البين إلا أدلة الإرث الدالة على انتقال
المال إلى الورثة، فإن تم نطاقها على ذلك فهو، وإلا فالمرجع هو الاستصحاب.
ومن تلك الأدلة: قوله تعالى: يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ
الأنثيين (إلى أن قال) من بعد وصية يوصي بها أو دين، (1) وقوله تعالى: ولكم
نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد (إلى أن قال) من بعد وصية يوصين
بها أو دين (2).
والكلام فيها تارة: من حيث بيان المراد من لفظة (اللام) في قوله تعالى:
" للذكر... الخ ". ونحوه من الفقرات الأخر. وأخرى: من حيث بيان المراد
من لفظة (البعد) في قوله تعالى " من بعد وصية ".
أما البحث عن المراد من (اللام): فقد يحتمل كونه لإفادة الملكية المستقرة،
فيدل على أن المال ينتقل بالموت إلى الوارث ويصير ملكا مستقرا له - كغيره
من الأملاك.
وقد يحتمل كونه لإفادة الملكية المتزلزلة، ويتفرع عليها جواز الانتزاع
والاسترداد، ويتوقف تبدلها من التزلزل إلى القرار على أمر آخر من فراغ
الذمة مثلا.

(1) سورة النساء - آية 11 و 12.
(2) سورة النساء - آية 11 و 12.
410

ويحتمل أيضا أنه ليس لإفادة الملكية أصلا، بل لبيان السهام وما يختص
بكل واحد من الورثة في قبال الآخر، ويلزمه فقد الدليل من الكتاب الإلهي
على الملكية للوارث، فمن أين يحكم بأن الوارث يتملك ما ورثه؟
وأما البحث عن المراد من (البعد): فقد يحتمل كونه لإفادة البعدية الخارجية،
أي ما لم يؤد الدين أو لم يعمل بالوصية في الخارج لا ينتقل إلى الوارث أصلا،
والمناط في الدين هو فراغ ذمة الميت بأي وجه كان، فعند عدم حصول الفراغ يبقى
المال بتمامه ملكا للميت - وكذا الوصية - وإن لم يكن الدين مستوعبا، فعليه
لو تلف بعض المال وبقى بعضه لما فات من الدين ولا من مورد الوصية شئ أصلا
- وهكذا بالنسبة إلى الكفن وإن لم يكن مستفادا من الآية - فالمراد من (البعد)
هو بعد أداء الدين أو بعد فراغ الذمة خارجا، وكذا بعد العمل بالوصية خارجا.
وقد يحتمل كونه لإفادة البعدية الخارجية ولكن في خصوص مرحلة الافراز
والعزل بلا احتياج إلى الأداء، فبعد إفراز ما يعادل الدين أو الوصية وعزله يرث
الوارث ما بقي منه، سواء بلغ مرتبة الأداء والافراغ للذمة خارجا أو لا، وكذا
عمل بالوصية خارجا أم لا، ويلزمه أنه لو تلف ذاك المقدار المعادل المعزول
لاحتسب من مال الميت بلا احتساب من الوارث، وبالعكس لو تلف ما ورثه الوارث
دون المعزول لاحتسب من ماله دون الميت. نعم: إن الذمة باقية بحالها من
الاشتغال قبل الافراغ، ونظيره من حيث العزل - في الحكم والنتيجة - هو ما قد
يعمل به في الزكاة ونحوها طلبا للمستحق، إذ لو تلف ذلك المقدار المعزول لاحتسب
من الفقراء لا المالك، كما أنه لو تلف ما عداه لاحتسب من المالك دون الفقير، وهذا
بخلاف ما لو تلف قبل العزل. وبين البابين فرق من حيث فراغ عهدة المالك هناك
بمجرد العزل - فيما كان له ذلك - دون المقام إذ لا تفرغ ذمة الميت بمجرده.
وبالجملة: فلما لم يعزل ما يعادل حق الميت لا ينتقل شئ من المال إلى
411

الوارث قل أو كثر، لتوقف الانتقال إليه على الافراز والعزل. نعم: لا يحتاج
إلى الأداء خارجا.
ويحتمل أيضا كونه لإفادة البعدية اللحاظية، لا الخارجية (بمعنى العزل)
فضلا عنها (بمعنى الأداء والعمل) فالمعنى حينئذ هو أن الكسور والسهام ملحوظة
مع قطع النظر عما يعادل حق الميت، فمن يكون سهمه نصفا فيلحظ نصف ما عدا
ما يعادل حق الميت لأنصف المجموع، وهكذا من سهمه الثلث ونحوه، فيلاحظ
حق الميت أولا ويفرز لحاظا وذهنا لا خارجا ثم يحاسب السهام والكسور ثانيا،
فبالموت ينتقل إلى الوارث ما هو حقه من السهم الملحوظ بعد لحاظ حق الميت،
بلا احتياج إلى الافراز فضلا عن الأداء، وحيث إنه لا تعين له فلو تلف شئ من
المال كان محسوبا عليهما بالنسبة بناء على الإشاعة، وأما لو كان بنحو الكلي في
المعين، فلا.
والذي يقوى في النظر: هو أن لفظة (اللام) لإفادة الملكية المستقرة، ولفظة
(البعد) لإفادة البعدية الخارجية بمعنى أداء الدين خارجا - وكذا العمل بالوصية -
فما لم يؤد الدين خارجا أو لم يتحقق ما بحكم التأدية من الابراء مثلا أو
احتسابه زكاة ونحوها من الحقوق المالية - فيما اجتمع هناك شرائط ذلك -
لا ينتقل شئ من المال إلى الوارث.
ولا فرق في هذه الجهة بين الدين والوصية عدا الميز بينهما بامكان كون
الدين مستوعبا لجميع المال فضلا عن كونه زائدا عن ثلثه، ولكن الوصية لا تنفذ
فيما زاد عن الثلث. وليكن هذا تخصيصا لعموم الآية الشامل للدين والوصية على
وزان واحد. وليعلم: أن الوصية وإن لم تنفذ عند الزيادة عن الثلث، ولكن
لو أوصى بثلث ماله فلا بد من العمل به خارجا حتى ينتقل الباقي إلى الوارث.
نعم:: لو أوصى بمال معين كدار خاصة أو بستان مخصوص بعينه وكان ذلك معادلا
لثلث ماله ينتقل ما عداه إلى الورثة، لانحصار حقه فيما عينه بنفسه، ولكن
412

البحث فيما يصلح انطباقه على أي مال من أمواله.
والحاصل: أن المستفاد من الآية هو عدم انتقال المال إلى الوارث أصلا إلا
بعد أداء الدين والعمل بالوصية خارجا، وحيث إن الملك لا يكون بلا مالك إذ
ليس من المباحات الأولية التي يكون الناس فيها شرعا سواء فلا محيد عن الالتزام
ببقائه ملكا للميت، إذ قد تحقق لك امكانه ثبوتا وقيام الاستصحاب عليه اثباتا.
ولما استوحش غير واحد من أصحابنا الملكية الحقيقية التزم بالملكية
الحكمية، بمعنى أن عين المال ملك للوارث حقيقة وللميت حكما، بحيث جميع
الآثار المترتبة على الملك إنما هي للميت وليس للوارث شئ منها.
ولا ثمرة هنا بين الحقيقي والحكمي، كما لا ميز بين الكشف الحقيقي
والحكمي في باب الفضولي، ومن لم يتضح له الملك الحقيقي يستأنس بالحكمي،
ونحن في فسحة من الالتجاء بالملكية الحكمية.
والتمسك بالاجماع مقدوح - كما مر - لاستناد بعض المجمعين إلى عدم
معقولية الملكية للميت.
وقد تقرر: أن نطاق الآية إنما هو اللائم للاستصحاب، لدلالتها على عدم
انتقال المال إلى الوارث قبل أداء الدين.
ومن تلك الأدلة: ما ورد من النصوص الخاصة الناطقة بعدم الانتقال إلا
بعد أداء الدين والعمل بما أوصاه الميت.
فمنها: ما رواه الكليني عن عباد بن صهيب، عن أبي عبد الله عليه السلام في رجل
فرط في إخراج زكاته في حياته، فلما حضرته الوفاة حسب جميع ما كان فرط فيه
مما لزمه من الزكاة، ثم أوصى به أن يخرج ذلك فيدفع إلى من يجب له؟ قال:
جائز يخرج ذلك من جميع المال، إنما هو بمنزلة دين لو كان عليه، ليس للورثة
شئ حتى يؤدوا ما أوصى به من الزكاة (1).

(1) فروع الكافي كتاب الزكاة باب قضاء الزكاة عن الميت ح 1.
413

حيث دل على أن مصب الوصية أيضا كالدين وما لم يعمل بهما ليس للوارث
شئ من المال، فقبل ذلك يكون محجورا عن التصرف فيه، إما لأنه ليس ملكا
له أصلا - كما هو الظاهر الحق - أو لأنه وإن كان ملكا له إلا أنه محكوم بأحكام
المال للميت، وقد أشير إلى فقد الأثر العملي. والحاصل: أن ما قبل التأدية ليس
للوارث شئ من المال أصلا فيكون باقيا علي ملك الميت - حسبما مر -.
ومنها: ما رواه أيضا عن السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: أول شئ يبدء
به من المال الكفن، ثم الدين، ثم الوصية، ثم الميراث (1).
ونحوه غيره من النصوص، إذ الظاهر من الترتيب ما هو بالقياس إلى الخارج
فما لم يكفن الميت خارجا لا مجال للتأدية، وما لم يؤد الدين لا مورد للوصية،
وما لم يعمل بها لا موقع للإرث أصلا، ويلزمه أنه لو تلف ما له جميعا إلا بقدر الكفن
يتعين صرفه فيه ولا مورد للبواقي، لا بأنه برئت ذمة الميت، بل لانحصار التركة
في الكفن، وكذا لو تلف إلا بقدر الكفن والدين يتعين صرفه فيهما بلا مورد
للوصية، وهكذا لو تلف إلا بقدر الكفن والدين والوصية لا مورد للإرث أصلا،
فمرتبة الانتقال إلى الوارث إنما هي بعد أداء الدين خارجا.
ومنها: ما رواه في باب (أن الدية يرثها من يرث المال).
ومما يؤيد ما قدمناه هو ما ورد في أن أولياء المقتول الغريم ليس لهم البدار
إلى الاقتصاص وعدم الاكتفاء بالقود إلا بعد تأدية الدين وابراء ذمة ذاك الميت.
والمتتبع يجد أكثر مما ذكر، فيتعين حينئذ ما قويناه في ثنايا البحث: من
أن نطاق أدلة الإرث كتابا وسنة هو عدم انتقال المال إلى الوارث إلا بعد أداء
الدين والعمل بالوصية، فما قبل ذلك لا مال له أصلا، فيبقى على ملك الميت بتمامه
حقيقة، ومعه لا يجوز له التصرف في شئ منه أصلا.

(1) فروع الكافي كتاب الوصايا باب أنه يبدء بالكفن ثم بالدين ثم بالوصية ح 3.
414

وهكذا على القول بانتقال الجميع إلى الوارث ولكن محكومة بحكم
الملكية للميت، بل وعلى القول الآخر، وهو انتقال ما زاد عما يعادل الدين
والوصية إلى الوارث ولكن مرهونة.
والحاصل: أن عدم جواز التصرف في تلك الأعيان المتروكة قبل فراغ
ذمة الميت وقبل العمل بالوصية مسلم لدى الكل، إما لبقاء الجميع ملكا للميت
حقيقة - كما هو المختار - أو لبقائه كذلك حكما - كما عن ابن إدريس وغيره -
أو لبقاء خصوص ما يعادل الدين والوصية على ملك الميت مع انتقال ما عداه إلى
الوارث ولكن مرهونة، وحيث إنه لا يجوز التصرف في الرهن فلا يجوز التصرف
في شئ من تلك الأعيان أصلا، فالصلاة فيها محرمة، وعلى القول بالبطلان عند
الاجتماع باطلة أيضا، لأنها تصرف غصبي، اللهم إلا أن لا يمنع من التصرف
الصلاتي وما يضاهيه في الرهن. هذا، وفي أصل البحث كلام يأتي في الجهة التالية.
الجهة الرابعة
في التصرف في تركة الميت قبل العمل بوصيته
وحيث إن للوصية ميزا عن الدين في بعض الأحكام، فلا بد من عقد بحث
آخر لبيان ما يرجع إليها، مع الاكتفاء فيما هو المشترك بينها وبين الدين بما
تقدم في الجهة المارة.
وذلك: إن الوصية قد تكون بشئ خاص، كالكتب المعينة، أو الدار
الخاصة، وما إلى ذلك من الأعيان التي تكون مستقلة بحيالها ولا اتساع لانطباقها
أصلا، بل لا تنطبق إلا على نفسها - كما في هذه الأمثلة - وقد تكون بشئ عام
صالح للانطباق على أكثر من واحد، كمائة درهم، أو عشرة دنانير، وما إلى ذلك
من الكلي القابل للانطباق على كثيرين بهذا النحو - أي الكلي في المعين - وقد
415

يكون بكسر مشاع في جميع أمواله، بحيث لا مخلص لأي جزء من أمواله من جزء
من ذلك الكسر.
والفرق بين هذه الصور واضح، إذ في الأولى عند التلف كلا أو بعضا يحسب
كل تالف بحياله، فإن كان التلف على تلك العين الموصى بها فلا يحسب إلا
عليها، فيكون ما عداها مصونا عن الاحتساب، فالتلف إنما هو فيما يرجع إلى
الميت والموصى له. كما أنه لو كان على ما عدا تلك العين فلا يحسب إلا عليه،
فتكون العين الموصى بها مصونة عن الاحتساب، فالتلف إنما هو فيما يرجع إلى
الوارث.
وأما في الصورة الثانية: فحيث إن الموصى به كلي ولكن في المعين لا شخصي
فعند التلف لا يحسب إلا ما عداه، فما دام المال موجودا بقدر يصلح مصداقا لذاك
الموصى به يلزم صرفه فيه من دون احتساب شئ من التلف عليه أصلا، اللهم
إلا عند استيعاب التلف أو نفوذه حدا لا يبلغ الباقي مقدار الوصية، حيث إنه
يحسب التلف حينئذ كلا أو بعضا عليه، إذ لا محيد عنه.
وأما في الصورة الثالثة: فحيث إنه لا ميز واقعا بين الميراث والموصى به،
لأن أي جزء من المال يتصور يحكم بكونه مشتركا بين الوصاية والإرث - بأي
سهم من الاشتراك أثلاثا أو أرباعا وما إلى ذلك من الكسور فيما لا يكون زائدا
عن الثلث - يكون التلف أيضا موزعا عليهما بتلك النسبة، فيحسب ثلث التالف
من الميت وثلثاه من الوارث إن كان الاشتراك بنحو التثليث، ويحسب الربع منه إن
كان بنحو التربيع وهكذا.
هذا مجمل القول في الميز بين تلك الصور من حيث التلف واحتساب التالف.
وأما من حيث جواز التصرف وعدمه - فمع قطع النظر عما ورد في خصوص الباب
من الكتاب والسنة - هو أنه على الصورة الأولى: لا إشكال في جواز تصرف الوارث
416

فيما عدا تلك العين الخاصة، سواء صرفت في مورد الوصية أم لا، وسواء جعلت
تحت يد الوصي أو من هو بحكمه من جهة الولاية أم لا، إذ لامساس لتلك العين
الخاصة بأموال أخر مفروزة عنه.
وعلى الثانية: لا إشكال أيضا في جواز التصرف إلى أن ينتهي المال إلى
قدر يتعين انطباق مورد الوصية عليه، كما في غيره من موارد الكلي في المعين.
وأما على الثالثة: فحيث إنه ليس لأحد الشريكين بنحو الإشاعة التصرف
في شئ من المال قل أو كثر إلا مع الإذن، فهيهنا أيضا لا يجوز للوارث التصرف
في شئ منه قبل إذن من له الإذن من الوصي أو الحاكم، فلو أريد بيع الجميع
أو مقدار خاص لا يجوز شئ من ذلك حتى يفرز ما يعادل ملك الميت أو حقه
فلا بد من الإذن في هذا التصرف أيضا، كما أنه لس لولي الميت أيضا الاستقلال
بالبيع ونحوه، بل يلزم إذن الوارث قضاء لأصل الاشتراك والإشاعة.
هذا محصل الكلام على القادة الأولية.
وأما مع لحاظ ما ورد في الباب (من نصوص الكتاب والسنة) فليس للوارث
شئ إلا بعد العمل بالوصية أو إفراز موردها وعزلها فيما يحتاج إلى ذلك دون
ما لا يحتاج إليه، فإن كان المراد من لفظة (البعد) في الكريمة هو البعد الخارجي
- أي مقام العمل - فما لم يعمل بمورد الوصية ليس للوارث شئ أصلا. وإن
كان المراد منها هو البعد الخارجي أيضا ولكن في مقام الافراز والعزل والتسليم
إلى الولي فما لم يعزل فليس للوارث شئ أيضا.
وقد مر: أن مفاد الكرية هو عدم حصول الملك أو آثاره للوارث إلا بعد
الدين والوصية، وكذا مفاد رواية " صهيب " أنه قبل التأدية ليس له شئ.
ولا يعارض ذلك إلا ما رواه في (باب من أوصى وعليه دين مستوعب) (1).

(1) الوسائل باب 29 من أبواب أحكام الوصايا.
417

حيث إن ظاهره التفصيل بين الدين المستوعب وغيره: بجواز الانفاق على
العيال من وسط المال عند عدم الاستيعاب.
ثم المراد من (الوسط) إما الاقتصاد في الانفاق والاجتناب عن طرفي
الافراط والتفريط، وإما هو البين، فالمراد حينئذ جواز أخذ مقدار الانفاق من
بين التركة - ولا يهمنا ذلك - فيدل على جواز التصرف عند عدم الاستيعاب
بلا توقف على العمل الخارجي بالوصية أو الافراز والعزل.
ولو شكل في الاستيعاب وعدمه يحكم بالعدم، لأصالة عدم اشتغال ذمة الميت
بالأكثر من المتيقن. فعند اجراء هذا الأصل ينقح موضوع هذه الرواية.
ولا مجال حينئذ لاستصحاب بقاء ملك الميت بحاله، لأنه وإن كان جاريا في
نفسه، ولكنه هنا مسبب من الدين المشكوك مقداره، لأن بقاءه في ملكه سعة
وضيقا مسبب من مقدار الدين كذلك، فعند الاستيعاب يكون الجميع باقيا علي
ملكه، وعند عدمه يكون مقداره مثلا باقيا دون الجميع، ومع جريان الأصل
السببي لا مورد للمسببي.
والحاصل: أن مقتضى هذا النص هو التفصيل بين المستوعب وغيره: باختصاص
المنع بالأول دون الثاني. وفي الباب رواية أخرى مرسلة دالة على جواز التصرف
حتى عند الاستيعاب أيضا، ولكنها مهجورة عملا، فلا اعتداد بها مع إرسالها.
فلا بد من العلاج بين ما مر وبين هذا النص المفصل. وقد يعالج بحمل
دليل المنع على الاستيعاب، فما كان ظاهره المنع عن تصرف الوارث فهو محمول
على ما إذا كان الدين مستوعبا. ولا خفاء في عدم تأتي مثل هذا المقال في
الوصية البتة.
وفيه: أنه وإن كان يعالج به التعارض بدوا ولكن حمل مثل رواية " صهيب "
على الاستيعاب بعيد جدا، لأن ظاهرها أن الوارث له شئ بعد التأدية، وأما
إذا لم يكن له شئ أصلا لا قبلها ولا بعدها - كما في الاستيعاب - فلا.
418

والذي يقوى في النظر من العلاج: هو حمل دليل المنع على ما إذا كان الدين
كثيرا مع امكان التأدية بسهولة من دون لزوم عسر أو كلفة زائدة، وحمل هذا
النص على ما إذا لم يكن الدين بذاك الحد مع عسر التأدية وعدم خلوها عن
الكلفة الزائدة، بل وعلى أسهل من ذلك - كما قامت به السيرة القطعية - إذ لم
يلتزم ولا يلتزم أحد من المتشرعين هجر البيت مع ما فيه من الأثاث جميع بمجرد
موت المورث في الليل أو النهار إذا كان عليه دين، بل يعيشون فيه كما كانوا،
وهكذا من يردد في ذلك البيت تعزية لأولياء ذاك الميت من المتدينين، حيث إنه
لم ينقل اجتناب الأزكياء والصلحاء عن التردد في بيت من مات وعليه دين،
للتعزية. نعم: يلزم البدار إلى التأدية بنحو لا ينتهي إلى التسامح والمماطلة.
ومن ذلك كله يتضح ما في الدين والوصية: من الأحكام، وأن الافتاء بالمنع
المطلق غير تام.
الجهة الخامسة
في التصرف فيما سبق إليه الغير من المشتركات العامة
هل السبق - الموجب للأولوية وحرمة المزاحمة والدفع - يورث حقا وضعيا
مستتبعا للآثار الوضعية أيضا؟ أو لا يورثه بل يوجب الأولوية البحتة؟ بحيث لا يترتب
عليها عدا الحكم التكليفي، وهو حرمة الدفع والمزاحمة.
والميز بينهما - بأنه على الأول: يستوي الحدوث والبقاء في الحكم، بمعنى
أنه ليس للغير دفع من سبق إلى المسجد مثلا، فإن دفعه وطرده، يكون لذاك الغير
الدفاع عن حقه بطرد هذا الدافع والعود إلى ما سبق إليه، وكما أنه ليس للغير
المزاحمة والدفع حدوثا، كذلك ليس له ذلك بقاء.
وعلى الثاني: لا يستويان، إذ المنع والمزاحمة وإن كان حراما في الحدوث،
419

إلا أنه لما صار هذا الدافع والمزاحم - بدفعه المحرم - أولى وأحق بذاك المكان
ليس لغيره دفعه ومزاحمته وإن كان هو ذاك الذي سبق إليه، ولو دفع ذاك السابق
هذا المزاحم لصار أيضا أولى بذاك المكان منه، إذ كل من سبق إليه فله الأولوية
وإن كان سبقه بنحو الدفع المحرم والمزاحمة الممنوعة.
والحاصل: أنه هل يوجب السبق إلى أحد المشتركات من المسجد والسوق
وما يضاهيهما حقا وضعيا؟ أو لا يوجبه بل ليس إلا منشأ للحكم الشرعي؟ وقد
أشير إلى الميز بينهما، ولا يلزم في الحق أن يكون صالحا للنقل، لإباء بعض الحقوق
عنه، وذلك فيما يكون متقوما بشخص خاص - كحق المضاجعة على بعض
الفروض.
ثم إنه هل يتفاوت الحكم بين دفع نفس الشخص السابق وطرده، وبين طرد
ما وضعه هناك رحلا له وأمارة على سبقه إليه، أم لا؟ ولا خفاء في أن الدفع قد يكون
بنفس الصلاة وقد يكون بغيرها.
وعلى احتمال استيجابه حقا وضعيا: فهل يكون محدودا بحد خاص من
اليوم والليلة أو أقل أو أكثر؟ أو لا حد له؟ بل يدور مدار ميل ذاك السابق إلى
البقاء وعدم الاعراض عنه.
وتفصيل المقال موكول إلى كتاب (احياء الموات) كما أفاده في " الشرايع "
حيث استقصى فيه البحث عن الطرق والمساجد والمدارس، فراجع.
والمهم في الباب هو ما روي من النصوص الخاصة، فيلزم الغور فيها حتى
يتضح ما هو الحق في ضوئها.
ومن تلك النصوص: هو ما رواه عن أحمد بن محمد، عن محمد بن إسماعيل،
عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له: نكون بمكة أو بالمدينة
أو الحيرة أو المواضع التي يرجى فيها الفضل، فربما خرج الرجل يتوضأ فيجئ
420

آخر فيصير مكانه؟ فقال: من سبق إلى موضع فهو أحق به يومه وليلته (1).
قد يناقش في السند: بالجهل والارسال، بجهالة " أحمد بن محمد " و " محمد بن
إسماعيل " مع عدم ذكر ذاك " البعض ".
ويتمحل في رفعه: بأن المراد من " أحمد بن محمد " هنا هو " أحمد بن محمد
ابن عيسى القمي " وهو من الأجلاء الذين لا يروون عن مجهول وضعيف، لأنه
بنفسه ممن نفسي " البرقي " عن بلدة " قسم " وبعده منها لنقله عن بعض الضعاف،
فحاشاه أن ينقل بنفسه ممن لا يوثق به!
والمراد من " ابن إسماعيل " هو " ابن البزيع " لأنه المنصرف إليه عند
الاطلاق، فحينئذ لا يضر الارسال.
وأما التمحل بانجباره بالعمل: فهو متوقف على كون نطاقه معمولا به
لدى الأصحاب مع انحصار السند فيه، وإلا فلا مجال للانجبار المتوقف على الاستناد
الذي لا يحرز إلا بما ذكر. هذا ما يرجع إلى السند.
وأما المتن: فظاهره تحديد الأحقية بيوم وليلة، فإن كان المراد من الحد
هو قدر ما يعادله - أي أربعة وعشرون ساعة - فهو أوسع من مجرد مرور الليل
واليوم.
وكيف كان: يدل هذا التحديد على انقضاء الحق بانقضاء هذا الأمد فليس
له دفع غيره حينئذ، بل يستوي هو والغير. مع أنه غير مفتى به لدى الأصحاب،
إذ المشهور هو ثبوت الحق ما لم يعرض عن البقاء حسب ما يتعاهد، فمن سبق إلى
المسجد للاعتكاف مثلا ليس لغيره الدفع والمزاحمة ولو بعد اليوم والليلة.
فبعد التمحل في تصحيح السند يصير معرضا عنه لا منجبرا، ولا يمكن
التفكيك بين الحد والمحدود: بأن يكون المحدود معمولا به لديهم دون الحد،

(1) الوسائل باب 56 من أبواب أحكام المساجد ح 1.
421

إذ ليس ذلك بمنزلة الفقرات المتعددة التي مغزاها تعدد السند حكما، بل مآله
في مثل المقام هو التبعيض في السند الواحد، وهو كما ترى! ولكن فيه كلام
يوافيك بيانه.
ومنها: ما رواه عن طلحة بن زيد، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين:
سوق المسلمين كمسجدهم، فمن سبق إلى مكان فهو أحق به إلى الليل (1).
وظاهره: أن السبق إلى السوق وكذا المسجد موجب لكون السابق هو
الأحق، فليس للمسبوق دفعه وطرده، وأما التحديد بالليل: فلعله لعدم التعاهد
فيما زاد عن اليوم بالقياس إلى السوق، لأنه بمجئ الليل الذي جعل للناس سكنا
يترك السوق، فليس حدا حقيقيا احترازيا، بل هو جار على الغالب: من هجر
السوق ونحوه من الأماكن المعدة للشاغل في اليوم دون الليل، ويوافيك تمام
الكلام في التحديد، فارتقب.
ومنها: ما رواه عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله عليه السلام
قال: سوق المسلمين كمسجدهم، يعني إذا سبق إذا السوق كان له مثل المسجد (2).
لا نقاش في الارسال بعد كون المرسل هو " ابن أبي عمير " الذي يكون
مراسيله في حكم المسانيد.
وأما المتن: فظاهره أيضا كون السابق إلى السوق أو المسجد أحق من غيره
من دون التحديد بالليل، ولعله لعدم لزومه حيث لا يكون احترازيا. ولا خفاء
في أن قوله " يعني إذا سبق " من كلام الراوي ظاهرا دون المعصوم عليه السلام، ولكن
يؤخذ به، حيث إنه كان هناك قرينة على بيان المراد من التنظير فترجمه الراوي
وفسره بما ذكر، وهو حجة لدى العقلاء، ولذلك يعتمدون على التراجم ما لم
ينكشف الخلاف، بلا اختصاص لذلك بلسان دون آخر.

