الكتاب: المكاسب المحرمة
المؤلف: السيد الخميني
الجزء: ٢
الوفاة: ١٤١٠
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق:
الطبعة: الثالثة
سنة الطبع: ١٤١٠ - ١٣٦٨ ش
المطبعة:
الناشر: مؤسسة إسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع - قم - إيران
ردمك:
ملاحظات: مع تذييلات لمجتبى الطهراني محرم الحرام - ١٣٨١

المجلد الثاني
المكاسب المحرمة
تأليف
العلامة الأكبر والأستاذ الأعظم آية الله العظمى
مولانا الإمام الحاج آقا روح الله الموسوي الخميني
قدس سره
مع تذييلات لمجتبى الطهراني
محرم الحرام - 1381
مؤسسة اسماعيليان
للطباعة والنشر والتوزيع
قم - إيران - تلفون 25212
1

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة الله
على أعدائهم أجمعين.
وبعد فهذا هو المجلد الثاني من مهمات مسائل المكاسب المحرمة وما يتعلق
بها، ويستطرد لها مما هي أصعب طريقا، وأحوج إلى التحرير والتحقيق، وأكثر
ابتلاء من سائر مسائلها
المسألة الرابعة
في القمار
القمار حرام اجماعا، وكتابا وسنة، إذا كان اللعب بالآلات المعدة لذلك مع
رهان، وهو المتيقن من عنوان القمار والميسر، في الكتاب والسنة ومعقد الاجماع;
ولا فرق بين أنواعه من النرد والشطرنج وغيرهما; حتى اللعب بالجوز والبيض،
للصدق على اللعب بهما عرفا، ولو للتعارف بالمقامرة معهما. ولو شك في الصدق
فلا شبهة في الحاقه به نصا وفتوى.
2

إنما الاشكال والكلام في صدق العنوانين على اللعب بالآلات بلا رهان، وعلى
اللعب بغيرها برهان أو غيره، ولا ينبغي الريب في عدم صدقهما على الأخير، وإن يظهر
من بعضهم اطلاقهما على مطلق المغالبة، لكنه خلاف المتبادر والمرتكز في الأذهان
من القمار، وخلاف كلمات اللغويين فيه، وفي الميسر الذي هو أخص منه واو مساوق
له، على ما يأتي الإشارة إليه.
والظاهر عدم صدقهما على ما قبله أيضا، لأن القمار عرفا ليس مطلق المغالبة
برهان، فلا يقال لمن جعل الرهان بإزاء الغلبة في حسن الخط; أو تجويد قراءة
القرآن، أو سرعة العدو أو الرمي ونحوها، أنه مقامر، ولا لفعلها أنه قمار، والعرف
أصدق شاهد عليه، ويؤيد ما ذكرناه بل يشهد عليه ما ورد من جواز السبق والرماية
مع شرط الجعل عليه (1) مع إباء قوله تعالى: إنما الخمر والميسر، والأنصاب والأزلام
رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه (2) عن التخصيص وسيأتي أن الميسر هو مطلق القمار.
وأما عدم صدق الميسر فكذلك بناء على أنه القمار، وأوضح منه بناء على
التفسير الآتي، ولا يبعد عدم صدقهما على اللعب بالآلات بلا رهان، كما تشهد به
كلمات كثير من اللغويين، كصاحب القاموس، والمجمع، والمنجد، ومنتهى الإرب،
ومحكي لسان العرب، فإنها طفحت بقيد الرهان.
ففي القاموس قامره مقامرة وقمارا فقمره، راهنه فغلبه، وفي المنجد قمر
يقمر قمرا: راهن ولعب في القمار، ثم قال قامره مقامرة وقمارا راهنه ولاعبه
في القمار إلى أن قال: تقامر القوم تراهنوا ولعبوا في القمار إلى أن قال: القمار مصدر كل
لعب يشترط فيه أن يأخذ الغالب من المغلوب شيئا، سواء كان بالورق أو غيره،
وفي المجمع: القمار بالكسر: المقامرة وتقامروا العبوا بالقمار واللعب بالآلات المعدة له
على اختلاف أنواعها، نحو الشطرنج والنرد وغير ذلك، وأصل القمار الرهن على
اللعب بالشئ من هذه الأشياء، وربما أطلق على اللعب بالخاتم والجوز، ويظهر

(1) الوسائل - كتاب السبق والرماية - الباب 3.
(2) سورة المائدة - الآية 92.
3

ذلك أيضا من المقنع (1) الذي هو متون الأخبار بشهادة الصدوق.
نعم يظهر من بعض اطلاقه على مطلق المغالبة، وهو غير ثابت على فرض
ثبوته أعم من الحقيقة، وإن كان حقيقة فهو مخالف للعرف العام، وهو مقدم على غيره
(تأمل) وأما عبارة الصحاح فلم يظهر منها المخالفة لما قلناه، وكان ما حكى عن ابن دريد
مجملة، ويظهر منه أن يطلق على المغالبة في الفخر وهو على فرض صحته يأتي فيه ما تقدم آنفا
فالانصاف أن اثبات صدقه على ما ذكر مشكل، ولا أقل من الشك فيه، فلا يمكن
اثبات حرمة الثلاثة بالمطلقات على فرض وجود الاطلاق.
وكذا بما دلت على حرمة الميسر كالآية الكريمة وغيرها، فإنه على ما يظهر من
اللغويين بل من بعض الأخبار، أما عبارة عن الجزور التي كانوا يتقامرون عليها، أو عبارة عن
اللعب بالقداح وهو لعب العرب، وعلى هذا التفسير أخص من القمار، سواء فسر
باللعب بالآلات مطلقا، أو مع الرهان أم فسر بالمغالبة مطلقا، لأن اللعب
لا يكون إلا بالرهان، ولا يبعد أن يكون كذلك على التفسير الأول لقوة احتمال
أن يكون كناية عن التفسير الثاني.
وكيف كان لا تكون الصور الثلاث منطبقة عليه ولو مع إلغاء الخصوصية عن
لعب العرب بالأزلام، لأن غاية ما يمكن دعوى الغائها هو حيث الآلات لا حيث الرهان
بل الأقرب أن الميسر مطلق القمار كما فسر به في بعض كتب اللغة كالمجمع والمنجد
وبعض كتب الأدب، وكذا بعض التفاسير كمجمع البيان، وحكى عن ابن العباس
وابن مسعود ومجاهد وقتادة والحسن (2) ويؤيده مقابلته للأزلام التي قمار العرب
وتشهد له الروايات.
كرواية جابر (3) عن أبي جعفر عليه السلام قال: لما أنزل الله على رسوله إنما الخمر

(1) باب الملاهي.
(2) راجع مجمع البيان - في تفسير قوله تعالى (يسألونك عن الخمر والميسر الخ)
سورة البقرة - الآية 218.
(3) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 35 - من أبواب ما يكتسب به - ضعيفة بعمرو بن شمر
4

والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه قيل: يا رسول الله ما
الميسر، قال: كل ما تقومر به حتى الكعاب والجوز ".
وعن تفسير العياشي (1) عن الرضا عليه السلام " قال سمعته يقول الميسر هو القمار "
وعنه عليه السلام (2) " أن الشطرنج والنرد وأربعة عشر وكل ما قومر عليه منها فهو ميسر "
وهو المناسب لمادة اليسر، ففي مجمع البيان (3) أصله من اليسر خلاف العسر،
وفي مجمع البحرين المسير القمار، وقيل: كل شئ يكون منه قمار فهو الميسر حتى
لعب الصبيان بالجوز الذي يتقامرون به، وقال: ويقال سمي ميسرا لتيسر أخذ مال
الغير فيه من غير تعب ومشقة.
فتحصل مما ذكر عدم استفادة حكم الصور الثلاث من الروايات وغيرها الواردة
في حرمة القمار، والميسر، إلا أن يقال: إن حكم اللعب بالآلات بلا رهان يستفاد من
قوله تعالى إنما الخمر والميسر (الخ) بناءا على أن المراد بالميسر فيها هو آلات
القمار لا القمار، بقرينة كون المراد بالثلاثة الأخر المذكورة الذوات، وبقرينة
حمل الرجس عليها، وهو يناسب الذوات لا الأفعال إلا بتأول سواء أريد به النجس
المعهود كما ادعى الاجماع عليه شيح الطائفة في محكي التهذيب في مورد الآية
وهو واضح، أم أريد الخبيث فإنه أيضا يناسب الذوات: وحمله على اللعب والشرب
لا يخلو من ركاكة.
وتشهد له جملة من الروايات كرواية جابر المتقدمة، ورواية محمد بن عيسى
(4) قال: كتب إليه إبراهيم بن عنبسة يعني إلى علي بن محمد عليه السلام " إن رأى سيدي

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 35 - من أبواب ما يكتسب به - هما مرسلتان.
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 35 - من أبواب ما يكتسب به - هما مرسلتان.
(3) في تفسير قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر الخ) سورة
المائدة - الآية 90.
(4) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 104 - من أبواب ما يكتسب به - مرسلة.
5

ومولاي أن يخبرني عن قول الله عز وجل يسألونك عن الخمر والميسر الآية جعلت
فداك، فكتب كل ما قومر به فهو الميسر ".
وفي عدة روايات عد النرد والشطرنج من الميسر (1) والحمل على اللعب
بها خلاف الظاهر فحمل الرجس وعمل الشيطان في الآية المتقدمة على المذكورات باعتبار
ذاتها، إذ كما يصح أن يقال: إن الخمر رجس خبيث يصح أن يقال: إن الشطرنج كذلك كما
تشعر به الأمر ولو ند بالغسل يد المقلب له، وكونها من عمل الشيطان باعتبار أنها مصنوعة
بيد الانسان باغرائه ووسوسته فيصح أن يقال إن ذات الخمر والآلات الحاصلة باغرائه من
عمله ولو بقرينية الروايات المتقدمة.
وتدل عليه رواية أبي الجارود (2) عن أبي جعفر (ع) فإنه بعد بيان معنى المذكورات
قال: " كل هذا بيعه وشرائه " والانتفاع بشئ من هذا حرام من الله محرم وهو رجس
من عمل الشيطان ".
فإن الظاهر منها أن نفس المذكورات التي لا يجوز بيعها رجس من عمل الشيطان،
فعليه يكون الأمر بالاجتناب عن الآلات ذواتها مقتض لحرمة الانتفاع بها انتفاعا
مقصودا متعارفا، ولا شبهة في أن اللعب بها للتفريح والمغالبة من الانتفاعات
المقصودة المتداولة، سيما لدى الأمراء وخلفاء الجور، وليس الأمر بالاجتناب
مخصوصا باللعب برهان، بل أعم منه سيما مع كيفية تعبير الآية الكريمة بأنه رجس
من عمل الشيطان.
نعم ورد في بعض الروايات تفسير الميسر بالقمار، كرواية الوشاء (3) عن أبي الحسن عليه السلام قال سمعته يقول " الميسر هو القمار " وعن تفسير العياشي نحوها (4) وفي

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 35 - 102 - 104 - من أبواب ما يكتسب به.
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 102 - من أبواب ما يكتسب به - ضعيفة
بأبي الجارود.
(3) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 35 - من أبواب ما يكتسب به - صحيحة
على الظاهر - في سندها سهل والأمر فيه سهل
(4) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 104 - من أبواب ما يكتسب به - مرسلة
6

رواية أبي الجارود (1) عن أبي جعفر عليه السلام في قول الله تعالى إنما الخمر (الخ) " وأما الميسر
فالنرد والشطرنج وكل قمار ميسر "
فيمكن حمل الروايات المتقدمة على بيان المراد من الآية كما يظهر منها،
والروايتين المتقدمتين آنفا على تفسير الميسر مطلقا لا المراد بالآية، وأما الأخيرة
فيحتمل فيهما أن يكون المراد بكل قمار كل آلة له بقرينة النرد والشطرنج، كما
يحتمل أن يكون المراد بهما بقرينة كل قمار اللعب بهما ففيها اجمال.
بل يمكن أن يقال إن الروايات في تفسير الميسر على طوائف:
منها ما دلت على أنه الآلات كالروايات المتقدمة.
ومنها ما دلت على أنه الرهن، كصحيحة معمر بن خلاد (2) عن أبي الحسن
عليه السلام قال " النرد والشطرنج والأربعة عشر بمنزلة واحدة وكل ما قومر عليه فهو
ميسر "، ورواية العياشي في محكي تفسيره عن ياسر الخادم (3) عن أبي الحسن
الرضا عليه السلام قال سألته عن الميسر قال: " التفل من كل شئ قال: والتفل ما يخرج
بين المتراهنين من الدرهم وغيره " وضبط التفل مختلف في الوسائل ففي مورد
بالتاء والفاء وفي مورد بالثاء المثلثة والقاف، وفي مورد بالنون والعين ولم يظهر
معنى مناسب في اللغة لما فسر في الرواية ومن المحتمل أن يكون بالنون والفاء محركة
بمعنى الغنيمة فيكون ما بين المتراهنين نفل وغنيمة.
ومنها ما دلت على أنه الآلات والرهن جميعا كالمحكي عن تفسير العياشي (4)
عن الرضا عليه السلام قال سمعته يقول " إن الشطرنج والنرد وأربعة عشر وكل ما قومر
عليه منها فهو ميسر ". فإن الظاهر منه أن الشطرنج وتالييه ذاتهما ميسر وكل ما
قومر عليه أيضا ميسر، وما قومر عليه هو الرهن، وارجاع أحد المعطوف والمعطوف عليه

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 102 - من أبواب ما يكتسب به - ضعيفة
بأبي الجارود.
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 104 - من أبواب ما يكتسب به.
(3) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 35 - 104 - من أبواب ما يكتسب به - مرسلة.
(4) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 35 - من أبواب ما يكتسب به - مرسلة.
7

إلى الآخر بأن يقال: إن المراد بالشطرنج وتالييه رهانها أو أن المراد بما قومر عليه
ما قومر به: خلاف الظاهر سيما الأول منهما.
فيمكن أن تجعل الرواية شاهدة جمع لسائر الروايات بأن يقال: إن المراد
بالتفاسير المذكورة التفسير بالمصاديق، ويكون الميسر في الآية جميع المذكورات
من آلاته، والعمل والرهن ولو باستعمال اللفظ في أكثر من معنى مع قرينية الروايات
أو استعماله في جامع انتزاعي أو إرادة المعاني ولو بنحو من الكناية كما في غيره
من الموارد الكثيرة الواردة في الكتاب العزيز المفسرة بالروايات، وعليه
أيضا يصح الاستدلال بالآية الكريمة على حرمة اللعب بالآلات بلا رهن بمثل ما
تقدم.
وأما ما عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال " كل ما ألهى عن ذكر الله فهو من
الميسر " (1) فلا بد من تأويله، أو تقييده; أورد علمه إليه، مع أنه ضعيف سندا.
ثم إن ما ذكرناه من استفادة الحكم من الآية الكريمة لا ينافي ذيلها بتوهم
أن ما يوجب الوقوع في البغضاء والعداوة القمار برهن لا مطلق اللعب بالآلات
للتفريح ونحوه، وذلك مضافا إلى أن التنافس في الغلبة على الخصم ليس بأقل من
التنافس في تحصيل الأموال التي تجعل رهنا سيما عند أرباب التنزه والمترفين وعليه
يوجب ذلك الوقوع فيهما: أن الوقوع فيهما ليس علة للحكم، ضرورة حرمة الخمر
والميسر برهن مطلقا، سواء حصل منهما العداوة والبغضاء أم لا، كما لا يحرم مطلق ما
يوقع فيهما، فالوقوع فيهما أحيانا ومعرضيتهما لذلك نكتة الجعل، ولا ريب في
حصوله باللعب بلا رهن.
مضافا إلى أن مفاد الآية: أن الشيطان يريدان يوقعهما بينكم، لا أن السر
وقوعهما، ولا يجب وقوع مراده دائما بل يكفي كونهما في معرض ذلك، ولا شبهة
في أن اللعب بلا رهان في معرض ذلك، ويكون آلة وشبكة للشيطان لايقاع
فساد، ولو كان في الآية نوع كناية أو استعارة لا يفترق أيضا بين اللعب برهن و

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 100 - من أبواب ما يكتسب به - ضعيفة.
8

غيره. والانصاف أن استفادة الحكم من الآية ليست بعيدة.
ويمكن الاستدلال على المطلوب بروايات:
منها رواية أبي الجارود (1) عن أبي جعفر عليه السلام في قول الله إنما الخمر والميسر
(الخ) وفيها " أما الميسر فالنرد والشطرنج وكل قمار ميسر " ثم عد الأنصاب والأزلام
فقال: " كل هذا بيعة وشرائه والانتفاع بشئ من هذا حرام من الله محرم وهو رجس
من عمل الشيطان " (الخ).
بتقريب أن المراد من الميسر في الآية إن كان الآلات أو الأعم منها كما
تشهد به الرواية فقد مرت دلالتها على المطلوب، وإن كان المعنى المصدري وكان
التقدير في الخمر وغيرها ما يناسبها كالشرب والعبادة: يكون المراد بالنرد و
الشطرنج في الرواية أيضا اللعب بهما، ويكون عطف كل قمار عليهما عطف العام
على الخاص بقرينية كونها مفسرة للميسر، فعلي هذا يراد بقوله كل هذا بيعه و
شرائه (الخ): الخمر وآلات القمار والأنصاب والأزلام فكأنه قال: شرب الخمر و
اللعب بالآلات القمار وعبادة الأنصاب حرام، وبيع المذكورات والانتفاع بها حرام،
فيكون المراد منها بقرينة المحمول: متعلقات الموضوعات فتدل على حرمة الانتفاع
بآلات القمار، سواء الشطرنج وغيره. والانتفاع المتعارف المطلوب من تلك الآلات
بما هي آلات يعم اللعب للتنزه والتفريح بلا رهن.
وأما ما أفاد شيخنا الأنصاري (2) من الشاهدين على أن المراد بالقمار ليس
المعنى المصدري (فغير وجيه) سيما مع بنائه في غير المورد على أن المقدر في كل
من المذكورات ما يناسبها، إذ مع استظهار ذلك من الآية لا محيص عن حمل الشطرنج
والنرد على اللعب بهما وارجاعهما إلى عنوان القمار لا العكس، ومع الغض عنه
لا يكون الشطرنج والنرد قرينة على أن المراد بكل قمار آلاته، لاحتمال أن يراد

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 102 - من أبواب ما يكتسب به - ضعيفة
بأبي الجارود.
(2) في المسألة الخامسة عشر من النوع الرابع مما يحرم الاكتساب به - في القمار
9

بهما نفسهما، وبكل قمار عنوان القمار أي المعنى المصدري، فيكون المنظور اثبات
شمول الآية للآلات وللقمار.
وعليه وإن يمكن الاستدلال بالآية ببركة الرواية لكن لا بطريق أفاده، بل
باطلاق الاجتناب المأمور به، وأما قوله كل هذا بيعه وشرائه (الخ) لا يدل على ما رامه
لأن المشار إليه بهذا: ما يصح بيعه من المذكورات أي الخمر والشطرنج والنرد و
نحوهما والأنصاب والأزلام، من غير احتياج إلى ارتكاب خلاف الظاهر أي حمل القمار
الظاهر في المعنى المصدري على الآلات. سيما أن إرادة الآلة من القمار لا تخلو من
بعد بخلاف إرادتها من الميسر، والانصاف أن التمسك بها لا يحتاج إلى ذلك التكلف،
بل على احتمال يكون للآية الدلالة عليه وعلى احتمال للرواية.
ومنها موثقة زرارة (1) عن أبي عبد الله عليه السلام " أنه سأل عن الشطرنج ولعبة
شبيب التي يقال لها لعبة الأمير، وعن لعبة الثلاث فقال: أرأيتك إذا ميز الله الحق و
الباطل مع أيهما تكون، قال مع الباطل، قال: فلا خير فيه " فإن لا خير فيه وإن لم يدل لو خلي ونفسه على التحريم، لكن مقتضى اطلاق الشطرنج وغيره شمولها
للعب برهان، ولا شبهة في حرمته، فيكون ذلك قرينة على أنه كناية عن حرمة
الارتكاب وجعله كناية عن معنى أعم بعيد جدا، ولا شبهة في أن ذكر المذكور فيها
من قبيل المثال.
نعم لولا لعبة الأمير وما بعدها يمكن دعوى الخصوصية في الشطرنج لكثرة
الروايات في خصوصه وتشديد الأمر فيه، لكن مع ذكر غيره لا يبقى مجال لتوهم
الخصوصية فتدل على حرمة اللعب بكل آلة، ومقتضى اطلاقها عدم الفرق بين جعل
الرهن وعدمه ودعوى الانصراف غير مسموعة سيما مع تداول المغالبة بلا رهن في
عصر الصدور بين الخلفاء وأتباعهم، بل لا يبعد أن يكون كثير من الأسئلة مربوطة

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 102 - من أبواب ما يكتسب به - موثقة بابن
فضال وابن بكير.
10

باللعب بلا رهن حيث كان محل الخلاف بين فقهاء العامة.
فعن الشافعية (1) حلية اللعب بالشطرنج، وعن الحنابلة (2) يكره اللعب به
وعن الشافعي (3) هو مكروه وليس بمحظور، ولا ترد شهادة اللاعب به إلا ما كان فيه قمار
وعنه (4) أن النرد مكروه وليس بمحظور لا يفسق فاعله، والخلاف إنما هو مع اللعب
بها بلا رهن وإلا فالقمار حرام عند الجميع، ولعل فتوى بعض العامة بعدم حرمة اللعب
بها بلا رهن لجلب نظر الخلفاء والأمراء.
ثم على ما ذكر يشكل استفادة الحرمة من الرواية وكذا الرواية الآتية إلا أن يقال:
إن كون محط نظر السائل ما ذكر لا يوجب عدم الاطلاق فلا يجوز رفع اليد عن اطلاقها.
ومنها حسنة الفضيل بن يسار (5) قال: " سألت أبا جعفر عليه السلام عن هذه
الأشياء التي يلعب به الناس والنرد والشطرنج حتى انتهيت إلى السدر، فقال: إذا
ميز الله بين الحق والباطل مع أيهما يكون، قلت مع الباطل قال فما لك والباطل ".
بتقريب تقدم في الرواية السابقة.
ومنها رواية تحف العقول (6) قال في ذيلها: " وذلك أنما حرم الله الصناعة
التي حرام هي كلها التي يجئ منه الفساد محضا نظير البرابط والمزامير والشطرنج
وكل ملهو به والصلبان والأصنام وما أشبه ذلك من صناعات الأشربة الحرام وما يكون
منه وفيه الفساد محضا ولا يكون فيه ولا منه شئ من وجوه الصلاح: فحرام
تعليمه وتعلمه والعمل به وأخذ الأجر عليه وجميع التقلب فيه من جميع وجوه
الحركات كلها إلا أن تكون صناعة (الخ)

(1) راجع ج 2 - فقه المذاهب ص 51.
(2) راجع ج 2 - فقه المذاهب ص 51.
(3) راجع الخلاف - كتاب الشهادات - مسألة 51
(4) أي عن الشافعي - راجع الخلاف - كتاب الشهادات - مسألة 53
(5) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 104 - من أبواب ما يكتسب به - حسنة بعبد
الله بن عاصم والميثمي.
(6) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 2 - من أبواب ما يكتسب به.
11

فإنه عد الشطرنج وكل ملهو به أي سائر آلات القمار مما يجئ منه الفساد محضا،
فلا يصح القول إن في اللعب بها للتفريج صلاحا، وهو يؤيد ما في صدرها من تفسير
الصلاح بما فيه قيام الناس كالمأكول والملبوس لا مطلق ما فيه غرض كالتفريح والتفرج.
وتدل على المطلوب فقرة أخرى منها وهي قوله: " وكذلك كل مبيع
ملهو به وكل منهي عنه مما يتقرب به لغير الله، أو يقوى به الكفر والشرك من
جميع وجوه المعاصي أو باب من الأبواب يقوى به باب من أبواب الضلالة أو باب
من أبواب الباطل أو باب يوهن به الحق فهو حرام محرم بيعة وشرائه وامساكه و
ملكه وهبته وعاريته وجميع التقلب فيه إلا في حال تدعو الضرورة فيه إلى ذلك ".
ضرورة أن آلات القمار أوضح مصاديق الملهو به الذي يقوى باب من أبواب الباطل
ويوهن به الحق، واللعب بها ولو بلا رهن من مصاديق التقلب فيها، فلا اشكال في
دلالتها لولا الخدشة في سندها.
ويمكن الاستدلال للعموم بروايات واردة في الشطرنج والنرد بضميمة ما دلت
على التسوية بينهما وبين غيرهما.
كمرسلة ابن أبي عمير (1) عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل
فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور " قال: الرجس من الأوثان هو
الشطرنج وقول الزور الغناء " ونحوها رواية زيد الشحام (2). ودلالتهما لا تقصر عن
دلالة رواية أبي الربيع الشامي (3) عن أبي عبد الله عليه السلام " قال سأل عن الشطرنج
والنرد فقال: لا تقربوهما "، ولا شبهة في اطلاقها للعب بلا رهن.
ورواية الحسين بن عمر بن يزيد (4) عنه عليه السلام وليس في سندها إلا سهل
الذي أمره سهل ومحمد بن عيسى الذي لا يبعد وثاقته " قال: يغفر الله في شهر رمضان
إلا لثلاثة صاحب مسكر أو صاحب شاهين أو مشاحن " ونحوها رواية عمر بن يزيد
الصيقل (5) مع تفسير الشاهين بالشطرنج، ولفظ الصاحب وإن يشعر أو يدل على نحو

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 102 - من أبواب ما
يكتسب به - الثانية ضعيفة بدرست والثالثة ضعيفة بخالد وأبي الربيع الشامي والرابعة
صحيحة على الأصح والخامسة ضعيفة بمحمد بن حكم وعمر بن يزيد.
(2) تقدم آنفا تحت رقم 1.
(3) تقدم آنفا تحت رقم 1.
(4) تقدم آنفا تحت رقم 1.
(5) تقدم آنفا تحت رقم 1.
12

ادمان، لكن لا شبهة في صدقه على المقيم على اللعب بلا رهن والظاهر اطلاقهما له،
وموثقة مسعدة (1) عن أبي عبد الله عليه السلام " أنه سأل عن الشطرنج فقال دعوا
المجوسية لأهلها لعنها الله ".
وموثقة السكوني (2) عنه عليه السلام " قال نهى رسول الله صلى الله عليه وآله عن اللعب بالشطرنج
والنرد " ونحوها رواية المناهي (3) عنه صلى الله عليه وآله.
ورواية ابن بصير عن مستطرفات السرائر (4) عن أبي عبد الله عليه السلام، قال:
بيع الشطرنج حرام وأكل ثمنه سحت واتخاذها كفر واللعب بها شرك، والسلام
على اللاهي بها معصية وكبيرة موبقة، والخائض فيها يده كالخائض يده في لحم
الخنزيز لا صلاة له حتى يغسل يده كما يغسلها من مس لحم الخنزير والناظر إليها كالناظر
في فرج أمه، واللاهي بها والناظر إليها في حال ما يلهى بها، والسلام على اللاهي
بها في حالته تلك في الإثم سواء " (الخ).
والانصاف أن الخدشة في دلالة الروايات وفي اطلاقها في غير محلها.
نعم هي لا تدل على حرمة اللعب بمطلق الآلات لاحتمال خصوصية في النرد والشطرنج
كما يظهر من التأكيدات الواردة فيهما، سيما الشطرنج لكن يمكن الاستدلال
على المطلوب بعموم المنزلة في صحيحة معمر بن خلاد (5) عن أبي الحسن عليه السلام " قال:
النرد والشطرنج والأربعة عشر بمنزلة واحدة، وكل ما قومر عليه فهو ميسر.

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 102 - من أبواب ما يكتسب به - إن كانت
مسعدة التي تكون في سند الرواية الأولى مسعدة بن زياد فهي صحيحة وإن كانت مسعدة
بن صدقة فهي موثقة.
(2) تقدم آنفا تحت رقم 1.
(3) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 104 - من أبواب ما يكتسب به - ضعيفة
بشعيب بن واقد.
(4) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 103 - من أبواب ما يكتسب به - صحيحة
ظاهرا.
(5) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 104 - من أبواب ما يكتسب به.
13

والظاهر أنه بصدد نفي الخصوصية عن آلة خاصة كالنرد والشطرنج والحاق سائر
الآلات بهما، هذا كله حال اللعب بالآلات المعدة للقمار.
وأما اللعب بغيرها مع رهن، فقد حكى عن جمع حرمته تكليفا وعن بعض (1)
دعوى الاجماع أو عدم الخلاف فيه، لكن الاعتداد بها لا يجوز بعد تراكم الأدلة
واحتمال تشبثهم بها، بل من المحتمل أن يكون نقله من الاجتهاد في كلمات
القوم واستظهار الحرمة تكليفا منها مع إرادة كلهم أو بعضهم الوضعية، فلا اعتداد
بنقل الاجماع وعدم الخلاف، كما لا اعتداد بدعوى صدق القمار عرفا على مطلق
اللعب برهن لما قلنا من الجزم بعدم صدقه على المغالب في الخط والقراءة والعدو
ونحوها، وكلمات اللغويين مختلفة، فربما يظهر من اطلاق بعضهم كصاحب القاموس
ومنتهى الإرب ومحكي لسان العرب أنه مطلق المغالبة برهن، لكن صريح مجمع
البحرين وظاهر المنجد أن للآلات المعهودة دخالة في الصدق، ولا يبعد استظهار
الدخالة من غيرهما كصاحب الصحاح وأقرب الموارد، كما لا يبعد دعوى عدم
الاطلاق في عبارة القاموس وما بمثلها، فلا يمكن استفادة صدقه على ما ذكر من
كلماتهم لو لم نقل بالعكس.
(كما أن دعوى) استفادة كونه قمارا موضوعا من بعض الروايات مثل ما فسرت
الميسر بكل ما تقومر به حتى الكعاب والجوز، أو قومر عليه، بدعوى أن المراد
التغالب به أو عليه ومن رواية إسحاق بن عمار (2) قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام " الصبيان
يلعبون بالجوز والبيض ويقامرون، قال لا تأكل منه فإنه حرام، حيث عدهما من
القمار مع عدم كونهما آلة له وبرواية العلاء بن سيابة (3) عنه عليه السلام وفيها " وكان

(1) هو العلامة الطباطبائي في مصابيحه.
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 35 - من أبواب ما يكتسب به - موثقة على
على الظاهر.
(3) الوسائل - كتاب السبق والرماية - الباب 3 - ضعيفة بعلاء بن سيابة والظاهر أن محمد بن موسى الذي يكون في سندها هو محمد بن موسى السمان وهي ضعيفة به أيضا.
14

يقول: إن الملائكة تحضر الرهان في الخف والحافر والريش وما سوى ذلك فهو قمار
حرام): (ليست وجيهة).
لأن عد اللعب بالجوز والبيض من القمار لعله لأجل تعارف اتخاذهما آلة للقمار ".
وأين هذا مما لا يكون كذلك، مع أن الاطلاق أعم (ودعوى) إرادة مطلق المغالبة
من قوله كل ما قومر عليه أو به كما ترى (فإنها بلا بينة) واطلاقه أحيانا على مطلق
المغالبة أو على المغالبة في التفاخر كما يظهر من بعض اللغويين لا يوجب حمل
الأخبار عليه، مع أن الظاهر من الجوهري في الصحاح أن المستعمل في غلبة التفاخر:
من قمر يقمر بضم الميم، وفي المغالبة في اللعب بكسرها، ورواية إسحاق لا تدل
إلا على استعماله وهو أعم، ورواية ابن سيابة على خلاف المطلوب أدل، لأن الظاهر
منها أن المسابقة في المذكورات ليست قمارا وأن غيرها قمار حرام مع أن الصدق
في جميعها سواء، فلا محالة تحمل الرواية على الالحاق الحكمي، وتنزيل غير القمار
منزلته.
واحتمال أن يكون المراد أن غير المذكورات قمار حرام، وهي قمار غير
حرام (بعيد جدا) مع ما عرفت من إباء الآية الكريمة من التخصيص مضافا إلى أن
الاستعمال أعم. والانصاف أن الاستدلال للحكم بصدق عنواني القمار والميسر عليه في
غير محله.
(كما أن الاستدلال له) بالآية الكريمة أي قوله إنما الخمر الميسر (الخ) تارة
بأن يقال: إن عطف الأزلام على الميسر ظاهر في كونه عنوانا مقابلا له فيكون
الاستقسام بالأزلام محرما لا بعنوان القمار وبالغاء الخصوصية منها عرفا يستفاد الحكم
في مطلق استنقاذ المال باللعب، فإن الظاهر المتفاهم منه أن كون الأزلام رجسا من
عمل الشيطان ليس لخصوصية في القداح ولا في عددها ولا في الجزور التي كانوا
يقتسمونها، بل لاستنقاذ المال بوجه غير مستقيم كالتجارة ونحوها بتوسط الأزلام
ونحوها، وأخرى بقوله: إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء (1)

(1) سورة المائدة - الآية 93.
15

(الخ) بدعوى أن ما يوجب ذلك يكون من عمل الشيطان ويجب الاجتناب عنه
(غير وجيه).
لأن استظهار مغايرة اللعب، بالأزلام مع القمار بمجرد العطف مع عد اللغويين
الأزلام قمار العرب: غير صحيح، وتخصيصه بالذكر لعله لأجل التعارف بينهم، لا
لأشدية حرمته من غيرها حتى يقال: إن الشطرنج كأنه أشد كما يظهر من التأكيد
والتشديد في أمره والغاء الخصوصية وإن يمكن بالنسبة إلى بعض الآلات كتبديل
الأزلام بالأوراق ونحوها، لكن بالنسبة إلى مطلق اللعب برهن: غير ممكن كالقراءة
والخط والمصارعة ونحوها. وقد مر أن ذيل الآية ليس تعليلا حتى يدل على حكم غير
المورد.
نعم لا يبعد جواز الاستدلال على المطلوب بقوله تعالى: لا تأكلوا أموالكم
بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض (1) بأن يقال إنه بعد معلومية أن قوله:
لا تأكلوا كناية: يحتمل أن يكون كناية عن مطلق التصرفات فيكون المراد
لا تتصرفوا في الأموال الحاصلة بالباطل إلا ما حصل بتجارة عن تراض، ويحتمل أن يكون كناية عن تحصيل الأموال بالباطل فيكون النهي متعلقا على سبب تحصيلها
فيكون المعنى لا يجوز تحصيل المال بالأسباب الباطلة كالقمار والبخس والسرقة و
نحوها ويرجح هذا الاحتمال بالروايات الواردة في تفسيرها.
كصحيحة زياد بن عيسى (2) " قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قوله عز وجل
ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل فقال: كانت قريش يقامر الرجل بأهله أو ماله
فنهاهم الله عز وجل عن ذلك ". فإن الظاهر منها أن الله تعالى نهاهم عن القمار بالمعنى
المصدري لا عن التصرف في الأموال.
ونحوها رواية العياشي عن أسباط بن سالم (3) " قال: كنت عند أبي عبد الله (ع)
فجاء رجل فقال: أخبرني عن قول الله عز وجل: يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم

(1) سورة النساء - الآية 33.
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 35 - من أبواب ما يكتسب به - الثانية مرسلة.
(3) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 35 - من أبواب ما يكتسب به - الثانية مرسلة.
16

بينكم بالباطل قال يعني بذلك القمار " وقريب منها رواية محمد بن عيسى المروية
عن نوادر ابنه (1).
وأظهر منها رواية العياشي الأخرى عن محمد بن علي (2) عن أبي عبد الله عليه السلام
في قول الله عز وجل يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل " قال:
نهى عن القمار; وكانت قريش يقامر بأهله وماله فنهاهم الله عن ذلك ".
ويؤيده استثناء التجارة عن تراض فكأنه قال: لا يجوز استنقاذ الأموال بشئ
من الأسباب الباطلة، لكن لا بد وأن يكون بنحو التجارة عن تراض، فإذا كان
النهي متعلقا بالأسباب التي تحصل بها الأموال كالقمار والبخس والربوا والسرقة
كما فسرت بها أيضا على ما حكى; ويكون المعنى لا يجوز تحصيل المال بتلك
الأمور: تدل الآية باطلاقها على حرمة كل لعب يكون فيه رهن، وكذا لو كان
المذكور جزء مدلولها، واحتمال أن يكون النهي ارشادا إلى البطلان: غير وجيه;
لأن ما تدخل في الآية غالبا لا تكون من قبيل المعاقدات التي تتصف بالصحة والبطلان
فلا يجوز رفع اليد عن ظاهر النهي الدال على التكليف.
والانصاف أن الاستدلال بالآية لا يخلو من وجه وإن لا يخلو من مناقشة بأن
يقال: إن غاية ما يمكن اثبات دخوله في الآية القمار لورود روايات فيه يصح اسناد
بعضها، فحينئذ يمكن أن يكون النهي عن الأكل كناية عن تحصيل المال بأسباب
كالقمار مقابل التجارة، لا كالسرقة والخيانة; فمع تعلق النهي بالتحصيل بالأسباب
أو بالأسباب لا يستفاد منه الحرمة التكليفية لظهوره في الارشاد إلى البطلان وعدم
السببية كساير الموارد من الأشباه والنظائر.
نعم لو قام دليل على دخول السرقة والظلم ونحوهما فيها لأمكن الاستدلال
بها بما تقدم، مضافا إلى امكان أن يقال: إن القمار الوارد في الأخبار المفسرة

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 35 - من أبواب ما يكتسب به الأولى صحيحة على تأمل والثانية مرسلة.
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 35 - من أبواب ما يكتسب به الأولى صحيحة على تأمل والثانية مرسلة.
17

بمعنى الرهن، كما قيل: إنه أصله، فعليه يمكن حفظ ظهور الآية في دلالتها على
حرمة التصرف في الأموال الحاصلة بالباطل، بل لقائل إن ادخال القمار في الآية
تعبدي لا مفاد لها كتفسير الأوثان بالشطرنج، فلا يجوز رفع اليد عن ظاهرها بدخول
مصداق تعبدي فيها لا يعلم كيفية إرادته ودخوله.
وأما الروايات فقد استدل الشيخ الأنصاري (1) برواية ياسر الخادم (2) عن الرضا (ع)
" قال سألته عن الميسر قال: التفل من كل شئ قال: والتفل ما يخرج بين المتراهنين
من الدرهم وغيره " وبمصححة معمر بن خلاد (3) " كل ما قومر عليه فهو (ميسر) وبرواية
جابر (4) عن أبي جعفر عليه السلام وفيها " قيل يا رسول الله ما الميسر قال: كل ما تقومر به
حتى الكعاب والجوز " قال رحمه الله: والظاهر أن المقامرة بمعنى المغالبة على
الرهن.
والانصاف عدم دلالتها على المطلوب، فإن رواية ياسر تدل على حرمة ما يخرج
بين المتراهنين وهو غير مطلوبنا في المقام، وكذا الصحيحة فإن ما قومر عليه هو
المجعول بين المتقامرين وحرمته لا تدل على حرمة العمل ولو كان المقامرة بمعنى
المغالبة فيها مع أنه غير مسلم بل الظاهر منها ومما عبرت بمثلها هو القمار المعروف.
ومن هنا لا يصح الاستدلال برواية جابر إن كان محطه الكلية المذكورة وأما إن
كان محطه قوله حتى الكعاب والجوز بدعوى أن عد الجوز مما قومر به دليل على أن ما ليس
بآلة القمار داخل فيه وملحق به وبالغاء الخصوصية يثبت الحكم لسائر آلات اللعب برهن
(ففيه) مضافا إلى أن اللعب بالجوز والبيض مما اتخذ آلة للتقامر لا يبعد صدق

(1) في المسألة الخامسة عشر - من النوع الرابع - في المراهنة على اللعب بغير
الآلات المعدة للقمار.
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 35 - 104 - من أبواب ما يكتسب به - مرسلة
(3) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 104 - من أبواب ما يكتسب به.
(4) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 35 - من أبواب ما يكتسب به - ضعيفة
بعمرو بن شمر.
18

القمار عليه لأجل ذلك الاتخاذ: أن إلغاء الخصوصية منه إلى غيره مما هو غير متخذ
آلة مشكل بل ممنوع لخصوصية فيما اتخذ آلة ذلك دون غيره كالتخيط وتجويد
القراءة والسبق بالسباحة والعدو إلى غير ذلك، فالحاق ما اتخذ آلة له به لا يدل على
الحاق غيره به.
فالعمدة في المقام روايات باب السبق والرماية.
كمرسلة الصدوق المروية في الفقيه في باب حد من شرب الخمر وما جاء
في الغناء والملاهي (1) قال: وقال الصادق عليه السلام " إن الملائكة لتنفر عند الرهان و
تلعن صاحبه ما خلا الحافر والخف والريش والنصل وقد سابق رسول الله صلى الله عليه وآله
أسامة بن زيد وأجرى الخيل ".
قال المحدث الكاشاني (2) في ذيلها: ويأتي هذا الحديث في باب عدالة الشاهد
مسندا مع ما في معناه وفي آخره وما عدا ذلك قمار حرام، وما حكي في الباب
المشار إليه روايتان بسند واحد عن العلا بن سيابة (3).
إحديهما " قال سألت أبا عبد الله عليه السلام عن شهادة من يلعب بالحمام قال: لا بأس
إذا لم يعرف بفسق، قلت: فإن من قبلنا يقولون قال عمر هو شيطان، فقال: سبحان
الله أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: إن الملائكة لتنفر عند الرهان وتلعن صاحبه
ما خلا الحافر والخف والريش والنصل فإنها تحضره الملائكة وقد سابق رسول الله صلى الله عليه وآله
أسامة بن زيد وأجرى الخيل ".
وثانيتهما بهذا الاسناد " قال: سمعته يقول لا بأس بشهادة الذي يعلب

(1) كتاب الحدود - الباب 11 - والوسائل - كتاب السبق والرماية - الباب 1 -
مرسلة معتمدة.
(2) الوافي - ج 9 - باب فضل اجراء الخيل والرمي من أبواب الجهاد - ص 25 -
ثم لا يخفى أن المرسلة التي تكون في الوافي تشتمل على فقرة زائدة على المرسلة التي
تكون في الفقيه والوسائل وهي هذه " فإنها تحضره الملائكة ".
(3) الوافي - ج 9 - باب عدالة الشاهد من أبواب القضاء والشهادات - ص 149
ضعيفة بعلا بن سيابة.
19

بالحمام ولا بأس بشهادة صاحب السابق المراهن عليه فإن رسول الله صلى الله عليه وآله قد
أجرى الخيل وسابق وكأن يقول إن الملائكة تحضر الرهان في الخف والحافر والريش
وما عدا ذلك قمار حرام ".
وأنت خبير بما في اجتهاد الكاشاني من كون المرسلة عين المسندة، فإن
ظاهر الصدوق في المرسلة أن قوله إن الملائكة لتنفر (الخ) من كلام الصادق عليه السلام لا
منقول عن رسول الله صلى الله عليه وآله، وصريح الرواية الأولى وظاهر الثانية أنه من كلام رسول الله
صلى الله عليه وآله مضافا إلى أن الرواية الأولى الشبيهة بالمرسلة في الفقرات مشتملة على جملة
زائدة وهي قوله فإنها تحضره الملائكة (1) " على ما في نسختي من لا يحضر و
الوسائل "، وأما الثانية فلا مجال لاحتمال وحدتها مع المرسلة، فالظاهر استقلال
المرسلة وهي من المرسلات التي يشكل طرحها للارسال نعم لو كانت عين المسندة
وقطعة منها يشكل الاستناد إليها لأجل العلا بن سيابة لكن قد مر بعد ذلك، وكيف كان
فالظاهر من المرسلة حرمة السباق فيما عدا المذكورات.
(والمناقشة) في دلالتها تارة بأن الرهان يمكن أن يكون جمع الرهن وهو
المال المرهون أو مصدرا بمعنى جعل المال رهنا لا بمعنى السباق واللعب. وأخرى بأن
نفار الملائكة ولعنها لا يلازمان الحرمة ولا يدلان عليها، لامكان نفارهم عن
المكروهات أو بعضها سيما مثل اللعب واللهو مما ينافي قداستهم، وأما اللعن فقد
ورد في المكروهات أيضا كأنها (في غير محلها).
لقوة ظهور الرواية في الرهان بمعنى السبق سيما مع استشهاده بمسابقة رسول
الله صلى الله عليه وآله أسامة بن زيد بل هو دليل على أن المستثنى السباق بالمذكورات، فإنه

(1) يمكن أن يقال: إن هذا الإيراد غير وارد على المحدث الكاشاني لأن المرسلة
التي نقلها في الوافي تشتمل على هذه الجملة وهي " فإنها تحضره الملائكة ".
ولكن يقال: إن هذه المرسلة إرسالها بالصدوق وما نقلها الصدوق في كتابه " من
لا يحضره الفقيه " غير مشتملة عليها كما نقلها عن الصدوق في الوسائل، فما نقلها في الوافي
عن الصدوق خلاف ما كانت موجودة في الفقيه والوسائل فراجع (م - ط).
20

لو كان المراد المال المرهون أو جعل الرهن دون المسابقة لما كان لاستشهاده بالسياق
وجه وكان عليه الاستشهاد بجعل رسول الله صلى الله عليه وآله الرهن، فإذا كان المستثنى ما ذكر
يكشف عن المستثني منه فلا اشكال من هذه الجهة.
وأما لعن الملائكة وكذا لعن الله تعالى ولعن رسول الله صلى الله عليه وآله فالظاهر منه أن
العمل الموجب له محرم واستعماله أحيانا في مورد الكراهة كما عن أبي الحسن
موسى عليه السلام (1) " قال لعن رسول الله صلى الله عليه وآله ثلاثة الآكل زاده وحده، والنائم في بيت
وحده،
والراكب في الفلاة وحده "، وقد ورد في الدواب (2) " لا تلعنوها فإن الله عز وجل لعن
لاعنها " لا ينافي ظهوره في الحرمة وقد ورد مادة اللعن قرب أربعين موردا في القرآن
الكريم لا يكون مورد منها في أمر مكروه أو شخص مرتكب له فراجع، بل غالب
استعماله في موارد التشديد على المحرمات أو الأشخاص المرتكب لها أو الكفار و
المنافقين والشيطان وأمثالهم فلا شبهة في ظهوره في الحرمة، وأوضح منها دلالة
رواية العلا بن سيابة الثانية بل هي صريحة في المطلوب لكنها ضعيفة.
فالانصاف أن الحرمة لو لم تكن أقوى فهي أحوط سيما مع حكاية عدم الخلاف
من بعض الأعاظم واستظهاره من جمع كما قال الشيخ الأنصاري: فلا أظن الحكم
بحرمة الفعل مضافا إلى الفساد محل اشكال ولا محل خلاف كما يظهر من كتاب
السبق والرماية وكتاب الشهادات (انتهى).
وأما الاستشهاد بصحيحة محمد بن قيس (3) عن أبي جعفر عليه السلام " قال قضى أمير
المؤمنين في رجل آكل هو وأصحاب له شاة فقال: إن أكلتموها فهي لكم وإن لم
تأكلوها فعليكم كذا فقضى فيه أن ذلك باطل لا شئ في المؤاكلة من الطعام قل منه
أو كثر، ومنع غرامة فيه " بدعوى أن سكوت الإمام عليه السلام عن منع اللعب دليل على
جوازه وإن كان باطلا لا يوجب غرامة. (وفيه ما لا يخفى) فإن الاستشهاد إما بسكوت

(1) الوسائل - كتاب الحج - الباب 30 - من أبواب آداب السفر إلى الحج وغيره
(2) الوسائل - كتاب الحج - الباب 10 - من أبواب أحكام الدواب.
(3) الوافي - ج 9 - باب قضايا غريبة من أبواب القضاء والشهادات - ص 169 -
21

الباقر عليه السلام عن بيان الحكم (ففيه) أنه بصدد بيان قضاء مولينا أمير المؤمنين عليه السلام
ولم يكن لاعب عنده حتى ينهاه، أو بأن سكوته عن بيان منع علي عليه السلام دليل على
عدم منعه عليه السلام وهو دليل على الجواز (ففيه) أنه عليه السلام بصدد بيان قضائه في الواقعة
لا مطلق ما وقع فيها، ولهذا لم يذكر كيفية الدعوى والمدعي والمدعى عليه، ولعل
أمير المؤمنين عليه السلام نهى عن العمل ولم يكن أبو جعفر عليه السلام بصدد نقله مع أن الواقعة
كانت قضية خارجية لم تظهر حالها، فلا معنى لاستفادة شئ من سكوته.
ثم إن في الرواية اشكالا وهو أن نفي الغرامة خلاف القواعد، لأن المعاقدة
إن كانت فاسدة كان الأكل موجبا للغرامة لأنه كالمقبوض بالبيع الفاسد. وما يقال
إن الإباحة المالكية ترفع الغرامة: ليس بشئ لأن ما يوجب رفعها هو الإباحة المطلقة
لا في ضمن معاملة فاسدة، فلو باع شاة في بيع فاسد وقال خذها وكلها فهل يمكن
دفع الغرامة بالإباحة المذكورة.
فالأولى أن يقال: إن كيفية الدعوى والمدعي والمدعى عليه غير مذكورة في
الرواية ولم يكن أبو جعفر عليه السلام بصدد بيان تمام الواقعة بل كان بصدد بيان نحو القضاء،
فعليه يحتمل أن يكون المدعي في الواقعة صاحب الشاة مع إظهار أصحابه المعجز عن
الأكل بعد تمامية المشارطة وقيل التصرف في الشاة، فأراد أخذ الغرامة التي جاءت
بعهدة أصحابه بتوهم صحة المعاقدة، فمنع أمير المؤمنين الغرامة.
والقول بعدم صدق الغرامة عليه: وهم: فإن الغرامة ما يلزم أدائه من المال ولهذا
يقال للمديون الغريم فالمال المشارط عليه يقع على عهدة المتخلف فيكون غرامة
وصاحبه غريما. فمع هذا الاحتمال لا دلالة في الصحيحة على خلاف القواعد " فتدبر ".
وأما المغالبة بغير عوض في غير ما استثني فقد حكي عن الأكثر عدم جوازها،
ويظهر من موارد من التذكرة الاتفاق عليه.
والظاهر أن دعوى العلامة معللة لا يمكن الاتكال عليها سيما مع عدم تعرض
قدماء أصحابنا لذلك ظاهرا، وسيما مع تقييد شيخ الطائفة المسابقة على الاقدام و
بالمصارعة وبالطيور بعوض في موضوع الحرمة، بل ظاهره في المسابقة بالسفن و
22

نحوها التقييد أيضا، لاستدلاله بما استدل لغيرها وهو قوله لا سبق إلا في نصل أو خف أو
حافر، وكيف كان فقد استدل الشيخ الأنصاري عليه بأدلة حرمة القمار وادعى صدقه
على مطلق المغالبة وهو كما ترى، وقد مرت كلمات اللغويين المشحونة باعتبار
الرهن، ولا شبهة في عدم صدقه عرفا على المغالبة في الخط والقراءة والمصارعة
وغرس الأشجار وحفر الأنهار والبناء ونحوها مع رهن فضلا عن عدمه.
والأولى الاستدلال له بمرسلة الفقيه المتقدمة " قال قال الصادق عليه السلام: إن
الملائكة لتنفر عند الرهان " (الخ) بدعوى أن المراد بالرهان مطلق المسابقة كما هو
أحد معانيه على ما يظهر من اللغة بقرينة استشهاده بأنه قد سابق رسول الله صلى الله عليه وآله أسامة بن
زيد وأجرى الخيل، فلو كان مراده من الرهان السباق برهن أو مال الرهانة لما يناسب
الاستشهاد بذلك فتدل على حرمة مطلق المغالبة.
ويمكن المناقشة فيه بأن الظاهر من الرهان السبق برهن، واطلاقه على
المسابقة لعله للمناسبة بينهما ولزوم السباق له فيكون ذلك قرينة على أن مراده من
الاستشهاد بالسباق هو ما يشتمل على الرهن فقد ورد أن رسول الله صلى الله عليه وآله أجري الخيل
وجعل سبقها أواقي من فضة ولعله كان مع أسامة بن زيد.
ويشهد له رواية العلا بن سيابة (1) وفيها " لا بأس بشهادة الذي بلعب بالحمام،
ولا بأس بشهادة [صاحب السباق] (2) المراهن عليه فإن رسول الله صلى الله عليه وآله قد أجرى
الخيل وسابق، وكأن يقول إن الملائكة تحضر الرهان في الخف والحافر والريش
وما سوى ذلك فهو قمار حرام ".
فإن الظاهر أن استشهاده بسباق رسول الله صلى الله عليه وآله وعمله: لنفي البأس في سباق صاحب
السباق المراهن عليه لا مطلق السباق والحمل على مطلقه بدعوى أن محط نظره مطلق
اللعب كما يظهر من قوله يلعب بالحمام بلا قيد ومن استشهاده بمسابقة ذاتها (بعيد
جدا) بل الأظهر أن استشهاده للسبق برهن، واتكل على وضوح المراد. ومثله

(1) الوسائل - كتاب السبق والرماية - الباب 3.
(2) هذه الجملة في نسخة الوافي
23

في البعد توهم أن الاستشهاد بقوله صلى الله عليه وآله، لا بعمله، أو بعمله في أصل السبق وبقوله
فيه برهن، فإن كان ذلك تكلف وبعيد عن الافهام، فالتشبث بالمرسلة وكذا برواية
ابن سيابة في غير محله، كالاستدلال بقوله: " لا سبق إلا في خف " (1) (الخ) أو بمثل
قوله في الشطرنج وغيره (2) " إذا ميز الله بين الحق والباطل مع أيهما يكون قال مع
الباطل قال فلا خير فيه ".
فإن قوله لا خير فيه وإن كان كناية عن الحرمة كما مر، لكن لا يمكن الالتزام
بحرمة مطلق الباطل، لقيام الضرورة والسيرة على خلافها، فلا بد من حمله على قسم
معهود منه، ولا يبعد أن يكون المراد به ما في قوله تعالى لا تأكلوا أموالكم بينكم
بالباطل المفسر بالقمار، وغاية اقتضاء اطلاقه حرمة أكل المال المتحصل من الأسباب
الباطلة، أو حرمة تحصيل المال بها على ما تقدم احتماله مع الجواب عنه.
ومنه يظهر الجواب عن روايات يظهر منها حرمة مطلق الباطل أو كل ما ألهى
عن ذكر الله ونحوها
(نعم) في مقنع الشيخ الصدوق ولا تلعب بالصوالج فإن الشيطان
يركض معك والملائكة تنفر عنك، وروي أن من عثرت دابته فمات دخل النار و
اجتنبت الملاهي كلها واللعب بالخواتيم والأربعة عشر وكل قمار فإن الصادقين (ع)
قد نهوا عن ذلك أجمع (3) (انتهى). مع ما في أوله من الشهادة على أن كل ما فيه
روايات مسندة موجودة في الكتب الأصولية عن المشايخ العلماء الفقهاء الثقات، و
مع ما في ذيل هذه العبارة من الجزم بأن الصادقين (ع) نهوا عن ذلك أجمع فلا اشكال
في سندها.
وأما دلالتها فيمكن أن يقال: إن الملاهي مطلق آلات اللهو واللعب كما
تشهد به كلمات اللغويين، ففي الصحاح: وألهاه أي شغله إلى أن قال: الهو لهوا
إذا لعبت به وتلهيت به مثله وفي القاموس: لها لهوا: لعب كالتهى وألهاه ذلك

(1) الوسائل - كتاب السبق والرماية - الباب 3
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 102 - من أبواب ما يكتسب به.
(3) باب الملاهي من المقنع.
24

والملاهي آلاته وفي المنجد: لها يلهو لهو الرجل: لعب إلى أن قال: الملهي بالكسر
آلة اللهو الجمع ملاه نعم فيه: آلات الملاهي آلات الموسيقى، لكن يمكن أن
يقال: إن الظاهر منه أنها مصداق من الملاهي بعد تفسير اللهو باللعب، وفي مجمع
البيان عن المجاهد: كل لعب لهو، وقيل: اللعب ما رغب في الدنيا واللهو وما ألهى
عن الآخرة.
فتحصل من ذلك وجوب اجتناب آلات اللهو واللعب كآلات القمار ونحو
الصولجان والكره، بل يمكن إلغاء الخصوصية من الخواتيم والصولجان واسراء
الحكم إلى مطلق اللعب، وعليه يمكن الاستدلال للمطلوب برواية سماعة (1) " قال
قال أبو عبد الله عليه السلام: لما مات آدم عليه السلام شمت به إبليس وقابيل فاجتمعا في الأرض فجعل
إبليس وقابيل المعارف والملاهي شماتة بآدم عليه السلام فكل ما كان في الأرض من هذا
الضرب الذي يتلذذ به الناس فإنما هو من ذلك ".
ويمكن المناقشة في سند المقنع بأن يقال إن ما في أوله لا يدل على توثيق جميع
ما في سلسلة السند لأنه قال: إني صنفت كتابي هذا وسميت كتاب المقنع لقنوع من
يقرؤه بما فيه، وحذفت الاسناد منه لئلا يثقل حمله ولا يصعب حفظه ولا يمله قاريه
إذ كان ما أبينه فيه في الكتب الأصولية موجودا مبينا عن المشايخ العلماء الفقهاء
الثقات رحمهم الله (انتهى) وفيه احتمالان.
أحدهما أنه بصدد الشهادة على موجودية ما في المقنع في الكتب الأصولية
فتكون شهادة على وجدانه فيها، وإنما ذكرت الاسناد فيما ذكرت لا لاثبات
الكتب بل لأغراض أخر كحفظ السلسلة ورجال الأسانيد كالأسناد الموجودة في
عصرنا إلى الكتب الأربعة، وبصدد شهادة أخرى وهي توثيق صاحب الأصول، و
على هذا يكون ما فيه بمنزلة رواية صحيحة لو قلنا بقبول توثيق عدل واحد في
رجال السند.

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 100 - من أبواب ما يكتسب به - ضعيفة
ظاهرا بعبد الله بن قاسم.
25

وثانيهما أن يكون بصدد بيان وثاقة طرقة إلى الأصول لا توثيق أصحابها
بأن يكون قوله: مبينا حالا، لا خبرا بعد خبر، فيكون مراده أن وجودها في الكتب
معلوم مبين بوسيلة المشايخ الثقات، ولعل هذا الاحتمال أقرب لبعد امتياز المقنع
عن سائر كتبه سيما مثل من لا يحضر مضافا إلى أن ظاهر قوله واجتنب الملاهي كلها أنه
نهى عنه بقرينة قوله فإن الصادقين (ع) قد نهوا عن ذلك أجمع ومعه لا يبقى إلا
إرسال الصدوق وهو وإن كان من الارسالات التي قلنا إنه يشكل طرحها لكن يحتمل
أن يكون مثل اللعب بالخواتيم ونحوها داخلا في القمار عنده كما قال جمع: إن
القمار مطلق المغالبة، ومعه لا يبقى ظهور في أن كل ما ذكرها بعناوينها منهية
عنه مع أن عين النواهي غير مذكورة، فمن المحتمل أن لا تدل بجهات تقدم بعضها
على الحرمة.
فرعان
أحدهما أنه هل المأخوذ بالقمار والمال الذي جعل رهنا محرم بعنوان ما
يقامر عليه زائدا على حرمة التصرف في مال الغير كما قلنا في ثمن الخمر والعذرة
أو كان حاله كالمقبوض بالعقد الفاسد. يمكن الاستشهاد للأول بصحيحة معمر بن
خلاد (1) عن أبي الحسن عليه السلام " قال النرد والشطرنج والأربعة عشر بمنزلة واحدة،
وكل ما قومر عليه فهو ميسر " وقريب منها رواية العياشي عن الرضا عليه السلام (2).
فإن الظاهر منهما ما قومر عليه بمنزلة الميسر لا بنحو المجاز في الحذف بل
على نحو الحقيقة الادعائية بملاك ترتب الآثار فيكون ما قومر عليه بعنوانه محرما
ومنزلا منزلته، وهذا أقرب من جعل الرواية مفسرة للآية الكريمة أي إنما الخمر
والميسر (الخ) لأنه مع عدم اشعار فيها لذلك وإنما احتمال أو ظن ناشئ من ورود
الميسر في الآية، مع أن الحمل على التفسير يوجب ارتكاب خلاف ظاهر: بعيد في
الآية وهو استعمال الميسر وإرادة القمار وما قومر عليه، بل ما ورد في تفسيرها

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 104 - من أبواب ما يكتسب به.
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 104 - من أبواب ما يكتسب به.
26

كروايتي جابر (1) ومحمد بن عيسى (2) ليس فيهما ما قومر عليه بل فسر فيهما بما
قومر به فلا وجه لجعل مثل صحيحة معمر بن خلاد تفسيرا لها.
مضافا إلى أنه لو جعلت مفسرة أيضا تدل على المقصود ظاهرا، لأن الظاهر
منها أن ما قومر عليه بما هو كذلك داخل فيها ومراد منها وإن لا يخلو من نحو
مناقشة، وكيف كان لا شبهة في ظهورها فيما ذكرناه بل يمكن استظهار حرمته
على صاحب المال منها أيضا بأن يقال: إن ما قومر عليه حرام لا بعنوان أكل مال
الغير حتى يقال: لا معنى لحرمته على صاحبه، بل بعنوان انتزاعي آخر هو عنوان
ما قومر عليه، فيحرم بهذا العنوان على جميع الناس.
وبعبارة أخرى أن أخذ مال المقامرة من صاحبه بعنوان الغلبة في القمار والالتزام
بمقتضى مقامرتهما، يجعل المال معنونا بعنوان محرم، فلا يجوز لأحد التصرف فيه ولو
صاحب المال.
نعم لو أخذ ماله بعنوان أن القمار ليس بسبب لا بأس به ويجوز تصرفه فيه.
وأما احتمال خروج المال شرعا عن المالية بمجرد حصول التقامر عليه ضعيف جدا
بل مقطوع الخلاف، لكن الاحتمال المتقدم موافق للأدلة ولا يخالفه عقل أو نقل،
وقد وقع نظيره في الشرع كحرمة الأكل على مائدة يشرب عليها الخمر، فلا يجوز
رفع اليد عن اطلاق الدليل بمجرد الاستبعاد أو تخيله.
ولا يتوهم أن ما ذكر نظير ما قيل في المغصوب أنه لا يجوز لصاحب المال أيضا
التصرف فيه، ولا يخفى ضعفه، وذلك لأن حرمة المغصوب إنما هو بعنوانه وهو التسلط
على مال الغير والاستيلاء عليه، وحرمة تصرفه باعتبار التصرف في مال الغير
عدوانا، فلا معنى لحرمته على صاحب المال بخلاف ما نحن فيه فإن الحرمة متعلقة
بعنوان آخر غير التصرف في مال الغير " فتدبر "
الثاني القمار بأقسامه من الكبائر لظاهر قوله تعالى يسألونك عن الخمر

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 35 - من أبواب ما يكتسب به - الأولى ضعيفة بعمرو بن شمر والثانية صحيحة على تأمل.
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 35 - من أبواب ما يكتسب به - الأولى ضعيفة بعمرو بن شمر والثانية صحيحة على تأمل.
27

والميسر قل فيهما إثم كبير (1) ولا ينافيه قوله تعالى وإثمهما أكبر من نفعهما، لأن
أكبريته منهما لا تنافي كونه كبيرة في نفسه كما يقتضيه صدر الآية، وفي رواية علي بن يقطين (2) عن أبي الحسن عليه السلام في باب تحريم الخمر " قال فأما الإثم في كتاب
الله فهي الخمر والميسر وإثمهما كبير كما قال عز وجل "، ولروايتي الفضل بن شاذان
وأعمش (3) الواردين في عد الكبائر وفي سندهما ضعف وإن قيل إن سند الأولى
بأحد طرقه لا يخلو من حسن بل صحح بعضهم ذلك وقال الشيخ الأنصاري في باب الكذب
إنه لا يقصر عن الصحيح وسيأتي الكلام فيه.
ويمكن الاستدلال على المطلوب برواية علي بن إبراهيم في تفسيره عن أبي
الجارود (4) في قوله تعالى إنما الخمر والميسر (الخ) وفي آخرها " وقرن الله
الخمر والميسر مع الأوثان "، ولا ريب في أنه ليس مراده من الأخبار بالمقارنة بينها
صرف الأخبار بأمر ضروري لا فائدة فيه بل مراده بيان عظمة خطبهما وحرمتهما و
أنه لهذه جعلهما قرينا للشرك، ولعله تشير إلى ذلك ما دلت على أن شارب الخمر
كعابد وثن، وما دلت على أن الرجس من الأوثان الشطرنج.
وقد استدل أبو عبد الله عليه السلام على رواية عبد العظيم الحسني الصحيحة (5) على أن شرب الخمر من الكبائر بقوله: " إن الله نهى عنها كما نهى عن عبادة الأوثان "
وهو إشارة إلى الآية المتقدمة، وليس مراده مجرد تعلق النهي بهما، بل المراد أن
النهي عنهما مقارنان أو مشابهان في الكيفية فتدل على أن الخمر والميسر في العظمة

(1) سورة البقرة - الآية 216.
(2) الوسائل - كتاب الأطعمة والأشربة - الباب 9 - من أبواب الأشربة المحرمة -
ضعيفة بحسن بن علي بن حمزة.
(3) الوسائل - كتاب الجهاد - الباب 46 - من أبواب جهاد النفس - ضعيفة.
(4) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 102 - من أبواب ما يكتسب به - ضعيفة
بأبي الجارود.
(5) الوسائل - كتاب الجهاد - الباب 46 - من أبواب جهاد النفس.
28

والكبر كعبادة الأوثان وليس الاقتران بينها لصرف الجمع في التعبير بلا نكتة.
ويمكن الاستدلال عليه بما دلت على أن الشطرنج كبيرة كرواية أبي بصير
المحكية في مستطرفات السرائر عن جامع البزنطي (1) عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
" بيع الشطرنج حرام وأكل ثمنه سحت واتخاذها كفر واللعب بها شرك، والسلام
على اللاهي بها معصية وكبيرة موبقة والخائض يده فيها كالخائض يده في لحم
الخنزير " (الخ)، وهي كما ترى تدل على المقصود بجهات عديدة تظهر بالتأمل فيها
والمراجعة إليها، واشتمالها على ما يجب تأويله وهو قوله: لا صلاة له حتى يغسل
يده: لا يوجب الوهن فيها كما أن الاستبعاد من بعض فقراتها لا يوجب ذلك.
وتدل عليه أيضا مرسلة ابن أبي عمير (2) ورواية زيد الشحام (3) عن أبي عبد الله
عليه السلام وفيهما " قال: الرجس من الأوثان: الشطرنج " بناء على أن المراد تنزيله منزلته
" تأمل ".
ويؤيده رواية الحسين بن عمر بن يزيد (4) عن أبي عبد الله عليه السلام " قال يغفر
الله في شهر رمضان إلا لثلاثة صاحب مسكر أو صاحب شاهين أو مشاحن ".
وقريب منها رواية عمر بن يزيد (5) وهما وإن كانا في المزاولين بهما لكن تشعران
أو تدلان على عظمتهما إلى غير ذلك، فلا ينبغي الشبهة في كونه كبيرة، ويتم المقصود
في سائر أنواع القمار بعموم التنزيل في صحيحة معمر بن خلاد (6) عن أبي الحسن
عليه السلام المتقدمة، فلا يبعد استفادة التسوية بين أنواعه، بل لا يبعد أن يكون مراده

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 103 - من أبواب ما يكتسب به - صحيحة
ظاهرا.
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 102 - من أبواب ما يكتسب به الثانية ضعيفة بدرست والثالثة صحيحة على الأصح.
(3) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 102 - من أبواب ما يكتسب به الثانية ضعيفة بدرست والثالثة صحيحة على الأصح.
(4) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 102 - من أبواب ما يكتسب به الثانية ضعيفة بدرست والثالثة صحيحة على الأصح.
(5) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 102 - من أبواب ما يكتسب به - تقدم البحث
في سندها.
(6) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 104 - من أبواب ما يكتسب به.
29

من ذلك نفسي الفرق بين الشطرنج وغيره سيما مع قوله: " وكل ما قومر عليه
فهو ميسر ".
نعم أنه يستفاد من ذيل صحيحة معمر أن التصرف فيما قومر عليه أيضا كبيرة
لاطلاق التنزيل والهوهوية، ويمكن الاستدلال عليه بموثقة السكوني (1) عن أبي عبد الله قال: كان ينهى عن الجوز يجئ به الصبيان من القمار أن يؤكل "
و " قال: هو سحت " بضميمة روايتي الفضل بن شاذان وأعمش، وقد عد السحت فيهما
من الكبائر فينقح موضوعهما بالموثقة لكنهما ضعيفتان.
المسألة الخامسة
في الكذب
وقد اختلفوا في ماهية الصدق والكذب والمشهور أن الأول مطابقة الخبر للواقع
والثاني مخالفته له. وقد يقال: إن الأول مطابقة الحكم للواقع والثاني مخالفته له،
وأن رجوع الصدق والكذب إلى الحكم أولا وبالذات وإلى الخبر ثانيا وبالواسطة
قال به التفتازاني، وهذا بوجه نظير قول من قال: إن الألفاظ موضوعة للمعاني
المرادة إن كان مراد التفتازاني بالحكم الادراك الذهني والحكم النفسي وسيجئ
الاحتمالات في كلامه.
أقول: لا شبهة في أن الكلام بنفسه مع قطع النظر عن صدوره من متكلم
مريد دال على المعنى، فلو نقشت بواسطة الحوادث الكونية: كلمة " السماء
فوقنا " و " السماء تحتنا " فلا يمكن أن يقال: إنا لا نفهم منهما شيئا أصلا، أو هما لا يحكيان
عن مدلولهما، أو يقال: إن المدلول منهما شئ واحد، أو أن مدلولهما ليس موافقا
ولا مخالفا للواقع، فعليه تكون الجملة الأولى صادقة والثانية كاذبة.

(1) الوسائل: - كتاب التجارة - الباب 35 - من أبواب ما يكتسب به - موثقة
بالسكوني.
30

وتوهم أن ما يحكيان عنه ليس بنحو الدلالة، بل بنحو الخطور لأنس الذهن;
خلاف الوجدان وهو أصدق شاهد على عدم الفرق في الدلالة بين الكلام الصادر عن
متكلم شاعر وبين الصادر من غيره، فبطل القول بأن الألفاظ موضوعة للمعاني
المرادة، أو الوضع عبارة عن التعهد بإرادة المعنى من اللفظ، أو أن الدلالة عبارة
عن ابراز ما في الضمير وما فيه حاك عن الواقع، مضافا إلى أن الكلام الصادر من
المتكلم لا يحكي إلا عن الواقع، ونفس الأمر مستقيما من غير دلالة على المعاني
الذهنية وصورها، وهو وجداني جدا، فيكون الصدق والكذب من صفات الخبر أولا
وبالذات، وإنما يتصف المتكلم بكونه صادقا أو كاذبا لأجل اخباره، فلا محالة
تكون سعة اتصافه بالصادق والكاذب تابعة لاخباره، لعدم امكان أن يكون الخبر
صادقا وقد أخبر به المتكلم، ومع ذلك لا يكون صادقا وكذا في الكذب.
لكن ترى في العرف والعادة عدم اطلاق الكاذب على الخاطئ والمشتبه،
فلا يقال لمن صنف كتابا مشتملا على أحكام اجتهادية مخالفة للواقع: إنه كاذب،
ولا لمن أخبر باعطاء شئ لزيد غدا فمنعه مانع عنه: إنه كذب وإن كان معذورا.
وبالجملة إن العرف يطلقون على مثله الخطأ والاشتباه أو نحوها، ولا يقال: إنه
كاذب أو كذب فلان، ولازم ذلك أن يكون أمثال ذلك خارجة عن الصدق والكذب
بالمعنى المصدري، وإن لم تخرج عن أحدهما بمعنى حاصل المصدر أي نفس الكلام.
ويظهر من المنجد دخالة الاعتقاد فيه قال: كذب ضد صدق: أخبر عن الشئ بخلاف
ما هو مع العلم به.
ثم إن ما ذكرناه غير مقالة النظام فإنه لم يفرق بين الكلام والمتكلم أي
بين الصدق والكذب وبين الصادق والكاذب، بل الظاهر عدم التزام أحد به.
ويمكن أن يقال: إن عدم انتساب إلى المفتي بالأحكام المخالفة للواقع و
كذا غيره المخبر بمقالة كاذبة مع اعتقاده صدقها وأمثال ذلك: إنما نشأ من أدب
العشرة واحتراز الناس عن استعمال لفظ يشعر بالذم أو يدل عليه أو انتسابه إلى غيره
ولو مع إرادة خلاف ظاهره وإقامة قرينة عليه، والظاهر من قوله كذب فلان أو
31

هو كاذب في مقالاته إنه كذب عمدا، ولا أقل من اشعاره بذلك، وهو نحو إهانة
بالطرف أو خلاف أدب، بل قد يكون سلب انتساب بعض القبائح موجبا للهتك
والإهانة فيحترز الناس عنه، فإن في السلب أيضا اشعارا بالذم فلا يقال للرجل
الشريف: إنه ليس بسارق ولا زان.
فعدم انتساب الكذب، للاحتراز عن الإهانة، ولهذا نرى احترازهم عن ذلك
مختلفا باختلاف عظمة الطرف، فاستعمل الخطأ والاشتباه ونحوهما مكانه وشاع
الاستعمال فصار منشأ لتوهم عدم الصدق وإلا فلا ينبغي الاشكال في صدق الكاذب
على من أخبر بكلام مخالف للواقع، وإنما يختص ما ذكرناه بالكلام والأقوال
دون الأفعال فيقال لمن شرب الخمر خطأ: إنه شربها وهكذا فلعله لكثرة الاطلاع
بالأقوال المخالفة للواقع خطأ فإن الكتب ملؤ من ذلك، فصارت كثرة استعمال
الخطأ ونحوه منشأ لذلك بخلاف الاشتباه في الأفعال، فإن الابتلاء بها قليل في
موارد الاستعمال " فتدبر ".
ثم إن التفتازاني (1) فسر قول صاحب التلخيص: صدق الخبر مطابقته
للواقع، بمطابقة حكمه، فلا يخلو مراده منه، إما الحكم النفساني والادراك بأن
هذا ذاك أو غيره، أو الادراك بوقوع النسبة أو لا وقوعها، كما يؤيده قوله بعد ذلك
في مقام الجواب عن الاشكال بأن القضية المشكوك فيها ليست متصفة بصدق ولا
كذب، لعدم الحكم فيها: إن الحكم بمعنى ادراك وقوع النسبة أو لا وقوعها، و
حكم الذهن بشئ من النفي والاثبات وإن لم يتحقق، لكن إذا تلفظ بالجملة
الخمرية مع الشك، بل مع القطع بالخلاف، فكلامه خبر لا محالة (انتهى ملخصا)
فيكون حاصل مراده أن ادراك النفس وحكمها بأن هذا ذاك، أو ادراكه
بوقوع النسبة أو لا وقوعها متصف بالكذب أولا وبالذات; ولأجله يتصف الخبر به.
وفيه ما لا يخفى، فإن لازمه أن المخبر بقوله: السماء تحتنا، مع اعتقاده
بأنها فوقنا لا يكون صادقا ولا كاذبا، ولا مقالته صدقا ولا كذبا، لأن اعتقاده وادراكه

(1) راجع المطول - ص 31 - ط عبد الرحيم.
32

موافق للواقع، واخباره مخالف له ولاعتقاده، فلا يكون اخباره صادقا لمخالفته
لهما ولا كاذبا لأن موصوفية الكلام بالكذب على هذا المبنى ثانيا وبواسطة الادراك
النفساني المخالف للواقع، وليس الأمر كذلك ههنا " فتدبر ".
أو كان مراده من الحكم ايقاع المتكلم وجعله الخبر للمبتدأ وفيه أن هذا
فعل المتكلم وليس له محكي يطابقه أو لا يطابقه.
أو كان مراده منه النسبة الحكمية وهو مع كونه خلاف ظاهرهم مقدوح فيه.
بأن النسبة الحكمية التصورية ليس لها واقع محكي يطابقها ولا يطابقها، و
التصديقية منها عين الخبر، فإنه ليس إلا ما يحكى عن كون هذا ذاك أو هذا لذاك.
ولو كان مراده منه الحكم بالوقوع أو اللاوقوع. يرد عليه مضافا إلى ما تقدم:
أن الحكم الكذائي مجردا عن متعلقه لا يتصف بالصدق والكذب بل لا تحقق له،
وباعتبار متعلقه يتصف ثانيا وبالعرض بهما لما عرفت من أن الجملة الخبرية تدل على
مفادها ولو لم يصدر من متكلم شاعر، فالحكم بالوقوع واللاوقوع لا دخالة له
لاتصافها بهما
ثم إن الظاهر أن الكذب لا يتقوم بالقول واللفظ بمعنى كونه قولا خارجا من
الفم معتمدا على المخارج مخالفا مضمونه للواقع حتى لا تكون الإشارة والكتابة،
بل المبالغات والكنايات والمجازات كذبا، فإن الإشارة والكتابة ليستا ألفاظا،
بل الأولى فعل والثانية نقش حاك عن الواقع.
وفي المبالغات وتاليتيها لم تستعمل الألفاظ في المعاني التي يراد الاخبار بها
جدا، وليست من قبيل استعمال اللفظ في غير ما وضع له حتى المجازات على ما هو
التحقيق من أنها من قبيل الحقائق الادعائية، لا كما ذكره السكاكي في الاستعارة بل
باستعمال اللفظ في معناه الموضوع له وتطبيق المعنى على المراد الجدي ادعاء ففي
مثل " زيد أسد " استعمل لفظ الأسد في معناه، وادعى أن زيدا مصداق لماهية الأسد، فعليه
لا يكون قوله ذلك مع عدم شجاعة زيد كذبا، أما بالنسبة إلى المفاد الاستعمالي
فلعدم تعلق الإرادة الجدية به وسيأتي اعتباره في الصدق والكذب لا الجد مقابل الهزل
33

بل مقابل الاستعمال، وأما بالنسبة إلى المعنى المراد أي الاخبار بالشجاعة فلعدم التلفظ
به، وأوضح منها الحال في الكنايات والمبالغات، ولا مطلق الإيصال إلى خلاف الواقع
والافهام له والدلالة عليه حتى يكون مثل نصب علامة الفرسخ على ما دونه للدلالة
على الفرسخ، واظهار الكلام جزما لافهام اعتقاده بمضمونه، والأذان قبل دخول الوقت
للاعلام بدخوله، والمشي على زي الأشراف، والأغنياء لإرائة خلاف ما هو عليه: كذبا،
ولازمه أن يكون في بعض الأحيان كذب واحد أكاذيب كثيرة، بل غير محصورة
كمن أخبر بأن اليوم الكذائي جمعة وكان سبتا، فإن لازم كونه جمعة أن يكون
بعده سبتا، وبعد بعده أحدا وهكذا وقبله خميسا وقبل قبله أربعاء وهكذا
والالتزام بها كما ترى.
بل الظاهر أن الكذب بالمعنى المصدري عرفا عبارة عن الاخبار المخالف للواقع.
والاخبار لم ينحصر باللفظ والقول الخارج من الفم بل يشمل الكتابة والإشارة ونحوهما
عرفا كما يطلق على ما في الصحف والمجلات واليوميات وفي مثل المجازات وتاليتيها
يكون المتكلم مخبرا عن لازم كلامه لا عن مضمونه، فالقائل بأن زيدا كثير الرماد
أخبر عن سخائه، فلو لم يكن زيد شجاعا ولم يكن في كلامه تأول آخر يكون
المخبر كاذبا والخبر كذبا وكذا في النظائر، وفي مثل جعل النصب دون الفراسخ
إذا لم يكتب عليها أن هذا رأس الفرسخ لم يكن مجرد الوضع اخبارا وكذبا عرفا،
والمؤذن قبل الوقت لم يخبر بالوقت، والماشي على غير زيه لم يخبر بشئ ولا يقال إنه أخبرني بكذا، ولوازم المخبر عنه ليست باخبار، بل الاخبار إنما هو عن الملزوم
وهي لوازم المخبر عنه.
وما ذكرناه هو الموافق لفهم العرف، فعليه ليس الاخبار أو الخبر عبارة عن
القول أو اللفظ المحتمل للصدق والكذب بل أعم منه، ومما قام مقامه، لكن لا بنحو
يشمل مطلق ما له حكاية.
ولعل السر فيه أن الصدق والكذب عبارة عن القاء الجملة الخبرية لإفادة مضمونها
أو لإفادة جملة أخرى فتندرج فيهما المجازات والمبالغات والكنايات إذا أريد بها
34

الاخبار، وكذا يدخل الكتابة وإن احتمل فيها ما يأتي في الإشارة وهو أن الإشارة
المستعملة مكان الجملة الاخبارية كالإشارة (بنعم) و (لا) في جواب هل زيد قائم؟
فالظاهر أن اطلاق الصدق والكذب عليها باعتبار قيامها مقام القول عرفا بخلاف
سائر الأفعال الحاكية عن خلاف الواقع فإنها ليست من مقولة الاخبار والأقوال ولا
نائبا منابها، بل لها دلالة مستقيمة على الواقع في مقابل الاخبار.
فأذان المؤذن قبل الوقت ليس بكذب، لأن مقالته أي فصوله بما أنها حاكية
عن معانيها لا تحكي عن دخول الوقت لا مطابقة ولا التزاما، بل ايقاع هذا العمل
كاشف عن دخول الوقت للتعارف والعادة، ففرق بين الأعمال القائمة مقام الأقوال و
غيرها مما هي كاشفة عن واقع لزوما.
وأما لوازم المخبر به في المثال المتقدم أي الاخبار بأن هذا يوم السبت فلا
يقال فيها: إنه أخبر بأمور غير محصورة لأنه لم يخبر إلا عن يوم السبت، واللوازم
المذكورة لوازم المخبر عنه الوحداني ففي قوله: زيد طويل النجاد، اخبار عن طول
قامته أو شجاعته، لا عن طول النجاد، بخلاف قوله: هذا يوم السبت فإنه اخبار عن
مضمونه، لا عن الأيام الأخر.
ثم إن الكذب هل يتقوم على افهام الغير مضمون الجملة فلا يقال للجملة
التي لا مخاطب لها أنها صدق أو كذب، أو لا يتوقف إلا على صدور الجملة المخالفة
للواقع من المتكلم.
يمكن أن يقال: إن الصدق والكذب متفرعان على الحكاية عن الواقع، والحكاية
فرع الدلالة أو هي هي، ومعنى الدلالة الفعلية على شئ كون الكلام هاديا ومرشدا إلى
الواقع أو إلى مفاد الجملة المنطبق عليه، والدلالة الفعلية بما أنها من الأمور الإضافية
تحتاج إلى الأطراف من الدال والمدلول والمدلول عليه فلا يتصف الكلام بالدلالة الفعلية
إلا إذا كان عند المتكلم مخاطب مهدي بكلامه بالفعل إلى مضمون الجملة الحاكية عن
الواقع، ومع فقد المهدي بالفعل لا تكون الدلالة والهداية فعلية، لأن المتضائفين
متكافئان قوة وفعلا بل يكون الكلام دالا اقتضاء أي له اقتضاء الدلالة لا فعليتها،
35

وليس المتكلم مهديا وهاديا باعتبارين، لأن كلامه ليس هاديا له إلى الواقع أو إلى
مدلوله التصديقي.
ويؤيد ذلك ما قال المحقق الطوسي رحمه الله (1) بلفظه: دلالة اللفظ كما كانت
وضعية كانت متعلقة بإرادة المتلفظ الجارية على قانون الوضع، فما يتلفظ به ويراد
به معنى ما، ويفهم عنه ذلك المعنى يقال: إنه دال على ذلك المعنى، وقول شارح
حكمة الاشراق (2) فالدلالة الوضعية تتعلق بإرادة اللافظ الجارية على قانون الوضع
حتى أنه لو أطلق وأراد به معنى وفهم منه لقيل إنه دال عليه وإن فهم غيره، فلا يقال إنه دل عليه.
وهما كما ترى ظاهران في أن الدلالة كما هي متوقفة على إرادة اللافظ متوقفة
على فهم المخاطب فإذا لم يدل الكلام على مضمونه فعلا لا يعقل مطابقته للواقع
ومخالفته، لكونهما متفرعتين على الحكاية والدلالة، ومع فقدهما لا يتصف الكلام
بالصدق والكذب، والمتكلم بالصادق والكاذب بل لازم ذلك عدم الكذب في الأخبار
التي لا تفيد المخاطب فايدة خبرية كقوله: السماء تحتنا لمن يعلم مخالفته للواقع.
فيعتبر فيه أن يكون الكلام دليلا وهاديا بالفعل إلى الواقع ومع العلم ليس كذلك.
ويمكن أن يناقش فيه بأن الكذب ليس عبارة عن مخالفة مضمون الجملة
بعد الدلالة بهذا المعنى الذي ظاهر كلام العلمين المتقدمين أي بعد إرادة المتكلم
وفهم السامع، بل الصدق والكذب عبارة عن موافقة مضمونها ومخالفته للواقع
فحينئذ يقال: إن جملة " السماء تحتنا والسماء فوقنا " لا محالة يكون لهما مضمون ومعنى
مع قطع النظر عن فهم السامع; وإلا لزم أن لا يفهم منهما معنى إلا على وجه دائر،
فإذا كان لهما مضمون فلا محالة يكون معنى تصديقي لا تصوري ولازمه مخالفة الأولى
للواقع دون الثانية وهما الصدق والكذب، فإذا صدرتا من المتكلم بنحو الجد
يتصف لا محالة بالصادق والكاذب فالدلالة بالمعنى المتقدم غير دخيلة في صدق الكلام
والمتكلم وكذبهما.

(1) راجع منطق شرح الإشارات - في شرح الإشارة - 7.
(2) راجع هوامش اللئالي في المنطق - في مبحث الدلالات.
36

ولو سملت دخالتها فيهما فيمكن أن يقال: إن الدلالة عبارة عن كون الشئ
بحيث يلزم من العلم به العلم بشئ آخر، فهذا المعنى التعليقي حقيقة الدلالة فلا
تكون الدلالة اقتضائية وتعليقية، بل معناها عبارة عن أمر تعليقي حاصل بالفعل،
فالكلام بهذا المعنى دال بالفعل على معناه، لأنه بحيث يلزم من فهمه فهم المعنى،
وهو أمر فعلي أي هذا الأمر التعليقي حاصل بالفعل.
ولعل مراد العلمين ليس ما يوهم ظاهر كلامهما، بل يكون مرادهما أن
اللفظ إذا أطلق وأريد به المعنى بالإرادة الاستعمالية وكان بحيث يفهم منه المعنى
على قانون الوضع: كان دالا، فقوله: رأيت أسدا إذا أريد به الرجل الشجاع من
غير قيام قرينة: لا يدل عليه; لعدم كونه مفهما للمعنى المقصود، بخلاف ما إذا عمل
المتكلم بقانون الوضع وأقام القرينة فإنه يدل على المعنى، وكذا الحال في مخالفة
قانون الوضع أو أطلق اللفظ وأراد المعنى الحقيقي لكن أقام قرينة المجاز،
فعليه لا يكون مرادهما مما ذكرا تبعية الدلالة للإرادة ولا تبعيتها لفهم المخاطب
فعلا بوجه " تأمل ".
ثم إن ما ذكرناه أخيرا متفرعا على ما تقدم: غير وجيه، لأن باب دلالة الألفاظ
على معانيها غير باب مطابقة مضمون الكلام لنفس الأمر والثاني ليس من باب
الدلالة في شئ وما هو من بابها عبارة عن احضار المعاني في ذهن المخاطب بالقاء
الكلام، وهو حاصل في الاخبار الضروري الصدق أو الكذب.
ولو قلنا: بأن الدلالة عبارة عن ارشاد المخاطب إلى معاني الألفاظ: تكون في المقام
حاصلة أيضا، فإنها لا محالة تحضر المعاني في ذهن المخاطب، وكونها ضروريا غير
مربوط بالدلالة.
ثم إن المبالغات والمجازات والكنايات إنما تتصف بالصدق والكذب إذا أريد
بها الاخبار عن واقع، ولو كان لازما لها دون ما أريد بها انشاء المدح والذم، فإنها
لا تتصف بهما بالغة ما بلغت، وفهم المعنى التصديقي عن الانشاء ليس بمخبر به نظير انشاء
البيع الذي ينتقل الذهن منه إلى كون البايع سلطانا عليه، وانشاء الزواج الدال على
37

كون المرأة خلية فلا تتصف لأجله بهما، وأما قضية جواز مدح من يستحق الذم أو
العكس فهي أمر آخر.
ثم " إن التحقيق " أن الميزان في صدق المتكلم وكذبه استعمال الجملة الاخبارية في
معنى موافق أو مخالف للواقع فمع عدم الاستعمال فيه أو الاستعمال في معنى مخالف لظاهر
الكلام المخالف للواقع لم يكن كاذبا إذا كان المعنى المراد موافقا للواقع، فالمتلفظ
بألفاظ مهملة لا يكون كاذبا إذا لم يستعملها في معنى، وكذا المتلفظ بألفاظ لا يعلم
اللافظ أنها موضوعة أو مهملة أو لا يعلم مضمون الجملة مطلقا أو لا يعلم أنها انشائية
أو اخبارية، كل ذلك بشرط عدم الاستعمال في خصوص معنى مخالف للواقع ولو غلطا
وعلى خلاف قانون الوضع.
ولو علم أن لها معنى كاذبا اجمالا من غير العلم بخصوص المعنى ولو اجمالا،
فلا يبعد عدم الاتصاف به، ويحتمل الاتصاف إذا ألقى الكلام لإفادة المعنى الواقعي،
ولو علم أن مضمونها إما هذا أو ذاك وكان أحدهما موافقا والآخر مخالفا، فإن
ألقى الكلام بلا استعمال في المعنى الكاذب أو في المعنى الواقعي لا يكون كاذبا،
وإلا فعلى الأول كاذب وعلى الثاني لو صادف المخالفة لا يبعد أن يكون كاذبا.
ولو علم أن الجملة موضوعة لخصوص معنى غير موافق للواقع لكن لا يعرف
معنى ألفاظها بأن لا يعلم أن في قوله: رأيت أسدا أي لفظ بمعنى الحيوان المفترس و
إن علم أن مضمون الجملة مفيد لرؤيته، فحينئذ إن استعمل مجموع الجملة في المعنى:
يكون كاذبا مع عدم الموافقة، وإن لم يكن استعماله على قانون الوضع وكان غلطا
نظير أن يستعمل الأسد في رجل بلا نصب قرينة وقال: رأيت أسدا وأراد زيدا وكان
مخالفا للواقع: فإنه كاذب بلحاظ هذا الاستعمال وإن كان صادقا بحسب ظاهر لفظه
بأن رأى أسدا وبالجملة الميزان في الكذب والصدق مخالفة المعنى المستعمل فيه
وموافقته للواقع، لا صحة الاستعمال.
هذا إن استعمل مجموع الجملة في المعنى بلا لحاظ استعمال المفردات، وأما
إن لاحظ استعمالها، فإن استعمل خصوص بعض الألفاظ في خصوص بعض المعاني و
38

إن كان الاستعمال خطأ يتصف بالكاذب والصادق وإن ألقى الكلام بلا إرادة استعمال ألفاظه
في معانيه بل لغاية فهم المخاطب العارف بالمعنى لا يكون كاذبا على اشكال ولو ألقى الكلام
ليكون كل لفظ منه حاكيا عن معناه الواقعي فالظاهر الاتصاف إن أراد من الألفاظ معانيها
الواقعية وإن لم يعرفها نظير الاستعمال في المعلوم بالاجمال أي واقعه المعلوم عند الله تعالى
ومما ذكرناه من اعتبار الاستعمال في المعنى المخالف للواقع في الكذب
لا يبقى اشكال في عدم كون التورية كذبا، ضرورة أن الموري استعمل الجمل في المعاني
الموافقة للواقع ولو على خلاف قانون الوضع والمحاورات كاستعمال اللفظ المشترك
في غير المعنى المسؤول عنه مثلا فإن قال في جواب قوله أزيد في الدار؟: ليس زيد
في الدار مريدا غير ما في السؤال، أو قال: ليس في الدار مريدا غيره ليس كاذبا، لأن
المستعمل فيه موافق للواقع فرضا، والظاهر المخالف له غير مستعمل فيه، بل لو
استعمل الألفاظ في معانيها وأراد بحسب الجد غيرها بنحو من الادعاء لا يكون كاذبا
وهو ظاهر، كما أن خلف الوعد ليس كذبا وهو معلوم، وكذا الوعد ولو مع
اضمار عدم الانجاز لأنه انشاء لا اخبار، هذا جملة من الكلام في موضوعه.
وأما حكمه فحرمته في الجملة ضرورية لا تحتاج إلى إقامة الدليل عليها و
إن كان في دعوى حكم العقل بها نظر فالأولى البحث عن خصوصيات أخر.
منها الظاهر أن الأدلة منصرفة عن الكذب عند نفسه مع عدم مخاطب بل الظاهر
انصرافها عن التكلم به عند مخاطب لم يسمع الكلام لصممه أو لم يفهم معناه لعدم
تميزه أو جهله به فإن المتكلم بالجملة الكاذبة عند المذكورين ليس بمخبر وإن
صدر منه الكذب، والمنع عنه باحتمال أن يكون مراد الشارع عن المعنى عنه تنزه
لسان المتكلم عن التقول بالكذب: احتمال عقلي غير مناف لانصرافها، وفي
الروايات اشعارات وتأييدات لذلك كقوله: " الكاذب على شفا مخزاة وهلكة " (1)
وقوله: " من كثر كذبه ذهب بهائه " (2) وقوله: " إن مما أعان الله به على
الكذابين النسيان " (3) وقوله: " إن الكذاب يكذب حتى يجئ بالصدق فلا يصدق " (4)

(1) الوسائل - كتاب الحج - الباب 138 - من أبواب أحكام العشرة سيأتي البحث في سندها إن شاء الله.
(2) الوسائل - كتاب الحج - الباب 138 - من أبواب أحكام العشرة سيأتي البحث في سندها إن شاء الله.
(3) الوسائل - كتاب الحج - الباب 138 - من أبواب أحكام العشرة سيأتي البحث في سندها إن شاء الله.
(4) الوسائل - كتاب الحج - الباب 138 - من أبواب أحكام العشرة سيأتي البحث في سندها إن شاء الله.
39

وقوله: " الكذب يسود الوجه " (1) وقوله: " اجتنبوا الكذب وإن رأيتم فيه
النجاة فإن فيه الهلكة " (2) إلى غير ذلك.
وهل يلحق بالخبر الكاذب ما يفيد فائدته كالتورية والانشاء كما حكى
الشيخ الأنصاري (3) عن بعض الأساطين: أن الكذب وإن كان من صفات الخبر
إلا أن حكمه يجري في الانشاء المنبئ عنه كمدح المذموم، وذم الممدوح، و
تمنى المكاره، وترجى غير المتوقع (الخ)، وكالأفعال المفيدة فائدته كتأوه السالم
لإفادة العلة، وتلبس الغني لباس الفقير لإفادة فقره، وتلبس الجاهل لباس العلماء
لإفادة كونه منهم، ونصب العلامة دون الفرسخ لإفادة كونها رأسه، ونصب الرايات
والبيارق لإفادة إقامة العزاء مع مخالفتها للواقع، وأمثال ذلك.
ففي الجواهر (4) قد يقال: إنه وإن كان من صفات الخبر لكن يجري حكمه
في الانشاء المنبئ عنه مع قصد الإفادة، وأما الكذب في الأفعال فلا يخلو من اشكال
والتورية والهزل من غير قرينة داخلان في اسمه أو حكمه. (انتهى).
أو لا يلحق شئ منها به مطلقا، أو يفصل بين الأخبار المفيدة فائدته كالتورية
والهزل وبين غيرها، أو بين الكلام المفيد فائدته وغيره فلا تلحق به الأفعال
غاية ما يمكن الاستشهاد به لالحاق الجميع أن يقال: إن العرف مساعد لالقاء
الخصوصية عن الكذب إلى كل ما يفيد فائدته، فإنه عبارة عن جملة اخبارية متقومة
بألفاظ وهيئة خاصة حاكية عن معنى تصديقي مخالف للواقع فإذا قيل: إن الكذب
قبيح عقلا أو حرام شرعا، لا يرى العقل والعرف قبحه وحرمته متعلقين على الألفاظ
الخاصة والهيئات المخصوصة والمعاني التصديقية، لا بنحو تمام الموضوع ولا جزئه،
سيما مع أن الظاهر أن تكون الحرمة شرعية بملاك القبح العقلي وإن كان العقل

(1) المستدرك - كتاب الحج - الباب 120 - من أبواب أحكام العشرة.
(2) المستدرك - كتاب الحج - الباب 120 - من أبواب أحكام العشرة.
(3) في المسألة الثامنة عشر - من النوع الرابع - في الكذب.
(4) في النوع الرابع فيما هو محرم في نفسه مما يكتسب به - في حرمة الكذب
تعمدا.
40

لا يحكم بالقبح المستلزم لصحة العقوبة لكن يدرك أنه قبيح ومذموم ولو أخلاقا و
بعد حكم الشرع يرى أنه بمناطه مع أنه من الواضح لدى العقول أن لا دخالة
للألفاظ هيئة ومادة، وكذا للمعاني بما أنها مستفادة من خصوص تلك الألفاظ في
القبح والمذمومية بل يدرك أن الذم والقبح لإرائة خلاف الواقع والقاء ما يكون مخالفا له.
وعلى هذا كل كلام أو فعل يفيد فائدته ملحق به إذا أوجده الفاعل لإفادة
خلاف الواقع كالتورية والهزل والانشاءات والأفعال المفيدة خلاف الواقع.
لا أقول: إن العلة هي الاغراء حتى يمنع ذلك بدعوى الاجماع على حرمة
الكذب ولو لم يوجبه.
بل أقول: إن تحريمه بملاك قبحه وهو موجود فيما يفيد فائدته أو أقول: إن
العرف يرى أن الألفاظ ومعانيها التصديقية غير دخيلة في موضوع الحكم ولو بنحو
جزء الموضوع، وأن تمام الموضوع للحرمة هو ما يحكى عن خلاف الواقع بأي
دال كان.
ويمكن تأييد المدعى أو الاستشهاد له بما وردت في التورية وما يقتضي الجمع
بينها كما روى عن الإحتجاج (1) أنه سئل الصادق عليه السلام عن قول الله عز وجل في
قصة إبراهيم عليه السلام " قال: بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون قال: ما
فعل كبيرهم وما كذب إبراهيم عليه السلام قيل: وكيف ذلك فقال: إنما قال إبراهيم:
فاسألوهم إن كانوا ينطقون إن نطقوا فكبيرهم فعل وإن لم ينطقوا فلم يفعل كبيرهم
شيئا فما نطقوا وما كذب إبراهيم " ثم ذكر تورية يوسف عليه السلام وإبراهيم عليه السلام في قضية
أخرى وكيفية الموارات فيها، ويظهر منها أنهما ما كذبا موضوعا بل أخبرا تورية.
والظاهر من عدة من الروايات أنهما أرادا الاصلاح فلم يكن قولهما كذبا حكما.
كرواية الحسن الصيقل (2) " قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إنا قد روينا عن

(1) ص - 194 - مرسلة.
(2) الوسائل - كتاب الحج - الباب 141 - من أبواب أحكام العشرة - مجهولة
بالصيقل.
41

أبي جعفر عليه السلام في قول يوسف عليه السلام: أيتها العير إنكم لسارقون فقال: والله ما سرقوا
وما كذب وقال إبراهيم عليه السلام بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون فقال:
والله ما فعلوا وما كذب قال: فقال أبو عبد الله عليه السلام: ما عندكم فيها يا صيقل؟ قال:
قلت: ما عندنا فيها إلا التسليم قال: فقال: إن الله تعالى أحب اثنين وأبغض اثنين
أحب الخطر (1) فيما بين الصفين وأحب الكذب في الاصلاح وأبغض الخطر في الطرقات
وأبغض الكذب في غير اصلاح إن إبراهيم عليه السلام إنما قال: بل فعله كبيرهم هذا،
أراد الاصلاح ودلالة على أنهم لا يفعلون وقال يوسف عليه السلام إرادة الاصلاح.
ورواية عطا عن أبي عبد الله عليه السلام (2) " قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله لا كذب على
مصلح ثم تلا: " أيتها العير إنكم لسارقون " ثم قال: " والله ما سرقوا وما كذب " ثم تلا:
بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون ثم قال: " والله ما فعلوه وما كذب "
ويمكن الجمع بأن يقال: إن المنفي في رواية الإحتجاج موضوع الكذب
كما هو صريحها وفي الروايتين وما بمعناهما حكم الكذب فيكون المراد أن
التورية محكومة بحكم الكذب إذا لم تكن للاصلاح ومع كونها له ليست بكذب
أي حكما أيضا كما ليست به موضوعا، ويؤيده ما دلت على أن المصلح ليس بكذاب
كما في صحيحة معاوية بن عمار (3).
وعن كتاب الإخوان (4) بسنده عن الرضا عليه السلام " قال: إن الرجل ليصدق على
أخيه فيناله عنت من صدقه فيكون كذابا عند الله، وإن الرجل يكذب على أخيه،
يريد به نفعه، فيكون عند الله صادقا ".
وعن أبي عبد الله عليه السلام (5) " قال: الكلام ثلاثة: صدق، وكذب، واصلاح بين

(1) الخطر: التبختر في المشي.
(2) الوسائل: - كتاب الحج - الباب 141 - من أبواب أحكام العشرة - مجهولة
بمعمر بن عمرو وعطاء
(3) الوسائل - كتاب الحج - الباب 141 - من أبواب أحكام العشرة - الثالثة مرسلة.
(4) الوسائل - كتاب الحج - الباب 141 - من أبواب أحكام العشرة - الثالثة مرسلة.
(5) الوسائل - كتاب الحج - الباب 141 - من أبواب أحكام العشرة - الثالثة مرسلة.
42

الناس " وبالجملة مقتضى الجمع بين رواية الإحتجاج وغيرها أن التورية لا تجوز
إلا مع إرادة الاصلاح وفي مورده مع امكانها تجب أو ترجح فتستفاد من مجموع
الروايات عدم جواز التورية إلا في مورد الاستثناء وليس ذلك إلا لأجل الحاق
الصدق المفيد فائدة الكذب والموجب لإفادة خلاف الواقع بالكذب، فيتعدى إلى
الانشاء المفيد فائدته، بل الأفعال إذا أفادت فائدته.
ويمكن تأييد ذلك برواية أبي بصير (1) التي قد يقال: إنها موثقة: قال قيل
لأبي جعفر عليه السلام وأنا عنده: إن سالم بن أبي حفصة وأصحابه يروون عنك أنك تكلم
على سبعين وجها لك منها مخرج فقال: ما يريد سالم مني، أيريد أن أجئ بالملائكة
والله ما جاءت بها النبيون، ولقد قال إبراهيم عليه السلام: إني سقيم، وما كان سقيما و
ما كذب، ولقد قال إبراهيم عليه السلام: بل فعله كبيرهم هذا، وما فعله وما كذب، ولقد
قال يوسف عليه السلام: أيتها العير إنكم لسارقون، والله ما كانوا سارقين وما كذب "
فإن الظاهر أن سالما أراد الإيراد على أبي جعفر عليه السلام بأنه يوري في الكلام و
يأتيه على وجوه ليمكن له المفر عند الإيراد عليه فأجاب عنه بأنه لا بأس به في
مورد تقتضي المصلحة كما فعل إبراهيم يوسف عليهما السلام
لكن الأظهر أن الرواية بصدد دفع الاشكال عن أصل التورية فيظهر منها أن
قول إبراهيم عليه السلام ويوسف عليه السلام من قبيل التورية فيكون مفادها نحو مفاد رواية
الإحتجاج، فتحصل مما مر أن مقتضى رواية الإحتجاج وأبي بصير كون كلام إبراهيم
ويوسف عليهما السلام تورية، ومقتضى الروايات المتقدمة أنهما أرادا الاصلاح فما كذبا،
ومقتضى المجموع أن التورية كذب في وعاء التشريع، ولها مصداقان، محبوب و
مبغوض، وإنما سماها كذبا، لا دعاء كونها ذلك.
ويؤيد ما ذكرناه بل يدل عليه ما وردت في استثناء عدة الرجل أهله إذا لا
يريد أن يتم لهم من الكذب.

(1) الوافي - كتاب الايمان والكفر - باب الكذب - من أبواب ما يجب على المؤمن
اجتنابه - ج 3 - ص 158.
43

كرواية عيسى بن حسان (1) " قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: كل كذب
مسؤول عنه صاحبه يوما إلا كذبا في ثلاثة; رجل كايد في حروبه فهو موضوع عنه
أو رجل أصلح بين اثنين يلقي هذا بغير ما يلقي به هذا يريد بذلك الاصلاح ما بينهما
أو رجل وعد أهله شيئا وهو لا يريد أن يتم لهم ".
ورواية المحاربي (2) عن جعفر بن محمد عليه السلام عن آبائه (ع) عن النبي صلى الله عليه وآله " قال ثلاثة
يحسن فيهن الكذب: المكيدة في الحرب، وعدتك زوجتك والاصلاح بين الناس "
وفي رواية الحارث الأعور (3) " ولا يعدن أحدكم صبيه ثم لا يفي له، إن الكذب يهدي
إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار " (الخ).
بأن يقال: إن حقيقة الوعد والوعيد ليست اخبارا عن واقع يطابقه أو لا
يطابقه بل تعهد وتهديد وإن كانا على نحو الاخبار والقاء الجملة الخبرية نظير
الجعل بنحو الاخبار في باب الجعالة فإذا قال: من رد ضالتي أعطيه كذا، ليس اخبارا
بل انشاء بصورة الاخبار أو اخبار بداعي الانشاء، فقوله: إني أعطيك غدا كذا.
ليس اخبارا بل انشاء قرار وعهد، وله إنجاز وخلف، لا صدق وكذب، واطلاق صادق
الوعد والوعد المكذوب أو غير المكذوب ليس باعتبار الاخبار عن واقع، بل بنحو
من المشابهة والتأول، كقوله: يبكي كذبا، ويتأوه ويتمنى ويترجى كذبا، و
نظائرها.
فتحصل من ذلك أن عدة الرجل أهله ليست من قبيل الاخبار، ومع ذلك استثناء
من الكذب، فيستكشف منه أن الكذب في المستثنى منه أعم من الكذب الحقيقي
والحكمي الادعائي فيصح الاستثناء منه، فيستفاد منها أن كل ما كان له نحو كشف عن
الواقع، ولو كان من قبيل الانشاءات: داخل في الكذب حكما، ومحرم إلا ثلاثة ويؤيد

(1) الوسائل - كتاب الحج - الباب 141 - من أبواب أحكام العشرة - الأولى
ضعيفة بعيسى بن حسان وأبي مخلد والثانية ضعيفة بأحمد بن الحسين وغيره.
(2) الوسائل - كتاب الحج - الباب 141 - من أبواب أحكام العشرة - الأولى
ضعيفة بعيسى بن حسان وأبي مخلد والثانية ضعيفة بأحمد بن الحسين وغيره.
(3) الوسائل - كتاب الحج - الباب 140 - من أبواب أحكام العشرة - ضعيفة
بأبي وكيع.
44

أيضا بما دل على أن الهزل محرم، كمرسلة سيف بن عميرة (1) عن أبي جعفر عليه السلام " قال:
كان علي بن الحسين عليه السلام يقول لولده: اتقوا الكذب، الصغير منه والكبير، في كل جد
وهزل " ورواية الأصبغ بن نباتة (2) " قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: لا يجد عبد طعم الايمان،
حتى يترك الكذب، هزله وجده " بدعوى أن الهزل مقابل الجد، والجد اخبار حقيقة،
والهزل ليس باخبار جدا، بل القاء الجملة الخبرية، لا بداعي الاخبار، بل بداعي
المزاح والهزل، فلا يكون له واقع لا يطابقه.
ودعوى أن المراد من الكذب هزلا الاخبار عن الواقع بداعي الهزل: خلاف
الظاهر، لأن الاخبار الحقيقي جد، لأي غاية كان، فالهزل المقابل له هو ما لا يكون
اخبارا جدا، لا أنه اخبار جدا لغاية الهزل، فاتضح منها أن ما يفيد فائدة الخبر كذب
في عالم التشريع، وإن لم يكن اخبارا عن الواقع هذا غاية ما يمكن الاستشهاد عليه
لا لحاق غير الكذب به انشاء كان أو فعلا.
ويمكن المناقشة في الأول، بأن القاء الخصوصية إنما هو في موارد يفهم العرف
أن الموضوع الملقي ليس موضوعا للحكم، وإنما أتى به للمثالية، أو لجري العادة،
ونحو ذلك، كقوله: " رجل شك بين الثلاث والأربع " (3); وقوله: " أصاب ثوبي دم
رعاف " (4) أو " رجل أفطر يوما من شهر رمضان " (5) ونظائرها مما يرى العرف أن
الحكم للشك والدم والافطار، لا للرجل والثوب، وأما إذا كان الحكم متعلقا بموضوع
وأريد اسرائه منه إلى موضوع آخر بوجوه ظنية كما نحن فيه، حيث تعلق الحكم
على الكذب، ولا يفهم العرف منه غيره، لكن أريد اسرائه منه إلى ما يفيد فائدته،

(1) الوسائل - كتاب الحج - الباب 140 - من أبواب أحكام العشرة.
(2) الوسائل - كتاب الحج - الباب 140 - من أبواب أحكام العشرة - حسنة بقاسم
بن عروة.
(3) الوسائل - كتاب الصلاة - الباب 10 - من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
(4) الوسائل - كتاب الطهارة - الباب 42 - من أبواب النجاسات.
(5) الوسائل - كتاب الصوم - الباب 8 - من أبواب ما يمسك عنه الصائم.
45

بالوجوه الظنية والاعتبارية، فهو قياس، لا القاء خصوصية عرفا.
وفي الثاني، بأن اثبات كون مناط الحرمة هو القبح العقلي غير ممكن في
المقام، لعدم دليل عليه بل يحتمل أن يكون عنده مناط آخر مجهول عندنا، والكشف
الظني لا يغني من الحق شيئا وبالجملة لا دليل على أن ما أدركه العقل من القبح
هو العلة للحكم وهو يدور مدارها توسعة وتضييقا، وصرف احراز الاقتضاء لا يفيد
شيئا، مع امكان منع القبح في الأفعال والانشاءات الكاشفة عن خلاف الواقع بمجرد
ذلك إذا لم ينطبق عليها عناوين أخر، فمثل مدح من لا يستحق المدح، وذم من لا
يستحقه، وسؤال غير الفقير، ونظائرها، ليس قبحها بمناط الكشف عن غير الواقع
بل نفس تلك العناوين قبيحة بذاتها، لا بملاك الكذب، ولهذا لا قبح في التعفف، و
إن كان بغرض افهام الغني، وإن يحسبه الجاهل غنيا من التعفف، ولا قبح في انشاء
البيع الكاشف عن مالكية المنشئ، وإن كان بغرضه، وبالجملة أن الوجه المذكور
ممنوع صغرى وكبرى.
وفي الروايات الواردة في عدة الرجل أهله، والواردة في الجد والهزل (1)
بوقوع التعارض بين عنوان الكذب المأخوذ فيها الظاهر في الاخبار المخالف للواقع،
وبين عنواني العدة والهزل الظاهرين في غير الاخبار، ولا يبعد تحكيم الصدر على الذيل;
وحمل العدة والهزل على نوع من اخبار المخالف للواقع ولا أقل من التعارض الموجب
للاجمال، وفيما قلنا في وجه الجمع بين روايات التورية بأن هذا الجمع غير مقبول لدى
العقلاء ولا يصح اثبات حكم شرعي بهذا النحو من الملازمات العقلية الخارجة عن فهم
العرف، مع أن لازم ما ذكر من الجمع دعوى كون التورية كذبا ليترتب آثاره من الجواز
عند إرادة الاصلاح وعدمه عند عدمها ثم دعوى إن ما أريد بها الاصلاح ليس بكذب
أي ليس بكذب ادعاء لاثبات جوازها عند إرادة الاصلاح وهو كما ترى أمر منكر
مخالف للمحاورات العقلائية لافهام المعاني.

(1) الوسائل - كتاب الحج - الباب 140 - 141 - من أبواب أحكام العشرة.
46

بيانه أن قول أبي جعفر عليه السلام على ما في رواية الصيقل (1) " ما كذب إبراهيم
عليه السلام ويوسف عليه السلام " وما عن رسول الله صلى الله عليه وآله في رواية عطا (2) " لا كذب على مصلح " ثم تلا الآية
المربوطة بقضيتهما ونفي الكذب عنهما الظاهر في نفيه حكما لا موضوعا: إنما يصح
في فرض كون قولهما بنحو التورية إذا أريد بنفي الموضوع النفي ادعاء مع أن التورية
ليست بكذب حقيقة فلا بد في تصحيح ذلك أن يقال: إن التورية مطلقا كذب ادعاء
والمراد من نفيه عنهما في الروايتين نفي الحكم بلسان نفي الموضوع الادعائي
ادعاء " فتدبر "; مع أن مقتضى دعوى كونها كذبا جوازها عند إرادة الاصلاح فإن
الكذب كذلك، ومقتضى دعوى عدم كونها كذبا ادعاء عند إرادة الاصلاح عدم كون
حكمها حكم الكذب الإصلاحي فيلزم منه نفي الجواز لإرادة الاصلاح، لا اثباته لذلك
بل لازمه التعارض بين الروايات والانصاف أن ما ذكرناه من الاستنتاج للتعميم: غير
وجيه خارج عن المحاورات.
فتحصل من جميع ذلك عدم قيام دليل على الحاق ما ليس بكذب به تورية كان
أو انشاء أو فعلا مع أنه قد وردت التورية في روايات ظاهرة في جوازها مطلقا، كرواية
محمد بن إدريس في مستطرفات السرائر نقلا من كتاب عبد الله بن بكير بن أعين (3) عن أبي عبد الله عليه السلام " في الرجل يستأذن عليه فيقول للجارية: قولي: ليس هو ههنا قال:
لا بأس ليس بكذب "، والظاهر أن المشار إليه كان محلا خاليا، حتى يخرج الاخبار عن
الكذب، ومقتضى اطلاقها جواز التورية ولولا لإرادة الاصلاح.
نعم في سند الروايات التي نقلها ابن إدريس من بعض الأصول ككتاب
البزنطي وابن بكير وغيرهما كلام وهو أنه لم يثبت عندنا أن تلك الأصول كانت معروفة
في عصر ابن إدريس نحو كتاب الكافي والتهذيب وغيرهما مما هي معروفة واضحة
الصدور من أربابها بحيث لم نحتج إلى العنعنة في اثبات كونها منهم، ولم يذكر ابن
إدريس طريقه إليها، ومن المحتمل أن ثبوت كونها منهم عنده بوجوه اجتهادية و

(1) الوسائل - كتاب الحج - الباب 141 - من أبواب أحكام العشرة - تقدم البحث في سندهما
(2) الوسائل - كتاب الحج - الباب 141 - من أبواب أحكام العشرة - تقدم البحث في سندهما
(3) الوسائل - كتاب الحج - الباب 141 - من أبواب أحكام العشرة.
47

قرائن لو قامت عندنا لم نتكل عليها لاختلاف اجتهادنا معه، وليس ابن إدريس ومن
في طبقته ونظائره عندنا كصدوق الطائفة ونظائره ممن كان عصره قريبة من عصر
صاحب الأصول ولم يكن دأبه الاجتهاد واعمال النظر والاتكال على القرائن الاجتهادية
لاثبات شئ، ولهذا لا يبعد الاعتماد على مرسلاتهم التي أرسلوها إرسال المسلمات
دون مرسلات أضراب محمد بن إدريس رحمه الله.
مضافا إلى أن في مستطرفات السرائر: ومن ذلك ما استطرفناه من كتاب
عبد الله بن بكير الحسين عنه عن أبي عبد الله عليه السلام ثم ساق الحديث، ويظهر من الأحاديث
المذكورة بعده أن أحاديثه منقولة عن عبد الله بواسطة الحسين وهو يحتمل أن يكون
الحسين بن سعيد الأهوازي لكنه مجرد احتمال أو ظن بذلك فلا حجية في الرواية
وإن أغمضنا عن الاشكال الأول.
وكرواية عبد الأعلى مولى آل سام (1) " قال: حدثني أبو عبد الله عليه السلام
بحديث فقلت: جعلت فداك أليس زعمت لي الساعة كذا وكذا فقال:
لا فعظم ذلك على فقلت: بلى والله زعمت قال: لا والله ما زعمت قال:
فعظم ذلك على فقلت: بلى والله قد قلته قال: نعم قد قلته أما علمت أن كل
زعم في القرآن كذب ". فإنها ظاهرة الدلالة في جواز التورية مطلقا فإن دفع عبد
الأعلى عن اطلاق كلمة زعمت التي بمعنى قلت وتستعمل في حق وباطل ليس من
الاصلاح الذي يجوز الكذب أو ما بحكمه ولهذا لا يجوز الكذب في نظيره.
وكرواية أبي بصير (2) المتقدمة الواردة في قصة سالم بن أبي حفصة فإن
أبا جعفر عليه السلام لم يعلل جواز القاء كلام ذي وجوه وكذا تورية إبراهيم عليه السلام ويوسف
عليه السلام بإرادة الاصلاح، فيفهم منها أن القاء كلام ذي وجوه وإرادة بعض الوجوه المخفية

(1) الوسائل - كتاب الحج الباب 142 - من أبواب أحكام العشرة - مجهولة بمحمد
بن مالك.
(2) الوافي - كتاب الايمان والكفر - باب الكذب - من أبواب ما يجب على المؤمن
اجتنابه - ج 3 ص 158.
48

لا مانع منه كما فعل يوسف وإبراهيم عليهما السلام.
ويظهر من ذيل رواية سويد بن حنظلة المنقولة في كتاب الطلاق (1) وعن
المبسوط (2) روايتهما: جوازها أيضا " قال: خرجنا ومعنا وابل بن حجر نريد
النبي صلى الله عليه وآله فأخذه أعداء له وتحرج القوم أن يحلفوا فحلفت بالله أنه أخي فخلى
عنه العدو فذكرت ذلك النبي صلى الله عليه وآله فقال: صدقت، المسلم أخو المسلم ". فإن
الظاهر منها وإن كان حلفه على الأخوة النسبية لكن يظهر منها نفي الكذب عن
التورية، ويفهم منه جوازه لذلك، لا لإرادة الاصلاح وإن كان المورد كذلك فلو كانت
التورية غير جائزة إلا مع إرادة الاصلاح لكان عليه التنبيه عليه لا الحكم بالجواز
لمجرد نفي الكذب.
فتحصل مما مر أن التورية وكذا الانشاءات والأفعال المفيدة فائدة
الكذب لا تكون محرمة، للأصل وقصور الأدلة، بل دلالة بعض الروايات على الجواز
ثم إنه قد يستشكل على رواية الإحتجاج (3) في توجيه تورية إبراهيم بأن
كسر الأصنام صدر من إبراهيم عليه السلام، وإن كانت الأصنام ينطقون، فيلزم الكذب
بالأخبار بالملازمة، فإن ملاك الصدق والكذب في الشرطيات صدق الملازمة و
كذبها.
(وفيه) ما لا يخفى فإن كلام إبراهيم عليه السلام من قبيل التعليق على أمر محال; لاثبات أن
المعلق عليه محال، لا لاثبات الملازمة فالكلام سيق لنفي العمل لكونه معلقا على محال لا
لتحققه بتحقق المعلق عليه نظير قوله تعالى: ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل
في سم الخياط (4) فإنه ليس بصدد الاخبار بالملازمة بين دخول الجنة وولوج

(1) راجع الخلاف - كتاب الطلاق - مسألة 60 - في جواز الحيلة في الأحكام -
ص 459.
(2) كتاب الطلاق - باب الحيل.
(3) ص 194 - مرسلة.
(4) سورة الأعراف الآية 38.
49

الجعل في سم الخياط، ضرورة عدم التلازم بينهما بل بصدد بيان استحالة دخولهم
الجنة بالتعليق على محال عادي، وبالجملة نظائر هذا الكلام كناية عن عدم التحقق
أو استحالته لا اخبار بالملازمة كما هو واضح.
ثم إن الظاهر أن الأخبار المطلقة متصرفة عن الكذب في مقام الهزل وإن
فرض الاخبار بالواقع لهذا الغرض، لكن مع قيام قرينة حالية أو مقالية شاهدة
على الهزل كما لو كان المجلس من المجالس التي أعدت له، بل لا يبعد الانصراف
عن أخبار غير مفيدة كما لو أخبر بخلاف واقع واضح لا يؤثر في المخاطب شيئا
كالاخبار ببرودة النار وحرارة الثلج، بل ولو كان غير مفيد لمخاطب خاص كما لو
علم المتخاطبين كذب القضية فإن المتفاهم من أخبار الباب والاشعارات التي
فيها هو حرمة الكذب في الأخبار المتداولة المعمولة بين الناس، لإفادة مضمونها
كقوله مما أعان الله به على الكذابين النسيان (1) وقوله: إن الكاذب على شفاء مخزاة
وهلكة (2) وقوله: العبد إذا كذب كان أول من يكذبه الله ونفسه يعلم أنه كاذب
(3)، إلى غير ذلك، وبناء على انصراف الأخبار عن الهزل لا يمكن اثبات حرمته بما
وردت في الكذب هزلا فإنها وإن كانت مستفيضة فلا ينظر إلى ضعف اسنادها مع أن
بعضها لا يخلو من حسن، كرواية الأصبغ لكن فيها ما لا تدل على الحرمة كرواية
الأصبغ (4) والحارث الأعور (5) بل مرسلة سيف بن عميرة (6) فإن قول علي بن
الحسين (ع) على ما في الرواية لولده في مقام النصيحة لتهذيبهم عن الذمائم لا يدل
على التحريم مع أن في مادة التقوى أيضا اشعارا بعدمه فلا يبعد أن يكون الأمر لمجرد
الرجحان.
بل يمكن الخدشة في دلالة رواية أبي ذر (7) وفيها " يا أبا ذر ويل للذي يحدث
فيكذب ليضحك به القوم، ويل له ويل له " فإن انشاء الويل أعم من التحريم ولو سلمت

(1) الوسائل - كتاب الحج - الباب 18 - من أبواب أحكام العشرة.
(2) الوسائل - كتاب الحج - الباب 18 - من أبواب أحكام العشرة.
(3) الوسائل - كتاب الحج - الباب 18 - من أبواب أحكام العشرة.
(4) الوسائل - كتاب الحج - الباب 140 - من أبواب أحكام العشرة.
(5) الوسائل - كتاب الحج - الباب 140 - من أبواب أحكام العشرة.
(6) الوسائل - كتاب الحج - الباب 140 - من أبواب أحكام العشرة.
(7) الوسائل - كتاب الحج - الباب 140 - من أبواب أحكام العشرة.
50

دلالتها كما يأتي بيانها انشاء الله تعالى، فلا تصلح لاثبات الحكم لضعفها سيما في مثل
المقام الذي ادعى الأعلام السيرة على ارتكابه كما لا تبعد.
فالأقوى عدم الحرمة في الهزل مع قيام القرينة، ولا يخلو عدمها من رجحان في
الأخبار الغير المفيدة مطلقا لكن الأحوط الاحتراز سيما في الثاني.
وقد ادعى بعض المدققين في تعليقته على مكاسب شيخنا المرتضى (1) الاجماع
على حرمته ولو لم يكن فيه اغراء لكون المخاطب مثلا عالما بعلم المتكلم بعدم
مطابقة كلامه للواقع.
ثم إن مقتضى الأصول العقلية والنقلية جواز الاخبار عن قضية مشكوك فيها،
فلو شك في أن زيدا قائم: يجوز له الاخبار بقيامه، لأنه من الشبهة المصداقية لأدلة
الكذب، إلا أن يدعى وجوب الصدق، لا بمعنى وجوبه مطلقا، بل بمعنى أنه لو أراد
المتكلم الاخبار يجب عليه أن يصدق فلا بد له من احراز كونه صدقا بعلم أو أمارة لكن
اثبات ذلك مشكل بل ممنوع وإن أفتى به صاحب الوسائل ومستدركه (2)، فإن الأخبار
لا تصلح لإثباته، إما القصور الدلالة كما هو كذلك غالبا، أو لقصور السند فراجعها
أو يقال: بإلغاء الخصوصية مما وردت متواترة بحرمة الفتوى بغير علم، وما وردت بحرمة
القضاء، وكذا الشهادة كذلك،
(وفيه) أن غاية ما يمكن الغائها هو الكذب على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وآله
والأئمة عليهم السلام في خصوص الأحكام ولو كان بنحو الاخبار لا الفتوى، فلو أخبر عن الله أو
عن رسوله صلى الله عليه وآله بأنه قال كذا في مورد الشبهة الحكمية: يكون محرما لفحوى
أدلة حرمة الفتوى بغير علم دون الاخبار بالأمور الأخر كالاخبار بأن للنبي صلى الله عليه وآله
صفة كذائية أو نحو ذلك، فضلا عن الاخبارات العادية بالنسبة إلى غيرهم أو يقال: إن
الاخبار في مورد الشك جزما اخبار عن علم المخبر وهو كذب أوله مفسدته (وفيه)
منع كونه اخبارا عنه بل ينتقل السامع منه إليه، وقد تقدم عدم الدليل على حرمة

(1) هو العلامة الميرزا الشيرازي الثاني رحمه الله.
(2) كتاب الحج - الباب 1 - عن أبواب أحكام العشرة.
51

مثله ومنع كون مناط الكذب فيه.
والأولى الاستدلال عليه مضافا إلى العلم الاجمالي المنجز في الموارد
المشكوك فيها فإن في كل مورد منها يعلم اجمالا بأنه إما الاخبار عن الثبوت
كذب محرم أو الاخبار عن عدمه فلا يجوز عقلا الاخبار بأحد الطرفين بحملة من
الروايات كحسنة علي بن جعفر (1) عن أخيه موسى بن جعفر (ع) عن آبائه في حديث
" قال ليس لك أن تتكلم بما شئت لأن الله عز وجل يقول ولا تقف ما ليس لك به علم ".
فإن الظاهر منها أن الآية الكريمة تشمل القول بغير علم فتكون هي مضافا
إلى الرواية دليلا على المطلوب، وفي المجمع (2) أنها أعم من القول بغير علم و
الاعتقاد بما لا يعلم وغيرهما والمتيقن من الرواية هو القول بغير علم بقرينة
استشهاده بالآية الشريفة ومقتضى اطلاقها عموم الحكم لجميع مصاديق الاخبار بغير
علم، ولا دليل على اختصاصها بالاخبار عن الله تعالى، وصحيحة هشام بن سالم (3)
" قال: قلت لأبي عبد الله (ع): ما حق الله على خلقه قال: أن يقولوا ما يعلمون و
يكفوا عمالا يعلمون فإذا فعلوا ذلك فقد أدوا إلى الله حقه " ونحوها رواية
زرارة (4).
ويمكن المناقشة فيها ابن مطلق ثبوت حق منه تعالى على خلقه لا يدل على
وجوب أدائه إذ لعله من الحقوق المستحبة أو يقال: إن الحق فيها منصرف إلى ما هو
من قبيل أحكام الله تعالى لا مطلق القول بغير علم، وموثقة زياد بن أبي رجاء (5) عن

(1) الوسائل - كتاب القضاء - الباب 4 - من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن
يقضى به - حسنة بسعد آبادي.
(2) في تفسير قوله تعالى " ولا تقف ما ليس لك به علم " سورة بني إسرائيل الآية 36
(3) (4) الوسائل - كتاب القضاء - الباب 4 - من أبواب صفات القاضي وما يجوز
أن يقضى به - الثانية مرسلة وضعيفة بجعفر بن سماعة.
(5) الوسائل - كتاب القضاء - الباب 4 - من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن
يقضى به.
52

أبي جعفر عليه السلام " قال: ما علمتم فقولوا وما لم تعلموا فقولوا: الله أعلم أن الرجل
لينتزع الآية من القرآن يخر فيها أبعد ما بين السماء " إلا أن يناقش فيها بأن
ذيلها قرينة على أن المراد من القول بغير علم مثل الفتوى والاخبار عن الله تعالى
لا مطلقا، إلا أن يقال: إن ذكر مصداق أهم المصاديق لا يصير قرينة على الاختصاص
فالعبرة باطلاق الصدر وأما المناقشة فيها باشتمالها على ما لا يجب جزما وهو القول
بأن الله أعلم (ففي غير محلها); لأنه كناية عن عدم جواز القول بغير علم فالظاهر المتفاهم
منها عدم جوازه.
وتؤيد المطلوب رواية أبي يعقوب إسحاق بن عبد الله (1) والظاهر صحتها عن أبي عبد الله عليه السلام " إن الله تعالى خص عباده بآيتين من كتابه، أن لا يقولوا حتى يعلموا،
ولا يردوا ما لم يعلموا، وقال تعالى: ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب، أن لا يقولوا
على الله إلا الحق وقال: بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله ". لكن
الظاهر اختصاصها بالأحكام ونحوها، ورواية زرارة (2) " أن من حقيقة الايمان أن لا
يجوز منطقك علمك ".
ويؤيده أيضا فحوى صحيحة محمد بن مسلم (3) عن أبي عبد الله عليه السلام " قال: إذا
سئل الرجل منكم عما لا يعلم فليقل: لا أدري ولا يقل: الله أعلم، فيوقع في قلب
صاحبه شكا، وإذا قال المسؤول: لا أدري، فلا يتهمه السائل " فتأمل "، مضافا إلى قبح
الاخبار بغير علم، بل الظاهر عدم جوازه في ارتكاز المتشرعة، وكان منزلته منزلة
الكذب لديهم.
هذا مع قطع النظر عن الاستصحاب في بعض الموارد، وإلا فقد يمكن التمسك
به لاحراز الموضوع، فإذا شك في طلوع الشمس بعد اليقين بعدم طلوعها يقال: إن