(1) الوسائل باب 56 من أبواب أحكام المسجد ح 2.
(2) الوسائل باب 17 من أبواب آداب التجارة ح 2.
422

ولا ريب في اندراج مثل ذلك تحت حجية خبر الواحد لدى العقلاء، لأنه
وإن لم يكن إخبارا عن المحسوس ولكنه في حكمه من أجل أن له مبادي قريبة
من الحس، كما مر منا غير مرة في ثنايا المباحث المارة، فيعتد بالترجمة والنقل
بالمعنى وما يتلوه مما له مبادي محسوسة أو قريبة من الحس، لجريان أصالة عدم
الخطأ والغفلة ونحو ذلك فيها، والحاصل: أن ما فسره وبينه الراوي حجة، فتدل
على استقرار الأحقية للسابق إلى المسجد، فيحرم دفعه، قضاء للأولوية.
عود إلى بدء
إن المستفاد من هذه النصوص في الجملة أن للسابق إلى المسجد حقا
لا يجوز معه دفعه ومزاحمته - كما عليه الأصحاب - إذ لا خلاف فيه أصلا،
إنما الكلام فيما يحفه من الخصوصيات واللوازم، فهل يمكن استفادتها منها
أم لا؟ وهل يمكن الوثوق بأن مستند فتوى الأصحاب هو ما مر من النصوص
أم لا؟
وليعلم: أن الرواية الأولى قد مر تصحيحها، بأن المراد من " أحمد بن محمد "
هو " ابن عيسى القمي " ومن " محمد بن إسماعيل " هو " ابن البزيع " فلا يضر الارسال
حينئذ.
وقد نقل هذا الخبر في محكي " كامل الزيارة " (1) مع تفاوت يسير، وهو
الاختلاف في (الحيرة) كما في الوسائل والكافي، و (الحائر) كما في الكامل، وكذا
الاختلاف في (يوم وليلة) كما هنا، وفي (يوم وليلته) كما هناك، وهذا القدر
غير ضار.

(1) وصرح في السند بأحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع
كما في المستدرك.
423

والعمدة هو التحديد، حيث إنه وإن كان في غير المقام للاحتراز عما وراء
الحد، ولكن في مثل المقام معمول على التعاهد والتداول، لأن المعمول به غالبا
هو عدم التربص أزيد من ذلك - كما هو المفتى به - حيث إن المحكي عن الشيخ
(ره) هو أن الحكم بأحقية السابق إنما هي للنصوص الواردة، إذ من البعيد جدا
عدم وصول تلك النصوص إلينا، بل الظاهر أن المراد منها ما هو بأيدينا. نعم:
يحتمل ذلك بالنسبة إلى الأصول الأولية من عدم الوصول، ولكن ما وصل إلى
الشيخ (ره) ومن عاصره فقد وصل إلينا أيضا، فهو دال وشاهد على أن التحديد
في هذه الرواية محمول على الغلبة لا القيدية الاحترازية، ولذلك ترى هذه
النصوص بين عدم التحديد رأسا، وبين التحديد إلى الليل، وبين التحديد
إلى اليوم وليله.
ويؤيده أنه لو سبق إلى المسجد في الليل يحكم بأنه له الأولوية مع تحديد
بعضها ذلك إلى الليل، والسر هو أن الغالب في موارد السبق هو ما يكون في اليوم
وإن يتفق خلافه - كما في ليالي القدر والاحياء والليالي الأخر المتبركة -
ولا ريب في استقرار الأحقية في السبق الليلي كالنهاري، ولا يفهم عرفا من ذاك النص
ما هو الاحترازي منه مع كونه بعد غيبوبة الشمس وقيام الناس - على ما
في الدعائم -.
وبعد هذا التنبه يتضح أن النصوص المارة ليست معرضا عنها، بل هي معمول
بها، إذ ينطبق نطاقها على ما هو المفتى به، مع تصريح " الشيخ " بأن ذلك للنصوص
الواردة، مع استبعاد إرادته منها ما لم يصل إلينا، فهي عين ما وصلت إلينا لا غيرها،
فحينئذ يلزم الفحص البالغ عما يحوم حول هذه النصوص: من الفروعات المفروغ
عنها عند الجل لولا الكل، حتى يتضح أشد الوضوح أنها ليست بمعرض عنها،
وتلك الفروع فيما يلي:
424

فروع في من سبق إلى المسجد
الأول: في عدم انحصار حق السبق فيما كان للعبادة فقط
لا إشكال في الجملة في جواز ما عدا العبادة من المباحات في المسجد عندما
لا يكون مانعا عن العبادة، فيجوز للمسلمين الأكل والنوم والاستراحة وما إلى
ذلك من الدواعي العقلائية المباحة، وإن كان فعل بعضها في المسجد غير خال عن
الحزازة، فلو سبق أحد إلى المسجد لينام فيه - حيث إنه أطيب هواء من بيته
أو غيره لبرودته في الصيف وحرارته في الشتاء لأجل الوسائل المعدة لذلك - فليس
لغيره أن يدفعه لينام هو بنفسه فيه أو ليأكل أو ليستريح بغير النوم، كما أنه ليس
له ذلك ليصلي في ذلك الموضع مع اتساع المكان جدا بنحو لامساس بين نوم ذاك
السابق وصلاة هذا المسبوق، فلا مزاحمة.
ويدل عليه اطلاق ما عدا الرواية الأولى، لقصورها عن الشمول لما إذا لم
يكن السبق للعبادة، إذ في كلام السائل " يرجى فيها الفضل " لأنه وإن لم يكن
قيدا موجبا لتقييد المطلق - إذ لم يؤخذ في كلام المعصوم عليه السلام - ولكنه موجب
لقصور شمول الجواب ما عدا مورد لسؤال.
والحاصل: أن ما عداها مطلق لا مقيد له، كما لا انصراف له إلى خصوص
ما كان السبق للعبادة، وهذا مما هو المتلقى بالقبول لدى الأصحاب، مع استفادته
من إطلاق النص.
الثاني: في أن السبق إلى المسجد أعم من التسبيب والمباشرة
إن المدار الوحيد في ثبوت الأولوية الموجبة لحرمة المزاحمة هو صدق
عنوان (السبق إلى المسجد) سواء كان ذلك بالمباشرة كأن يسبق هو بنفسه إليه،
425

أو بالتسبيب كأن يبعث عبده نحوه أو يستنيب غيره أو يوكله وما إلى ذلك من أنحاء
التسبيب، إذ الظاهر هو صدق العنوان بذلك أيضا، حيث إنه يصدق على الباعث
أو المستنيب أو الموكل أنه سبق إلى المسجد، والعرف أصدق شاهد عليه، فيكشف
عن عدم لزوم المباشرة في صدق العنوان.
نعم: لا بد من نحو ربط هو المصحح لاستناد السبق إلى ذاك الشخص، وإلا
ينحصر صدقه بالنسبة إلى من يستند إليه من المباشر إن كان له ذلك.
فعليه يشكل الصدق فيما يكون دارجا بين بعض عشاق الصفوف الأول أو
غيرها من ادخار المواضع المتعددة لأصدقائه ورفقاءه بلا علم لهم بذلك ولا تسبيب
منهم إياه أصلا، فمعه لا حق إلا لنفس ذاك السابق بما يخصه من موضعه، وأما
غيره من أصدقاءه فلا حق لهم، لعدم انطباق عنوان (من سبق) عليهم، لا بالمباشرة
كما هو الواضح، ولا بالتسبيب كما هو المفروض.
كما أنه لا أولوية لذاك السابق بالقياس إلى جميع تلك المواضع حتى لا يجوز
لأحد مزاحمته بغير إذنه، إذ المتعارف من جعل الأولوية عرفا وشرعا هو بالقياس
إلى خصوص ما يخص السابق قضاء لوطره العبادي أو غيره، وأما ما زاد عنه من
المواضع الأخر فلا، إذ ليس وزان المسجد وزان المباحات الأولية التي تثبت الأولوية
بمقدار الحيازة.
ومن هنا ينقدح الاشكال فيما يرتكبه بعض الخدمة والسدنة من وضع
الرحال العديدة في مواضع متعددة لمن يأتي بعد ذلك للصلاة ويأخذ منه عوضا عن
هذا الانتقال، إذ مع قطع النظر عن جواز أصل المعاوضة وأخذ العوض وصلوحه
لذلك وعدمه، يشكل جواز مثله، إذ لا حق له حتى ينقله إلى الغير. نعم: عند
استقرار الأولوية يمكن توجيه أخذ العوض بأنه ليس عوضا عن الحق الوضعي،
حتى يقال: بعدم ثبوته بعد، بل لما كان رفع السابق حراما - لأولويته الموجبة
426

لحرمة مزاحمته - يعطي عوضا عنها حتى يصير مباحا بعد أن كان حراما، ولا غرو
فيه، فهو عوض للفعل (أي الاعراض والهجر الاختياري) لا للحق، كما سيتضح.
الثالث: في توقف بقاء حق الأولوية على بقاء السبق بحاله
إن في تأثير الأشياء واستتباع بعضها بعضا اختلافا بينا، حيث إن بعضها
يمكن أن يؤثر بحدوثه أمرا مستمرا حسب الجعل والتعاهد بلا احتياج إلى التأثير
المستمر، فحدوث ذاك المؤثر وحده كاف في حدوث الأثر وبقاءه، لعدم إباء الأمور
الاعتبارية مثل ذلك.
وأما بعضها الآخر: فلا يمكن أن يكون كذلك، بل لا بد من بقاءه بعد
الحدوث حتى يبقى أثره أيضا بعد حدوثه، مثلا جواز الاقتداء خلف العادل أثر
لعدالته، ولكن لا بد من استمرارها إلى آخر الصلاة حتى يجوز الاقتداء بقاء
إلى آخرها، فمجرد تحقق العدالة في الركعة الأولى غير كاف في جواز الاقتداء
حدوثا وبقاء.
والحاصل: أن الحكم في بعض الأشياء يتوقف حدوثه على حدوث ذاك البعض
وبقاءه على بقاءه، ومن هذا القبيل حق الأولوية - المجعول لمن سبق إلى المسجد
أو غيره من المشتركات العامة كالطريق ونحوه - فمن سبق إلى موضع خاص من
المسجد فهو أحق به ما دام سابقا إليه ومستقرا فيه بشخصه أو رحله من اللباس أو
المصلى وما إلى ذلك مما يشغل موضعا معتدا به، لا مثل التربة أو السبحة وما إلى
ذلك مما لا اعتداد به إلا بالنسبة إلى خصوص ذاك الموضع الخاص المحدود جدا،
حيث إنه يشكل صدق (السبق) بمجرد وضع التربة أو السبحة. وكيف كان: يتوقف
بقاء الأولوية على بقاء السبق، فمن قام وهجر الموضع فليس له الأولوية حينئذ،
إذ ليس ما يتوقف عليه من السبق موجودا. ولا ميز في هذه الجهة بين كونه ناويا
427

للعود أم لا، بل يكون ذلك بحكم الاعراض لدى العقلاء بلا تأثير لقصد العود،
ولذلك تريهم يستبقون إلى موضع سبق إليه سابق فهجره، من دون أن يتأملوا
ويتربصوا حتى يتضح لهم أن ذلك مقرون بنية العود أم لا، والسر هو نفاد أمد
حقه بمجرد هجره نوى العود أم لا. اللهم إلا أن يبقى رحله، لاستقرار السيرة
على ذلك.
وما في الرواية الأولى من " أن الرجل يخرج ليتوضأ فيجئ آخر مكانه
... الخ " محمول على بقاء الرحل، إذ بدونه لا سيرة ولا بناء من العقلاء على
الاعتداد - كما يتضح - وليست النصوص الواردة هنا لتأسيس ما لا يتعاهده العقلاء،
بل إنما هي لتقرير ما أسسته أيدي غرائزهم وارتكازاتهم، كما يتجه.
الرابع: في أن السبق إلى المسجد ونحوه لا يورث حقا وضعيا متعلقا بالعين
إن لبعض الحقوق ميزا تاما عن بعضها بعد اشتراك الجميع في الحقية، حيث
إن بعضها حق مالي يوجب تضييعه الضمان، وبعضها حق انتفاعي لا يوجب تفويته
إلا الإثم فقط، وذلك نظير حق الانفاق للزوجة على الزوج، وللشخص على العمودين
حيث إن (الأول) حق مالي للزوجة، فلذا يضمنه الزوج عند الفوت سوء كانت
الزوجة معسرة أو موسرة. وأما (الثاني) فليس إلا حقا انتفاعيا للشخص على والده
أو ولده ما دام الاعسار، ولذا لا يضمنه عند التفويت العمدي فضلا عن الفوت القهري،
فليس هنا ما يوجب اشتغال ذمته، إذ لم يفت إلا حق الانتفاع.
والمبحوث عنه من هذا القبيل، فلا يورث حقا ماليا. وبيانه بأن استواء
الناس من العاكف والباد في بعض الأمور العامة وأولوية من سبق منهم إليه، ليس
وليدا للشريعة ولا مخترعا للشارع، بل كان دارجا بين الأقوام والملل - على
اختلافهم - ولم يأت الشرع بما لم يكن معهودا لديهم.
428

وقد قرر في محله: أن جميع أنحاء المعاملات والحقوق الدارجة عند العقلاء
محكمة ومرضية للشارع عند عدم الردع، فبيع المنابذة ونحوه ممنوع، للردع،
وأما ما عدا ذلك من الأمور المعاملية الدارجة، فلا.
ولا خفاء على الغائر في قوانينهم المتبوعة: أن السابق إلى موضع خاص من
الأماكن النزهة التي يكون الناس فيها شرعا سواء هو أولى به من غيره. وكذا
في الشرايع المعدة لأخذ المياه من الشطوط العظيمة والأنهار الكبيرة، حيث إن
السابق إلى موضع خاص من شريعة مخصوصة يكون أخذ الماء فيها أسهل يكون
أولى به من غيره، وليس لغيره أن يزاحمه ويدفعه، وإلا عد ظالما لديهم ومذموما
عندهم، ولكن لا يترتب على هذا الدفع عدا التقبيح والمذمة، وأما مطالبة
ما يعادل منفعة ذاك الموضع أو هذه الشريعة فلا، إذ لا يورث السبق إلا أولوية
الانتفاع، وأما تملك المنفعة فلا، ولذلك لا يجوز التعويض والمبادلة بالاختيار،
ولا مطالبة ما يعادل المنفعة الفائتة بالدفع والاضطرار، إذ ليس للسابق حق مالي
متعلق بالعين، فتلك العين باقية على حالها: من اشتراك الجميع فيها وصلوح
انتفاعهم منها بلا تلون بلون خاص أصلا، فهي بعد السبق كما هي قبله، ولم يتخلل
إلا حق أولوية الانتفاع، من دون أن تصير منفعتها ملكا للسابق مثلا.
نعم: لما أوجبت أولوية الانتفاع للسابق أن يكون دفعه ظلما قبيحا يمكن
إرضاءه بمال أو غيره حتى يهجر ذاك الموضع معرضا عنه ليصير معدا لأن يسبق
إليه غيره، فهذا المال المبذول عوض لرفع اليد صونا عن الاقتحام في القبيح، لا أنه
عوض لمنفعة ذاك الموضع، وبينهما فرق بين.
هذا محصل ما أسسته الغريزة، وأشير سالفا إلى عدم اختراع الشرع في هذا
الباب شيئا، بل أمضى ما يكون متبوعا لدى العقلاء واستقرت عليه سيرتهم،
فحينئذ لا يكون الموضع الخاص من المسجد متعلقا لحق مالي بحيث تكون منفعته
ملكا للسابق إليه، فالعين مصونة عن تعلق الحق إلا حق (أولوية الانتفاع) عند
429

تحقق عنوان (السبق) فلو زال هذا العنوان بالهجر والاعراض اختيارا أو بالدفع
والطرد اضطرارا لما بقي ذاك الحق أصلا، لتقومه بعنوان (السبق) المفروض زواله.
وقد مر (في الفرع الثالث) أن السبق لا يؤثر بمجرد حدوثه في تحقق حق أولوية
الانتفاع بقاء.
ومن هنا يتجه أن الدفع والطرد وإن كان حراما، إلا أنه بعد زوال السبق
بنفس هذا الطرد لاطرد ولا دفع ثانيا حتى يحرم بقاء، فمن طرد السابق ودفعه
لعصى، ولكن لا إشكال حينئذ في جواز انتفاعه من ذاك الموضع الخاص، إذ لم يكن
ذلك الموضع متعلقا لحق الغير، ولا عصيان في كونه هناك وبقاءه فيه، إذ ليس البقاء
طردا ومزاحمة للغير حتى يحرم، فلا معصية إلا عند حدوث الطرد وتحققه، وأما
بعده فلا، فينتج صحة صلاته فيه وإن قلنا بالبطلان في المكان المغصوب، إذ لا
غصب حينئذ.
نعم: لو فرض تحقق الطرد بنفس الصلاة لا قبلها لكان لذلك وجه، كما لا
يخفى إمكان تصويره ووقوعه.
ومما يوضح ما قلناه هو ما يقال (في باب الخيار) إنه هل يكون حقا متعلقا
بالعين أو متعلقا بالعقد؟ فعلى الأول: ليس لمن عليه الخيار أن يبيع تلك العين
المملوكة له في زمن الخيار، لأنها متعلقة لحق الغير. دون الثاني، إذ ليس العين
حينئذ متعلقة لحق، فحق الخيار بناء على تعلقه بالعين - بأن يكون عبارة عن حق
استرجاع العين - لا يمكن بيعها في زمن الخيار، حيث إنها ملك غير طلق حينئذ
واللازم في البيع أن يكون المبيع طلقا.
فتبين مما أهديناه إليك: أن الصلاة في مكان مشترك سبق إليه غير المصلي
ليست حراما حتى تكون باطلة لأجل الاتحاد، بل الحرام هو طرد من له حق
السبق ومزاحمته، لا غير.
ثم إن " الماتن ره " قد تعرض لفروعات مر بيانها (في مبحث لباس المصلي)
430

فراجع.
وأما عدم الميز بين النافلة والفريضة: فقد أشير إليه في صدر البحث،
ولعمري أنه واضح، إذ عدم تعين الركوع والسجود والاستقرار في النافلة وجواز
الاكتفاء فيها بالايماء ماشيا لا يستلزم الصحة عند إتيانها كذلك مطمئنا، فيلزم
الحكم هنا بالبطلان وإن لم يحكم هناك به، فعلى مبنى البطلان لا فرق بين
النافلة وغيرها.
مسألة 1 - إذا كان المكان مباحا ولكن فرش عليه فرش
مغصوب فصلى على ذلك الفرش بطلت صلاته، وكذا العكس.
قد مر في ثنايا البحث ما يتضح في ضوءه سند ما أفاده في المتن من التسوية،
وهو صدق التصرف في كلتا الصورتين، والعرف أصدق شاهد عليه، فلا نطيل.
مسألة 2 - إذا صلى على سقف مباح وكان ما تحته من الأرض
مغصوبا فإن كان السقف معتمدا على تلك الأرض تبطل الصلاة
عليه، وإلا فلا، لكن إذا كان الفضاء الواقع فيه السقف مغصوبا
أو كان الفضاء الفوقاني الذي يقع فيه بدن المصلي مغصوبا بطلت
في الصورتين.
إن هنا عناوين مختلفة في العنوان وإن يتفق صدقها أحيانا على مصداق
واحد، ولها أحكام خاصة وإن يتفق الاشتراك كذلك. ولنهد قبل الخوض فيما
431

أفاده " الماتن " من الصحة في صورة والبطلان في صورتين، مقدمة وجيزة شارحة
لتلك العناوين وما لها من الآثار المختصة والمشتركة.
فمن تلك العناوين: إتلاف مال الغير، ومنها: غصبه، ومنها: التصرف فيه،
ومنها: الانتفاع به. ولا ريب في تمايزها المفهومي مع اشتراكها واجتماعها
أحيانا على مصداق فارد.
ولا إشكال في أن إتلاف مال الغير أينما تحقق بعنوانه فهو موجب للضمان،
للقاعدة المحكمة الناصة: بأن " من أتلف مال الغير فهو له ضامن " بلا ميز بين
النائم واليقظان وغيرهما من آحاد المتلفين. ولا يثبت بهذه القاعدة المنع التكليفي
- أي الحرمة - لقصور نطاقها عن الدلالة عليها، ولعدم التلازم الخارجي بينها
وبين الضمان - كما هو واضح - فلا بد في إثبات حرمته من التماس دليل آخر.
وأما الغصب: فلا إشكال في استتباعه الضمان، للقاعدة الناطقة: بأن " على
اليد ما أخذت حتى تؤدي " كما أنه لا ارتياب في حرمته نصا وفتوى، ولا خفاء في
ميز، عن الاتلاف.
وأما التصرف فيه: فقد يكون ممتازا عن الغصب، بأن يكون المستولي
القاهر غيره، وليس له عدا التصرف الخارجي في المال من دون الاستيلاء، فلا
يشمله دليل الغصب.
نعم: لا إشكال في حرمته ل‍ (التوقيع) الدال على أنه " لا يحل مال أمر "
مسلم إلا بطيب نفسه ".
وحيث إنه مشمول لقاعدة (على اليد) يحكم باستتباعه للضمان أيضا.
وأما الانتفاع به: فما يكون من قبيل الاستظلال بحائط الغير أو الاستضاءة
من نوره أو الاستشمام من رائحته الطيبة وما إلى ذلك من النظائر - التي ليس فيها
التصرف في مال الغير بوجه أصلا لدى العقلاء - فلا بأس بها، لاستقرار السيرة على
الانتفاع الكذائي، وقصور القواعد والنصوص الشرعية عن الشمول لذلك.
432

وأما ما يكون مستلزما للتصرف فيه - وإن كان بواسطة - فالأقوى حرمته،
إما لأنه تصرف فيشمله دليله، وإما لأنه انتفاع محرم، إذ لا دليل على حليته مطلقا،
بل يمكن إدراج مثل هذا الانتفاع في عموم التوقيع المتقدم بيانه.
وتوضيحه: بأن المال لا يكون صالحا للحلية والحرمة، لأنهما من أوصاف
الأفعال لا الأعيان - كما في محله - فلا بد من كون الاسناد بلحاظ ما يقصد من
تلك الأعيان من الآثار والمنافع، كالنكاح في قوله (تعالى): " حرمت عليكم
أمهاتكم... الخ " فالمراد من نفي الحلية هو ما يقصد استفادته من المال من أنحاء
التصرفات المطلوبة، بل وغيرها من الانتفاعات، عدا ما يكون الدليل قاصرا عن
شموله - للانصراف مثلا - حيث قامت السيرة على الخلاف، كالانتفاع من الظل
والنور ونحوهما مما قد ذكر. والسر في اتساع حوزة الحرمة: هو عدم اختصاص
تصرف خاص من بين التصرفات بذلك، لعدم الشاهد عليه بلا ميز، فالمنع يعمها.
وبعد اتضاح هذه المقدمة نقول: إن بطلان الصلاة في الصورتين الأخيرتين
واضح على القول ببطلانها في المكان المغصوب، إذ المفروض أن الفضاء الذي يشغله
ما استقر عليه المصلي من السقف مغصوب. وكذا الفضاء الذي يشغله بدنه.
وأما الصورة الأولى: فلا إشكال فيما إذا لم يكن السقف معتمدا على تلك
الأرض المغصوبة، بأن اعتمد على أرض مباحة وكان تحته أرض مغصوبة عدا
الفراغ الذي يشغله تلك السقف، إذ لا تصرف في المغصوب ولا انتفاع منه، بل وجود
المغصوب وعدمه سيان، فلا نهي حتى يستتبع البطلان.
وأما إذا كان السقف معتمدا على تلك الأرض المغصوبة: فالظاهر هو الحرمة،
إما لكونه تصرفا في المغصوب وإن كان بالواسطة، أو لكونه انتفاعا خاصا مذموما
لدى العقلاء ومشمولا لاطلاق دليل نفي الحل بدون طيب النفس.
نعم: يشكل الحكم بالبطلان - ولو على مبنى القائل به في أصل المسألة -
433

إذ لا اتحاد هنا بالنسبة إلى خصوص الصلاة، لأن المفروض أنها ليست تصرفا زائدا
أو انتفاعا زائدا عن التصرفات والانتفاعات الأخر.
والحاصل: أن البطلان يدور مدار صدق التصرف أو الانتفاع المحرم بالنسبة
إلى خصوص حالة الصلاة زائدا على ما كان، فما يظهر من المتن: من البطلان عند
الاعتماد على المغصوب مطلقا، غير خال عن النظر.
مسألة 3 - إذا كان المكان مباحا وكان عليه سقف مغصوب
فإن كان التصرف في ذلك المكان يعد تصرفا في السقف بطلت
الصلاة فيه وإلا فلا، فلو صلى في قبة سقفها أو جدرانها مغصوب
وكان بحيث لا يمكنه الصلاة فيها إن لم يكن سقف أو جدار أو
كان عسرا وحرجا - كما في شدة الحر أو شدة البرد - بطلت
الصلاة، وإن لم يعد تصرفا فيه، فلا. ومما ذكرنا ظهر حال الصلاة
تحت الخيمة المغصوبة، فإنها تبطل إذا عدت تصرفا في الخيمة،
بل تبطل على هذا إذا كانت أطنابها أو مساميرها غصبا، كما
هو الغالب - إذ في الغالب يعد تصرفا فيها - وإلا فلا.
قد مر التحقيق في البحث بنحو يتضح في ضوءه حكم ما أطال في المتن: من
النقاش في البطلان فيما كان عسرا أو حرجا أو نحو ذلك، لأن الانتفاع الكذائي وإن
كان محرما ولكنه غير متحد مع الصلاة، ولذا لا يفرق بين العسر وبين غيره مما تكون
الصلاة فيه أرواح وإن يمكن إتيانها في خارج القبة بلا عسر، إذ الانتفاع بالسقف
434

المغصوب في أمثال هذه الموارد حرم، ولكنه لا يتحد مع الكون الصلاتي (وإن
قلنا بالبطلان في أصل المسألة) ولا خفاء في أن الجدار حكمه حكم السقف تكليفا
ووضعا، فيحرم التصرف بلا بطلان.
وأما إفراط من أفتى بالبطلان فيما إذا كان سور البلد مغصوبا فغير سديد، إذ
لا اتحاد رأسا، فلا مجال لتخيل البطلان، بل يمكن التأمل في الحرمة أيضا، فلو
كان السور صائنا عن تهاجم الأعداء المقاتلين بحيث لو لم يكن ذلك السور لما أمكنت
الصلاة يحكم بصحتها أيضا مع التأمل في الحرمة، لقصور دليل المنع عن الشمول
لمثله، بل يمكن دعوى قيام السيرة على الخلاف.
ومن ذلك كله يتضح حكم المسامير والاطناب المغصوبة، إذ الانتفاع بمثل
ذلك وإن كان في حكم التصرف لو لم يكن تصرفا، إلا أن في اتحاده مع الكون
الصلاتي نظرا بل منعا.
مسألة 4 - تبطل الصلاة على الدابة المغصوبة بل وكذا إذا
كان رحلها أو سرجها أو وطائها غصبا، بل ولو كان المغصوب
نعلها.
لا إشكال في البطلان إن قلنا به في أصل البحث فيما إذا كانت الدابة مغصوبة،
حيث إنها بمنزلة الأرض المغصوبة حرفا بحرف. وأما الرحل والسرج فكذلك
أيضا، لأنهما بمنزلة الفرش المغصوب. وأما (الوطاء) فقد فسر بالخشب المعقود
به الجهاز، فعليه يكون خارجا عن التصرف الصلاتي، ويدور أمره بين الحرمة
التكليفية البحتة (فيما إذا كان اعتماد الرحل أو السرج أو نحو ذلك عليه) وبين
435

عدمها رأسا (فيما لا اعتماد هناك أصلا). ومن هنا يتضح حكم (النعل) حيث إنه
بمنزلة الأساس المغصوب، وقد مر بيان ما كان السقف مباحا ولكن كان ما يعتمد
عليه ذاك السقف مغصوبا، وتبين هناك: عدم البطلان، لعدم الاتحاد وإن كان
حراما للتصرف أو لعدم جواز بعض أنحاء الانتفاع، إذ لا دليل على حليته مطلقا.
مسألة 5 - قد يقال ببطلان الصلاة على الأرض التي تحتها
تراب مغصوب ولو بفصل عشرين ذراعا، وعدم بطلانها إذا
كان شئ آخر مدفونا فيها، والفرق بين الصورتين مشكل.
إن مصب البحث لا بد وأن يكون ما يحاذي مكان المصلي ولو بفصل عشرين،
وأما ما لا يحاذيه فهو خارج عن الكلام - بأي نحو كان دفنه -.
فأما ما يحاذيه: فإما أن يكون مدفونا تحت الأرض مع تجافي ما حوله
- كالميت الموضوع تحتها كذلك - أو يكون مدفونا لا بالتجافي بل بتراكم الطبقات
بعضها فوق بعض بلا تخلل الفضاء الخالي - كما في الصورة الأولى - فإن كان بنحو
التجافي لا إشكال فيه تكليفا فضلا عن الاشكال وضعا، إذ لا تصرف ولا انتفاع أصلا،
لأن وجود ذاك المغصوب وعدمه في ذلك الجوف والفضاء الخالي سيان. وإن كان
بنحو التراكم وعدم الخلو: فالأقوى فيه البطلان فضلا عن الحرمة - إن قلنا بذلك
في أصل المسألة - إذ لا ميز بين ذلك المدفون وبين السطح الظاهر في أن كل واحد
منهما جزء للمكان، حيث لا فرق بين ذي الواسطة وغيره.
وأما الفرق بين التراب وبين شئ آخر - كالدرهم والدينار وما إلى ذلك -
فخال عن الوجه، فالحكم فيهما واحد منعا وجوازا.
436

مسألة 6 - إذا صلى في سفينة مغصوبة بطلت، وقد يقال
بالبطلان إذا كان لوح منها غصبا، وهو مشكل على اطلاقه،
بل يختص البطلان بما إذا توقف الانتفاع بالسفينة على ذلك
اللوح.
إن وزان السفينة وزان البيت بلا ميز، فكما أنه لا تجوز الصلاة في البيت
المغصوب بل تبطل على القول به، كذلك الصلاة في السفينة.
هذا إذا كانت بتمامها غصبا، وهكذا إذا كان ما يستقر عليه المصلي من
اللوح والفراغ غصبا، إذ لا ريب في أن فراغ السفينة لمالكها كفراغ البيت،
فالكلام في الفراغ والمكان بمعنى (ما يستقر عليه) واحد، وأما إذا كان بعض
الألواح المغصوبة في السقف أو الجدار أو نحو ذلك مما لا مساس له بالكون
الصلاتي غصبا - وإن توقف أصل الكون في السفينة عليه - فقد مر النقاش في
البطلان حتى على القول في أصل المسألة، لأنه وإن كان حراما إلا أنه غير متحد
مع الكون الصلاتي.
وقد مر من " الماتن ره " الحكم بالبطلان فيما يشبهه، وهو الصلاة على سقف
مباح معتمد على الأرض المغصوبة. فيظهر منه (ره) أن مدار البطلان توقف الانتفاع
على ذاك المغصوب، ولكن مرت الإشارة غير مرة إلى اختصاص البطلان - على القول
به - بما إذا اتحد التصرف الحرام مع الكون الصلاتي، وإلا فلا وإن كان أصل
الانتفاع متوقفا على ذاك المغصوب، وبينهما فرق.
437

مسألة 7 - ربما يقال ببطلان الصلاة على دابة خيط جرحها
بخيط مغصوب، وهذا أيضا مشكل، لأن الخيط يعد تالفا
ويشتغل ذمة الغاصب بالعوض، إلا إذا أمكن رد الخيط إلى
مالكه مع بقاء ماليته.
إن الخيط المغصوب المخيط به جرح الدابة: قد لا يتوقف عليه الانتفاع
من تلك الدابة، وقد يتوقف، بحيث لولاه لخرت الدابة وسقطت.
فعلى الأول: لا بحث فيه حيث إنه لا إشكال في صحة الصلاة، بل في أصل
الجواز التكليفي إذا فرض عدم الانتفاع أيضا فيما لا استيلاء عليه، وكيف كان:
يكون خارجا عن الكلام.
وعلى الثاني: فيشكل التصرف فيه أو الانتفاع به، لما حققناه مبسوطا
(في لباس المصلي) من أن الخيط المغصوب إن عد تالفا فهو وإن كان مسلوب المالية
ولكن ليس مسلوب الملكية، فحينئذ ما لم يؤد عرضه يكون هذا التالف باقيا علي ملك
مالكه الأول، فقبل تأدية العوض لا يجوز التصرف فيه. نعم: إن لبطلان الصلاة
كلاما آخر، وهو اختصاصه بصورة الاتحاد - على القول به فيها أيضا - فراجع.
مسألة 8 - المحبوس في المكان المغصوب يصلي فيه قائما
مع الركوع والسجود إذا لم يستلزم تصرفا زائدا على الكون
فيه على الوجه المتعارف، كما هو الغالب، وأما إذا استلزم
438

تصرفا زائدا فيترك ذلك الزائد ويصلي بما أمكن من غير
استلزام. وأما المضطر إلى الصلاة في المكان المغصوب فلا اشكال
في صحة صلاته.
قد مر البحث عن كيفية صلاة المحبوس في المكان المغصوب (عند البحث عن
اللباس المغصوب بتناسب) وتعرضنا هناك ما نقله (في الجواهر) عن بعض متفقهة
عصره: من لزوم الاقتصار على الكيفية التي كان عليها أول الدخول إن قائما فقائم
وإن جالسا فجالس، بل لا يجوز له الانتقال إلى حالة أخرى في غير الصلاة أيضا.
ثم زيفه: بأنه لم يتفطن أنه عامل هذا المظلوم المحبوس قهرا بأشد ما عامله
الظالم بل حبسه حبسا ما حبسه أحد لأحد، اللهم إلا أن يكون في يوم القيامة
مثله، انتهى.
والأقوى: هو جواز الاتيان بصلاة المختار، إذ لا يعد تصرفا زائدا - كما أفاده
الماتن - ثم على تسليم عده تصرفا زائدا، فالحكم بالانتقال إلى صلاة العاجز:
من الايماء بدلا عن الركوع والسجود مثلا، لا بد وأن يكون بلحاظ ما هو أهم
مصلحة من التكليف الأولي، وإثباته في أمثال المقام عسير جدا، لأن الركوع
والسجود ونحوهما وإن كان له بدل، ولكن يختص الانتقال إلى البدل في صورة
العجز وما بحكمها، فحينئذ لا بد من إحراز رجحان ترك الغصب على ما هو
المطلوب الأولي من الركوع ونحوه حتى يحكم بالانتقال إلى البدل، فتبصر.
وأما الاضطرار إلى الصلاة: فالمراد منه كون الضرورة بنفسها منحدرة نحو
متن الصلاة، لا بأن تنحدر إلى الكون في المغصوب حبسا أولا وبالذات وإلى الصلاة
فيه ثانيا وبالعرض - كما مر حكمها - وما يكون الاضطرار متوجها إلى نفس
439

الصلاة في المغصوب، هو ما لو لم يصل فيه لأجل الغصبية تفطن الخليفة أو الوالي
القاهر: بأن ذاك الشخص لا يراه مستحقا للخلافة أو الولاية بل يراه غاصبا، وهذا
مثار الافتنان والهلاك - كالوضوء تقية حيث إنه يتوضأ بما يرفع به المحذور
اتقاء من شر من يتقى منه - فيصلي في هذا المكان صلاة المختار، إذ لو صلى
إيماء لكن مثار الهلكة والفتنة. فاتضح الفرق بينه وبين ما يكون الاضطرار إلى
الكون لا الصلاة. فتنبه حتى لا يخفى عليك ما خفى على بعض المعاصرين من الفرق.
مسألة 9 - إذا اعتقد الغصبية وصلى فتبين الخلاف، فإن لم
يحصل منه قصد القربة بطلت، وإلا صحت. وأما إذا اعتقد
الإباحة فتبين الغصبية فهي صحيحة من غير اشكال.
إن العالم بالغصبية قد يكون عالما بالحرمة، وقد يكون جاهلا بها، وسيأتي
البحث عن الجاهل في المسألة التالية.
وأما العالم بها مع اعتقاد الغصبية: فالذي يستفاد من المتن إمكان حصول
قصد القربة منه، ويمكن تصوير تمشيه بأحد الوجهين: (الأول) على مبنى جواز
اجتماع الأمر والنهي، لاجداء تعدد الجهة، فحينئذ يقصد القربة بداعي الأمر.
و (الثاني) على مبنى امتناعه، ولكن يقصد القربة بالملاك، حيث إن الملاك موجود
وإن لم يمكن الأمر لامتناع الاجتماع ورجحان النهي عليه.
وعلى التقديرين لا ريب في الصحة، أما على الأول: فواضح. وأما على الثاني:
لجواز الاكتفاء بالملاك وكفاية انضمام الحسن الفعلي إلى الحسن الفاعلي، ومن
المعلوم: وجود الملاك في خصوص الفرض قطعا بلحاظ الواقع، لخلوه عن الغصبية
المتوهمة. والحاصل: أنه يمكن توجيه تمشي قصد القربة على أحد الوجهين.
440

وأما عدم تمشيه: فلأجل امتناع الاجتماع مع رجحان النهي فلا أمر حتى
يتقرب بداعية، ولا ملاك أيضا، إذ المفروض أنه اعتقد كونه مبعدا من ساحة
المولى فكيف يكون واجدا لملاك القرب! بناء على أنه هو المحذور في الباب
كما استند إليه غير واحد، وإن مر التحقيق البالغ في ذلك كله.
وأما إذا اعتقد الإباحة: فلا إشكال في تمشي قصد القربة بالأمر فضلا عن
الملاك، إنما الكلام في الحكم بصحة الصلاة حينئذ بلا إشكال - كما في المتن - مع أنه غير خال عنه.
إذ المحذور لو كان هو (عدم التمشي) المذكور فلنفي الاشكال حينئذ مجال
وكذا لو كان المحذور هو (عدم امكان المقربية لما يكون مبعدا) حيث إنه لا يكون
الفعل حينئذ مبعدا - للجهل بالموضوع - فيكون الفاعل معذورا. وأما إذا لم ينحصر
فيهما بل اعتبر في الصحة زائدا عليهما صلوح الفعل للتقرب بأن تكون مصلحته
غالبة على المفسدة فليس لنفيه مجال، إذ لا ريب في أن الواقع باق بحاله على ما هو
عليه بلا تغير ولا تبدل بمجرد العلم والجهل، فمن جهل الغصبية واعتقد الإباحة
لا يصير ذاك المغصوب مقربا بلحاظ الواقع البتة. نعم: يكون المكلف معذورا ما دام
جاهلا بها، وأين هو من القرب؟ واستوضح ذلك: بعبد يقتل ابن المولى بتخيل أنه
عدوه، إذ لا مرية في كون هذا العمل مبغوضا للمولى واقعا، إلا أن العبد معذور
في إتيانه، فلا يعاقب عليه، لا أنه يثاب عليه، وأما الثواب للانقياد فهو أمر آخر.
والحاصل: أن الحسن الفعلي مفقود في البين حتى ينضم إلى الحسن الفاعلي
- على ما يحتال به في بعض الموارد لتصحيح العبادة - فجزم " الماتن " بالصحة
غير مستقيم على مبنى عدم صلوح القرب لما يكون مبعدا.
441

مسألة 10 - الأقوى صحة صلاة الجاهل بالحكم الشرعي
وهي الحرمة، وإن كان الأحوط البطلان خصوصا في الجاهل
المقصر.
إن الحكم بالصحة على انحصار المحذور في (عدم تمشي القصد) واضح، إذ
لا ريب في تمشي قصد القربة بالأمر عند الجهل بالحرمة. وأما لو استند إلى (أن
المبعد لا يكون مقربا) فمن أين يحكم بالصحة؟ إذ ليس في وسع هذا العمل
الخارجي المبعد واقعا أن يقرب العبد من مولاه، ولا يوجب جهل العبد مع التقصير
أن لا يكون هذا العمل بلحاظ الواقع مبعدا.
فمن كان المحذور عنده هو (أن المبعد لا يصير مقربا) فلا بد من أن يتأمل
في الصحة ولا يفتي بها.
وأما الجاهل القاصر: فيشكل الصحة أيضا، إذ لأحسن للفعل، لأن الجاهل
القاصر وإن كان معذورا فلا يكون الفعل الصادر منه مبعدا، إلا أنه لأحسن له أيضا
لغلبة المفسدة - كما مر - إلا أن يتمسك بقاعدة (لا تعاد) في الجاهل بالحكم.
وحيث إنه قد مر التفصيل الباحث عن أقسام الجهل: من القصوري والتقصيري
ومن البسيط والمركب (في بحث اللباس المغصوب) فلا نعيده، فراجع.
مسألة 11 - الأرض المغصوبة المجهول مالكها لا يجوز
التصرف فيها - ولو بالصلاة - ويرجع إلى الحاكم الشرعي. وكذا
إذا غصب آلات وأدوات من الأجر ونحوه وعمر بها دارا أو
442

غيرها ثم جهل المالك، فإنه لا يجوز التصرف، ويجب الرجوع
إلى الحاكم الشرعي.
لا إشكال في عدم جواز التصرف قبل الرجوع إلى الحاكم في الجملة، إنما
الكلام في أنه هل الرجوع إليه لمجرد الترخيص والإجازة؟ حيث إن المجهول
مالكه ملك للإمام عليه السلام ولما كان الحاكم وليا لمن غاب إماما كان أو مأموما أو
أنه خليفة له - أي للإمام عليه السلام - فله الترخيص، كما أن للمالك كذلك.
أو الرجوع إليه لأن تتحقق مصداق الصدقة المأمور بها في أمثال المقام
فيرجع إليه بنحو المعاملة للتصدق - كما هو الأقوى في ولاية الحاكم - لا أنه
لمجرد الإجازة، إذ المال الكذائي باق على ملك مالكه ولا ينتقل بمجرد الجهالة
إلى الإمام عليه السلام
ولا نطاق للمتن بالنسبة إلى أحد الوجهين لصلوحه لهما، والحق
هو ما أشير إليه.
ولما كان حكم مسألة 12 واضحا لم يتعرض لم سيدنا الأستاذ (مد ظله
العالي).
مسألة 13 - إذا اشترى دارا من المال الغير المزكى أو
الغير المخمس يكون بالنسبة إلى مقدار الزكاة أو الخمس فضوليا،
فإن أمضاه الحاكم ولاية على الطائفتين من الفقراء والسادات
يكون لهم، فيجب عليه أن يشتري هذا المقدار من الحاكم،
وإذا لم يمض بطل وتكون باقية على ملك المالك الأول.
443

إن اشتراء الدار قد يكون بمال كلي في الذمة ويكون أدائه بمال غير مزكى
أو غير مخمس، وقد يكون بعين مال كذائي. فعلى الأول: لا إشكال في حصول
الملكية التامة، إذ الفضولية إنما هي في مقام الأداء لا العقد وأصل التمليك والتملك
وهذا القسم خارج عن البحث.
وعلى الثاني: فاستيفاء المقال فيه بنحو يسلم عن النقاش المتوجه نحو ما
أفاده في المتن، هو أن الزكاة وكذا الخمس إما أن يتعلق بالعين بنحو الملكية، أو
يتعلق بها بنحو الحقية. فعلى الأول: إما أن يكون بنحو الإشاعة، أو الكلي في
المعين. وعلى الثاني: يجري فيه الاحتمالان مع احتمال ثالث، وهو كون جميع
المال متعلقا للحق - أي حق الرهانة - لا خصوص مقدار الزكاة أو الخمس، إذ
الرهن يمكن أن يكون أزيد من الدين، فتمام الكلام في مقامين: أحدهما مبتن
على الملكية، والآخر على الحقية.
أما المقام الأول:
فمحصل المقام فيه: هو أن الزكاة مثلا بنصابها الخاص ملك للجهة العامة
التي مصارفها تلك الجهات الثمانية المعدودة في الكريمة، وهي مقدار خاص من
المال يخرج من مال الغني، حسب ما ينطق عليه بعض نصوص ذاك الباب: من " أن
الله تعالى جعل في مال الأغنياء.... الخ " فراجع.
ولا اختصاص لذلك بالفقراء، بل هم والجهات السبع الأخر سواء في حصول
الامتثال بالصرف فيها كحصوله بالصرف فيهم. فالتعبير الأنسب أن يقال: بكون
الحاكم وليا علي المال المحسوب زكاة، لولايته العامة على تلك الجهات، لا خصوص
الفقراء. كما أن السادات لا اختصاص لهم إلا بالعشر، لا الخمس المشترك بينهم
وبين الإمام عليه السلام
بالنصف. فعبارة المتن غير خالية عن الحزازة.
444