(1) الوافي - باب النهي عن القول بغير علم - من أبواب العقل والعلم ج 1 - ص 48
(2) الوسائل - كتاب القضاء - الباب 4 - من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن
يقضى به.
(3) الوافي - باب النهي - بغير علم - من أبواب العقل والعلم ج 1 - ص 48.
53

الاخبار بطلوعها كان كذبا، والآن كما كان فينقح به موضوع الحرمة، وهذا ليس
باستصحاب تعليقي بل تنجيزي على عنوان كلي قبل تحقق مصاديقه كاستصحاب حرمة
شرب الخمر وأكل الربا، واستصحاب وجوب صلاة الجمعة الذي يرجع إلى فعل
المكلف أي عنوانه ويجري الأصل الحكمي مع الغض عن الموضوعي على عنوان
كلي فينحل العلم الاجمالي حكما.
نعم استصحاب عدم طلوع الشمس لا يثبت كون الاخبار بالطلوع كذبا ومحرما كما
لا يخفى، هذا بالنسبة إلى أصل المسألة، وأما لو قلنا بحرمة القول بغير علم هل
يجري الاستصحاب ويقوم مقام العلم الموضوعي بدليله فيستصحب عدم طلوعها ويخبر
به أو لا، الظاهر جريانه لما قلنا في محله من قيامه مقامه بدليله.
هذا إذا قلنا بأن العلم المأخوذ في أدلة حرمة القول بغير علم: العلم الوجداني
وأما إن قلنا بأن المراد به في نظائر المقام الحجة كما هو الحق فلا اشكال في
وروده عليها واخراج موضوعه عن القول بغير علم.
ثم ينبغي التنبيه على أمرين:
أحدهما أن الكذب هل هو من الكبائر مطلقا أو لا كذلك، أو يختلف حكمه
باعتبار المخبر به، أو لا يكون فيه اقتضاء الحرمة بذاته أصلا، وإنما يحرم تبعا لفساد
متعلقه ويصير كبيرة أيضا بتبعه فإذا لم يكن في المتعلق مصلحة ولا مفسدة لا يكون
حراما، وهذا العنوان الأخير وإن كان تقديمه على التنبيه أنسب، لكن لما كان
تحقيقه متوقفا على ذكر الروايات أخرناه عنه.
وقد استدل على كونه مطلقا كبيرة بروايات.
منها رواية عيون الأخبار بأسانيده عن الفضل بن شاذان (1) عن الرضا عليه السلام
ورواية الأعمش (2) عن جعفر بن محمد عليه السلام في حديث شرايع الدين حيث عد فيهما

(1) الوسائل - كتاب الجهاد - الباب 46 - من أبواب جهاد النفس.
(2) الوسائل - كتاب الجهاد - الباب 46 - من أبواب جهاد النفس.
54

من الكبائر، والثانية ضعيفة بلا اشكال، وقد حاول بعضهم تحسين الأولى أو تصحيحها
بأن للصدوق إلى الفضل ثلاث طرق منها عبد الواحد بن محمد بن عبدوس العطار النيسابوري
عن علي بن محمد بن قتيبة النيسابوري عن الفضل بن شاذان، وهو طريق حسن بل
صحيح، لأن الصدوق روى في كتاب عيون الأخبار روايته من ثلاث طرق وقال عقيب
ذلك: وحديث عبد الواحد بن محمد بن عبدوس عندي أصح وهو توثيق رجال
السند سيما عبد الواحد، ويؤيده تصحيح العلامة رواية هو في سندها، وتبعه الشهيد
الثاني محتجا بذلك وبكونه من المشايخ الذين ينقل عنهم الصدوق بغير واسطة مع
تكرر ذلك الظاهر منه الاعتماد عليه.
(وفيه) أن قول الصدوق راجع إلى متن الرواية، فإنها بطريقها الآخر مشتملة
على بعض الزيادات المخالف للمذهب كمعصية الأنبياء وغير ذلك، مع أن تصحيح
السند بهذا الاصطلاح لعله غير معهود عند الصدوق وأمثاله، وتصحيح العلامة لعله
لقرائن دالة على صحة المتن ولهذا حكى عن مختلفه تارة بأنه لا يحضرني حال عبد
الواحد بن عبدوس، وأخرى إن ثبت وثاقته صار الخبر صحيحا، ومعه لا يمكن
الاعتماد على تصحيحه، وتكرر نقل الصدوق وترضيه لا يفيد أن شيئا يمكن الاتكال
عليه، وعلي بن محمد بن قتيبة أيضا لا يخلو من كلام، وإن قال النجاشي: اعتمد عليه
الكشي، وأنه فاضل.
وأما الطريق الآخر ففيه جعفر بن نعيم الشاذاني، ولم يرد فيه شئ إلا ترضى
الصدوق عليه، وهو غير كاف في الاعتماد عليه، وأما المحكي عن الصدوق بأني
لم أذكر في مصنفاتي إلا ما صححه شيخي ابن الوليد فإن كان المراد تصحيح السند فيوجب
ذلك الاشكال في تصحيحات ابن الوليد، ضرورة اشتمال مصنفاته على روايات ضعاف
إلى ما شاء الله وإن كان المراد تصحيح المتن فهو غير مفيد لنا، والطريق الثالث ضعيف
لقنبر بن علي بن شاذان وأبيه.
ثم إنه يمكن الاشكال في اطلاقهما بأن يقال: إنهما بصدد بيان عد الكبائر
لا بيان حال كل كبيرة، وبعبارة أخرى أنهما بصدد بيان العد لا المعدود حتى يؤخذ
55

باطلاقهما، وهو نظير أن يقال: إن في الشريعة واجبات: الصلاة والصوم والحج
(الخ) وفيها محرمات: الربوا والكذب والسرقة (الخ) حيث لا يمكن الأخذ باطلاقه
بالنسبة إلى كل واحد منها، فيدفع به الشك في شرطية شئ أو مانعيته، بالنسبة إلى
الصلاة وغيرها، أو بالنسبة إلى بعض المصاديق المشكوك فيه.
إلا أن يقال: يكشف الاطلاق فيهما من ذكر تقييدات فيهما، كتقييد قتل
النفس بالتي حرم الله تعالى، وأكل مال اليتيم بقوله: ظلما، وما أهل لغير الله
بغير ضرورة; وأكل الربوا ببعد البينة، وحبس الحقوق بغير عسر; فلولا كونهما
في مقام البيان لا وجه لذكر القيود، فإن البيان على نحو العد والاهمال لا يناسبه.
ويمكن أن يقال: إن ذكر تلك القيود إنما هو بتبع ورودها في الكتاب الكريم
حيث قال: ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق (1) وقال: إن الذين
يأكلون أموال اليتامى ظلما (2) وقال: إنما حرم عليكم الميتة إلى أن قال: فمن اضطر
غير باغ ولا عاد فلا إثم (3) وقال بعد آية الربا: فمن جاءه موعظة (4)
(الخ) قال في حق الغريم: وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة (5). والشاهد
عليه أن هذه القيود في الموارد الخمسة وردت في الروايتين، فيكون ذكرها بتبع
الكتاب لا لكونه في مقام البيان من جميع الجهات، إلا أن يدعى أن الإشارة إلى
القيود المذكورة في الكتاب أيضا دليل على كونه في مقام البيان وفيه تأمل.
والانصاف أن الاتكال عليهما لاثبات كون الكذب في الجملة كبيرة مشكل
فضلا عن اثبات كونه كذلك بجميع مصاديقه.
وقد يستشكل (6) عليهما وعلى كل ما دلت على كونه من الكبائر بأنها معارضة

(1) سورة بني إسرائيل - الآية 35.
(2) سورة النساء - الآية 11.
(3) سورة البقرة - الآية 168.
(4) سورة البقرة - الآية 276.
(5) سورة البقرة - الآية 280.
(6) هو العلامة الميرزا الشيرازي الثاني رحمه الله.
56

لصحيحة عبد العظيم الحسني (1) الحاكية لدخول عمرو بن عبيد على أبي عبد الله عليه السلام
" قال: فلما سلم وجلس تلا هذه الآية الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش ثم أمسك
فقال له أبو عبد الله عليه السلام: ما أسكتك؟ قال: أحب أن أعرف الكبائر من كتاب الله "
فعدها ولم يعد منها الكذب، ويمكن الجمع بأن المراد من الروايات التي عدته
كبيرة بيان ما يكون كبيرة في الجملة ولو بالنسبة إلى بعض مصاديقه ومن الصحيحة
ما يكون كبيرة بجميع مصاديقه وحينئذ لا يبقى في الروايات دلالة على كون الكذب
كبيرة.
ثم قال: إن قلت: لعل المراد بالصحيحة خصوص الكبائر الثابتة في الكتاب
ومن الروايتين وغيرهما مطلقها كما يشهد به قوله: " أريد أن أعرف الكبائر من
كتاب الله " فلا مانع من حمل الكذب فيها على اطلاقه قلت: الظاهر إرادة معرفة
مطلقها إذ من الظاهر تعلق من كتاب الله بأعرف، لا بالكبائر مع أن الكبائر المذكورة
في الصحيحة أعم مما في كتاب الله كترك الصلاة وشئ مما فرضه الله فإنه استشهد على
كونه كبيرة بقول رسول الله صلى الله عليه وآله فلا وجه للحمل المذكور ولا شاهد عليه.
ويؤيد ما ذكرناه أيضا عد خصوص اليمين وشهادة الزور في تلك الرواية من
الكبائر إذ مع كون مطلق الكذب منها لا وقع لذلك " انتهى مخلصا "
(وفيه) مضافا إلى أن الجمع المذكور ليس جمعا عقلائيا رافعا للتعارض وإلا
لصح الجمع بين قوله: أكرم العلماء، ولا تكرم العلماء، بحمل الأول على القرشي
والثاني على غيره، فلا وجه ولا شاهد لحمل الكبائر في مورد على قسم منها وفي
مورد آخر على قسم آخر مع وحدة اللفظ والمقام: أن ما ذكره غير تام لأن الصحيحة
مشتملة على ما لا يكون بجميع مصاديقه محرمة فضلا عن كونه كبيرة كالربا فإن كثيرا
من مصاديقه جائز " تأمل " وغيره مشتملة على ما يكون كبيرة بجميع مصاديقه كالقمار
واللواط والسرقة والتعرب بعد الجهرة والقنوط من رحمة الله والاستخفاف بالحج و
غيرها، فلا يتم ما ذكره: من الجمع مع أن الظاهر من سؤال عمر وإرادة معرفة

(1) الوسائل - كتاب الجهاد - الباب 46 - من أبواب جهاد النفس.
57

الكبائر من كتاب الله فتصدى أبو عبد الله عليه السلام لذكر ما تكون كذلك في كتاب الله حتى
يوافق جوابه لمسؤوله، وما لا يكون كتاب الله دالا على كونها كذلك لا مجال لذكرها
لعدم امكان معرفتها منه. ولعل ذكر ترك الصلاة والفرائض لأهميتها وإن لم يدل
الكتاب على كونها كبيرة. والظاهر أن المراد بالفرائض غير مطلق الواجبات بل من
قبيل الحج والزكاة والصوم ونحوها من الأصول.
نعم يبقى سؤال وهو: ما وجه عدم ذكر بعض الكبائر التي دل الكتاب على
كونه كبيرة كالميسر الذي فيه إثم كبيرا واللواط الذي سماه فاحشة وعذب
قوما به، والنقص في المكيال والميزان قال: ولا تنقصوا المكيال والميزان إني
أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط، والافتراء على الله تعالى
إلى غير ذلك.
ويمكن أن يقال إن عمرو بن عبيد اختنقه البكاء ولم يتمالك نفسه فخرج
صارخا قبل أن يتم أبو عبد الله عليه السلام عد الكبائر ولعل فيها اشعارا بذلك حيث قال فيما قال:
وقطيعة الرحم لأن الله يقول: لهم اللعنة ولهم سوء الدار قال: فخرج عمرو وله
صراخ من بكائه وليس فيه ما يدل على سكوت أبي عبد الله عليه السلام واتمام كلامه،
فلا يمكن استفادة الحصر بالمذكورات فيها مع الاحتمال المذكور الذي لا يبعد
اشعار الرواية به.
وأما ما جعله مؤيدا لمرامه: من عد خصوص اليمين وشهادة الزور فيها (ففيه)
مضافا إلى أن اليمين ليس من الاخبار بل انشاء وحرمته بعنوانه غير حرمة
الكذب وإنما يقال: الايمان الكاذبة باعتبار متعلقها فلا وجه لجعله مؤيدا: إن
اختصاص ذكره وذكر شهادة الزور التي هي من كتمان الشهادة أيضا لأجل استفادة
حكمهما من كتاب الله وقد أراد السائل معرفة الكبائر منه.
نعم لو قلنا باستفادة كون مطلق الكذب كبيرة من الكتاب يتوجه السؤال
عن وجه اختصاصهما بالذكر ويمكن أن يكون لا جعل اختصاصهما به
في الكتاب وأما عدم ذكر الكذب المطلق فيها كعدم ذكر كثير من الكبائر وقد مر
58

ما يمكن أن يكون وجها له.
ومنها موثقة محمد بن مسلم (1) عن أبي جعفر عليه السلام " قال: إن الله تعالى جعل
للشر أقفالا وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب، والكذب شر من الشراب "، و
نحوها رواية أخرى (2) إلا أن في ذيلها " وشر من الشراب: الكذب ". ويحتمل بعيدا
أن يكون قوله: شر من الشراب غير مراد به التفضيل بل يكون من نشوية وأراد به
إن الكذب شر ناشئ من الشراب أي من جملة الشرور المترتبة على الشراب الكذب
كما تشهد به رواية محمد بن سنان (3) عن أبي الحسن الرضا عليه السلام " قال: حرم الله الخمر لما
فيها من الفساد ومن تغيير عقول شاربها وحملها إياهم على انكار الله عز وجل والقرية عليه
وعلى رسله وسائر ما يكون منهم من الفساد والقتل والقذف والزنا " (الخ) حيث جعل فيها
الكذب علي الله وعلى رسوله وعلى المؤمنات ناشيا من الخمر وتؤيده الروايات الكثيرة
القائلة بأن الخمر رأس كل إثم ومفتاح كل شر (4). ويؤيده أيضا أن قوله في الموثقة
إن الله جعل للشر أقفالا، ويراد به مطلق الشر ومن البعيد أن يراد بذيله استثناء الكذب
مع أن الشراب مفتاح الكذب أيضا، لكن مع ذلك كله أن ما ذكر خلاف المتفاهم
العرفي.
ثم إن من المحتمل أن يكون المراد من الموثقة بيان أمر تكويني أي بيان
كيفية صدور الشرور من شاربها وإن كان ذلك بنحو الاستعارة والادعاء بأن ادعى
أن طبيعة الشر في الانسان كأنها موجودة متمثل جعل الله تعالى أقفالا له لولاها لخرج
معربدا مفسدا وذلك لأن طبيعة الشهوة والغضب والشيطنة في الانسان مقتضية للفساد
بنحو الاطلاق بلا قيد وشرط من ناحيتها ومقتضى قوة الشهوة الالتذاذ بكل ما يمكن
بأي طريق كان بلا قيد مطلقا وكذا مقتضى القوتين الآخرتين وإنما حاجزها وعقالها

(1) الوسائل - كتاب الحج - الباب 138 - من أبواب أحكام العشرة.
(2) الوسائل - كتاب الحج - الباب 138 - من أبواب أحكام العشرة.
(3) الوسائل - كتاب الأطعمة والأشربة - الباب 15 - من أبواب الأشربة المحرمة.
(4) الوسائل - كتاب الأطعمة والأشربة - الباب 8 - من أبواب الأشربة المحرمة.
59

وأقفالها وملكات أخر جعلها الله تعالى في الانسان وديعة رأسها العاقلة وبعدها
الحياء والشرف والخوف من الله ومن الناس وعز النفس وعظمتها وطلب الكمال و
أمثالها، ومفتاح كل تلك الأقفال ورافع بلك الحواجز الشراب، بمعنى أن ذاته
كذات المفتاح وشربه آليته الفعلية لا بمعنى ترتب جميع الشرور على شربه فعلا
بل بمعنى رفع الحاجز عما هو مقتض للفساد، فلا يبالي معه بما فعل وما فعل به، و
يأتي بما يمكنه ويهويه من مشتهياته ومقتضيات قواه المائلة إلى الفساد، فلا يبالي
بقتل النفس المحترمة ولا بالزنا بالمحارم ولا بغير ذلك. هذا حال الشراب
وأما الكذب فهو شر منه في هذه الخاصة من جهتين، من جهة أن الشراب رافع
الموانع عن الشرور والكذب محرك وداع إليها فإنه قد يثير الشهوات والقوى
الغضبية والشيطنة إلى العمل على مقتضياتها فهو من هذه الحيثية شر منه، ومن
جهة أن المفاسد المترتبة على الكذب لا يقاس بالمفاسد المترتبة على الخمر
لا بمعنى أن كل كذب كذلك بل بمعنى ملاحظة الطبيعتين في الجامعة البشرية،
فمقنن القوانين لجميع عائلة البشر إذا نظر إلى الكذب ومفاسده بنحو الوجود الساري
وإلى الخمر ومفاسدها كذلك يرى أن مفاسد الكذب أكثر وأعظم، لأن جميع
الأديان الباطلة إنما حدثت وانتشرت بالكذب. والكذب الواحد قد ينتهي إلى
خراب البلدان وقتل النفوس الزكية وانتهاك حرمات عظيمة.
وبالجملة لا تقاس المفاسد المترتبة على الكذب في الجامعة البشرية على
المفاسد المترتبة على الخمر أو سائر المعاصي. لكن على هذا الاحتمال لا يمكن
اثبات حرمة الخمر بهذه الرواية فضلا عن كونها كبيرة فضلا عن اثبات حرمة الكذب
أو كونه كبيرة في الجملة فضلا عن جميع مصاديقه، وذلك لأن تلك المفاسد لو كانت
مترتبة على الخمر أو على الكذب ولو بنحو المسببية والمعلولية لما توجب
حرمتهما لما قرر في محله من عدم حرمة مقدمة الحرام وإن كانت علة تامة فضلا
عما إذا لم تكن كذلك كما في المقام، فإن الخمر ليست علة تامة لما ذكر بل
تكون رافعة للموانع وكذا الكذب وإن كان بعض مصاديقه داعيا إلى اتيان المحرم
60

لكن لا يكون علة تامة له.
نعم يمكن أن يقال: إن المقصود بالرواية أن الخمر صارت محرمة لأجل
تلك المفاسد لا لكون سبب المحرم محرما بل كونها مفتاحا لأقفال الشرور صار
نكتة لجعل التحريم القانوني على جميع مصاديقها، وللتوعيد عليها بالعذاب فصارت
كبيرة، ولما كان الكذب شرا منها تكون شريته نكتة لجعل الحرمة على جميع
مصاديقه ولكونه كبيرة.
إلا أن يناقش فيه بأن تلك المفاسد لو كانت علة للحرمة وكونها كبيرة
لكان لما ذكر وجه، لأن المعلول تبع لعلته في التحقق والشدة والضعف والكمال
والنقص.
لكنه احتمال فاسد لعدم دوران الحرمة مدارها، بل عدم دوران كون الخمر
كبيرة مدارها كما لا يخفى. وأما إذا كانت المفاسد نكتة الجعل فلا بد في اثبات
مقداره وكيفيته من دليل.
لما في الخمر فيظهر من جملة من الروايات: أن جميع مصاديقها كبيرة قليلها
وكثيرها، وأن نكتة ذلك هي ما تترتب عليها من المفاسد كصيرورة العبد بحال
لا يعرف ربه، وصيرورته مشركا وغير ذلك، ولا دليل على أن الكذب إذا كان ببعض
مصاديقه شرا من الشراب بالمعنى المتقدم: صار ذلك علة لجعل الحكم على جميع
مصاديقه على نحو القانونية. بل لعل شريته صارت موجبة لجعله على خصوص ما
يترتب عليه ذلك لا مطلقا، وذلك للفرق بين الخمر والكذب من جهة أن فساد
الخمر نوعي بل عمومي لمتعارف الناس عند تعارف شربها فالشرب المتعارف يوجب
السكر في متعارف الناس ويوجب صيرورة الشارب بحيث لا يعرف ربه ولا يبالي بما
فعل وما فعل به، ولأجل تلك النوعية أو العمومية صارت محرمة وكبيرة بجميع
مصاديقها ضربا للقانون.
وأما الكذب وإن كان بملاحظة مجموع أفراده ومقايستها لمجموع أفراد
الخمر يكون شرا منها لكن ليس شره عاما كشر شرب الخمر ولا يترتب على كل
61

مصداق منه شر. وترتبه على بعض مصاديقه لا يوجب جعل الحرمة على مصاديقه فضلا
عن جعلها كبيرة، فلا يستقاد حرمة جميع مصاديقه أو كونه كبيرة من الرواية على
هذا الاحتمال، وكذا لا يستفاد منها الحرمة لو كان المراد بيان أن الكذب شر من
الخمر في الخاصة المترتبة عليها بالنسبة إلى كل شخص أي أنه يوجب الدخول في
المعاصي ويجعل النفس مائلة إلى الشهوات والمعاصي وإن لم نعلم كيفيته، كما
ورد: أن الكذب يهدي إلى الفجور (1) وورد أن الخبائث حطت في بيت ومفتاحه
الكذب (2).
وتوهم أن الوجدانيات لا يمكن أن تخفى علينا (في غير محله) لأن كثيرا
ما تخفى علينا ملكاتنا الخبيثة وخصوصيات أميالنا، ولعل شرية الكذب من الشراب
لكونه هاديا إلى الشرور بخلاف الخمر فإنها رافعة للمانع، فعلى هذا الاحتمال أيضا
لا تدل على حرمة الكذب والخمر، لأن رافع مانع المحرمات والهادي إليها لا يلزم
أن يكون محرما نفسا فضلا عن كونه كبيرة بل ولا محرما بالغير، لأن مقدمة
الحرام ليست بحرام.
وفيها احتمال آخر وهو أن الجملتين صدرتا على نحو من الادعاء والمبالغة
أو أن الثانية كذلك. بأن يدعى أن الخمر رافعة لجميع الموانع عن الشرور، ويدعى
أن الكذب شر منها، فحينئذ إما أن يدعى أن الكذب شر منها في تلك الخصوصية
أي كونه مفتاحا للشرور أو يراد أنه شر منها من جميع الجهات، فعلى الأول لا تدل
على الحرمة فضلا عن كونه كبيرة، وعلى الثاني تدل على كونه كبيرة، لأن المبالغة
في شريته منها إنما تصح إذا كان معصية عظيمة ومع كونه صغيرة لا تصح الادعاء ولا
مصحح للمبالغة.
فإذا قيل: فلان أشجع من الأسد، أو فلان أجمل من الشمس والقمر: يكون
ظاهرا في أن القائل في مقام تعظيم الكمال فيكون شجاعته وجماله بحد يصح أن

(1) الوسائل - كتاب الحج - الباب 140 - من أبواب أحكام العشرة.
(2) المستدرك - كتاب الحج - الباب 120 - من أبواب أحكام العشرة.
62

يرجحهما في مقام المبالغة على الأسد والشمس والقمر، ولا يلزم بما ذكرنا خلاف
الواقع والضرورة، فإن الكذب في نفسه لا يكون أكبر من الخمر ولهذا لو دار الأمر
بين ارتكاب أحدهما ولم يترتب على الكذب مفاسد أخر لا شبهة في وجوب اختيار
الكذب وذلك لأن هذا المحذور غير لازم على فرض الادعاء والمبالغة فتدل الرواية
على أكبرية الخمر حقيقة على كون الكذب كبيرة لا أكبريته منها، وهنا احتمال
آخر وهو كون الجملتين كناية عن كونهما كبيرة.
ثم إن مقتضى أصالة الظهور تعين الاحتمال الأول أو الثاني فإن فيهما أيضا و
إن كان التشبيه بالأقفال والمفاتيح على نحو الاستعارة والتجوز لكن لا ادعاء زائدا
عليه ويكون قوله: والكذب شر من الشراب على نحو الحقيقة بخلاف سائر
الاحتمالات فإن فيها نحو تأول زائدا عليه، وعليه يسقط الاستدلال بالرواية للمقصود،
ولو منع ترجيح الأول فلا ترجيح للحمل على ما يستفاد منه كونه كبيرة.
ثم على فرض استفادة الحرمة وكونه كبيرة يقع الكلام في أن قوله:
والكذب شر من الشراب هل يراد به أن هذه الطبيعة بنفسها مع الغض
عن لواحق أخر شر من طبيعة الشراب كذلك، أو يراد به أنها بوجودها الساري شر
منها فيكون كل مصداق منها شرا من طبيعة الشراب أو كل مصداق منه، أو يراد
أن هذه الطبيعة على نحو الاهمال شر منه لو باعتبار بعض مصاديقه فيكون الانتساب
إلى الطبيعة إما لعدم كونه في مقام البيان أو للادعاء بأن الطبيعة ليست إلا ما يترتب
عليها الفساد الذي جعلها كبيرة، فيكون الكلام مبينا على دعوى أن المصاديق
المترتبة عليها المفاسد كالذي ينطبق عليه عنوان النميمة أو الافتراء على الله تعالى
تمام حقيقته وغيرها بمنزلة العدم، فحينئذ يستفاد منها كونه كبيرة في الجملة لا
بجميع مصاديقه.
وما ذكرناه من الاحتمالات تأتي في أمثال هذا التركيب كقوله: الرجل
خير من المرأة، والرطب خير من العنب إلى غير ذلك ولا يبعد أن يكون الاحتمال الأول
أظهر لكل في المقام لما لم يمكن الحمل عليه، ضرورة عدم كون الكذب بنفسه
63

شرا من الخمر وكذا لا يمكن الحمل على الاحتمال الثاني على نحو الحقيقة فلا بد
من الحمل على حقيقة ادعائية، إما دعوى كون الطبيعة بنفسها شرا من الشراب أو
دعوى كونها بجميع مصاديقها كذلك، أو دعوى كونها كذلك بلحاظ بعض المصاديق
والأرجح: الأول ثم الثاني، فعليه يستفاد منها كونها كبيرة بنفسه أو بجميع مصاديقه
ولا يستفاد منها أكبريته من الشراب حقيقة بل هو ادعاه يثبت به كونه كبيرة
لكن الشأن في ترجيح الاحتمال الذي يستفاد منه كونه كبيرة من بين الاحتمالات
المتقدمة الكثيرة.
إلا أن يدعى أن الظاهر من الجملة الأولى أن الشراب من الكبائر بجعل ما
ذكر كناية عنه وظاهر الجملة الثانية بعد عدم امكان الحمل على الحقيقة هو دعوى
كون طبيعة الكذب بلا قيد شر من الشراب، ولازم هذه الدعوى كونه كبيرة بنفسها
ولا يلزم منه اشكال كما توهم، فإنه إذا قامت القرينة على عدم إرادة الحقيقة لا يجوز
طرح الرواية بل تحمل على الحقيقة الادعائية ولازمها كون الكذب بنفسه وعلى
نحو الاطلاق شرا من الشراب ادعاء ولازم ذلك كونه كبيرة على نحو الاطلاق
إلا أن يقال: مجرد هذا التشبيه والدعوى لا يدل على كونه كناية عن كونها
كبيرة كما ورد: أن حب الدنيا رأس كل خطيئة مريدا به أن حبها أم الخطايا مع أنه غير محرم بلا شبهة، فيمكن أن يكون المراد بالرواية التنبيه على مفاسد الخمر
والكذب لا بيان حرمتهما ولا قرينة على كونه بصدد بيان الحرمة فضلا عن كونهما
كبيرة فدعوى كون الجملتين كناية عن حرمتهما أو كونهما كبيرة عارية عن
الشاهد ومخالفة لأصالة الظهور، وبعبارة أخرى أن الجملة الأولى بعد كونها استعارة
تكون لها ظهور ثانوي لأجل قيام القرينة في المعنى الاستعاري وجعل هذا المعنى
الاستعاري كناية عن أمر آخر وهو الحرمة أو كونه كبيرة: خلاف الظاهر لا بد فيه
من قيام قرينة وهي مفقودة.
ويؤيد ما ذكرناه أن حرمة الخمر كانت معلومة في عصر صدور الرواية بالكتاب والسنة
لم يحتج إلى بيانها والمحتاج إليه بيان مفاسدها ومصالح منعها، فالجملة الأولى
64

سيقت لبيانها والثانية تبع لها في المفاد فتدل على أنه شر من الشراب في هذه المفاسد
والتبعات فلا تكون الرواية بصدد بيان الحرمة حتى يؤخذ باطلاقها لحرمة جميع
المصاديق بل لا يصح التمسك بها لاثبات الحرمة ولو في الجملة " تأمل ".
ومن بعض ما ذكرناه يظهر حال ما روي عن العسكري عليه السلام (1) " قال:
جعلت الخبائث كلها في بيت واحد وجعل مفتاحها الكذب ".
ومنها المرسلة التي ذكرها الشيخ (2) قال: وأرسل عن رسول الله صلى الله عليه وآله
ألا أخبركم بأكبر الكبائر: الاشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقول الزور أي
الكذب وعن ابن أبي جمهور (3) عنه صلى الله عليه وآله " قال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قلنا:
بلى يا رسول الله قال: الاشراك بالله، وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس ثم قال:
ألا وقول الزور فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت ". والتفسير في الأولى يمكن
أن يكون من الراوي فتكون الرواية دالة على أعم من الكذب، وإن كان من المروي عنه
تختص به، ودلالتهما على كون المذكورات كبيرة لا تنكر.
والاشكال بأن الضرورة قائمة بأن الكذب وكذا عقوق الوالدين ليس أكبر
الكبائر: لا يوجب طرحهما بل تصير قرينة على أن الكلام مبني على المبالغة فيفهم
أنهما كبيرة حيث يدعى في مقام المبالغة أنهما أكبر الكبائر كما مر نظيره، ولا
يبعد اطلاقهما وإن أمكنت المناقشة فيه بأن يقال: إنه بصدد بيان أكبرية المذكورات
عن غيرها بعد مفروغية حكمها لا بيان كونها محرمة أو كبيرة أو يقال: إنه بصدد
عد أكبر الكبائر، لا حال المعدود، فلا اطلاق لهما من هذه الجهة.
ومنها رواية أنس (4) " قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: المؤمن إذا كذب بغير
عذر لعنه سبعون ألف ملك وخرج من قلبه نتن حتى يبلغ العرش فيلعنه حملة العرش

(1) راجع - ج 3 - من ج 15 - البحار ص 43 -
(2) المكاسب في المسألة الثامنة عشر من النوع الرابع - في الكذب.
(3) المستدرك - كتاب الشهادات - الباب 6.
(4) المستدرك - كتاب الحج - الباب 120 - من أبواب أحكام العشرة - مرسلة.
65

وكتب الله عليه بتلك الكذبة سبعين زنية أهونها كمن يزني مع أمه "، ودلالتها
على كونه كبيرة لا تنكر ولو مع قطع النظر عن قوله: وكتب الله (الخ) لأن الظاهر أنه بصدد بيان عظمة الذنب وكبره سواء كان بصدد الاخبار عن الواقع أو بصدد
المبالغة.
نعم ظاهر ذيلها كونه بصدد الاخبار عن الواقع وإن كان عدد السبعين كناية
عن الكثرة مبالغة وهو مطروح لقيام الضرورة على أهونية الكذب من حيث هو
من الزنا فضلا عن الزنا بالأم وهو لا يوجب طرح صدرها الدال على كونه كبيرة.
ومنها رواية أبي ذر (1) عن النبي صلى الله عليه وآله في وصية له " قال: يا أبا ذر من
ملك ما بين فخذيه وما بين لحييه دخل الجنة قلت: وإنا لنؤاخذ بما تنطق به ألسنتنا
فقال: وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم إنك لا تزال
سالما ما سكت فإذا تكلمت كتب لك أو عليك يا أبا ذر إن الرجل ليتكلم بالكلمة
في المجلس ليضحك بها فيهوي في جهنم ما بين السماء والأرض يا أبا ذر ويل للذي
يحدث فيكذب ليضحك به القوم ويل له ويل له " (الخ).
والظاهر أن قوله: يا أبا ذر ويل للذي (الخ): تفريع على قوله: وهل يكب
الناس على مناخرهم في النار (الخ). واحتمال كونه كلاما مستأنفا غير مربوط بالصدر:
بعيد، فتدل على أن الكذب موجب لدخول النار، وقد مر سابقا أن الظاهر من صحيحة
عبد العظيم الحسني (2) أن ايعاد رسول الله صلى الله عليه وآله العذاب على شئ من شواهد كونه
كبيرة بل ايعاده ايعاد الله، ولم يظهر من الروايات الدالة على أن الكبيرة ما أوعد الله
عليه النار: أن اللازم ايعاده في الكتاب العزيز ونحوه فتدل الرواية على حرمة سائر
أنواع الكذب بالفحوى.
ويمكن المناقشة فيها بأنها منصرفة إلى من يصدر منه كرارا ويشتغل به بل
لا يبعد دعوى ظهورها في ذلك فيكون مصرا به والاصرار بالصغائر كبيرة على ما

(1) الوسائل - كتاب الحج - الباب 140 - من أبواب أحكام العشرة.
(2) الوسائل - كتاب الجهاد - الباب 46 - من أبواب جهاد النفس.
66

في الروايات.
ومنها روايات كثيرة تدل على اختلاف التعابير والمضامين بأن الكذب لا
يجتمع مع الايمان، كمرسلة الصدوق (1) " قال: كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول:
ألا فاصدقوا إن الله مع الصادقين وجانبوا الكذب فإنه يجانب الايمان "، وعن أبي
جعفر عليه السلام " الكذب خراب الايمان " (2)، وصحيحة معمر بن خلاد (3) عن أبي الحسن
الرضا عليه السلام " قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله يكون المؤمن جبانا قال: نعم قيل: ويكون
بخيلا قال: نعم قيل: ويكون كذابا قال: لا " وعن النبي صلى الله عليه وآله (4) " قال: ثلاث
خصال من علامات المنافق: إذا حدث كذب وإذا ائتمن خان وإذا وعد خلف ".
وعن دعوات الراوندي (5) " قال رجل له صلى الله عليه وآله: المؤمن يزني قال: قد يكون
ذلك قال: المؤمن يسرق قال: قد يكون ذلك قال يا رسول الله المؤمن يكذب قال لا
قال الله تعالى إنما يفتري الذين لا يؤمنون "، وعن تفسير العياشي عن العباس بن هلال
(6) عن أبي الحسن الرضا عليه السلام " أنه ذكر رجلا كذابا ثم قال قال الله تعالى إنما يفتري
الكذب الذين لا يؤمنون " إلى غير ذلك.
ولما استشهد بالآية الكريمة في الأخيرتين فالأولى صرف الكلام إلى مفادها
مع قطع النظر عن الروايات قال تعالى: إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات
الله وأولئك هم الكاذبون (7)
يمكن تقريبها للمدعى بأن يقال: إنها وإن وردت بعد قوله تعالى: وإذا بدلنا
آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا: إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون، وبعد
قوله ولقد نعلم أنهم يقولون: إنما يعلمه بشر (الخ). لكنه بصدد بيان كبرى كلية

(1) الوسائل - كتاب الحج - الباب 138 - من أبواب أحكام العشرة الثانية مرسلة ضعيفة.
(2) الوسائل - كتاب الحج - الباب 138 - من أبواب أحكام العشرة الثانية مرسلة ضعيفة.
(3) الوسائل - كتاب الحج - الباب 138 - من أبواب أحكام العشرة.
(4) المستدرك - كتاب الحج - الباب 120 - من أبواب أحكام العشرة
(5) المستدرك - كتاب الحج - الباب 120 - من أبواب أحكام العشرة
(6) المستدرك - كتاب الحج - الباب 120 - من أبواب أحكام العشرة
(7) سورة النحل - الآية 107.
67

وهي أن اختلاق الكذب مقصورة على الذين لا يؤمنون بآيات الله من غير اختصاص
بالكذب على الله تعالى ويؤكد التعميم قوله: وأولئك هم الكاذبون، لظهوره في أن
الكاذب مقصور على غير المؤمن وأن غير المؤمنين بآيات الله هم الكاذبون منحصرا،
فيظهر منه أن الكذب مطلقا من خواص غير المؤمن، ولما كان في مقام تعظيم الكذب
وتكبيره ولو بدعوى أن الكاذبين غير المؤمنين يفهم منه أنه عظيمة كبيرة وإلا لما
صحت الدعوى.
وهنا احتمال آخر فيها وهو أنها بصدد رد القائلين وانشاء ذمهم لا الاخبار بأمر
واقعي حتى يحتاج في تصحيحها إلى التأول والدعوى نظير ما نسب إلى زينب الكبرى (ع)
في جواب عبيد الله لعنه الله حيث قال الحمد لله (الخ) " قالت: إنما يفتضح الفاجر وهو غيرنا
فإنه ظاهر في انشاء الذم لا الاخبار عن واقعة ونظير قولك في رد من قال لك:
أنت بخيل: إن البخيل من يأكل مال الناس فإن ذلك رد قوله بانشاء ذم بالجملة
الخبرية لا الاخبار بأن آكل مال الناس بخيل فيكون المقصود من قوله: إنما
يفتري الكذب الذين لا يؤمنون رد قولهم بانشاء ذم لهم.
وهنا احتمال ثالث وهو أن الآية بصدد ردهم بجملة اخبارية وهي أن
الذين يقولون: بأنك مفتر ويقولون: يعلمه بشرهم يفترون الكذب في انتساب
الافتراء، إليك وإنهم الكاذبون، ولا يبعد أن يكون الاحتمال الثاني أقرب إلى
الذوق في المقام.
ثم إنه لو سلم رجحان الاحتمال الأول ولو بضميمة الروايتين المتقدمتين،
يكون في دلالتها على حرمة الكذب مجال مناقشة لامكان أن يكون المراد بدعوى
قصر الكذب على غير المؤمن ونفي اتصاف المؤمنين به هو أن الكذب لما كان صفة
خبيثة دنية يناسب أرذال الناس والمؤمن شريف كامل لا يناسب صدوره منه فسلب الصفة
عنه ليس لكونه معصية كبيرة بل لكونه صفة ردية قبيحة قذرة لا تناسب مقام المؤمن
وعليه لا تدل على كونه محرما نظير قوله: المؤمن لا يخلف الوعد، وإنه لفي شغل
عن اللهو والمؤمنون عن اللغو معرضون إلى غير ذلك.
68

وما ذكرناه من الاحتمال جار في جميع الروايات التي تكون بهذا
المضمون وقد مرت جملة منها ولعل في بعضها شهادة على ما ذكرناه فراجع مع أن في كل منها نحو مناقشة يظهر بالتأمل فيها.
ومنها جملة من الروايات التي يستفاد منها أن شهادة الزور عدل
الشرك (1) متمسكا فيها قوله تعالى فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا
قول الزور (2)
كرواية دعائم الاسلام (3) عن أبي جعفر عليه السلام وفيها " فمن الزور
أن يشهد الرجل بما لا يعلم أو ينكر ما يعلم وقد قال الله عز وجل واجتنبوا
قول الزور حنفاء لله غير مشركين به فعدل تبارك اسمه شهادة الزور بالشرك "
وعن تفسير الشيخ أبي الفتوح (4) عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال في خطبته على المنبر:
" إن شهادة الزور تعادل الشرك بالله تعالى ثم تلا قوله تعالى واجتنبوا الرجس من
الأوثان واجتنبوا قول الزور " وقريب منها عن ابن أبي جمهور عن النبي صلى الله عليه وآله (5).
فتدل هذه الروايات على أن مقارنة قول الزور للشرك في الآية الكريمة ليست
بمجرد كونه من المحرمات بل لكونه عد لا للشرك في كونه كبيرة خصه تعالى
بالذكر قريبا للشرك من بين سائر المحرمات تنبيها على عظمه وكبره
كما يوافقه الاعتبار.
ويؤيده صحيحة عبد العظيم الحسني (6) عن أبي عيد الله عليه السلام في تعديد الكبائر
وفيها وشرب الخمر لأن الله نهى عنها كما نهى عن عبادة الأوثان فتمسك لكونه
كبيرة بمقارنته في الكتاب العزيز لعبادة الأوثان مشيرا إلى قوله تعالى: إنما الخمر

(1) الوسائل والمستدرك - كتاب الجهاد - الباب 46 - من أبواب جهاد النفس.
(2) سورة الحج - الآية 31.
(3) المستدرك - كتاب الشهادات - الباب 6.
(4) المستدرك - كتاب الشهادات - الباب 6.
(5) المستدرك - كتاب الشهادات - الباب 6.
(6) الوسائل - كتاب الجهاد - الباب 46 - من أبواب جهاد النفس.
69

والميسر والأنصاب والأزلام رجس (1) (الخ) فيظهر منها أن المقارنة له في الذكر
في الكتاب للتنبيه على عظمة الذنب وكبره ولهذا استفدنا منها كون القمار
كبيرة.
فحينئذ نقول: إن قول الزور الذي جعل عدل للشرك يكون كبيرة لعين
ما ذكر في الرواية وهو أعم من شهادة الزور فيشمل الكذب مطلقا، فتدل الآية
باطلاقها بضميمة الروايات على أن الكذب مطلقا من الكبائر.
إلا أن يناقش في الاستدلال بها مضافا إلى ضعف الروايات، عدا الصحيحة التي
يأتي الكلام فيها: بأن الزور يأتي في اللغة بمعنى الباطل والكذب والشرك بالله وغيرها.
والحمل على مطلق الباطل الأعم من جميع المذكورات وغيرها وجميع الأقاويل
الباطلة: خلاف الضرورة: فإن مطلق الباطل ليس بحرام ضرورة، والحمل على
خصوص الكذب يحتاج إلى شاهد بعد عدم إرادة مطلق الباطل، ولعله أراد خصوص
شهادة الزور كما يظهر من الروايات المتقدمة فإن الظاهر منها أنه تعالى عدل
بين خصوصها مع الشرك لا مطلق الكذب وتكون الشهادة من مصاديقه ويؤيد عدم
إرادة مطلق الكذب في الآية عدم استشهاد النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام في شئ
من الروايات الواردة في الكذب على كثرتها بالآية الكريمة إلا المرسلة التي ذكرها
الشيخ (2) ولم أعثر على أصلها مع احتمال كون التفسير من الراوي، ومن البعيد
دلالة الآية على حرمة الكذب مطلقا وعدم استشهادهم بها في شئ من الروايات
الكثيرة، واستشهادهم بها لشهادة الزور على ما في الروايات المتقدمة وللغناء على
ما في روايات كثيرة (3) ولو سلمت دلالتها على حرمة الكذب لكن يمكن أن يكون
جعله عد لا للشرك بملاحظة بعض مصاديقه كشهادة الزور كما دلت عليه الروايات
والكذب على الله تعالى ورسوله والبدع ونحوها. وكون الكذب بكثير من مصاديقه

(1) سورة المائدة - الآية 92.
(2) في المسألة الثامنة عشر من النوع الرابع - في الكذب.
(3) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 99 - من أبواب ما يكتسب به.
70

ذا مفسدة عظيمة يكفي في جعله مقارنا للشرك تعظيما له ولا يلزم أن يكون بجميع
مصاديقه كبيرة وجعله باطلاقه قرينا له لا يوجب كونه باطلاقه كبيرة وليس اطلاق للآية
من هذه الجهة يؤخذ به كما لا يخفى " فتدبر ".
وأما صحيحة عبد العظيم عليه السلام فلا تكون مؤيدة للمطلوب لأن الآية النازلة في
الخمر والميسر تفارق الآية في قول الزور فإن في قوله: " إنما الخمر والميسر و
الأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه " جعلت العناوين الأربعة
أو الثلاثة موضوعة لقوله: رجس ومن عمل الشيطان، والنهي، فتكون وحدة السياق،
ووحدة النهي شاهدة على المطلوب ولهذا استشهد أبو عبد الله عليه السلام في الصحيحة لكون
الخمر كبيرة بأن الله تعالى نهي عنها كما نهى عن عبادة الأوثان، ولعل نظره إلى
وحدة الأمر وكيفية الأداء في المذكورات ثم لا يخفى أن الأمر بالاجتناب بمنزلة
النهي وفي قوته، أما قوله: فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور (1)
يكون فيه الأمر بالاجتناب مكررا فلم تكن هذا الآية بمثابة الآية المتقدمة ولعل في
التكرار نحو إشارة إلى اختلافهما.
ومنها مرسلة الصدوق في ضمن تعديده لألفاظ رسول الله صلى الله عليه وآله عد منا قوله:
" أربى الربا الكذب " ويصح الاستدلال بها للمطلوب سواء قلنا بأن التفصيل على وجه
الحقيقة أو على نحو المبالغة لدم صحة دعوى كون صغيرة أربى الربا الذي هو من
أعظم الكبائر.
ويمكن المناقشة فيها بأن المذكور في المرسلة ألفاظ كثيرة منسوبة إلى
رسول الله صلى الله عليه وآله والظاهر عدم صدورها في مجلس واحد بل كان في مقامات عديدة
وقد جمعوها في رواية ولم يعلم أن تلك اللفظة في أي مقام صدرت منه (ص) ولعله كان
في مقام لم يكن له اطلاق " تأمل ".
أو يناقش بأنه ليس بصدد بيان حكم الكذب بل بصدد ترجيحه على الربا
فهي نظير قوله: أكبر الكبائر الشرك بالله وعقوق الوالدين وقول الزور حيث قلنا

(1) سورة الحج - الآية 31.
71

بأنه بصدد بيان حكم آخر، هو أكبرية هذا من ذاك بعد الفراغ عن أصل الحكم
فلا يجوز التمسك باطلاقه.
ومنها غير ذلك مما هو ضعيف سندا أو دلالة أو جميعا كما عن النبي صلى الله عليه وآله
" من أعظم الخطايا اللسان الكذوب " (1)، وعن علي عليه السلام " وعلة الكذب أقبح علة (2) "
وعنه عليه السلام " ولا سوئة أسوء من الكذب (3)، وعن النبي صلى الله عليه وآله " وإياكم والكذب
فإنه من الفجور وأنهما في النار (4) "، وعن كتاب الغيبة للفضل بن شاذان بسند
صحيح عن عبد الله بن العباس (5) قال: " حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله " ثم حكى
عنه ما هو من أشراط الساعة إلى أن قال: " ويكون الكذب عندهم ظرافة فلعنة الله
على الكاذب وإن كان مازحا "، وفي دلالتها اشكال لأن اللعن لا يدل على كبر المعصية
فتحصل مما ذكر عدم قيام دليل على كون الكذب بنحو الاطلاق من الكبائر،
نعم لا شبهة في كونه كبيرة في الجملة لأن الأخبار الدالة عليه مستفيضة
بل لعلها متواترة من طرق الفريقين والمتيقن منه الكذب على الله وعلى رسوله
والأئمة عليهم السلام وشهادة الزور والتهمة بناء على كونها من مصاديق الكذب.
وأما لو قلنا إنها أعم من وجه منه فحاله كالنميمة مما دلت الروايات على كونها كبيرة
فإذا انطبقت على الكذب لا يوجب صيرورته كبيرة فإن الحكم المتعلق على عنوان
لا يسري إلى عنوان آخر متحد معه في الوجود، كما أنه لو صار موجبا لفساد لا يوجب
ذلك حرمته لأجله فضلا عن صيرورته كبيرة كما مرت الإشارة إليه.
بل يمكن أن يقال: إن الكذب في غير ما دل الدليل على كونه كبيرة كالموردين
المتقدمين من الصغائر لرواية أبي بصير (6) قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: " إن
العبد ليكذب حتى يكتب من الكذابين فإذا كذب قال الله تعالى: كذب وفجر "، و

(1) المستدرك - كتاب الحج - الباب 120 - من أبواب أحكام العشرة.
(2) المستدرك - كتاب الحج - الباب 120 - من أبواب أحكام العشرة.
(3) المستدرك - كتاب الحج - الباب 120 - من أبواب أحكام العشرة.
(4) المستدرك - كتاب الحج - الباب 120 - من أبواب أحكام العشرة.
(5) المستدرك - كتاب الجهاد - الباب 49 - من أبواب جهاد النفس.
(6) الوسائل - كتاب الحج - الباب 138 - من أبواب أحكام العشرة - مرسلة.
72

رواية الحارث الأعور (1) عن علي عليه السلام قال: " لا يصلح من الكذب جد ولا هزل ولا
يعدن أحدكم صبيه ثم لا يفي له إن الكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى
النار وما يزال أحدكم يكذب حتى يقال: كذب وفجر وما يزال أحدكم يكذب
حتى لا تكذب كذا ولعله لا تجد موضع إبرة صدق فيسمى عند الله كذابا ".
والظاهر من رواية أبي بصير أن قوله: فإذا كذب تفريع على قوله حتى يكتب
من الكذابين ومعناه أنه بعد كتبه منهم إذا كذب قال تعالى: كذب وفجر ومعناه و
لو بمناسبة المقام فسق فإنه أنسب من سائر معانيه فيظهر منه أنه بعد كتبه منهم إذا
كذب صار فاجرا فاسقا; مع أنه لو كان كبيرة صار المرتكب له بمجرد ارتكابه
فاسقا فتدل هي والتي بعدها على أن مجرد تكرار الكذب لا يوجب الفسق بل لا بد
فيه من كونه مدمنا وكذابا مطبوعا على الكذب بل ظاهر الأولى أنه بعد ذلك لا بد
من صدور كذب منه حتى يقال: إنه فاجر، وتدل الروايتان على أن الاصرار الموجب
للفسق في الكذب غير الاصرار في سائر المعاصي لو قلنا فيها بكفاية مطلق التكرار
أو عدم التوبة، واحتمال أن المراد بقول الله: فجر أنه أخزاه وهتك ستره كاحتمال
أن يكون الفجور عند الله غير ما في ظاهر الشريعة وكاحتمال أنه تعالى لا يقول بكل
فاجر: أنه فاجر فاسق خلاف الظاهر.
ويؤيد صغرة قوله في الرواية الثانية: الكذب يهدي إلى الفجور فإنها مشعرة
بعدم كونه منها بل تدل أيضا على عدم كونه في نفسه موجبا للنار، ويؤيده أن في
كثير من الروايات جعل الكذاب موضوعا للحكم.
ويظهر من جملة من الروايات أن ما يخالف الايمان أو ما هو من علائم النفاق
المطبوعية على الكذب، كصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج (2) قال: " قلت لأبي
عبد الله عليه السلام: الكذاب هو الذي يكذب في الشئ قال: لا، ما من أحد إلا يكون ذلك
منه ولكن المطبوع على الكذب " وهي بمنزلة التفسير لما دل على أن الكذب

(1) الوسائل - كتاب الحج - الباب 140 - من أبواب أحكام العشرة.
(2) الوسائل - كتاب الحج - الباب 138 - من أبواب أحكام العشرة.
73

يجانب الايمان فإن قوله: ما من أحد (الخ) يدل على أن كل أحد وإن كان مؤمنا
يبتلى بالكذب ولكن الكذاب هو المطبوع عليه ولعل السائل كان ذهنه مسبوقا
بأن الكذاب فاجر فاسق أو أنه لا يكون مؤمنا فسئل ما سئل، وأما احتمال أن يكون
نظره إلى قوله تعالى: سيعلمون غدا من الكذاب الأشر (1): فليس بشئ فإنه
مربوط ببعض الأمم السالفة ولا يناسب المقام فراجع. وأبعد منه احتمال أن يكون
السؤال والجواب راجعا إلى تفسير اللغة بل هو مقطوع الخلاف ولا يناسب قوله: ما
من أحد (الخ).
وكرواية الحسن بن محبوب المروية عن اختصاص الشيخ المفيد (2) قال:
" قلت لأبي عبد الله عليه السلام يكون المؤمن بخيلا قال: نعم قلت: فيكون جبانا قال: نعم
قلت: فيكون كذابا قال: لا ثم قال: جبل المؤمن على كل طبيعة إلا الخيانة والكذب
وعن النبي صلى الله عليه وآله " أن المؤمن ينطبع على كل شئ إلا على الكذب والخيانة (3) و
عن أبي عبد الله عليه السلام " قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ثلاث من كن فيه كان منافقا وإن صام
وصلى وزعم أنه مسلم: من إذا ائتمن خان وإذا حدث كذب وإذا وعد خلف (4) "
(الخ) وقريب منها روايات أخر، فتحصل مما ذكر أن الكذب في نفسه في غير بعض
أنواعه الذي دل الدليل على كونه كبيرة صغيرة.
نعم لا دلالة في رواية أبي خديجة (5) عن أبي عبد الله عليه السلام " الكذب على الله و
على رسوله من الكبائر " على عدم غيره منها لأن نكتة اختصاصهما بالذكر بعد
أهمية الموضوع لعلها كثرة القالة على رسول الله، وتوهم أنه في مقام التحديد كما ترى.
ثم إن ههنا كلاما آخر لا بد من التعرض له تتميما للمرام وهو احتمال أن يكون
الكذب من العناوين اللا اقتضائية حتى من حيث الحرمة بحسب حكم الشارع فيكون
تحريمه باعتبار اللواحق، ولا بأس بالإشارة إلى حكم العقل في المقام ثم إلى حكم

(1) سورة القمر - الآية 26
(2) المستدرك - كتاب الحج - الباب 120 - من أبواب أحكام العشرة.
(3) المستدرك - كتاب الحج - الباب 120 - من أبواب أحكام العشرة.
(4) المستدرك - كتاب الحج - الباب 120 - من أبواب أحكام العشرة.
(5) الوسائل - كتاب الحج - الباب 139 - من أبواب أحكام العشرة - ضعيفة.
74

الشارع الأقدس.
فنقول: يحتمل بحسب التصور أن يكون الكذب قبيحا ذاتا ويكون علة تامة
له لا ينفك عنه فيكون في موارد مزاحمته مع ما هو أقبح منه باقيا علي قبحه وإن جاز
أو لزم ارتكابه، لاختيار العقل أقل القبيحين، وأن يكون مقتضيا له بمعنى أن فيه
اقتضائه ويؤثر ذلك في القبح إلا أن منعه مانع عن فعليته كاقتضاء النار للاحراق فلا ينافي
ذلك الاقتضاء عدم التأثير فعلا.
فعليه لا يكون الكذب المنجي للمؤمن من الهلكة قبيحا فعلا ومعنى كونه
مقتضيا أنه لولا ذلك المانع لصار فعليا فحينئذ يكون الكذب مزاحا وفي موارد
لا يترتب عليه صلاح ولا فساد قبيحا لاقتضائه الذاتي وفقدان ما يمنعه عن الفعلية، و
ليعلم أن الاقتضاء والتأثير والعلية كلها ههنا ليست على حذو علل التكوين، وأن يكون لا اقتضاء ذاتا ويكون قبحه وحسنه بالوجوه والاعتبار وعروض جهات مقبحة
أو محسنة ولا يكون قبيحا ولا حسنا مع عدم عروض شئ منهما وهذا هو المراد من
كون القبح بالوجوه والاعتبار وإن يظهر من الشيخ الأنصاري (1) في المقام الثاني
ما يشعر بخلاف ذلك.
والظاهر أن هذا الاحتمال أضعف الاحتمالات فإن العقل يدرك قبحه وحزازته
في نفسه فيرى الكذب الذي لا يترتب عليه مفسدة ومصلحة قبيحا له حزازة بلا شبهة
وإنما الكلام في الاحتمالين الآخرين ولا يبعد ترجيح الأول بدليل أنه في المورد
الذي يتوقف انجاء النبي صلى الله عليه وآله أو المؤمن على الكذب يرى العقل أنه لو كان انجائه
متوقفا على الصدق كان أحسن فلا يسوى بين الكذب والصدق التقديري في هذا المورد
وهذا شاهد على أن العقل يدرك قبحه فعلا لا اقتضاء بالمعنى المتقدم.
وإن شئت قلت إن الكذب مع تجرده عن كافة المتعلقات والنظر إلى ذاته بذاته
له قبح ما عقلا لا ينفك عنه والجهات الخارجية لا تأثير لها في رفعه ولهذا يتمنى العاقل
أن يكون الصدق مكان الكذب منجيا للنبي صلى الله عليه وآله وليس ذلك إلا لعدم رفع حزازته

(1) في المسألة الثامنة عشر من النوع الرابع - في الكذب.
75

وقبحه إن لزم ارتكابه وله نظائر تظهر بالتأمل.
ثم لو كان حكم الشارع بحرمته بملاك حكم العقل فلا محالة يتبعه فيه فكما أن قبحه بناء على أقوى الوجوه باق ولو مع عروض المصالح تكون حرمته أيضا باقية
مع ذلك بناء على ما قويناه في باب تزاحم المقتضيات وباب الأهم والمهم من أن
الحكم باق بفعليته في المزاحمين وفي الأهم والمهم جميعا وإن كان المكلف معذورا
في ترك المهم مع الاشتغال بالأهم وفي أحد المتزاحمين مع الاتيان بالمزاحم الآخر
فيكون الكذب على ذلك محرما فعلا وإن كان معذورا في ارتكابه.
وأما حديث وجوبه مقدمة لانجاء النبي صلى الله عليه وآله وهو لا يجتمع مع الحرمة قد فرغنا
عن تهجينه ولو قلنا بوجوب المقدمة فلا تنافي بينه وبين حرمة الكذب لما قلنا من أنه على فرض وجوبها يكون متعلقه هو عنوان الموصل بما هو، والتفصيل يطلب
من مظانه ولكن الشأن في كون الحكم الشرعي بمناط حكم العقل إذ لا دليل
عليه وليس حكم العقل بقبحه في ذاته بمثابة تكشف منه الحرمة الشرعية.
بل يمكن الاستيناس لعدم وحدة المناطين بما دلت في باب جواز الكذب في
الاصلاح على حب الله تعالى الكذب في الاصلاح فإنه لو كانت حرمته بمناط حكم العقل
لما صار محبوبا في شئ من الموارد، لأن الكذب الإصلاحي على ذلك مبغوض بذاته
وإن كان العبد معذورا فيه، فالحكم بالمحبوبية دليل على أن حكم الشارع بالتحريم
والتجويز ليس بملاك حكم العقل والحمل على المحبوبية بالعرض خروج عن ظاهر
الدليل بلا دليل.
ودعوى أن القبيح عقلا لا يمكن أن يصير محبوبا شرعا: يمكن دفعها بأنه
وجيه لو كان المناط منحصرا بما أدركه العقل أو كان المناط بحيث يكشف حكم
الشرع منه ولعل فيه مناطات أخر مجهولة علينا.
ثم بعد فرض عدم الدليل على وحدة المناط في حكم العقل والشرع لا بد من أخذ
اطلاق أدلة حرمة الكذب لو كان، وكذا الأخذ بالمخصص والمقيد والحكم بعدم
الحرمة في موردهما.
76

وهل يمكن أن يقال: إن حرمة الكذب في الشرع بالوجوه والاعتبار
بالمعنى المتقدم وإن كان قبحه بذاته عقلا، وليستأنس له بروايات.
كمرسلة سيف بن عميرة (1) عن أبي جعفر عليه السلام قال: " كان علي بن الحسين
عليه السلام يقول لولده: اتقوا الكذب الصغير منه والكبير في كل جد وهزل فإن الرجل
إذا كذب في الصغير اجترء على الكبير " (الخ) بدعوى أن الظاهر من التعليل أن
الأمر بالاتقاء عن الصغير ليس لذاته بل لأجل عدم الاصلاح بالكبير، فلو كان
الكذب الصغير محرما لما يناسب هذا التعليل وهو نظير قوله في روايات التثليث
: " ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرمات وهلك من حيث لا يعلم (2) " فالأمر
بالاتقاء عن الصغير ارشادي لغرض عدم الوقوع في المحرم وهو الكذب الكبير.
ومعلوم أن كبر الكذب وصغره باعتبار ترتب الفساد على المخبر به ومراتب الفساد
وإلا فنفس الكذب من حيث ذاته لا يتصف بهما، ومن ذلك يمكن الاستيناس للمطلوب
بأن الكذب في حد ذاته لا يكون شيئا وإنما حرمته وحليته وكبره وصغره باعتبار
الوجوه المنطبقة عليه.
ورواية حماد ومحمد (3) عن الصادق عليه السلام عن آبائه في وصية النبي صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام " قال: يا علي ثلاث يحسن فيهن الكذب: المكيدة في الحرب وعدتك زوجتك
والاصلاح بين الناس " وفيها أيضا " يا علي إن الله أحب الكذب في الصلاح وأبغض
الصدق في الفساد "، وقريب منها روايات.
ورواية الصدوق (4) عن الصادق عليه السلام " اليمين على وجهين " إلى أن قال
" فأما اليمين التي يؤجر عليها الرجل إذا حلف كاذبا ولم يلزمه الكفارة فهو أن

(1) الوسائل - كتاب الحج - الباب 140 - من أبواب أحكام العشرة.
(2) الوسائل - كتاب القضاء - الباب 12 - من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن
يقضى به.
(3) الوسائل - كتاب الحج - الباب 141 - من أبواب أحكام العشرة - في سندها
مجاهيل.
(4) الوسائل - كتاب الايمان - الباب 12.
77

يحلف الرجل في خلاص امرء مسلم أو خلاص ماله من متعد يتعدى عليه من لص أو غيره ".
وفي موثقة زرارة (1) عن أبي جعفر عليه السلام في باب الحلف كاذبا للعشار قال:
" فاحلف لهم فهو أحل من التمر والزبد " وفي نسخة (أحلى) مكان (أحل) وكأنها
أصح. بدعوى أنه لو لم تكن حرمته بالوجوه والاعتبار لما صار أحب إلى الله و
لا حسنا ولا أحلى أو أحل من التمر ولا مأجورا عليه لأجل طرو عنوان ذي
مصلحة عليه، بل كان من قبيل تزاحم المقتضيات في مقام العمل وللكاذب عذر في
اختيار أقل المحذورين والمبغوضين.
ويمكن أن يناقش فيه بأن غاية ما يمكن أن يستشهد بتلك الروايات ما عدا
الأولى أن الكذب ليس علة تامة للحرمة وليست الحرمة لازم ذاته، لأن الظاهر منها
أنه محبوب وحسن في الاصلاح، ومقتضى تزاحم المقتضيات كما مر بقاء الموضوع
على حرمته ومبغوضيته، لا صيرورته محبوبا حسنا، والحمل علي المحبوبية
العرضية مع كونه مبغوضا بالفعل ذاتا بعيد جدا.
وأما الدلالة على أن حرمته بالوجوه والاعتبار فلا، لامكان أن يكون مقتضيا
للحرمة ويكون العنوان الطارئ من قبيل المانع عن تأثيره فيمكن أن يكون ما
فيه اقتضاء الحرمة والمبغوضية غير محرم ولا مبغوض لأجل عروض المانع بل يمكن
أن يصير محبوبا فعلا لعدم التنافي بين المبغوضية الاقتضائية والمحبوبية الفعلية سيما
إذا كانت المحبوبية بالعرض كما في المقام فإن محبوبيته لأجل كونه في الصلاح فالصلاح
محبوب بالذات وهو محبوب ثانيا وبالعرض، وإذا دار الأمر بين الاحتمالين لا يمكن
رفع اليد عن اطلاق أدلة حرمة الكذب لو فرض اطلاق فيها بل يمكن كشف حال
الموضوع من اطلاقها والحكم بكونه مقتضيا للحرمة لولا عروض ما يمنعه عن تأثير
مقتضاه بدليل دال عليه، وأما الرواية الأولى فلا دلالة لها على المطلوب بل ولا اشعار
فيها به، لأن الاجتراء على المعصية الكبيرة بارتكاب الصغيرة طبيعي للنفس فأشار في

(1) الوسائل - كتاب الايمان - الباب 12.
78

الرواية إليه والتعليل صحيح موجه بعد كون المحرمات ذات مراتب. نعم لولا كونها
كذلك لكان لما ذكر وجه.
ثم إن الظاهر وجود الاطلاق والعموم في أخبار كثيرة ربما توجب كثرتها
الاطمينان والوثوق بصدور بعضها اجمالا فلا ينظر إلى ضعف أسانيدها، كرواية
وصية النبي صلى الله عليه وآله لأبي ذر رضي الله عنه (1) وفيها " ولا يخرج من فيك كذبة أبدا
قلت: يا رسول الله فما توبة الرجل الذي يكذب متعمدا قال الاستغفار وصلوات
الخمس تغسل ذلك ". وقيل هذه الفقرة فقرة يمكن دعوى الاطلاق فيها أيضا وإن لا يخلو
من اشكال، ورواية عيسى بن حسان (2) " قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول كل
كذب مسؤول عنه يوما إلا كذبا في الثلاثة " (الخ)، ونحوها رواية الطبرسي (3) عنه
عليه السلام ولعلهما واحدة.
وعن جعفر بن أحمد القمي عن أحمد بن الحسين باسناده (4) عن أبي جعفر
عليه السلام " قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله في حديث: والكذب كله إثم إلا ما نفعت به مؤمنا "
(الخ)، وعن الطبرسي نحوه (5)، وعن جامع الأخبار (6) عن الصادق عليه السلام " الكذب
مذموم " وفي دلالتها اشكال، وفي رواية أبي إسحاق الخراساني (7) قال: " كان
أمير المؤمنين عليه السلام يقول: إياكم والكذب " (الخ)، وفي رواية الحسن الصيقل (8)
عن أبي عبد الله (ع) " إن الله أحب إلى أن قال: وأبغض الكذب في غير الصلاح "، وفي

(1) الوسائل - كتاب الحج - الباب 140 - من أبواب أحكام العشرة.
(2) الوسائل - كتاب الحج - الباب 141 - من أبواب أحكام العشرة - ضعيفة بعيسى
بن حسان وأبي مخلد السراج.
(3) المستدرك - كتاب الحج - الباب 122 - من أبواب أحكام العشرة.
(4) المستدرك - كتاب الحج - الباب 122 - من أبواب أحكام العشرة.
(5) المستدرك - كتاب الحج - الباب 122 - من أبواب أحكام العشرة.
(6) المستدرك - كتاب الحج - الباب 122 - من أبواب أحكام العشرة.
(7) الوافي - باب الكذب - من أبواب ما يجب على المؤمن اجتنابه - ج 3 - ص 157.
(8) الوسائل - كتاب الحج - الباب 141 - من أبواب أحكام العشرة - ضعيفة
بالحسن الصيقل.
79

رواية أنس (1) المتقدمة عن رسول الله صلى الله عليه وآله " المؤمن إذا كذب لعنه سبعون ألف
ملك " (الخ) وعن فقه الرضا (2) " وإياكم والكذب فإنه لا يصلح إلا لأهله " وعن علي (ع) (3) " الكذب أقبح علة "، وعنه عليه السلام (4) " لا سوئة أسوء من الكذب " وعنه
عليه السلام (5) " أوصاني رسول الله صلى الله عليه وآله حين زوجني فاطمة فقال: إياك والكذب
فإنه يسود الوجه " وعن النبي صلى الله عليه وآله (6) قال: " واجتنبوا الكذب وإن رأيتم فيه
النجاة فإن فيه الهلكة " وعنه صلى الله عليه وآله (7) " إياكم والكذب فإنه من الفجور وأنهما في
النار " وقد مر في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وآله (8): " ولعنة الله على الكاذب وإن كان مازحا "
إلى غير ذلك فلا ينبغي الاشكال في حرمته مطلقا إلا ما استثني.
الأمر الثاني في مسوغات الكذب الأعم من الشرعية والعقلية وبالعنوان
الأولى أو الثانوي قال الشيخ الأنصاري (9): يسوغ الكذب لوجهين أحدهما
الضرورة إليه ثم جعل الاكراه والاضطرار وكذا الدوران بين المحذورين منه ثم بعد
كلام جعل الأخبار الواردة في باب اليمين لنجاة مال نفسه أو غيره مربوطة بالمقام
مع أنه على فرض كونها مربوطة به يكون مقتضى اطلاقها جواز الكذب لمال نفسه
ولو غير معتد به، وصريح بعضها جوازه لمال غيره، وهذا العنوان غير التسويغ للضرورة
إذ لا ينطبق عليه أحد العناوين المتقدمة.
أما الاكراه والدوران بين المحذورين فظاهر إذ لا يجب على الانسان حفظ
مال نفسه فضلا عن مال غيره إذا لم يكن تحت يده.
وأما الاضطرار فلا يصدق إلا مع كون المال بمقدار يكون دفعه موجبا للحرج
ولو قلنا: أن مطلق دفع المال إلى الظالم حرجي لا يصح ذلك بالنسبة إلى مال الغير
إذا لم يكن تحت يده. ومقتضى اطلاق بعض الروايات جواز الحلف كاذبا في خلاص

(1) المستدرك - كتاب الحج - الباب 120 - من أبواب أحكام العشرة.
(2) المستدرك - كتاب الحج - الباب 120 - من أبواب أحكام العشرة.
(3) المستدرك - كتاب الحج - الباب 120 - من أبواب أحكام العشرة.
(4) المستدرك - كتاب الحج - الباب 120 - من أبواب أحكام العشرة.
(5) المستدرك - كتاب الحج - الباب 120 - من أبواب أحكام العشرة.
(6) المستدرك - كتاب الحج - الباب 120 - من أبواب أحكام العشرة.
(7) المستدرك - كتاب الحج - الباب 120 - من أبواب أحكام العشرة.
(8) المستدرك - كتاب الجهاد - الباب 49 - من أبواب جهاد النفس.
(9) في المسألة الثامنة عشر من النوع الرابع - في الكذب - في مسوغاته.
80

ما لم مسلم وإن لم يكن أمانة عنده وتحت يده، فلو كانت تلك الروايات من أدلة
الباب لا بد من جعل المسوغ زائدا على اثنين أو تعميم المسوغ الثاني بما يشمل مورد
الأخبار. والأمر سهل.
والذي ينبغي أن يقال: إن المكلف تارة يكون مكرها على الكذب فأكرهه
المكره به بعنوانه، وأخرى يكون مضطرا إليه إذا كان في تركه ضرر عليه نفسا
أو عرضا أو مالا بمقدار معتد به أو مطلقا في بعض الأحيان.
وثالثة يكون كذبه لترجيح أخف المحرمين على الآخر كما لو كلفه على
شرب الخمر من لا يأمن سوطه وسلطانه فرجح الكذب للتخلص، وهذا غير عنوان
الاضطرار المرفوع بادلته كما لا يخفى، وسيأتي الكلام في تلك العناوين انشاء الله،
فهل يمكن استفادة مورد رابع من الروايات الواردة في باب الحلف أو لا لا بد من نقل
بعضها ليتضح الحال.
فمنها صحيحة إسماعيل بن سعد الأشعري (1) عن أبي الحسن الرضا عليه السلام في
حديث " قال: سألته عن رجل أحلفه السلطان بالطلاق أو غير ذلك فحلف قال: لا
جناح عليه وعن رجل يخاف على ماله من السلطان فيحلفه لينجو به منه قال: لا
جناح عليه وسألته هل يحلف الرجل على مال أخيه كما يحلف على ماله قال نعم ".
ومنها موثقة زرارة (2) " قال قلت لأبي جعفر عليه السلام نمر بالمال على العشار فيطلبون
منا أن نحلف لهم ويخلون سبيلنا ولا يرضون منا إلا بذلك قال: فاحلف لهم فهو أحل
(أحلى خ ل) من التمر والزبد ".
ومنها صحيحة الحلبي (3) " أنه سأل أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يحلف لصاحب
العشور يحرز (يجوز خ ل) بذلك ماله قال: نعم ".
ومنها موثقة أخرى لزرارة (4) " قال: قلت له: إنا نمر على هؤلاء القوم
فيستحلفونا على أموالنا وقد أدينا زكاتها فقال: يا زرارة إذا خفت فاحلف لهم ما
شاؤوا قلت: جعلت فداك بالطلاق والعتاق قال: بما شاؤوا ".