ثم إن الملكية تارة بنحو الإشاعة، وأخرى بنحو الكلي في المعين، فعلى
الإشاعة: يكون كل جزء من أجزاء المال مشتركا بين المالك وبين من له الزكاة على
حسب السهام، حيث إن العشر فيما سقته السماء مثلا للمستحق، وفي غيره مقدار آخر
أقل. وكذا في الأنعام والنقدين على المقدار المعين فيها، فليس للمالك التصرف
الخارجي في جزء منه أصلا، إلا أن يستخلصه، إما بالعزل والافراز، وإما بتأديته
من عين المال أو من الخارج، أو نحو ذلك مما به يتملك الجميع بعد ما لم يكن.
وأما التصرف الملكي فلا بأس فيه إذا كان بنحو الإشاعة فيما يخصه من السهم،
وأما بنحو التعيين بأن ينقل مقدارا معينا مفروزا منه - كهذا النصف الواقع في
الشرق مثلا - فلا. كما أنه ليس له نقل الجميع قبل تأدية مال المستحق، فلو نقل
الجميع أو بعضا معينا منه يتأتى فيه ما حقق في محله من أحكام البيع الفضولي،
حيث إن النقل الكذائي بالنسبة إلى سهم مستحق الزكاة أو الخمس فضولي، فحينئذ
لو أداه من مال آخر - كما أن له ذلك - يندرج فيمن باع شيئا ثم ملكه، حيث
إن هذا المكلف بإيتاء الزكاة قد نقل مالا من غير أن يملكه ثم ملكه بإيتائها من
غير هذا المال، وتمامه في محله. وإن لم يؤدها كان ذاك المقدار باقيا علي ملك
مالكه الأول فلا ينتقل إلى بايع الدار. كما أن ما يعادل ذاك المقدار من الدار
لا ينتقل إلى المشتري، حيث إنه اشتراها بعين المال الذي يكون بعضه المشاع
للغير، فحينئذ إن أجاز الحاكم لولايته يصير الاشتراء تاما نافذا، ولكن بانتقال
ما يعادل الزكاة من الدار إلى الحاكم - من حيث إنه ولي - (1) فيلزم اشتراء ذاك
المقدار من الدار منه - أي من الحاكم - ثانيا. ولما كان ذلك كله لأجل الولاية،
فلا بد من لحاظ غبطة المولى عليه، لأنه القدر المتيقن من شعاع نفوذه وولايته.
والحاصل: أن الشركة قبل الاشتراء كان في نفس المال، وأما بعده مع

(1) بمعنى أنه ينتقل إلى أرباب الزكاة ويكون الحاكم وليا علي ذاك المقدار من
الدار. هكذا أمر سيدنا الأستاذ - مد ظله - بالاصلاح.
445

إجازة الولي يصير المبيع مشتركا بين المالك وولي الزكاة - من حيث الولاية -
فلا بد من اشتراء ما يخصه من المقدار من الولي.
ثم إن للاشتراك الإشاعي أحكاما أخر لا يهمنا الآن بيانها.
وأما على الكلي في المعين: تكون الخصوصيات الفردية ملكا للمالك، فله
أن ينقل بعضا معينا بالتصرف الملكي، كما أن له التصرف الخارجي في ذاك البعض
المعين. وأما في الجميع فليس له شئ من ذلك، فإن نقل الجميع أو خصوص
المقدار الذي تعين للزكاة بعد نفاد الحصص الأخر بالتصرف ثم آتي حق المستحق
يندرج فيمن باع ثم ملك - كما مر - وإلا فهو فضولي يجري فيه ما ذكر حرفا
بحرف. وأما بيان ما للإجازة من الأثر (على النقل والكشف) ففي موطن يليق به.
وأما المقام الثاني:
فبيان تعلق الزكاة أو الخمس بالعين بنحو حق الرهانة، هو بأنه تارة: يكون
جميع المال مرهونا بجعل الشارع ذلك بتمامه وثيقة، أو خصوص ما يعادل مقدار
الزكاة. وعلى الثاني: إما أن يكون الرهانة أيضا بنحو الإشاعة أو الكلي في المعين
- بأن يكون ما يعادل الزكاة بالإشاعة رهنا - فكل جزء من أجزاء المال قد تعلق
بسهم خاص منه مشاعا حق الرهانة أو بالكلي في المعين، ولا ميز بين المقامين من
حيث جواز التصرف الملكي بالنسبة إلى غير ما يعادل الزكاة أو الخمس، وكذا من
حيث جواز التصرف الخارجي - على الكلي في المعين - بالنسبة إلى غير ما يعادلهما
عند الحصر
نعم: بين المقامين امتياز من جهة الفضولية والاندراج في (من باع ثم ملك)
إذ المفروض أن الجميع هنا ملك للمالك ولكنه ليس بطلق، فلا أثر للإجازة في
الانتقال إلى الحاكم ثم الاشتراء من الحاكم ثانيا بالنسبة إلى خصوص ما
يعادل الحق.
446

فللمالك أن يفك المال من الرهن بأي وجه أمكن: من الايتاء أو العزل
أو نحوهما.
هذا مجمل القول فيما يتفرع على كل واحد من تلك المباني، وقد اخترنا
(في كتابي الزكاة والخمس) أن التعلق بنحو الملكية لا الحقية استظهارا من نصوص
البابين، وبنحو الإشاعة لا الكلي في المعين، كما هو خيرة " الماتن ره "، فراجع.
ولما تقدم ما به يتضح حكم مسألتي (14 و 15) لم يتعرض لهما سيدنا الأستاذ
(مد ظله العالي).
مسألة 16 - لا يجوز التصرف حتى الصلاة في ملك الغير
إلا بإذنه الصريح أو الفحوى أو شاهد الحال، والأول: كأن يقول:
أذنت لك بالتصرف في داري بالصلاة فقط، أو بالصلاة وغيرها،
والظاهر عدم اشتراط حصول العلم برضاه بل يكفي الظن
الحاصل بالقول المزبور، لأن ظواهر الألفاظ معتبرة عند
العقلاء. والثاني: كان يأذن في التصرف بالقيام والقعود والنوم
والأكل من ماله، ففي الصلاة بالأولى يكون راضيا، وهذا
أيضا يكفي فيه الظن على الظاهر، لأنه مستند إلى ظاهر اللفظ
إذا استفيد منه عرفا، وإلا فلا بد من العلم بالرضا، بل الأحوط
اعتبار العلم مطلقا. والثالث: كأن تكون هناك قرائن وشواهد
تدل على رضاه، كالمضائف المفتوحة الأبواب والحمامات
447

والخانات ونحو ذلك، فلا بد في هذا القسم من حصول القطع
بالرضا، لعدم استناد الإذن في هذا القسم إلى اللفظ، ولا دليل
على حجية الظن.
إن استيفاء المقال فيما أفاده " الماتن " في طي مقامات ثلاث:
المقام الأول
في الإذن الصريح
ويتضح ذلك على ذمة الجهتين: إحديهما للثبوت، والأخرى للاثبات.
أما الجهة الأولى: فقد يمكن أن يكون الإذن حاصلا بالفعل تفصيلا من
البدو إلى الختم - كما أن كان المالك الآذن حاضرا ناظرا للصلاة المأذون حدوثا
وبقاء - حيث إن تلك الصلاد حاضرة لدى المالك ومرتسمة في ذهنه أخذا وتماما.
وقد يمكن أن يكون حاصلا لا كذلك، بل بنحو اللف والاجمال، بحيث لو التفت
إلى ما صدر منه من الإذن لصلاة ذاك المصلي بأدنى التفات لحصلت تلك الصورة
السابقة في ذهنه بلا سترة وخفاء. ولا إشكال في صحة الصلاة في هاتين الصورتين
عرفا وشرعا.
وقد لا يكون حاصلا بالفعل أصلا - لا نشرا ولا لفا - إذ لم تحصل الصورة
في ذهن المالك رأسا حتى يأذن، ولكن يكون بحيث لو علم لرضى، وهذا أيضا
كاف لدى العقلاء، فالرضا الفعلي والتقديري سواء لديهم، لدوران الأمر مدار تحقق
الواقع فعلا أو تقديرا، فما وافقه فهو، وإلا فلا اعتداد به نفيا ولا ثبوتا. مثلا
لو أذن لشخص زعما من الآذن أنه أبوه أو أخوه أو صديق له وكان ذلك الشخص عدوا له
448

ويعلم بعدم رضاه في الصلاة لو علم كونه عدوا له، لا يجوز لذاك العدو أن يصلي
في ذاك المكان وإن صرح المالك بالإذن، إذ المدار الوحيد هو الواقع الأعم من
الفعلي والتقديري، لا الظاهر وإن صرح به فيما يكون مخالفا له، فعدم الرضا
التقديري كاف في المنع لدى العقلاء.
وبالعكس، لو كره المالك تصرف شخص خاص بالصلاة أو غيرها زعما منه
أنه عدو له مع كونه أباه أو أخاه ويعلم برضاه لو علم بالأبوة أو الأخوة، لجاز
له الصلاة فيه وإن صرح بالكراهة، إذ المدار هو الواقع الحاصل هنا ولو بالتقدير،
والعرف أصدق شاهد على استقرار دأب العقلاء.
ولسنا الآن بصدد بيان ما به يثبت الإذن، بل بصدد تصوير أنحاء الإذن
ثبوتا، فتبين إنها بأسرها كافية، ففي أي موطن تحقق واحد منها لكفى.
وأما الجهة الثانية: فعند قيام إحدى الطرق المعتبرة - بالذات أو بالغير -
يحكم بجواز الصلاة، ومعه لا حرمة للتصرف فيه حتى توجب البطلان لمكان
الاتحاد، ولا فرق فيها بين أن يثبت الإذن صريحا أو ظاهرا وحيث إن ظواهر
الألفاظ حجة معتبرة لدى العقلاء - سواء أورثت الظن أم لا - يناقش فيما أفاده
" الماتن ره " من الكفاية بحصول الظن من اللفظ، إلا بلحاظ الظن النوعي.
فتحصل: أنه لا احتياج إلى الصراحة ولا الظن، بل يكفي اللفظ الظاهر فيه.
المقام الثاني
في الفحوى
ليس المراد من (الفحوى) هنا هو خصوص ما يكون غير المذكور أولى بالحكم
من المذكور، بل أعم من ذلك، وهو (تسرية الحكم إلى ما يلازم المذكور في لسان
الإذن عادة لا عقلا) ولا خصوص ما يلزم تصوره من تصور مصب الإذن بينا أو غير
449

بين - على ما في محله - فلو أذن بالتصرفات الدارجة: من القعود والأكل
والنوم وما يضاهي ذلك، يستفاد منه الإذن في الصلاة ونحوها مما يكون من اللوازم
العادية لتلك الأمور، وحيث إن الإذن من الطرق العقلائية لاحراز طيب النفس
يؤخذ بلوازمه، لأن الطريق حكمه ذلك.
نعم: لو كان بعض تلك اللوازم مغفولا عنه للآذن - وكان بحيث لو التفت
إليه لكرهه - لما جاز للمأذون أن يأتي به، لأن المنع التقديري كالمنع الفعلي
ضار، إذ الإذن وإن عم لا بد وأن يخصص بالقياس إلى ما لا تكون مرضيا للمالك
لو التفت إليه، ووزانه وزان المخصص اللبي المانع عن انعقاد الظهور تارة، وعن
حجيته بعد الانعقاد أخرى، وقد مر تفصيله (في لباس المصلي).
ولمكان الاختلاف الفاحش بين اللوازم وبين الأفراد - آذنا أو مأذونا -
لا يمكن بيان الحكم بنحو الضبط العام، لعدم استواء الموارد، والمقدار الذي
يتأتى لنا بيانه هو ما أشير إليه من دوران الحكم مدار طيب النفس المنكشف
بالإذن الصريح أو غيره، بحيث لو التفت المالك إلى ذاك الأمر لما كرهه بل طابت
نفسه به.
المقام الثالث
في شاهد الحال
لا ريب في استقرار السيرة على الاعتداد بالأفعال والأخذ بظاهرها كالأقوال،
وهي حجة ما لم تردع، ومن المعلوم: تحققها في مثل المضائف المفتوحة وما
يضاهيها، فيجوز الجلوس والقيام والأكل ونحو ذلك مما يعتاد من التصرفات فيها،
ولعل منشأ ذلك هو غلبة الرضا وطيب النفس في أشباه تلك الأمور، ويحصل منها
الظن النوعي. كما أن من بنى على حجية الاستصحاب من باب (استقرار دأب
450

العقلاء على بقاء ما كان) منشأه غلبة دوام ما ثبت خارجا، فيحصل منه الظن النوعي.
وكيف كان: إن المدار الوحيد هو استقرار السيرة على التصرفات المعتادة
بمجرد صدور فعل خاص من المالك، نحو فتح الباب وغيره من الأمارات العقلائية
التي يحصل منها القطع بطيب النفس تارة، والاطمئنان به تارة أخرى، ولا ميز
بينهما في الحجية، لأن الطمأنينة أيضا حجة لدى العقلاء وممضاة لدى الشرع.
ولكن ذلك كله بلحاظ النوع لا خصوص الشخص، فمن لم يقطع أو لم يطمئن
لشخصه وكان المورد بنحو يقطع أو يطمئن نوعا لحكم بجواز التصرف، لقيام السيرة
على مثله أيضا. فحينئذ لا تحرم الصلاة في شئ من موارد قيام السيرة على التصرف
ومعه لا نهي حتى يجري فيه ما تقدم: من الاجتماع أو الامتناع ونحو ذلك.
فتبين (في ثنايا البحث) ما في المتن من النقاش، إذ لا ينحصر الأمر في خصوص
القطع. كما لا انحصار للطريق في القول، بل الفعل أيضا من الطرق المعتبرة
يؤخذ بظاهره، لقيام السيرة على الأخذ به إلا عند المنع عنه.
مسألة 17 - تجوز الصلاة في الأراضي المتسعة اتساعا عظيما
بحيث يتعذر أو يتعسر على الناس اجتنابها وإن لم يكن إذن
من ملاكها، بل وإن كان فيهم الصغار والمجانين، بل لا يبعد
ذلك وإن علم كراهة الملاك، وإن كان الأحوط التجنب حينئذ
مع الامكان.
إن جواز التصرفات الدارجة في الأراضي المتسعة غاية الاتساع بلا جدار
ولا زرع ولا غرس وما إلى ذلك - مما لا يوجب التصرف فيها الضرر على أربابها -
451

إما مستند إلى طيب النفس المنكشف في أمثال هذه الأمور فيها لقيام السيرة على
ذلك، وإما مستند إلى قصور ملكية المالك المجازي عند التلقي من مالك
السماوات والأرض. فعلى الأول: يجوز التصرف فيما لم يمنع فيه عنه. وعلى الثاني:
ليس للمالك المنع عن أمثال تلك التصرفات، لقصور سلطنته المتلقاة من المالك
الحقيقي.
والظاهر: استقرار السيرة على أنحاء تلك التصرفات المعتادة، سواء حصل
العلم أو الظن بالرضا أو لا، بحيث ليس للمالك النهي عن ذلك، ولذا لا يفرق
في التصرف الكذائي بين أن يكون المالك ممن له الإذن أو لا - لحجره بالصغر
أو الجنون وما إلى ذلك مما يوجب سقوط إذنه عن الاعتبار - إذ لا اعتداد بإذن
من قصده كلا قصد وعمده خطأ.
وهكذا في الأنهار الكبار، لاستقرار السيرة القطعية على ذلك من دون
التفات إلى رضاء المالك، ولامرية في اتصال هذه السيرة إلى زمن المعصوم عليه السلام.
ويشهد له أن الأئمة عليهم السلام في أسفارهم كانوا يتصرفون فيها لرفع الحدث
والخبث، ولم تكن جميع الأنهار من المباحات الأولية التي يكون الناس فيها شرعا
سواء. نعم: لو أريد التصرف فيها بنحو غير معتاد - كأخذ المياه الوافرة بالسيارات
المعدة لذلك - فلا، بل لا يجوز أخذ ما كان جائزا عند فوران النهر وازدياد مائه
إذا جف مائه وصار قليلا، والحاصل: اختلاف ذلك باختلاف الماء قلة وكثرة.
ولو غصب أرض متسعة أو نهر كبير - بأن استولى عليه غير مالكه الشرعي -
لكان جواز التصرفات الدارجة بحاله، لأن السيرة مستقرة عليه. نعم: يشكل
ذلك بالنسبة إلى الغاصب ومن يعد من توابعه - كضيفه - حيث إنه وإن كان
يجوز له ذلك لولا هذه الجهة، وأما بلحاظها فلا، لعدم السيرة عليه.
452

مسألة 18 - تجوز الصلاة في بيوت من تضمنت الآية جواز
الأكل فيها بلا إذن مع عدم العلم بالكراهة - كالأب والأم
والأخ والعم والخال والعمة والخالة ومن أملكه المالك مفتاح
بيته والصديق - وأما مع العلم بالكراهة فلا يجوز، بل يشكل
مع ظنها أيضا.
إن استيفاء المقال فيما أفاده المتن - من بيان مفاد الآية والروايات الواردة
فيه، ومن بيان ما قيل أو يمكن أن يقال في حكم الأكل من بيوت هؤلاء، ومن
بيان ما اختص بهم دون غيره، وبيان عدم إمكان التعدي إلى ما لا يشمله نطاق
الآية، وبيان حكم الصلاة في تلك البيوت - في طي جهات عديدة:
الجهة الأولى
في مفاد الآية وما ورد من الروايات
قال الله تعالى... ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم... الخ (1)
وظاهرها: نفي الحرج على المكلف أن يأكل من بيته أو بيوت
هؤلاء المعدودين في الكريمة، وليس الأولاد منهم مع أنهم أولى بالحكم، إذ
كما أنه لا حرج على الابن كذا لا حرج على الأب أن يأكل من بيت ابنه حسب
العرف والعادة، ولعل عدم ذكرهم إنما هو للاكتفاء لقوله تعالى " من بيوتكم "
إذ لا ريب في انتفاء الحرج على من يأكل من بيته، لأنه إن مال أكل وإلا فلا،

(1) سورة النور - آية 61.
453

بلا احتياج إلى التنزيل. فالمراد هو إدراج الأولاد في الحكم ببيان أن بيوتهم
بمنزلة بيوت الأب نفسه.
وقيل في سره وجه آخر أيضا، لا افتقار إلى نقله.
وأما الروايات - فمنها: ما رواه زرارة عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله
عز وجل: " أو صديقكم " فقال: هؤلاء الذين سمى الله تعالى في هذه الآية يأكل
بغير إذنهم من التمر والمأدوم، وكذلك تطعم المرأة من منزل زوجها بغير إذنه،
فأما خلا ذلك من الطعام فلا (1).
ومنها: ما (في المحاسن) عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عما يحل
للرجل من بيت أخيه من الطعام؟ قال: المأدوم والتمر (2) إلى غير ذلك مما يعثر
عليه المتتبع.
والظاهر: أن (التمر والمأدوم) مثال لما يجوز أكله، فيجوز في الخبز والماء
وبعض الفواكه وما إلى ذلك من الأمور المعتادة، دون النفيسة التي يضن بها
إلا للخواص من الأضياف مثلا، كما سيجئ.
والمراد من (ملك المفتاح) هو الوكالة والتفويض ونحو ذلك. كما أن المراد
من (الأعمام والأخوال وغيرهما من ذوي النسب المذكورين فيها) هو من يصدق عليه
عنوان العم أو الخال أو نحوهما بلا واسطة، لظهور اللفظ أولا وبالذات فيه، فلا
يشمل ما يكون كذلك مع الواسطة.
وأما آية تحريم النكاح: فلأجل ورود دليل خارجي على التعميم، ولذا
يحكم هناك بتحريم البنت وإن نزلت مع إباء العرف عن إطلاق البنت على من
نزلت في الطبقات السافلة جدا، فلا يقاس المقام بذلك الباب.

(1) الوسائل كتاب الأطعمة والأشربة باب 24 من أبواب آداب المائدة ح 2.
(2) محاسن البرقي كتاب المآكل باب 21 ح 3.
454

الجهة الثانية
في أن جواز الأكل من بيوت هؤلاء مطلق أو مقيد
لا ريب في الجواز عند القطع بالرضا وهو خارج عن البحث. كما أنه لا إشكال
في عدم الجواز عند القطع بالكراهة، وهو أيضا خارج عن حريم النزاع، للاجماع
المدعى على العدم.
إنما الكلام فيما عداهما من الصور الأخر: من الظن بالرضا أو بالكراهة
أو الشك فيهما، فهل يجوز مطلقا؟ أو فيما عدا الظن بالكراهة؟ أو في خصوص
الظن بالرضا؟ وجوه وأقوال: والذي يظهر من " الماتن " هو اختصاص الجواز
بما عدا الظن بالكراهة.
والذي ينبغي أن يقال: إن الحلية وجواز الأكل في المقام ليس على حد
إلقاء اعتبار طيب النفس والرضا تعبدا، بل يكون باقيا علي اعتباره الأصيل كما
كان، ولذا يحكم بالمنع عند العلم بالكراهة إجماعا، وهذا كاشف بتي عن عدم
إلقاء قد الطيب والرضاء، وأن المدار هو الواقع، فليس خصيصة المورد من حيث
إلقاء الواقع، بل من حيث توسعة الطريق الهادية إليه والدالة عليه.
وبيانه: بأن القطع وما بحكمه من الطمأنينة طريق عقلائي به يحتج بعضهم
على بعض ولم يردعه الشارع، وأما الظن شخصيا كان أو نوعيا فليس طريقا معتبرا
لدى الشرع بالعموم، اللهم إلا في موارد خاصة قد اقتنع الشرع بذلك تسهيلا
على العباد في خصوص تلك الموارد (على كلام في محله).
ولا خفاء في عدم جواز أكل مال الغير بمجرد الظن الشخصي أو النوعي، إذ
ليس من الطرق المعتبرة شرعا، وأما في خصوص المقام: فجعل الظن النوعي
بالرضا حجة وطريقا بعد ما لم يكن، تسهيلا على العباد في تلك البيوت. ولا
455

اعتداد حينئذ بالظن الشخصي على الخلاف، لدوران الحكم مدار الظن النوعي
هنا، كما أنه لا اعتداد به فيما جعل الوثوق النوعي مناطا للحجية وحكم بأنه
" لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما روى عنا ثقاتنا " حيث إنه لا اعتناء بالظن
الشخصي على الخلاف، لأن هذا اللسان هو طرد التشكيك لأجل الظنون الشخصية.
ولما كان الظن النوعي بجواز الأكل من تلك البيوت قائما، حكم الشرع
بطريقيته تعبدا، لا إمضاء (كما في الظواهر) إذ لا يعتنى بالظن في القوانين العقلائية،
نعم: الطمأنينة طريق عندهم، ولكنها غير الظن المبحوث عنه، ومن هنا يلزم
الجمود على مقدار نطاق الآية، إذ لا يجوز التعدي في مورد التعبد عن المقدار
المستفاد من الدليل، إلا عند القطع أو الطمأنينة بانتفاء الخصوصية.
وحيث إن الظن النوعي مختص بأكل ما يعتاد أكله فيها من المأكولات
الدارجة، لا النفيسة المدخرة للضيف أو للهدايا والتحف، فلا يتعدى إليها، كما
أنه لا يتعدى من العم ونحوه إلى من ينطبق عليه عنوان العمومة ونحوها ولكن
بالواسطة، لفقد الظن النوعي هناك، مع قصور اللفظ عن الشمول، نعم: يتعدى
من الأكل إلى غيره من الأمور الملازمة له - كالقعود والقيام ونحو ذلك - كما
أنه يتعدى من البيت إلى خارجه، بأنه لو التقم من البيت لقمة فخرج يجوز له
بقاء مضغها وبلعها مع كونه في خارج البيت حينئذ، فلا يجب اللفظ والرمي
بمجرد الخروج جمودا على كلمة (البيت) نعم: لا يتعدى من البيت إلى الدكان
ونحوه، لقصور اللفظ.
الجهة الثالثة
في الصلاة في تلك البيوت
قد اتضح في الجهة المارة أن جواز الأكل من تلك البيوت أمر تعبده
الشرع، فيلزم الاقتصار على مقدار تعبده، وأشير هناك إلى النقاش في بعض أنحاء
التصرفات الأخر.
456

وأما الصلاة: فإن كانت مثل النوافل اليسيرة أو الفرائض كذلك، فالظاهر قيام
الظن النوعي عليه، مع امكان إلغاء الخصوصية بالنسبة إلى هذا المقدار. وأما الزائد
عنه - كالنوافل الليلية وصلاة " جعفر الطيار " وما إلى ذلك من الصلوات الممتدة
الذيل - فلا، إذ لأظن نوعي مع قصور اللفظ، ومجرد كون الصلاة أرجح من
الأكل في نفسه لا يوجب التعدي منه إليها، لأن المهم هو الأولوية في مقام الاثبات
والظهور، ومن المعلوم: قصوره هناك، إذ المناط هو الطيب والرضا المفقود في
كثير من الأحيان بالنسبة إلى غير واحدة من الصلوات المندوبة التي يأتي بها الوارد
في البيت مع مسائة رب ذاك البيت، فلا ضابط عام، لاختلافه باختلاف الموارد.
والغرض: أن الحكم بجواز الصلاة في تلك البيوت بنحو مطلق غير مرضي.
مسألة 19 - يجب على الغاصب الخروج من المكان
المغصوب، وإن اشتغل بالصلاة في سعة الوقت يجب قطعها، وإن
كان في ضيق الوقت يجب الاشتغال بها حال الخروج مع الايماء
للركوع والسجود، ولكن يجب عليه قضائها أيضا إذا لم
يكن الخروج عن توبة وندم، بل الأحوط القضاء وإن كان
من ندم وبقصد التفريغ للمالك.
لا ريب في استواء البقاء والحدوث في المكان المغصوب من حيث ثبوت أصل
الحرمة، كما لا خفاء في ازديادها بازدياد البقاء، فمن يكون باقيا فيه يكون
عاصيا آنا بعد آن، ولا ميز في هذه الجهة بين قولي (الامتناع والاجتماع) وللتخلص
عن الحرام يحكم العقل بوجوب الخروج، فوجوبه مقدمي عقلي لا شرعي، إذ
457