(1) الوسائل - كتاب الايمان - الباب 12.
(2) الوسائل - كتاب الايمان - الباب 12.
(3) الوسائل - كتاب الايمان - الباب 12.
(4) الوسائل - كتاب الايمان - الباب 12.
81

إلى غير ذلك مما هي نحوها أو قريب منها، وجه الاستفادة دعوى اطلاقها للحلف
الصادق والكاذب لانجاء ماله أو مال غيره كائنا ما كان فهو عنوان غير العناوين
السالفة وغير الكذب في الاصلاح.
ويمكن المناقشة فيها بأنها بصدد بيان حكم آخر وهو جواز الحلف.
توضيحه: أن الحلف عبارة عن جملة انشائية تأتي بها لتأكيد الجملة الاخبارية أو
الانشائية في بعض الأحيان وهي غير الجملة الاخبارية المؤكدة بها ولا تتصف بالصدق
والكذب واطلاقهما أحيانا عليها إنما هو بنحو من التأويل والتسامح فيقال: اليمين
الكاذبة أو الصادقة باعتبار متعلقهما، ولما ورد في الكتاب العزيز النهي عن جعل الله
تعالى عرضه للأيمان فقال تعالى: ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم وورد في الروايات
النهي عنها كاذبا أو صادقا يمكن أن يكون ذاك وذلك منشأ للشبهة في أن اليمين
غير جائزة حتى لانجاء المال، والتخلص من العشار وغيره فسألوا عن حكم اليمين
من حيث هي فلا اطلاق فيها يشمل اليمين المقارنة للجملة الكاذبة لأن جواز نفس
اليمين غير مربوط ولا ملازم لجواز الكذب، بل لا معنى للاطلاق بالنسبة إلى المقارن
والمتعلق فإن معنى الاطلاق هو كون نفس طبيعة موضوع حكم من غير دخالة شئ
آخر فيه فتكون الطبيعة في أي مورد وجدت محكومة به واليمين من حيث هي انشاء
لا كذب فيها واسراء حكم الكذب عليه من متعلقه لا معنى له فتكون الروايات أجنبية
عما نحن بصدده.
ويؤيد ما ذكرناه موثقة زرارة الثانية فإن ظاهرها أنه مع أداء الزكاة كانوا
يطلبون منه زكاة ماله فكان محط سؤاله اليمين الصادقة بأن حلف على أنه ليس
في المال زكاة أو حق للفقراء، والحمل على اليمين بجملة أخرى كاذبة خلاف
الظاهر فتشهد بأن مورد السؤال نفس الحلف، ومنها يستكشف مورد سائر الأخبار
وأما مرسلة الصدوق الآتية (1) فظاهرة بقرينة قوله عليه السلام: إذا حلف كاذبا لم يلزمه
الكفارة في انشاء عهدة عليه أو الالتزام بعمل كأن يقول: لو كان هذا مال زيد

(1) الوسائل - كتاب الأيمان - الباب 12.
82

على كذا أو أنفق كذا.
لكن يمكن دفع المناقشة بأن يقال: مقتضى القرائن الموجودة في نفس
الأخبار أن محط السؤال والجواب فيها هو الحلف كاذبا، أما صحيحة إسماعيل
بن سعد فإن السؤال عن حلف السلطان بالطلاق منشأه احتمال وقوعه مع عدم موافقة
مقدمة للواقع فإنه مع صدقه لا يحتمل وقوعه فقوله: إن كان هذا مال زيد فامرأتي
طالق وإن كان انشاء لكن وقوع الطلاق عند العامة إنما هو فيما إذا كان مال زيد
وكان القائل في مقام انكاره، فعليه كان محط الحلف بالطلاق والعتاق في مورد كان
المسؤول بالحلف يحلف في مقام انكار ما كان واقعا أو اثبات ما لم يكن كذلك فيكون
قوله: وعن رجل يخاف على ماله من السلطان (الخ) مورد الحلف كذبا أيضا.
ومنها يظهر حال ما ورد فيها السؤال عن الحلف بالطلاق والعتاق، كصحيحة
معاذ (1) بياع الأكسية بناء على وثاقته بشهادة المفيد " قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام:
إنا نستحلف بالطلاق والعتاق فما ترى أحلف لهم فقال: احلف لهم بما أرادوا إذا
خفت "، وصحيحة إسماعيل الجعفي (2) بناء على وثاقته بشهادة العلامة والمجلسي
وغيرهما " قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام أمر بالعشار ومعي المال فيستحلفوني فإن حلفت
تركوني وإن لم أحلف فتشوني وظلموني فقال: احلف لهم قلت: إن حلفوني بالطلاق
قال: فاحلف لهم قلت: فإن المال لا يكون لي قال: تتقي مال أخيك
وصحيحة زرارة (3) عن أبي جعفر عليه السلام " وفيها قلت: إني رجل تاجر أمر بالعشار
ومعي مال فقال: غيبه ما استطعت وضعه مواضعه قلت: فإن حلفني بالعتاق والطلاق
فقال: احلف له ثم أخذ تمرة فحلف بها من زبد كان قدامه فقال: ما أبالي حلفت لهم
بالطلاق والعتاق أو أكلتها ".
وهي كما ترى ظاهرة جدا في جواز الكذب والحلف كذبا ونحوها موثقة زرارة
المتقدمة وما هي بهذا المضمون فإن موردها بقرينة السؤال عن الحلف بالطلاق والعتاق

(1) الوسائل - كتاب الأيمان - الباب 12.
(2) الوسائل - كتاب الأيمان - الباب 12.
(3) الوسائل - كتاب الأيمان - الباب 12.
83

هو الحلف كاذبا، لا أقول: في مورد الحلف بهما حتى يقال: إنه انشاء بل أقول: إن
مورد الحلف بهما هو الكذب لولا الانشاء فيستكشف منه أن مورد الأسئلة في غيره
هو الحلف كذبا فقوله: فيستحلفوني أي يستحلفوني كذبا بالقرينة المذكورة.
وتشهد لما ذكرناه أيضا ما أشير فيها إلى التقية والضرورة والاضطرار كصحيحة
أبي الصباح (1) عن أبي عبد الله عليه السلام وفيها " قال: ما صنعتم من شئ أو حلفتم عليه من
يمين في تقية فأنتم منه في سعة " ورواية سماعة (2) عنه عليه السلام " قال: إذا حلف الرجل تقية
لم يضره إذا هو أكره واضطر إليه وقال: ليس شئ مما حرم الله إلا وقد أحله لمن اضطر
إليه " لأن الظاهر منها أن التقية والاضطرار والاكراه صارت منشأ للجواز ولولا
تلك العناوين المجوزة لم يكن جائزا بل رواية سماعة كالصريح بذلك، ولا شبهة
في جواز الحلف صادقا مطلقا كما فعل الأئمة (ع) كثيرا وقد حلف أبو عبد الله عليه السلام
في صحيح أبي الصباح المتقدم وحلف أبو الصباح بمحضره والحمل على عدم الكراهة
كما ترى بل هو مقطوع الخلاف وتشهد له أيضا مرسلة يونس عن بعض أصحابه
عن أحدهما (3) في رجل حلف تقية " فقال إن خفت على مالك ودمك فاحلف ترده
بيمينك فإن لم تر أن ذلك يرد شيئا فلا تحلف لهم " فإن الظاهر أن النهي عن الحلف
للحرمة فيكشف منه أن مورده الحلف كاذبا.
وأما مرسلة الصدوق فالظاهر منها جدا أن موردها الحلف كاذبا لا الانشاء " قال
في الفقيه (4): وقال الصادق عليه السلام اليمين على وجهين أحدهما، إلى أن قال والآخر
على ثلاثة أوجه فمنها ما يؤجر الرجل عليه إذا حلف كاذبا ومنها ما لا كفارة عليه ولا
أجر ومنها ما لا كفارة عليه فيها والعقوبة فيها دخول النار فأما التي يؤجر عليه
الرجل إذا حلف كاذبا ولم يلزمه الكفارة فهو أن يحلف الرجل في خلاص امرء مسلم
أو خلاص ماله من متعد يتعدى عليه من لص أو غيره، إلى أن قال: وأما التي عقوبتها

(1) الوسائل - كتاب الأيمان الباب 12 - الظاهر أن في الثانية إرسال.
(2) الوسائل - كتاب الأيمان الباب 12 - الظاهر أن في الثانية إرسال.
(3) الوسائل - كتاب الأيمان الباب 12 - الظاهر أن في الثانية إرسال.
(4) الوسائل - كتاب الأيمان - الباب 12 - والفقيه - باب الأيمان والنذور والكفارات -
الحديث 20 - ج 3 - ص 405.
84

دخول النار فهو أن يحلف الرجل على مال امرء مسلم أو على حقه ظلما فهذه يمين
غموس توجب النار ولا كفارة عليه في الدنيا ".
فإن الظاهر من الحلف كذبا هو الحلف على اخبار مخالف للواقع وليس نفي
الكفارة قرينة على كون الحلف لإنشاء الالتزام فإن نفيها كما يكون في انشاء
الالتزام لدفع الظلم كذلك يكون في الاخبار كاذبا كما صرح فيها بنفي الكفارة في
اليمين الغموس ولا اشكال في أنها حلف في مقام الدعوى لانكار حق الغير فكما قال
فيها: لا كفارة عليه قال فيما تقدم فلا شبهة في أن الظاهر من الروايات أن مصبها الحلف
كذبا وليس في مورد منها السؤال عن الأعم أو خصوص الصدق، فعلى هذا يكون هذا عنوان
آخر غير عنوان الاضطرار والاكراه والدوران بين المحذورين وغير الكذب في
الاصلاح لو خصصناه به ولا نتعد إلى مطلق المصلحة ولو لنفسه وسيأتي الكلام فيه انشاء الله.
ولا يتوهم أن مطلق اعطاء المال الظالم ظلما حرج على المظلوم فيكون الجواز
للاضطرار، وذلك لممنوعيته بنحو الاطلاق فإن أخذ العشار والوالي بعد تعارف
أخذهما من الناس ليس بحرجي مضافا إلى أن مقتضى بعض الروايات جواز الكذب
والحلف عليه لانجاء مال غيره ولو لم يكن تحت يده كاطلاق ذيل صحيحة إسماعيل
بن سعد المتقدمة (1) ومرسلة الصدوق. ومن المعلوم أن الحلف على مال الغير الذي
لا يكون أمانة عنده وتحت يده ليس لاضطرار وضرورة.
ثم إنه بما ذكرناه من أن محط الروايات الحلف كاذبا تكون أخص مطلقا من
مطلقات حرمة الكذب فتوهم التعارض بالعموم من وجه لعله ناشئ من توهم أعمية موردها
من الكذب وقد عرفت ما فيه.
وأما ما أفاده الشيخ الأنصاري من معارضتها لمفهوم رواية سماعة عن أبي عبد الله
عليه السلام قال: إذا حلف الرجل تقية لم يضره إذا هو أكره أو اضطر إليه وقال " ليس شئ
مما حرم الله إلا وقد أحله لمن اضطر إليه فإن مفهومها عدم الجواز في غير حال
الضرورة والاكراه والكذب مع امكان التورية ليس مضطرا إليه فلا يحوز بمقتضى

(1) الوسائل - كتاب الأيمان - الباب 12.
85

اطلاقه ويجوز لحفظ المال بمقتضى اطلاق الروايات فبعد التعارض يرجع إلى اطلاقات
حرمة الكذب.
(ففيه) مضافا إلى عدم المفهوم للشرطية كما حقق في محله يمكن أن يقال:
إن المورد ليس من مفهوم الشرط فإن قوله: إذا حلف الرحل تقية ظاهر في أن حلفه
كان للخوف والتقية والحمل على الأعم من التقية الخوفية والتقية المداراتية والتحبيبية
خلاف الظاهر، وعليه لا يكون قوله: إذا هو أكره أو اضطر إليه إلا لبيان حال القيد،
ولا يكون شرطية مستقلة وفي مثلها لا مفهوم لها إذ يكون ذكرها تبعا للقيد وبيانا
لحاله. فلو كان مفهوم فلا بد أن يكون للقيد وهو لا مفهوم له، مضافا إلى امكان أن
يقال: إن المفهوم للشرطية على القول به ليس لدلالة وضعية لفظية لأداة الشرط
بمعنى عدم وضع أداته للعلة المنحصرة وهو واضح بل بجهات أخرى عمدتها
الاطلاق.
وإنما يمكن دعوى المفهوم فيما إذا كان المتكلم بصدد بيان حال ما عدا مورد
التعليق كقوله: " إذا بلغ الماء قدر كر لا ينجسه شئ " حيث يكون المتكلم به بصدد
بيان حد عدم الانفعال لإفادة انفعال الماء القليل. ولو نوقش في المثال فلا مشاحة
فيه، وفي رواية سماعة ليس المتكلم بصدد بيان حال حرمة الكذب وحدودها بل
بصدد بيان أن الاضطرار يرفع حكمه بعد مفروضيته.
وإن شئت قلت: سيقت الشرطية لبيان رفع الاضطرار حكم الكذب وفي مثله
لا مفهوم لها ولهذا قال في ذيلها ليس شئ مما حرم الله (الخ) إن كان هذا من تتمة
الحديث فالمفهوم للشرطية محل اشكال من وجوه عمدتها عدم المفهوم لها رأسا.
ثم لو سلمنا المفهوم لها في نفسها لكن في المقام تكون تلك الروايات
المتقدمة قرينة على عدم المفهوم فلا تقع المعارضة بينه وبين تلك الروايات،
ضرورة أن كثرتها في هذا المقام والمقامات الأخر نظيره من غير تعرض أو إشارة
إلى التورية دليل على عدم اعتبار العجز عنها سيما أن بعضها شاهدة على جواز الحلف
كاذبا مع امكان التورية، كرواية معمر بن يحيى الصحيحة على الظاهر (1) " قال:

(1) الوسائل - كتاب الأيمان - الباب 12.
86

قلت لأبي جعفر عليه السلام إن معي بضايع للناس ونمر بها على هؤلاء العشار فيحلفونا عليها
فنحلف لهم فقال: وددت أني أقدر على أن أجيز أموال المسلمين كلها وأحلف عليها
كل ما خاف المؤمن على نفسه فيه ضرورة فله فيه التقية ". إذ من المعلوم أن المراد
بالحلف المسؤول عنه هو الحلف كذبا كما تقدم كما أن الظاهر أن مورد ود
أبي جعفر عليه السلام الحلف لانجاء أموال المسلمين مورد السؤال المذكور لا سنخ مخالف له مع أن أبا جعفر عليه السلام لا يعقل الجائه واضطراره إلى الكذب لقدرته على أنحاء التورية بل
الظاهر منها ومن غيرها كمرسلة الصدوق وموثقة زرارة المتقدمة أن الكذب محبوب
وحسن ومأجور عليه، فلو كان في مورد امكان التورية محرما ولو مع غفلة الحالف
لا يصير محبوبا وأحلى من التمر بل يكون محرما مبغوضا وإن كان المكلف معذورا
كسائر المبغوضات المأتي بها غفلة.
وما ذكره الشيخ الأنصاري لرفع الاستبعاد عن تقييد الأخبار بأن موردها مورد
الغفلة عن التورية مضافا إلى عدم تماميته في بعض الأخبار كما أشرنا إليه ولا يناسبه
التعبير بالمأجورية وكونه أحلى أو أحل من التمر والزبد (غير وجيه) لامكان أن يقال
إن كون التورية مغفولا عنها يؤكد الاستبعاد المذكور فإن الكذب لو كان محرما
مع امكان التورية وكان القيد مما يغفله العامة كان على المعصوم عليه السلام بيانه ولا يمكن
الأمر بالحلف كاذبا في تلك الروايات الكثيرة من غير إشارة إلى أن جوازه موقوف
على عدم امكانها " فتدبر ".
ثم إن هذه الروايات معارضة بروايات دلت علي حصر جواز الكذب بثلاثة،
كرواية عيسى بن حسان (1) " قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول كل كذب مسؤول عنه
صاحبه يوما إلا كذبا في ثلاثة، رجل كايد في حروبه فهو موضوع عنه أو رجل أصلح بين اثنين
يلقي هذا بغير ما يلقي به هذا يريد بذلك الاصطلاح ما بينهما أو رجل وعد أهله شيئا و
هو لا يريد أن يتم لهم "، ومرسلة أبي يحيى الواسطي (2) عن أبي عبد الله عليه السلام " قال: الكلام

(1) الوسائل - كتاب الحج - الباب 141 - من أبواب أحكام العشرة.
(2) الوسائل - كتاب الحج - الباب 141 - من أبواب أحكام العشرة.
87

ثلاثة صدق وكذب واصلاح بين الناس ". وتشعر بالحصر بعض ما تأتي في المستثنى
الآخر.
وحمل هذه الروايات على الحصر الإضافي: بعيد بل لا وجه له في المقام و
تقييد الحصر ليس بجمع عقلائي مقبول عرفا إلا أن يدعى أن كثرة استعمال الاستثناء
في أخبارنا في غير الحصر الحقيقي توجب وهنا في دلالته عليه، بل القرينة العقلية
قائمة في المقام على عدم الحصر، لوضوح أن الكذب لانجاء المؤمن من الهلكة غير
مسؤول عنه، وكذا في موارد دوران الأمر بينه وبين المحذور الأشد كالزنا وشرب
المسكر مضافا إلى أن في نفس تلك الروايات أيضا اختلافا كالروايتين المتقدمتين
والذي يسهل الخطب ضعف الروايتين سندا وضعف سائرها المشعرة بذلك سندا و
دلالة، وكثرة الروايات المقابلة لها وفيها الصحيحة والموثقة مما لا تصلح هي لمعارضتها
فتحصل مما مر جواز الكذب لتخلص مال نفسه أو غيره وهو عنوان آخر غير ما
تقدم.
ثم يظهر من تلك الروايات جواز الكذب لتخلص نفسه أو غيره من سائر المؤمنين
من أنحاء الضرر النفسي والعرضي لالقاء الخصوصية عرفا وفحوى الروايات واطلاق
بعضها كمرسلة الصدوق (1) الدالة على مأجورية الكاذب إذ حلف في خلاص امرء
مسلم أو خلاص ماله من متعد يتعدى عليه من لص أو غيره، ويظهر منها عدم خصوصية
للعشار وأعوان الظلمة بل هو مقتضى تعليق الحكم على الخوف على نفسه أو ماله أو
مال غيره فإن الظاهر منه أن الموضوع للحكم ذلك، ولا دخالة لظالم خاص فيه
فاحتمال الخصوصية في عمال الظلمة بدعوى أن دفع المال إليهم موجب لتقويتهم
وتقوية سلطانهم فلهم خصوصية من بين الظلمة (ضعيف) مخالف لظواهر الروايات،
وصريح المرسلة ومقتضى اطلاق تلك الروايات جواز الحلف كاذبا وجواز الكذب
في كل ضرورة واكراه سواء تمكن من التورية أم لا.
نعم لولاها وكان المستند في جوازه أدلة نفي الاضطرار والاكراه كان عدم

(1) الوسائل - كتاب الأيمان - الباب 12.
88

التمكن منها معتبرا في جوازه من غير فرق بين الاكراه والاضطرار لعدم صدقهما
مع امكانها بنحو لا يخاف الموري عن كشف الواقعة لدهشة ووحشة مستولية عليه.
ودعوى صدق الاكراه ولو مع امكانها لأن المكره أكرهه على الواقع وطلب
منه الكذب وإن أمكن التخلص عنه بالتورية فمع امكانها لا يخرج الكذب عن وقوعه
عن اكراه بخلاف الاضطرار فإنه مع امكانها لا يصدق أنه مضطر على الكذب (غير
وجيهة) لأن الاكراه على الواقع المجهول عن علم المكره غير ممكن ومع امكان
التورية والتفصي عن اكراهه بها أو بغيرها لا يصدق أنه مكره على الكذب وإن كان
مكرها على التنطق بالألفاظ، والفرق بينه وبين الاضطرار بذلك غير ظاهر، فلو
طلب منه قتل مؤمن محقون الدم وأمكنه التخلص عنه بقتل كافر مهدور لا يصدق
أنه مكره على قتل المؤمن، لأن المكره طلب منه قتل المؤمن.
وأما وجه افتراق الفقهاء بين الكذب حيث اعتبروا في جوازه عدم امكان
التورية وبين العقود والايقاعات والألفاظ المحرمة كالسب والتبري فلم يعتبروا امكانها
في لغويتها بل صرح بعضهم بعدم اعتبار العجز عنها كما حكاه الشيخ الأنصاري رحمة
الله فلعله لذهابهم إلى عدم اطلاق في الروايات الواردة في باب الحلف فلا تشمل
الحلف الكاذب بما تقدم وجهه والجواب عنه، فيكون تجويزهم الكذب بمقتضى
مثل حديث الرفع وقد تقدم أن المستند فيه إذا كان ذلك لا محيص عن اعتبار العجز
عنها وأما عدم اعتباره في باب العقود والايقاعات فلورود روايات خاصة في لغويتها
مع الاكراه ومقتضى اطلاقها عدم اعتباره ولهذا عطفوا عليها السب والبراءة كما
نسب إليهم الشيخ الأنصاري (1) ذلك لورود روايات فيهما راجعة إلى قضية عمار
وغيرها من غير إشارة فيها إلى لزوم التورية مع الامكان.
ثم إنه لا شبهة في اعتبار العجز عنها في الدوران بينه وبين محذور أشد الذي
هو أحد العناوين المجوزة له وذلك لوضوح أنه مع امكانها ليس من دوران الأمر بين
المحذورين إلا أن يقال بحرمة التورية بلا عذر كالكذب أو يقال: إن الكذب عبارة

(1) في المسألة الثامنة عشر من النوع الرابع - في الكذب
89

عن التقول بكلام ظاهر في مخالفة الواقع وإن لم يكن ظاهره مرادا، وهما فاسدان
مر الكلام فيهما.
ومن مسوغات الكذب إرادة الاصلاح والروايات الواردة في هذا الباب
على طوائف:
منها ما دلت على استثناء الكذب في الاصلاح بين الناس، كرواية الصدوق (1)
في وصية النبي صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام وفيها " يا علي ثلاث يحسن فيهن الكذب المكيدة
في الحرب، وعدتك زوجتك، والاصلاح بين الناس " ونحوها رواية المحاربي (2)
عن الصادق عن آبائه عنه صلى الله عليه وآله، ورواية الطبرسي (3) عن أبي عبد الله عليه السلام، وقريب
منها رواية عيسى بن حسان (4) ورواية الجعفريات (5) عنه صلى الله عليه وآله، وفي مرسلة
الواسطي (6) عن أبي عبد الله (ع) " الكلام ثلاثة صدق وكذب واصلاح بين الناس " (الخ).
ومنها ما دلت على استثناء ما يراد به نفع المؤمن، كرواية الصدوق (7) عن
الرضا عليه السلام " قال: إن الرجل ليصدق على أخيه فيناله عنت من صدقه فيكون كذابا
عند الله وأن الرجل يكذب على أخيه يريد به نفعه فيكون عند الله صادقا "، وعن
الطبرسي في المشكاة (8) عن الباقر عليه السلام " قال: الكذب كله إثم إلا ما نفعت به
مؤمنا أو دفعت به عن دين مسلم " ونحوها رواية جعفر بن أحمد القمي باسناده (9)
عن أبي جعفر عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله، وعن الشيخ المفيد بإسناده عن صالح بن
سهل الهمداني (10) قال: " قال الصادق عليه السلام: أيما مسلم سئل عن مسلم فصدق فأدخل

(1) الوسائل - كتاب الحج - الباب 141 - من أبواب أحكام العشرة.
(2) الوسائل - كتاب الحج - الباب 141 - من أبواب أحكام العشرة.
(3) المستدرك - كتاب الحج - الباب 122 - من أبواب أحكام العشرة.
(4) الوسائل - كتاب الحج - الباب 141 - من أبواب أحكام العشرة.
(5) المستدرك - كتاب الحج - الباب 122 - من أبواب أحكام العشرة.
(6) الوسائل - كتاب الحج - الباب 141 - من أبواب أحكام العشرة.
(7) الوسائل - كتاب الحج - الباب 141 - من أبواب أحكام العشرة.
(8) المستدرك - كتاب الحج - الباب 122 - من أبواب أحكام العشرة.
(9) المستدرك - كتاب الحج - الباب 122 - من أبواب أحكام العشرة.
(10) المستدرك - كتاب الحج - الباب 122 - من أبواب أحكام العشرة.
90

على ذلك المسلم مضرة كتب من الكاذبين ومن سئل عن مسلم فكذب فأدخل على ذلك
المسلم منفعة كتب عند الله من الصادقين ".
ومنها ما دلت على استثناء إرادة الصلاح، كرواية وصية النبي صلى الله عليه وآله (1) وفيها
" يا علي إن الله أحب الكذب في الصلاح وأبغض الصدق في الفساد " وهذا أعم من عنوان
الاصلاح بين الناس سيما مع استثناء الكذب للاصلاح بين الناس أيضا في هذه الوصية كما
تقدم ورواية الصيقل (2) عن أبي عبد الله عليه السلام في قضية إبراهيم عليه السلام ويوسف عليه السلام وفيها
بعد ذكر حب الله تعالى الكذب في الاصلاح " قال: إن إبراهيم إنما قال: بل فعله
كبيرهم هذا إرادة الاصلاح ودلالة على أنهم لا يفعلون وقال يوسف عليه السلام إرادة الاصلاح "
ورواية عطا (3) عنه عليه السلام " قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا كذب على مصلح ثم تلا أيتها
العير إنكم لسارقون ثم قال والله ما سرقوا وما كذب ثم تلا بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم
إن كانوا ينطقون ثم قال: والله ما فعلوه وما كذب ".
والظاهر منهما أن إبراهيم عليه السلام ويوسف عليه السلام إنما قالا ذلك إرادة الاصلاح
ولم يكن قولهما كذبا محرما بل كان كذبا محبوبا عند الله فما كذبا عند الله، و
الاصلاح الذي أراد إبراهيم: هو التنبيه على فساد رأي عابدي الأوثان وارجاعهم
إلى الحق، كما أن الاصلاح الذي أراد يوسف ظاهرا ابقاء أخيه عنده ليجئ يعقوب
النبي عليه السلام عنده، والحمل على إرادة إبراهيم عليه السلام الصلح بين نفسه والقوم وإرادة
يوسف عليه السلام رفع الخصومة بينه وبين أخوته كما ترى.
ويمكن الاستشهاد بهما بل برواية معاوية بن حكيم عن أبيه عن جده (4) عن أبي عبد الله عليه السلام على أن المراد من صحيحة معاوية بن عمار (5) عن أبي عبد الله عليه السلام
" قال: المصلح ليس بكذاب " هو الأعم من الاصلاح بين الناس، مضافا إلى أن كلمة
أصلح ومصلح إذا أضيفت إلى مثل بين الناس يكون معناها التوفيق بينهم وإذا قيل

(1) الوسائل - كتاب الحج - الباب 141 - من أبواب أحكام العشرة.
(2) الوسائل - كتاب الحج - الباب 141 - من أبواب أحكام العشرة.
(3) الوسائل - كتاب الحج - الباب 141 - من أبواب أحكام العشرة.
(4) الوسائل - كتاب الحج - الباب 141 - من أبواب أحكام العشرة.
(5) الوسائل - كتاب الحج - الباب 141 - من أبواب أحكام العشرة.
91

أصلح الشئ مقابل أفسده وأصلح الأمر يكون بمعنى ايقاع الصلاح والفساد وإذا
أطلق وقيل: المصلح ليس بكذاب يكون أعم فإذا كذب لإرادة نفع لأخيه أو دفع
ضرر عنه يصح أن يقال: أراد الاصلاح بكذبه وأنه مصلح إلا أن يدعى الانصراف إلى
الاصلاح بين الناس.
ثم إن التعارض المترائي بين مفهوم الحصر في رواية عيسى بن حسان و
رواية الطبرسي عن أبي عبد الله عليه السلام، وكذا مفهوم العدد في مقام التحديد في مرسلة
الواسطي ورواية وصية النبي صلى الله عليه وآله وغيرهما وبين سائر الروايات يمكن دفعه بما
أشرنا إليه سابقا: من أن القرينة العقلية قائمة بعدم إرادة الحصر من الاستثناء في
المقام، ضرورة أن العقل حاكم بأن الكذب للفرار من مفسدة أعظم من مفسدته غير
مسؤول عنه، مضافا إلى ما تقدمت من الروايات في المسألة المتقدمة المجوزة للكذب
لانجاء ماله أو نفسه أو مال غيره أو نفسه فلا بد من التصرف في الحصر بنحو لا يخالف
ما تقدم فيصير مفادها بعد رفع التعارض جواز الكذب لكل مصلحة ونفع كائنا
ما كان.
ويمكن ارجاع الروايات الواردة في جوازه لتخلص النفس والمال إليها فيكون
الجواز فيها أيضا للمصلحة والنفع إلا أن يقال: إن سند هذه الروايات عدا صحيحة
معاوية بن عمار والروايات المتقدمة التي لها عنوان آخر ضعيفة، واستفاضتها و
كثرتها وإن توجب الوثوق بصدور بعضها اجمالا لكن لا بد معه من أخذ ما هو أخص
مضمونا وهو الاصلاح بين الناس فيقال بجوازه فيه المتطابق عليه الروايات دون غيره
مع أن الالتزام بجوازه في مطلق الصلاح والنفع غير ممكن بل لعله موجب لاخراج
الأكثر البشيع. وأما الصحيحة فيمكن دعوى انصرافها إلى الاصلاح بين الناس
كما تقدم.
ثم إن القول بجواز الكذب في الوعد مع الأهل كما ورد في الروايات مشكل
لضعفها واجمال المراد منها فإن الظاهر من استثناء عدة الأهل من الكذب أن المراد
بها الاخبار عن خلاف الواقع، والظاهر من عنوان العدة أنها انشاء، فيمكن أن
92

تجعل العدة قرينة على تصرف في الكذب فيراد به الأعم منه ومما هو شبيه به كالوعد الذي
لا يراد إنجازه، ويمكن أن يجعل الكذب قرينة على أن المراد بالوعد الاخبار
بالاعطاء مع عدم إرادة الاتيان به، وكيف كان الأحوط لو لم يكن الأقوى عدم جوازه
إلا مع اكراه أو اضطرار كما قد يتفق ويمكن حمل الروايات على مورد الاضطرار
" تأمل ".
المسألة السادسة
في معونة الظالم
معونة الظالم في ظلمه محرمة بلا اشكال وقد تقدم البحث عن حرمة الإعانة
على الإثم مستقصى مضافا إلى الأدلة الخاصة في المقام إنما الكلام في جهات أخر
ككونها كبيرة مطلقا أو لا كذلك أو يفصل بما يأتي وكونها محرمة ولو في غير ظلمة
وغيرهما مما يأتي الكلام فيه.
فنقول: إن الظالم قد يكون ممن يتلبس بظلم ما، وقد يكون شغله ذلك
كالسارق القاطع للطريق، وقد يكون سلطانا أو أميرا جائرا، وقد يكون مدعى
الخلافة عن رسول الله صلى الله عليه وآله ويكون غاصبا لولاية أئمة الحق كخلفاء بني أمية و
بني العباس لعنهم الله، فهل تكون معونة جميع الطوائف في ظلمهم كبيرة؟
يمكن الاستدلال عليه في أول العناوين برواية طلحة بن زيد وفي سندها محمد
بن سنان (1) وهو لا بأس به وعن شيخ الطائفة (2) أن كتاب طلحة معتمد عن أبي عبد الله
عليه السلام " قال: العامل بالظلم والمعين له والراضي به شركاء ثلثتهم "، ونحوها عن
كنز الكراجكي (3) مرسلا عن الباقر عليه السلام، بناء على أن المراد بكونهم شركاء

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 42 - من أبواب ما يكتسب به.
(2) راجع تنقيح المقال للمامقاني - في ترجمة طلحة بن زيد أبي الخزرج النهدي
الشامي - ج 2 - ص 109.
(3) المستدرك - كتاب التجارة - الباب 35 - من أبواب ما يكتسب به - مرسلة.
93

تسويتهم في درجة الإثم والعقوبة وبناء على أن الظلم مطلقا من الكبائر كما يستظهر
من بعض الروايات ولو قيل بامتناع كونهم في درجة واحدة، ضرورة أن القتل أعظم
من الرضا به والإعانة عليه، لصار ذلك قرينة علي بناء الكلام على المبالغة كقوله:
" شارب الخمر كعابد وثن (1) وقد تقدم أن المبالغة إنما تحسن وتصح إن كان
المورد معصية عظيمة كبيرة، ولو كانت صغيرة لا تصح المبالغة فيها، فالتسوية بينها مبالغة:
دليل على كونهما من الكبائر.
نعم يمكن أن يقال: إنه بعد حكم العقل بعدم التسوية بينهم كما يمكن أن
يجعل الكلام مبنيا علي المبالغة يمكن أن يقال: إن المراد بها شركتهم في أصل
الإثم لا في درجته، وبعبارة أخرى يكون في مقام بيان أصل الشركة لا كيفية
الاشتراك والتسوية فلا تدل إلا على أن المعين له يكون عاصيا، فاستظهار الاحتمال
الأول الدال على المقصود مشكل، كما يشكل استفادة حرمة الإعانة في غير ظلمه
منها، وجه الاستفادة أن الضمير في قوله: والمعين له، يرجع إلى العامل ويكون مقتضى
الاطلاق عدم جواز إعانة العامل سواء في ظلمه أم لا.
(وفيه) أن الظاهر منه ولو لأجل مقارنته للراضي به الراجع ضميره إلى الظلم
وبمناسبة الحكم والموضوع عرفا أن المراد به المعين له في ظلمه، مضافا إلى أن
الاطلاق فيه ممنوع لأنه في مقام بيان التسوية أو الاشتراك بين الثلاثة لا في مقام بيان
حكم المعين له فلا اطلاق فيه.
وبرواية الصدوق (2) بإسناده عن رسول الله صلى الله عليه وآله في حديث " قال: من تولى
خصومة ظالم أو أعانه عليها نزل به ملك الموت بالبشرى بلعنة ونار جهنم وبئس
المصير " ونحوها عنه صلى الله عليه وآله في حديث المناهي (3)، بدعوى أن الظاهر من قوله:
" من تولى خصومة ظالم " أن من قام بأمر خصومته بأن يقبل وكالته في تلك الخصومة

(1) المستدرك - كتاب الأطعمة والأشربة - الباب 5 - من أبواب الأشربة المحرمة
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 42 - من أبواب ما يكتسب به.
(3) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 45 - من أبواب ما يكتسب به.
94

الظالمة، أو أعان الظالم في الخصومة، أو أعان المتولي فيها بشره ملك الموت
بكذا، فتدل على أن تولي الخصومة من الظالم والإعانة عليها كبيرة موجبة للدخول
في النار.
وقد تقدم أن الظاهر من صحيحة عبد العظيم الحسني (1) في عد الكبائر أن ايعاد
رسول الله صلى الله عليه وآله النار علي معصية كاشف عن كونها كبيرة إلا أن يناقش في الرواية
بأن المراد من الظالم فيها السلطان الجائر بقرينة سائر فقراتها المذكور فيها السلطان
وهي قوله: " ومن خف لسلطان جائر "، وقوله: " من دل سلطانا على الجور " وقوله:
" ومن علق بين يدي سلطان جائر "، وقوله: " ومن سعى بأخيه إلى سلطان " (الخ).
ويحتمل أن يكون المراد من تولى خصومته: القيام بأمر القضاوة من قبله
وإن كان بعيدا، بل الحمل على خصوص السلطان أيضا بعيد بل غير صحيح في الرواية
الثانية لكن الرواية لا تصلح لاثبات حكم لضعفها سندا.
ومضمرة ورام بن أبي فراس (2) المرسلة قال: " قال عليه السلام: من مشى إلى ظالم
ليعينه وهو يعلم أنه ظالم فقد خرج من الاسلام ".
وعن كنز الكراجكي (3) عن رسول الله صلى الله عليه وآله نحوها تقريبا إلا أن في ذيلها
" فقد خرج من الايمان "، وعن جامع الأخبار (4) عنه صلى الله عليه وآله نحوها، وعن السيد
فضل الله الراوندي (5) في نوادره باسناده الصحيح على ما شهد به المحدث النوري
(ره) في مستدركه عن موسى بن جعفر عليه السلام " قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله من نكث
بيعة أو رفع لواء ضلالة أو كتم علما أو اعتقل ما لا ظلما أو أعان ظالما على ظلمه وهو
يعلم أنه ظالم فقد برئ من الاسلام ".
ودلالة هذه الروايات على المطلوب لأجل تلك المبالغة العظيمة فيها ضرورة
أن الخروج من الاسلام والايمان والبراءة منه ليس على نحو الحقيقة بل بنحو

(1) الوسائل - كتاب الجهاد - الباب 46 - من أبواب جهاد النفس.
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 42 - من أبواب ما يكتسب به - مرسلة.
(3) المستدرك - كتاب التجارة - الباب 35 - من أبواب ما يكتسب به.
(4) المستدرك - كتاب التجارة - الباب 35 - من أبواب ما يكتسب به.
(5) المستدرك - كتاب التجارة - الباب 35 - من أبواب ما يكتسب به.
95

المبالغة وهي لا تصح أو لا تحسن في الصغيرة فلو صحت في بعض الأحيان لكن الظاهر
المتفاهم من نحوها كونها كبيرة عظيمة في نظر القائل: فلا ينبغي الاشكال في
دلالتها في مورد الإعانة على الظلم سيما مع اقترانها في الأخيرة مع نكث البيعة و
رفع لواء الضلالة.
وأما الدلالة على الإعانة في غيره فلا، لأن الظاهر حتى من غير الأخيرة الإعانة
في ظلمه لا مطلقا ولا أقل من عدم اطلاقها مع محفوفيتها بما تصلح للقرينية بل
مقتضى تقييد الأخيرة دخالة القيد في الحكم فتكون مقيدة لاطلاقها مع فرض الاطلاق
أو رافعة لاجمالها على فرضه.
وتوهم دلالة قوله: " من تولي خصومة ظالم أو أعانه عليها " على الأعم للاطلاق
الشامل للخصومة في غير مورد الظلم (ضعيف مخالف لفهم العرف)، مع أنه مع إرادة
الاطلاق لكان اختصاص الخصومة بالذكر: بعيدا، ومع التسليم فالرواية ضعيفة;
لكن لا يبعد القول بكونها كبيرة في مورد الإعانة على الظلم لتظافر الروايات و
اعتبار بعضها وتصحيح الأخيرة ولم يحضرني كتاب الراوندي حتى أنظر سندها.
وأما إعانة الظلمة الذين كان الظلم شغلا وصفة ثابتة لهم كقطاع الطريق دون
الخلفاء والسلاطين: فيمكن الاستدلال على كونها كبيرة في مورد الإعانة على
ظلمهم مضافا إلى الروايات المتقدمة بجملة أخرى.
منها رواية ابن أبي يعفور (1) " قال كنت عند أبي عبد الله (ع) إذ دخل عليه رجل من
أصحابنا فقال له: جعلت فداك أنه ربما أصاب الرجل منا الضيق والشدة فيدعى إلى
البناء يبنيه والنهر يكريه والمسناة يصلحها فما تقول في ذلك فقال أبو عبد الله عليه السلام
ما أحب أني عقدت لهم عقدة أو وكيت لهم وكاء وأن لي ما بين لابتيها لا ولا مدة
بقلم. إن أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتى يحكم الله بين العباد ".
فإن صدرها وإن كان في مورد الدخول في أعمال خلفاء الجور أو الأمراء من
قبلهم لكن ذيلها بمنزلة كبرى كلية تشمل جميع الظلمة سواء كانوا منهم أو مثل

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 42 - من بواب ما يكتسب به مجهولة ببشير.
96

سلاطين الجور والحكام من قبلهم أو مثل قطاع الطرق وأمثالهم ممن شأنهم و
شغلهم الظلم
ودعوى انصرافها إلى خصوص الطائفة الأولى أو هي والثانية (كأنها في
غير محلها). ويظهر منها بقرينة صدرها: أن إعانتهم في غير ظلمهم أيضا محرمة
كبيرة فإن السؤال عن البناء والنهر واصلاح المسناة وهي غير مورد الظلم.
إلا أن يقال: إن مورد السؤال غير مذكور فيها ومعلوم أن عدم ذكره كان
للتقية والخوف ومن المحتمل أن يكون المعهود من مورده أمير المدينة مثلا ونحوه،
وكان البناء والنهر والمسناة المدعو إليها من الأموال المغصوبة كالأراضي الخراجية
التي كانت تحت يدهم غصبا أو من أموال الناس المغصوبة وكان الأعمال فيها إعانة
عليهم في ظلمهم، فإن ابقاء المغصوب تحت يد الظالم ظلم مستمر منه والتصرف
فيه ظلم. ولعل العمال لما كانوا غير مستقلين في التصرف وكانوا يدا للغاصب عدوا
معينا لهم لا ظالما في تصرفهم.
وعلى هذا الاحتمال الجائي من اجمال السؤال لا يمكن استفادة حرمة إعانة
الخلفاء والأمراء من قبلهم في غير مورد ظلمهم منها فضلا عن سائر الظلمة.
إلا أن يقال: إن قوله عليه السلام: " ما أحب أني عقدت لهم عقدة " (الخ): كناية
عن عدم جواز مطلق الإعانة عليهم كانت في مورد ظلمهم أم لا فيدفع به الاحتمال المتقدم.
والقول بأن ما أحب لا يدل على الحرمة بل يدل علي الكراهة: ضعيف جدا وإن قال به الشيخ
الأنصاري (1) فإن قوله: " إن أعوان الظلمة " كبرى كلية وبمنزلة تعليل لما تقدم
فكيف يصح الحمل على الكراهة فهو كقوله تعالى: إن الله لا يحب كل مختال فخور
(2) ويظهر منها أيضا ببركة قوله: ما أحب (الخ) إن الأعوان أعم ممن تلبس بإعانة
ما أو كان شغله الإعانة عليهم إذ لولا ذلك لأمكن دعوى الانصراف.
والتحقيق أن يقال: إن قوله: إن أعوان الظلمة كذا مع قطع النظر عن

(1) في المسألة الثانية والعشرين - من النوع الرابع - في معونة الظالمين.
(2) سورة لقمان الآية 17.
97

صدره: له جهات من الظهور كظهور الظلمة في نحو الأمراء والسلاطين والخلفاء
أو الأعم منهم وممن شغله ذلك، وظهور الأعوان ولو باعتبار الإضافة إلى الظلمة
فيمن شغله العون كالجندي والقاضي والكاتب ونحوهم، ولا تشمل من أعان في مورد
أو موردين فلا يقال له: هو من أعوان الظلمة، وظهور الجملة ولو بمناسبة الحكم
والموضوع والإضافة إلى الموصوف بوصف الظلم في أن المعين معينهم في ظلمهم
كعمال الخلفاء والسلاطين بحسب النوع. وبلحاظ صدر الرواية يقع التعارض بدوا
بين الظهورين الأخيرين وبين قوله عليه السلام: " ما أحب أني عقدت لهم عقدة " (الخ)
فإن الظاهر أنه كناية عن مطلق العمل لهم، بل وبين الظهورين أو الظهور الأخير
وبين المذكورات في مورد السؤال، لأن البناء ونحوه لا يكون معينا للظلم ولا
شغله الإعانة فيدور الأمر بين رفع اليد عن ظاهر الذيل وحمله بقرينة الأمثلة وقوله
عليه السلام: إني لا أحب (الخ) على مطلق العمل لهم كان إعانة عليهم أو في ظلمهم أم لا
فتكون التوسعة لذلك تعبدية، وبين جعل قوله عليه السلام كناية عن الدخول في أعمالهم
التي كان إعانة عليهم في ظلمهم لا محالة بحسب النوع فيكون موافقا للظهورين
أو عن الإعانة لهم في ظلمهم بقرينة تطبيق الكبرى عليه فيكون موافقا للأخير
وكاشفا ببركة الكبرى عن مورد السؤال المجهول عندنا كما تقدم.
والأظهر ولو بمناسبة الحكم والموضوع وبأنه عليه السلام استشهد ظاهرا بالكبرى
المذكورة وعليه يكون حملها على ما تقدم واعمال التعبد في غاية البعد: جعل
الكبرى قرينة على المعنى المكنى عنه وأنه أحد المعنيين المتقدمين فتكون
حاصل المعنى المراد: أن الدخول في ديوانهم المستلزم لكونه عونا على ظلمهم
محرم أو أن الإعانة على ظلمهم محرمة.
وأما الروايات الأخر التي علق فيها الحكم على أعوان الظلمة مثل موثقة
السكوني (1) عن جعفر بن محمد عليه السلام عن آبائه (ع) " قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله إذا

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 42 - من أبواب ما يكتسب به - موثقه
بالسكوني.
98

كان يوم القيامة نادى مناد: أين أعوان الظلمة ومن لاق لهم دواة أو ربط لهم كيسا
أو مد لهم مدة قلم فاحشروهم معهم ".
ورواية السيد فضل الله الراوندي (1) التي صححها المحدث النوري عن موسى
بن جعفر عليه السلام " قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إذا كان يوم القيامة نادى مناد أين الظلمة
وأعوان الظلمة من لاق لهم دواة أو ربط لهم كيسا أو مد لهم مدة احشروه معهم "، و
قريب منهما رواية ورام بن أبي فراس (2) إلا أن فيها " وأعوان الظلمة وأشباه الظلمة
حتى من برأ لهم قلما " (الخ).
ورواية القطب الراوندي (3) وفيها " أين الظلمة وأعوانهم حتى من لاق لهم دواة "
(الخ) فالكلام فيها أنه يحتمل في رواية السكوني أن يكون عطف من لاق لهم (الخ).
على أعوان الظلمة (بالواو) لإفادة أمر زائد على الإعانة في ظلمهم فكأنه قال:
إعانتهم في ظلمهم وفي غيره كالإعانة في الليق والربط والمد سواء فتكون بحسب هذا
الظهور مخالفة لسائر الروايات فإن بعضها بلا عاطف فيكون ما بعد بيانا وفي بعضها
عطف (بحتى) لإفادة أخفى مراتب الإعانة فتكون المذكورات بحسب رواية السكوني
مقابلة للإعانة وبحسب غيرها مصداقها لكن الأظهر الأولى حمل العطف في رواية
السكوني على عطف الخاص على العام فتطابق بين الروايات لأظهرية غيرها منها
كما لا يخفى.
ثم إن ما ذكرناه في رواية ابن أبي يعفور (4) من وقوع التعارض بين صدرها
وذيلها يأتي في تلك الروايات أيضا، لكن الأظهر في مفادها أن مطلق الإعانة على
ظلمهم محرم ومعصية كبيرة ولا تختص الحرمة بالاشتغال المعتد به.
واحتمال أن يكون المراد بمن لاق ونحوه من كان شغله ذلك (وهم) وإنما

(1) المستدرك - كتاب التجارة - الباب 35 - من أبواب ما يكتسب به.
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 42 - من أبواب ما يكتسب به.
(3) المستدرك - كتاب التجارة - الباب 35 - من أبواب ما يكتسب به.
(4) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 42 - من أبواب ما يكتسب به.
99

قلنا: على ظلمهم، لأن ذكر مثل الدواة والقلم والكيس في تلك الروايات مما هي
آلات الظلمة سيما الحكام في ظلمهم لانفاذ الأحكام وجمع المظالم: دليل على اختصاص
الإعانة بمورد الظلم والمذكورات من الموارد الخفية للإعانة على الظلم لا مطلق
الإعانة على الظالم، فلو كان المراد الثاني لكان عليه ذكر غيرها مما لا دخل له في
ظلمهم كاعطاء كأس ماء ونحوه.
وأما مرسلة عوالي اللئالي (1) " أنه دخل على الصادق رجل فمت له بالأيمان
أنه من أوليائه فولى عنه وجهه فدار الرجل إليه وعاود اليمين فولى عنه فأعاد اليمين
ثالثة فقال عليه السلام له: يا هذا من أين معا شك فقال: إني أخدم السلطان وأني والله
لك محب فقال: روى أبي عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: إذا كان
يوم القيامة نادى مناد من السماء من قبل الله عز وجل: أين الظلمة أين أعوان
الظلمة أين من برأ لهم قلما أين من لاق لهم دواة أين من جلس معهم ساعة فيؤتى
بهم جميعا فيؤمر أن يضرب عليهم بسور من نار فهم فيه حتى يفرغ الناس من الحساب
ثم يؤمر بهم إلى النار ".
فهي مع ضعفها واشتمالها على ما لا يمكن الالتزام به: ظاهرة في أن الرجل كان
معروفا عند أبي عبد الله عليه السلام ولهذا ولى عنه وجهه، ولعل خدمته كانت من قبيل ما صدق
عليه الظلم أو الإعانة عليه، فلا دلالة فيها على حرمة مطلق العون.
فتحصل من جميع ذلك أن الروايات المتقدمة لا تدل إلا على حرمة إعانة الظالم
في ظلمه كما صرح بالقيد في بعضها وهي ظاهر الروايات الأخيرة بل وغيرها.
وأما ما في بعض الروايات (2) " من علق سوطا بين يدي سلطان جائر جعلها
حية طولها سبعون ألف ذراع فيسلط الله عليه في نار جهنم خالدا فيها مخلدا ":
فموردها الإعانة على الظالم في ظلمه بل لا يبعد أن يكون المراد منه ولو
بمناسبة الحكم والموضوع هو السواط الذي كان شغله ضرب المظلومين
والمجرمين بنظر حاكم الجور فهو من الظلمة ومعين الظلمة في ظلمهم

(1) المستدرك - كتاب التجارة - الباب 35 - من أبواب ما يكتسب به.
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 42 - من أبواب ما يكتسب به.
100

وأما رواية ابن بنت الكاهلي (1) عن أبي عبد الله عليه السلام " من سود اسمه في
ديوان ولد سابع حشره الله يوم القيامة خنزيرا "، وفي رواية عن الكاهلي (2) عن أبي عبد الله عليه السلام " من سود اسمه في ديوان الجبارين من ولد فلان حشره الله يوم القيامة
حيرانا " كذا في الوافي (3) والوسائل ويحتمل أن يكون (خنزيرا) مصحف
(حيرانا) أو بالعكس وكون الروايتين واحدة، وكانت الأولى أيضا عن الكاهلي
لكن لا يعبأ بهذا الاحتمال.
وعن الشيخ المفيد في الروضة (4) عن ابن أبي عمير عن الوليد بن صبيح
الكابلي عن أبي عبد الله عليه السلام " من سود اسمه في ديوان بني شيصبان حشره الله يوم القيامة
مسودا وجهه " وبني شيصبان كناية عن بني العباس وشيصبان اسم شيطان على
ما في القاموس، والظاهر منها أو من بعضها حرمة الدخول في ديوانهم بأن يصير من
أعضاء ديوان الظالم أو ديوان غاصب الخلافة كالشرطي والجندي والقاضي والأمير
وحواشي السلطان وأمثالهم، لا مثل خياط السلطان وبنائه ومعماره كما قال الشيخ
الأنصاري (5) ولعله أراد بما ذكر بيان المراد في رواية ابن أبي يعفور وإلا فالظاهر
من قوله: من سود اسمه (الخ) هو ما ذكرناه، وقد مر أن الروايات الواردة في
أعوان الظلمة ظاهرة أو منصرفة إلى أعوانهم في الظلم فما أفاده من أن معمار
السلطان وبنائه من أعوانه حق، لكن تلك الروايات لا تدل على حرمة مطلق عون
السلطان والظلمة.
وأما الروايات المتقدمة آنفا فالظاهر منها أن الدخول في ديوانهم وصيرورته

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 42 - من أبواب ما يكتسب به - مجهولة
لابن بنت الوليد.
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 44 - من أبواب ما يكتسب به.
(3) باب عمل السلطان - وجوائزهم - من أبواب وجوه المكاسب ج 10 - ص 27.
(4) المستدرك - كتاب التجارة - الباب 35 - من أبواب ما يكتسب به.
(5) في المسألة الثانية والعشرين من النوع الرابع - في معونة الظالمين.
101

من أعضاء حكومتهم محرم، ولعله لأجل ملازمته للإعانة على الظلم، أو لصيرورته
موجبا لقوة شوكتهم، أو يكون نفس الدخول في ديوانهم إعانة على حكومتهم
الجائرة الظالمة وإن كان مقتضى الجمود على ظواهرها أن الدخول فيه حرام ذاتا
لا لترتب معصية أو عنوان آخر عليه ويأتي بعض الكلام فيه في المسألة الآتية، ولا
يبعد اختصاص ذلك بخلفاء الجور الغاصبين لخلافة رسول الله صلى الله عليه وآله والمدعين لها و
الاسراء إلى غيرهم مشكل لخصوصية فيهم لعنهم الله كما لا يبعد الاختصاص في
رواية يونس بن يعقوب (1) قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: لا تعنهم علي بناء مسجد.
والمراد من الإعانة علي بناء المسجد ليس مطلق العمل فيه ولو لحوائج نفسه
كالبناء والعملة العاملين لأجل حوائجهم من غير نظر إلى صاحب العمل، فإعانتهم
أخص من ذلك. ضرورة أنه لا يقال للتاجر الذي يتجر لأغراضه وحوائجه: إنه معين
الفقراء أو معين الظلمة بمجرد بيع المتاع منهم كبيعه من سائر الناس ولا لمن باع
الآجر والجص من الباني للمسجد كبيعه من سائر الناس: إنه أعانه علي بناء
المسجد.
نعم لو خص نفسه لبناء المسجد وانتخبه من سائر الأبنية مع تسهيل لأمره أو
قصد التوصل إليه يمكن أن يقال: إنه معينه في بنائه وكذا لو وقف نفسه للبيع من
الظالم والعمل له يمكن أن يقال: إنه معينه ويمكن توجيه نظر الشيخ إلى ذلك
" تأمل ". بل لو صار شخص بنائهم أو معمارهم أو خياطهم لحوائج نفسه وإنما
انتخب ذلك لكونه أنفع له في معاشه لا يقال: إنه معينهم.
وتشهد لما ذكر رواية صفوان الجمال (2) " قال: دخلت على أبي الحسن
الأول عليه السلام فقال: يا صفوان كل شئ منك حسن جميل ما خلا شيئا واحدا قلت: جعلت

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 42 - من أبواب ما يكتسب به - لا يخلو من
حسن.
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 42 - من أبواب ما يكتسب به - ضعيفة بمحمد
بن إسماعيل الرازي.
102

فداك أي شئ قال: اكرائك جمالك من هذا الرجل يعني هارون الرشيد قلت: والله
ما أكريته أشرا ولا بطرا إلى أن قال: أتحب بقائهم حتى يخرج كرائك قلت: نعم
قال: من أحب بقائهم فهو منهم ومن كان منهم كان ورد النار " (الخ). فإن صدرها
لا يدل على الحرمة فإن عدم كونه الشئ جميلا حسنا أعم منه بل لعله يشعر
بالكراهة كما أن التعليل بعدم جواز حب بقائهم دليل على أن اكرائه بنفسه غير
محرم وإلا لعلل به لا بأمر خارج فتدل على أن العمل لهم لحوائج نفسه ليس بحرام.
وأما حب بقائهم فأمر آخر ليس مورد بحثنا ومع حرمته لا توجب تحريم أمر آخر
خارج عنه.
ويشهد له أيضا صحيح الحلبي الآتي (1) في المسألة الآتية وفيها قال: " و
سألته عن رجل مسكين خدمهم رجاء أن يصيب معهم شيئا فيغنيه الله به فمات في
بعثهم قال: هو بمنزلة الأجير إنه إنما يعطي الله العباد على نياتهم " فإنه كالصريح
في أن العمل لهم بنية حوائجه لا بنية العون عليهم محلل وأن الأجير لهم لم يرتكب
حراما، ولا يخفى أن عنوان الأجير والخادم غير عنوان الديواني والدخول في
شؤون السلطنة كما مر.
وقد تقدم أن اسراء الحكم من تلك الروايات الواردة في خلفاء الجور المدعين
لخلافة رسول الله صلى الله عليه وآله إلى غيرهم مشكل لخصوصية فيهم دون سائر الظلمة والسلاطين
والأمراء سيما مثل سلاطين الشيعة وأمرائهم.
ومما تقدم يظهر الكلام في جملة من الروايات المأخوذة فيها عنوان المعونة
أو العون، كرواية الفضل بن شاذان (2) عن الرضا عليه السلام في كتابه إلى المأمون وعد
فيها في جملة الكبائر معونة الظالمين والركون إليهم: وفي صحيحة أبي حمزة (3)
بناء على أن مالك بن عطية هو الأحمسي الثقة عن علي بن الحسين عليه السلام " قال:

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 48 - من أبواب ما يكتسب به.
(2) الوسائل - كتاب الجهاد - الباب 46 - من أبواب جهاد النفس - ضعيفة.
(3) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 42 - من أبواب ما يكتسب به.
103

إياكم وصحبة العاصين ومعونة الظالمين ".
وعن تفسير العياشي عن سليمان الجعفري (1) " قال: قلت لأبي الحسن عليه السلام
ما تقول في أعمال السلطان فقال: يا سليمان الدخول في أعمالهم والعون لهم والسعي
في حوائجهم عديل الكفر والنظر إليهم على العمد من الكبائر التي يستحق بها النار ".
وفي رواية شاذان بن جبرئيل (2) عن رسول الله صلى الله عليه وآله في حديث الاسراء وما رآه
مكتوبا علي أبواب النار ومن جملته " لا تكن عونا للظالمين "، فإن الظاهر أو
المنصرف منها ولو بمناسبة الحكم والموضوع العون على ظلمهم سيما مع التقييد
في بعض ما تقدم وغيره ومع ما تقدم من رواية صفوان وصحيح الحلبي.
ويؤيده رواية أعمش (3) حيث عد فيها من الكبائر ترك إعانة المظلومين،
ومعلوم أن المراد تركها فيما ظلموا لا مطلقا، والظاهر انصراف السلطان في رواية
الجعفري إلى بني العباس (لع) والسؤال والجواب ناظران إليهم، فإنهم محل الحاجة
في ذلك الزمان، فلا يبعد القول بحرمة إعانتهم مطلقا والسعي في حوائجهم
والدخول في أعمالهم بل والنظر إليهم لكن الظاهر لزوم توجيه الأخير بوجه،
مع امكان الخدشة في سند الرواية فإن العياشي وإن كان ثقة وأدرك الجعفري وهو ثقة
لكن ليس لنا طريق صحيح إلى تفسيره، ومعروفيتها بحيث أغنتنا عن السند غير
ظاهرة ولم يذكر صاحب الوسائل طريقه إليه إلا أن يدعي الاطمينان والوثوق بكون
ما عن تفسيره منه والعلم عند الله.
وأما الروايات الواردة في الدخول في أعمالهم والغشيان في سلطانهم والقرب
من السلطان وحواشيه فليست من المسألة التي تعرضنا لها ككثير مما تقدم وإنما
تعرضنا لها تبعا للقوم وسيأتي الكلام فيها انشاء الله في المسألة الآتية

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 45 - من أبواب ما يكتسب به.
(2) المستدرك - كتاب التجارة - الباب 35 - من أبواب ما يكتسب به.
(3) الوسائل - كتاب الجهاد - الباب 46 - من أبواب جهاد النفس - ضعيفة.
104

المسألة السابعة
في الولاية من قبل الجائر
الولاية من قبل الجائر محرمة، كانت على المحرمات أو المحللات أو ما اختلط
فيها المحرم والمحلل، وذلك لأن السلطنة مجعولة بجعل الله تعالى لرسول الله صلى الله عليه وآله
وبجعله تعالى أو بجعل رسول الله صلى الله عليه وآله بأمره تعالى مجعولة لأمير المؤمنين والأئمة
الطاهرين من بعده، وأساس السلطنة وشئونها غير أساس تبليغ الأحكام الذي هو
من شؤون رسول الله صلى الله عليه وآله من حيث رسالته ونبوته، ومن شؤون الأئمة بارجاع رسول
الله صلى الله عليه وآله الأمة إليهم في أخذها بأمره تعالى بضرورة المذهب وللروايات المتواترة
من الفريقين كحديث الثقلين (1) وحديث سفينة نوح (2) وغيرهما، وإنما وجب
طاعتهم لكونهم سلاطين الأمة وولاة الأمر من قبل الله تعالى، لا لكونهم مبلغين
لأحكامه تعالى، لأن المبلغ لها لا أمر ولا حكم له فيما يبلغها ولا يكون العمل طاعة له
بل الحكم من الله والإطاعة له وإنما أقواله وآرائه كاشفات عن حكم الله تعالى
وأما أوامرهم الصادرة منهم بما أنهم ولاة الأمر وسلاطين الأمة فتجب إطاعتها
لكونهم كذلك ولكون الأمر أمرهم لا لكشفه عن أمر الله تعالى.
نعم إنما يجب طاعتهم لأجل أمر الله تعالى بها في قوله: أطيعوا الله وأطيعوا
الرسول وأولي الأمر منكم (3) ولجعل السلطنة والولاية لهم من قبله تعالى ولولا ذلك
لم تجب، لأن السلطنة والولاية مختصة بالله تعالى بحسب حكم العقل فهو تعالى مالك الأمر
والولاية بالذات من غير جعل وهي لغيره تعالى بجعله ونصبه، وهذه السلطنة والخلافة

(1) الوسائل - كتاب القضاء - الباب 5 - من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضى به.
(2) الوسائل - كتاب القضاء - الباب 5 - من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضى به.
(3) سورة النساء - الآية 62.
105

والولاية من الأمور الوضعية الاعتبارية العقلائية فالسلطنة بشئونها وفروعها لهم من
قبله تعالى ولا يجوز لأحد التصرف فيها وتقلدها أصلا وفرعا، لأن تقلدها غصب والتصرف
فيها وفي شؤونها كائنة ما كانت تصرف في سلطان الغير.
نعم يمكن أن يقال إن الغصب بما أنه الاستيلاء على مال الغير أو حقه عدوانا
وعامل السلطان ولو من تقلد من قبله أمر إمارة بلد أو ولاية ناحية أو تقلد أمر القضاوة
والوزارة ونحوها ليس مستوليا علي شؤون السلطنة بل الاستيلاء إنما هو من السلطان
وهو غاصب للخلافة والسلطنة بشئونهما، وعماله أياديه وليسوا مستولين على شؤونها
حتى الأمر الذي كانوا متولين له بنصب من السلطان بل هو نظير غصب السلطان بلدا
بوسيلة عماله فإن الغاصب له هو السلطان لا غير وأياديه لا يعدون سلطانا ومستوليا عليه
وإن كان تصرفهم فيه محرما بعنوان التصرف في مال الغير بغير إذنه.
ففي المقام أن تقلد أمر من شؤون السلطنة والخلافة محرم، لا بعنوان الغصب
بل بعنوان التصرف في سلطان الغير بلا إذنه وعدوانا، لكن ما ذكرناه مختص ظاهرا
بمن تولى منصبا من قبله كالقضاوة والحكومة والإمارة بل والولاية على الجباية و
سائر أنحاء المناصب دون مثل الجندي وخدمة الدوائر ونظائرهم، للفرق بين
شؤون السلطنة بفروعها ومثل ما ذكر، لأن تولي الأمور المتقدمة تصرف في شؤون
السلطنة ولو لم يكن المتصرف مستوليا ومع الاستيلاء غصب للشئون بخلاف مثل
الخادم والجندي فصيرورة شخص جنديا أو خادم دائرة غير تقلد المناصب ليست
محرمة لا بعنوان الغصب ولا بعنوان التصرف في سلطان الغير، فلا بد من التماس دليل
آخر على حرمتها ويأتي الكلام في الروايات الخاصة.
ومما تقدم يظهر النظر فيما يظهر من المحقق صاحب الجواهر (1) من أن
الولاية على المحلل حلال لولا الأخبار الخاصة، إذ ظهر أنها محرمة مع الغض عنها
لكن لا بعنوان ذاتها بل بعنوان التصرف في سلطان الغير فلا بد في تقلد شئ من
المناصب وشئون السلطنة من الإذن من ولاة الأمر أو المنصوب من قبلهم.