لا يعاقب إلا على الغصب، لا على ترك الخروج، وليكن هذا هو المراد من المتن.
كما أن المراد من وجوب قطع الصلاة - بناء على البطلان المبتني على امتناع
اجتماع الأمر والنهي - هو القطع الصوري - على ما يتعارف تعبيره - لا القطع
الحقيقي، لعدم امكانه فيما هو المنقطع في نفسه، إذ على البطلان لم تنعقد الصلاة
أصلا حتى تقطع أو تنقطع. نعم: فيما يكون الدخول عن إذن فصلى ثم رجع
المالك عن إذنه يتأتى فيه البحث من جهة القطع أو الانقطاع، ولكن ذلك بعد
انعقاد أصل الصلاة صحيحة، لا في مثل الفرض على مبنى الامتناع والبطلان كما هو
خيرة " الماتن ره " ومن يحذو حذوه.
وأما وجوب القضاء مع وجوب الاشتغال بها حال الخروج مع الايماء فغير
متضح، إذ ليس في البين إلا حكم واحد، فعند امتثاله في الوقت لا وجه لوجوب
قضاءه في الخارج، فالأمر يدور بين عدم وجوب الاشتغال بالأداء حال الخروج عند
الضيق وبين عدم وجوب القضاء على فرض الاشتغال به.
ولاتضاح ما في المتن يلزم التحقيق المستأنف، وإن مر شطر منه في ثنايا
المباحث السالفة، فنقول: لا إشكال في صحة النافلة لو أتى بها مؤميا بلا استقرار
ولا ركوع ولا سجود، سواء في سعة الوقت وفي ضيقه، فلا يلزم قطعها، إذ لا يستلزم
تصرفا زائدا حتى يجب التخلص عنه بالقطع. وتخيل أن القراءة تحريك للهواء
فيحرم لكونه تصرفا زائدا فيجب قطعها أيضا وإن كانت مع الايماء، مقدوح أولا:
بأن اللازم على المحبوس بسوء اختياره في المكان المغصوب عدم التكلم وتحريك
اليد والأجفان والرأس وما إلى ذلك من النظائر إلا عند الحرج، لأن كل واحد
منها تصرف زائد، وهو - كما في الجواهر - فتوى بعض متفقهة عصره، ولا مجال
للركون إليه بعد ما أعطى هو (قده) حق المقال فيه، فراجع.
وثانيا: بأن اللازم حينئذ هو سقوط الصلاة رأسا عمن ابتلى في المغصوب بسوء
458

اختياره، لأنها مستلزمة للتصرف الزائد، فالمحبوس أبدا لا صلاة عليه أداء ولا قضاء،
إذ لا يخرج من ذاك المكان على الفرض، وهو كما ترى! إذ الصلاة لا تترك بحال،
ويشهد له ما ورد في كيفية صلاة الغرقى: من الاكتفاء بصرف التكبير عند عدم
القدرة على غيره من الأجزاء والشرائط، فمن لا يقدر إلا على التكبير فقط يجب عليه
أن يكبر حتى يدركه الغرق، ومن هنا استفدنا عدم سقوطها بحال حتى عند
فقد الطهورين.
والحاصل: أن الصلاة التي هذا شأنها يلزم الحكم بسقوطها ما دام العمر عمن
ابتلى بالحبس الأبد.
والسر في عدم حرمة هذه التصرفات أحد أمرين: إما ما أفاده (في الجواهر)
من أن الجسم لا يحويه الأقل من حجمه ولا يحتاج إلى أكثر مما يظرفه قام أو قعد نام
أو اضطجع استدبر أو استقبل، فلا تصرف زائد حتى يحرم. وإما ما استقرت عليه سيرة
المتشرعين المحبوسين في أدوار الجور والظلم: من الأمويين والعباسيين، بعد انضمام
العلم الاجمالي بمغصوبية بعض تلك المحابس قطعا، ولم ينقل عن أحد منهم عدم
الحركة والتكلم وما إلى ذلك. نعم: لو فرض استلزام هذه الأفعال تصرفا زائدا
يحكم بالمنع عنها.
ومن هنا تبين: أنه لو أمكن الاتيان بالفريضة جامعة لجميع ما يعتبر فيها
من الأجزاء والشرائط فاقدة لجميع الموانع من دون تصرف زائد لحكم بالجواز،
ولكنها مجرد فرض لا واقع له، إذ البقاء آنا بعد آن عصيان بعد عصيان، وحيث
إنه يعتبر في الصلاة الطمأنينة والاستقرار والركوع والسجود، ومن المعلوم:
أنها مستلزمة لبطئ الخروج، يحكم بحرمتها، بلا فرق في هذه الجهة بين الفريقين
- الامتناعي منهما وكذا الاجتماعي - لاتفاقهم على حرمة البقاء ووجوب التخلص
آنا بعد آن، إنما الميز في الحكم الوضعي على تقدير العصيان، حيث إن الاجتماعي
459

قائل بالصحة، دون الامتناعي، فمن عصى في الطمأنينة حال التكبير والقراءة
مثلا يجب عليه التخلص بالنسبة إلى باقي الأجزاء، بأن يشتغل حال الخروج
- وسيأتي التفصيل بين السعة والضيق بعد - وإن عصى أيضا بالنسبة إلى بعض الأجزاء
التالية يجب عليه التخلص بالنسبة إلى الأجزاء الأخر، وهكذا إلى أن تتم، حيث
إن الامتناعي قائل بالصحة على تقدير العصيان مع الحكم بلزوم التخلص آنا بعد
آن، فلنعطف الكلام إلى الميز بين السعة والضيق من حيث الوقت، فالبحث في
طي جهتين:
الجهة الأولى
في الصلاة في المكان المغصوب مع سعة الوقت
قد مر في ثنايا المباحث السالفة ما يغنيك عن التكرار، إذ تبين هناك أن
الكون في المغصوب حرام حدوثا وبقاء، فيجب التخلص عنه عقلا آنا بعد آن صونا
عن العصيان المتراكم كذلك، وحيث إن الصلاة الجامعة لجميع الأجزاء والشرائط
موجبة للبطئ والتأخير في الخروج والتخلص لكانت حراما بالاتفاق، فعند سعة
الوقت يجب الخروج بأسرع مما يمكن، ثم الصلاة في مكان مباح، فلا يجوز
الاتيان بها هناك لا جامعة للأجزاء والشرائط - لاستلزمها البطئ المحرم - ولا
فاقدة لها - لاستلزامها ترك الواجب بلا وجه - نعم: لو عصى بالاتيان بها جامعة
لها يحكم الصحة، على الاجتماع - كما مر - وكيف كان: لا مجال لتوهم التبديل
بالايماء عوضا عن الركوع والسجود.
نعم: لو أمكن له الخروج في أسرع الوقت من دون فعل المنافي وإتمامها
في مكان مباح لا يجوز قطعا - بناء على الجواز - بل يتم هكذا.
460

الجهة الثانية
في الصلاة في المكان المغصوب مع ضيق الوقت
لو ضاق الوقت وهو بعد في المكان المغصوب، بحيث لا يسعه الخروج ثم
الاتيان بصلاة المختار في الخارج عنه، يجب عليه الاشتغال بالصلاة حال الخروج
والتخلص، لكون كل واحد منهما واجبا فوريا - على ما مر عند بيان المراد من
وجوب الخروج هناك - وحيث إن اللازم عقلا هو التخلص من الغصب فورا ففورا
وكان الاتيان بصلاة المختار منافيا للاسراع والتعجيل، يحكم بسقوط بعض الأجزاء
والشرائط، فيصلي ماشيا مؤميا للركوع والسجود - كما في المتن.
ولاهتمام الحكم وغموضته، يلزم استيفاء ما قيل أو يمكن أن يقال وجها
للتبديل بالايماء بسقوط الركوع والسجود ونحوهما والذي يتمسك به لبيان
التبديل بالايماء وجوه:
الأول: إن التخلص عن الغصب واجب فورا ففورا، والاتيان بالأجزاء
والشرائط التامة مانعة عنه، وحيث إن مفسدة الغصب غالبة على محبوبية المطلوب
الأولي، يحكم بسقوط تلك الأجزاء والشرائط المانعة عن الاسراع في الخروج،
فيتبدل بالايماء بدلا عن الركوع والسجود، ويترك بعض الحالات الواجبة بلا
بدل - كالطمأنينة والاستقرار - فالحكم حينئذ هو الاشتغال بالصلاة في حال الخروج
مؤميا، ويلزمه الاقتصار في التبديل بخصوص ما يستلزم البطئ. وأما لو فرض استواء
البدل والمبدل فلا مجال له، مثلا لو فرض شخص راكع خلقة أو لشيخوخيته -
بحيث لا يتفاوت الحال بالنسبة إليه من حيث السرعة والبطئ مع الاتيان بالركوع
الواجب - للزم اتيانه بلا اكتفاء بالايماء.
وكيف كان: هذا الوجه تام لدى الامتناعي والاجتماعي، ولعله مبنى كلام
الأصحاب (ره) في الحكم بالاشتغال حال الخروج إيماء.
461

الثاني: إن الاتيان بتلك الأجزاء والشرائط مستلزم للتصرف الزائد عن
أصل الكون المحرم، لا من حيث استلزامه للبطئ وطول مدة الغصب بل لأن هذا
النحو من الفعل كالركوع مثلا تصرف زائد بكيفيته الخاصة، فيقتصر بالايماء
إذ ما عداه تصرف زائد.
وفيه: أن تلك الهيئات الخاصة ليست تصرفا زائدا عن أصل الكون - كما
مر - وإلا للزم المنع عن القراءة أيضا، حيث إن تحريك الفم وغيره عند القراءة
مستلزم للتصرف في الفراغ الذي لم يتصرف فيه قبل، وهكذا التكبير، فيلزم
الاقتصار على مجرد النية القلبية فقط، إذ الايماء أيضا تحريك للرأس أو الجفن،
وهو تصرف زائد!
أضف إلى ذلك: ما تقدم من لزوم اقتصار المحبوس في مكان مغصوب على
الهيئة التي كان عليها حين الدخول مثلا، بلا حركة وتكلم وغيرهما أصلا، ومن
لزوم سقوط الصلاة ما دام العمر عمن حبس فيه كذلك! ويأتي فيه أيضا ما فرض
(في الوجه الأول) من الشيخ الراكع أو الشخص المنحني خلقة أو لعارض، حيث
إنه لا تصرف في الركوع زائدا على ما هو عليه فلم يتبدل بالايماء؟
الثالث: إن المبعد لا يكون مقربا - كما مر - وحيث إن الكون الصلاتي
متحد مع التصرف الغصبي، لأن الكون الغصبي عين ذاك الكون خارجا وإن كان غيره
مفهوما، فلا يمكن أن يؤتى به متقربا إليه (تعالى) ولما تضيق الوقت واضطر إلى
إتيانها، فلا بد من التنزل إلى الايماء الذي لأكون فيه عدا الكون الذي هو من
لوازم الجسم، وأما الطمأنينة والاستقرار ونحوهما، فلا.
والحاصل: أن المبعد هنا إنما هو الكون الصلاتي لاتحاده بالغصب، ولمكان
امتناع التقرب به يتنزل إلى بدله الاضطراري، وهو المشي مع الايماء حال الصلاة،
وليس الكون جزء لهذه الصلاة.
462

ونظيره ما عن المحقق (ره) من أن الكون ليس جزء في النافلة، فلذا تصح
في المغصوب اختيارا، إذ لا مبعد هناك أصلا، لانحصاره في (الكون) الذي لا يعتبر
فيها، فوزان الفريضة عند الاضطرار المفروض وزان النافلة في حد ذاتها - على
رأي المحقق - فلا يعتبر في الفريضة الكذائية الكون، لأنه مبعد يمتنع أن يتقرب
به، فيتبدل الكون ببدله الاضطراري، أي الصلاة ماشيا مؤميا للركوع والسجود.
وفيه - بعد تسليم المبنى - أنه يلزم الاقتصار في ترك أجزاء المطلوب الأولي
بخصوص الكون المبعد، وأما ما عداه من الحالات الطارئة عليه، فلا، بمعنى
أنه يلزم ترك خصوص الاستقرار والطمأنينة، لأنه كون صلاتي، وأما الركوع
فلا وجه لتركه، إذ ليس إلا الانحناء الخاص، ومن المعلوم: أن هذا التقوس هيئة
خاصة ووضع مخصوص يعرض الكون، فهو من حالات الكائن، وبينهما ميز بين،
إذ العرض له وجود محمولي يخصه، ولذا يقال: كان البياض (بالكان التامة)
في قبال الوجود المحمولي الذي لموضوعه. نعم: إن وجوده في نفسه عين وجوده
في غيره أو لغيره، وكم فرق بين أن يكون وجوده في نفسه عين وجوده في غيره،
وبين أن يكون عين وجود الغير!
ومما يوضح تعددهما وجدا، أنه لا يحمل العرض على الموضوع، وإن
يحمل العرضي عليه، فلا يقال: الجسم بياض، بل يقال: الجسم أبيض، وكذا
في المقام لا يقال: إن ذاك الشخص ركوع، بل يقال: إنه راكع.
وكيف كان: إن الركوع وضع خاص غير متحد مع الكون، لأنه هيئة،
لا أنه هو هو، والمبعد هو الكون الغصبي، لا ما يعرضه أحيانا، فمعه لا مجال لترك
الركوع بالاكتفاء بالايماء، إذ لا اضطرار إلى تركه أصلا حتى يتنزل ببدله
الاضطراري. وهكذا الأمر في السجود من جهة كونه وضعا خاصا وهيئة مخصوصة،
وإن كان له خصيصة، وهي أن من الواجب فيه هو الاعتماد ووضع مواضع السجدة،
463

ومن المعلوم: أن إلقاء الثقل الواجب فيه كون صلاتي يتحد مع الغصبية، كما
أن الوضع كذلك، فعليه لا بد من التنزل إلى الايماء بدلا عنه، ولكنه بعد مورد
للنظر، إذ بمجرد على امكان الاعتماد لا يتنزل التكليف إلى الايماء، ولذا أفتى
" الماتن ره " في بحث مسجد الجبهة (مسألة 24) بأنه " لو لم يجد إلا الطين الذي
لا يمكن الاعتماد عليه سجد عليه بالوضع من غير اعتماد ".
فيكفيه مجرد التماس، وفي المقام يكتفى بهيئة السجدة مهما أمكن وإن
لم تكن بنحو الاعتماد، فلم يتنزل إلى الايماء، مع بعده عن (قاعدة الميسور)
كما هو واضح، لأن ما ذكرناه هو أقرب إلى المطلوب الأولي المعسور، فلا مجال
للبعيد أو الأبعد مع التمكن من القريب.
ولا خفاء في أن المدار الوحيد على هذا (البرهان الثالث) هو عدم صلوح
التقرب بالمبعد، وأما من حيث السرعة والبطئ الذي هو البرهان الأول، فلا.
فتحصل من جميع ما ذكر: عدم تمامية ما عدا البرهان الأول، فبمقتضاه
يحكم بلزوم الصلاة ماشيا مؤميا، إلا فيما لا يتفاوت من حيث السرعة والبطئ،
كما مر.
الجهة الثالثة
في قضاء ما صلاها في المغصوب مؤميا
لا ريب في أن المكلف به ليس أزيد من واحد، فإن امتثل في الوقت فلا
قضاء في خارجه - كما مر - وإلا فله وجه، فإن صلى المضطر بالضيق مؤميا،
فأما أن يحكم بالصحة - لأنه التكليف الثانوي في هذه الحالة - أو لا، فعلى الأول:
لا مجال للقضاء، وعلى الثاني: لا مجال لايجابها - أي الصلاة إيماء - عليه، فلا بد
لتصحيح القضاء من وجه معقول.
464

والذي ينبغي أن يقال هو: أنه لا سترة في لزوم تحصيل المطلوب الأولي
مهما أمكن عند القدرة، سواء كان مقدورا بواسطة أو بلا واسطة، ولذا
يحكم بلزوم تحصيل الماء عند القدرة بالاشتراء أو الاسترضاء، فلو تيمم والحال
هذه لكان ممن فات منه المطلوب الأولي عمدا.
وفي المقام: لو أمكن تحصيل صلاة المختار لوجب بلا كلام، وطريقه بإعمال
ما به تنتفي الحرمة التكليفية، لأنها المانعة الوحيدة في الباب، ومن ذاك الطريق
التوبة والندم البتي، فبناء على أن التوبة مطهرة وجاعلة للتائب كمن لا ذنب
له يجب عليه أن يتوب حتى ينتفي به النهي المولوي عن الغصب، حيث إنها
- أي التوبة - مع وجوبها في نفسها صارت مقدمة لتحصيل المطلوب الأولي، فحينئذ
يصير تحصيله مقدورا وإن كان بالواسطة، فمعه يكون التكليف الأولي باقيا بحاله،
ولو كلف أيضا ببدله الاضطراري - أي الايماء - للزم الجمع بين وظيفتي الاختيار
والاضطرار - أي الجمع بين البدل والمبدل - ويتفرع عليه، أنه لو صلى مؤميا
لفات منه المطلوب الأولي الاختياري، فيشمله " من فاتته الفريضة " فيلزم قضائها.
إزاحة وهم
قد يتوهم: أن مورد التوبة إنما هو بعد التخلص وهذا غير ممكن في المقام
بعد قاعدة (الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار) فلا قبح حينئذ في التكليف
بالخروج مع حرمته عليه.
والحاصل: أن الندامة إنما هي على العمل السابق، وأما اللاحق الذي
لم يوجد بعد فلا عصيان بالنسبة إليه حتى يندم ويتوب عنه، فمعه لا يمكن انتفاء
النهي المولوي الموجب للمبعدية.
ولكنه يزاح بأن ذلك إنما يكون تاما بالقياس إلى اللاحق الذي زمامه
465

وجودا وعدما بيد ذاك الشخص، وأما اللاحق الذي قد تحقق مبادئ وجوده
حتما وكان لحوقه ضروريا فهو بمنزلة السابق، فيمكن التوبة عنه، كمن ألقى
نفسه من شاهق حيث إن سقوطه الموجب لهلاكه أمر ضروري اللحوق، فله حين
ما يكون بين المبدء والمنتهى أن يتوب لله حتى لا يعذب يوم القيامة، ولا يمكن
القول بعدم قبول التوبة منه بعد ما ورد من امتداد أمدها إلى الزهاق، فلا مجال
للحكم بعدم قبول توبته عن ذنب الانتحار الذي لم يتعقبه القتل بعد. ومن هنا
انقدح ما (في الجواهر) من الاضطراب فيه، من حيث عدم التفطن لهذا الميز التام
بين لاحق ضروري اللحوق وبين لاحق ممكن اللحوق أولا، ومن حيث استناد الجمع
بين البدل والمبدل بقاعدة (الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار) في تقريب الاشكال
وتقرير المطلب ثانيا، لأن الموجب للزوم تحصيل المبدل هو قاعدة وجوب تحصيل
المطلوب الأولي عند القدرة عليه ولو بالواسطة، لا قاعدة الاختيار المذكورة، فتدبر
جيدا، لأن الامتناع بالاختيار وإن لا ينافي الاختيار عقابا، ولكنه ينافيه تكليفا،
إذ المفروض امتناع انبعاث ذاك المكلف من هذا الأمر والحال هذه.
عود إلى بدء
ثم إن غموضة البحث واعتياصه على غير واحد من الأعاظم - فضلا عن
غيرهم - قد أوجب انعطاف سيدنا الأستاذ (مد ظله العالي) إليه ثانيا، فأفاد بما
مغزاه: أن التوبة كما أنها مطهرة للتائب من الذنب السابق كذلك مطهرة له من
اللاحق الضروري - لا أي لاحق - ولذا يحكم بصحة توبة من ألقى نفسه من شاهق
وهو بين المبدء والمنتهى، لأنه مقتضى ما ورد من اتساع أمدها إلى الزهوق، فلو
انجمد على أن التوبة إنما هي بعد الذنب للزم عدم قبولها في المثال ونحوه مما
قد تحقق مباديه الوجودية حتما وكان ترتبه على تلك المبادي قهريا، إذ قبل
466

تحقق ذاك المسبب القهري - أي القتل في المثال - لا ذنب أصلا حتى يتاب عنه،
لأن المحرم الشرعي إنما هو المسبب لا السبب، وبعد تحقق ذلك المسبب لا إمكان
للتوبة، إذ لا تائب حتى يتوب، وهو كما ترى!
فصحة التوبة بالقياس إلى لاحق ضروري اللحوق تامة، فحينئذ يمكن أن
يتوب الغاصب ويندم رأسا، ولكن أثر هذه التوبة مختلف بالقياس إلى السابق
واللاحق، إذ تأثيرها بالقياس إلى السابق إنما هو بانتفاء العقاب لا أصل الحرمة،
لأن التصرف السابق صدر حراما ولا معنى لانقلابه مباحا، وأما بالقياس إلى اللاحق
فبانتفاء الحرمة، فلا نهي مولوي حينئذ.
ومعه يمكن الاتيان بصلاة المختار الواجدة للأجزاء والشرائط، لأن المانع
على مبنى امتناع اجتماع الأمر والنهي كان أحد أمور:
الأول: عدم تمشي قصد القربة فيما هو حرام، ومن الواضح انتفاء هذا
المحذور، إذ لا حرمة حتى لا يتمشى قصد القربة.
الثاني: عدم كون المبعد مقربا، وهو أيضا منتف، إذ لا يكون التصرف
اللاحق مبعدا، وإلا لما صار التائب طاهرا كيوم ولدته أمه وكمن لا ذنب له،
لأن من آثار يوم الولادة عدم البعد، وكذا من آثار من لا ذنب له، فلا مبعد في
البين حتى لا يكون مقربا، بل الأمر ينحصر في المقرب وحده.
الثالث: لزوم المصلحة الغالبة في نفس الفعل حتى يصلح لأن يتقرب به، فما
فيه الفساد غير صالح لأن يتقرب به، فلا يمكن للعبد أن يتقرب بقتل صديق المولى
زعما بأنه عدو، إذ العبد وإن كان معذورا عند الجهل بالموضوع، ولكن فعله غير
صالح للتقرب به. نعم: يمكن التقرب من جهة الانقياد الخارج عن البحث الدائر
حول الحسن الفعلي لا الحسن الفاعلي، فعلى هذا المحذور لا مجال لصلاة المختار،
إذ لا تكون صالحة للتقرب بها والحال هذه، لأن التوبة وإن أوجب طهارة الفاعل
من الذنب، ولكن لا تؤثر في الفعل بأن تجعله صالحا للتقرب به.
467

والنقض بصحة صلاة الجاهل بالغصبية أو الناسي لها - حيث إنها صحيحة
هناك مع اشتراك الجميع في نفاد المصلحة الغالبة - مندفع بالفارق، وهو اختصاص
ذاك بما إذا التفت بعد الفراغ من الصلاة، فيشمله قاعدة (لا تعاد) بخلاف المقام
الذي لم يشرع بعد فيها - أي في الصلاة -.
هذا كله على مبنى امتناع اجتماع الأمر والنهي، وأما على الاجتماع
(كما هو المختار) فلو صلى فيه صلاة جامعة للأجزاء والشرائط صحت في السعة
والضيق، وإن أثم بالغصب الزائد، حيث إنه بلحاظ الحكم التكليفي يجب الخروج
عليه فورا ففورا، فلا يجوز له الاشتغال بها في السعة، ولو اشتغل لكان حكم العقل
بفورية التخلص باقيا على حاله، وكذا حكم الشرع بحرمة الغصب، ولكنه عند
العصيان يسقط النهي فتصح الصلاة، وإن يعاقب، كما أنه لا إشكال (في بحث الترتب)
أنه عند عصيان الأمر بالأهم وسقوطه به - أي بالعصيان كإراقة الماء الذي به تزال
النجاسة عن المسجد - يحكم بصحة الصلاة مع الطهارة الترابية، لست أقول: إن
المقام من هذا القبيل، بل المراد هو التشبيه المقرب للمقصود إلى الذهن، لا التمثيل
الذي يعتبر فيه التطابق التام بين المتماثلين.
مسألة 20 - إذا دخل في المكان المغصوب جهلا أو نسيانا
أو بتخيل الإذن ثم التفت وبان الخلاف، فإن كان في سعة الوقت
لا يجوز له التشاغل بالصلاة، وإن كان مشتغلا بها وجب القطع
والخروج، وإن كان في ضيق الوقت اشتغل بها حال الخروج،
سالكا أقرب الطرق، مراعيا للاستقبال بقدر الامكان،
ولا يجب قضائها وإن كان أحوط، لكن هذا إذا لم يعلم برضا
468