(1) في المسألة الرابعة - في بيان الولاية من التجارة.
106

ثم إنه يظهر منهم أن الولاية من قبل السلطان العادل الحق قد تصير واجبة
علينا إذا عينه أو يتوقف القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليه ومن قبل الجائر
تحرم إذا كانت على محرم وكذا إذا كانت على ما يشتمل على محرم ومحلل كالحكومة
على بعض البلدان المشتملة على خراج ونظام وسياسة ومحرمات كالقمرك وغيره إذا
لم يأمن من اعتماد ما يحرم والظاهر من التعبيرات أن الولاية بما ذكر صارت بعنوانها واجبة
أو محرمة فإن كان هذا الظاهر مرادا: فهو غير وجيه لأن الوجوب في الموردين
لم يتعلق بذاتها وعنوانها.
أما في الأول فلأن الواجب عنوان إطاعة السلطان العادل، لا عنوان الولاية،
وهما عنوانان، ولا يلزم من وجوب أحدهما وجوب الآخر وإن كانا منطبقين على
الوجود الخارجي وقد قالوا نظير ذلك في غير المقام كوجوب الوضوء والغسل بالنذر
والعهد والقسم ويرد عليهم نظر ما أوردناه في المقام.
وأما في الثاني فمضافا إلى عدم وجوب المقدمة شرعا أنها لو كانت واجبة فالتحقيق
أن الوجوب في المقدمة لم يتعلق بما هي مقدمة بالحمل الشايع وبالعناوين الذاتية
لها بل يتعلق بعنوان الموصل بما هو كذلك كما هو محتمل كلام الفصول وهو عنوان
آخر غير عنوان ذات المقدمة فالولاية بعنوانها الذاتي لا تصير واجبة إذا توقف واجب
عليه ولأن التولية على أمر محرم لا توجب حرمتها ولا تسري حرمة ذلك المحرم
إليها لعدم وجه للسراية، ومقدمات الحرام ليست محرمة لو فرضت كونها من مقدماتها
هذا مع قطع النظر عن الروايات الخاصة الآتية.
نعم قد عرفت أنها من قبل الجائر محرمة سواء كانت على محلل أو محرم
بعنوان التصرف في سلطان الغير.
وأما الروايات فيظهر من بعضها أن حرمتها لما أشرنا إليه. كرواية أبي حمزة (1)
عن أبي جعفر عليه السلام " قال: سمعته يقول: من أحللنا له شيئا أصابه من أعمال
الظالمين فهو له حلال وما حرمناه من ذلك فهو له حرام ". والظاهر أن المراد

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 46 - من أبواب ما يكتسب به - مرسلة.
107

بما حرمناه ذكر بعض مصاديق ما يقابل الجملة الأولى لا اثبات قسم ثالث غير مذكور
فيكون المراد ما لم نحلل له فهو حرام، ودلالتها على المطلوب مبنية على أن يكون
المراد من شئ أصابه عملا من أعمالهم على أن يكون (من أعمال الظالمين) بيانا
للشئ فحاصل المعنى أن كل ولاية أو نحوها أصابها موقوفة حليتها على تحليلنا
فتدل على أن عدم الجواز في غير صورة التحليل بجهة التصرف في سلطانهم ومع
إجازتهم لا يكون التقلد لها عدوانا فيحل.
لكن الأظهر أن المراد بالشئ الأموال التي أصابها من أعمالهم فحينئذ يحتمل
أن يكون المراد منه ما يقع في يده من الزكوات والغنائم وخراج الأراضي الخراجية
إلى غير ذلك مما يكون جمعها والتصرف فيها مختصا بوالي الحق ويكون ولاة
الجور ظالمين في الأخذ والاعطاء فيها، فتدل على أن تجويزهم وتحليلهم لما أصابوا
موجب للحلية لأن تحليلهم إجازة لما أخذه من غير حق فيتعين زكاة وخراجا
بإجازتهم في هذا المقدار، إذ اعطاء الزكاة والخراج لوالي الجور لا يوجب
وقوعهما وتعينهما لكونه غاصبا ومع إجازة والي الحق يتعينان وتحليل ما أخذه
المتقلد لولاية إجازة لما أخذه فوقع زكاة وخراجا فحل له، وعلى هذا الاحتمال
تدل بالملازمة على أن تصرفاتهم وتقلدهم للولاية محرمة لأجل التصرف في سلطان
الغير وكذا لو كان المراد من شئ أعم منها ومن مجهول المالك واحتمال اختصاصه
بالثاني لا وجه له، ولو لم نقل إن الظاهر اختصاصه بما تقدم لظهور الحلية بالتحليل
في أنه يكون لصاحب الحق.
وأظهر منها ما هي نظيرها عن الكشي في رجاله عن أبي حمزة الثمالي (1)
" قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: من أحللنا له شيئا من أعمال الظالمين فهو له
حلال لأن الأئمة مفوض إليهم فما أحلوا فهو حلال وما حرموا فهو حرام "، وعن
اختصاص الشيخ المفيد عن محمد بن خالد الطيالسي عن ابن أبي عمير مثله (2). فهي
كما ترى ظاهرة في أن التحليل متعلق بالأعمال وتقلدها، ولعل المراد بالتفويض

(1) المستدرك - كتاب التجارة - الباب 39 - من أبواب ما يكتسب به.
(2) المستدرك - كتاب التجارة - الباب 39 - من أبواب ما يكتسب به.
108

تفويض السلطنة وشئونها فيكون تحليلهم لحقهم وأنهم سلطان من قبل الله.
وعن السيد هبة الله معاصر العلامة عن صفوان بن مهران (1) " قال: كنت
عند أبي عبد الله عليه السلام إذ دخل عليه رجل من الشيعة فشكا إليه الحاجة فقال له: ما
يمنعك من التعرض للسلطان فتدخل في بعض أعماله فقال: إنكم حرمتموه علينا
فقال: خبرني عن السلطان لنا أو لهم قال: بل لكم قال: أهم الداخلون علينا أم
نحن الداخلون عليهم فقال: بل هم الداخلون عليكم قال: فإنما هم قوم اضطروكم
فدخلتم في بعض حقوقكم " (الخ).
وعن الاختصاص عن إسحاق بن عمار (2) " قال: سأل رجل أبا عبد الله عليه السلام عن
الدخول في عمل السلطان فقال: هم الداخلون عليكم أم أنتم الداخلون عليهم فقال:
لا بل هم الداخلون علينا قال: لا بأس بذلك ".
والظاهر منهما جواز دخول الشيعة في أعمالهم لكونها حقهم من قبل أئمتهم،
وأن ذلك نحو استنفاذ لحقهم وحق أئمتهم ولعل ذلك إذن عام أو كاشف عنه
للشيعة الإمامية.
ويؤيد المطلوب رواية الحسن بن الحسين الأنباري (3) عن أبي الحسن الرضا
عليه السلام " قال: كتبت إليه أربع عشر سنة استأذنه في عمل السلطان (الخ)،
حيث إن الظاهر منها معهودية لزوم الإذن منهم وأنه مع عدم الإذن لا يجوز الدخول
ومعه يجوز، ولا معنى للاستيذان فيما يكون محرما ذاتا فلا بد وأن يكون مخللا
مع قطع النظر عن حقهم عليهم السلام.
ورواية علي بن أبي حمزة (4) " قال: كان لي صديق من كتاب بني أمية إلى

(1) المستدرك - كتاب التجارة - الباب 39 - من أبواب ما يكتسب به.
(2) المستدرك - كتاب التجارة - الباب 41 - من أبواب ما يكتسب به.
(3) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 48 - من أبواب ما يكتسب به - مجهولة
بالحسن بن الحسين الأنباري.
(4) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 47 - من أبواب ما يكتسب به - ضعيفة لأن
في سندها إبراهيم بن إسحاق وهو مشترك ولعله الأحمري الضعيف.
109

أن قال فقال أبو عبد الله عليه السلام لولا أن بني أمية وجدوا لهم من يكتب ويجبى لهم الفئ
ويقاتل عنهم ويشهد جماعتهم لما سلبونا حقنا " (الخ).
والظاهر أن تعييرهم في الدخول في أعمالهم لأجل سلب حقهم به، وفيها
اشعار بأن الولاية لهم وليس لغيرهم الدخول فيها، وفيها احتمال آخر وهو أن
الدخول في أعمالهم الموجب لشوكتهم وقوتهم محرم، لا لكونه مقدمة للحرام بل
لتعلق الحرمة عليه لتلك النكتة فكانت غير مربوطة بالروايات المتقدمة، وكيف
كان الظاهر مما تقدم أن عدم جواز التولية لأجل حرمة التصرف في سلطانهم.
وهنا طوائف أخرى:
منها ما تدل على الحرمة الذاتية كرواية تحف العقول (1) وفيها " فوجه الحلال
من الولاية ولاية الوالي العادل الذي أمر الله بمعرفته وولايته والعمل له في ولايته
إلى أن قال: فالولاية له والعمل معه ومعونته في ولايته وتقويته حلال محلل وحلال
الكسب معهم وذلك لأن في ولاية والي العدل وولاته احياء كل حق وكل عدل
إلى أن قال وأما وجه الحرام من الولاية فولاية الوالي الجائر وولاية ولاته الرئيس
منهم واتباع الوالي فمن دونه من ولاة الولاة إلى أدناهم بابا من أبواب الولاية على
من هو وال عليه والعمل لهم والكسب معهم بجهة الولاية لهم حرام ومحرم ومعذب
من فعل ذلك على قليل من فعله أو كثير لأن كل شئ من جهة المعونة له معصية
كبيرة من الكبائر وذلك أن في ولاية الوالي الجائر دوس (دروس خ ل) الحق كله واحياء
الباطل كله واظهار الظلم والجور والفساد وابطال الكتب وقتل الأنبياء والمؤمنين
وهدم المساجد وتبديل سنة الله وشرايعه فلذلك حرم العمل معهم ومعونتهم والكسب
معهم إلا بجهة الضرورة نظير الضرورة إلى الدم والميتة " (الخ).
ولا يخفى أنها ظاهرة الدلالة على الحرمة ذاتا. وما ذكر فيها من العلل علل
للتشريع فكأنه قال: لما كانت المفاسد العظيمة مترتبة على الولاية من قبل الجائر

(1) ص 332 - في تفسير معنى الولايات - والوسائل - كتاب: التجارة - الباب 2 -
من أبواب ما يكتسب به.
110

وأن الحكومات الجائرة الباطلة منشأ كل مفسدة حرمها الله تعالى وحرم
الدخول فيها في أعمالهم والولاية من قبلهم، وإلا فالمفاسد المذكورة لم تترتب
على كل ولاية، ضرورة أن في عصر بني أمية وبني العباس لعنهم الله لم يكن نبي لكن المنظور
بيان علة التشريع كليا فدلالتها على الحرمة الذاتية غير خفية.
ورواية زياد بن أبي سلمة (1) " قال: دخلت على أبي الحسن موسى عليه السلام إلى أن قال: فقال لي يا زياد: لأن أسقط من حالق فأتقطع قطعة قطعة أحب إلي من أن أتولى لأحد منهم عملا أو أطأ بساط رجل منهم إلا لماذا قلت: لا أدري جعلت فداك
قال: إلا لتفريج كربة عن مؤمن أو فك أسره أو قضاء دينه يا زياد إن أهون ما يصنع
الله عز وجل بمن تولى لهم عملا أن يضرب عليه سرادق من نار إلى أن يفرغ الله عز وجل
من حساب الخلائق ".
دلالتها على الحرمة الذاتية لأجل أن أبا الحسن عليه السلام مع كونه ولي الأمر
وصاحب الحق قال ما قال وعلله بما ذكر واستثنى ما استثنى فلو كانت الحرمة للتصرف
في حقهم فقط لما كان لذلك كله وجه.
وموثقة مسعدة بن صدقة (2) " قال: سأل رجل أبا عبد الله (ع) عن قوم من
الشيعة يدخلون في أعمال السلطان يعملون لهم ويجبون لهم ويوالونهم قال: ليس
هم من الشيعة ولكنهم من أولئك ثم قرأ أبو عبد الله (ع) هذه الآية لعن الذين كفروا
من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم إلى أن قال: ثم احتج الله على المؤمنين
الموالين للكفار فقال: ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم
أنفسهم إلى قوله: ولكن كثيرا منهم فاسقون فنهى الله عز وجل أن يوالي المؤمن
الكافر إلا عند التقية ".
والظاهر من استثناء التقية أن المراد بالموالاة ليس المحبة والوداد بل التولي

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 46 - من أبواب ما يكتسب فبه - ضعيفة بزياد
بن أبي سلمة وغيره.
(2) الوسائل - كتاب التجارة الباب 45 - من أبواب ما يكتسب به.
111

للأمور والتصدي لأعمالهم أو الأعم منه، ومن الموالاة ظاهرا باظهار المحبة والوداد
سيما مع أن الظاهر من صدرها أن نفي التشيع عن الجماعة ليس لخصوص الموالاة بل
الظاهران من عمل لهم ودخل في أعمالهم ليس من الشيعة ويكون منهم، ومعلوم أن
هذا النفي والاثبات بوجه من التأويل، وذلك لاشتراكهم حكما ودلالتها على الحرمة
الذاتية واضحة.
ورواية سليمان الجعفري (1) " قال: قلت لأبي الحسن الرضا (ع) ما تقول في
أعمال السلطان فقال: يا سليمان الدخول في أعمالهم والعون لهم والسعي في حوائجهم
عديل الكفر " (الخ). والظاهر منها أن الثلاثة المذكورة محرمة بعناوينها. واحتمال
أن تكون الحرمة في الدخول في أعمالهم لأجل التصرف في سلطان الغير (بعيد).
ومن هذا القبيل الروايات المستفيضة (2) عن الرضا (ع) حين سألوه عن وجه
الدخول في ولاية العهد فأجاب بأن التقية أوجبت ذلك، وأن يحتمل فيها أن يكون جوابه
كذلك لحفظ قلوب المستضعفين الظانين بأن الدخول فيها مناف للزهد كما يشعر به
بعض الروايات، أو لكون الدخول تقوية لسلطان الجور وتثبيت سلطانه فأجاب بما
أجاب عليه الصلاة والسلام.
ومن هذا القبيل رواية ابن بنت الكاهلي (3) وغيرها عن أبي عبد الله (ع) " قال:
من سود اسمه " (الخ). والمراد الدخول في ديوانهم والتقلد لأعمالهم أعم من التولية و
غيرها. والظاهر منها أن الدخول والتقلد محرم بذاته; لا أن الحرمة لانطباق عنوان
محرم عليه كالتصرف في سلطان الغير أو لأمر خارج كالابتلاء بالمحرمات فيها.
ومنها ما تدل على أن الحرمة لأمر خارج.
كصحيحة أبي بصير (4) " قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن أعمالهم فقال لي: يا أبا محمد

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 45 - من أبواب ما يكتسب به.
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 48 - من أبواب ما يكتسب به.
(3) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 42 - من أبواب ما يكتسب به.
(4) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 42 - من أبواب ما يكتسب به - الثانية مجهولة بجهم بن حميد
112

لا ولا مدة قلم إن أحدكم لا يصيب من دنياهم شيئا إلا أصابوا من دينه مثله، أو حتى
يصيبوا من دينه مثله (الوهم من ابن أبي عمير)، والظاهر منها أن النهي عن الدخول
في أعمالهم للارشاد إلى حفظ دينهم، وأن الدخول فيها والإصابة من دنياهم ملازم
لإصابتهم من دينه، إما لملازمته للمعصية نوعا أو لارجاع الأمور المحرمة إليه أو
لحصول المحبة والوداد لهم قهرا.
ونحوها رواية جهم بن حميد (1) " قال: قال أبو عبد الله عليه السلام أما تغشي سلطان
هؤلاء قال: قلت: لا قال: ولم قلت: فرارا بديني قال: وقد عزمت على ذلك قلت:
نعم قال لي: الآن سلم لك دينك ".
ورواية داود بن زربي (2) " قال: أخبرني مولى لعلي بن الحسين عليه السلام قال:
كنت بالكوفة فقدم أبو عبد الله عليه السلام الحيرة فأتيته فقلت: جعلت فداك لو كلمت داود بن علي أو بعض هؤلاء فأدخل في بعض هذه الولايات فقال: ما كنت لأفعل " إلى أن قال:
" جعلت فداك ظننت أنك إنما كرهت ذلك مخافة أن أجور وأظلم وأن كل امرأة لي
طالق وكل مملوك لي حر وعلي وعلي إن ظلمت أحدا أو جرت عليه وإن لم أعدل
قال: كيف قلت فأعدت عليه الأيمان فرفع رأسه إلى السماء فقال: تناول السماء أيسر
عليك من ذلك "، بناء على أن المراد أنه أيسر من العدل كما هو الأرجح فتكون
دالة أو مشعرة بالمطلوب.
ومنها ما هي ظاهرة في الحرمة بلا عنوان وأن لا يبعد دعوى دلالتها على الحرمة ذاتا
فتكون من الطائفة السالفة.
كصحيحة الوليد بن صبيح (3) قال: دخلت على أبي عبد الله عليه السلام فاستقبلني
زرارة خارجا من عنده فقال لي أبو عبد الله عليه السلام: يا وليد أما تعجب من زرارة سألني

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 42 - من أبواب ما يكتسب به - مجهولة
بجهم بن حميد.
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 45 - من أبواب ما يكتسب به - صحيحة.
(3) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 45 - من أبواب ما يكتسب به.
113

عن أعمال هؤلاء أي شئ كان يريد، يريد أن أقول: لا، فيروي (1) ذلك على ثم قال
يا وليد متى كانت الشيعة تسأل عن أعمالهم إنما كانت الشيعة تقول يؤكل من طعامهم
ويشرب من شرابهم ويستظل بظلهم متى كانت الشيعة تسأل عن هذا ".
ورواية يحيى بن إبراهيم (2) " قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: فلان يقرئك
السلام وفلان وفلان فقال: وعليهم السلام قلت: يسألونك الدعاء قال: وما لهم قلت:
حبسهم أبو جعفر فقال: وما لهم وما له فقلت: استعملهم فحبسهم فقال: فما لهم وما له
ألم أنههم ألم أنههم ألم أنههم هم النار هم النار هم النار ثم قال: اللهم أجدع عنهم
سلطانهم قال: وانصرفنا من مكة فسألنا عنهم فإذا قد أخرجوا بعد الكلام بثلاثة
أيام "، إلى غير ذلك.
ثم إن هذا الطوائف لا منافاة بينها، أما الأخيرة مع ما دلت على الحرمة
الذاتية فواضح، وأما مع ما دلت على الحرمة لأجل التصرف في سلطانهم فلعدم المنافاة
بين حرمتها ذاتا ومن حيث التصرف المذكور، فإنهما عنوانان مختلفان في محط
تعلق الحكم ومتحدان خارجا، فلكل حكم مستقل، وقوله: " من أحللنا شيئا من
أعمال الظالمين فهو حلال، لا دلالة له على عدم الحرمة ذاتا للولاية، ولا على تحليلهم
ما حرمه الله تعالى ذاتا أو جواز ذلك لهم، بل لما كان في التحريم الذاتي استثناء
كما سيأتي انشاء الله يكون في مورد الاستثناء منه أيضا احتياج إلى تحليلهم، فإن
الحلية الشرعية الذاتية الأولية لا تنافي الحرمة من حيث الغصب أو التصرف في حق
الغير، وبالجملة أن قوله: من أحللنا (الخ) لا يتعرض لمورد التحليل ولا لجوازه
مطلقا، ومعلوم أنهم لا يحللون ما حرمه الله تعالى لكن في مورد تحليل الله لا تحل
إلا بإذنهم ورضاهم فلا منافاة بين تلك الطائفة وبين ما دلت على الحرمة الذاتية
أو على الحرمة بلا عنوان.
وأما بعض ما تقدمت مما دلت على استيذانهم في الدخول الظاهر منه أنه

(1) لا يبعد أن يكون بصيغة المجهول (منه).
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 45 - من أبواب ما يكتسب به.
114

محلل مع قطع النظر عن الاستيذان منهم محمول على الاستيذان في مورد الاستثناء
عن الحرمة ذاتا كما تشعر أو تدل عليه بعضها، وقد أشرنا إلى أنه لا اطلاق فيها يشمل
مطلق التولي والتقلد فإذا لا منافاة بينهما بوجه، وكذا بينها وبين ما تشعر أو تدل
على الارشاد فإن غاية ما فيها عدم الدلالة على الحرمة ذاتا لا الدلالة على عدمها،
فلو كان فيها اشعار به فلا يقاوم ظهور غيرها كما لا يخفى.
فتحصل من جميع ذلك أن ما هو من قبيل المناصب والولايات وأمثالهما
تحرم بعنوانين، أحدهما بعنوان التصرف العدواني، وثانيهما بعنوانها الذاتي.
وما لا يكون كذلك أي ليس من المناصب وشئون السلطنة والحكومة تحرم فيما
تحرم بجهة واحدة وهي الدخول في أعمال السلطان وقد تقدم المراد منه، هذا إذا
لم تنطبق عليه عناوين أخر كإعانة الظالم في ظلمه وتقوية شوكة الظالمين و
نحوهما.
ثم إنه يسوغ الدخول في أعمالهم أمران أحدهما القيام بمصالح العباد وقد ادعى
عليه الاجماع وعدم الخلاف، واستدل عليه الشيخ الأنصاري (1) بأن الولاية إن كانت
محرمة لذاتها كان ارتكابها لأجل المصالح ودفع المفاسد التي هي أهم من مفسدة
انسلاك الشخص في أعوان الظلمة بحسب الظاهر (وفيه) أن هذا الاستدلال أخص
من المدعى فإن المدعى جواز الدخول والتولية لمصلحة ولو راجحة كما هو مورد
دلالة الأخبار مضافا إلى أن المدعى استثناء المورد عن الحرمة كما اعترف به وتدل
عليه الأخبار، لا من باب ترجيح أحد المتزاحمين، ولو آل الأمر إلى مزاحمة
المقتضيات فقلما يمكن احراز أهمية الدخول في الولاية المحرمة من جهتين، بل
قد تنطبق عليه عناوين محرمة أخر كتقوية شوكة الظالمين والإعانة للخلفاء الغاصبين
إن قلنا بأن مطلق إعانتهم ولو في غير ظلمهم محرمة كما سبق الكلام فيه، فلا يمكن
ترجيح مقتضيات المصالح ودفع المفاسد على مقتضياتها إلا نادرا.
فالأولى التمسك للمطلوب بالروايات الكثيرة الواردة في هذا المضمار وبيان

(1) في المسألة السادسة والعشرين من النوع الرابع - في الولاية من قبل الجاير.
115

مقدار دلالتها، ففي صحيحة الحلبي (1) " قال: سأل أبو عبد الله عليه السلام عن رجل مسلم وهو
في ديوان هؤلاء وهو يحب آل محمد صلى الله عليه وآله ويخرج مع هؤلاء في بعثهم فيقتل تحت
رايتهم قال: يبعثه الله على نيته قال: وسألته عن رجل مسكين خدمهم رجاء أن يصيب
معهم شيئا فيغنيه الله به فمات في بعثهم قال: هو بمنزلة الأجير إنما يعطي الله العباد
على نياتهم "، وأرسل الصدوق في مقنع (2) عنه عليه السلام نحو الفقرة الأولى منها.
والظاهر منهما أن الدخول في ديوانهم والخروج معهم في غزوهم حرمة و
حلية: تابعان لنية الشخص، فإن كان في نيته الدخول للصلاح يحل، وإن كان لغيره
فلا; بل لعله يمكن استفادة الحلية زائدة على مورد نية القيام بصلاح العباد سيما مع
ذيل الأولى وأن لا يخلو من اشكال، وكيف كان لا شبهة في دلالتهما على أن
الدخول بنية القيام بمصالح العباد أو الاسلام جائز فهما مع صحة أولاهما سندا لا خدشة
في دلالتهما.
ثم إن الظاهر منهما أن الجواز فعلي لا حيثي فتدلان على أنه مع خلوص نية
الصلاح كما يجوز شرعا بالعنوان الأولى ويستثنى من المحرم الذاتي الإلهي يكون
الإمام عليه السلام راضيا بدخوله كذلك فيكشف منهما الرضا في كل مورد كذائي والإذن
العام لمن دخل كذلك، فيحل فعلا ومن الحيثين.
وفي مستطرفات السرائر نقلا من كتاب مسائل الرجال (3) عن أبي الحسن
علي بن محمد عليه السلام " أن محمد بن عيسى كتب إليه يسأله عن العمل لبني العباس وأخذ
ما يتمكن من أموالهم هل فيه رخصة فقال: ما كان المدخل فيه بالجبر والقهر فالله
قابل العذر وما خلا ذلك فمكروه "، إلى أن قال: " وكتبت إليه في جواب ذلك أعلمه
أن مذهبي في الدخول في أمرهم وجود السبيل في ادخال المكروه على عدوه و

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 48 - من أبواب ما يكتسب به.
(2) باب المكاسب والتجارات - والوسائل - كتاب التجارة - الباب 46 - من
أبواب ما يكتسب به.
(3) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 45 - من أبواب ما يكتسب به.
116

وانبساط اليد في التشفي منهم بشئ أتقرب به إليهم فأجاب: من فعل ذلك فليس
مدخله في العمل حراما بل أجرا وثوابا ".
وفي رواية زياد بن أبي سلمة (1) عن أبي الحسن موسى عليه السلام " فقال لي يا زياد
لئن أسقط من حالق فأتقطع قطعة قطعة أحب إلى من أن أتولى لأحد منهم عملا أو
أطأ بساط رجل منهم إلا لماذا قلت: لا أدري جعلت فداك قال: إلا لتفريج كربة عن
مؤمن أو فك أسره أو قضاء دينه " (الخ).
وهي وإن كانت متعرضة لجواز دخوله عليه السلام لتلك الغايات لكن الظاهر أن
ذلك لبيان مورد الجواز حتى يستفيد منه السامع، لا لبيان اختصاص الجواز به.
فيكشف منها أيضا الإذن العام والرضا المطلق للدخول في حقهم مضافا إلى الجواز
شرعا وذاتا.
وفي رواية يونس بن عمار (حماد - خ ل) (2) قال: وصفت لأبي عبد الله عليه السلام من يقول بهذا
الأمر ممن يعمل عمل (مع - خ ل - يب) السلطان فقال: إذا ولوكم يدخلون عليكم
المرفق وينفعونكم في حوائجكم قال: قلت: منهم من يفعل ذلك ومنهم من لا يفعل قال
من لم يفعل ذلك فابرأوا منه بري الله منه "، وظاهر أن استفصاله وتخصيص البراءة بمن
لم يفعل: دال على أن من يفعل لا يكون بهذه المثابة فيدل على الجواز ذاتا، وعلى
الإذن العام بما مر.
وعن الشيخ المفيد في الروضة (3) عن علي بن جعفر عليه السلام " قال: كتبت إلى أبي
الحسن عليه السلام أن قوما من مواليك يدخلون في عمل السلطان ولا يؤثرون على إخوانهم
وإن نابت أحدا من مواليك نائبة قاموا فكتب أولئك هم المؤمنون حقا عليهم مغفرة
من ربهم وأولئك هم المهتدون " ونحوها رواية أخرى عنه (4).
وعن أبي الجارود (5) عن أبي جعفر عليه السلام " قال سألته من عمل السلطان والدخول

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 46 - من أبواب ما يكتسب به - الثانية مجهولة بأحمد بن محمد البازقي وغيره.
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 46 - من أبواب ما يكتسب به - الثانية مجهولة بأحمد بن محمد البازقي وغيره.
(3) المستدرك - كتاب التجارة - الباب 39 - من أبواب ما يكتسب به.
(4) المستدرك - كتاب التجارة - الباب 39 - من أبواب ما يكتسب به.
(5) المستدرك - كتاب التجارة - الباب 39 - من أبواب ما يكتسب به.
117

معهم قال: لا بأس إذا وصلت إخوانك وعضدت أهل ولايتك ".
وعن الوليد بن صبيح (1) عن أبي عبد الله عليه السلام " قال: من سود اسمه في ديوان بني
شيصبان حشره الله يوم القيامة مسودا وجهه إلا من دخل في أمرهم على معرفة وبصيرة
وينوي الاحسان إلى أهل ولايته ".
وعن محمد بن سنان (2) عنه عليه السلام " قال: سألته من عمل السلطان والدخول معهم
وما عليهم فيما هم عليه قال: لا بأس به إذا واسى إخوانه أنصف المظلوم وأغاث
الملهوف من أهل ولايته ".
وعن رجال الكشي في ترجمة محمد بن إسماعيل بن بزيع (3) عنه " قال: قال
أبو الحسن الرضا عليه السلام إن لله تعالى بأبواب الظالمين من نور الله له البرهان ومكن له في البلاد
ليدفع بهم عن أوليائه ويصلح الله به أمور المسلمين، إليهم ملجأ المؤمنين من الضرر،
إليهم يفزع ذو الحاجة من شيعتنا، وبهم يؤمن الله روعة المؤمنين في دار الظلمة،
أولئك هم المؤمنون حقا، أولئك أمناء الله في أرضه، إلى أن قال: فهنيئا لهم، ما على
أحدكم أن لو شاء لنال هذا كله، قال: قلت: بماذا جعلني الله فداك، قال: يكون معهم
فيسرنا بادخال السرور على المؤمنين من شيعتنا، فكن منهم يا محمد ".
فإن الظاهر من ذيلها الترغيب في دخول شيعته في أعمالهم لهذا المقصد وحمله
على أنه لو كان معهم لفعل كذا خلاف الظاهر جدا، مع أن تقريره لكونهم معهم على الفرض
كاف في المطلوب، سيما مع هذه التوصيفات، إلا أن يقال: إن ذلك وما هي نظيره لا دلالة
فيها على جواز الدخول، لأنه اخبار عن وجود أمثال هؤلاء في ديوانهم وأبوابهم ولعله
كان دخولهم اجبارا وقهرا أو تقية واضطرارا فالعمدة دلالة ذيلها.
نعم لا يبعد أن يكون قوله: فكن منهم يا محمد لترغيبه بالاحسان إلى الشيعة
لو كان ذلك في زمان تقلده عملهم ويحتمل أن يكون صدوره في زمان لم يكن متقلدا.

(1) المستدرك - كتاب التجارة - الباب 39 - من أبواب ما يكتسب به.
(2) المستدرك - كتاب التجارة - الباب 39 - من أبواب ما يكتسب به.
(3) راجع تنقيح المقال للمامقاني - في ترجمة محمد بن إسماعيل بن بزيع أبي جعفر
مولى المنصور.
118

وأما احتمال كون المذكورين في رواية محمد بن إسماعيل ونظائرها من غير
المتقلدين لأمرهم بل من أشراف البلد الذين لهم ذهاب واياب في أبوابهم: فهو
خلاف ظاهر قوله: " ومكن له في البلاد " (الخ) بل خلاف ظاهر قوله: بأبواب
الظالمين، سيما مع كون الراوي لها مثل محمد بن إسماعيل ولبعضها علي بن يقطين
وهما متقلدان لأعمالهم، ولعلها صادرة لترغيبهم في البقاء على بابهم.
وتشهد له رواية محمد بن عيسى بن يقطين (1) " قال: كتب علي بن يقطين إلى أبي الحسن عليه السلام في الخروج من عمل السلطان فأجابه: أني لا أرى لك الخروج من
عمل السلطان، فإن لله عز وجل بأبواب الجبابرة من يدفع بهم عن أوليائه وهم
عتقائه من النار فاتق الله في إخوانك أو كما قال " ومنها يظهر المراد من قوله في
رواية ابن بزيع " إن لله بأبواب الظالمين " (الخ).
فهذه جملة من الروايات، ونحوها جملة وافرة أخرى متوافقة المضمون دالة
على جواز الدخول في أعمالهم لاصلاح حال المؤمنين والقيام بمصالحهم، وتظافرها
وكثرتها أغنيانا عن النظر إلى الاسناد والمصادر للوثوق والاطمينان بصدور جملة
منها مع أن فيها صحيحة الحلبي (2) المتقدمة، وصحيحة علي بن يقطين (3) قال: قال لي
أبو الحسن موسى بن جعفر عليه السلام إن لله تبارك وتعالى مع السلطان أولياء يدفع بهم عن أوليائه "
بناء على أن قوله ذلك لترغيبه في بقائه على شغله كما تشهد به مضافا إلى رواية
محمد بن عيسى المتقدمة روايته الأخرى (4) أنه كتب إلى أبي الحسن موسى عليه السلام " قال:
أن قلبي يضيق مما أنا عليه من عمل السلطان وكان وزيرا لهارون فإن أذنت جعلني
الله فداك هربت منه فرجع الجواب لا إذن لك بالخروج من عملهم واتق الله أو كما
قال ". واحتمال التقية بعيد ولو بملاحظة سائر الروايات.

(1) المستدرك - كتاب التجارة - الباب 39 - من أبواب ما يكتسب به.
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 48 - من أبواب ما يكتسب به.
(3) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 46 - من أبواب ما يكتسب به.
(4) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 46 - من أواب ما يكتسب به.
119

وأما رواية الحسين بن زيد (1) عن الصادق عليه السلام في مناهي رسول الله صلى الله عليه وآله
" قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من تولى عرافة قوم أتى به يوم القيامة ويداه مغلولتان
إلى عنقه فإن قام فيهم بأمر الله عز وجل أطلقه الله وإن كان ظالما هوى به في نار
جهنم "، وقريب منها غيرها: فلا تدل على المقصود، لأنها بصدد بيان التحذير عن
الدخول في الرياسة حتى مثل رياسة قبيلة، لا في مقام بيان جواز الرياسة فضلا عن
الرياسة من قبلهم حتى يؤخذ باطلاقها.
ويحتمل أن تكون في مقام بيان أن الرئيس إن كان عادلا فكذا وإن كان
ظالما فكذا، وهي نظير قوله: العالم إن كان عادلا يجوز حكمه وقضائه وإن كان فاسقا
فلا حيث لا تعرض له لجواز تحصيل العلم ولا يجوز التمسك باطلاقه له.
ثم إن في المقام روايات ربما يقال بالتعارض بينها في نفسها وبينها وبين
الروايات المتقدمة المجوزة للدخول في أعمالهم لغرض القيام بمصالح العباد، كذيل
رواية تحف العقول حيث " قال: فلذلك حرم العمل معهم ومعونتهم والكسب معهم
إلا بجهة الضرورة نظير الضرورة إلى الدم والميتة ". وظاهرها بملاحظة التنظير
الضرورة في المعاش، لا الاضطرار في الدخول للخوف منهم فتكون نحو موثقة عمار
(2) عن أبي عبد الله عليه السلام " سئل عن أعمال السلطان يخرج فيه الرجل قال: لا إلا أن
لا يقدر على شئ يأكل ولا يشرب ولا يقدر على حيلة فإن فعل فصار في يده شئ
فليبعث بخمسه إلى أهل البيت ". وظاهرهما عدم جواز الدخول إلا عند الاضطرار
في المعاش.
وفي رواية محمد بن إدريس (3) المتقدمة " ما كان المدخل فيه بالجبر والقهر
فالله قابل العذر وما خلا ذلك فمكروه ". والمراد بالمكروه المحرم بلا ريب
بقرينة المقام وبقرينة ذيلها الآتي فهي تدل على عدم الجواز إلا في مورد القهر والجبر.

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 45 - من أبواب ما يكتسب به - ضعيفة.
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 48 - من أبواب ما يكتسب به.
(3) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 45 - من أبواب ما يكتسب به.
120

وفي موثقة مسعدة بن صدقة (1) " قال: سأل رجل أبا عبد الله عليه السلام عن قوم من الشيعة
يدخلون في أعمال السلطان "، إلى أن قال: " فنهى الله عز وجل أن يوالي المؤمن
الكافر إلا عند التقية "، ونحوها رواية علي بن يقطين (2) " قال: قلت لأبي
الحسن عليه السلام: ما تقول في أعمال هؤلاء قال: إن كنت لا بد فاعلا فاتق أموال الشيعة
قال: فأخبرني علي: أنه كان يجبيها من الشيعة علانية ويردها عليهم سرا "، بناء
على أن الموالاة في الأولى بمعنى النصر والدخول في أعمالهم، وعلى أن المراد
باللا بدية في الثانية كونها للخوف من سلطانهم وسوطهم لولا الدخول كما هو
كذلك من مثل علي بن يقطين.
فهذه الروايات بمقتضى الحصر في كل عنوان منها تعارض بعضا بعضا وتعارض
مع ما تقدمت من الروايات المجوزة للدخول لنية صلاح المؤمن.
ويمكن أن يقال لا معارضة بين أنفسها، لأنها إذا عرضت على العرف والعقلاء
يجمعون بينها بأن المجوز للدخول مطلق العذر وإنما ذكر في كل منها مصداق
منه وإلا فلا ينقدح في الأذهان من الحصر في رواية التحف مثلا إرادة سلب الجواز
حتى مع التقية أو القهر والجبر وهكذا في غيرها والانصاف أن الناظر فيها لا يشك
في أن المراد سلب الجواز بلا عذر من غير خصوصية لعذر خاص بين الأعذار سيما
مع ملاحظة عمومات التقية ورفع الاضطرار والاستكراه، وكذا لا معارضة بينها
وبين الروايات المتقدمة، لأن الروايات الواردة في الأعذار متعرضة للعناوين الثانوية
ورتبتها متأخرة عن الروايات المقيدة والمخصصة للعناوين الأولية.
وإن شئت قلت: إن موضوع أخبار الأعذار هو المحرم الأولي، والروايات
المخصصة رافعة لموضوعها في مورد التخصيص فتكون حاكمة عليها لا معارضة معها
مضافا إلى أن في تلك الروايات ما تشهد على أن المراد بها غير مورد الورود في
الولاية للاصلاح أو لايقاع المكروه عليهم.

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 45 - من أبواب ما يكتسب به.
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 46 - من أبواب ما يكتسب به.
121

ففي رواية محمد بن إدريس بعد السؤال عن العمل لبني العباس والجواب بعدم
الجواز فيما عدا مورد الجبر والقهر قال: " فكتبت إليه في جواب ذلك أعلمه
أن مذهبي في الدخول في أمرهم وجود السبيل إلى ادخال المكروه على عدوه و
انبساط اليد في التشفي منهم بشئ أتقرب به إليهم فأجاب: من فعل ذلك فليس
مدخله في العمل حراما بل أجرا وثوابا ".
فيظهر منها صدرا وذيلا أنه عليه السلام حمل العمل لبني العباس في المكاتبة الأولى
على العمل المتعارف الذي كانوا يدخلون فيه لأغراض أنفسهم فأجاب بعدم الجواز
إلا مع الجبر والقهر فلما كتب إليه ثانيا بأن مدخله لمقصد كذا أجاب بأنه ليس بمحرم
بل فيه أجر وثواب، وهذه شاهدة جمع بين سائر الروايات، مع أن الموالاة في موثقة
مسعدة يمكن أن تكون بمعنى النصرة والإعانة فيكون الدخول في أعمالهم لغرض
ايقاع المكروه عليهم أو غرض إعانة المؤمن ورفع المكروه عنه خارجا عنها موضوعا
" تأمل ".
ثم إن ههنا روايات أخر ربما يتوهم التنافي بينها وبين ما تقدمت، كمرسلة
الصدوق (1) قال: " قال الصادق عليه السلام: كفارة عمل السلطان قضاء حوائج الإخوان "
ورواية زياد بن أبي سلمة (2) " قال: دخلت على أبي الحسن موسى عليه السلام فقال
لي: يا زياد إنك لتعمل عمل السلطان قال: قلت: أجل، قال لي: ولم قلت:
أنا رجل لي مروة وعلي عيال وليس وراء ظهري شئ إلى أن قال: فإن وليت
شيئا من أعمالهم فأحسن إلى إخوانك فواحدة بواحدة، والله من وراء ذلك " (الخ).
وفي المستدرك (3) عن السيد هبة الله عن صفوان الجمال " قال: دخل زياد
بن مروان العبدي على مولاي موسى بن جعفر عليه السلام فقال لزياد: أتقلد لهم عملا
فقال: بلى يا مولاي فقال: ولم ذاك قال: فقلت: يا مولاي إني رجل لي مروة على
عيلة وليس لي مال فقال: يا زياد والله لأن أقع من السماء إلى الأرض فأنقطع قطعة

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 46 - من أبواب ما يكتسب به.
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 46 - من أبواب ما يكتسب به.
(3) كتاب التجارة - الباب 39 - من أبواب ما يكتسب به.
122

ويفصلني الطير بمناقيرها مفصلا مفصلا لأحب إلي من أن أتقلدهم عملا فقلت: إلا
لماذا فقال: إلا لاعزاز مؤمن أو فك أسره إن الله وعد من يتقلد لهم عملا أن يضرب
عليه سرادقا من نار حتى يفرغ الله من حساب الخلائق فامض واعزز من إخوانك
واحدا والله من وراء ذلك يفعل ما يشاء "، وكأنه سقط منها شئ وكان الأصل
واحدا بواحد واحتمال إرادة اعزاز واحد منهم بعيد جدا بل فاسد; ويشهد له رواية
زياد المتقدمة ويأتي احتمال وحدتهما.
وعن الشيخ المفيد عن علي بن رئاب (1) " قال: استأذن رجل أبا الحسن
موسى عليه السلام في أعمال السلطان فقال: لا، ولا قطعة قلم إلا لاعزاز مؤمن أو فك أسره
ثم قال: كفارة أعمالكم الاحسان إلى إخوانكم ".
وعن الفضل بن عبد الرحمن (2) " قال: كتبت إلى أبي الحسن عليه السلام استأذنه في
أعمال السلطان فقال: لا بأس ما لم بغير حكما ولم يبطل حدا وكفارته قضاء حوائج إخوانكم
ورواية الحسن بن الحسين الأنباري (3) عن أبي الحسن الرضا عليه السلام " قال
كتبت إليه أربع عشر سنة استأذنه في عمل السلطان فلما كان في آخر كتاب كتبته
إليه أذكر أني أخاف على خيط عنقي وأن السلطان يقول لي: إنك رافضي ولسنا نشك
في أنك تركت العمل للسلطان للرفض فكتب إلى أبو الحسن عليه السلام: فهمت كتابك
وما ذكرت من الخوف على نفسك فإن كنت تعلم أنك إذا وليت عملت في عملك
بما أمر به رسول الله صلى الله عليه وآله ثم تصير أعوانك وكتابك أهل ملتك وإذا صار إليك
شئ واسيت به فقراء المؤمنين حتى تكون واحدا منهم كان ذا بذا وإلا فلا ".
ورواية العياشي (4) عن أبي عبد الله عليه السلام وفيها " قد ترى مكاني من هؤلاء
القوم فقال: انظر ما أصبت فعد به أصحابك فإن الله يقول: إن الحسنات يذهبن
السيئات ". فإن الظاهر من تلك الطائفة حرمة عمل السلطان وإنما يكفرها قضاء

(1) المستدرك - كتاب التجارة - الباب 39 - من أبواب ما يكتسب به.
(2) المستدرك - كتاب التجارة - الباب 39 - من أبواب ما يكتسب به.
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 48 - من أبواب ما يكتسب به.
(4) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 46 - من أبواب ما يكتسب به.
123

حوائج المؤمنين والتي مرت تدل على نفي البأس بل والفضل والرجحان فيه لذلك.
ويمكن أن يقال إن الورود في أعمالهم وديوانهم تارة يكون لمحض اعزاز
المؤمن وفك أسره ونحوهما وأخرى لذلك ولمعيشته وثالثة لمحض المعاش ونحوه
ورابعة لمعونتهم وتقوية سلطانهم.
والأخبار الواردة في المقام طائفة منها ناظرة إلى الأولى كذيل رواية ابن
إدريس في المستطرفات (1) وبعض فقرات رواية زياد بن أبي سلمة وزياد العبدي
(2) حيث استثنى فيهما من عدم جواز الدخول ما كان لمصلحة مؤمن والظاهر أن منها أيضا رواية محمد بن إسماعيل (3) المتقدمة وهذا النحو من الدخول راجح
وفيه أجر وثواب.
وطائفة منها ناظرة إلى الثانية كرواية أبي الجارود (4) عن أبي جعفر عليه السلام
قال: سألته من عمل السلطان والدخول معهم قال: لا بأس إذا وصلت إخوانك و
عضدت أهل ولايتك "، وما هي بمضمونها فإن الظاهر منها السؤال عن الدخول في
أعمالهم للمعيشة ونحوها من أغراضه فأجاب بنفي البأس إذا وصلت أي إذا قصدت
ذلك في خلال عملك لا بمعنى كون القصد موضوعا بل بمعنى القصد الطريقي " فتدبر ".
والحمل على أن ذلك بوجوده الواقعي شرط الجواز بنحو الشرط المتأخر: بعيد غايته.
وطائفة منها ناظرة إلى الثالثة وهي الروايات المتقدمة المشتملة على قوله:
فواحدة بواحدة، وعلى أن كفارة عملهم قضاء حوائج الإخوان.
وأما رواية زياد بن أبي سلمة فإن الظاهر من صدرها أنه كان واردا في عمل
السلطان ومشتغلا به لأجل معيشته، وقد حذره أبو الحسن عن العمل لهم إلا لاعزاز
مؤمن ونحوه، والظاهر أن قوله عليه السلام: فإن وليت (الخ) بعد فرض كونه متوليا لأمرهم

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 45 - من أبواب ما يكتسب به.
(2) المستدرك - كتاب التجارة - الباب 39 - من أبواب ما يكتسب به.
(3) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 42 - من أبواب ما يكتسب به.
(4) المستدرك - كتاب التجارة - الباب 39 - من أبواب ما يكتسب به.
124

وعاملا لهم يراد به، إن وليت في اشتغالك بأعمالهم بما يحتاج إليك إخوانك فأحسن
إليهم حتى يكون لك عمل صالح في مقابل السيئ، ولعله أشار بذلك وبقوله: والله
من وراء ذلك إلى قوله تعالى: خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب
عليهم إن الله غفور رحيم (1) فيكون حاصل مفادها أن الوارد في أعمالهم المعيشة
ارتكب حراما فإن أحسن إلى إخوانه يكون واحدا بواحد وعسى الله أن يتوب عليه.
وأظهر منها رواية زياد العبدي، ولا يبعد أن يكون هو زياد بن أبي سلمة بل و
لا يبعد أن يكون العبدي مصحف (القندي) ويكون زياد بن أبي سلمة زياد بن مروان
القندي ولعل مروان كان مكنى بأبي سلمة فإن الروايتين كأنهما في قضية واحدة
نقلت الثانية بالمعنى ولهذا لا تخلو من نحو اغتشاش.
وإنما قلنا: هي أظهر في المقصود لعدم اشتمالها على الشرطية بل قال: امض
واعزز إخوانك (الخ) فأمره بالاعزاز لمن كان مشتغلا بعملهم للهداية إلى طريق
لو سلكه عسى الله أن يتوب عليه.
وأما رواية علي بن رئاب فلأن قوله كفارة أعمالكم (الخ) لا يراد به الدخول
لاعزاز المؤمن، لأنه مضافا إلى عدم تناسب الكفارة مع نفي الحرمة عرفا فإنها
لتكفير السيئة أو النقيصة الحاصلة منها: أن الدخول لذلك له أجر وثواب حسب الروايات
المتقدمة فلا معنى للكفارة فيه، فيكون ذاك وذا قرينة على أن المراد بأعمالهم
ما دخلوا فيها لمقاصدهم كما هو كذلك بحسب النوع ومنه يظهر حال مرسلة الصدوق
ورواية العياشي.
وأما رواية الحسن الأنباري فالظاهر أن أبا الحسن عليه السلام كان لم يصدقه في دعواه
الخوف على نفسه، أو كان عليه السلام عالما بعدم وقوع مكروه عليه لو لم يدخل في عملهم
وإلا لأجازه بلا شرط. والمظنون بل المعلوم أن اشتراطه بما ذكر تعليق على أمر غير
مقدور له، فإن التولي لهم في ذلك العصر مع انتخاب جميع الكتاب والأعوان من
غيرهم ومن خصوص الشيعة كان غير ممكن عادة كما أن المواساة للفقراء بحيث

(1) سورة التوبة - الآية 103.
125

يكون المتولي للأمر كأحد منهم كأنه غير ميسور له.
ففي الحقيقة أن هذه الرواية من الروايات الناهية عن الدخول في أعمالهم
مطلقا مع أن ظاهرها مخالف للقواعد ولهذا حملناها على ما تقدم، كما أن رواية الفضل
مخالفة لروايات الباب، لأن الظاهر منها عدم حرمة التولي ذاتا ما لم يغير حكما
أو يبطل حدا، وقد عرفت دلالة الروايات على حرمته ذاتا ومقتضى أصول المذهب حرمة
التولي بغير إذنهم، مضافا إلى التنافي بين صدرها وذيلها، فإن نفي البأس ينافي
الكفارة كما مر، فلا بد من حملها على أن كفارة عملهم لمعيشته كذا فإنه المتعارف
في أعمالهم.
ثم إن مقتضى اطلاق الأدلة جواز الدخول في أعمالهم للمقصد الراجح بما تقدم
ولو لزم من التصدي جمع الزكوات والخراج من غير الشيعة وايصالها إلى السلطان
الجائر، فإن التولي لأمورهم في مثل ولاية النواحي لا ينفك عن مثله فالسكوت عنه
في تلك الروايات الكثيرة دليل على جوازه بالنسبة إلى من كان على مذهبهم وكان
معتقدا بلزوم ايصال الخراج والزكوات والغنائم إليهم، ففي الحقيقة هو إلزامهم
بما التزموا به، مع أنه قد يكون التولي لخصوص ذلك ومقتضى الاطلاق جوازه و
حمل الروايات على ما لا يلزم عن التولي سوى اعزاز المؤمن ونحوه في قوة طرحها
لعدم امكان العمل بها، أو ندرة ذلك جدا مع أنه لا دليل لحملها على ذلك سوى الحصر
في بعضها وقد عرفت حاله.
وقد أشارت إلى ذلك رواية صفوان بن مهران (1) " قال: كنت عنده أبي عبد الله
عليه السلام إذ دخل عليه رجل من الشيعة إلى أن قال: فقال إن لهم سيرة وأحكاما قال:
أليس قد أجرى لهم الناس على ذلك قال: بلى قال: اجروهم عليهم في ديوانهم و
إياكم وظلم المؤمن ": بل في الروايات ما هي كالصريح في توليهم ذلك كرواية
علي بن يقطين (2) المتقدمة الحاكية عن جبايته أموال الشيعة علانية والرد إليهم

(1) المستدرك - كتاب التجارة - الباب 39 - من أبواب ما يكتسب به.
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 46 - من أبواب ما يكتسب به.
126

سرا بعد توصية أبي الحسن عليه السلام وما اشتملت على كتابة أبي عبد الله عليه السلام إلى النجاشي
والي الأهواز وفارس وغير ذلك وسيجئ انشاء الله ما ينفع بالمقام في جوائز السلطان.
ثم إن الشيخ الأنصاري (1) جمع بين رواية مهران بن محمد بن أبي نصر (2) عن أبي عبد الله عليه السلام " قال: سمعته يقول: ما من جبار إلا ومعه مؤمن يدفع الله عز وجل به من
المؤمنين وهو أقلهم حظا في الآخرة يعني أقل المؤمنين حظا بصحبة الجبار "، و
بين مثل رواية محمد بن إسماعيل بن بزيع (3) بحمل الأولى على من تولى لهم لنظام معاشه
قاصدا الاحسان في خلال ذلك إلى المؤمنين ودفع الضرر عنهم، وحمل الثانية على من
لم يقصد بدخوله إلا الاحسان إلى المؤمنين فذهب إلى كراهة الأول واستحباب الثاني
أقول: وفي رواية المفضل بن عمر (4) " قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: ما من سلطان
إلا ومعه من يدفع الله به عن المؤمنين أولئك أوفر حظا في الآخرة ". وأنت خبير بأن
الجمع بين هذه الرواية وكذا الروايات المتقدمة وبين رواية مهران بما ذكره: غير
مقبول عرفا سيما مع كون الورود في عملهم أو الصحابة لهم لغرض إلهي محض نادرا جدا.
فحمل بعض منها على ذلك مع شواهد عليه كما مر الكلام فيه وإن لا يبعد، لكن
حمل جميع تلك الروايات الكثيرة عليه، بعيد حدا، بل غير صحيح، سيما في الرواية
المتقدمة إذا كان قوله: يعني أقل المؤمنين حظا بصحبة الجبار من تتمة الحديث
ليكون ذلك بمنزلة التعليل الدال على أن صحبة الجبار علة لأقلية حظه، فمقتضاها أقلية
حظ مطلق المصاحب سواء كان لمحض غرض راجح أم لا، فتلك الرواية معارضة لرواية محمد
بن إسماعيل وغيرها، ولا يصح الجمع المذكور.
والتفصيل بين الدخول بنحو الصحابة وغيرها أيضا: بعيد، لأن موضوع رواية

(1) في المسألة السادسة والعشرين من النوع الرابع - في الولاية من قبل الجائر.
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 44 - من أبواب ما يكتسب به.
(3) راجع تنقيح المقال للمامقاني في ترجمة محمد بن إسماعيل بن بزيع أبي جعفر
مولى المنصور.
(4) المستدرك - كتاب التجارة - الباب 39 - من أبواب ما يكتسب.
127

مهران ورواية المفضل واحد والمراد بالمعية فيهما واحد وهو الصحابة كما فسرت بها.
نعم لا شبهة في أن الورود لمحض الاحسان على المؤمنين أرجح وأفضل منه
لغايتين لكن ذلك لا يوجب صحة الجمع بين الروايات سيما بين الروايتين المتقدمتين
ومن المحتمل أن يكون لفظ (حظا) في رواية مهران بتقديم الخاء المعجمة على الطاء
الغير المعجمة، وكان التفسير من بعض الرواة، وكان الأصل الذي فيه الرواية
مأخوذا بالمناولة لا بالقراءة وكان تفسيره لاشتباه وقع في الخط، وما ذكرناه وإن
كان غير معتمد في نفسه لكن بعد ورود قوله: " أوفر حظا " في رواية أخرى، وبعد
التصرف فيها وورود روايات أخر تؤيدها، لا بعد فيه، سيما مع قرب وقوع الاشتباه في
مثل الكلمة المذكورة التي يكون منشأ الاشتباه فيها تغيير محل النقطة قليلا وفي
مثله ليس الاحتمال المذكور مخالفة معتدا بها للأصل العقلائي سيما مع ورود الروايات
على خلافه والأمر سهل.
ثم إنه قد يجب عقلا تصدى الولاية فيما كان جائزا لتوقف الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر عليه لكن حكى عن غير واحد استحبابه.
وقد تصدى الشيخ الأنصاري (1) لتوجيه كلامهم بأن نفس الولاية قبيحة محرمة
لأنها توجب اعلاء كلمة الباطل وتقوية شوكته وترك الأمر بالمعروف قبيح آخر و
ليس أحدهما أقل قبحا من الآخر فيكن المقام من قبيل تزاحم المقتضيين، ويمكن
الحكم باستحباب اختيار أحدهما لمصلحة لم تبلغ حد الالزام ثم ذكر كلام المحقق
صاحب الجواهر بأنه يمكن تقوية عدم الوجوب بتعارض ما دل على وجوب الأمر
بالمعروف وما دل على حرمة الولاية عن الجائر بناء على الحرمة الذاتية والنسبة
عموم من وجه (الخ).
أقول: وقوع التعارض بين الأدلة وكذا التزاحم بين المقتضيات موقوف
على اطلاق الأدلة وكشف المقتضي في مورد التزاحم منها أو حكم العقل استقلالا
بوجود المقتضي في المزاحمين ويمكن انكار اطلاق أدلة الأمر بالمعروف لمورد توقفه

(1) في المسألة السادسة والعشرين من النوع الرابع - في الولاية من قبل الجائر.
128

على الولاية من قبل الجائر بأن يقال: إن وجوب الأمر بالمعروف إنما هو لإقامة الفرائض
ولا اطلاق فيها يشمل ما يوجب سقوط فريضة أو ارتكاب محرم; فلا يقع التعارض بينها
وبين أدلة حرمة الولاية، وليس المراد أن كل عامين من وجه كذلك حتى يقال:
باستلزامه نفي التعارض بينهما مطلقا وهو خلاف ما عليه الفقهاء وخلاف الواقع،
لأن كل عنوان محكوم بحكم لا ينظر حكمه إلى حكم عنوان آخر بل يلاحظ الاطلاق
بالنسبة إلى حالات الموضوع مع قطع النظر عن حكم آخر وبلا لحاظ إليه.
بل مرادنا أن في المقام خصوصية موجبة لذلك وهي أن موضوع أدلة وجوب
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الأمر بالواجبات والنهي عن المحرمات، ومن
الواضح بحكم العقل والعقلاء أن ايجابهما ليس لاقتضاء في نفسهما بحيث يكون
انشاء الأمر والنهي أو نفسهما ذا مصلحة قائمة بهما بل هو للتوصل بهما إلى فعل الواجب
وترك الحرام، ولهذا لا يجبان إلا مع احتمال التأثير، ويشهد له قوله: " إنها فريضة
تقام بها الفرائض " (1) فتلك العناوين التوصلية إذا وقعت متعلقة للأمر لا ينقدح في أذهان
العرف والعقلاء إلا أن الأمر بها للتوصل لا لمصلحة ذاتية نفسية، وبالجملة أنهما واجبان
للغير لا غيريان فإذا كان كذلك لا يستفاد من أدلة وجوبهما اطلاق يشمل ما يستلزم
منه ارتكاب محرم أو ترك واجب فإن ما وجب لإقامة الفريضة لا اطلاق لوجوبه لمورد إماتتها.
وإن شئت قلت: إن المتفاهم من أدلة وجوبهما أنه معلق بعد استلزام ترك
واجب أو فعل حرام، ودليل حرمة الولاية مطلق في موضوعه، على نحو التنجيز
ولا يعارض المعلق المنجز، بل دليله حاكم على دليل الحكم المعلق، فكما لا تعارض
بين الأدلة بما عرفت لا مجال للتزاحم بعد عدم اطلاق يكشف منه المقتضي وعدم
استقلال العقل بوجود المقتضي حتى في مورد لزوم ارتكاب الحرام.
هذا بالنسبة إلى المقتضي الذي قام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأما المقتضيات
التي في المعروف والمنكر فلا وجه لتزاحمها مع مقتضى الحرمة في تقلد الولاية لأن تزاحم
المقتضيات إنما هو في التكاليف المتوجهة إلى مكلف واحد فإذا دار أمر مكلف بين

(1) الوسائل - كتاب الأمر بالمعروف - الباب 1 - من أبواب الأمر والنهي.
129

شرب الخمر وقتل النفس المحترمة: يقدم الشرب، ومع تساوي المقتضيات: يتخير
وأما مع دوران الأمر بين ارتكاب مكلف محرما وارتكاب مكلف آخر محرما، فلا وجه
لملاحظة المقتضيات ولا يجوز ارتكاب شخص محرما لدفع ارتكاب شخص آخر محرما
ولو كان مقتضاه أهم، فلو توقف ترك شرب الخمر من زيد على ارتكاب عمرو محرما دون
شربها في المقتضى لا يمكن الالتزام بجوازه أو وجوبه.
نعم فيما إذا كان وجود شئ مبغوضا مطلقا ويجب على كل مكلف دفعه يكون من
قبيل تزاحم المقتضيات، فإذا توقف انجاء النبي صلى الله عليه وآله من يد ظالم أراد قتله على شرب
الخمر أو غيره من المحرمات يجب عقلا انجائه بارتكاب المحرم.
هذا كله بناء على أن يكون وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شرعيا
وأما بناء على كونه عقليا ويرى العقل لزوم حفظ أغراض المولى التي لا يرضى بنقضها
وقبح ترك المنع عن مخالفة المولى وعن نقض أغراضه من غير فرق بين كون الناقض
نفسه أو غيره من سائر المكلفين: فلا يبعد القول بتزاحم المقتضيات القائمة بالمعروف
والمنكر مع مقتضى حرمة التولي من الجائر، لكنه في غاية الاشكال إلا في العظائم
التي يعلم يلزم حفظها كما أشرنا إليه.
وأما لو توقف ترك شرب الخمر من زيد على ارتكاب عمرو معصية دونه
فتجويز ارتكابه لدفعه في غاية الاشكال بل غير ممكن ولا أظن التزام فقيه به سواء
قلنا بأن وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عقلي أو نقلي.
ولو قيل: إن العبيد لمولى واحد بمنزلة شخص واحد في توجه التكليف فكما
يقع التزاحم في تكليف شخص واحد كذلك يقع في العبيد لمولى واحد، أو قيل: إن
حفظ أغراض المولي واجب على العبيد كلهم ولا بد من رفع اليد عن غرضه المهم لإقامة
الأهم كما في الموالي العرفية فإذا علم العبد أن نقض غرضه المهم موجب لحفظ غرضه
الأهم يحكم العقل بلزوم حفظه.
يقال: إن ما ذكر غير مقنع، أما الأول فواضع لعدم دليل على كونهم كذلك، و
أما الثاني فله وجه في الموالي العرفية فإن أغراضهم معلومة وموارد رضاهم وسخطهم واضحة
130

لدينا وما المولى الحقيقي فأحكامه ليست لأغراض راجعة إليه والعياذ بالله بل أحكامه
لمحض اللطف على العباد ولمصالحهم وفي مثله لا يصح ما ذكر، ولا يجوز العقل مخالفته
لدفع مخالفة الغير وايقاع نفسه في المهلكة لعدم وقوع غيره فيها، فهل ترى من
نفسك جواز شرب الخمر إذا رأى المكلف دوران الأمر بين شربه وشرب غيره وعلم أنه لو لم يشربها غيره، فلو كان المورد من قبيل المتزاحمين لا بد من الالتزام
بالتخيير في المورد وكذا الالتزام بلزوم ارتكاب القمار مثلا لمنع شرب الخمر وهو
مخالف لضرورة الفقه والعقل.
هذا كله مع الغض عن أخبار الباب وأما بالنظر إليها فمحصل الكلام فيه: أن من
أراد التولي لولاية الجائر فقد يعلم بأنه إذا تولاها يمكن له دفع منكر أو منكرات أو
إقامة فريضة أو فرائض وقد يظن ذلك وقد يحتمل بمعنى أنه يحتمل مع توليه تأثير أمره
بخلاف ما إذا لم يتولها وعلى أي تقدير قد يكون المنكر موجودا والمعروف متروكا
وقد لا يكون كذلك لكن علم أو ظن أو احتمل وجودها فيما يأتي وعلى أي تقدير تارة
يكون مأمونا من ارتكاب المعصية في ديوانهم وأخرى لا يكون أو يكون في معرض
ارتكابها إلى غير ذلك من الفروض فهل يمكن استفادة جواز الدخول من الروايات
الخاصة في جميع الفروض أو لا.
أقول: ما يمكن أن يستدل به على المطلوب روايات:
منها صحيحة الحلبي (1) " قال سأل أبو عبد الله عليه السلام عن رجل مسلم وهو في ديوان
هؤلاء وهو يحب آل محمد صلى الله عليه وآله ويخرج مع هؤلاء في بعثهم فيقتل تحت رايتهم قال: يبعثه
الله على نيته قال: وسألته عن رجل مسكين خدمهم رجاء أن يصيب معهم شيئا فيغنيه الله
به فمات في بعثهم قال: هو بمنزلة الأجير إنه إنما يعطي الله العباد على نياتهم ".
وفي مرسلة الصدوق (2) قريب من الفقرة الأولى، بناء على أن المراد بالرجل
المسلم المحب لهم هو الشيعي فإن ترك الاستفصال عن أن وروده في ديوانهم هل هو
بالقهر والجبر والتقية أو بالاختيار: دليل على أن الوارد بالاختيار إذا كان وروده بنية

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 48 - من أبواب ما يكتسب به.
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 46 - من أبواب ما يكتسب به.
131

صالحة يحشره الله على نيته.
بل الظاهر أن وروده وخروجه إلى الغزو بالاختيار لأن الحشر على نيته إنما هو في
مورده لا في مورد الجبر والقهر مع أنه لو كان وروده بنحو الجبر فلا محالة كان خروجه
كذلك أيضا أو بحسب النوع فلا يبقى مجال لنيته والحشر عليها، مضافا إلى أنه لو كان
مقهورا في الورود كان على السائل ذكر كونه مكرها وإلا فظاهر السؤال أنه كان
مختارا، فلا شبهة في أن ظاهرها أن الورود والخروج كانا باختياره وأن الثواب و
العقاب فيهما حسب نيته إن كانت خيرا فيثاب وإن شرا فيعاقب، وتخصيصه بنية اصلاح
حال الشيعة والاحسان إليهم يحتاج إلى مخصص.
إلا أن يقال: إن الظاهر من الرجل المسلم المحب مقابل المسلم الناصب
وهو غير الشيعي فحينئذ يكون قوله: يبعثه الله على نيته كقوله: عليه ما عليه، لا يدل على
كونه مثابا مع نية الخير فإن الثواب لا يكون إلا مع الولاية والتصديق بإمامتهم (ع)
بل مع اطلاقها بالنسبة إلينا وإلى غيرنا يشكل أيضا استفادة الحكم منها.
لكن الاحتمال بعيد لأن الظاهر أن السائل في الفقرة الأولى كان شيعيا وفي
الفقرة الثانية كان السائل هو الحلبي ومن البعيد جدا أن يسأل الشيعي سيما مثل
الحلبي العريق في التشيع خلفا عن سلف وأبا عن جد رضوان الله عليهم عن حال
المخالف بعد موته لأجل الدخول في أعمالهم، بل الظاهر أن السؤال عن حال الشيعي
بأن ذلك موجب لعقوبته ولو كان المراد بالسؤال معرفة حكم المسألة فلا وجه للسؤال
عن عمل غيرنا فإن فقهاء أصحابنا كانوا يسألون المسائل ويحفظونها في أصولهم للبث
في الشيعة فلا وجه للسؤال عن حال غيرهم.
مضافا إلى أن قوله في ذيل الرواية: إنما يعطي الله العباد على
نياتهم، يكشف المراد عن قوله: يبعثه الله على نيته، ويدفع الاحتمال المتقدم،
بل هو كبرى كل لإفادة أن الأجر بحسب النيات ولا شبهة في أنه راجع إلى من يليق
باعطاء الثواب والأجر عليه وهو الشيعي بحسب أصول المذهب فلا ينبغي الاشكال
في أن السؤال عن الرجل من هذه العصابة.
132

ومنها الروايات الكثيرة الواردة في جواز الدخول مع نية الاحسان إلى
الإخوان وقد مرت جملة منها، بدعوى إلغاء الخصوصية منها، أو دعوى الفحوى
والأولوية القطعية، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة عظيمة فكيف
يمكن جواز الدخول لصلة الإخوان المستحبة وعدم جوازه مع توقف فريضة
عظيمة عليه.
والتحقيق أن الروايات الواردة في الجواز على كثرتها ضعيفة سندا لكن
الوثوق والاطمينان حاصل بصدور بعضها اجمالا فلا بد من الأخذ بأخصها مضمونا،
فإنها على طوائف:
منها ما يظهر منها الجواز مطلقا، كرواية صفوان بن مهران (1) ورواية
إسحاق بن عمار (2) المرويتين في المستدرك الظاهر منهما جوازه لكونه حقهم.
ومنها جوازه مع نية الاحسان إلى أهل ولايته إذا دخل على معرفة وبصيرة
كرواية الوليد بن صبيح (3).
ومنها جوازه لاعزاز المؤمن أو فك أسره أو قضاء دينه كرواية زياد بن أبي سلمة (4) وصفوان بن مهران وعلي بن رئاب، (5) ويظهر من هذه الطائفة
الجواز لشئ من منافع الشيعة لكن الظاهر من قوله: لاعزاز المؤمن (الخ) أن الغاية
للدخول إذا كانت نحو ذلك يجوز الدخول وكون الاعزاز ونحوه غاية محركة
لا يمكن إلا مع العلم أو الوثوق والاطمينان بأن الدخول فيها يمكنه منه وإلا فمع
احتماله أو ظنه لا يمكن أن يصير الاعزاز غاية بل يكون رجائه غاية.
ومنها ما دلت على جوازه إذا وصل إخوانه وعضد أهل ولايته كما في رواية

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 39 - من أبواب ما يكتسب به.
(2) كتاب التجارة - الباب 41 - من أبواب ما يكتسب به.
(3) المستدرك - كتاب التجارة - الباب 39 - من أبواب ما يكتسب به.
(4) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 46 - من أبواب ما يكتسب به.
(5) المستدرك - كتاب التجارة - الباب 39 - من أبواب ما يكتسب به.
133

أبي الجارود (1) أو إذا واسى إخوانه وأنصف المظلوم وأغاث الملهوف من أهل
ولايته كما في رواية محمد بن سنان (2) أو إذا وصل إخوانه وعاد أهل ولايته كما في
رواية أبي الجارود الأخرى.
ومنها ما دلت باختلاف التعابير على أن الله في أبواب الظلمة من يدفع عن أوليائه
كمرسلة الصدوق عن التهذيب (3) ومرسلته الأخرى عن المقنع (4) وروايات
محمد بن عيسى بن يقطين (5) وسدير (6) وهشام بن سالم (7) والمفضل بن
عمر (8) ومهران بن محمد بن أبي نصر (9) وحمران بن نعم (10)،
ومن جملتها صحيحة علي بن يقطين (11) لكن هي بنفسها لا تدل على المطلوب و
القرائن الشاهدة على كونها مربوطة به من الضعاف، كما أن الاستناد في كون
سائر تلك الطائفة كذلك لأجل قرينيتها كرواية محمد بن عيسى بن يقطين (12)
" قال: كتب علي بن يقطين إلى أبي الحسن عليه السلام في الخروج من عمل السلطان
فأجابه: إني لا أرى لك الخروج من عمل السلطان فإن لله عز وجل بأبواب الجبابرة
من يدفع بهم عن أوليائه وهم عتقاء من النار فاتق الله في إخوانك أو كما قال "،
وبعض روايات أخر، والظاهر منها أن الدخول في أعمالهم والبقاء فيها جائز
بل راجح للدفع عن أوليائه تعالى، وأن عدم إجازته للخروج لذلك لا للخوف عليه

(1) المستدرك - كتاب التجارة - الباب 39 - من أبواب ما يكتسب به.
(2) المستدرك - كتاب التجارة - الباب 39 - من أبواب ما يكتسب به.
(3) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 46 - من أبواب ما يكتسب به.
(4) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 46 - من أبواب ما يكتسب به.
(5) المستدرك - كتاب التجارة - الباب 39 - من أبواب ما يكتسب به.
(6) المستدرك - كتاب التجارة - الباب 39 - من أبواب ما يكتسب به.
(7) المستدرك - كتاب التجارة - الباب 39 - من أبواب ما يكتسب به.
(8) المستدرك - كتاب التجارة - الباب 39 - من أبواب ما يكتسب به.
(9) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 44 - من أبواب ما يكتسب به.
(10) المستدرك - كتاب التجارة - الباب 39 - من أبواب ما يكتسب به.
(11) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 46 - من أبواب ما يكتسب به.
(12) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 39 - من أبواب ما يكتسب به.
134

من شر السلطان.
نعم لا يبعد ذلك الاحتمال في رواية أخرى عنه (1) تتضمن من الإذن للهرب من هارون (لع)
فأجابه " لا آذن لك بالخروج من عملهم واتق الله أو كما قال ". ومن هذه أيضا ما اشتملت
على السؤال عن أن قوما من الموالي يدخلون في عملهم ولا يؤثرون على إخوانهم (الخ)
فأجاب: أولئك هم المؤمنون حقا كرواية السياري (2) عن علي بن جعفر في مكاتبته
إلى أبي الحسن عليه السلام والظاهر منها أيضا جواز الدخول لذلك وهي أيضا قرينة على
المراد في الروايات المتقدمة فلا بد من الأخذ بأخص مضمونا منها، والظاهر أن المتيقن
منها جواز الدخول مع العلم بأن في دخوله يدفع عن الشيعة ويحفظ منافعهم بوجه من
الوجوه، ولعل من مجموع تلك الروايات الكثيرة جدا المتقاربة المضمون يحصل
الاطمينان بجواز الدخول لذلك مع علمه بتوفيقه.
وأما رواية الحسن بن الحسين الأنباري المتقدمة وإن كانت أخص منها لكن
قد تقدم أن الظاهر منها أن أبا الحسن عليه السلام لم يصدقه في دعواه وعلق الجواز على أمر
غير ممكن في العادة ولعله لخصوصية فيه عرفها منه.
ثم إنه يقع الكلام في أنه هل يمكن إلغاء الخصوصية منها أو القطع
بالأولوية واسراء الحكم إلى كل مصلحة أو نية حسنة أو إلى خصوص مورد التمكن
من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مطلقا أو مع العلم أو الوثوق بالتأثير
فيه تردد، من حيث إنه لو كان مطلق المصالح سيما التمكن منهما من المجوزات أو
الموجبات للدخول في سلطانهم لأشاروا إليه في تلك الروايات الكثيرة جدا مع كون
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الفرائض المهمة العظمية ولم ينهوا عن الدخول
بنحو مطلق تارة وبنحو الحصر أخرى في مواضع كثيرة، ومعه كيف يمكن إلغاء
الخصوصية أو دعوى الأولوية القطعية بل مع تظافر الروايات الدالة على الحرمة
إلا في مورد كان الورود لأجل مصالح الشيعة والدفع عنهم تقيد صحيحة الحلبي بناء

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 46 - من أبواب ما يكتسب به.
(2) المستدرك - كتاب التجارة - الباب 39 - من أبواب ما يكتسب به.
135

على اطلاقها لمطلق نية الخير.
هذا كله مع احتمال أن يكون التسويغ للورود في سلطانهم في تلك الأعصار
تسويغا سياسيا لمصلحة بقاء المذهب، فإن الطائفة المحقة في ذلك العصر كانت تحت
سلطة الأعادي وكانت خلفاء الجور وأمرائهم من ألد الأعداء لهذه العصابة، فلولا
دخول بعض أمراء الشيعة وذوي جلالتهم في الحكومات والتولي للأمور لحفظ مصالحهم
والصلة إليهم والدفع منهم: لكان الأفراد السواد منهم في معرض الاستهلاك في الدول
بل في معرض تزلزل الضعفاء منهم من شدة الضيق عليهم، فكانت تلك المصلحة
موجبة لترغيبهم في الورود في ديوانهم.
ربما تشهد لما ذكرناه التعبيرات التي في بعض الروايات.
كرواية محمد بن إسماعيل بن بزيع (1) " قال: قال أبو الحسن عليه السلام إن لله بأبواب
الظالمين من نور الله له البرهان ومكن له في البلاد ليدفع بهم عن أوليائنا ويصلح الله
به أمور المسلمين، إليهم ملجأ المؤمنين من الضر وإليهم يفزع ذو الحاجة من شيعتنا
وبهم يؤمن الله روعة المؤمنين في دار الظلمة، أولئك هم المؤمنون حقا أولئك أمناء الله
في أرضه، أولئك نور الله في رعيته يوم القيامة، ويزهر نورهم لأهل السماوات، كما تزهر
الكواكب الدرية لأهل الأرض، أولئك نورهم يوم القيامة يضئ منه القيامة، خلقوا والله
للجنة خلقت الجنة لهم فهنيئا لهم، ما على أحدكم أن لو شاء لنال هذا كله قال: قلت:
بماذا جعلت فداك قال: يكون معهم فيسرنا بادخال السرور على المؤمنين من شعيتنا
فكن منهم يا محمد.
وكرواية أحمد بن محمد السياري (2) وغيرهما، فإن الناظر فيها لا يستبعد
بأن تكون تلك الفضائل والمرغبات لأجل مصلحة عظيمة فوق اكرام المؤمن بل في
رواية محمد بن إسماعيل إشارات إلى ما ذكرناه، ولا يلزم أن يكون تلك المصلحة

(1) راجع تنقيح المقال - للمامقاني في ترجمة محمد بن إسماعيل بن بزيع أبي جعفر
مولى المنصور.
(2) المستدرك - كتاب التجارة - الباب 39 - من أبواب ما يكتسب به.
136

موجبة لايجاب الدخول في ديوانهم سيما بالنحو العموم ولعله مستلزم لمفاسد،
ولعلهم عليهم السلام ألزموا بعض أصحابنا المؤثرين في حفظ هذا المقصد على الدخول
كما تشهد عليه ما دلت على منع علي بن يقطين من الخروج عن ديوانهم.
ففي رواية علي بن يقطين " لا آذن لك بالخروج من عملهم واتق الله " وفي
رواية أخرى بعد عدم إذنه بالخروج: علله بأن لله بأبواب الجبابرة من يدفع بهم
عن أوليائه، ومن هذه يظهر المراد من الرواية المتقدمة، ويضعف احتمال أن يكون
عدم إذنه للخوف على نفسه بل لا يبعد أن يكون الظاهر منهما أن دخوله كان بأمر
منه عليه السلام والزامه لا لمحض الجواز أو الاستحباب.
وبالجملة أن المتيقن من مجموع الروايات أن جواز الدخول في ديوانهم
عليهم اللعنة كان لاصلاح حال الشيعة ولعل سره ضعف الشيعة وقلة عددهم والخوف
من تشتتهم ولا يجب التنبيه على غايات الأحكام والمصالح الكامنة فيها، وعلى هذا
الاحتمال، يكون المقام من قبيل تزاحم المقتضيات وترجيح اقتضاء الدخول
لحفظ الشيعة على اقتضاء حرمة الدخول من غير اشكال، وتوجه الروايات
القائلة بأن قضاء حوائج الإخوان ونحوه كفارة عمل السلطان سيما على ما بنينا
عليه من بقاء المزاحم المهم على حرمته مع مزاحمته للأهم، كما أنه على هذا
الاحتمال لا يصح إلغاء الخصوصية بالنسبة إلى مطلق مصلحة ولا دعوى الأولوية القطعية
في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وما ذكرناه وإن كان مخالفا لظاهر بعض الروايات الغير المعتمدة لكن
الاتكال في المقام على استفادة الحكم من مجموع الروايات الضعاف التي حصل
الوثوق بصدور بعضها، ونتيجته ما عرفت فاسراء الحكم إلى جواز التولي في ديوانهم
للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مشكل بل غير صحيح حتى في صورة العلم بأنه مع
توليه يدفع ارتكاب منكر معمول وترك معروف متروك فضلا عن غيرها
هذا حال الأخبار.
وأما كلمات الأصحاب وإن توافقت ظاهرا من زمن شيخ الطائفة على اختلاف
137

التعابير بجوازه لكن لا يظهر منها الاجماع أو الشهرة على جوازه لخصوص الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد نسب إلى العلامة في المنتهى دعوى عدم
الخلاف فيه، وهو غير صحيح لأن دعواه ذلك في مسألة أخرى (1) قال: أما السلطان
الجائر فلا يجوز الولاية منه مختارا إلا مع علم التمكن من الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر وقسمة الأخماس والصدقات على مستحقهما وصلة الإخوان ولا يكون في ذلك
مرتكبا للمآثم أو غلبة الظن بذلك، أما إذا انتفى العلم والظن فلا يجوز الولاية من
قبل الجائر بلا خلاف.
وأنت خبير بأن دعواه عدم الخلاف راجعة إلى مورد انتفاء العلم والظن، و
احتمال الرجوع إلى جميع ما تقدم مقطوع الفساد، فقول صاحب مفتاح الكرامة
حكاية عن غيره (2): إن العلامة في المنتهى نفى الخلاف عن ذلك كله، ليس موافقا
للواقع، كما أن دعوى الراوندي (3) الاجماع إنما هي فيما إذا تمكن مع التولي
من ايصال الحق لمستحقه.
نعم ظاهر الشيخ في النهاية (4) وابن إدريس في السرائر (5) والمحقق و
العلامة (6) ومن تأخر منهم جوازه لذلك، وأنت خبير بعدم ثبوت اجماع معتبر أو شهرة
معتمدة من ذلك سيما مع كون المسألة مما كثرت فيها الأدلة والروايات ولا يظن أن يكون لهم مستند سواها، لكن مع ذلك تطابق فتاوى من عرفت يسلب الجرأة على
المخالفة فالمسألة محل تردد.
الثاني مما يسوغ الولاية العذر كالاضطرار أو التقية أو الاكراه، وهذا أولى
من جعل الثاني خصوص الاكراه فإنه على ذلك يزيد المستثنى مما ذكر، ضرورة
جواز الدخول مع التقية وهي غير الاكراه، وتدل على الجواز معها عمومات التقية
وخصوص رواية مسعدة المتقدمة، وكذا مع الاضطرار وهو غيره أيضا، ويدل على

(1) في البحث الثالث من المقصد الثاني من التجارة - من عمل السلطان.
(2) راجع مفتاح الكرامة في الولاية من قبل العادل أو الجائر من المتاجر - ص 114.
(3) راجع مفتاح الكرامة في الولاية من قبل العادل أو الجائر من المتاجر - ص 114.
(4) راجع مفتاح الكرامة في الولاية من قبل العادل أو الجائر من المتاجر - ص 114.
(5) راجع مفتاح الكرامة في الولاية من قبل العادل أو الجائر من المتاجر - ص 114.
(6) راجع مفتاح الكرامة في الولاية من قبل العادل أو الجائر من المتاجر - ص 114.
138

الجواز معه مضافا إلى حديث الرفع موثقة عمار (1) عن أبي عبد الله عليه السلام " سئل عن
أعمال السلطان يخرج فيه الرجل قال: لا إلا أن لا يقدر على شئ يأكل ولا يشرب
ولا يقدر على حيلة فإن فعل فصار في يده شئ فليبعث بخمسه إلى أهل البيت "، كما أنه يدل على الجواز مع الاكراه مضافا إلى الأدلة العامة خصوص بعض الروايات
المتقدمة.
وينبغي التنبيه على أمور:
الأول كما يباح بالاكراه نفس الولاية المحرمة: يباح به ما يلزمها من المحرمات
الأخر سواء كانت لازمة لمنصبها مما لا تنفك عنه أو يقع الاكراه بخصوصها وهذا
على الاجمال مما لا اشكال فيه، إنما الاشكال في أن الأدلة الدالة على الجواز لحديث
الرفع وغيره هل لها اطلاق بالنسبة إلى جميع المحرمات سواء كانت حق الله محضا
أم من حقوق الناس أيضا دما كان أو عرضا أو مالا، أو تختص بخصوص حق الله ولا
تشمل حق الناس ولو كان قليلا وكان الايعاد على كثير، أو يفصل بين العظائم و
المهمات وغيرها سواء كانت من حق الله تعالى أو حق الناس، أو يفصل بن المهمات
وغيرها في حق الله مع الاختصاص بخصوصه أو يفصل بين ما إذا كان الضرر الذي
أوعد به المكره أعظم مما أكرهه عليه فيرتفع وبين غيره.
قد يقال: باختصاص الأدلة بحق الله محضا وعدم شمولها لحق الناس ويتشبث
له، تارة بأن المستفاد من أدلة الاكراه أن تشريعه لدفع الضرر فلا يجوز دفعه
بالاضرار بالغير ولو كان الاضرار أدون.
وأخرى بأن حديث الرفع مسوق للامتنان على جنس الأمة ولا حسن في
الامتنان على بعضهم بترخيص الاضرار ببعض آخر، فإذا توقف دفع الضرر على نفسه
بالاضرار بالغير لم يجز.
وثالثة بأن دليل الاكراه لو عم للاكراه على الاضرار بالغير لعم نفي الاضطرار

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 48 - من أبواب ما يكتسب به.
139

له أيضا فإن سياقهما واحد، ولا وجه للافتراق بينهما والتالي باطل لقبح تشريع
الاضرار بالغير لدفع ضرر نفسه ولهذا لم يجوز أحد هتك أعراض الناس ونهب أموالهم
إذا توقف عليه صون عرضه وماله مع أنه يجوز ارتكاب المحرمات وترك الواجبات
لذلك.
ورابعة بقوله: إنما جعل التقية ليحقن بها الدم فإذا بلغ الدم فليس تقية بتقريب
أن المستفاد منه أنه كل ما شرعت التقية لحفظه إذا بلغته فلا تقية ومن المعلوم
أن التقية كما شرعت لحقن الدماء شرعت لحفظ الأعراض والأموال أيضا ومقتضاه أنه
إذا بلغت هتك الأعراض ونهب الأموال فليس تقية.
ويرد على الأول والثاني بل على الجميع أن الاختصاص بغير ما تعلق به حق
الناس مخالف لمورد نزول قوله تعالى: إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان (1)
فإنه بحسب قول المفسرين وبعض الروايات المعتمدة نزل في قضية عمار حيث اكراه
على البراءة عن النبي صلى الله عليه وآله وسبه وشتمه ففي مجمع البيان: أعطاهم عمار بلسانه
ما أرادوا منه ثم قال: وجاء عمار إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وهو يبكي قال صلى الله عليه وآله: ما وراك
فقال: شر يا رسول الله ما تركت حتى قلت منك وذكرت آلهتهم بخير
فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله يمسح عينيه ويقول: إن عادوا لك فعد لهم بما قلت فنزلت الآية
عن ابن عباس وقتادة " انتهى ".
وتدل عليه رواية مسعدة الآتية (2) وشأن نزول الآية لا يوجب تقييد اطلاقها أو
تخصيص عمومها فقوله: إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان: مطلق شامل لمطلق
الاكراه، ولا وجه لاختصاصه بخصوص الايعاد على القتل وإن كان شأن نزوله خاصا
كما أن الحال كذلك في سائر الآيات.
فلا ينبغي الاشكال في اطلاقه سيما مع كون العناية بهذه الفقرة أي الاستثناء
كما دلت عليه الرواية الآتية وكلمات المفسرين، بل الاختصاص بحق الله مخالف

(1) سورة النحل - الآية 108.
(2) الوسائل - كتاب الأمر بالمعروف - الباب 29 - من أبواب الأمر والنهي.
140

لظاهر الآية سواء كان قوله: من كفر بالله من بعد ايمانه إلا من أكره مربوطا بما سبق
من الآيات وهو قوله تعالى: وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا: إنما أنت
مفتر (1) إلى أن قال: وقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر إلى أن قال: إنما
يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون من كفر بالله (الخ).
ويكون محصل المعنى من قال إنك مفتر وكاذب هو مفتر وكاذب وكافر إلا من
أكره، والظاهر منه أن كل مكره ليس عليه بأس ولا يكون مورد ذم الله تعالى في
الافتراء على رسول الله وتكذيبه وهو واضح، أو كان أول الكلام ويكون محصل المعنى
أن من كفر بالله بعد ايمانه بالارتداد وايجاد أسبابه من القول والفعل فعليه غضب من الله
وعذاب عظيم إلا من أكره بايجادها.
وعلى هذا الاحتمال لا بد من أن يراد بالكفر في قوله: من كفر خصوص أسبابه أي
من أوجد أسبابه أو الأعم منها حتى يصح الاستثناء، فإن الاكراه على الكفر الباطني
والاعتقادي غير ممكن وعلى فرضه غير معفو، كما أن في الآية تقييدا بقوله: وقلبه
مطمئن بالايمان، فالمراد بالاكراه الاكراه على الأسباب ومقتضى اطلاقه جواز كل
ما يوجب الكفر من تكذيب النبي صلى الله عليه وآله وسبه وشتمه والعياذ بالله مع كونه مكرها
كما تدل عليه الروايات.
وتدل على اطلاقها أيضا رواية عمرو بن مروان (2) ولا يبعد أن تكون معتمدة عن أبي عبد الله عليه السلام " قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: رفع عن أمتي أربع خصال خطؤها ونسيانها
وما أكرهوا عليه وما لم يطيقوا وذلك قول الله عز وجل: ربنا لا تؤاخذنا " إلى أن قال:
" وقوله إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان، وعن العياشي عنه عليه السلام نحوها (3). حيث
تدل على أنه تعالى رفع عن الأمة ما أكرهوا عليه مطلقا بمقتضى الآية الكريمة.
ويمكن تقريب دلالة الآية أيضا على رفع مطلق ما أكرهوا عليه: بأن الاكراه

(1) سورة النحل - الآية 103.
(2) الوسائل - كتاب الأمر بالمعروف الباب 25 - من أبواب الأمر والنهي.
(3) الوسائل - كتاب الأمر بالمعروف - الباب 25 - من أبواب الأمر والنهي.
141

إذا صار موجبا لرفع الحرمة عن هتك عرض النبي صلى الله عليه وآله وتكذيبه في نبوته وكتابه و
هو من أعظم المحرمات وموجبا لرفع هدر دمه الذي من الوضعيات من جهة صار موجبا
لرفع حرمة هتك سائر الأعراض فضلا عن الأموال التي هي دون الأعراض ولرفع سائر
الوضعيات أيضا.
وتدل على الاختصاص أيضا رواية مسعدة بن صدقة (1) المعتمدة بل لا يبعد
أن تكون موثقة " قال: قيل لأبي عبد الله عليه السلام: إن الناس يروون أن عليا عليه السلام قال على منبر
الكوفة: ستدعون إلى سبي فسبوني ثم تدعون إلى البراءة مني فلا تبرأوا مني فقال:
ما أكثر ما يكذب الناس على علي عليه السلام ثم قال: إنما قال ستدعون إلى سبي فسبوني ثم
تدعون إلى البراءة مني وإني لعلى دين محمد صلى الله عليه وآله ولم يقل: ولا تبرأوا مني فقال له
السائل: أرأيت إن اختار القتل دون البراءة فقال: والله ما ذلك عليه وما له إلا ما مضى
عليه عمار بن ياسر حيث أكرهه أهل مكة وقلبه مطمئن بالايمان فأنزل الله عز وجل
فيه: إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان فقال له النبي صلى الله عليه وآله: يا عمار إن عادوا فعد
فقد أنزل الله عذرك وأمرك أن تعود إن عادوا ".
ومعلوم أن الظاهر منها أن الآية لا تختص بقضية عمار أو قضية نحو قضيته هذا،
مع أن اطلاق قوله: ستدعون إلى سبي فسبوني، وكذا اطلاق الإجازة بالبراءة: يقتضي
جوازهما بمجرد الدعوة ممن يخاف سوطه أو سيفه من غير اختصاص بالايعاد على القتل
وكلامه هذا ليس ظاهرا في كونه على وجه الاخبار بالغيب بل الظاهر قيام القرائن
عليه، لأن له عليه السلام كان أعداء علم من عداوتهم ذلك عادة، فلا معنى للحمل على موضوع
خاص علمه عليه السلام من طريق الغيب، ولا حجة على رفع اليد عن اطلاق الدليل بمحض
ذاك الاحتمال.
وتدل عليه أيضا صحيحة بكر بن محمد (2) عن أبي عبد الله عليه السلام " قال: إن التقية ترس
المؤمن ولا ايمان لمن لا تقية له فقلت له: جعلت فداك قول الله تبارك وتعالى: إلا من

(1) الوسائل - كتاب الأمر بالمعروف - الباب 29 - من أبواب الأمر والنهي.
(2) الوسائل - كتاب الأمر بالمعروف - الباب 29 - من أبواب الأمر والنهي.
142

أكره وقلبه مطمئن بالايمان قال: وهل التقية إلا هذا ".
ورواية الجعفريات (1) عن علي بن أبي طالب عليه السلام " قال: قلت: يا رسول الله الرجل
يؤخذ يريدون عذابه قال: يتقى عذابه بما يرضيهم باللسان ويكرهه بالقلب قال صلى الله عليه وآله
هو قول الله تبارك وتعالى إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان ".
ورواية عبد الله بن عجلان (2) عن أبي عبد الله عليه السلام " قال: سألته فقلت له إن الضحاك
قد ظهر بالكوفة ويوشك أن ندعى إلى البراءة من علي عليه السلام فكيف نصنع قال: فابرأوا
منه قلت أيهما أحب إليك قال: أن تمضوا على ما مضى عليه عمار بن ياسر أخذ بمكة
فقالوا له أبرأ من رسول الله فبرء منه فأنزل الله عز وجل عذره إلا من أكره وقلبه مطمئن
بالايمان "، إلى غير ذلك.
فتحصل مما ذكر عدم الاختصاص بحق الله تعالى محضا وكذا بالايعاد بالقتل و
بقضية عمار أو نحوها.
وإن شئت قلت مقتضى اطلاق حديث الرفع واطلاقات التقية وعموماتها عدم
الاختصاص. وإنما نشأت دعوى الاختصاص من مجرد استبعاد أو وجوه ظنية، و
مع فرض شمولها بما تقدم لبعض الأعراض المهمة التي من حقوق الناس يرفع هذا الاستبعاد
وتدفع تلك الوجوه، مضافا إلى أن دعوى كون حديث الرفع منة أو شرع ذلك لدفع
الضرر فلا وجه لشموله ما هو خلاف المنة أو موجب للضرر (مدفوعة) بأن ما ذكر من
قبيل نكتة التشريع لا علة الحكم نظير جعل العدة لنكتة عدم تداخل المياه، وفي
مثله يتبع اطلاق الدليل. ودعوى الانصراف ممنوعة سيما بعد كون الآية في مورد
حق الغير.
وأما التشبث بقوله: إنما جعلت التقية (الخ) بالتقريب المتقدم ففي غيره مورده
بل هو من الأدلة على التعميم يظهر وجهه بعد نقل الروايات المشتملة عليه. ففي

(1) المستدرك - كتاب الأمر بالمعروف - الباب 28 - من أبواب الأمر والنهي.
(2) الوسائل - كتاب الأمر بالمعروف - الباب 29 - من أبواب الأمر والنهي.
143

صحيحة محمد بن مسلم (1) عن أبي جعفر عليه السلام " قال: إنما جعل التقية ليحقن بها الدم فإذا بلغ
الدم فليس التقية، وفي موثقة أبي حمزة الثمالي (2) عن أبي عبد الله عليه السلام " قال: إنما
جعلت التقية ليحقن بها الدم فإذا بلغت التقية الدم فلا تقية "، وفي مرسلة الصدوق
في الهداية (3) قال: " قال الصادق عليه السلام: لو قلت إن تارك التقية كتارك الصلاة لكنت
صادقا والتقية في كل شئ حتى يبلغ الدم فإذا بلغ الدم فلا تقية ".
وأنت خبير بأن الظاهر منها أن عدم التقية منحصر بالدم والحصر في محله،
لأن المراد من قوله: إنما جعلت التقية (الخ) أن التقية شرعت في أول تشريعها
لحقن الدم، لأن أول تشريعها ونكتته ومورده قضية عمار بن ياسر كما تقدم
وكان موردها حقن الدم فقوله ذلك إشارة ظاهرا إلى تلك القضية وإشارة إلى نكتة عدم
التقية في الدم، فتكون الروايات دالة على عموم التقية فيما عدا بلوغ الدم ولا وجه
لرفع اليد عن هذا الظاهر بتخيل أن الحصر غير صحيح لأن التقية مشروعة في
الأعراض والأموال أيضا، وذلك لما عرفت من أن الحصر باعتبار مبدأ التشريع وصرف
بيان نكتة عدم التقية مع بلوغ الدم وليس المراد منه حصر مورد التقية بالدم حتى
يأتي فيه ما ذكر فلا مجال للاشكال في العموم، سيما مع قوله في المرسلة: إن
التقية في كل شئ حتى بلغ الدم (الخ) وبما ذكرناه يحفظ ظهور (إنما) في الحصر
وظهور الآية والروايات المتقدمة، بل مع احتمال ما ذكر لا يصح رفع اليد عن الاطلاقات
والأخبار المتقدمة، بل لازمه وقوع المعارضة بين هذه الروايات وظاهر الكتاب
والروايات المتقدمة بعد عدم التفكيك بين الأعراض والأموال " تأمل ".
نعم يأتي كلام في عموم هذه الروايات واطلاقها من جهة أخرى فانتظر.
وأما ما قيل من أن تلك الروايات أجنبية عن الباب، لأن المراد بها أن التقية
لحفظ الدم فإذا لم يحقن الدم على أي حال فلا مورد للتقية (ففيه ما لا يخفى) من ارتكاب
خلاف الظاهر، فإن من المعلوم أن الروايات الثلاث متوافقة المضمون فتكون

(1) الوسائل - كتاب الأمر بالمعروف - الباب 31 - من أبواب الأمر والنهي.
(2) الوسائل - كتاب الأمر بالمعروف - الباب 31 - من أبواب الأمر والنهي.
(3) الوسائل - كتاب الأمر بالمعروف - الباب 29 - من أبواب الأمر والنهي.
144

الموثقة المصرحة بفاعل بلغ كاشفة عن فاعله في الروايتين وتذكير الضمير باعتبار
الاتقاء، ولا شبهة في أن الظاهر من قوله: إذا بلغت التقية الدم: أن التقية إذا صارت
موجبة لإراقته وهي منتهية إليه، لا أن الدم إذا يهرق وتكون التقية لغوا لا أثر لها،
فإن حق العبارة لإفادة ذلك أن يقول: فإذا لم يحقن الدم فلا تقية، مضافا إلى أن الحمل
على ما ذكر حمل على أمر واضح لعل ذكره لا يخلو من ركاكة.
وأما الاشكال الثالث وهو أن دليل الاكراه لو عم لعم دليل الاضطرار (ففيه)
مضافا إلى عدم الملازمة بينهما إذ يمكن أن يدعى عموم الأول لأجل مورد نزول الآية
والروايات المتقدمة دون الثاني: أن دليل الاضطرار أيضا عام يشمل الاضطرار بمال
الغير فإذا اضطر إلى شرب ماء أو أكل خبز غيره يرفع دليل الاضطرار حرمة التصرف في مال
الغير بغير إذنه لكن لا يسقط ضمانه لعدم الاضطرار إلى أكله أو شربه مجانا، وبالجملة
كما ترفع حرمة الخمر بالاضطرار ترفع حرمة التصرف في مال الغير به.
وأما إذا أكره على اعطاء ماله فدفع مال الغير لدفع شره فليس ذلك مشمولا
لدليل الاضطرار، لأنه مكره وملجأ في اعطاء ماله لدفع شر متوجه إليه وإنما أراد
دفع شر متوجه إليه بمال غيره، وبعبارة أخرى أنه ليس ملجأ باعطاء مال غيره ولا
مضطرا إليه بل ملجأ ومضطر إلى اعطاء مال نفسه لأنه الذي أراد منه المكره وإنما
أراد دفع شره بمال غيره.
وإن شئت قلت: شمول دليل الاضطرار نصا وفتوى لمورد تعلق حق الغير
كالاضطرار إلى أكل مال الغير دليل على عدم الاختصاص بحق الله تعالى، وعدم
تجويزهم دفع اكراه المكره المتوجه إليه باعطاء مال غيره ليس لأجل عدم شمول
دليل الاضطرار لحق الناس وإلا لزم عدم افتائهم في المسألة المتقدمة بل لأجل عدم
صدق الاضطرار على التصرف في مال الغير فيما إذا توجه الاكراه إليه خاصة، للفرق
بين الاضطرار على التصرف في مال الغير وبين دفع الاكراه والالجاء المتوجهين إليه
بمال غيره، فالمكره لأجل الايعاد عليه إذا لم يدفع ماله مضطر إلى دفعه لا دفع بدله،
وإنما أراد دفع الشر المتوجه إليه ورفع الجائه باعطاء بدله مع عدم الاضطرار إليه بل
145

لو أكرهه على دفع مال بلا انتساب إليه أو إلى غيره وكان عنده من مال نفسه ما يدفع
به شره ليس له اعطاء مال غيره لعدم الاضطرار إلى اعطاء مال الغير.
نعم لو لم يكن في الفرض عنده غير مال غيره يجوز دفعه بدليل رفع الاكراه
كما لو اضطر إلى صرف مال ولم يكن عنده غير مال الغير يجوز صرفه بدليل رفع الاضطرار.
وأما ما قيل: من عدم الفرق بين قوله: أنت مخير بين اعطاء مالك ومال
غيرك وبين قوله: أعطني مال غيرك وإلا أخذت مالك إلا بمجرد العبارة (ففيه ما
لا يخفى) لأنه في الفرض الأول أكرهه على أحدهما في عرض واحد فلا بد له من
اختيار أقلهما محذورا عقلا، وفي الثاني أكرهه على خصوص مال الغير لا على ماله
ومال غيره، والفرق بينهما في غاية الوضوح، فإذا أكرهه على مال غيره يكون
الشر متوجها إلى الغير ويكون المكره وسيلة لاجراء ما أراد المكره، ودفع
الشر عن الغير بايقاعه على نفسه غير لازم بخلاف ما إذا أكرهه على مال نفسه فإنه
لا يجوز اعطاء مال الغير، لأن الشر متوجه إليه لا إلى غيره، وقد عرفت أن صدق
الاضطرار فيه أيضا محل اشكال، ولو سلم الصدق فدعوى انصراف الأدلة عن مثله
قريبة بخلاف دعوى الانصراف في دليل الاكراه.
وإن شئت قلت إن التلازم ين الفقرتين في التعميم وعدمه على فرضه ليس عقليا
بل عرفي بلحاظ وحدة السياق وهي من أدنى مراتب الظهور على تسليم أصله، ومع
قيام قرينة على التفرقة تقدم عليه، وفي المقام قامت الأدلة على شمول دليل الاكراه لحق
الناس كما تقدم الكلام فيه.
ولولا بعض الجهات لقلنا بأن مقتضى وحدة السياق التعميم في دليل رفع الاضطرار
لكن العرف والعقلاء يفرقون بين الاكراه على مال الغير وعرضه وبين الاكراه على
ماله وعرضه وأراد دفعه بمال الغير أو عرضه، فإن الاقدام على الأول ليس قبيحا و
ليس من قبيل ايقاع الضرر المتوجه إليه على غيره بخلاف الثاني ومقتضى الامتنان
التجويز في الأول دون الثاني، وما ذكر من جهات وخصوصيات موجبة للتفرقة بين
الفقرتين وكأنها صارت موجبة لفتوى الفقهاء أو معظمهم على جواز التقية في كل
146

شئ إلا الدم وعدم جواز دفع الضرر المتوجه إليه إلى غيره.
هذا كله مضافا إلى دليل الحرج، لأن ايجاب تحمل الضرر لدفع الضرر المتوجه
إلى الغير حرجي بخلاف عدم تجويز دفع الضرر المتوجه إليه بايقاعه على غيره.
وما قيل إن ذلك في غير الفاعل الشاعر وأما هو فمباشرته جزء أخير من العلة
التامة الموقعة للغير في الضرر، وتجويز هذه المباشرة تجويز للاضرار بالغير دفعا
للضرر المتوعد به عن نفسه وهو قبيح مخالف للامتنان (مدفوع بما مر); وكون مباشرة
الفاعل جزء أخيرا لوقوع الضرر لا يوجب عدم كون الضرر متوجها إلى الغير ابتداء
ولو باستعمال الفاعل الشاعر كرها فإن إرادة المكره بالكسر توجهت إلى الاضرار
بالغير أولا ثم أراد تحصيله بوسيلة المكره إرادة غيرية مقدمية، فالمكره لو تحمل
الضرر اللازم للتخلف عن أمره فإنما تحمله لصرف الضرر عن غيره وهو حرجي نفاه
الشارع منة على العباد، وكون الفاعل شاعر ألا يدفع ما هو مناط في المقام.
ولعمري إن ما أفاده شيخنا الأنصاري في غاية السداد، وما قال بعضهم اشكالا
عليه; وقد أشرنا إلى عمدته وجوابها (غير سديد) فراجع تعليقة الفاضل الإيرواني
على المكاسب، وقد تحصل من جميع ما ذكرناه شمول أدلة الاكراه لمطلق المحرمات
سواء كانت متعلقة لحق الناس أم لا.
ثم إن هاهنا موارد يمكن القول باستثنائها من تلك الكلية قد ذكرناها في
رسالة التقية ونذكر بعضها هاهنا.
منها بعض المحرمات التي في ارتكاز المتشرعة من العظائم والمهمات جدا،
كمحو كتاب الله الكريم والعياذ بالله بجميع نسخه وتأويله بما يخالف الدين أو المذهب
بحيث يوجب ضلالة الناس والرد على الدين أو المذهب بنحو يوجب الاضلال وهدم
الكعبة المعظمة ومحو آثارها، وكذا قبر النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام كذلك
إلى غير ذلك. فإن الظاهر أن الأدلة منصرفة عن أمثال ذلك سيما بعضها، وإنما شرعت
التقية لبقاء المذهب الحق ولولاها لصارت تلك الأقلية المحقة في معرض الزوال و
الاضمحلال والهضم في الأكثرية الباطلة وتجويزها لمحو المذهب والدين خلاف غرض
147

الشارع الأقدس، بل لعل بعض حقوق الناس كالأعراض الكثيرة المهمة في ارتكاز
المتشرعة كذلك، ففي تلك المقامات لا بد من ملاحظة أقوى المقتضيين وأهم
المناطين.
وتشهد لما ذكرناه موثقة مسعدة بن صدقة (1) عن أبي عبد الله عليه السلام وفيها " وتفسير
ما يتقى مثل أن يكون قوم سوء ظاهر حكمهم وفعلهم على غير حكم الحق وفعله فكل
شئ يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية مما لا يؤدي إلى الفساد في الدين فإنه جائز ".
بل يشكل تحكيم الأدلة فيما إذا كان المكره بالفتح من الشخصيات البارزة الدينية في
نظر الخلق بحيث يكون ارتكابه لبعض القبايح موجبا لهتك حرمة المذهب ووهن
عقايد أهله.
ومنها الدم فقد نفى ابن إدريس (2) الخلاف بين الأصحاب في نفي التقية في
قتل النفوس وكذا العلامة في كتاب المنتهى في باب الأمر بالمعروف، وفي الرياض
(3) الاجماع على استثناء إنفاذ أمر الجائر في قتل المسلم، وكذا ادعاء الأردبيلي (4)
وبقسميه في الجواهر (5) وادعاه في المستند (6) وهو ظاهر شيخنا الأنصاري، وهو
منقول عن جماعة، والمستند فيه مضافا إليه: صحيحة محمد بن مسلم وموثقة أبي حمزة
ومرسلة الصدوق المتقدمات الدالة على نفي التقية إذا بلغت الدم.
لكن يمكن أن يناقش فيها بأن عنوان الاكراه غير عنوان التقية كما يظهر

(1) الوسائل - كتاب الأمر بالمعروف - الباب 25 - من أبواب الأمر والنهي.
(2) راجع مفتاح الكرامة في الولاية من قبل العادل أو الجائر - ص 114 -
(3) في أواخر الفصل الأول من التجارة - في المسألة السادسة في الولاية.
(4) راجع شرح الإرشاد - في (مبحث) الأمر بالمعروف وفي مبحث الولاية من
قبل العادل أو الجاير من المتاجر.
(5) كتاب التجارة - المسألة الرابعة - في بيان الولاية.
(6) في المسألة السادسة من المقصد الرابع من المكاسب - في بيان عدم جواز
تولية القضاء لسلطان الجائر.
148

من الأخبار، فإن التقية عبارة عن الاحتراز والتجنب عن شر قوم مخالف للمذهب باتيان
أعمال توافق مذهبهم من غير أن أكرهوه على اتيانها وأوعدوه على تركها.
ففي رواية مسعدة بن صدقة المعتمدة (1) عن أبي عبد الله عليه السلام " أن المؤمن إذا أظهر
الايمان " إلى أن قال: " لأن للتقية مواضع من أزالها عن مواضعها لم تستقم له وتفسير
ما يتقى مثل أن يكون قوم سوء ظاهر حكمهم وفعلهم على غير حكم الحق وفعله فكل
شئ يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية مما لا يؤدي إلى الفساد في الدين فإنه جائز ".
وظاهر التفسير سيما في مثل المقام أنه بصدد بيان الحقيقة ولعله أعم من التقية الخوفية
والمداراتية.
ويظهر من جملة من الروايات أن التقية مقابل الإذاعة وهي أيضا بوجه داخلة
في التفسير، فإنها عبارة عن كتمان المذهب خوفا وتجنبا من المخالف، وأما الاكراه
عبارة عن تحميل الغير عملا وايعاده على تركه بما يلجأه إلى العمل أو الايعاد على فعل
شئ بما يلجأه على تركه، وأيضا التقية واجبة حسب الأدلة الكثيرة وراجحة في
بعض الموارد، ودليل الاكراه رافع للحكم، فمقتضى دليل الرفع رفع الحرمة أو الوجوب
عما أكره عليه، لا جعل الوجوب أو الاستحباب لفعله أو تركه. ومقتضى دليل التقية
جعل الحكم لا نفيه، وأيضا ظاهر أدلة التقية أنها شرعت لحفظ دماء الشيعة وأعراضهم
وأموالهم من غير خصوصية للمتقي، ودليل الرفع منة على المكره ولو حظ فيه حفظ
نفسه وعرضه وماله، فبعد كونهما عنوانين مختلفين موضوعا وحكما وموردا وغاية:
لا وجه لتسرية الحكم من التقية إلى الاكراه بل ظاهر قوله: إنما جعلت التقية ليحقن
به الدم (الخ) أن تشريعها لحفظ الدم سواء كان دم المتقي أو غيره من أفراد الشيعة
فإذا بلغت الدم أي صارت موجبة لإراقة ما شرعت لأجله فلا تقية.
وأما نفي الاكراه لما شرع لحفظ مصلحة خصوص المكره فلا يكون بلوغه دم
غيره مخالفا لتشريعه فحينئذ يكون هذا الحكم مختصا بالتقية وبقي دليل نفي ما
أكرهوا على عمومه، ودعوى إلغاء الخصوصية ممنوعة بل لا مورد لها، لأن خصوصية

(1) الوسائل - كتاب الأمر بالمعروف - الباب 25 - من أبواب الأمر والنهي.
149

ما أكره تخالف خصوصية التقية فإن في مورد الاكراه توجه الشر إلى الغير ويكون
المكره وسيلة وآلة للمكره ومورد التقية ليس كذلك نوعا، وأيضا جعل التقية
لحفظ مطلق دم الشيعة ورفع ما أكره لحفظ خصوص المكره فكيف يمكن أن يقال
بإلغاء الخصوصية عرفا أو يدعى وحدة المناط أو يدعى أن سلب التقية في الدماء لأهميتها
فلا فرق بين البابين.
لكن يمكن دفع المناقشة مضافا إلى أن التقية أعم لغة فإنها بمعنى التجنب و
التحذر والمخافة فصدقت على التحرز من كل مكروه وشر فإذا أكرهه على أمر فأتى
به تجنبا من شره يصدق عرفا ولغة أنه فعله تقية واتقاء فلا وجه لتقييد عمومات التقية
بخصوص ما ذكر بمجرد كون مورد بعض الأخبار ذلك مع امكان حملها على التفسير
بالمصداق كما هو شايع وإلا لصارت مضامينها متناقضة.
بل رواية مسعدة أيضا لا يبعدان تكون ظاهرة في التفسير بالمصداق لأن قوله:
مثل أن يكون قوم: ظاهر في أن ما بعده أحد المصاديق المذكور من باب المثال، و
مقابلتها للإذاعة والافشاء في جملة من الروايات لا تدل على الحصر فقوله: " الحسنة
التقية والسيئة الإذاعة " (1) لا يدل على أن ما لا يقابل الإذاعة ليس تقية بل للتقية
موارد غيرها، ومضافا إلى أن الظاهر من جملة من الروايات أن الاكراه أيضا تقية.
كرواية محمد بن مروان (2) " قال قال لي أبو عبد الله عليه السلام ما منع ميثم رحمه الله من
التقية فوالله لقد علم أن هذه الآية نزلت في عمار وأصحابه إلا من أكره وقلبه مطمئن
بالايمان "، وفي رواية درست (3) عن أبي عبد الله عليه السلام " قال: ما بلغت تقية أحد ما بلغت
تقية أصحاب الكهف " (الخ)، مع ما في رواية عبد الله بن يحيى (4) أنه عليه السلام ذكر أصحاب

(1) الوسائل - كتاب الأمر بالمعروف - الباب 24 - من أبواب الأمر والنهي.
(2) الوسائل - كتاب الأمر بالمعروف - الباب 29 - من أبواب الأمر والنهي -
مجهولة بمحمد بن مروان.
(3) الوسائل - كتاب الأمر بالمعروف - الباب 26 - من أبواب الأمر والنهي.
ضعيفة بدرست الواسطي.
(4) الوسائل - كتاب الأمر بالمعروف - الباب 29 - من أبواب الأمر والنهي.
150

الكهف فقال: " لو كلفكم قومكم ما كلفهم قومهم فقيل له ما كلفهم قومهم فقال
كلفوهم الشرك بالله العظيم فأظهروا لهم الشرك وأسروا الايمان ".
فيظهر من ضم الروايتين أن الاكراه أيضا من التقية ومضافا إلى روايات فيها
صحاح (1) قال: التقية في كل ضرورة، أو التقية في كل شئ يضطر إليه ابن آدم، و
لا شبهة في أن المكره يكون ملجأ ومضطرا إلى اتيان ما أكره عليه عرفا، وتكون
الضرورة ألجأته إلى اتيانه، وإلا لما يأتمر بأمر المكره فهو ضرورة فيها التقية: أنه
لو بنينا على مقابلة العنوانين بل مباينتهما لأمكن الالحاق في الأحكام بصحيحة
بكر بن محمد (2) عن أبي عبد الله عليه السلام " قال: إن التقية ترس المؤمن ولا ايمان لمن
لا تقية له فقلت له: جعلت فداك قول الله تبارك وتعالى: إلا من أكره وقلبه
مطمئن بالايمان قال: وهل التقية إلا هذا " فإنها إن دلت على أن الاكراه تقية حقيقة
فهو وإلا بما أنها دلت على أن التقية ليست إلا الاكراه على سبيل المبالغة كقوله هل
الأسد إلا زيد تدل على الالحاق الحكمي بلسان الهوهوية، وبالجملة أنها حاكمة على
أخبار التقية التي منها صحيحة محمد بن مسلم (3) وغيرها " إذا بلغت التقية الدم فلا تقية "
بتنقيح موضوعها.
فتحصل مما ذكرناه أنه كما أن التقية إذا بلغت الدم فهي منفية كذلك لا اكراه
بعد بلوغه.
ثم إن مفاد قوله: فإذا بلغت الدم فلا تقية هل هو حرمتها أو عدم وجوبها ومنشأ
الاحتمالين أنه بعد معلومية أن نفي عنوان التقية من الحقايق الادعائية ولا بد فيها من
مصحح للدعوى.
فيحتمل أن يكون المصحح لها حرمتها في الشريعة كقوله: لا رفث ولا فسوق و

(1) الوسائل - كتاب الأمر بالمعروف - الباب 25 - والمستدرك 24 - من أبواب
الأمر والنهي.
(2) الوسائل - كتاب الأمر بالمعروف - الباب 29 - من أبواب الأمر والنهي.
(3) الوسائل - كتاب الأمر بالمعروف - الباب 31 - من أبواب الأمر والنهي.
151

لا جدال في الحج (1) وقوله: لا تعرب بعد الهجرة ولا وصال في صيام (2) ونظائرها
فيدعى أن الحرمة الشرعية أوجبت سد طرق وجودها فليس لها تحقق وجود كساير
الجمل الاخبارية التي تستعمل في مقام الانشاء كقوله: يعيد صلاته ويغسل ثوبه (3).
فإنها لم تستعمل في المعاني الانشائية بل تستعمل في معانيها بادعاء أنه لا يترك أو
لا يوجد فيفهم منها الوجوب أو الحرمة.
ويحتمل أن يكون المصحح نفي الحكم المتعلق بها فإنها واجبة ولا دين
لمن لا تقية له، ومع نفي حكمها في الشريعة يصح أن يدعى عدمها كقوله: لارضاع
بعد فطام (4)، ولا يمين في غضب ولا في جبر (5) ولا اكراه ونظائرها:
ويمكن ترجيح هذا الاحتمال بأن يقال: إن كل موضوع ذي حكم في الشريعة
إذا تعلق النفي به يكون ظاهرا في نفيه بلحاظ حكمه إلا أن قامت قرينة على
خلافه، مضافا إلى أن قوله: إنما جعلت التقية أيضا من الحقائق الادعائية بلحاظ
جعل الحكم عليها، والمناسبة بينه وبين الفقرة الثانية تقتضي أن يكون النفي
بلحاظ نفي هذا المجعول فكأنه قال: إنما وجبت التقية لكذا فإذا بلغت الدم فلا
وجوب، لكن مع ذلك يكون الاحتمال الأول أرجح لو لم نقل بتعينه لفهم العرف
مع خلو ذهنه عن الشبهات ولمناسبة الحكم والموضوع، ولأن الظاهر أن الجملة
سيقت لبيان أهمية الدماء وأنه تعالى أوجب التقية لحقنها فإذا كان حقنها موجبة
لوجوبها وكونها دينا ولا دين لمن تركها لا محالة يكون البلوغ إلى إراقتها موجبا
لحرمتها.
فهذه قرائن على أن النفي ليس بلحاظ نفي الحكم لو سلم الظهور المدعى

(1) سورة لبقرة - الآية 193.
(2) الوسائل - كتاب الصوم - الباب 4 - من أبواب الصوم المحرم والمكروه.
(3) الوسائل - كتاب الطهارة - الباب 41 - من أبواب النجاسات.
(4) الوسائل - كتاب النكاح - الباب 5 - من أبواب ما يحرم بالرضاع.
(5) الوسائل - كتاب الايمان - الباب 16 -
152

في الوجه المتقدم، وكذا المناسبة بين الحكم والموضوع تقتضي أن يكون النفي
بلحاظ التحريم والاثبات بلحاظ الإيجاب، وهذا هو التناسب بين الفقرتين، لا ما
ذكرناه في الوجه السابق، مضافا إلى أن نفي الموضوع في المقام بلحاظ نفي
حكمه: غير صحيح، ولا يكون هذا مصححا لنفي الموضوع لخصوصية فيه، لأن
الأغراض الأكيدة في عامة الناس قائمة بحفظ نفوسهم ونفوس من يتعلق بهم بحيث
لولا الخوف من عذاب الله تعالى والجزاء الشرعي والعرفي في الحكومات والسياسات
لكان كل شخص يهم بحفظ نفسه ونفس عائلته ومتعلقيه وإن توقف على إراقة الدماء
بالغة ما بلغت.
ففي مثل المورد إذا نفى الشارع وجوب التقية إذا بلغت الدم ولم يحرمها:
لا شبهة في استعمال عامة الناس إلا من شذ منهم التقية لحفظ دمائهم بل لحفظ أعراضهم
بل لا يبعد استعمالهم لحفظ أموالهم المهمة، ومع عدم منع استعمالها في الشريعة
وكثرة تحققها لشدة اهتمام الناس بها لا يصح سلب الموضوع ادعاء، فالاخبار الادعائي
بعدم تحقق شئ كثير الوجود خارجا وغير ممنوع شرعا لا مصحح له،
وبالجملة نفي الموضوع بلحاظ نفي الحكم ليس صحيحا بنحو الاطلاق بل
لا بد من ملاحظة خصوصيات الموارد، فقد يصح الدعوى، وقد لا تصح، والمقام من
قبيل الثاني.
فإن قلت: فما تقول في قوله: " لا يمين في غضب " و " لا يمين لولد مع والده "
و " لا للمرأة مع زوجها " (1) إلى غير ذلك مما هو كثير التحقق ويكون نفي الموضوع
بلحاظ نفي الحكم وعدم الانعقاد.
قلت: في مثل هذه الموارد يكون المصحح لغوية وجود الموضوع فكان
ما لا يترتب عليه أثر في الشرع ولا في العرف لا يكون موجودا فيصح تعلق النفي
به، وأما المقام فيترتب على التقية آثار مهمة عند العقلاء هي حفظ نفوسهم
وسائر أغراضهم.