المالك بالبقاء بمقدار الصلاة، وإلا فيصلي ثم يخرج، وكذا
الحال إذا كان مأذونا من المالك في الدخول، ثم ارتفع الإذن
برجوعه عن إذنه أو بموته والانتقال إلى غيره.
إن الكون في ذاك المكان المغصوب (في هذه الصور الأربع المذكورة في المتن)
ينقسم إلى قسمين: سابق لا ذنب فيه، ولاحق لا عقاب عليه إن اقتصر على مجرد
الخروج عند تبدل الحال، لأن الدخول فيه لم يكن بسوء الاختيار حتى يعاقب
على الخروج أيضا، فلم يكن الكون السابق مبعدا، ولا يكون اللاحق كذلك
فيما اقتصر على التصرف الخروجي فقط. وبعد اتضاح هذه الوجيزة نأتي بفروع
المتن فيما يلي:
الفرع الأول: لا يجوز الاشتغال بالصلاة في سعة الوقت في ذاك المكان ما لم يعلم
برضا المالك بالبقاء بمقدار الصلاة، لأن المقدار الجائز من التصرف عقلا هو ما كان
بقدر الخروج، وأما الزائد عنه، فلا. نعم: لو فرض عصيانه ببقائه فيه والصلاة
لصحت صلاته - على المختار - ومنه يتضح حكم الفرع الآتي.
الثاني: وهو أنه لو كان تبدل الحال باتضاح الغصبية بعد الاشتغال بالصلاة
للزم التخلص فورا ففورا، وهو قد يستلزم القطع ورفع اليد عنها كما إذا كان
الخروج ما حيا لصورتها، وقد لا يستلزم كما إذا لم يكن كذلك، بأن كان قريب
المخرج بفصل خطوة أو نحوها بلا محو لصورتها ولا انحراف عن القبلة، بناء على
لزوم الاستقبال (كالطهارة) من البدو إلى الختم وإن كان في الحالات التي لأذكر
فيها ولا ركوع ولا غيرهما من الأجزاء الواجبة، فيلزم تفصيل ما أطلقه
" الماتن ره " من وجوب القطع بما ذكر.
469

الثالث: لو كان التبدل المذكور عند ضيق الوقت، ولم يمكن الجمع بين
صلاة المختار والخروج عنه، يرفع اليد عن الطمأنينة ونحوها مما يوجب البطؤ
فيخرج مصليا، سالكا أقرب الطرق، مراعيا للاستقبال بقدر الامكان، فتصح أداء
فلا يجب القضاء، إذ لم يفت شئ حتى يقضي، لعدم جريان ما مر: من لزوم تحصيل
المطلوب الأولي بالتوبة، إذ لا ذنب في البين حتى يندم ويتوب.
تنبيه:
قد يمكن تصحيح الصلاة الاختيارية في الموارد التي يكون الخروج فيها
مباحا - كهذه الصور الأربع وما يضاهيها - ولكن بعد الالتفات إلى أن جواز التصرف
الخروجي على نحوين: أحدهما مطلق، والآخر مقيد.
وبيانه: بأن الخروج عند تبدل الحال - بانكشاف الغصبية بعد اختفائها، أو
بارتفاع إذن المالك بعد وجوده - لا محالة يستلزم أمدا يخصه ومدة تظرفه،
ولا ريب في عدم حرمة التصرف في تلك المدة الخاصة التي لا بد منها للخروج،
فحينئذ إما أن يكون جواز التصرف في تلك المدة مطلقا (أي سواء كانت تلك المدة
متصلة بآن تبدل الحال أو منفصلة عنه) أو مقيدا (أي خصوص ما كانت متصلة به
مصروفة للخروج) فأما على الثاني: فكلامه ما مر: من لزوم التخلص فورا ففورا
بحسب التكليف مع الصحة على فرض العصيان. وأما على الأول - أي المطلق -
فيمكن تصحيح الصلاة باقيا في ذاك المكان في الجملة على مبنى الامتناع أيضا،
وذلك: بأن يفرض كون مدة الخروج الجائز عشر دقائق، ومدة الصلاة باقيا في
ذاك المكان جامعة لجميع الأجزاء والشرائط الواجبة أقل منها - بحيث يفرغ
منها قبل انقضاء تلك المدة أو مساويا لها - إذ لا إشكال في الصحة هنا، لوقوع الصلاة
وتحققها في مدة كان له التصرف فيها بالكون، وإنما المحرم هو بالقياس إلى الزائد
عن القدر الجائز، فالمقدار الزائد عنه المصروف في الخروج حينئذ حرام، ومنشأ
470

الصحة هو وقوع الصلاة حلالا وإن وقع الخروج حراما، إذ الصلاة في مثل المقام
مستلزمة للحرام، لا متحدة به، وهو واضح.
وهكذا لو فرض كون مدة الصلاة أزيد من الأمد الجائز للخروج، ولكن
وقعت الأكوان الصلاتية مباحة وبقى بعض أجزائها الواجبة الغير الكونية
- كالتشهد والسلام ونحوهما - زائدا عن الأمد السائغ، حيث إن البقاء حينئذ وإن
كان محرما ولكنه غير متحد مع المأمور به على مسلك الامتناع أيضا. نعم:
لو وقع بعض تلك الأكوان في الزائد عن أمد الخروج، فللبطلان على ذاك
المسك وجه.
وقد تعرض لما يشبه ما حققناه (في الجواهر) ولكن لا فيما كان الدخول مباحا
واقعا أو للعذر، بل في أصل المسألة عند قول المحقق (ره) " وإذا ضاق الوقت وهو
آخذ في الخروج صحت صلاته " حيث قال (قده) " وقد يشكل بأن مقتضى ذلك
أنه لو صلى هذه الصلاة من غير اشتغال بالخروج تصح صلاته وإن أثم بترك التشاغل،
وحينئذ فقول المصنف: " ولو صلى ولم يتشاغل بالخروج لم تصح صلاته " في غير
محله، إلا أن يريد الصلاة المشتملة على الركوع والسجود مثلا، والسر في ذلك:
أن الكون حال التشاغل بالصلاة الكذائية العارية عما عدا النية والأذكار والايماء
ليس كونه صلاتيا كي يقتضي حرمته فسادها ". انتهى بتلخيص وتغيير ما لعبارته،
والغرض مجرد التنظير، لا أنه هو المبحوث عنه هنا، فتبصر.
مسألة 21 - إذا أذن المالك بالصلاة خصوصا أو عموما ثم
رجع عن إذنه قبل الشروع فيها وجب الخروج في سعة الوقت،
وفي الضيق يصلي حال الخروج على ما مر. وإن كان ذلك بعد
الشروع فيها، فقد يقال: بوجوب اتمامها مستقرا وعدم الالتفات
471

إلى نهيه وإن كان في سعة الوقت، إلا إذا كان موجبا لضرر
عظيم على المالك. لكنه مشكل، بل الأقوى: وجوب القطع
في السعة والتشاغل بها خارجا في الضيق خصوصا في فرض
الضرر على المالك.
لا إشكال في عدم العقاب في التصرف السابق واقعا، إذ المفروض تحقق طيب
نفس المالك به، ولا يكشف الرجوع عن الكراهة الماضية، إذ ليس إلا بداء وندامة
فالتصرف السابق وقع حلالا، وهكذا الخروج يقع مباحا، لعدم امكان النهي عنه
في نفسه، ولعدم مسبوقيته بسوء الاختيار حتى يحكم بتأثيره في العقاب، كما مر.
إنما الكلام هنا في الفروعات الأربع التي أفادها (في المتن) وتصويرها: بأن الرجوع
عن الإذن إما قبل الشروع في الصلاة أو بعده، وعلى كلا التقديرين: إما في سعة
الوقت أو ضيقه، فهيهنا فروع أربعة:
الفرع الأول:
أن يكون الرجوع عن الإذن في السعة قبل الشروع في الصلاة: ولا ريب
حينئذ في حرمة التصرف الزائد عن التصرف الخروجي، إذ لا اضطرار إلى ذلك
الزائد، والكلام فيه من حيث الإذن المطلق والمقيد بالنسبة إلى أمد الخروج
هو ما مر.
وليس في البين ما يعارض حرمة التصرف في مال الغير حتى يتأمل في العلاج،
إذ المفروض أنه لم يشرع بعد في الصلاة حتى ينافيه حرمة القطع ووجوب الاتمام،
ولم يتضيق الوقت حتى ينافيه لزوم الاتيان بجميع الأجزاء والشرائط.
فيتعين الحكم بلزوم الخروج فورا ففورا ما لم يلزم تصرف زائد
472

الفرع الثاني:
أن يكون الرجوع عن الإذن في الضيق قبل الشروع في الصلاة: والكلام فيه
من حيث حرمة التصرف الزائد عن الخروج هو ما مر، وكذا من حيث انتفاء
ما يعارضه، إذ لا حرمة للقطع، لأن المفروض عدم الشروع فيها.
نعم: يمتاز عن الأول باستلزام الخروج والاتيان بها في هذه الحالة سقوط
بعض الأمور الواجبة فيها - كالطمأنينة ونحوها - وسيوافيك العلاج عند دوران
الأمر بين التصرف في مال الغير وبين ترك بعض الأجزاء الصلاتية الواجبة، فارتقب.
الفرع الثالث:
أن يكون الرجوع عن الإذن في السعة بعد الشروع في الصلاة: وهذا مركز
تضارب الآراء، لاختلاف الأدلة وتهافت مقتضياتها.
فمن تلك الآراء: ما هو خيرة العلامة (ره) وجماعة: من أنه يجب عليه الخروج
مع الاتمام خارجا بلا قطع لها.
ومنها: لزوم قطع الصلاة، وهو المنسوب إلى ظاهر كلام " الشيخ ".
ومنها: لزوم الاتمام مستقرا، وهو خيرة الذكرى والبيان - على ما في
الحدائق - وقد نقل هنا قولين آخرين يمكن الإشارة إليهما في المسألة التالية.
وتلك الأدلة - الموجبة لتشتت هذه الآراء - عبارة عن: وجوب اتمام العمل
وحرمة القطع، وعن حرمة التصرف الزائد عن التصرف الخروجي، وعن لزوم
انحفاظ الأجزاء والشرائط الواجبة.
فيلزم التأمل البالغ فيها، حتى يتضح أن أيا منها أقوى وأهم من الآخرين،
بعد ملاحظة تماميته في نفسه، فنقول بمنه تعالى:
473

في نقد أدلة وجوب اتمام العمل وحرمة القطع
قد يستدل لحرمة قطع الصلاة بالكريمة الناطقة بقوله تعالى " يا أيها الذين
آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم " (1) حيث إنها تنهى عن
إبطال العمل، ومن المعلوم: أن قطع الصلاة إبطال لها، فلا يجوز تكليفا. ولكن
تمامية الاستدلال متوقفة على بيان ما تحتمله الآية، وهو - كما أفاده الشيخ
الأنصاري (قدس سره) في الفرائد - أمور:
الأول: هو أن يكون المراد، إحداث البطلان في العمل الصحيح وجعله
لغوا لا يترتب عليه الأثر، كالمعدوم.
الثاني: أن يكون المراد هو إيجاده باطلا لاقترانه بما يمنع عن الصحة أو
لافتقاده ما يقتضيها، نحو " ضيق فم الركية " والنهي على هذين الوجهين ظاهره
الارشاد، إذ لا يترتب على إحداث البطلان في العمل المنعقد صحيحا أو إيجاده باطلا
عدا فوت مصلحة العمل الصحيح، فلا نهي مولوي.
الثالث: أن يكون المراد قطع العمل ورفع اليد عنه - كقطع الصلاة والصوم
والحج في الأثناء - ويمكن ارجاعه إلى الأول، بأن يراد من (العمل) ما يعم الجزء
المتقدم، لأنه عمل أيضا، وقد وجد على وجه قابل لترتب الأثر وصيرورته جزء
فعليا للمركب، فلا يجوز إسقاطه عن القابلية. وجعل هذا المعنى متغايرا للأول
مبني على كون المراد من (العمل) مجموع المركب الذي وقع الابطال في أثنائه.
وكيف كان: فالمعنى الأول أظهر، لكونه المعنى الحقيقي. إلى أن قال
(قدس سره) " هذا كله مع أن إرادة المعنى الثالث الذي يمكن الاستدلال به
موجب لتخصيص الأكثر، فإن ما يحرم قطعه من الأعمال بالنسبة إلى ما لا يحرم

(1) سورة محمد - آية 33.
474

في غاية القلة " انتهى بتلخيص وتغيير ما، ولقد أجاد بما أفاد!
ولا خفاء في أن حرمة قطع الحج إنما هو لدليل يخصه، كما أن حرمة
قطع الصوم أيضا كذلك، لعدم امكان التدارك في الوقت لأنه مستوعب إياه، فليس
القطع المحرم فيهما ما هو المبحوث عنه هنا - أي المستفاد من الآية -.
وقد يستدل لها في خصوص الصلاة بالاجماع. والحق أنه في الجملة تام، لعدم
الاختلاف ظاهرا فيما يكون القطع اقتراحيا بلا حاجة ولا ضرورة، ولكن ثبوته
في مثل المقام المستلزم للتصرف المحرم ممنوع، ولذلك اختلف المجمعون أنفسهم
فيه، فذهب بعضهم إلى وجوب الاتمام مستقرا، وبعضهم إلى وجوبه حال الخروج،
فحينئذ يشكل الحكم بالاتفاق، بل لا يمكن، وإلا لما اختلفوا في المقام، وسيوافيك
بيان أهمية حرمة التصرف في مال الغير من حرمة القطع، فارتقب.
وقد يستدل لها أيضا بما ورد من " أن الصلاة تحريمها التسليم وتحليلها
التكبير " إذ الظاهر منه هو حرمة غير واحد من الأمور على المصلي بمجرد التكبير
مع صيرورتها حلالا له بالتسليم (وسيأتي البحث المشبع في حرمة القطع، فارتقب).
وفيه: أنه لا يستفاد منه إلا كبرى عامة، وهي حرمة ما حرمه الدليل من
خارج، نظير حرمة الأشياء الخاصة بمجرد عقد الاحرام للحج أو العمرة، وأما
بيان أن تلك الأمور ما هي؟ وأن القطع والابطال هل هو من تلك الأمور أو من
غيرها؟ فلا. نعم: لما لم يمكن القطع إلا بفعل المنافي لدل على حرمته، فهي
تامة الدلالة على تحريم القطع، ولكن يدور الأمر بين التخصيص في النافلة وبين
حمل التحريم على الحرمة الوضعية فقط.
وقد يتمسك لها بقاعدة " إن الصلاة على ما افتتحت " ولكنها لامساس لها
بالمقام لاصطيادها من نصوص باب النية الأجنبية عن المبحوث عنه، فلا نطيل.
وليعلم: أن حرمة القطع ليست في حد يقاوم المنع عن الغصب والتصرف
475

المحرم، إذ المشهور من الفقهاء (ره) في غير مورد ترجيح حرمة الغصب على كثير
من الأحكام.
مثلا لو دار الأمر بين التستر بالمغصوب وبين الصلاة عاريا يحكم بالثاني.
ومن هذا القبيل ما ورد من الاكتفاء بالحشيش ونحوه في التستر، إذ من الواضح
عدم جواز التستر بالمغصوب هناك، فتجويز الحشيش مع إمكان التستر بالمغصوب
شاهد على تقدمه عليه، بل على أصل الستر - كما أشير إليه - إذ تجوز عاريا بلا
ستر مع إمكان التستر بالمغصوب. وهكذا ما ورد: من الصلاة قائما بلا انحناء
ولا انخفاض للركوع والسجود، للاكتفاء بالايماء عند فقدان الستر وعدم الأمن
من المطلع، حيث إن أهمية الغصب مقدمة على أهمية تلك الأجزاء، إذ يرفع
اليد عنها دونه - أي الغصب - فمع إمكان التستر بالمغصوب يحكم بالصلاة عاريا
مؤميا في بعض الموارد. وليس ذلك إلا للاهتمام المذكور.
وكذا لو دار الأمر بين التوضي بالمغصوب وبين التيمم، يحكم بسقوط الوضوء
الذي هو المطلوب التام الأولي، دون الغصب الباقي على حرمته التامة، إلى غير
ذلك من النظائر الفقهية الشاهدة على تقدم حرمة الغصب على غير واحد من
الأحكام.
ومن هنا يتضح: أن لزوم انحفاظ الأجزاء والشرائط إنما هو فيما لا يكون
بنحو الغصبية المحرمة، ولذلك يحكم بجواز السجدة على الفرش ونحوه حتى
الإصبع عند فقد ما يصح السجود عليه، مع عدم جواز الاكتفاء بمسجد غصبي،
فلو كان هناك ما يصح عليه السجود بطبعه ولكن كان مغصوبا لحكم بأنه كالعدم،
فالانتقال إلى ذاك البدل الاضطراري مع إمكان المبدل الغصبي أقوى شاهد على
سقوطه عند استلزام الغصب.
فتحصل: أن شيئا من حرمة قطع الصلاة ولزوم انحفاظ الأجزاء والشرائط
الواجبة لها لا يعارض حرمة الغصب، هذا.
476

ولكن قد يقال: بأن المقام مما لا اعتداد فيه بطيب نفس المالك ورضاه، لأنه
بعد رضاه وإذنه بما هو لازم الاتمام شرعا - كالصلاة - ليس له المنع عنه بقاء، وإن
تبدل طيب نفسه بالكراهة لما كان لها أثر، نظير الإذن في الرهن والإذن في الدفن،
حيث إن الرهن لما كان لازما من قبل الراهن، فلو رهن مالا بإذن مالكه لما أمكن
الفك بمجرد تبدل رضاه، وهكذا لو طابت نفسه بدفن ميت مسلم في ملكه فليس
له المنع عنه بقاء، ولا وقع لكراهته العارضة بزوال الطيب، إذ لا اعتداد له بقاء
حتى يضر فقده أو وجود ما يقابله من الكراهة، والمقام من هذا القبيل، لأن
الصلاة كالرهن لازم البقاء شرعا، إذ لا يجوز قطعها اختيارا، فحينئذ يكون الإذن
فيها إذنا فيها بقاء ورضا بلوازمه، وعلى فرض نفاده لا أثر للكراهة الطارئة.
ولكن التحقيق يأباه، للميز الواضح بين المقيس والمقيس عليه، وبيانه:
بأن سقوط الكراهة ونفاد الطيب عن التأثير إنما يكون لأحد أمرين: أحدهما
ثبوت حق لأحد بنحو يستلزم الاعتداد بالكراهة سقوط ذاك الحق، والآخر ثبوت
حكم شرعي على خصوص المالك أو على ما يعمه بنحو لا يمكن تركه. أما الأمر
الأول: فكان يلتزم ويتعهد في ضمن عقد مثلا إتيان عمل خاص - كالخياطة أو الغرس
أو الزرع وما إلى ذلك من الأمور المالية - حيث إنه يجب عليه القيام بما تعهده
رضى أم لا، لعدم الاعتداد بطيب نفسه ولا بكراهته، إذ الاعتناء به مستلزم لفوات
حق الغير. ولا مجال للتمسك بقوله " لا يجوز أو لا يحل... إلا بطيب نفسه ".
لأنه بعد الاقدام على ذاك التعهد فقد أذهب حرمة ماله بما تعهده، فعليه القيام
به طابت نفسه أم لا.
ومن هذا القبيل الإذن في الرهن، إذ يحصل به حق للمرتهن على ذاك المال
المرهون، فليس للإذن أن يرجع، لأنه يستلزم فوات حق المرتهن، فلو تبدل طيب
نفسه قهرا بالكراهة لما كان له أثر أصلا، لعدم اعتباره بقاء، ولذا يحكم بعدم
477

الاعتداد بالكراهة الطارئة فيما لو طابت نفسه بوضع حجرة أو خشبته في البناء أولا،
ثم بعد الوضع والبناء ندم وبدا له، فكره بعد الطيب، إذ لا ريب في عدم الاعتداد بهذه
الكراهة المستلزمة لذهاب حق الغير، لأن غرائز العقلاء في أمثال المقام على أن
الإذن والرضاء السابق بمنزلة إعطاء حق لازم، بحيث لا يمكن إبطاله وإذهابه.
والمهم هو الفحص عن كونه إعطاء لحق أو إباحة خاصة - نحو إطعام الضيف -
حيث إنه يمكن للمالك المطعم أن يرجع عن إذنه قبل الالتقام وإن كانت اللقمة
في يد ذاك الضيف مثلا، وأما بعد الازدراد والبلع، فلا، لاستفادة مجرد الإباحة
من الإذن قبل الأكل مع استفادة الحقية منه بعده، فلا يصح المنع حينئذ، فيلزم
التأمل في أن الإذن في الصلاة هل هو مجرد إباحة أو اعطاء حق، فعلى الأول
يجوز الرجوع، دون الثاني. ولكنه بعيد، لقوة احتمال الإباحة، فقياس ذلك
مع الإذن في الرهن مع الفارق، إذ الثاني بمنزلة الضرر المقدم عليه، دون الأول.
وأما الأمر الثاني: فكأن يأذن في دفن المسلم في ملكه، حيث إن الدفن وإن
كان واجبا كفائيا ولكن النبش حرام عيني، فيحرم على كل مكلف أن ينبشه
ومنه (المالك الإذن) فيحرم عليه نبشه، كما يحرم على من دفنه أيضا، بلا ميز،
فهذا الحكم التكليفي العام موجب لسقوط اعتبار طيب نفسه، لأن الطيب والكراهة
وإن كان لهما مبادي نفسانية خاصة يجبان بها ويمتنعان دونها، إلا أن إناطة
الأحكام بهما مختلفة. والمدعى أن في مثل المقام لا اعتداد بالطيب، وإلا لزم النبش
المحرم، وهذا أيضا نظير ما مر في الأمر الأول، فلا يقاس بالإذن بالصلاة، لأن قطعها
على فرض الحرمة خاص بالمصلي لا غير، لأنه تكليف يخصه، فحينئذ يمكن تبدل
طيب نفس المالك بالكراهة، وليس عليه - أي على المالك - شئ وضعي أو تكليفي
يمنع عن نفوذ كراهته، إذ ليس الإذن في الصلاة بمنزلة إعطاء حق للغير - كما مر -
بل مجرد إباحة التصرف يدور مدار طيب النفس حدوثا وبقاء.
478

فتبين من جميع ما ذكر: أن شيئا من دليلي حرمة قطع الصلاة ولزوم
انحفاظ الأجزاء والشرائط لا يقاوم دليل حرمة التصرف الزائد الغصبي، ومن هنا
ظهر وجوب القطع - لولا الانقطاع - مع اتيان الصلاة الجامعة للأجزاء والشرائط
في خارج المكان المغصوب إن يستلزم الخروج والتخلص محو صورة الصلاة، وإلا
فلا - كما مر تفصيله - كما أنه يتضح حكم الفرع الآتي.
الفرع الرابع:
وهو أن يكون الرجوع عن الإذن في ضيق الوقت بعد الشروع في الصلاة.
فالحق فيه أيضا لزوم التخلص فورا ففورا، بأن يتشاغل بها حال الخروج،
لأن انحفاظ الأجزاء لا يقاوم حرمة التصرف الزائد عن مقدار الخروج، حيث إن
هذا التصرف الخروجي جائز شرعا، فلا مجوز للتأخير المستلزم لفوات الوقت كلا
أو بعضا، وسيوافيك ما به يتضح ما أجملناه الآن فيما يلي:
وأما مسألة 22 - فلاحتياج لها إلى بحث مستأنف بعد ما حقق مستوفا:
من إناطة الأمر بطيب النفس واقعا.
مسألة 23 - إذا دار الأمر بين الصلاة حال الخروج من
المكان الغصبي بتمامها في الوقت، أو الصلاة بعد الخروج وادراك
ركعة أو أزيد، فالظاهر: وجوب الصلاة في حال الخروج،
لأن مراعاة الوقت أولى من مراعاة الاستقرار والاستقبال
والركوع والسجود الاختياريين.
479