(1) الوسائل - كتاب الايمان - الباب 10.
153

وبالجملة لا بد في نفي الموضوع التكويني الموجود خارجا من ادعاء ومصحح
له، فقد يكون المصحح ندرة الوجود، وقد يكون عدم ترتب آثار الوجود عليه،
وقد يكون عدم ترتب الأثر المتوقع منه عليه، وقد يكون ممنوعية وجوده وسد
طرق تحققه تشريعا وليس في المقام مصحح غير الأخير، مع أن فهم الأصحاب ذلك
من الروايات أيضا من المؤيدات القوية لو لم نقل من الحجج الكافية ودليل على
الظهور العرفي: فتردد بعض المدققين (1) فيه في غير محله.
ثم إنه لو قلنا بعدم استفادة أحد الوجهين منها أو استفادة الوجه الثاني من
الوجهين فقد يقال: بمعارضة دليل حرمة القتل لدليل حرمة ايقاع النفس في الهلكة
ومزاحمة الحكمين أو مزاحمة حرمة قتل النفس لحرمة التسبيب لقتل النفس
المحترمة أي نفس من يتعلق به إذا كان الايعاد بقتله ولا دليل على الترجيح فيتخير
بينهما (نعم) قد يتحقق الترجيح والأهمية في أحد الطرفين كما لو أوعده على قتل
بعض متعلقيه لو لم يقتل جماعة عديدة أو أوعده على قتله وقتل جميع متعلقيه لو
لم يقتل واحدا.
أقول: في دوران الأمر بين مباشرة القتل وبين محرم آخر دونه لا ينبغي
الاشكال في أقلية محذور ارتكاب الثاني وعدم مزاحمته لمقتضى القتل، والايقاع
في الهلكة في المقام ليس قتل نفسه مباشرة ولا تسبيبا، بل لما أمكنه صرف شر الغير
عن نفسه كان ذلك الصرف واجبا ولو عقلا أو عدم صرفه نحو ايقاع لها في الهلكة،
فصرف شر الغير عن نفسه واجب أو الايقاع في الهلكة بهذا المعنى حرام لكنه دون
حرمة مباشرة القتل، ألا ترى أنه لو دار الأمر بين قتل جابر نفسا محترمة وبين
قتلك نفسا محترمة أخرى لا يمكن القول بالتخيير بين القتل مباشرة لحفظ النفس
المحترمة وترك المباشرة وايقاع الغير في الهلكة بدعوى مزاحمة المقتضيين و
عدم الترجيح.
وأما قوله في دوران الأمر بين قتل المكره بالفتح شخصا وقتل المكره بالكسر

(1) هو العلامة الشيخ محمد حسين الأصبهاني.
154

بعض من يتعلق به بإذن ذلك من قبيل الدوران بين حرمة القتل وحرمة التسبيب له
(ففيه) أن ذلك ليس تسبيبا لقتل من يتعلق به. فإن التخلف عن أمر المكره ليس
سببا عرفا وعقلا للقتل: مع أن المباشرة للقتل أشد محذورا من هذا المعنى المفروض
وإن سمي تسبيبا.
بل يمكن أن يقال: إنه لو دار الأمر بين مباشرته لقتل شخص واحد وبين
مباشرة المكره لقتل أشخاص عديدة لا يجوز مباشرة القتل، لأن الواجب دفع قتلهم
مع الامكان لكن إذا توقف على ارتكاب القتل مباشرة فلا دليل على جوازه وترجيح
مقابله، وهل هذا إلا نظير دوران الأمر بين ارتكاب شرب الخمر وارتكاب جمع كثير شربها.
وبالجملة لم يتضح وجوب حفظ النفوس بارتكاب قتل النفس (نعم) لو كان المتوعد على
قتله من يجب حفظه على أي تقدير كالنبي صلى الله عليه وآله والوصي عليه السلام يجب قتل غيره لحفظه.
هذا مع قطع النظر عن دليل الحرج وإلا فلا تصل النوبة إلى حكم العقل فإنه
على فرض كون المرفوع في الدم حكم التقية وسكوت الرواية عن حكم بلوغ الدم
يكون مقتضى دليل نفي الحرج جواز ارتكاب الدم، لما مر من الشر والضرر المتوجه إلى
الغير يكون وجوب دفعه بتحمل الضرر على النفس حرجي.
وإن شئت قلت: ايجاب حفظ نفس الغير أو حرمة قتله بايقاع الضرر على
نفسه حرجي سيما إذا كان الضرر المتوعد عليه من النفوس أو الأعراض المتعلقة به،
فمع قيام الدليل الشرعي لا قبح لحكم العقل وترجيحه ولو قلنا بأن المستفاد من دليل
نفي التقية في الدماء الحرمة، فإن قلنا بأنه شامل لجميع أنحاء التقية في عرض واحد
وكان مفاده تحريمها مطلقا في الدم: تكون النسبة بينه وبين دليل نفي جعل الحرج
العموم من وجه، لأن عدم التقية في الدم أعم من أن يلزم الحرج في تركه، وعليه
يكون دليل نفي الحرج حاكما عليه كحكومته على سائر الأدلة وكون دليل التقية
من الأحكام الثانوية: لا ينافي الحكومة المتقومة بلسان الدليل مع أن قوله فلا تقية
حكم أولى متعلق بعنوانها.
وإن قلنا بأن روايات نفي التقية بلحاظ قوله: " إنما جعلت التقية لتحقن بها
155

الدم " ناظرة إلى قضية عمار كما أشرنا إليه تكون واردة مورد الاكراه الذي هو
مورد قضية عمار فلا محالة لا يجوز اخراجه بدليل الحرج للزوم اخراج المورد، و
هو مستهجن، ومع بقاء مورد الاكراه كذلك أي عدم جواز إراقة الدم مع الاكراه،
والتوعيد على القتل لا يجوز اخراج ما عداه بالضرورة، فإن القتل إذا لم يجز مع
التوعيد على القتل لا يجوز مع ما دونه وما هو أهون منه.
وبعبارة أخرى لا يصح التفكيك عقلا وعرفا في الدليل، فلا بد من رفع اليد عن
تحكيم دليل الحرج في المقام وهو أهون من عمل التعارض، مع أنه على فرضه لا بد
من رفع اليد عن اطلاق الآية إما لكونه عملا بالدليلين في الجملة أو للاجماع المدعى
والشهرة المحققة المرجحين على اطلاق الكتاب بل المقيدين له.
ثم إن مقتضى اطلاق قوله: " إذا بلغت التقية الدم فلا تقية " عدم الفرق بين
أفراد المؤمنين من حيث الصغر والكبر، والعلم والجهل، والذكورة والأنوثة حتى
الحمل بعد ولوج الروح، ولا بين المريض وغيره، ولا بين من في حال النزع وغيره
على تأمل في الأخير بل والمستحق للقتل قصاصا وغيره فإنه محقون الدم وإن جعل الله لوليه
سلطانا على قتله.
وأما المؤمن المستحق للقتل حدا كالزاني محصنا واللاطي فالظاهر أنه غير
محقون كما تسالم عليه الفقهاء في كتاب القصاص وادعى عليه الاجماع بل عن الرياض
دعوى تظافر النصوص عليه، ولعله أراد بها ما دلت على أنه يقتل ونحو ذلك " تأمل "
فدعوى شيخنا الأنصاري أن ظاهر المشهور عدم التقية فيه ناشية من اطلاقهم
في المقام، ولكن مقتضى تصريحهم بعدم محقونيته مطلقا جواز التقية فيه، وهو لا
يخلو من وجه، فإن الظاهر أن الحد ليس حقا للحاكم كالقصاص بالنسبة إلى ولي الدم
بل الحاكم لكونه مسيس العباد وله السلطان والولاية يكون مختصا باجراء الحدود
وليس لغيره اجرائها، فلو قتل شخص من يجب قتله حدا اختيارا لا قصاص عليه
ولادية كما قالوا وليس عليه إلا الإثم ويرتفع مع الاكراه، بل الظاهر انصراف قوله:
إنما جعلت التقية (الخ) عن مثله، ضرورة أن التقية لم تجعل لحقن دم مثله،
156

فاطلاق أدلة الاكراه والتقية محكم، كما أن غير المؤمن من سائر الفرق خارج عن
مصب الروايات وأن التقية جعلت لحقن دم المؤمن خاصة ومقتضى العمومات جواز
قتل غيرهم بالاكراه وحال الضرورة.
ثم الظاهر أن الدم كناية عن القتل بأي سبب كان بإراقة الدم أو غيرها،
وما دون القتل جرحا كان أو غيره خارج وداخل في جواز التقية أو وجوبها.
التنبيه الثاني أن ما ذكرناه إنما هو في الاكراه والتقية إلا كراهية ولا بأس
بالإشارة إلى حكم سائر أقسامها من التقية المداراتية المشروعة لمراعات حسن
العشرة معهم - والتقية الخوفية المشروعة لحفظ الشأن من شؤون الشيعة سواء كان
من المتقي أو غيره من إخوانه المؤمنين، والتقية الكتمانية في مقابل الإذاعة و
والافشاء الواجبة لكتمان سرهم كما وردت في كل منها أخبار عديدة. فهل يجوز
جميع أقسام التقية لما دون الدم فيجوز الاضرار بالغير مالا وعرضا لقسم من الأقسام
المتقدمة أم لا.
ربما يقال: إن مقتضى صحيحة محمد بن مسلم (1) وموثقة أبي حمزة (2) العموم
لأن الظاهر منهما أن التقية فيما عدا الدم مشروعة كائنا ما كان، وكانت
التقية ما كانت وهو مقتضى عموم مرسلة الصدوق (3) " والتقية في كل شئ حتى يبلغ
الدم فإذا بلغ الدم فلا تقية ".
ويمكن المناقشة فيه بأن الروايتين الأولتين إنما سيقتا لإفادة عدم التقية في
الدم وأنه إذا بلغت الدم فلا تقية ولا شبهة في اطلاقهما من هذه الجهة وفي هذا الحكم
أي حرمة التقية في الدم فيستفاد منهما السلب الكلي في الدم وأما في غيره فلا يستفاد
منهما الإيجاب الكلي بمعنى جواز جميع أنحاء التقية في غيره فيظهر منهما أنه مع عدم
بلوغها الدم ففيه تقية بنحو الاجمال، لا بنحو الاطلاق والكلية بحيث يظهر منهما
مشروعيتها بجميع أنحائها وأقسامها المتقدمة، وذلك من غير قرق بين القول بالمفهوم

(1) الوسائل - كتاب الأمر بالمعروف - الباب 31 - من أبواب الأمر والنهي
(2) الوسائل - كتاب الأمر بالمعروف - الباب 31 - من أبواب الأمر والنهي
(3) المستدرك - كتاب الأمر بالمعروف - الباب 29 - من أبواب الأمر والنهي.
157

في الشرطية وعدمه، فإن مفهومها على القول به أنه إذا لم تبلغ الدم ففيه تقية، لا
فيه جميع أنحائها، لما حقق في محله أن مفهوم نحو تلك القضية الإيجاب الجزئي
والمقام نظير قوله: " إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شئ " الدال بمفهومه أنه مع
عدم البلوغ يتنجس في الجملة.
ومنه يظهر الحال في المرسلة فإن قوله ": التقية في كل شئ حتى يبلغ الدم "
عام بالنسبة إلى أفراد ما عدا الدم من المال والعرض والجرح بما دون القتل لا بالنسبة
إلى أنحاء التقية. فإذا ثبت في كل شئ تقية في الجملة ولو عند الاكراه والتوعد
بالقتل يصح أن يقال: التقية في كل شئ ما عدا القتل، ففي القتل سلب كلي وفي
مقابله ايجاب جزئي.
ومما ذكرنا يظهر الحال في عدم عمومها واطلاقها بالنسبة إلى موارد الاكراه
سواء قلنا بأنه تقية عرفا ولغة وبحسب الأخبار أو يلحق بها حكما بما تقدم، أما على
الأول فبالبيان المتقدم، وأما على الثاني فلأنه لا يزيد على الملحق به والمتفرع
عليه. (نعم) لا نحتاج في اثبات الحكم مطلقا في موارد الاكراه بهذه الرواية بل يكفي
فيه مثل دليل الرفع وسائر ما تقدمت الإشارة إليها.
ومما تقدم يظهر عدم جواز الاستدلال على جوازها مطلقا برواية أبي عمر
الأعجمي (1) عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث أنه قال: " لا دين لمن لا تقية له والتقية
في كل شئ إلا في النبيذ والمسح على الخفين " فإنها بصدد بيان أن فيما عدا النبيذ و
المسح تقية، فيظهر منها أمران، أحدهما عدم التقية مطلقا فيهما والثاني ثبوتها لكل
ما عداهما في الجملة لعدم كونها بصدد بيان جواز أنحاء التقية، فلا اطلاق فيها.
هذا مع احتمال أن يكون المراد بالمستثنى منه المحرمات والواجبات الإلهية مما لا
يتعلق بها حق الناس بقرينة استثناء المذكورين وعدم استثناء الدم " تأمل ".
نعم مقتضى عموم صحيحة زرارة (2) عن أبي جعفر عليه السلام " قال " التقية في كل

(1) الوسائل - كتاب الأمر بالمعروف - الباب 25 - من أبواب الأمر والنهي.
مجهولة بأبي العمر الأعجمي.
(2) الوسائل - كتاب الأمر بالمعروف - الباب 25 - من أبواب الأمر والنهي
158

ضرورة وصاحبها أعلم بها حين تنزل به "، وصحيحة أخرى عنه (1) وعن غيره " قالوا
سمعنا أبا جعفر عليه السلام يقول: التقية في كل شئ يضطر إليه ابن آدم فقد أحله الله ":
جوازها في كل شئ يضطر إليه كما إذا خاف على نفسه أو عرضه أو نفس من يكون
بمنزلته من أهله وخاصته وعشيرته الأقربين أو عرضهم، أو على ماله الذي إذا سلب عنه
يقع في الحرج والمشقة الشديدة من غير فرق بين حق الله وحق الناس ما عدا الدم; و
أما غيره مما استثني في بعض الروايات كرواية الأعجمي فلا بد من تأويلها وقد تعرضنا
لها في رسالة التقية. وما ذكرناه من شمولها لحق الناس وإن كان بعيدا سيما بعض
مراتبه لكن لا محيص عنه بعد تطابق النص والفتوى عليه.
قال الشيخ في النهاية في باب الأمر بالمعروف: فأما إقامة الحدود فليس يجوز
لأحد إقامتها إلا لسلطان الزمان المنصوب من قبل الله تعالى إلى أن قال: ولا يجوز له
أن يحكم بمذهب أهل الخلاف فإن كان قد تولى الحكم من قبل الظالمين فليجتهد
أيضا في تنفيذ الأحكام على ما يقتضيه شريعة الاسلام والايمان فإن اضطر على تنفيذ حكم
على مذهب أهل الخلاف بالخوف على النفس أو الأهل أو المؤمنين أو على أموالهم
جاز له تنفيذ الحكم ما لم يبلغ ذلك قبل النفس فإنه لا تقية في قبل النفوس.
وقال في المكاسب في جملة من كلامه: فإن لم يتمكن من إقامة حق على وجه
والحال ما وصفناه في التقية جاز له أن يتقي في جميع الأحكام والأمور ما لم يبلغ ذلك
إلى سفك الدماء المحترمة.
أقول والحال الذي وصفه في التقية هو الخوف على النفس أو على الأهل أو على
بعض المؤمنين.
وفي المراسم (2) وقد فوضوا عليهم السلام إلى الفقهاء إقامة الحدود والأحكام بين الناس
بعد أن لا يتعدوا واجبا ولا يتجاوز واحدا إلى أن قال: فإن اضطرتهم تقية به أجابوا
داعيها إلا في الدماء خاصة فلا تقية فيها.

(1) الوسائل - كتاب الأمر بالمعروف - الباب 25 - من أبواب الأمر والنهي.
(2) في آخر كتاب الحدود - في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
159

وفي السرائر بعد دعوى الاجماع على عدم جواز إقامة الحدود إلا للإمام عليه السلام
والحكام من قبله قال: فإن خاف على نفسه من ترك إقامتها فإنه يجوز له أن يفعل
في حال التقية ما لم يبلغ قبل النفوس إلى أن قال: فإن اضطر إلى تنفيذ حكم على
مذهب أهل الخلاف على النفس أو الأهل أو المؤمنين أو على أموالهم جاز تنفيذ الحكم
ما لم يبلغ ذلك قتل النفوس فإنه لا تقية له في قتل النفوس.
وفي الشرايع (1) فإن اضطر إلى العمل بمذهب أهل الخلاف جاز إذا لم يمكن
التخلص عن ذلك ما لم يكن قبلا لغير مستحق.
وفي المنتهى (2) فإن اضطر إلى استعمال ما لا يجوز من ظلم مؤمن أو قهره
جاز ذلك للضرورة ما لم يبلغ الدماء فلا يجوز التقية فيها على حال.
لكن يمكن المناقشة في اطلاق الحكم مضافا إلى غاية بعده في بعض المراتب
وامكان أن يقال بأن تلك الأدلة الصادرة على وجه الامتنان منصرفة عن الموارد التي
يلزم منها وقوع الضرر أو الحرج على الغير " تأمل ": أن مقتضى تلك الأدلة عموما و
اطلاقا وإن كان جواز التقية في كل مورد يضطر إليه ابن آدم من غير فرق بين حق
الناس وغيره لكن مقتضى حكومة دليل نفي الحرج كحكومته على سائر الأدلة
تخصيص الحكم بموارد لا يلزم منها الحرج على الغير بفعله ولازمه التفصيل في
حقوق الناس بين ما إذا توجه الشر والضر على الغير ويكون دفعه عنه مستلزما
لوقوع الدافع في شر وضر وحرج كما في الموارد المتقدمة في كلام الشيخ وابن
إدريس وغيرهما، فإنه لو فرض أن السارق أقر بالسرقة عند من كان منصوبا من قبل
والي الجور للقضاء وكان مقتضى مذهبهم القطع بالاقرار مرة واحدة كما قال به
أبو حنيفة ومالك والشافعي، وحاف القاضي واضطر إلى الحكم على مذهبهم وانفاذه،
ففي مثله يجوز له، لأن الشر حسب اقراره ومذهبهم متوجه إليه فايجاب دفعه عنه بما يلزم

(1) في كتاب الأمر بالمعروف.
(2) في المبحث الثالث من المقصد الثاني من التجارة - في عمل السلطان - مسألة 2.
160

منه وقوع الشر عليه حرجي، وأما تجويزه لدفع اضطراره ليس حرجيا علي غيره أو ينصرف
الدليل عنه، لأنه شر توجه إليه لا من قبله بل من قبل اقراره ومذهب الباطل ولو سلم كونه
حرجيا ومنع الانصراف يتعارض دليل الحرج في مصداقين وتسلم أدلة أن التقية في كل
شئ يضطر إليه.
وأما إذا توجه الشر إلى المتقي وأراد دفعه بالتوجه إلى غيره كما لو ظن أنه
إمامي وخاف منه على عرضه فأراد هتك عرض شيعي لدفع التوهم والشر عن نفسه ففي
مثله يكون تجويزه حرجا على غيره وهو منفي. وأما تحريم دفع ضرره بايقاع شر
على الغير فليس من الأحكام الحرجية فإن الضرر متوجه إليه لا من قبل الشارع (نعم)
مع تجويزه ايقاع الشر على الغير يندفع اضطراره لكن مقتضى الأدلة عدمه وهذا
التفصيل غير مستبعد عقلا وموافق للقواعد، ولعل الفتاوى المتقدمة مختصة بالموارد
التي من قبيل الأول.
ومما ذكرناه يظهر الحال في مسألة أخرى وهي أنه لو اضطر إلى أكل مال
الغير دون خوف الموت فإنه يجوز بدليل رفع الاضطرار فيما إذا لم يلزم منه حرج
على غيره. فإن دليل رفع الاضطرار يرفع الحرمة الشرعية ولكن المال مضمون
عليه، لعدم اضطراره على الأكل المجاني لعدم معنى له وأما لو فرض أن المضطر لا
مال له رأسا ولا يتوقع منه الجبران وكان صرف المال الذي اضطر إليه موجبا
لوقوع الحرج على صاحبه: فالظاهر عدم جوازه، لحكومة دليل نفي الحرج على
الأدلة الثانوية أيضا حتى مثل حديث الرفع فإن الرفع القانوني نحو جعل وحكم من
الشارع. ولو نوقش فيه فقوله ما جعل عليكم (1) (الخ) دال ولو بمناسبة كونه في مقام
الامتنان، وأن هذه ا لملة سهلة سمحة، على أن مطلق أحكامه وضعا ورفعا ليست حرجية.
هذا كله في التقية الاكراهية والاضطرارية وأما إذا لم يخف على نفسه أو ما
يتعلق به ولم يكن مكرها فهل تجوز أو تجب التقية بارتكاب المحرمات لو خاف
على عرض بعض المؤمنين أو ماله دون نفسه التي لا يوازنها شئ الظاهر عدم جواز

(1) سورة الحج - الآية 77.
161

التمسك له بمطلقات أدلة التقية، لأن عنوانها غير صادق ظاهرا إلا على الخوف على
ما يتعلق بالمتقي من النفس والعرض والمال سواء كان منه أو ممن يتعلق به الذي
بمنزلته وأما الخوف على سائر الناس فليس مورد التقية، ولا هي صادقة عليه، فقوله
" التقية ترس المؤمن وحرزه ": ظاهر في أنها حافظها عن توجه الضرر إليه فلا بد في
المقام من التماس دليل آخر.
ربما يتمسك برواية الإحتجاج (1) عن أمير المؤمنين عليه السلام على جواز ارتكاب
المحرمات ولو أعظمها كالتبري عنه عليه السلام وفيها " ولئن تبرء منا ساعة بلسانك و
أنت موال لنا بجنانك لتبقي على نفسك روحها التي بها قوامها ومالها الذي به قيامها
وجاهها الذي به تمسكها وتصون من عرف بذلك (من ظ) أوليائنا وإخواننا فإن
ذلك أفضل من أن تتعرض للهلاك وتنقطع به عن عمل في الدين وصلاح إخوانك
المؤمنين، وإياك ثم إياك أن تترك التقية التي أمرتك بها فإنك شائط بدمك و
دماء إخوانك معرض لنعمتك ونعمتهم للزوال مذل لهم في أيدي أعداء دين الله، و
قد أمرك الله باعزازهم فإنك إن خالفت وصيتي كان ضررك على إخوانك ونفسك
أشد من ضرر الناصب لنا الكافر بنا ". وأنت خبير بأنها أخص من المدعى.
أما الفقرة الأولى منها فلا دلالة فيها على جواز البراءة فيما إذا خاف على مال
مؤمن أو عرضه فإن قوله: " وتصون من عرف بذلك " (الخ) ظاهر في صيانة نفوسهم
سيما مع ذكر النفس والمال والجاه بالنسبة إلى المتقي; فلو كان الخوف على غيره
في المال والجاه كالخوف على نفسه فيهما لكان أولى بالذكر، ولا أقل من قصور
دلالتها على جميع مراتب الخوف. وقوله " وصلاح إخوانك " عطف على قوله: " عن
عمل في الدين " أي نتقطع عنه وعن صلاح إخوانك فلا ربط له بالمقام.
وأما الفقرة الثانية أي قوله: " وإياك ثم إياك " (الخ) فظاهرها من أولها إلى آخرها
أنها مربوطة بزمان كان الشيعة في الأقلية التامة وفي معرض الزوال والهضم لو ترك
التقية وفشى أمرهم، ولا شبهة في أن ضرر تركها والحال هذه أكثر من ضرر النصب

(1) الوسائل - كتاب الأمر بالمعروف - الباب 29 - من أبواب الأمر والنهي.
162

والكفر على المذهب الحق، فإن في تركها مظنة ذهاب أهل الحق ومذهبهم في مثل ذلك
العصر الذي كانت عدتهم محصورة جدا وكذا في مثل عصر الصادقين عليهما السلام والكاظمين
عليهما السلام حيث كان تركها موجبا لاطلاع ولاة الجور وأعداء دين الله لعنهم الله على حزب
الحق وتحزبهم في الخفاء لابقاء الحق واحياء سنة الله تعالى وذلك كان موجبا لإراقة
دمائهم وزوال نعمتهم وذلهم تحت أيدي أعداء الله، وأين ذلك مما نحن بصدده
من جواز ارتكاب المحرمات حتى مثل سب الأئمة عليهم السلام (والعياذ بالله) عند
الخوف على هتك مؤمن أو جمع منهم أو الخوف على أموالهم من غير ترتب تلك
المفاسد على تركها.
وما ذكرناه فيها جار في سائر الروايات الواردة في التقية أو في المقام،
كالمحكي عن تفسير الإمام عليه السلام (1) قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله: " من صلى الخمس كفر
الله عنه من الذنوب " إلى أن قال: " لا تبقى عليه من الذنوب شيئا إلا الموبقات التي هي
جحد النبوة أو الإمامة أو ظلم إخوانه أو ترك التقية حتى يضر بنفسه وإخوانه
المؤمنين "، وعنه قال الحسن بن علي عليه السلام (2): قال رسول الله صلى الله عليه وآله: " إن الأنبياء إنما
فضلهم الله على خلقه أجمعين بشدة مداراتهم لأعداء دين الله وحسن تقيتهم لأجل
إخوانهم في الله "، وعنه عن أمير المؤمنين عليه السلام (3) " التقية من أفضل أعمال المؤمن
يصون بها نفسه وإخوانه عن الفاجرين " إلى غير ذلك.
فإن الظاهر أن جعل ترك التقية من الموبقات وقرينا لجحد النبوة والإمامة
ليس لمحض حفظ مال مؤمن أو عرضه مثلا، بل لما كان تركها في تلك الأزمنة
موجبا لفساد في الدين أو المذهب صار بتلك المنزلة، وإلا فمن الواضح أن الموجب
بتركها لنهب مال مؤمن لا يكون مرتكبا لموبقة قرينة لجحدهما، وكذا الحال ظاهرا
في مداراة الأنبياء لأعداء دين الله وتقيتهم لأجل إخوانهم فإن الموجب لفضيلتهم

(1) المستدرك - كتاب الأمر بالمعروف - الباب 24 - من أبواب الأمر والنهي.
(2) المستدرك - كتاب الأمر بالمعروف - الباب 27 - من أبواب الأمر والنهي.
(3) الوسائل - كتاب الأمر بالمعروف - الباب 28 - من أبواب الأمر والنهي.
163

ليس نفس المداراة والتقية بل لما كانت دعوتهم وإشاعة دينهم بين الناس
موقوفة بمداراة أعداء الله وحفظ المؤمنين صارا بتلك المنزلة هذا مع الغض عن
ضعف السند وعدم الاطلاق.
ومما ذكرناه يظهر عدم صحة التشبث لاثبات المدعى أي جواز ارتكاب
المحرمات بالروايات (1) الكثيرة المتقدمة الدالة على جواز التولي من قبل الجائر
لصلاح حال الشيعة: لما عرفت من أن الظاهر من مجموعها أو المتيقن منها بعد
ضعف اسنادها جواز التولي فيما إذا كان صلاح المذهب ولولا التولي لخيف تشتت
الشيعة وذهاب حزبهم مع قلة عددهم وضعفهم وقوة أعدائهم وشدة اهتمامهم لعنهم الله
بهضمهم وهلاكهم كما هو ظاهر، فلولا أمثال علي بن يقطين والنجاشي ومحمد بن
إسماعيل ومن يحذو حذوهم لخيف على الشيعة الانقراض وإلا فما أظن ارتضاء منصف
بأن تلك الترغيبات الواردة منهم عليهم السلام سيما في رواية ابن بزيع للورود في
ديوانهم لمحض حفظ مال من شيعي أو عرضه مع حرمة الورود فيه ذاتا وملازمة
ورود أمثالهم للابتلاء، بمعاصي أخر تقية. فتجويز ذلك والترغيب الأكيد فيه ليس
إلا لحفظ المصالح السياسية الكائنة في تلك الظروف المقدم على ارتكاب أي معصية
يبتلى بها في ديوانهم، فكيف يمكن تجويز ارتكاب محرم كشرب الخمر أو سب
أمير المؤمنين عليه السلام (والعياذ بالله) في مثل زماننا لحفظ مال شيعي وعرضه.
وكذا لا يصح التشبث بما ورد في روايات عديدة من جواز الحلف كذبا لانجاء
مال مؤمن من العشار أو اللص وغيره (2) كما في بعضها، ضرورة عدم جواز التعدي
منه إلى سائر المعاصي، كما أن الكذب في الصلاح جايز نصا وفتوى لكن لا يمكن
التعدي منه ولعله كما قالوا إن قبح الكذب بالوجوه والاعتبار ومع ترتب الصلاح
عليه لا يكون قبيحا فلو توقف انجاء مال مؤمن من العشار أو غيره وكذا الاصلاح

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 46 - والمستدرك 39 - من أبواب ما
يكتسب به.
(2) الوسائل - كتاب الايمان الباب 12.
164

بين المؤمنين على معصية أخرى كسب النبي صلى الله عليه وآله وشرب الخمر لا يمكن الالتزام
بالجواز كما هو واضح.
فتحصل من جميع ذلك عدم دليل على جواز ارتكاب المحرم لحفظ مال أو
عرض، فلو دل دليل على وجوب حفظ شئ مطلقا لا بد من ملاحظة الأهم ومعاملة
باب التزاحم، ثم لو قلنا بجواز التقية في هذا المورد فلا شبهة في عدم جواز الاضرار
بالغير لدفع الاضرار عن مؤمن آخر وهو واضح، والفرق بينه وبين التقية
الاضطرارية ظاهر.
الثالث قال الشيخ الأنصاري في كتاب البيع: إن حقيقة الاكراه لغة وعرفا
حمل الغير على ما يكرهه، ويعتبر في وقوع الفعل من ذلك الحمل اقترانه بتوعيد
منه مظنون الترتب على ترك ذلك الفعل مضر بحال الفاعل أو متعلقه نفسا أو عرضا
أو مالا وقال في المقام: إن الاكراه يتحقق بالتوعيد بالضرر على ترك المكره عليه
ضررا متعلقا بنفسه أو ماله أو عرضه أو بأهله ممن يكون ضرره راجعا إلى تضرره
وتألمه " انتهى ".
أقول إن ما ورد في الأخبار عنوانان، أحدهما ما أكرهوا عليه، وثانيهما
ما استكرهوا عليه، ولا شبهة في رجوعهما إلى معنى واحد، كما أن الاستكراه
أو الاكراه الوارد في بعض الأخبار راجعان إلى ذلك أيضا فلا بد من النظر
في معنى قوله: فرفع ما أكرهوا عليه " عرفا ولغة، والظاهر أنهما متطابقان
على أن معنى أكرهه عليه حمله على ذلك قهرا وكرها، بمعنى أن متعلق القهر و
الكره الحمل فيكون معنى أكرهه على ذلك كقوله أجبره عليه وألزمه عليه أي
حمله عليه قهرا وجبرا والزاما وكرها.
وأما بناء على ما ذكره الشيخ لا يكون الكره والقهر في الحمل على الفعل،
بل إذا كان الفعل مكروها له وهو يكرهه صدق الاكراه عليه ولو كان الحمل عليه بلا
قهر وجبريل يكون حمله عليه بالاستدعاء أو اعطاء المال عليه، ضرورة صدق حمله
على ما يكرهه فإذا أمره من لا ينبغي مخالفته بأمر كرهه فأتاه صدق عليه أنه حمله
165

على ما يكرهه.
وتوهم أن الحمل بمعنى الالزام والقهر: باطل، ضرورة أنه أعم منه إذ يصدق
قوله: حملني صديقي أو أخي على ذلك المكروه بلا شائبة تأول وبالجملة ليس في قوله
أكرهه على ذلك إلا مادة واحدة هي الكره فهي إما متعلقة بالهيئة وما يستفاد منها،
فيكون المعنى حمله عليه كرها أي قهرا فيكون نظير أجبره وألزمه، أو راجعة إلى
المتعلق فيكون المعنى حمله على ما يكرهه فيكون الحمل مطلقا غير مقيد بالالزام
والقهر والكره.
وتوهم اعتبار الكره في كليهما كما ترى: لا وجه له، ومع الدوران بينهما لا
شبهة في أن الأول موافق للعرف فلا يقال لمطلق الحمل والتحميل على ما يكرهه: إنه
أكرهه عليه، وموافق لقاعدة الاشتقاق كما يظهر بالنظر في الأمثال والنظائر و
لكلمات اللغويين. ففي منتهى الإرب في معنى الاستكراه " وبنا خواست وستم بركارى
داشتن " ومنه الحديث " رفع عن أمتي الخطأ وما استكرهوا عليه " وفي الصحاح و
أكرهته على كذا حملته عليه كرها، ونحوه في المجمع وفي معيار اللغة " أكرهته
على الأمر اكراها حملته عليه قهرا "، وفي المنجد أكره فلانا على الأمر حمله عليه
أكره الرجل حمله على أمر يكرهه، ترى كيف يفرق بين الجملتين.
فلا ينبغي الاشكال أن معنى أكرهه عليه حمل عليه قهرا وكرها، وعليه لا يتحقق
الاكراه على الأمر بالتوعد بالضرر مطلقا إذ قد يكون التوعد به لا يوجب القهر على الفعل
والالزام عليه كما لو أوعد ابنك بأنك لو لم تفعل كذا لقتلت نفسي، أو قالت أهلك لو
لم تفعل كذا لهتكت سري، أو قال صديقك: لو لم تفعل لهجرتك وكانت هجرته شاقا عليك
فإن في تلك الموارد ونظائرها لا يصدق أكرهه على العمل نعم صدق حمله على مكروه بل
ولا يتوقف صدق أكره عليه على التوعد بالمكروه. فلو خاف المأمور شر الآمر كفى
في الصدق أوعده على الشر أم لا، فاعتبار الايعاد لا يصح طردا وعكسا كما أن اعتبار
الظن على ترتب الضرر غير ظاهر بل يكفي الخوف على ترتبه وإن لم يحصل الظن
به بل التحقيق أنه لا يعتبر كون المأمور به مما يكرهه المأمور بل ما يعتبر في الصدق
166

أي كان لازما فيه أن يكون المكره مقهورا في اختياره بمعنى أنه ما اختاره إلا
للخوف عن مخالفة أمر الجائر وعدم اختياره وإرادته له تارة لأجل كراهته له و
منفوريته لديه وأخرى لكونه مخالفا لصلاحه وإن كان مشتاقا إليه كمال الاشتياق
كالمشتهيات التي يتركها المؤمن خوفا من عذاب الله فإنه مع كمال اشتياقه بها يحمله
العقل والدين على تركه.
والظاهر أن توهم اعتبار ذلك نشأ من توهم أن الإرادة عبارة عن الشوق التام
في طرف الفعل والكراهة التامة في جانب الترك أو أنهما من مباديها دائما، ولهذا
أن بعض أهل التحقيق لما رأى أن في الأفعال الصادرة من الفاعل ما لا يتعلق به الشوق
بل يتنفر منه كمال التنفر ومع ذلك يريده ويوجده كقطع يده ورجله للعلاج والانتحار
لأجل بعض الدواعي الفاسدة قال: بعد جعل الإرادة عبارة عن الشوق المتأكد: ما
من فعل إرادي إلا ويصدر إما عن شوق طبيعي أو شوق عقلي وقال أيضا: إذا اشتد
الشوق العقلي وغلب على الكراهة الذوقية فلا محالة يشرب الدواء
وأنت خبير بما فيه من التكلف وعدم الموافقة للموازين العقلية لمحض توهم
أن الإرادة هي الشوق المتأكد مع أن أصل المبنى فاسد، فإن الإرادة من القوى
الفعالة الحاملة على الفعل والمحركة للعضلات نجوه والشوق والحب والبغض و
الكراهة من الأمور التي لا فعالية لها فالشوق لا يكون محركا للعضلات بلغ ما بلغ
من الشدة والإرادة كثيرا ما تتعلق بأشياء مع كمال الكراهة ومع فقدان الشوق
رأسا.
وادراك العقل المصلحة وترجيح الفعل على الترك بالقضاء العقلي أو القوة
الحاكمة والقاضية غير الشوق الذي ينفعل النفس به لا بمعنى فعاليته بل بمعنى
عروضه لها وليس الاشتياق من شؤون العاقلة بل العقل مدرك للمصالح والمفاسد
ولا يليق به الحب والبغض وأضرابهما من الانفعاليات.
وما في مسفورات أهل النظر من نسبة الشوق ونحوه إلى المبدء تعالى جده
لا بد من تأويله كما ورد في الكتاب والسنة من أشباه ذلك مما لا يليق بظاهرها بساحة
167

قدسه جل وعلا. ولعمري لا داعي للالتزام بما يخالف الوجدان والبرهان لتصحيح
ما قال بعض أهل النظر أن الإرادة هي الشوق المؤكد مع عدم برهان عليه.
فتحصل من ذلك أن الاكراه على الشئ لا يعتبر في مفهومه كون ذلك الشئ
مما أكرهه الفاعل وهو واضح وكذا لا يكون تحققه متقوما لذلك أو ملازما له،
فالأولى في تحديد مفاد قوله أكرهوا عليه تبعية كلمات اللغويين الموافقة للعرف
والاعتبار أو ايكال الأمر إلى العرف كما صنعه المحقق صاحب الجواهر.
ثم إن اعتبار عدم امكان التفصي عرفا بما لا يحصل منه ضرر آخر معتد به مما
لا ينبغي الريب فيه.
الرابع قال الشيخ الأنصاري قدس سره: قبول الولاية مع الضرر المالي الذي
لا يضر بالحال رخصة لا عزيمة، فيجوز تحمل الضرر المذكور لأن الناس مسلطون على
أموالهم بل ربما يستجب تحمل ذلك الضرر للفرار عن تقوية شوكتهم " انتهى ".
مقتضى اطلاقه فيما لا يضر بالحال كونه رخصة حتى مع اقتضاء التقية ذلك ومع
كونه في دار التقية وهو مبني على عدم وجوب التقية وهو غير تام فلا بد في هذه
الصورة من التفصيل بين ما إذا كان المورد من موارد التقية الواجبة فيكون القبول
عزيمة وبين غيره إن قلنا بأن رفع ما أكرهوا عليه على سبيل الرخصة كما اشتهر
بينهم مطلقا ولا يبعد في الجملة.
ومقتضى تخصيصه الحكم بالضرر المالي الغير المضر أن القبول عزيمة مع المالي
المضر بالحال، والظاهر أن المراد به ما كان دفعه موجبا للحرج وهو مبني على أن
رفع الحرج على سبيل العزيمة وهو خلاف المعهود منهم وإن رجحناها في بعض
الموارد أو مطلقا في رسالة التيمم، وكذا مقتضاه أنه عزيمة مع الضرر
العرضي والنفسي مطلقا وهو محل تأمل فإنها مبنية على حرمة جعل المؤمن
نفسه في معرض الهتك والضرر أي ضرر كان ولو ولم يبلغ حد التهلكة والمسألة
بشقوقها محل اشكال وتأمل وتحتاج إلى مزيد فحص وتحقيق.
168

القسم الخامس
مما يحرم التكسب به ما يجب على الانسان فعله عينا أو كفاية تعبدا أو
توصلا على المشهور وعليه الفتوى كما عن المسالك (1) وفي الرياض بعد تقييد
الوجوب بالذاتي لاخراج التوصلي كأكثر الصناعات الواجبة بلا خلاف بل عليه
الاجماع في كلامه جماعة وهو الحجة. وفي مفتاح الكرامة (2) لم يعرف الخلاف
إلا من علم الهدى لكن قال حكى عن علم الهدى جواز الأجرة على مثل التكفين
والدفن لأنه واجب على الولي ولا يجوز لغيره إلا بإذنه " انتهى "، وعليه لا يكون هو
مخالفا في المسألة.
وكيف كان الظاهر من عنوان الفقهاء الأعم من التوصلي والتعبدي ومن ذهابهم
نصا أو ظاهرا إلى الجواز في المستحبات أن موضوع البحث هو الواجبات، إما
لأن وصف الوجوب ينافي الاكتساب كما صرح به بعضهم ويأتي الكلام فيه أو أن
الأمر تعبدي ثابت بالاجماع والشهرة، وأما التعبدية فلا تنافي الاكتساب عندهم و
لهذا قالوا بجوازه في المستحبات، لكن المتأخرين عمموا البحث في التعبديات
مطلقا مستحبة كانت أو واجبة وفي الواجبات توصلية أو تعبدية فلا بد من البحث
تارة في أن وصف التعبدية مناف للاكتساب أم لا، وأخرى في أن وصف الوجوب
مناف له أم لا.
أما الأول فقد يقال مضافا إلى عدم المنافاة: إن تضاعف الوجوب يؤكد الاخلاص

(1) في القسم الخامس مما يحرم التكسب به من التجارة - في ما يجب على الانسان فعله
(2) في القسم الخامس مما يحرم التكسب به من المتاجر - فيما يجب على الانسان فعله ص 92.
169

والقائل صاحب مفتاح الكرامة (1) وفي الجواهر (2) قال في مقام عدم المنافاة
إن المنافاة واضح المنع ضرورة كون الإجارة مؤكدة له باعتبار تسبيبها الوجوب
أيضا، وسبقهما إلى ذلك السيد في الرياض في المستحبات قال في مقام بيان عدم
المنافاة إن غايتها هنا عدم ترتب الثواب لا حرمته مع امكان ترتبه حينئذ أيضا فإنها
بعده تصير واجبة وتصير من قبيل ما وجبت بنذر وشبهه، ولا ريب في استحقاق الثواب
حينئذ ووجهه أن أخذ الأجرة حينئذ صار سببا لوجوبها عليه ومعه يتحقق الاخلاص
في العمل لكونه حينئذ لمجرد الإطاعة والامتثال لله تعالى وإن صارت الأجرة منشأ
لوجه الأمر الإيجابي إليه " انتهى ".
والعجب منه رحمه الله حيث صرح قبل ذلك بأسطر بأن أخذ الأجر في
الواجبات مناف للاخلاص نعم بين كلامه وكلامهما فرق يتضح عن قريب.
أقول إن مراد الأولين من تأكد الاخلاص وتضاعف الوجوب في كلام الثاني
يحتمل أحد الأمور.
أما أن الأمر في العبادي متعلق بذات العبادة والأمر الإجاري أيضا كذلك لأن
قوله أوفوا بالعقود بمنزلة قوله: صل وصم، واعمل كذا وكذا. فالأمر الإجاري
يؤكد الأمر العبادي بل الأمر إذا تعلق بموضوع عبادي يصير عباديا إذ ليست العبادية
من كيفيات الأمر بل هي من قيود المأمور به، فإذا تعلق بموضوع كذلك يصير عباديا
قهرا، ولما كان الموضوع واحدا يؤكد أحد الأمرين الآخر، ولما كانا عباديا يؤكد
الاخلاص.
وأما أن المراد بتضاعف الوجوب وتأكد الاخلاص أن تعلق الأمر الإجاري يوجب
امكان قصد الاخلاص به فإنه وإن كان توصليا لكن مع قصد التقرب يصير عباديا
بالمعنى الأعم فالمكلف قبل تعلق الأمر الأجاري لا طريق له للاخلاص إلا قصد الأمر

(1) في القسم الخامس - مما يحرم التكسب به من المتاجر - فيما يجب على الانسان فعله
ص 92 -
(2) في القسم الخامس مما يحرم التكسب به من التجارة - فيما يجب على الانسان فعله
170

العبادي وبتعلقه زاد طريق آخر يمكن معه قصد الاخلاص فلو نذر اتيانه زاد طريق
آخر وهكذا، ولعل مراد صاحب الرياض هذا الوجه إذ لم يعبر بالتأكد، والتضاعف
لكن الأظهر أن مراده تبديل الأمر استحبابي بعد الإجارة بالوجوبي بمعنى سقوط
ذلك وثبوت ذا بتوهم وحدة متعلقهما.
وأما أن المراد به أن متعلق الأمر الإجاري والعبادي لما كانا متحدين في
الخارج فللعامل أن يقصدهما لله تعالى فيكون الأمر بهذا المعنى مؤكدا للاخلاص و
موجبا لزيادته بتعدد سببه ولعله أقرب إلى ظاهر الأولين.
ويرد على الوجه الأول أن التأكيد في الأوامر ونحوها إنما هو فيما إذا تعلق
أمر بموضوع لغاية وغرض فإذا كان الموضوع مهتما به مثلا يؤكده الأمر إما بألفاظ
التأكيد أو بتكرار الأمر، وأما إذا كانت الأوامر بجهات عديدة فلا تكون من التأكيد
في شئ. وفي المقام يكون الأمر العبادي كالأمر بصلاة الفريضة إنما تعلق بها بجهة و
غرض غير جهة الأمر الإجاري. فلو فرض تعلق الثاني أيضا بذات العبادة لا يمكن أن يكون مؤكدا للأول إلا أن يراد بالتأكيد معناه المعروف، مضافا إلى أن الأمر
الإجاري إنما تعلق بموضوع آخر هو الوفاء بالعقد فقوله: أوفوا بالعقود (1). موضوعه
العقود ومتعلقه الوفاء، والأمر الصلاتي تعلق بالصلاة ولا يعقل تجافي أحدهما عن متعلقه
إلي متعلق الآخر.
نعم إذا أوجد الصلاة وفاء بإجارته وقلنا بصحة الاستيجار يكون مصداق الصلاة
معنونا بعنوانين ذاتي هو الصلاة وعرضي هو الوفاء بالإجارة وكذا في النذر وإطاعة
الوالد ونظائرهما. وما كان هذا شأنه لا يمكن أن يكون مؤكدا، لأن موطن تعلق
الأوامر موطن اختلاف الموضوعات والمتعلقات وموطن اتحادها وهو الخارج لا يكون
موطن تعلقها.
فما يقال إن الأمر الإجاري بمنزلة صل وصم وغير ذلك: غير تام: وخلط بين
موضوعات الأحكام ومتعلقاتها وبين مصاديقها الغير المأمور بها. وبهذا ظهر الجواب

(1) سورة المائدة - الآية 1.
171

عن الاحتمال الثاني فإن مبناه أيضا زعم تعلق الأمر الإجاري بنفس الموضوعات العبادية
ومع اختلاف المتعلقات والموضوعات كما عرفت لا معنى لقصد التقرب بأمر متعلق
بموضوع أجنبي عن الآخر لتصحيح ذلك الأجنبي وهو واضح بل يظهر النظر بما تقدم
في الوجه الثالث أيضا فإن تعدد الأوامر على موضوعات مختلفة لا يوجب تأكد الاخلاص
في أحد الموضوعات بل على الفرض يوجب تعدده حسب تعددها.
هذا كله مع ورود اشكال أساسي على جميع الوجوه وهو أن الاشكال في المقام إنما
هو دعوى المنافاة بين قصد التقرب وأخذ الأجر للعمل فلا يمكن للمؤجر الاتيان بالعمل
المستأجر فيه ومع عدمه لا تصح الإجارة فلا أمر إجاري حينئذ حتى يصحح العبادية أو
يؤكد الاخلاص. وبعبارة أخرى أن تأكيد الأمر الإجاري الاخلاص موقوف على
وجوده وهو موقوف على صحة الإجارة فلا يمكن تصحيحها بما ذكر.
وإن شئت قلت إن صحتها موقوفة على قدره المؤجر ايجاد العمل المورد للإجارة
وهو غير ممكن للتلازم بين أخذ الأجر وبطلان العمل العبادي فلا بد من دفع هذه الغائلة
ومع عدم دفعها لا يمكن تعلق أمر أوفوا بالعقود حتى يقال إنه يؤكده.
وقد تصدى المحققون لدفعها بالداعي على الداعي تارة ويأتي الكلام فيه و
بالأمر الإجاري أخرى وقد فصله السيد الطباطبائي في تعليقته بما ملخصه: أنه مع
الغمض عن الوجه السابق يمكن أن يقال: إنه إذا لم يكن قصد الامتثال بالنسبة إلى
الأمر الأولي المتعلق بالعبادة، لأن المفروض أن غرضه أخذ الأجرة فبعد ايقاع عقد الإجارة
يمكن أن يكون داعيه امتثال الأمر الإجاري ولا يضر توصليته، لأن الأمر التوصلي
والتعبدي لا يفترقان إلا في المتعلق فمع عبادية المتعلق يكون الأمر تعبديا كما
في المقام.
ودعوى أن المعتبر قصد الأمر الصلاتي: مدفوعة أو لا بالمنع غاية الأمر يعتبر
فيه كون الداعي هو الله من أي وجه كان، وثانيا أن أمر أوفوا بالعقود في قوة قوله
صلوا وصوموا (الخ) فالأمر الإجاري عين الأمر الصلاتي.
وقال في ذيل تصحيح العبادات الاستيجارية عن الغير بعد تكرار الوجهين
172

المتقدمين: إن قلت: " إن ذلك مستلزم للدور فإن الوجوب من حيث الإجارة موقوف على
صحتها وهي موقوفة على صحة العمل الموقوفة على الوجوب: قلت ثم حكى وجها عن
الشيخ وقال وثانيا وهو التحقيق في الجواب أن المعتبر في متعلق الإجارة ليس أزيد من امكان
ايجاده في الخارج في زمان الفعل وفي المقام أن تعلق الإجارة والأمر الإيجاري سبب في هذا
الامكان، وبهذا أجبنا عن اشكال الدور في التعبدي بناء على كون قصد القرية
من قيود المكلف به. بدعوى أن الأمر موقوف على تحقق الموضوع والمفروض عدمه
إلا بالأمر حيث قلنا: لا يعتبر في صحة توجه الأمر إلا امكان ايجاد الموضوع ولو كان
الأمر هو السبب " انتهى ".
وفيه مضافا إلى ما أشرنا إليه من أن الأمر الإجاري متعلق بعنوان الوفاء بالعقد
وهو أمر توصلي لعدم اعتبار العبادية في متعلقه ولو قصد الامتثال به بتقريب بعنوان
امتثال أمر الوفاء بالعقد، ولا يعقل أن يكون مجرد ذلك موجبا لامتثال الأمر الصلاتي
أو مقربا لأجل أمرها، بل لو تعبد بالأمر الإجاري من غير التعبد بالأمر الصلاتي
لا يصير مقربا مطلقا إذ لم يأت بمتعلق الإجارة ولم يمتثل الأمر الإجاري أيضا. ومجرد
اتحاد العنوانين في المصداق لا يوجب أن يصير ايجاد أحد العنوانين بداعوية أمره أو
بداع قربي آخر مربوط به.
ألا نرى أنه لو أمر باكرام العالم وأمر باكرام الهاشمي، وكان الأمران تعبديين
غير ساقطين إلا بقصد التعبد فأكرم المكلف من ينطبق عليه العنوانان بداعوية
أمر العالم مع عدم داعوية أمر الهاشمي أصلا: لا يعقل سقوط الأمرين وتقربه بعنوانين،
لأن التقرب بعبادة فرع اتيانها بداعوية أمرها أو بجهة مقربة أخرى قائمة بها أو راجعة
إليها. ومجرد اتحاد العالم مع الهاشمي في الخارج لا يوجب حصول التقرب قهرا على
زعم الفاعل.
ومضافا إلى ما أشرنا إليه من عدم تعقل تجاوز الأمر من عنوان أوفوا بالعقود
إلى عنوان الصلاة والصوم ونحوهما وكذا الحال في النذر واليمين والعهد فإن أوامرها
لا تتعلق إلا بعنوان الوفاء بها، فلا يمكن أن ينحل قوله: أوفوا بالعقود، إلى صل
173

وصم وهكذا ولا يكون في قوة ذلك إلا على تأويل ومسامحة وهو لا يصح العبادية فلا
وجه محصل لتصحيحها بالأمر الإجاري.
إن الاشكال في المقام ليس في منافاة عقد الإجارة أو الأمر الإجاري للاخلاص
بل الاشكال في منافاة العمل المأتي به بإزاء الأجرة للاخلاص ومع ذلك كيف يمكن
له تسليم مورد الإجارة وايجاده فلا يمكن معه تصحيح الإجارة فلا تصل النوبة إلى الأمر
الإجاري حتى يبحث في امكان التقرب به، فمع الغض عن رفع تلك الغائلة بالداعي
على الداعي أو نحوه لا يمكن تصحيحها. وليس الاشكال في المقام نظير الاشكال في
التعبدي والتوصلي أي ليس الاشكال في أن المكلف عاجز عن العمل من قبل فقد الأمر
حتى يقال: إن القدرة معتبرة وقت العمل والأمر محققها. بل الاشكال في أن التنافي
الواقعي الحاصل بين الاخلاص وأخذ الأجر في مقابل العمل يوجب بطلان الإجارة،
هذا العجز الآتي من قبل التنافي الواقعي لا يعقل رفعه بالأمر الإجاري فالمقايسة
بين البابين في غير محلها.
ثم إن اشكال الدور وجوابه وإن كان راجعا إلى باب النيابة لكن مناطه
موجود في المقام وسيأتي الكلام في النيابة.
ثم إنه يرد على القائل بتصحيح العبادة بالأمر الإجاري أيضا بأن مورد الإجارة
على المفروض هو الواجب العبادي، فالعبادية مأخوذة في موضوع الإجارة وموردها;
ومعنى العبادية مع قطع النظر عن الوقوع مورد الإجارة أن يكون المأتي به
بداعوية الأمر المتعلق به أو كونه لله تعالى من غير جهة تعلق الإجارة وأمرها. والوفاء
بهذا العقد لا يمكن أن يكون باتيان الذات بقصد الأمر الإجاري، لأن المأتي به بقصده
لم يكن متعلق الإجارة حتى يكون ايجاده كذلك وفاء بالعقد ومتعلقا للأمر بالوفاء.
وبالجملة لا بد من محفوظية عباديتها قبل تعلق الإجارة، ومع الغض عن أمرها لكون
العبادية بما هي مأخوذة في موضوعها وفي مثله لا يمكن الوفاء بعقدها إلا مع الاتيان
بالعبادة بما هي عبادة بغير الأمر الإجاري.
(نعم) يمكن ايقاع الإجارة بما يقع عبادة من قبل الأمر الإجاري أو الأعم منه
174

لكنه خروج عن موضوع البحث في المقام.
ثم إن المعروف في جواب الاشكال عن المنافاة للاخلاص طولية داعي الامتثال
عن داعي أخذ الأجر فلا منافاة.
وقد رد ذلك تارة بمنع الطولية، وأخرى بمنع اجدائها. وخلاصة ما أفاده
بعض أهل التحقيق (1) في منع الطولية أن مورد الإجارة هو ذات العمل العبادي
فينحل إلى الذات وحيثية الامتثال والعبادية، والمؤجر يأتي بالذات بداعي تحقق
المستأجر عليه وداعي الامتثال فيكون من التشريك في أصل الفعل، لا من قبيل
غاية الغاية. والحاصل أن تحقق عنوان المستأجر عليه يتوقف على حصول أمرين
ذات العبادة وعنوان الامتثال والآتي بالذات إنما يأتي بها بقصد تحقق عنوان المستأجر
عليه وقصد امتثال أمر الله ليتحقق كلا جزئين من المستأجر عليه فيكون من قبيل
التشريك في القصد لا داعي الداعي " انتهى ".
(وفيه) أن مورد الإجارة هو العمل بداعي الامتثال ومعناه أن جعل الأجر في
مقابل العمل المأتي به بداعوية الامتثال أي يكون الامتثال تمام الداعي والمحرك له
فلو أتى به بداعيين داعي الامتثال وداعي تحقق عنوان المستأجر عليه: لم يكن
آتيا بمورد الإجارة والموضوع المستأجر عليه ولم يكن فعله وفاء بعقد الإجارة، ومعه
كيف يمكن التشريك في مقام الوفاء مع كونه رافعا له ومعدما لموضوعه.
وبعبارة أخرى أن عقد الإجارة في مثل المقام لا ينحل إلى عقدين ولا الإجارة
إلى إجارتين حتى يقال إن لذات العمل وفاء أتي بداعي الامتثال أم لا وللامتثال وفاء
بل وقعت الإجارة على عمل خاص لا يمكن ايجاد موردها بلا تلك الخصوصية، وهي
العمل الذي يتحقق بمحركية أمره فقط أو كونه لله خالصا وفي مثله لا يمكن ايجاده
بلا داع إلهي أو بداع مشترك فلا محيص في مقام الوفاء إلا باتيانه بداعي الله وإن
كان هذا بداعي آخر في طوله، فالطولية مقتضى ذات تعلق الإجارة بالعمل بداعي
الله لا يمكن سلبها عنها هذا هو التحقيق في الجواب.

(1) هو العلامة الميرزا الشيرازي الثاني رحمه الله.
175

وأما ما يقال في دفعه: إن ذات المقيد والقيد ملحوظان بالمعنى الحرفي
في مورد الإجارة لا بالمعنى الاسمي فلا يكون شئ منهما موردا للغاية وللإجارة،
فمع عدم وجاهته ضرورة أن مورد الإجارة الصلاة المتقيدة وهي ملحوظة استقلالا و
باللحاظ الاسمي: إن الأخذ حرفا أو اسما أجنبي عن دفع الاشكال فلا الاسمية في
اللحاظ مضر بالمقصود ولا الحرفية دافع للاشكال على فرض وروده.
ثم إن المحقق المستشكل أورد اشكالا آخر ويظهر من بعض تعبيراته و
تنظيراته أن اشكاله كبروي وفي عدم اجداء الداعي على الداعي، ومن بعض تعبيراته
أن اشكاله صغروي وفي عدم كون المقام من قبيل داعي الداعي، ويحتمل أن يكون
مراده أن داعي الداعي مرجعه إلى التشريك ونقص العلية. وكيف كان لا بد من
تعرض الاحتمالين أو الاحتمالات وسيأتي انشاء الله الكلام في الكبرى.
وحاصل ما أفاد في منع الصغرى أنه ليس المراد بقولنا يجب اتيان الفعل
بداعي الامتثال الأعم من كون الامتثال بنفسه داعيا أو باعتبار ما اكتنف به من
العوارض مثله كونه مستعقبا أو موجبا لأمر كذا فإنها عوارضه. وبعبارة أخرى
الأعم من أن يكون القرب والامتثال علة تامة أو ناقصة للفعل بل لا بد وأن يكون علة
تامة، والمقام ليس كذلك فإن الامتثال يصير علة ناقصة إذا كان الغرض منه حصول
ما يترتب عليه فإن عليته من حيث ترتب الأثر عليه بحيث تنتفي بفرض انتفائه وهو
معنى نقص العلية، فإن معنى تمامها ترتب المعلول عليه، ولو فرض انتفاء كل
موجود ووجود كل معدوم; والحاصل أن اعتبار خصوصية في الغاية تنتفي غائيتها
بانتفائها ينافي عليتها التامة وتصير ناقصة " انتهى مورد الحاجة ".
أقول لا ينبغي الريب في أن العلة لأثر في التكوين لا يمكن أن تكون ذات
العلة بقيد ترتب الأثر عليها أو كونها مستعقبة أو موجبة للأثر بحيث إن تكون
العلة مركبة من الذات واحد العناوين والقيود المذكورة، للزوم تقدم الشئ
على نفسه وكون الشئ من قيود علة نفسه، إن كان المراد الاستعقاب والايجاب
الواقعيين وبالحمل الشايع. وإن كان المراد بها العناوين فمضافا إلى عدم امكان
176

تأثيرها وجزئيتها للأثر الوجودي: يلزم منه أن يكون المتأخر متقدما، لأن تلك
العناوين بما أنها من المضايفات لا يمكن انتزاعها لا بعد فعلية العلة ووجود المعلول،
فتكون انتزاعها من العلة والمعلول في رتبة واحدة. ومقتضى دخالتها في العلية
تقدمها على المعلول مضافا إلى لزوم كون المتضايفات غير متكافئات.
ثم بعد ما ثبت أن العلة للمعلول نفس ذاتها بلا دخالة تلك القيود إذا فرض
كون أثر غاية لايجاد الفاعل علته، فلا محالة يكون تصور الأثر والتصديق بفائدته
ولزوم تحققه منشأ لتحريك الفاعل نحو علته ليس إلا لعدم امكان داعوية العلة
الغائية إلى غير ما يترتب عليه إلا خطأ وغلطا، فلا محالة إذا رأى الفاعل أن الأثر
مترتب على الذات بلا قيد يصير منبعثا إليها فقط وهو واضح. فحينئذ نقول إن الأجر
دنيويا أو أخرويا إلهيا أو خلقيا إذا فرض ترتبه على عبادة بما هي عبادة فلا محالة
تكون العبادة بما هي عبادة علة لترتبه عليها لا بما أنها مستعقبة للأثر أو موجبة لها
لما تقدم محذور القيدية.
فعليه لا يمكن أن يصير الأثر علة غائية لغير العبادة بما هي التي هي تمام العلة
للأثر الذي هو فائدة وجودا وعلة فاعلية الفاعل ماهية وتصورا
فالقول بكون الامتثال علة ناقصة، إما لأجل أن تلك العناوين شريكة معه
في العلية فقد تقدم استحالته، أو لأجل أن العلة وإن كانت ذاته بذاته لكن الغابة
تدعو إلى العلة وغير العلة: فقد اتضح امتناعه فلا مناص عن أن تكون الغاية علة
للفعل بغاية الامتثال أي بمحركيته وداعويته بلا دخالة شئ آخر وهو المطلوب.
فإذا كانت الأجرة بإزاء العمل بداعي الامتثال وكان الأجير بصدد تسليم مورد الإجارة
لأخذ الأجرة بإزاء المستأجر عليه فلا محالة ينقدح في نفسه الداعي إلى ايجاد العمل
لله وبباعثية الأمر العبادي بلا تشريك فيه لما عرفت من امتناعه. وبما ذكرناه يظهر
النظر في الاحتمال الثالث في كلامه.
ثم إن ما ذكره في معنى العلية التامة صحيح لكن لا يراد بذلك إلا أنها بذاتها
بلا ضم ضميمة أخرى وشريك في العلية علة ومؤثر، لا أنها علة حتى مع عدم علة نفسها.
177

إذ مع عدمها تعدم (نعم) لو فرض محالا وجودها بلا علة تكون مؤثرة وموجدة للمعلول
وفي المقام انتفاء الداعي الأعلى يوجب انتفاء ذات الداعي المعلولة له لا انتفاء
شريكها مع بقاء ذاتها.
إن قلت قد قرر في محله أن الجهات التعليلية ترجع إلى الجهات التقييدية و
أن الغايات عناوين الموضوعات ولذا كان التحقيق بناء على وجوب المقدمة وجوب
الموصلة منها بمعنى أن الواجب هو الموصل بما هو موصل، لأن الإيصال إلى ذي المقدمة
غاية وجهة تعليلية فترجع إلى الجهلة التقييدية فتتعلق الإرادة بالموصلة بعنوانها من
دون دخالة شئ آخر، ففي المقام لما كان أخذ الأجر غاية، لا بد وأن يكون عنوانا
للموضوع وحيثية تقييدية له فلا محالة يكون تمام الداعي لايجاد الفعل أخذ الأجر
فيمحض الفعل في غير الله، ولا شركة لأمر الله وداعي الله فيه رأسا
قلت هذه مغالطة نشأت من مقايسة إرادة الفاعل ومقدماتها على إرادة الأمر
والمشرع، أو قياس إرادة الفاعل ومقدماتها على حكم العقل على الموضوعات العقلية
وهو قياس باطل ومع الفارق. فإن حكم العقل وكذا إرادة المشرع المنكشفة
بها موضوعها العناوين، فإذا أدرك العقل الملازمة بين وجوب ذي المقدمة والمقدمة
الموصلة يكشف حكم الأمر على هذا العنوان أي الموصل، لأن الغايات في الأحكام
العقلية موضوع بحسب الواقع والجهات التعليلية ترجع إلى التقييدية وبالجملة
يكشف العقل بادراك الملازمة وجوبا شرعيا علي عنوان الموصل وهذا وجوب
شرعي مستكشف بالعقل بناء على الملازمة
وأما الفاعل فلم يتعلق إرادته علي العناوين والطبايع الكلية في ايجاد الأمر
الخارجي ولو تعلقت أحيانا بها لا يكفي تعلقها بها للإيجاد المساوق للتشخص فلا محالة
تنشأ من إرادته المتعلقة بالطبايع إرادة متعلقة بما يريد بمباديها بتوسط بعض الصور
الموجودة في الذهن فإذا اعتقد أن الأثر الكذائي المطلوب مترتب على وجود كذا
فلا محالة يصير تصور تلك الغاية مع سائر المبادئ باعثا له نحو العلة أي الذات التي
يترتب عليها الأثر بنفسها لا بقيد وعنوان، فإن المفروض أن العلة هي الذات لا شئ آخر،
178

فلا محالة ينبعث نحوها فتصور العطشان أن رفع العطش مترتب على شرب الماء
بلا ضم ضميمة وتصديقه به يبعثه مع سائر المبادئ إلى ذات شربه بلا ضم ضميمة أجنبية
عن التأثير وهو واضح.
وقد مر أن المؤثر في المعلول ذات العلة ولا يعقل أن تكون العلة ذاتها المتقيدة
بترتب الأثر عليه، ففي المقام يكون ما قابل الأجر الصلاة بداعي أمر الله تعالى فلا محالة
يكون الأجر داعيا ومحركا إلى ذات الصلاة بداعي الله تعالى من غير امكان دخالة
الأجر واشتراكه مع داعي الله في اتيانها، للزوم تأخر المتقدم وتقدم المتأخر بالذات
وإن شئت قلت إن تصور أخذ الأجر علة فاعلية الفاعل بساير المبادئ لايجاد
الصلاة بداعوية أمرها، والصلاة بداعوية أمرها يترتب عليها الأجر فلا يعقل تجافي
علة فاعلية الفاعل عن مقام عليتها وتقدمها ووقوعها في رتبة داعوية أمر الصلاة
لايجادها. والانصاف أن القول بالتشريك أو التمحض في غير الله تعالى بالبيان المتقدم:
غير وجيه، بل دعوى أمر غير معقول كما مر.
ثم إنه على تسليم الداعي على الداعي أوردوا عليه بعدم اجدائه في وقوع الفعل
امتثالا وقريبا حتى قال: بعض الأعاظم (1) أنه لو كان هذا اشكالا لكان أولى وأحق
من أن يكون جوابا. وحاصل دعواهم: أن الامتثال والتقرب متوقفان على وقوع جميع
الدواعي الطولية والعرضية إلهية، ومع كون بعض ما في السلسلة غير إلهي لا يقع
الفعل عبادة، وفرقوا بين الغايات المترتبة على الأفعال بجعل إلهي وغيرها بأن ما كان
بجعله تعالى يرجع إليه ولم يضر بقربيته دون ما كان لغاية غير الله تعالى. وبالجملة
بعد تسالمهم على صحة العمل إذا كان الامتثال للطمع في أجر الله والخوف من عقابه
استشكلوا في الغايات المتوقعة من غيره تعالى.
أقول قبل الورود في الجواب لا بد من التنبيه على أمر وهو أن في المقام قد يكون
الداعي إلى امتثال أمر الله تاما مستقلا في نفسه بحيث ينبعث المكلف منه سواء كان
في مقابله أجر أم لا، وقد يكون الداعي إليه مفقودا بحيث لولا الأجر لما كان آتيا