قد يوجه خيرة " المتن " بأن مصلحة الوقت أهم من مصلحة تلك الأمور
الواجبة الاختيارية، حسب الشواهد الواردة في بعض الموارد.
وأما قاعدة (من أدرك) فهي ليست بصدد تجويز التأخير، لأنها مختصة بما
إذا لم يبق من الوقت فعلا إلا مقدار ركعة، فلا تشمل ما إذا بقي بمقدار تمام الصلاة
ولكن يؤخرها إلى أن يبقى مقدار ركعة.
وفيه - بعد الغض عن بعض ما فيه من النقاش - أن المستفاد من قاعدة (من
أدرك... الخ " هو الاكتفاء بادراك ركعة في الوقت مطلقا، فهي بطبعها الأولي
غير مقيدة بالاضطرار ونحوه، اللهم إلا بالانصراف عن صورة التأخير العمدي،
إذ تجويزه مستلزم للغوية التحديد بوقت خاص، لأن جواز إيقاع ثلاث ركعات
من العصر أو العشاء مثلا في خارج الوقت عمدا موجب لعدم التحديد المعهود وكونه
لغوا، فلهذه النكتة تنصرف هذه القاعدة عن التأخير لا لعذر، نظير ما حققناه في قاعدة
(لا تعاد) من انصرافها عن ترك ما عدا الخمسة المذكورة فيها عمدا - أو ما بحكمه -
صونا عن اللغوية، ولذا يحكم بأنه أو بقي مقدار خمس ركعات للحاضر أو ثلاث
للمسافر (في الظهرين) للزم تقديم الظهر وإيقاعها بتمامها في الوقت مع تأخير العصر
بايقاعها في الوقت وخارجه، بأن يدرك ركعة منها فيه والباقية في خارجه.
فمنه يتضح: أن المستفاد من القاعدة هو أوسع مما تخيل، فيجوز التأخير
لعذر، فلا تختص بما إذا بقي مقدار ركعة فقط، فعليه لا مجال لترك المطلوب
الأولي - من الاستقبال والركوع والسجود الاختياريين - بالتنزل إلى البدل.
وأما تقديم الوقت على الطهارة المائية بالتنزل إلى التيمم، فلأجل ما ورد في
خصوص ذاك الباب من " أن خائف فوت الوقت يتيمم " فلا يتعدى إلى غيره.
فالأقوى: هو قطع الصلاة باستئنافها في المكان المباح (وإن لم يدرك من الوقت إلا
ركعة) مع الاتيان بما هو المطلوب الأولي من الأجزاء والشرائط الاختيارية لها.
480

الثاني من شروط المكان: كونه قارا، فلا تجوز الصلاة
على الدابة أو الأرجوحة أو في السفينة ونحوها مما يفوت معه
استقرار المصلي، نعم: مع الاضطرار ولو لضيق الوقت عن
الخروج من السفينة مثلا لا مانع، ويجب عليه حينئذ مراعاة
الاستقبال والاستقرار بقدر الامكان فيدور حيثما دارت الدابة
أو السفينة. وإن أمكنه الاستقرار في حال القراءة والأذكار
والسكوت خلالها حين الاضطراب وجب ذلك مع عدم الفصل
الطويل الماحي للصورة، والا فهو مشكل.
إن الطمأنينة والقرار من أوصاف المصلي لا المكان، فعده من شروطه غير
خال عن التسامح الذي يجوزه الارتباط العرضي، لأن اضطرابه وعدم قراره
موجب لعدم قرار المصلي، وإن لم يكن قراره ملازما لقراره، لامكان قراره مع
اضطراب المصلي وتحركه بسبب آخر وراء المكان. وكيف كان: إن المتمكن في
مكان متحرك، قد يكون بنحو يتحرك بحركة ذاك المكان واقعا بحيث يكون
اتصافه بها حقيقيا كاتصاف نفس ذاك المكان بها، وقد لا يكون كذلك بل هو ساكن
حقيقة ومتحرك مجازا - كجالس السفينة المعتدلة التي لا اضطراب لها - ولولا ما
يأتي من " الماتن " من تجويز هذا القسم، لأمكن حمل ما أفاده هنا: من شرطية
القرار، على لزوم الاتقاء من الحركة مطلقا حتى المجازية منها المسماة في لسانه
بالحركة التبعية في الصلاة، وإن كان المصلي نفسه قارا حقيقة، ولكن بلحاظ
481

المسألة التالية المصرحة بنفي البأس عن الحركة بالتبع لا مجال للحمل المذكور،
بل ولا يساعده أيضا تقييد المنع (في المتن) بفوات الاستقرار.
والظاهر: أن عد ذلك شرطا إنما هو في قبال بعض أصحابنا الإمامية (ره)
من الذهاب إلى جواز الصلاة في السفينة مطلقا على أي نحو كانت السفينة من استقرار
واضطراب - كما في الحدائق - فالغرض حينئذ هو بيان اعتبار القرار، بلا ميز بين
السفينة وغيرها، فأي شئ يوجب الصلاة فيه أو عليه فوت الطمأنينة وزوال القرار
حقيقة، لا تجوز الصلاة فيه ولا عليه.
والمهم في الباب هو الاستدلال التام على اعتبار ذلك وراء اعتبار الأجزاء
والشرائط المعهودة فإن تم ظهور بعض الأدلة اللفظية المتمسك بها في الباب، فليؤخذ
بعمومه أو اطلاقه، وإلا فليقتصر على المقدار المتيقن من ذلك، لانحصار الدليل
حينئذ في الاجماع المدعي - كما سنشير إليه - إذ في موارد الاختلاف - كالسفينة
مثلا - لا اجماع البتة، وإلا لما اختلف فيها.
فلنعطف إلى ما يمكن التمسك به لبيان لزوم الطمأنينة، وهو على قسمين:
أحدهما مما له مساس بالقبلة، والآخر ما له ارتباط بالمكان، فلذلك نوعه في
" الوسائل " بنقله في هذين البابين.
في نقد ما استدل به لاعتبار القرار في الصلاة
فمن تلك الروايات: ما رواه عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله، عن أبي عبد الله عليه السلام
قال: لا يصلي على الدابة الفريضة إلا مريض يستقبل به القبلة، ويجزيه فاتحة
الكتاب ويضع بوجهه في الفريضة على ما أمكنه من شئ، ويؤمي في النافلة
إيماء (1).
إن المستفاد من الصدر المستثنى منه (مع قطع النظر عن الاستثناء) إما أن

(1) الوسائل باب 14 من أبواب القبلة ح 1.
482

يكون هو المنع من إتيان الصلاة على الدابة من حيث هي دابة، لا من حيث استلزام
ذلك فوات بعض ما يعتبر في الصلاة من الأجزاء والشرائط. بل في " الحدائق " أن
المشهور عدم الجواز مع التمكن من فرائض الصلاة - بأن يكون البعير معقولا -
والغرض هو إمكان استفادة هذا المعنى منه، كما هو خيرة غير واحد من الأصحاب
حسب ما حكاه في " الحدائق " لاطلاق بعض نصوص المنع عن إتيان الصلاة على الدابة.
وإما بشهادة الاستثناء يستفاد عرفا: أن المنع إنما هو بلحاظ فوات بعض
ما يعتبر فيها من الأجزاء والشرائط وليس بصدد بيان الصغرى وأن المعتبر فيها ماذا،
فلا يتم التمسك بها لاثبات اعتبار القرار.
ومنها: ما رواه عن محمد بن عذافر (في حديث) قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام
رجل يكون في وقت الفريضة لا يمكنه الأرض من القيام عليها ولا السجود عليها
من كثرة الثلج والماء والمطر والوحل، أيجوز له أن يصلي الفريضة في المحمل؟
قال: نعم هو بمنزلة السفينة إن أمكنه قائما وإلا قاعدا، وكل ما كان من ذلك
فالله أولى بالعذر، يقول الله عز وجل: بل الإنسان على نفسه بصيرة (1).
إن المستفاد منه - حسب ارتكاز السائل - هو عدم جواز الفريضة حال
الاختيار في المحمل، ولا ظهور له في كون المنع لفوات الطمأنينة، بل يمكن
الاستظهار بالقرينة الحافة أنه لفوات بعض ما يعتبر فيها من الأجزاء، ولذا حكم
بلزوم حفظ القيام عند المكنة وإلا فالقعود بدل عنه.
هذا وأشباهه قاصر عن إفادة اعتبار شرط آخر، وهو القرار.
ومنها: ما رواه عن عبد الله بن سنان قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: أيصلي
الرجل شيئا من المفروض راكبا؟ فقال: لا، إلا من ضرورة (2) وقريب منها رواية
ابن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام أيضا (3).

(1) الوسائل باب 14 من أبواب القبلة ح 2 و 4 و 7.
(2) الوسائل باب 14 من أبواب القبلة ح 2 و 4 و 7.
(3) الوسائل باب 14 من أبواب القبلة ح 2 و 4 و 7.
483

إن السؤال كاشف عن احتمال المنع عن الصلاة على المركوب، إما لفوات
الأجزاء والشرائط المعهودة، وإما لاحتمال دخالة الأرض ولزوم كونها عليها - كما
سيجئ - فحينئذ لا مجال للتمسك بها لاثبات اعتبار القرار، إذ من أين يعلم أن
المنع لذلك (1) فلا ظهور للجواب فيه أيضا. ولا يمكن أيضا استظهار كونه لفوات
الأجزاء المعهودة من الركوع والسجود الاختياريين، لفقد القرينة الحافة هنا
كما كانت في الأوليين.
ومما يؤيد احتمال دخالة الأرض: ما رواه منصور بن حازم قال: سأله أحمد بن
النعمان فقال: أصلي في محملي وأنا مريض؟ قال: فقال: أما النافلة فنعم، وأما
الفريضة فلا، قال: وذكر أحمد شدة وجعه، فقال: أنا كنت مريضا شديد المرض
فكنت آمرهم إذا حضرت الصلاة ينيخوني (وضبط بعدة وجوه) فأحتمل بفراشي
فأوضع وأصلي، ثم أحتمل بفراشي فأوضع في محملي (2).
والمراد من قوله: " فقال " هو المجيب - على ما استظهره بعض الأصحاب.
وقد حمله " الشيخ " على الاستحباب.
والحاصل: أن الموجب للسؤال هو احتمال لزوم كون الصلاة على الأرض.
ومما يكون مثارا لانقداح هذا الاحتمال، هو ما ورد من قوله صلى الله عليه وآله " جعلت
لي الأرض مسجدا وطهورا " إذ المراد من المسجدية هنا ليس هو خصوص موضع
الجبهة، بل يعمه وغيره.
وهكذا بعض ما ورد اقتراحا للنهي عن الصلاة راكبا بلا مسبوقية بسؤال،
حيث إن هذا ونظائره يوجب انقداح احتمال المنع الموجب للاستعلام.
نحو ما رواه عن قرب الإسناد، عن علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السلام

(1) اللهم إلا بدعوى التلازم الغالبي، إذ الغلبة في حال الركوب هو الحركة.
ولكن لا اعتداد بهذه الغلبة ما لم تبلغ حد الظهور اللفظي.
(2) الوسائل باب 14 من أبواب القبلة ح 10.
484

قال: سألته عن الرجل هل يصلح له أن يصلي على الرف المعلق بين نخلتين؟
فقال: إن كان مستويا يقدر على الصلاة فيه فلا بأس - الحديث (1).
(لا نقاش في السند بعد نقله بطريق " الشيخ " وإلا كان له مجال) إذ احتمال
دخالة الأرض لأنها المقر المعهود قد أوجب السؤال من صلوح الصلاة في الرف
الكذائي. والمراد من الجواب هو التجويز عند القدرة على اتيان ما يعتبر في الصلاة،
من دون أن يكون بصدد بيان الصغرى. وليس المراد من الاستواء هو الاستقرار
- كما لا يخفى - والحاصل: أنه لتجويز الصلاة الجامعة للأجزاء والشرائط في الرف
ولطرد خصوصية الأرض، من دون دلالتها على اعتبار القرار فيها.
والغرض: هو الإشارة إلى أن احتمال دخالة الأرض قد أوجب السؤال.
ونحوها ما رواه عن إبراهيم بن أبي محمود، أنه قال لرضا عليه السلام: الرجل
يصلي على السرير من ساج ويسجد على الساج؟ قال: نعم (2). وما رواه عن محمد بن
إبراهيم الحصيني، قال: سألته عن الرجل يصلي على السرير وهو يقدر على الأرض؟
فكتب: لا بأس صل فيه (3).
ولما كان السرير دارجا في تلك المناطق الحارة صونا عن حرارة الأرض،
وكان ذلك موردا للابتلاء كثيرا، مع احتمال دخالة الأرض - حسب ما مر -
سئل عن جواز الصلاة عليه، فقيل: نعم، لبيان التساوي في أصل الجواز، حيث
إنه رخص إتيانها على السرير مع القدرة على الأرض، وسيتضح هذا المعنى من
نصوص السفينة - كما يلي - فارتقب.
ثم إنه قد اختلف الأصحاب في جواز إتيان الصلاة في السفينة - مع استلزام
ذلك فوات غير واحد من الأجزاء والشرائط - اختيارا وعدمه.

(1) الوسائل باب 35 من أبواب مكان المصلي ح 1.
(2) الوسائل باب 36 من أبواب مكان المصلي ح 1 و 2.
(3) الوسائل باب 36 من أبواب مكان المصلي ح 1 و 2.
485

و (الأول) هو خيرة ظاهر المبسوط، والنهاية، والوسيلة، والمهذب، ونهاية
الأحكام - على ما في الجواهر - و (الثاني) هو خيرة من عدا هؤلاء. وتحقيق المقام
يقتضي نقل ما استدل أو يمكن الاستدلال به للقول الأول، حتى يتضح نطاقه، ثم
بيان ما يعارضه - على فرض تمامية الدلالة على الجواز المطلق - فالكلام في جهتين:
الجهة الأولى
في نقل ما يستدل به لجواز الصلاة في السفينة مطلقا
فمنها: هو ما رواه عن جميل بن دراج أنه قال لأبي عبد الله عليه السلام تكون
السفينة قريبة من الجدد فأخرج وأصلي؟ قال: صل فيها أما ترضى بصلاة
نوح عليه السلام (1).
والمراد من (الجدد) هو السواحل، لأن الجدة هي الساحل، فالمراد من
قرب السفينة بها هو تيسر الوصول إليها بلا تعب إما بالسباحة السهلة، أو غيرها.
والذي قد أوجب السؤال هو أحد أمرين (فرادى أو مثنى) أحدهما: احتمال
دخالة الأرض من حيث هي أرض، والآخر: هو احتمال كون الحركة التبعية
مانعة عن صحة الصلاة للزوم الاستقرار بالأصالة والتبع معا. والمراد من السفينة
المسؤول عنها هي الواقفة منها (2) لا السائرة، بقرينة قوله " قريبة من الجدد
فأخرج " لأن الخروج عنها حال السير بعيد جدا، فالموجب للسؤال هو أحدهما
أو كلاهما، ومن المعلوم: إمكان الاتيان بالصلاة الجامعة للأجزاء والشرائط في
السفينة الواقفة، فلا اطلاق لها بالنسبة إلى ما يفوت معه بعض الأجزاء الواجبة،
وعلى فرض التسليم يكون في غاية الضعف.

(1) الوسائل باب 13 من أبواب القبلة ح 3.
(2) والمراد من الحركة التبعية حينئذ هو السفينة الواقفة أيضا، لأنها قلما تخلو عن
الحركة المسببة عن الرياح والأمواج، فالجالس فيها يتحرك تبعا - أي مجازا.
486

ثم المراد من الذيل ليس هو التجويز مطلقا، لأن نوحا عليه السلام لما أمكن له
الخروج حسب الجري العادي ما لم تستو سفينته على الجودي، فلا يجوز استفادة
الحكم الاختياري منه، مع أنه لا دليل على كون تلك السفينة كانت سائرة، إذ لم
يكن قصده عليه السلام الحركة والانتقال، اللهم إلا برياح عاصفة، فاستفادة التجويز
المطلق منها بعيدة جدا.
والمراد من الأمر، هو مجرد الترخيص لا البعث والترغيب، وسيجئ القول
في إمكان الترغيب بلحاظ ثانوي.
ومنها: ما رواه عن يونس بن يعقوب أنه سأل أبا عبد الله عليه السلام عن الصلاة في
الفرات وما هو أصغر منه من الأنهار في السفينة، فقال: إن صليت فحسن وإن
خرجت فحسن (1) ونحوه ما رواه عن المفضل بن صالح عن أبي عبد الله عليه السلام (2).
والمراد من أخذ تلك الخصوصيات في السؤال إنما هو بيان التمكن من
الأرض بالخروج، والمراد من التسوية بينه وبين الصلاة في السفينة هو ردع توهم
خصوصية للأرض - نشأ احتمالها مما مر - فليس الجواب ناظرا إلى إثبات
الخصوصية للسفينة، بأن يغتفر عن الأجزاء الواجبة في الصلاة الفائتة فيها - كما زعم -
فلا يستفاد لها اختصاص. وعلى تسليم ظهور الجواب يكون في غاية الضعف.
ومنها: ما رواه عن صالح بن الحكم قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الصلاة
في السفينة؟ فقال: إن رجلا سأل أبي عن الصلاة في السفينة، فقال له: أترغب
عن صلاة نوح عليه السلام فقلت له آخذ معي مدرة أسجد عليها؟ فقال: نعم (3).
إن الموجب للسؤال إنما هو أحد الأمرين المارين: من احتمال دخالة
الأرض، ومن احتمال مانعية الحركة بالتبع للجالس في السفينة - كما مر -
وأما الجواب: فلا يستفاد منه أزيد من الجواز طردا لاحتمال خصوصية الأرض

(1) الوسائل باب 13 من أبواب القبلة ح 5 و 11 و 10.
(2) الوسائل باب 13 من أبواب القبلة ح 5 و 11 و 10.
(3) الوسائل باب 13 من أبواب القبلة ح 5 و 11 و 10.
487

ومانعية الحركة بالتبع، من دون أن يكون ناظرا إلى إثبات خصوصية للسفينة
بنحو تصح الصلاة فيها وإن كانت فاقدة لبعض الأجزاء المطلوبة الأولية اختيارا.
وأما التعبير بقوله "... أترغب " وإن كان حثا ودعوة إلى عدم الإعراض،
ولكن لا يستفاد منه أن الصلاة في السفينة بما هي فيها راجحة مطلوبة بل لأمر
آخر، وهو أنه لما ارتكز في الذهن عدم جواز الصلاة في السفينة - لبعض ما تقدم -
وكاد أن يكون بدعة يبتدعها المتحجرون من العوام، صار ردع هذا الابتداع
مطلوبا، ولذا عبر هنا بما يستفاد منه الحث والترغيب - كما ورد في الحث على
المتعة - حيث إن الرجحان هناك لعله لردع ما ابتدعه المبتدع من حرمتها وأنها
والزناء سواء، فلأجل ردع ذلك ورد ما يدل على الترغيب فيها، فالرجحان إنما
هو لردع البدعة أو ما في معرض لها، لا لأصل العمل.
هذا محصل ما له مساس بالجهة الأولى، فتبين: عدم اطلاق هذه الروايات
وما في معناه بحيث يستفاد منها جواز الصلاة في السفينة وإن كانت فاقدة لبعض
الأجزاء والشرائط الواجبة مع القدرة على الأرض، وعلى التسليم يكون في غاية
الضعف، فيعالج بما في الجهة التالية.
الجهة الثانية
في نقل ما يدل على عدم جواز الصلاة في السفينة مع القدرة على الأرض
فمنها: ما رواه عن علي بن إبراهيم قال سألته عن الصلاة في السفينة؟ قال:
يصلي وهو جالس إذا لم يمكنه القيام في السفينة، ولا يصلي في السفينة وهو يقدر
على الشط، وقال: يصلي في السفينة يحول وجهه إلى القبلة ثم يصلي كيف
ما دارت (1).

(1) الوسائل باب 13 من أبواب القبلة ح 8.
488

حيث ظاهرها المنع عن الصلاة في السفينة عند القدرة على الشط - كالمنع
عن الجلوس عند مكنة القيام - فيعارض ما دل على جواز الصلاة فيها مع القدرة
على الخروج وأنه - أي الخروج عنها - والبقاء فيها سيان، ويكون التعارض
بالتباين، لأن مفاد تلك الطائفة هو الجواز عند القدرة على الأرض، ومفاد هذه
هو المنع عندها. وليس لسان دليل الجواز مطلقا حتى يكون الاختلاف بالاطلاق
والتقييد، بل يكون الاطلاق والتقييد بلحاظ آخر، وهو أن مفاد تلك الطائفة المجوزة
هو إطلاق الجواز في صورتي انحفاظ جميع الأجزاء والشرايط وعدمه، ومفاد هذه
- حسب السياق - هو عدم إمكان انحفاظها بأسرها، لاحتفاف هذه الفقرة - المانعة
عند القدرة على الشط - بما يدل على أن الجلوس إنما هو عند عدم إمكان القيام
في السفينة وبما يدل على لزوم تحويل الوجه شطر القبلة وتحفظها مهما أمكن،
فذاك السابق وهذا اللاحق شاهدان على اختصاص المورد بما لا يمكن حفظ جميع
ما يعتبر في الصلاة، ففي هذه الحالة قد فصلت الفقرة الثانية بين القدرة على الشط
وعدمها، فحينئذ يلزم تقييد اطلاق تلك الطائفة بهذه المفصلة.
واحتمال التصرف في هيئة هذه الطائفة المفصلة - بالحمل على الندب -
متوقف على كون ظهور تلك الطائفة في الاطلاق الشامل لصورتي انحفاظ الأجزاء
وعدمه أقوى من ظهور هذه المفصلة في المنع، وقد مر النقاش في أصل الاطلاق
فضلا عن قوة ظهوره، فيتعين التصرف في مادة تلك الطائفة، لا في هيئة هذه المفصلة.
ومنها: ما رواه عن حماد بن عيسى قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يسئل عن
الصلاة في السفينة، فيقول: إن استطعتم أن تخرجوا إلى الجدد فأخرجوا، فإن
لم تقدروا فصلوا قياما، فإن لم تستطيعوا فصلوا قعودا، وتحروا القبلة (1).
والكلام فيها - من حيث التفصيل بين القدرة على الخروج والعجز عنه،

(1) الوسائل باب 13 من أبواب القبلة ح 14.
489

ومن حيث احتفافه بما يشهد على عدم امكان تحفظ جميع الأجزاء والشرائط، ومن
حيث لزوم الجمع بالتصرف في إطلاق تلك الطائفة لا هيئة هذه المفصلة - هو ما مر.
والمراد من (التحري) هو اتباع الظن - على ما حققناه في القبلة -.
فتحصل: أن جواز الصلاة في السفينة إنما هو فيما يمكن تحفظ جميع ما
يعتبر فيها من الأجزاء والشرائط، فلا خصيصة لها بحيث تجوز الصلاة فيها وإن
كانت فاقدة لبعض ما يعتبر فيها اختيارا.
هذا محصل القول في (المقام الأول) الباحث عن الصلاة في السفينة اختيارا.
وأما المقام الثاني
الباحث عن الصلاة في السفينة اضطرارا
فمغزى القول فيه: هو أن الاضطرار، قد يكون إلى ترك شئ معين
من الأجزاء والشرائط، بحيث لا يجديه ترك ما عداه من الأمور الباقية، وقد يكون
إلى ترك أحد الشيئين أو الأشياء لا بعينها.
فعلى الأول: لا محيد عن ترك مصب الضرورة، إذ به يندفع الاضطرار
لا بغيره، فلا يجوز ترك غيره.
مثلا: لو اضطر إلى ترك الطمأنينة في السفينة لضيق الوقت مع اضطرابها
- بحيث لا يجديه الجلوس وترك القيام - فحينئذ يتعين حفظ القيام وترك القرار
والطمأنينة فقط، إذ لا اضطرار إلا إلى تركه فقط دون القيام، نعم: لو كان ترك
القيام وتبديله بالجلوس موجبا لاستقرار البدن لا ندرج في القسم ألقاني.
والحاصل: أن الاضطرار إذا كان معلوم المتعلق، فلا بد من الاقتصار بتركه فقط.
وأما على الثاني: فإن كان أحد الشيئين المضطر إليهما لا على التعيين أهم من
الآخر، فلا بد من حفظه بترك ذاك المهم، لاندفاع الضرورة به مع تحفظ المصلحة
الزائدة في الأهم. وأما إذا لم يكن كذلك في مقام الاحراز، بل كان مجرد الاحتمال،
490

فيندرج تحت الدوران بين التعيين والتخيير، وقد اخترنا هناك التخيير، لأن
التعيين مؤنة زائدة منفية بالأصل، وكذا على ظن الأهمية. هذا بلحاظ الثبوت.
وأما الاثبات: فالدليل على لزوم الاستقرار ليس إلا الاجماع، لامكان النقاش
فيما عداه من الأدلة اللفظية - كما سيأتي في موطنه - وهو على تماميته لا يثبت
أزيد من اعتباره في نفسه وبالطبع الأول، من دون النظر إلى مقدار أهميته ولزوم
تقديمه على غيره من الأجزاء والشرائط عند التعارض في الاضطرار، كغيره من
الأدلة اللفظية الكافلة لها.
فلو دار الأمر بين ترك الطمأنينة وبين ترك الولاء المعتبر في الصلاة - بالفصل
الطويل الماحي لصورتها - يشكل الحكم بتقديم أحدهما على الآخر، لعدم إحراز
الأهمية، لأن دليل لزوم الموالاة وعدم محو صورة الصلاة - على تماميته في موطنه -
لا يثبت أزيد من اعتبارها في نفسها، لأنها أيضا كغيرها من الأجزاء والشرائط
متلقاة من الشرع، ولذا يحكم بعدم اعتبارها في الغسل مع استقرار دأب المتشرعين
على حفظها.
والغرض: هو الإشارة إلى عدم احراز أهميتها، مع ما في النصوص من
تجويز إرضاع الطفل حال الصلاة وكذا قتل العقرب ونحو ذلك من الأفعال في
أثنائها، فلهذه الجهة أشكل (في المتن) ولم يحكم بتقديمها على الاستقرار
ولا بالعكس. فإذا لم يحرز الرجحان فالمرجع هو التخيير عقلا وشرعا، لأنه
الضابط السيال في أمثال المقام: مما يدور فيه الأمر بين شيئين لا رجحان لأحدهما
على الآخر. ولكن الذي يقوى في النظر عاجلا هو لزوم تحفظ الولاء وعدم محو
الصلاة بترك الاستقرار الذي دليله لبي يشكل شموله لمثل الفرض.
491

يجوز في حال الاختيار الصلاة في السفينة أو على الدابة
الواقفتين، مع امكان مراعاة جميع الشروط: من الاستقرار
والاستقبال ونحوهما، بل الأقوى جوازها مع كونهما سائرتين
إذا أمكن مراعاة الشروط، ولو بأن يسكت حين الاضطراب
عن القراءة والذكر مع الشرط المتقدم ويدور إلى القبلة إذا
انحرفتا عنها، ولا تضر الحركة التبعية بتحركهما، وإن كان
الأحوط القصر على حال الضيق والاضطرار.
إن مدار الكلام في فرعي الوقوف والسير على انحفاظ جميع ما يعتبر في
الصلاة من الأجزاء والشرائط، فالبحث فيهما عن كون السفينة وكذا الدابة ذات
خصوصية لا تجوز فيها الصلاة الجامعة بجميع ما يعتبر فيها أم لا؟ وعن كون الحركة
التبعية الموجبة لتبدل المكان بهذا المعنى من دون حركة للمصلي ضارة أم لا؟
فتمام القول في مقامين:
المقام الأول
في الصلاة في السفينة أو الدابة الواقفتين
قد يقال: بعدم جوازها فيهما حال وقوفهما أيضا، وفي " الحدائق " أنه
المشهور وفي " الشرايع " أنه أشبه.
ويستدل له بوجوه: أحدها: كونه معرضا للزوال لاحتمال تحركهما
الموجب لفوات القرار والطمأنينة.
492

وفيه: أنه مع القطع أو الاطمئنان بالعدم لا مجال للمعرضية، وفيما عداهما
يقع الكلام والبحث عنه في المسألة الآتية (الكافلة للشرط الثالث) فإطلاق المنع
غير سديد.
وثانيها: قوله تعالى: "... حافظوا على الصلوات... الخ " بناء على
دلالتها على لزوم حفظها عن طرو المفسدات، ولكن لا بد من توجيهها بنحو لا يرجع
إلى حكم إرشادي محض، نحو قوله تعالى: " أطيعوا الله... الخ " إذ لا يستفاد
منها حينئذ حكم تكليفي وراء ما استفيد من أدلة الأجزاء والشرائط الدالة على
لزوم تحصيلها صحيحة في الصلاة، فتمامية الاستدلال متوقفة على دلالتها على
حكم تكليفي مستقل، وهو كما ترى قاصرة عنه!
ثالثها: قوله صلى الله عليه وآله: جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا (وترابها طهورا).
ودلالته مبتنية على ظهورها في إثبات الخصوصية للأرض، نظير غيره من
الموارد التي يكون لعنوان الأرضية دخالة، فحينئذ يلزم الحكم بكون جواز
الصلاة في (الرف المعلق بين النخلتين) وعلى (السرير) خارجا بالدليل، فما عدا ذلك
- من السفينة والدابة ونحوهما - داخل تحت عموم المنع أو إطلاقه.
ولكنه ليس كذلك، إذ المستفاد من السياق أنه صلى الله عليه وآله بصدد عد ما من الله
تعالى عليه، ومنه توسعة المعبدية له صلى الله عليه وآله دون غيره من الأنبياء الماضين، إذ لهم
معبد خاص لا بد من إيقاع العبادة فيه دون ما عداه من الأماكن، فالرواية بصدد
بيان توسعة المعبد، لا خصيصة الأرض.
بل يحتمل كونها بصدد توسعته وعدم تقيده بموضع خاص أصلا، وإنما
ذكر الأرض لكونه الفرد الغالب. فعلى الاحتمال الأول: يكون جواز الصلاة في
غير الأرض بالأصل، وعلى الثاني: بالنص، إذ على (الأول) تكون الدلالة مقصورة
على توسعة المعبد في أي موضع من مواضع الأرض، فلا نظر لها إلى ما عداها نفيا
493

ولا إثباتا، وعلى (الثاني) تكون متوجهة إلى عدم اعتبار موضع خاص من الأرض
وغيرها، وإنما ذكر الأرض لغلبتها، فعليه تدل على جواز الصلاة في غيرها - من
السرير والرف والدابة ونحوها - باللفظ.
ويحتمل أيضا كونها بصدد توسعته في جميع نقاط الأرض مع إرادة ما يقابل
السماء منه، فهي تدل على أن جميع ما يكون معتمدا على الأرض فهو مما تجوز
الصلاة فيه وعليه، لكونه من الأرض المقابلة للسماء، وكيف كان: لا مجال
للاستدلال بها على المنع، والحال هذه!
ورابعها: إطلاق دليل المنع عن إتيان شئ من الفرائض راكبا - كما مر -
وتماميته متوقفة على كون المنع تعبدا قراحا، غير منصرف إلى صورة فقد شئ
من الأجزاء والشرائط، وهو بعيد جدا - كما تنبه له بعض من تعرض له - أضف
إلى ذلك: ورود دليل الترخيص في السفينة، كما مر.
المقام الثاني
في الصلاة في السفينة أو الدابة السائرتين
إن احتمال المنع هنا وراء ما مر في المقام الأول إنما هو للزوم الطمأنينة
العالية التي يزاحمها الحركة التبعية، وإن لم تكن مزاحمة لأصل الطمأنينة، ولكن
الظاهر إمكان طرده بالأصل السالم عن المعارض، لفقد الدليل على اعتبار الطمأنينة
الكذائية. نعم: لا بد من التنبه بأن دوران المصلي إلى القبلة عند انحرافهما
عنها يتصور على وجهين: أحدهما: بأن يكون الدور والانحراف طفيفا تدريجيا
جدا، بحيث يدور متدرجا حيثما دارتا، بلا استلزام الانحراف عن القبلة آنا ما.
والآخر: بأن يكون دورانه منفكا عن انحرافهما ولو آنا ما، بأن انحرفتا بغتة،
فبادر المصلي إلى الاستقبال بعد أن صار منحرفا، ولو في آن
494

والظاهر: لزوم التفصيل بين الوجهين، بالجواز في الأول، دون الثاني، إذ
لا يجوز تخلل الانحراف - ولو آنا ما - في حال الاختيار، بناء على لزوم تحفظ
الاستقبال في جميع الحالات حتى المتخللة بين الأجزاء الواجبة، إذ حينئذ لا تكون
الصلاة الكذائية جامعة لجميع ما يعتبر فيها حال الاختيار.
وليس مفاد (المتن) هو الجواز المطلق، بل هو تعرض للقسم الجائز من ذلك
وإن كان عسرا نادرا، لأن المراقبة الشديدة على الانحراف عسرة جدا، إذ الطريق
ليس مستقيما دائما لاعوجاجه في أكثر مواضعه، وكذا الدابة أو السفينة ليستا
بنحو لا تنحرفان عن القبلة. ولعله لذا ورد ما يدل على المنع على الدابة مطلقا،
أو (حال الركوب) المشتمل لغيرها أيضا.
مسألة 25 - لا تجوز الصلاة على صبرة الحنطة وبيدر التبن
وكومة الرمل مع عدم الاستقرار، وكذا ما كان مثلها.
لا ريب في صحة الصلاة الجامعة لجميع ما يعتبر فيها حتى الطمأنينة، من
دون الميز بين كونها على الصبرة أو على الأرض. وسر المنع في (الأولى) هو عدم
استقرار البدن لأجل تراكم سطوحها بالضغط ونحوه، فعليه لو أتى بجزء منها
والحال هذه لبطل ذاك الجزء، لاتيانه متزلزلا مع لزوم القرار والطمأنينة في جميع
الأجزاء. نعم: لو قام عليها وتربص إلى حصول الطمأنينة ثم كبر وقرأ، لصح ذلك
بلا شك، وهكذا في السجدة. فكلام " الماتن " محمول على الاتيان بالجزء في
حال الاضطراب وفقد القرار.
وهكذا ما ورد فيه من النص جواز ومنعا (1) حيث إن الجمع بينهما يقتضي
حمل المجوز على ما يتحفظ فيه جميع الأجزاء والشرائط حتى القرار، وحمل المانع
على خلافه، فراجع.

(1) راجع الوسائل باب 39 من أبواب مكان المصلي ح 1 و 2.
495

الثالث: أن لا يكون معرضا لعدم امكان الاتمام والتزلزل
في البقاء إلى آخر الصلاة - كالصلاة في الزحام المعرض لابطال
صلاته وكذا في معرض الريح أو المطر الشديد أو نحوها -
فمع عدم الاطمئنان بامكان الاتمام لا يجوز الشروع فيها على
الأحوط، نعم: لا يضر مجرد احتمال عروض المبطل.
إن المدار الوحيد هنا، هو تصوير تمشي قصد العمل بجميع ما يعتبر فيه
جزءا أو شرطا مع عدم الاطمئنان بامكان الاتمام، فيلزم البحث:
عن الميز بين موارد طرو البطلان، من حيث كونه تحت قدرة المصلي وعدمه.
وعن فعلية الإرادة على تقدير - في الإرادة المشروطة - وعدمها.
وعن لزوم إتيان جميع أجزاء الصلاة عن إرادة مطلقة فعلية، وعدمه - بالاكتفاء
بالإرادة الفعلية على تقدير وإن لم تكن فعلية مطلقة -.
وعن الميز بين الجزم بمتن العمل وبين الجزم بالإطاعة، حيث إنه يمكن
الأول مع عدم الثاني، بأن كانت الإطاعة محتملة لا مجزومة.
وعن نية القطع أو القاطع في أثناء العمل.
وعن غير ذلك مما سيتضح لك في ثنايا المقال، فارتقب.
قد احتاط " الماتن ره " هنا بعد الجزم بالبطلان فيما يضاهيه، حيث قال في
التقليد (مسألة 16): " عمل الجاهل المقصر الملتفت باطل وإن كان مطابقا للواقع "
انتهى.
ولا ريب في أن الحكم في أمثال المقام عقلي منطبق على الضوابط الأولية،
496

من دون أن يرد فيها نص خاص حتى يفرق بين الموارد المضاهية بوروده في بعضها دون
بعض، فحينئذ إن فرق بينها بأثر فلا بد من الغور التام فيما يستند إليه التفريق.
والذي يخطر بالبال في تصحيح التفرقة - حيث حكم بالبطلان هناك بتا
وهنا احتياطا - هو أن تعلم المسائل مقدور له معدود من أفعاله، فمن أراد الصلاة
الجامعة بجميع ما يعتبر فيها جزءا أو شرطا واقعا مع الجهل بذلك وعدم العلم
بما يجب فيها وما يحرم كذلك، كيف يتمشى منه الجزم بها والقصد إليها؟ وهذا
بخلاف الزحام والريح والمطر وأشباهها مما تكون خارجة عن اختياره، اللهم
إلا بالواسطة، حيث إنه يقدر على الالتجاء بمأمن عن هذه السوانح، فيكون
التحرز عنها مقدورا له بالواسطة. نعم: ما لا يقدر عليه - ولو كذلك - فلا ضير
في احتمال طروه، كالموت والحيض ونحو ذلك، فلذا يجوز للمرأة الأخذ في
الصلاة مع احتمال طريان الحيض ونحوه مما يبطلها. فلعله لما لم يكن المقام
كالتعلم مقدورا بلا واسطة ومعدودا من أفعال المصلي ولم يكن أيضا كالحيض الخارج
عن القدرة رأسا، لم يحكم فيه بالبطلان جزما، بل احتاط فيه، كما أشير إليه.
وليعلم: أن الإرادة فيما يكون مطلوبا على تقدير خاص ومحبوبا على
شرط مخصوص وإن لم تكن فعلية الآن بنحو الاطلاق، ولكن ليست أيضا تقديرية
محضة، بحيث لم يكن في النفس قبل حصول ذاك التقدير إرادة ومحبة أصلا،
بل الحق في الإرادات الكذائية أنها حاصلة الآن على فرض وتقدير. ومنه ينقدح
ما في الاشكال المشهور: من أن وجوب المقدمة إنما يترشح من وجوب ذيها،
فلو لم يكن وجوب ذيها الآن فعليا لما أمكن وجوب مقدمته الآن، ولو كان
بحيث لم يمكن إتيانها بعد فعلية وجوب ذيها للزم السقوط رأسا.
بل الوجدان يشهد بفعلية إرادة المولى مثلا بإكرام ضيفه لا مطلقا، بل على
تقدير مجيئه، فمن فعليتها الكذائية تترشح الإرادة إلى تمهيد مقدماته التي
497

تفوت بعد المجئ - كما هو المفروض المبحوث عنه في لزوم الغسل في شهر رمضان
ليلا، وغير ذلك من الأبواب الفقهية، عدا ما يستوفي من ذلك في الأصول - وقد
اخترنا هناك من فعلية الإرادة في الواجب المشروط، ولكن لا مطلقا، بل على
تقدير خاص.
فإذا تمهدت لك، فنقول: لو قصد المصلي إبطال صلاته على تقدير مجئ
زيد مثلا، فإما أن يقطع بمجيئه، أو يقطع بعدمه، أو يشك، فعلى الأول: يحكم
ببطلان صلاته الآن، إذا الجزم باتيان الصلاة لا يجامعه الجزم بالابطال، إذ المفروض
هو القطع بحصول ذاك التقدير. وعلى الثاني: يحكم بصحتها، لعدم انثلام الجزم
بالاتمام أصلا، إذ المفروض هو القطع بعدم حصول ذاك التقدير. وعلى الثالث:
فالجزم بالاتمام وإن لم يكن حاصلا الآن على جميع التقادير، ولكنه حاصل على
تقدير خاص، وهو عدم المجئ - كما أن قصد الابطال أيضا كذلك - فلو اعتبر
في الصلاة الجزم بأعمالها حدوثا وبقاء بنحو الاطلاق، لما أمكن الجمع بينه وبين
القصد بالابطال على تقدير. وإن اكتفى فيها بالجزم الأعم من المطلق والمشروط
- بعد ما صورناه من فعلية الجزم في المشروط ولكن على تقدير خاص - فلا ضير.
وتفصيل الكلام - من حيث اختصاص البطلان بما إذا أتم العمل وأتى
ببعض أجزاءه بعنوان الجزئية مع قصد الابطال، دون ما إذا ندم وبدأ له فعاد
إلى الجزم بالاتمام وحده من دون أن يأتي بشئ من أفعالها في هذه الحالة
المتخللة - موكول إلى باب النية.
الرابع: أن لا يكون مما يحرم البقاء فيه، كما بين الصفين
من القتال، أو تحت السقف أو الحائط المنهدم، أو في المسبعة،
أو نحو ذلك مما هو محل للخطر على النفس.
498

لا ريب في أن الانتحار وقتل النفس حرام شرعا، وأما حفظها عن الخطر
فليس بواجب شرعي، نعم: هو مما يلزمه، وأين هو من الحرام الشرعي؟ ولذا
لا يعاقب من لم يحفظ نفسه عنه إلى أن انتهى الأمر إلى الهلاك مر تين: إحديهما
لترك الواجب، والأخرى لفعل الحرام، فالمقدمات المنتهية إلى الانتحار وقتل
النفس ليست محرمة شرعا، فعليه لا يكون البقاء فيما هو محل خطر للنفس
حراما شرعيا، بحيث يعاقب عليه وإن لم ينته إليه، إذ الحكم في نحوه إنما هو
احتياطي لا واقعي، بل كان الغرض منه هو حفظ الواقع وعدم فواته، فمن وقف
على موضع يعتقد الخطر فيه لا يكون إلا متجريا، وأما العصيان فلا، والحكم
الشرعي في مثله إرشاد إلى ما حكم به العقل لادراك الواقع، لا لمصلحة فيه نفسه
تفوت بالترك حتى يعاقب عليه، كغيره من موارد الاحتياطات المجعولة لصيانة
الواقع عن الفوات، وإنما العصيان في ذلك بلحاظ أصل الانتحار والقتل، لا ترك
التحفظ. نعم. يلزم الاجتناب في السفر، لكونه منصوصا يقتصر عليه.
ثم إنه على تقدير الحرمة لامساس له بالكون الصلاتي، إذا المحرم فيه
- على التسليم - ليس إلا البقاء. من دون دخالة للحالات الخاصة من القيام
والقعود ونحو ذلك أصلا.
فللمنع عن هذا الأمر (صغرى وكبرى) مجال واسع، منع أنه لا خصيصة
لذلك بالمكان حتى يعد من شرائطه، فتبصر!
الخامس: أن لا يكون مما يحرم الوقوف والقيام والقعود
عليه، كما إذا كتب عليه القرآن، وكذا على قبر المعصوم
عليه السلام أو غيره ممن يكون الوقوف عليه هتكا لحرمته.
499

قد اتضح سالفا: أن الكون على الأرض والقيام والقعود والاعتماد عليها
ليس من أحكام الصلاة شرعا، وإن كان من لوازم المصلي - بما هو جسم لا بما هو
مصلي - عدا السجدة بلحاظ اعتبار وضع الجبهة فيها على ما يصح السجود عليه
من الأرض أو ما أنبتته في الجملة.
فعليه: لو أمكن لأحد أن يستقر في الهواء ويطمئن وصلى هناك - جامعة
لجميع الأجزاء والشرائط - لصحت صلاته، لعدم اعتبار القرار والكون على
الأرض، فحينئذ إذا صار الكون والوقوف على موضع خاص حراما لا يصير به
الكون الصلاتي حراما، إذ ليس الكون على الأرض كونا صلاتيا حتى إذا صار
حراما يلزم أن يصير الكون الصلاتي كذلك.
ولا ريب في صحة الصغرى: من صدق الهتك في بعض موارد الوقوف، كالوقوف
على القرآن، أو على قبر المعصوم عليه السلام بل وعلى قبر من امتثل أو أمره واستنار من
مشكاة ولايته: من الأبرار الصالحين، والعلماء الصائنين لأنفسهم عن الهوى المردي
والشيطان المغوي، ونحوهم.
ولا إشكال أيضا في تمامية الكبرى: من حرمة الهتك في أمثال الموارد. وإنما
الكلام في الحكم الوضعي: من بطلان الصلاة، مع ما حقق من عدم الاتحاد، وإن كان
للنظر مجال بعد الاتحاد - كما مر في المغصوب - فحينئذ لو صلى وهو على القبر ولكن
كان موضع السجدة خارجا منه لصح، وكذا لو سجد على القبر وهو واقف في
خارجه، ولا منع لوضع الجبهة من حيث الهتك، إذ لا هتك في وضعها البتة.
وهكذا لو وقف عليه وسجد على موضع آخر منه أيضا، لأن القيام والقعود الواجبين
في الصلاة ليسا إلا مجرد هيئتين خاصتين، سواء كانتا على الأرض أو غيرها، من دون
اعتبار كون الاعتماد على الأرض، فلا أساس لعده من شرائط مكان المصلي.
500

السادس: أن يكون مما يمكن أداء الأفعال فيه بحسب حال
المصلي، فلا تجوز الصلاة في بيت سقفه نازل بحيث لا يقدر فيه
على الانتصاب، أو بيت يكون ضيقا لا يمكن فيه الركوع
والسجود على الوجه المعتبر. نعم: في الضيق والاضطرار يجوز
ويجب مراعاتها بقدر الامكان، ولو دار الأمر بين مكانين في
أحدهما قادر على القيام لكن لا يقدر على الركوع والسجود
إلا مؤميا وفي الآخر لا يقدر عليه ويقدر عليهما جالسا، فالأحوط
الجمع بتكرار الصلاة. وفي الضيق لا يبعد التخيير.
إن من الواضح: لزوم حفظ جميع الأجزاء والشرائط المعتبرة في الصلاة حال
السعة والاختيار، وإلا فتبطل بلا كلام - كما في محله - فلا يصح عد ذلك من
شرائط المكان.
وأما في الضيق والاضطرار: فقد مر البحث عن لزوم تقديم ما هو مصب
الاضطرار لو كان معينا، فيتركه لا غير، فلو اضطر إلى ترك القيام وحده - لكون
السقف نازلا بالقياس إلى قامة المصلي وإن لم يكن كذلك بالقياس إلى قامة غيره -
يتعين ترك القيام فقط، لا غيره وحده ولا منضما إلى تركه - أي القيام - وهكذا
لو اضطر إلى ترك الركوع والسجود - لكونه في البئر الضيق أو ما يضاهيه مما لا يقدر
فيه على الانحناء والانخفاض - لتعين تركهما فقط لا غيرهما، كالقيام وحده أو
منضما إلى تركهما، إذ لا اضطرار إليه فلا جدوى في تركه.
501

وأما لو اضطر إلى ترك أحد الجزئين - كالركوع والسجود أو كالسجود وغيره -
فإن كان أحدهما أهم في نظر الشرع من الآخر حسب الشواهد الخارجية لتعين
ترك غيره. إذ لا اضطرار بالقياس إلى ما للأهم من المصلحة الزائدة، فلا يجوز
تركه، وإن كان كل واحد منهما مساويا لشقيقه بلا رجحان، فيتخير في ترك
أيهما شاء. فلا وجوب للجمع بينهما إلا على أحد التقديرين: أحدهما - فيما
علم إجمالا بكون أحدهما أهم من الآخر، ولا يعلم أنه أي منهما على التعيين.
والآخر - فيما لو كان المورد مما يكون الجمع بينهما محصلا للمطلوب الأولي،
بحيث يصير المجموع عملا واحدا تاما.
وهذا كما ترى صرف احتمال لا ينبغي انقداحه في باب الصلاة ونحوها،
وحاشا " الماتن ره " من ابتنائه عليه! فلا يبقى إلا التقدير الأول، فمع عدم العلم
الاجمالي يكون الاضطرار كالضيق موردا للتخيير، فما في (المتن) من الميز بينهما
لزوما غير سديد.
إلى هنا - تم الجزء الثاني من " كتاب الصلاة " تقرير أبحاث
آية الله العظمى الحاج السيد محمد المحقق الداماد (قدس سره)
تأليف عبد الله الجوادي الطبري الآملي
ويتلوه الجزء الثالث مبتدأ بالشرط السابع من شرائط مكان المصلي
وهو أن لا يكون مقدما على قبر معصوم
والحمد لله أولا وآخرا
وصلى الله على خاتم النبيين محمد وآله الطيبين الطاهرين
ولعنة الله على أعدائهم أجمعين
502