(1) هو المحقق النائيني رحمه الله.
179

بالفريضة، وقد يكون الداعي إليه ناقصا وضعيفا لا يصلح للبعث ويتم بالأجر. وكذا
الداعي إلى أخذ الأجر قد يكون مستقلا تاما وقد يكون ضعيفا ناقصا أو مفقودا.
فتصوير الداعي على الداعي يأتي في بعض الصور لا جميعها، ومع رفع الاشكال عما هي
أسوء حالا من الجميع يتم المطلوب وهي الصورة التي لا داعي للفاعل أصلا لاتيان الفريضة،
وإنما يتحقق داعيه بواسطة الأجرة بمعنى أن الفاعل لا يهتم بأمر الشارع والعياذ بالله
لكن يهتم بعقوده وعهوده لمروته.
ثم لو فرض بقاء الاشكال في هذه الصورة لا يلزم منه الحكم ببطلان جميع الصور
المتقدمة، ضرورة أن من لا ينبعث بالأمر الإجاري ولا يكون الأجر أيضا داعيا له ولو
بنحو ضعيف لا يقاس في البطلان بمورد الداعي على الداعي.
فلو فرض أن الفاعل لا يؤثر في نفسه الأجرة رأسا ويأتي بمورد الإجارة لداعوية
الصلاة فقط لا وجه للحكم ببطلانها سواء قلنا بصحة الداعي على الداعي أم لا. بل لو كان
الداعيان مستقلين أو داعي الصلاة مستقلا وداعي الأجر ضعيفا يمكن القول بالصحة و
لو قلنا ببطلان ما يأتي بالداعي على الداعي، لأنه من قبيل الضميمة المباحة كما نسب
القول بالصحة في مثلها إلى كاشف الغطاء إذا كان الداعيان مستقلين ومال إليه شيخنا
العلامة أعلى الله مقامه. والأولى بالصحة فرض ضعف الداعي الغير الإلهي وإن كان
الفرضان لا يخلو من اشكال سيما الأول منهما.
وكيف كان لو فرض في المقام عدم الداعي الإلهي رأسا في نفسه ودعاه إلى
العمل بداعي الله الأجرة فهل الداعي على الداعي يوجب صحته أم يعتبر فيها أن يكون
جميع الدواعي الطولية والعرضية إلهية.
وإن شئت قلت لا شبهة في أن الأمر بنفسه في شئ من الموارد لا يكون محركا
وباعثا تكوينيا نحو العمل، بل هو انشاء البعث الاعتباري. فإن هيئة الأمر وضعت
لايقاع البعث نحو المادة. وأما عليتها تكوينا للانبعاث فغير معقول وإلا لزم عدم
تقكيك العمل عن الأمر وهو كما ترى. بل تصور الأمر أيضا ليس محركا ما لم يكن
في نفسه مبادئ أخر كالخوف والطمع والحب والمعرفة. فحينئذ يقع الكلام في أن
180

المعتبر في العبادة أن تكون تلك المبادئ الموجودة في النفس الباعثة لايجاد
متعلق الأمر امتثالا له تعالى كلها مربوطة به تعالى فيكون خوفه من الله ورجائه
إليه وطمعه في اعطائه تعالى باعثا لإطاعته ومحركا له، أم لا يعتبر فيها إلا كون العمل
لله تعالى خالصا بلا شركة شئ معه فإذا صار شئ دنيوي سببا لايجاد عمل لله تعالى،
ولا يكون في اتيان الفعل بداعي الله شريكا وإن كان الاتيان بداعي الله معلولا لداعي
غير الله يقع الفعل عبادة.
التحقيق هو الثاني لأن الامتثال والإطاعة عقلا ليسا غير اتيان المأمور به حسب
دعوة الأمر ولأجل موافقته كان الباعث الأقصى عليه ما كان. وكون نفس الأمر
محركا بلا غاية أخرى ومباد أخر: محال، لأن كل فعل اختياري لا بد له من مبادئ
كالتصور والتصديق بالفائدة وادراك لزوم ايجاده واصطفائه وإرادته، والأمر بما هو
ليس محركا تكوينا ولا مترتبا عليه بما هو فائدة. ولو فرض في مورد ترتبها
عليه يكون مبدء المحرك والغاية الباعثة هي تلك الفائدة، لا نفس أمر الأمر بما هو
فلا بد في تحرك المكلف حسب دعوة الأمر من غاية وتلك الغاية لا يعقل أن تحرك
العبد إلا نحو امتثال الأمر وإطاعة المولى فتحقق الامتثال والطاعة مما لا بد منه وإلا
لتخلفت المتحركية عن المحركية والمعلول عن العلة; ولا يعتبر في العبادة عقلا
إلا وقوع الفعل امتثالا وإطاعة لله تعالى وكان تحرك العبد حسب دعوة أمره بلا شركة
شئ آخر في هذه الرتبة.
وبالجملة إذا كان الاتيان للامتثال والإطاعة محضا وبلا دخالة شئ فيه يصير
العمل عبادة، لأن العبادة إطاعة المولى وحركة العبد على طبق أمره كانت الغاية
لها ما كانت، وقد عرفت بما لا مزيد عليه امتناع اشتراك الغايات في ترتب الآثار
على ذي الغايات بل هي علة العلة لا شريكتها، والشاهد على عدم اعتبار شئ آخر في
صيرورة الفعل قربيا وعباديا مضافا إلى ما ذكر الأدلة المرغبة في العبادات بالوعد
على ترتب آثار أخروية أو دنيوية عليها وتسالمهم على صحة العبادة إذا كان الاتيان
والإطاعة بطمع الجنة أو لخوف النار بل بطمع سعة الرزق ونحوها مع أن كل ذلك
181

خارجة عن الإلهية والغايات المذكورة غير الله تعالى.
وما يقال: إن طمع الأجر إن كان من الله والخوف إن كان من عذاب الله فهو
غير مضر بالاخلاص دون ما كان الاتيان لطمع في غير الله تعالى كحطام الدنيا ومنها
الأجرة (غير وجيه)، لأن الداعي ليس عبارة عما يخطر في الذهن بل عبارة عن الغاية
المحركة حقيقة، ولا ينبغي الريب في أن المحرك في تلك العبادات المأتي بها طمعا
وخوفا: هو نفس متعلقات الإضافات وحاصل المصادر والنتائج من غير أدنى دخالة
للإضافات وحيث الصدور من فاعل خاص ولهذا صارت محركات مع فرض سقوط
الإضافة إلى الله بل مع الإضافة إلى عدو الله تعالى.
توضيح ذلك أن اعطاء الله تعالى الحور العين بإزاء عبادة ينحل إلى حصول
الحور والاعطاء وإضافته إليه تعالى والمحرك للفاعل الذي طمعه ترتب تلك الفائدة
على عمله لا يخلو إما أن يكون نفس حصول الحور العين له استقلالا من غير دخالة
إضافة الله تعالى والاعطاء أي المعنى المصدري، أو نفس الإضافة إليه تعالى فقط من
غير دخالة للمضاف إليه والمعنى المصدري أو نفس المعنى المصدري بلا دخالة غيره،
أو يكون محركه مركبا من الحور والإضافة إليه تعالى بمعنى أن المضاف بما هو مضاف
أو الإضافة الخاصة علة، أي غير ذلك من أنحاء التركيب الثنائي أو الثلاثي، ففي غير
مورد واحد وهو كون تمام العلة الإضافة إلى الله تعالى بحيث لا يكون نظر الفاعل
إلى المتعلق إلا كونه كرامة الله تعالى ويكون تمام المحرك حيث الانتساب إليه
جل وعلا يكون لغير الله دخالة في التحريك والايجاد إما بنحو تمام العلة أو بنحو الاشتراك
والجزئية هذا بحسب التصور.
وأما بحسب الواقع فلا يمكن حصول تلك المرتبة الرفيعة إلا لخلص أولياء
الله تعالى والمحبين المجذوبين له تعالى بحيث كان تمام نظرهم إليه لا إلى غيره
وكان ما ورائه تعالى من الجنة وغيرها مغفولا عنها وهم غافلون عن غير الله و
يشتغلون به من غيره صلى الله عليهم.
وأما غيرهم من متعارف الناس فلا يكون محركهم إلا النتائج ومتعلقات الإضافات
182

ولهذا لو فرض اعتقادهم بترتب تلك الآثار المطلوبة على أفعالهم من غير توسيط
فاعل ومن غير ربط أو إضافة إلى أحد لا وجدوها طمعا للآثار وحرصا على الشهوات
والمستلذات.
فلو فرضنا أن مفاتيح الجنة والنار بيد عدو الله الشيطان الرجيم " والعياذ بالله "
وكان هو معطي الجنة ومدخل النار وكانت طاعة الله تعالى وعصيانه بلا جزاء أصلا،
لكنه تعالى أمر أن يعبدوه، بلا جزاء وأن لا يعصوه بلا عقاب على عصيانه وأمر بمخالفة
الشيطان ونهى عن طاعته وكان الشيطان أمر بمخالفة الله تعالى ونهى عن طاعته
وأعطى للمخالفين له تعالى الجنة وأدخل المطيعين له تعالى النار: لعلم أولو الألباب
أن المطيع لله تعالى على الفرض كالكبريت الأحمر أو أندر منه.
ولعمري إن هذا واضح لمن تأمل في غايات أفعاله وتدبر في حالات نفسه و
مكائدها وليس هذا معنى دقيقا عرفانيا خارجا عن فهم الناس بل شئ يعرفونه مع
التنبيه على المحرك الأصلي في الأعمال وتميزه عن غيره.
فالإضافة إليه تعالى إما ساقطة رأسا وكان المحرك التام هو رجاء الوصول إلى
المشتهيات النفسانية والنيل إلى الشهوات والأهواء أو الخوف من التبعات والعذاب،
كما أن الأمر كذلك بحسب النوع، أو لها نحو دخالة ضعيفة أو قوية على حسب مدارج
العاملين وهو مقام المتوسطين، وأما الخلوص التام فلا يناله الأكمل الأولياء بل
لا يصدقه إلا الأوحدي من الناس، جعلنا الله منهم، وعصمنا الله من انكار مقامات
أوليائه عليهم صلواته.
وإلى ما أشرنا إليه يشير ما ورد عن المعصومين (ع) من تقسيم العبادة تارة إلى
عبادة الأجير وعبادة العبيد وعبادة الأحرار وأخرى إلى عبادة الحرصاء وهو الطمع والعبيد
والأحرار، إذ من المعلوم أن الأجير لا يكون مطمح نظره في العمل إلا النيل بالأجر ويكون
عمله خالصا لأجل الأجرة من غير دخالة الإضافات، والحريص يرغب إلى المال
من أي طريق حصل ولا دخالة في اخماد نار حرصه للإضافات.
ومن كان ناظرا إلى إضافة الله وإلى كراهة المولى لا إلى متعلقاتها فهو
183

ليس من الأجراء ولا الحرصاء، بل هو من العرفاء بالله والمخلصين من أوليائه
تعالى.
فتحصل من جميع ذلك صحة صلاة الخائف والطامع وهي دليل على أن العبرة
في الصحة ليست إلا إطاعة أمر الله تعالى بلا تشريك غيره فيها، ولا ينظر إلى غايات
محركة للطاعة والعبادة.
وإن شئت قلت إنه بعد ما كان الداعي ليس عبارة عن الخطور بل هو المحرك
وبعد ما كان المحرك التام وعلة فاعلية الفاعل بحسب متن الواقع هو الخوف من
العذاب أو الطمع إلى المشتهيات بلا دخالة شئ آخر فيه وإنما يقال: أفعل كذا لأن
يدخلني الله الجنة أو لخوف الدخول في نار الله، لمجرد كون المورد كذلك، وأن
الجنة والنار بيد الله وتحت قدرته، لا لأن العلة للإيجاد الجنة مع تلك الإضافة أو نفس
الإضافة وهو نظير أن يقال: إن الشمس في الفلك الرابع مشرقة والنار في جهنم
محرقة حيث لا يراد نفي علية الشمس والنار بذاتهما، بل بيان للمورد والواقعة
فإذا كان الأمر بحسب الواقع في متعارف الناس والمكلفين كذلك لا يعقل
أمرهم بما هو خارج عن تحت قدرتهم، ضرورة أن حصول الخلوص التام طولا و
عرضا لا يمكن لمتعارف الناس; بل ولا لخواصهم إلا من عصمه الله تعالى فلو كان
الاخلاص التام معتبرا لسقط التكليف عن عامة الناس لعجزهم عنه، مع أنه لو كان
الامتثال والعبادية لا يحصل إلا بالخلوص الكذائي كان على الله تعالى وأوليائه (ع) بيانه
وارشاد الناس إليه وتكليفهم به، لا الترغيب فيما يضاده وينافيه، مضافا إلى أن في الآيات
والروايات ما تدل على أن للأعمال الحسنة آثارا ولوازم في النشأة الآخرة كظاهر
قوله تعالى فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره. (1) (الخ) وقد ورد حديث (2) عن

(1) سورة الزلزال - الآية 7.
(2) راجع مجمع البيان - في تفسير هذه الآية.
184

أمير المؤمنين عليه السلام أن هذه الآية أحكم آية في كتاب الله فعليه يكون ظاهرها مرادا
بلا تأول. والظاهر منها أن عمل الخير بنفسه مورد الرؤية ويؤكده قوله: يومئذ يصدر
الناس اشتاتا ليروا أعمالهم (1) فيظهر منها أن الأعمال بنفسها متجسدة مرئية فيها
والناس متلذ بها، فلو فرض أن الآتي بالصلاة لله تعالى والمجيب لدعوة أقم الصلاة إنما
يأتي بها ويطيعه تعالى طمعا للوصول إلى الصورة البهية اللازمة لعلمه فهل يمكن أن يقال:
عمله باطل أو يقال للجنة خصوصية.
فلو قيل: إن أمثال ذلك خارج بدليل قلنا: مرجع هذا إلى عدم اعتبار الخلوص
فيها وأن تلك الأفعال ليست بعبادة وهو خلاف الضرورة، فإن الاجماع بل الضرورة
على اعتبار الخلوص في العبادات وقصد غير الله مضربها، فيكشف منهما ومما ذكرناه
عقلا ونقلا أنه لا يعتبر في العبادية إلا الخلوص في نفس العمل أي كونه امتثالا
له تعالى من غير تشريك في هذه الرتبة ولا ينظر إلى مبادئ التحريك.
ويؤيد ما ذكرناه بل يدل عليه اطلاق أدلة الأمر بالمعروف فإن المعروف
إن كان من العبادات والمكلف التارك كان غير منبعث عن أمر الله تعالى فأمره والده
أو من يحتشم منه أو من يحبه، ولا يرضى بمخالفته واقعا فأتى بالتكليف الإلهي وامتثل
أمر الله إطاعة لوالده أو غيره لا بد وأن تقع صحيحة وإلا لزم أن يكون الأمر بالمعروف معدما
لموضوعه بل موجبا لانقلابه بالمنكر فإن اتيان العمل العبادي لغير الله من المنكرات.
وليس المراد بالأمر بالمعروف الموعظة الحسنة بل المراد به وما هو الواجب
الأمر المولوي لغرض البعث به، ولهذا لا يجب إذا لم يحتمل التأثير فإن معه لا
يمكن الأمر حقيقة.
وبالجملة لا شبهة في وجوب الأمر بالمعروف فلا بد وأن يكون الانبعاث ببعث
الآمر في طول الاتيان بالعمل عبادة وإطاعة لله تعالى غير مضر بالعبادية وهو
المقصود.
ويؤيد عدم مضرية وقوع الشئ طاعة وامتثالا مع عدم رجوع جميع السلسلة
إلى المطاع أمر الله تعالى بإطاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وأولي الأمر (ع)، فلو خرج المأتي

(1) سورة الزلزال - الآية 5.
185

به بواسطة كون الغاية إطاعة أمر الله تعالى عن طاعة الرسول صلى الله عليه وآله وأولي الأمر (ع)
لزم امتناع تعلق الأمر بها لكونه معدما لموضوعه.
وليس المراد بإطاعتهم أخذ الأحكام منهم أو العمل بالأحكام الشرعية الإلهية
التي كانوا مبينين لها، لأن كل ذلك ليس إطاعة لهم بل المراد إطاعة أوامرهم السلطانية
الصادرة منهم بما هم حكام وسلاطين كالأمر بالغزو والجهاد وغيرهما من شؤون
السلطنة كما فصلناه في رسالة " لا ضرر "، وبالجملة فالقائل ببطلان العبادة في الموارد
المذكورة ومنها مورد البحث: أما يقول بعدم صدوق الطاعة في تلك الموارد فيرده
العقل والنقل، وأما أن يدعي مع صدقها عدم صدق العبادة فيرده أيضا العقل و
النقل، فإن إطاعة أمر الله تعالى وامتثاله خالصا بمعنى عدم التشريك في اتيان
العمل وعدم كونه لغير الله ولو بنحو جزء العلة عبادة له تعالى، وأما أن يقول
باعتبار شئ زائد في حصول التقرب وسقوط الأمر العبادي فهو مع بطلانه خلاف
الفرض والمبحوث عنه في المورد.
ومما ذكرناه يظهر النظر في كلام المحقق التقي في تعليقته من التشبث بحكم
العرف والعقلاء: بأنهم لا يشكون في أنه إذا جعل زيد أجرة لعمرو في إطاعة شخص
فأطاعه طلبا للجعل لا يستحق من هذا الثالث مدحا ولا ثوابا، وكذا لو أمر المولى
عبده بخدمة ثالث فأطاع العبد أو أمره امتثالا لأمر المولى أنه لا يعد مطيعا له
ولا يستحق منه أجرا ومدحا مع أن إطاعة هذا الثالث لحصول إطاعة المولى، فإطاعته
غاية لفعله وإطاعة المولى غاية لهذه الغاية " انتهى ".
(وفيه) بعد الغض عن مسامحته في التعبير وجعل إطاعة المولى غاية لغاية وقد
مر معنى الداعي على الداعي والمقصود منه ويأتي الإشارة إليه: أن الاعتراف بمأجورية
العبد عند مولاه في إطاعة الثالث وباستحقاقه للجعل على الجاعل في المثال الأول ملازم
للاعتراف بحصول الامتثال والإطاعة للثالث، ضرورة أن الجعل في مقابل طاعته وامتثال
المولى لا يحصل إلا بإطاعة الثالث، فلو توقف صدق الطاعة على كون جميع المبادئ
طولا وعرضا راجعا إلى المطاع لما يمكن صدق الطاعة في المثالين، فلا يمكن استحقاق
186

الأجر والثواب من الجاعل والمولى فمع صدقها يسقط أمر الثالث بلا ريب ولو كان
الامتثال والإطاعة معتبرة فيه.
وليست الإطاعة في الأوامر العقلائية مخالفة لها في الأوامر الإلهية، فكما
تحصل في مورد المثالين تحصل في أمره تعالى بلا افتراق من هذه الجهة بينهما وكما
يسقط أمر الثالث في موردهما تسقط أوامر الله في نظائر الموردين.
واستحقاق الأجر والثواب وحصول القرب ليس شئ منها معتبرا في وقوع
العمل عبادة، ولهذا أنكر طائفة من المتكلمين والفقهاء استحقاقهما في إطاعة أوامر
الله تعالى ولا يحصل العلم بالقرب الفعلي في العبادات، وببالي أن المحقق القمي
رحمه الله قال في موضع من القوانين إن عبادتنا لم يحصل بها القرب بل لعلها موجبة للبعد
ومع ذلك لا ينكرون صحتها وسقوط الأمر بها، وتدل على عدم الملازمة بين الصحة و
حصول القرب واستحقاق الثواب روايات مستفيضة دالة على أن المقبول من الصلاة ما
يؤتى بها باقبال القلب وإنما يصعد منها ما كان كذلك (1)، فلا يعتبر في صحة العبادة غير
ما تقدم، وليس الكلام في المقام في الرياء ولعل فيه بحسب الأخبار تضييق ليس في غيره
من الأمور المباحة.
وبما مر من المراد من الداعي على الداعي يظهر سقوط قول بعض الأفاضل (2) حيث
قال: والحق بطلان الداعي على الداعي وإن بنى معظم أساتيذنا تصحيح أخذ الأجر
في العبادات على أساسه. وأنت لو تأملت علمت أن الداعي أعني المحرك الباعث إلى
العمل لا يعقل في غير الأفعال الاختيارية، ودعوة الأمر ليست فعلا من أفعال المكلف فضلا
عن أن يكون اختياريا ومع ذلك كيف يعقل أن يدعو أمر إلى أن يكون أمر آخر داعيا.
وهل الداعي يكون عن داع مع أنه يلزم التسلسل في الدواعي " انتهى ".
وأنت خبير بأن حكمه ببطلان ما ذهب إليه معظم الأساتيذ ناشئ من قلة التدبر

(1) الوسائل - كتاب الصلاة - الباب 17 - من أبواب أعداد الفرائض والباب 3 -
من أبواب أفعال الصلاة.
(2) هو المحقق الإيرواني رحمه الله.
187

في مرادهم وعدم تحصيل مغزى مرامهم، فتوهم تارة أن مرادهم أن أمرا عن الأوامر
صار موجبا لدعوة أمر آخر مع أن دعوته ليست فعلا من المكلف، وأخرى أن لازم
كلامهم أن الداعي بالداعي وهو موجب للتسلسل مع أن مرادهم بمعزل عما فهم،
بل المراد ما أشرنا إليه من أن الأمر يدعو إلى المتعلق انشاء وايقاعا وليس علة
لتحرك العبد بذاته بل بعد تحقق بعض المبادئ كالخوف والرجاء وغيرهما في
النفس صارت تلك المبادئ ومباد أخر: موجبة لتحرك العبد حسب دعوة الأمر و
تحريكه الايقاعي وإطاعته لمولاه، وهذه المبادئ في طول اتيان العمل بداعوية الأمر
فأين ذلك من كلامه من لزومه للتسلسل أو كون شئ موجبا لدعوة الأمر بل قلما
يتفق اتيان فعل لا بداعي الداعي.
ثم لو شككنا في اعتبار الاخلاص في العمل زائدا عن الاخلاص العرضي
فمقتضى الاطلاق فيما تمت مقدماته والاطلاق المقامي في بعض الأحيان عدم اعتباره و
مع فقده فأصالة البراءة العقلية ومثل دليل الرفع تكون مرجعا. هذا كله فيما قيل
أو يقال في منافاة التعبدية وأخذ الأجر.
وأما منافاة وصف الوجوب له وهو الذي كان مورد نظر الفقهاء فقد استدلوا
عليه بأمور. ونحن نفرض المقام فيما إذا كان الواجب عينيا تعينيا ثم نشير إلى
سائر الأقسام.
فمنها ما أفاده العلامة الأنصاري (قده) قال: فإن كان العمل واجبا عينيا تعينيا
لم يجز أخذ الأجرة، لأن أخذ الأجرة عليه مع كونه واجبا مقهورا من قبل الشارع
على فعله أكل للمال بالباطل، لأن عمله هذا لا يكون محترما، لأن استيفائه منه
لا يتوقف على طيب نفسه لأنه يقهر عليه مع عدم طيب النفس والامتناع " انتهى ".
وأنت خبير بأن دليله الذي انتهى إليه بعد قوله: لأن ولأن: أخص من المدعى
فإن مدعاه عدم جواز أخذها في مطلق الواجبات الكذائية، ودليله على عدم احترام
عمله جواز استيفائه منه بلا توقف على طيب نفسه وقهرا بدليل الأمر بالمعروف
مع أن دليل الأمر بالمعروف لا تكفي في مطلق الموارد كما لو كان الواجب
188

موسعا سيما مثل قضاء الفوائت وبعض صلوات الآيات، فلا يمكن الاستيفاء بلا طيب
نفسه ولا يجوز إلزامه باتيانه فلا بد من استيفاء المنفعة المطلوبة من عقد الإجارة لا
أقول: استيجاره في اتيان العمل في زمان خاص حتى يقال: إن الاستيجار له ليس
استيجارا للواجب، بل أقول: باستيجاره لاتيان الواجب لكن بعد الاستيجار يجوز
له مطالبة حقه بلا تقييد للموضوع مع أنه قد لا يمكن إلزامه على العمل وقهره عليه
" تأمل ".
مضافا إلى أن ما كان مالا عند العقلاء وتكون المعاملة عليه عقلائية منسلكة
في التجارة عن تراض فلا بد في دعوى كون أخذ الأجر عليه من أكل المال بالباطل
من دليل تعبدي مسقط لماليته، أو لإضافته إلي مالكه حتى يصير بتحكيم ذلك الدليل
خارجا عن موضوع الأول وداخلا في الثاني، أو دل دليل على عدم صحة المعاملة
كالإجارة الغررية ونحوها، ومجرد ايجاب الشارع وامكان استيفاء المنفعة بغير عقد
الأجرة لا يوجب سقوط الشئ عن المالية كيف وقد فرض امكان استيفاء المنفعة
العقلائية المقومة للمالية لدى العقلاء بطريق آخر، فامكانه بذلك لا يعقل أن يكون
معد ما لماليته وكثيرا ما يمكن استيفاء منفعة بلا عقد إجارة مثلا واستنقاذ عين بلا
عقد بيع.
وأما جواز القهر عليه والزامه على الايجاد بدليل الأمر بالمعروف فهو
أجنبي عن جواز إلزامه لاستيفاء المنفعة وإن يترتب عليه الاستيفاء قهرا.
وبالجملة فرق بين جواز الالزام على اعطاء عمله لاستيفاء المنفعة وبين
جواز إلزامه على ايجاد الواجب الإلهي وإن ترتب نفع للملزم بالكسر على عمله.
فلو سلم منافاة جواز الالزام على الوجه الأول لبقاء الاحترام للمال فلا يسلم منافاته
له على الوجه الثاني المورد لأدلة الأمر بالمعروف، وقد تقدم أن مجرد امكان
الاستيفاء بوجه غير الإجارة لا يوجب اسقاط المالية فالتعبير في المقام بقوله
إن استيفائه منه لا يتوقف على طيب نفسه الموهم لاعطاء حق من قبل الشارع
لاستيفاء منفعة عمله كأنه في غير محله.
189

وكذا لا ملازمة عقلا ولا عرفا بين جواز الاستيفاء قهرا وبين سقوط المالية
والاحترام كما في نظائره، فلو خاف على نفسه التلف يجوز بل يجب الانتفاع بمال
الغير قهرا عليه كالدخول في حمامه وليس ثوبه وركوب دابته مع امتناعه ومع ذلك
يجوز الاستيجار منه بلا اشكال ويكون ضامنا مع الانتفاع بها، بل جواز الاستيفاء
مجانا لا يوجب بطلان المعاملة عليه أيضا ولا تصير به خارجة عن التجارة عن تراض،
كما جاز للمارة الأكل مجانا، ولا شبهة في جواز الاشتراء أيضا إلا أن يقال: في
المقام بلزوم الاستيفاء مجانا هو أول الكلام.
فتحصل مما ذكر أن شيئا من المذكورات لا يصلح لاسقاط مالية العمل ولا
لاسقاط الإضافة إلى الفاعل ولا يدل شئ منها على بطلان المعاملة.
وأما ما أفاده في ذيل كلامه من حكم العقلاء بأن أخذ الأجر على ما وجب
من قبل المولى أكل للمال مجانا وبلا عوض (ففيه) منع إلا إذا فهم من أمره المجانية
وهو ليس محل الكلام، والشاهد على ما ذكرناه أنه لو صرح المولى بأنه لا بأس
بأخذ الأجر فيما أوجبت عليك لم يحكم العقلاء بالتنافي بين ايجابه ونفي بأس
أخذه مع أنه يقع التنافي على ما أفاده. لا أظن منه قدس سره أنه لو ورد دليل معتبر
على جواز أخذ الأجر في الواجب عمل معه معاملة المعارض للكتاب والسنة، بل
الظاهر أن أخذ الأجر في مقابل فعل الحرام أيضا لا يكون من قبيل أكل المال
بالباطل عند العقلاء إذا لم يكن الفعل باطلا عرفا، ولهذا أن العقلاء يعاملون على
المحرمات ولا يرون أخذ الأجر أو العوض فيها من قبيل الأكل بالباطل كالسرقة و
الظلم، وليس الباطل هو الشرعي فالدليل على بطلانها غير ذلك كقوله: إن الله
إذا حرم شيئا حرم ثمنه، بتقريب قدمناه أو عدم امكان تنفيذ المعاملة على المحرمات
وايجاب الوفاء بها.
وربما يقال (1) في جواب مقالة الشيخ: إن لمال المسلم حيثيتين من الاحترام.
إحديهما حيثية إضافته إلى المسلم ومقتضى احترامه بهذه الحيثية أن لا يتصرف

(1) هو المحقق المدقق الحاج الشيخ محمد حسين الأصفهاني رحمه الله.
190

أحد فيه بغير إذنه وله السلطنة على ماله وليس لأحد مزاحمته في سلطانه.
ثانيتهما حيثية ماليته ومقتضى حرمتها أن لا يذهب هدرا وبلا تدارك، ومن
الواضح أن الإيجاب والمقهورية وسقوط إذنه موجبة لسقوط احترامه من الحيثية
الأولى دون الثانية ولذا جاز أكل مال الغير في المخمصة بلا إذنه مع بقائه على احترامه
ولهذا يضمن قيمته بلا اشكال، مضافا إلى أن هدر المال غير هدر المالية والمضر
الثاني لا الأول ولهذا يصح المعاملة مع الكافر الحربي مع سقوط احترام ماله من
الحيثيتين وذلك لعدم هدر مالية ماله " انتهى ملخصا ".
وفيه أو لا أنه ليس للمملوك إلا إضافة واحدة إلى مالكه، هي إضافة المملوكية
ولها أحكام عقلائية وشرعية واحترامات كذلك ومع الغض عن تلك الإضافة لا حرمة
له مطلقا ضمانا كانت أو غيره فالحيثية الثانية في كلامه أي ذات المالية مقطوع الإضافة
لا حرمة لها، وعدم الذهاب هدرا من آثار إضافة المال إليه ومن الأحكام العقلائية
المترتبة على إضافة المال إليه أي على إضافة المالكية لا حيثية مقابلة لها، فإضافة
المال إلى المسلم أو المال المضاف إليه موضوع تلك الآثار.
وجواز الأكل في المخمصة بلا إذن صاحبه وقهرا عليه ليس من جهة سقوط
احترام الإضافة إلى المسلم، لأن لازم سقوط احترامها عدم الضمان بلا ريب، لأن موضوع
دليل الضمان الاتلافي وغيره هو مال الغير المتقوم بالإضافة.
وليس الضمان من جهة احترام ذات المال ساقط الإضافة أو مع سلب احترام
إضافته، بل لأجل أن حكومة دليل رفع الاضطرار إنما هي على بعض الأحكام المترتبة
على إضافة المالكية وهو حرمة التصرف فيه بلا إذنه ورضاه دون الحكم الوضعي
وهو الضمان، لأن المضطر إنما يضطر إلى الأكل وهو يسد رمقه لا الأكل المجاني،
فليس مضطرا إلى الأكل المجاني، فليس في الأكل في المخمصة سقوط الإضافة إلى
المسلم، وتحقق الضمان باتلاف ذات المال بلا إضافة إلى مالكه وهو واضح، وكذا
الكلام في مال الكافر الحربي فإنه لم تسقط الإضافة المالكية عن الحربي، ولماله
احترام في الجملة وفي اتلافه ضمان في الجملة.
191

ومجرد أن للمسلم جواز تملكه وأنه ملك أن يملك لا يوجب سقوط إضافته
إليه وسقوط أحكام الإضافة واحترامها واحترامه مطلقا، ولهذا يورث ماله ويضمن
التالف الغير المسلم، بل لا يبعد القول بضمان المسلم لو أتلفه بلا تملك وإن جاز
تملك عوضه أيضا، ومجرد ملك أن يملك لا يوجب جواز التصرف بلا إذنه ما دام في ملكه و
لا سلب ضمانه إذا أتلفه إلا أن يقال: بانصراف أدلة الضمان عن مثل المورد والمسألة
محتاجة إلى المراجعة.
وثانيا أن مورد الكلام في المقام هو أخذ الأجرة على اتيان الواجب وصيرورة
المكلف أجيرا على ايجاد ما وجب عليه وهو المعنى المصدري أي نفس الإضافة
الصدورية.
وإن شئت قلت إن الواجب عمل المكلف وايجاده لا حاصل عمله والمعنى الاسم
المصدري، فعليه لو سقطت حرمة عمله من حيث الإضافة إليه أي من حيث الإضافة
الصدورية فلا تقع الإجارة عليه صحيحة لأنها وقعت على ما سقطت حرمته.
وبعبارة أخرى أن للعمل اعتبارين مع وحدته الخارجية اعتبار الإضافة إلى
العامل وهو إضافة صدورية وهي مقومة لاعتبار ملكية العامل له واعتباره في نفسه
وكونه شيئا بحياله وحاصلا من ايجاد الفاعل وهو حاصل عمله لا نفسه. وما تعلق
به التكليف وإن كان الطبيعة لكن الأمر باعث إلى ايجادها بنحو قرر في محله فيجب
عليه ايجادها، وكذا ما هو محل البحث صيرورته أجيرا في الواجب أي في الايجاد
الكذائي; فلو سقطت حرمة عمله من حيث إضافته إلى الفاعل لا محيص عن القول
بالبطلان.
فالأولى في الجواب ما تقدم من أن الإيجاب والالزام لا ينافي بقاء احترامه
وإضافته وصحة الاستيجار عليه.
ومنها ما أفاده بعض أعاظم العصر (1) قال في بيان منشأ بطلان الإجارة على
المحرمات والواجبات ما حاصله: أنه يعتبر في الإجارة وما يلحق بها أمران:

(1) هو المحقق النائيني رحمه الله.
192

الأول أن يكون العمل ملكا للعامل بأن لا يكون مسلوب الاختيار بايجاب أو
تحريم شرعي، لأنه إذا كان واجبا عليه فلا يقدر على تركه وإذا كان محرما عليه لا يقدر
على فعله، ويعتبر في صحة المعاملة كون الفعل والترك تحت اختياره.
الثاني أن يكون العمل ممكن الحصول للمستأجر فلو لم يكن كذلك كما
إذا تعلق تكليف عليه مباشرة فلا تصح الإجارة عليه وإن انتفع به فإن مجرد الانتفاع
لا يصححها فإنه معتبر في جميع المعاملات لاخراجها عن السفهية ثم فرع على ذلك
بطلان الإجارة على الواجبات لفقد الأمرين وعلى المحرمات لفقد الأول منهما.
ويرد على الأمر الأول أنه إن أريد به أن التكليف يسلب الاختيار تكوينا فهو
كما ترى وهو لا يريده جزما، فلا بد وأن يكون المراد بسلب الاختيار أنه بعد الإيجاب
والتحريم ليس مختارا من قبل الشارع في ايجاد الفعل وتركه، أي لا يكون الفعل مباحا
عليه ومرخصا فيه، ويراد بقوله فإذا كان واجبا لا يقدر على تركه أنه لا يجوز تركه
فهو كما ترى مصادرة واضحة فإن المدعى أنه إذا أوجب الله تعالى عملا لا يجوز أخذ
الأجر عليه، والدليل المذكور أنه إذا كان واجبا لا يجوز تركه ويجب اتيانه وليس
مرخصا في فعله وتركه فلا يجوز أخذ الأجر عليه وهو عين المدعى ويطالب بالدليل،
على أنه إذا كان كذلك لم لا يجوز أخذ الأجر عليه، وإن أريد أنه إذا وجب تكليفا
سلبت القدرة الوضعية عنه: فهو أيضا مصادرة واضحة، والانصاف أن هذا لا يرجع.
إلى محصل.
وعلى الأمر الثاني بأن المراد بامكان الحصول للمستأجر إن كان امكان المملوكية
له بمعنى أن يصير العمل أو نتيجته ملكا له كملكية الهيئة الحاصلة بالخياطة ونحوها،
فلا شبهة في عدم اعتبار ذلك في صحة الإجارة، ضرورة صحتها على تعمير المساجد و
الطرق والقناطير وكذا صحتها على عمل للأجنبي.
وإن كان المراد بامكان الحصول له صيرورة العمل ملكا له بمعنى كونه مالكا
للإبراء والالزام: فلا ريب في أن هذا المعنى حاصل له فله ابرائه وإبرامها وفسخها مع
الخيار ولهما الإقالة إلى غير ذلك من أحكام مالكية العمل أو المنفعة، وبابرائه
193

أو فسخها يسقط حقه المعاملي وإن وجب من قبل الشارع ويجب عليه الأمر بالمعروف
بشرائطه.
وإن كان المراد من الحصول امكان تحققه على نحو المعاقدة والمعاملة عليه:
فلا ريب في امكان حصوله له بهذا المعنى فإن من له غرض عقلائي من نفع أو غيره في
وجود عمل صادر من الغير واستأجره علي ايجاده فأوجده على طبق غرضه: فقد
حصل العمل له.
وأما ما قال في خلال كلامه إن مجرد الانتفاع لا يصحح الإجارة (غير وجيه)،
لأن الانتفاع العقلائي الموقوف على وجود عمل في الخارج يصححها كالاستيجار
لتعمير المساجد ونحوه، بل لا يعتبر في صحتها الانتفاع أيضا فإن كان لفعل أثر مورد
لغرض عقلائي يصح الإجارة عليه وإن لم ينتفع المستأجر به فالميزان في صحتها كون
العمل مرغوبا فيه لغرض عقلائي.
ومنها ما عن شرح الأستاذ على القواعد (1): من أن المنافاة بين صفة الوجوب
والتملك ذاتية، لأن المملوك والمستحق لا يملك ولا يستحق ثانيا.
(وفيه) مضافا إلى التنافي بين دعوى ذاتية التنافي بين صفة الوجوب والتملك
الظاهرة في أن التنافي لذاتهما، لا لأمر آخر، وبين تعليله الظاهر في أن التنافي
بين المملوكين والمستحقين بالذات لا بين صفة الوجوب والتملك، وتوجيه كلامه
بأن مدعاه اتحاد ماهية الوجوب والتملك أفحش: أنه إن أراد بما ذكر أن الإيجاب
من الأسباب المملكة فإذا تعلق بعمل يوجب صيرورته للموجب ومع كونه له لا يمكن
جعله لشخص آخر، لعدم امكان كون المملوك مملوكا ثانيا، ففيه منع كونه
مملكا لا عند العقلاء وهو واضح; ضرورة أن الأب أو المولى إذا أمرا بعمل لا يصيران
مالكين له لدى العقلاء بحيث يعدان ذا مال بعهدة الولد والمملوك فصارا مستطيعين
لأجل ذلك وصار المال موروثا إلى غير ذلك من الآثار كإجارته بالغير نحو الدابة
ولا عند الشارع لعدم الدليل على جعل السببية له بل الدليل على خلافه فإن فعل الابن

(1) هو المحقق الأعظم كاشف الغطاء رحمه الله.
194

المأمور به لا يصير ملكا لأبيه بضرورة الفقه.
ولو ادعى الفرق بين أوامر الله تعالى وأمر غيره ففيه ما لا يخفى، لأن الإيجاب
في جميع الموارد بمعنى واحد ولو كان المنشأ له مختلفا، مضافا إلى عدم الدليل
على سببية ايجاب الله تعالى لتملكه الاعتباري ولو قلنا بصحة اعتبار الملكية له تعالى
عند العقلاء بهذا المعنى الاعتباري وسنشير إليه وإلى فساده.
وإن أراد بذلك أن الإيجاب مستلزم لقطع سلطنة المكلف وحدوث سلطنة
للمولى ولا معنى للملكية مع سقوط أنحاء السلطنة عن المالك فإن اعتبار الملكية
عند العقلاء بلحاظ آثارها ومع عدم الأثر مطلقا لا معنى لاعتبارها.
(ففيه) أن المدعى أن كان قطع جميع أنحاء السلطنة ومنها السلطنة على
المعاملة والإجارة فهو مصادرة، لأن الكلام في أنه هل يصح أخذ الأجر على الواجبات
وأن الإيجاب يوجب بطلان الإجارة أو لا، وبالجملة نحن مطالب بالدليل على هذا
المدعى وإن كان المدعى قطع بعض أنحائها وهو عبارة أخرى عن سلب اختياره و
سلطنته تشريعا عن الفعل والترك وهو عبارة أخرى عن الوجوب الرافع للترخيص
فهو بهذا المعنى مسلم لكن لا يوجب سلب الملكية فإن اعتبارها متقوم بترتب الأثر
في الجملة فكثيرا ما سلب بعض أنحاء السلطنة عن المالك مع بقاء ملكيته عند العقلاء
فتحصل مما ذكر عدم المنافاة بين صفة الوجوب والتملك وعدم منشأية الوجوب
لملكية الله تعالى حتى لا تجتمع ملكيته مع ملكية غيره.
وأما ما في تعليقة الطباطبائي (ره) من أن السر في عدم المنافاة: أن ملكية
المستأجر في طول طلب الشارع واستحقاقه، وقد نطقت بامكان الملكية الطولية
الألسن وصار كالأصل المسلم، وقد مثلوا تارة بملكيته تعالى للأشياء وملكية
رسول الله صلى الله عليه وآله والأئمة (ع) لها مع ملكية كل مالك لملكه وأخرى بملكية العبد
والمولي لمال العبد طولا.
(ففيه) أن الطولية المدعاة في المقام عكس الطولية في المثالين، فإن فيهما
يقال: إن الناس مملوكون لله تعالى مع أملاكهم، والعبد وملكه لمولاه، وفي
195

المقام يقال: إن أمر الله تعالى أوجب ملكيته تعالى للعمل والمستأجر ملك ما ملك الله
فالله تعالى ملك ذات العمل والمستأجر ملك المملوك له تعالى، وهو بوصف مملوكيته
في طول الذات.
وأنت خبير بأن هذا النحو من الطولية لا يصحح اعتبار الملكية بل ينافيه وهو
يناقضه، فهل يصح القول بأن الثواب ملك لزيد، وبما أنه ملك لزيد ملك لعمرو،
وهل هذا إلا التناقض في الاعتبار لدى العقلاء والعرف والمسألة عرفية لا عقلية لا بد
في حلها من المراجعة إلى الاعتبارات العقلائية، لا الدقائق العقلية مع أن مثل هذه
الطولية لا يدفع به التنافي في العقليات أيضا فهل يمكن تحريم شئ وايجابه بوصف
كونه محرما عقلا.
مضافا إلى أن الطولية في المثالين أيضا مما لا أصل لها، فإن ملكيته تعالى
للأشياء بهذا المعنى الاعتباري المبحوث عنه في مثل المقام غير ثابتة، بل لا معنى
لها، فهل ترى من نفسك أنه تعالى ملك الأشياء بهذا المعنى المعروف مع أن لازمه
أنه لو وهب بتوسط نبي من أنبيائه شيئا من عبده: سقطت ملكيته وانتقلت إلى
العبد، فلو كان سبيل ملكيته للأشياء ما لدى العقلاء لا بد من الالتزام بآثارها
وهو كما ترى.
والظاهر أن أولوية التصرف والسلطان على التصرفات الثابتة لله تعالى عقلا و
للنبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام بجعله تعالى: أوجبت توهم كونهم مالكين للأشياء تلك
المالكية الاعتبارية، والسلطنة على سلب الملكية واقرارها غير الملكية كما نشاهد
في السلاطين العرفية والقوانين العقلائية، فإن السلطان مثلا ليس مالكا للأشياء بحيث
لو مات صارت جميع ما في مملكته إرثا لوارثه ويكون السلطان مستطيعا باعتبار ملك
رعيته، بل يكون الملك للرعية والسلطان أولى بالتصرف.
فلله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وآله وللأئمة سلاطين البشر سلطنة على النفوس والأموال
من غير أن تكون الأموال ملكا اعتباريا لهم بحيث لو باعوا سلبت منهم الملكية
والسلطنة.
196

وأما العبد وملكه فمسألة مشكلة يقع الكلام فيها تارة في صحة مالكيته و
أخرى في كيفية مالكية المولى لما له على فرض مالكيته هل هو نظير مالكية أولي الأمر أو نحو آخر فلا يصح جعل ما هو مشكل ومحل كلام شاهدا على غيره، ولا حل
مشكلة بمشكلة.
وأما قضية مالكيته تعالى بالإضافة الاشراقية التي قد يرى ادخالها في تلك
المسائل فأمر غير مربوط بالمالكية المبحوث عنها في مثل المقام، وعلى المحصل
أن يجتنب من ادخال مسائل غير مربوطة بالفقه فيه، إذ في اختلاط العقليات سيما
مثل تلك المسائل الغير المنحلة عند أهلها بالعرفيات مظنة اعوجاج أذهان المشتغلين
واغتشاش أفكارهم، ولهذا ترى مقايسة بعضهم (1) الملكية الاعتبارية العقلائية بالإضافة
الاشراقية، وتوهم أن مالكيته تعالى بتلك الإضافة.... تجتمع مع مالكية المخلوقين
فلا محالة تجتمع مالكتيان اعتباريتان طولا غفلة عن أن القياس مع الفارق، فالمخلوق
لله تعالى يمكن أن يكون مملوكا اعتباريا لغيره، والمملوك الاعتباري لشخص لا يعتبر
مملوكا لآخر لدى العرف والعقلاء.
وأعجب منه قياس الملكيتين المستقلتين على مملوك واحد باجتماع أوصياء
ووكلاء متعددين على شئ واحد مستقلا فيهما، مع أن الفارق لدى العرف والعقلاء
أوضح من أن يخفى، فإن الملكية نحو إضافة لازمها اختصاص المال بالمالك أو
نحو اختصاص له به وكون شئ بكليته ملكا مختصا بأكثر من واحد تناقض في
الاعتبار.
وأما استقلال التصرف اللازم للوصية ليس إلا نفوذ تصرفه بلا احتياج إلى ضم نظر آخر
وإجازته فلو باع أحد الوصيين أو الوكيلين جميع دار من رجل وباع الآخر جميعها من آخر
فهل يمكن القول بحصتهما وعدم تعارضهما فلولا التنافي بين الملكيتين المستقلتين
على شئ واحد لم يقع التعارض بينهما، فلا بد من القول بوقوعهما صحيحين وكل منهما
صار مالكا لجميعه وهو كما ترى واضح الفساد وليس ذلك إلا لوضوح التنافي

(1) هو المحقق الشيخ محمد حسين الأصبهاني رحمه الله.
197

المذكور لدى العرف والعقلاء فقياس ملك التصرف مع ملك العين مع الفارق والسند
حكم العرف.
ومنها ما تمسك به النراقي قال ما محصله: وإن كان واجبا مطلقا أي غير متقيد
بأخذ الأجر عليه لا يجوز أخذ الأجر عليه وإن كان فيه منفعة للمستأجر كانقاذ ولده
لأن ايجاب الله على الأجير تمليك للمستأجر، ولأن منافع العبد ملك الله تعالى وهو
وإن أذن له أنحاء التصرفات إلا أن ايجابه لفعل يوجب عدم إذنه في التصرف وأخذ
العوض بل الإيجاب تفويت تلك المنفعة وطلبها لنفسه واخراجها من يده ومن كونها
مملوكة له " انتهى ".
(وفيه) بعد الغض عن التنافي بين صدر كلامه وذيله كما يظهر بالتأمل، وبعد
الغض عن أن دليله الأول أخص من المدعى، لعدم كون جمع الواجبات التي فيها نفع
للمستأجر; مثل انقاذ ولده الذي ربما يتوهم تمليك المنفعة له، ضرورة أن مثل
الحج واجب إلهي لا يتوهم أن يكون ايجابه على المكلف تمليكا لمن لا نفع فيه:
أن ايجاب الله ليس تمليكا بوجه حتى في مثل انقاذ الغريق ولا جعل حق حتى في مثل
تجهيز الميت، بل وجوبهما حكم شرعي محض ولهذا لا يترتب عليها شئ من
أحكام الملك والحق، فلا يجوز الاعراض والاسقاط، ولا النقل، ولا سائر التصرفات
المربوطة بالملك والحق ويجوز بل يجب الانقاذ بلا إذن الغريق ووالده ومع نهيهما
ودعوى أن منافع العبد مملوكة لله لا للعبد وإن أجاز التصرف فيها الملازمة
لدعوى أن جميع الأعيان الخارجية أيضا كذلك غريبة منه، ومخالفة لضرورة الفقه
من مملوكية الأعيان والمنافع للناس (نعم) وقع الكلام في أن عمل الحر قبل الإجارة
ملك له أو لا وهو أمر آخر غير ما يدعيه.
وأما سائر دعاويه كقوله: إن ايجابه يوجب عدم إذنه في التصرف وأنه تفويت
المنفعة وأنه طلب لنفسه وسلب المملوكية عن العبد، فكلها مصادرات إن كان
المراد من سلب الإذن وغيره الأعم من الوضعيات وغير مفيدة لو لم يرد الأعم.
198

ثم إن هناك الاستدلالات ضعيفة لا يحتاج في دفعها إلى زيادة مؤنة من عدم ترتب
آثار الملك على العمل من الابراء والإقالة، ومن لغوية بذل العوض بما يتعين على
الأجير، ومن أن الواجب تعود منفعته إلى الأجير، فأخذ الأجر عليها أكل للمال
بالباطل، ومن أن أدلة إنفاذ العقود قاصرة عن الشمول للمورد أو شك في شمولها، و
من أن المتبادر من ايجاب شئ طلبه مجانا إلى غير ذلك.
ويمكن الاستدلال على المطلوب بأن جل الواجبات العينية التعيينية كالصلاة
والصوم والحج ونحوها اعتبر فيها مضافا إلى أصل الوجوب كونها على ذمة العبد
نحو الديون الخلقية.
أما الحج فلظاهر قوله تعالى ولله على الناس حج البيت (1) (الخ) فإن اعتبار
" له " عليه غير اعتبار الإيجاب وقد ورد في روايات اطلاق الدين عليه كرواية
الخثعمية وغيرها.
ومن الممكن استفادة هذا الاعتبار من قوله تعالى كتب عليكم الصيام كما
كتب على الذين من قبلكم (2) ومن قوله تعالى إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا
موقوتا (3) " تأمل " مع أن وجوب قضاء الواجبات أقوى شاهد على ذلك الاعتبار فإنه
لو كان الحج مثلا واجبا عليه تكليفا محضا بلا اعتبار كونه عليه لما كان معنى لقضائه
عنه بعد موته، لأن التكليف ساقط عنه بل غير متوجه به، فلا بد وأن يكون في
عهدته شئ لم يسقط عنه بسقوط التكليف وسقط باتيان الغير كالولد الأكبر وغيره
وليس إلا اعتبار أمر وضعي وكون تلك الواجبات دينا عليه، ولا محالة يكون الدائن
الطالب هو الله تعالى.
إلا أن يقال بمقالة علم الهدى: من أن القضاء ليس نيابة عن الميت وإنما هو
واجب أصلي خوطب به القاضي وسببه فوات الفعل من الميت والميت لا يثاب عليه.

(1) سورة آل عمران - الآية 91.
(2) سورة البقرة الآية 179.
(3) سورة النساء الآية 104.
199

وهو كما ترى بل لا بد من تأويل كلام السيد كما أوله بعضهم وكيف كان يظهر
مما مر أن الأعمال الواجبة ملك الله تعالى ودين على العبد فلا يجوز إجارة نفسه لما
لا يملكه، ويكون ملكا للغير.
ثم إن الاعتبار المذكور إنما يكون في النذر بجعل العبد لله على نفسه وتنفيذه
تعالى وباب الكفارات المعينة كلها من قبيل الدين وفي المخيرة اشكال عقلي قابل
الدفع بتصوير جامع اعتباري أو انتزاعي وليس الكلام ههنا في الواجب التخييري
ويأتي الكلام فيه.
فاتضح مما ذكر وجه عدم جواز أخذ الأجر على الواجبات التي بتلك المثابة.
ففي الزكاة والخمس لا بد وأن تؤديان بعد الموت بعنوانهما مع ما يعتبر فيهما فيستكشف
منه أن نفس العمل الواجب اعتبرت فيه العهدة والدينية ويلحق بها ما ليس كذلك لعدم
القول بالفصل " تأمل ".
بل يمكن دعوى منافاة أخذ الأجرة على الواجب العيني التعييني في ارتكاز
المتشرعة ولعل الوجوه التي تشبث بها الأعاظم والمحققون مع ضعفها كما مر:
تشبثات بعد الفراغ عن عدم الجواز في ارتكازهم مع أنه لم ينقل الجواز في الواجب
المذكور من أحد وإنما نقل الخلاف في الأجر على القضاء ونحوه ما الكفائيات، و
التعين فيها في بعض الأحيان عقلي لا شرعي فالمسألة مظنة الاجماع فالأقوى فيما يعتبر
فيه العهدة والذمة عدم الجواز وفي غيرها هو الأحوط بل لا يخلو من قوة.
ثم إن بما ذكرناه يظهر الكلام في الواجب التخييري ولا بد من تمحيض
الكلام فيه من وقوع الإجارة على الواجب، فالقول بالصحة فيما إذا وقع العقد على
خصوصية متحدة مع الواجب لا عليه: أجنبي عن محط الكلام.
وتوجيه كلام الشيخ في الواجب التخييري بأن مراده الوقوع على الخصوصية
غير مرضي فإنه خروج عن البحث لا تفصيل بين التخييري وغيره، بل التفصيل بين
التعييني والتخييري سواء كان التخيير شرعيا أو عقليا مقتضى الدليل الذي تمسك
به في اثبات عدم الجواز من سلب احترام عمله لأجل أن استيفائه منه لا يتوقف على
200

طيب نفسه، لأنه يقهر عليه مع امتناعه واحد أطراف التخييري ليس كذلك فبقي
على احترامه.
نعم لو ضاق الوقت أو عجز إلا عن أحد الأطراف بحيث يتعين عليه الاتيان
به: كان مقتضى دليله عدم الجواز لسلب احترامه، وأن استيفائه لا يتوقف على طيب
نفسه، كما أن التفصيل المذكور لازم الاستدلال على المطلوب بأن الوجوب الشرعي
موجب لسلب قدرة العبد واختياره كما لا يخفى.
وأما بناء على ما ذكرناه من أن الواجبات التي اعتبر فيها الدينية والملكية
للواجب تعالى: لا يجوز الأجر عليها، فلا يفترق بين التخييري والتعييني، فإن
الإجارة على أحد الأطراف في التخييري الشرعي بحيث يكون مورد الإجارة هو الواجب
إجارة على عمل ملكه الله تعالى، لأن كل طرف من طرفي التخيير إذا وجد يكون
ملكا له وكذا لو أجره على اتيان واجب في مكان كذا أو زمان كذا أو غيرهما من
الخصوصيات في التخيير العقلي لأن العمل الخاص ملك له تعالى وإن اكتنف على أمر
زائد والإجارة على ملك الغير المتخصص بخصوصية زائدة: باطلة.
وبالجملة الإجارة إما وقعت على الخاص أو على الخصوصية فعلى الأول باطلة
لوقوعها على ملك الغير وعلى الثاني خروج عن محط البحث.
نعم هنا كلام آخر وهو تصوير الملكية في الواجب التخييري وأنه هل يمكن
ملكية الأمر المردد أو لا.
أقول إن قلنا بأن الملكية بما أنها من الأمور الاعتبارية لا تحتاج إلى محل
معين موجود كالأعراض الخارجية المحتاجة إلى المحل كما ذهب إليه شيخنا الأنصاري
واستشهد عليه بتصريح الفقهاء بصحة الوصية بأحد الشيئين بل لأحد الشخصين فلا
كلام. وإن قلنا بعدم امكانه فيمكن أن يقال: إن اعتبار الدينية أو الملكية في
الواجبات ليس من قبيل الانتزاع من الوجوب حتى يتبعه في اللوازم بل لو كان منتزعا
من التكليف لكان اللازم سقوط بسقوطه مع ثبوت الدين حتى مع سقوط الوجوب
بموت: وتخيل كون الوجوب واسطة في الثبوت لا العروض: باطل، لأن المورد ليس
201

من قبيله بل الانتزاعيات تابعة لمنشأ انتزاعها ثبوتا وسقوطا، مضافا إلى أن
الدينية والمكية لو كانتا منتزعتين من التكليف لكان اللازم انتزاعهما
من كل تكليف وهو واضح الفساد، وكذا الحال لو كان الوجوب
واسطة للثبوت أو العروض فالوساطة ومنشأية الانتزاع فاسدتان، مع أنه يكفي في المقام عدم الدليل على الانتزاعية فإذا لم يثبت ذلك يمكن أن تكون
الملكية معتبرة بعنوان واحد هو جامع حقيقي بينها أو انتزاعي مع فقد الحقيقي
كصاع من صبرة بنحو الكلي في المعين لا بنحو الفرد المردد، وبالجملة مع قيام الدليل
على اعتبار العهدة والدينية في واجب تخييري كالتخييريات، في باب الكفارات بل و
كالصلاة في الأماكن الأربعة بما ذكرناه من الوجه في ملكية المذكورات لله تعالى
ودينيتها: لا يجوز رفع اليد عنه إلا مع قيام الدليل على الامتناع، ومع احتمال الامكان فالدليل
متبع، مع أن الامكان فيها ثابت، ففي الكفارة المرتبة والمخيرة معا ككفارة حنث
اليمين حيث يجب فيه عتق رقبة أو اطعام عشرة مساكين أو كسوتهم مخيرا بينها فإن
عجز عن الجميع فصيام ثلاثة أيام: يمكن جعل عنوان واحد منها القابل للصدق على كل
منها كالصاع من الصبرة على القادر وعلى العاجز عنها صيام ثلاثة أيام، وقس عليه غيره
مما هو أخف مؤنة في الاعتبار.
ومما ذكرناه يظهر الكلام في الواجب الكفائي من حيث امكان اعتبار العهدة
والدينية فإنه لو قلنا فيه بأنه واجب على كل مكلف وإن سقط عنهم بايجاد واحد منهم
فلا اشكال في صحة اعتبار العهدة عليهم والسقوط بأداء بعضهم.
وإن قلنا بأن المكلف فيه واحد من المكلفين القابل للانطباق على كل مكلف
في الخارج وإن لم يكن الانطباق إلا بنحو التبادل بمعنى أنه لا يجب عليهم عرضا كالصاع
من الصبرة المبتاع فإنه منطبق على كل صاع من صيعان الصبرة لكن المملوك ليس
إلا صاعا واحدا فهو منطبق على كل تبادلا (نعم) قد يكون المكلف في الكفائي واحدا
بشرط لا وقد يكون لا بشرط والفرق واضح، فاعتبار العهدة والدينية أيضا مما لا
اشكال فيه.
202

وتوهم أن الواحد العنواني كلي وهو غير قابل التوجه التكليف إليه (فاسد) لأن
صحة التكليف تابعة لقابليته للبعث والانبعاث، وما تعلق بالعنوان القابل للانطباق
على الخارج قابل له، بل التكاليف كثيرا ما تتعلق بالعناوين كقوله: لله على الناس،
بل في مثل قوله: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود، يكون التكليف متعلقا
بعنوان قابل للانطباق على الأفراد في عمود الزمان وكثير من تكاليف أهل العرف
كذلك، فيقول المولى لعبيده: فليفعل واحد منكم كذا، ومعلوم لدى العقل والعقلاء
أنه لو ترك الجميع الأمر المتعلق بواحد عنواني يكون الجميع مستحقا للعقوبة
لانطباقه على كل منهم تبادلا.
نعم لو قلنا بأن الواجب الكفائي نظير الواجب التخييري أو نظير الفرد المنتشر
ففي صحة العهدة تأمل واشكال وإن كان مقتضى كلام الشيخ الأعظم في نظيره
صحة الاعتبار.
وكيف كان لو اعتبرت في الكفائي العهدة والدينية يكون الكلام فيه كالعيني
فإن المفروض وقوع الإجارة على الواجب ومع كون العمل ملكا لله تعالى لا يصح
تمليكه لغيره، لكن ليس في الواجبات الكفائية ظاهرا ما يعتبر فيها العهدة والدينية
لله تعالى، ولا جعل استحقاق وعهدة لغيره، وقد مر أن تجهيز الميت وكذا انقاذ
الغريق بل وطبابة الطبيب ليست من هذا القبيل، وليس فيها من آثار الحق والملك
شئ، فالأقوى صحة الاستيجار في الكفائيات إلا أن ثبت في كفائي اعتبار الملكية
له تعالى أو لغيره.
تنبيه
وبما ذكرناه ظهر الكلام في الواجبات النظاميات على فرض تسليم كونها
واجبات فإن وجوبها لا يقتضي الدينية والعهدة لأحد، لا لله تعالى ولا لغيره كما
تقدم، ولا دليل على اعتبارها زائدة على الوجوب، فمقتضى القاعدة جواز أخذ الأجر
عليها من غير ورود اشكال ولا شبهة نقض لما ذكرناه، لكن الشأن في أن حفظ النظام
203

واجب أو الاخلال به حرام وعلى الثاني يكون ما هو الجزء الأخير من العلة التامة
للاخلال محرما بناء على حرمة مقدمة الحرام، فلو كان ذلك ترك ما يتوقف عليه
النظام يكون ذلك الترك محرما ومع اقتضاء حرمة الشئ وجوب ضده العام يكون
الفعل واجبا، وعلى الأول يجب ما يتوقف عليه النظام بناء على وجوب المقدمة لكن
التحقيق عدم وجوب المقدمة مطلقا، وعدم اقتضاء الأمر بالشئ النهي عن ضده العام
ولا عن ضده الخاص، وعلى فرض وجوبها واقتضائه لا يكون في التكليف التوصلي
اعتبار الدينية، ولو فرض الاعتبار أو الانتزاع في غيره والاعتبار الخارج المستقل:
غير ثابت.
وتوهم أن المستحق لتلك الواجبات النظامية من وجب النظام له (غير وجيه)
ضرورة عدم ترتب أثر من آثار الحق فيها كالنقل والاسقاط والاحتياج إلى الإذن ونفوذ
النهي عن التصرف وغيرها فهي على فرض وجوبها واجبات شرعية لغرض متعلق
بحفظ النظام أو لمبغوضية اختلاله.
وكيف كان فنحن في فسحة من الاشكال المعروف، وكذا من كان اعتماده
في حرمة أخذ الأجرة على الواجبات على أمر تعبدي كالاجماع، لكن لا بد للمتمسك
بالوجوه الأخر كالوجوه العقلية من الدفاع عن الاشكال وبيان وجه التفرقة بينها و
بين غيرها، ومع عدم صحة الدفاع يعلم بطلان الوجه المتشبث به إذا لا يمكن القول
بالاخراج تخصيصا. وقد ذكروا للتخلص وجوها.
منها ما ذكره بعض الأعاظم (1) قال عقيب ما ذكره من اعتبار أمرين في الإجارة
ونحوها، أحدهما أن لا يكون الأجير مسلوب الاختيار بايجاب أو تحريم شرعي وثانيهما
أن يكون العمل ممكن الحصول للمستأجر كما تقدم الكلام فيهما ما حاصله: أن
الواجبات النظامية ما عدا القضاء يجوز أخذ الأجر عليها لحصول الشرطين، أما
الثاني فواضح.
وأما الأول فلأن الواجب في النظام المعنى المصدري كالطبابة وما تقع بإزائه الأجرة

(1) هو المحقق النائيني رحمه الله.
204

هو حاصل المصدر لأنه مال لا المصدر الذي معنى آلى هما وإن كانا متحدين خارجا
إلا أنهما مختلفان اعتبارا فللشارع تفكيكهما وايجاب المصدر واعتبار ملكية اسمه،
والواجبات النظامية كذلك إلا القضاء، فإن التكليف تعلق بنتيجة عمل القاضي وهو
فصله الخصومة فلا يجوز أخذ الأجر عليه وأما المصدر فليس بمال.
وكيف كان لو وجب بذل العمل وحرمة احتكاره يجوز أخذ الأجر عليه ولو
وجب نتيجة العمل عليه فلا يجوز، لأن المصدر آلى غير مالي واسمه خارج عن ملكه
ونظير الأعمال في الشقين الأموال، فإنه قد يتعلق تكليف أو وضع بنفس الملك كباب
الخمس والزكاة فلا يجوز أخذ العوض عليه وقد يتعلق تكليف بالتمليك و
الاعطاء فيجوز كوجوب بيع الطعام في المخمصة. فإن التكليف حرمة حبسه و
احتكاره الطعام ولم يتعلق بنفس المال " انتهى ".
(وفيه) مضافا إلى أن امكان الحصول الذي ادعى الظهور فيه: غير ظاهر بالمعنى الذي
تقدم منه فإنه اعتبر فيه زائدا على الانتفاع بالعمل حصول العمل له، وبهذا المعنى
لا يكون امكانه ظاهرا في الواجبات النظامية. فإن المعنى المصدري وكذا حاصله
أمر غير باق وغير حاصل للمستأجر، والانتفاع بهما وإن كان ممكنا له لكنه أنكر
كفاية الانتفاع في الصحة والبقاء الاعتباري في حاصل المصدر مشترك بين الواجبات
النظامية وغيرها فلا بد له من القول بالصحة مطلقا. وأثر العمل كالهيئة في المخيط
وإن كان حاصلا له لكنه ليس مورد الإجارة لأنه ليس مصدرا ولا حاصله كما هو واضح
مضافا إلى أن الأثر حاصل له في بعض الواجبات الغير النظامية كقرض الكفن
وحفر القبر فيما إذا كان واجبا على شخص تعيينا ولو عقلا، وكذا لو كان للصلاة و
غيرها أثر باق حاصل للمستأجر كتعلم أجزائها وكيفيتها فلا بد له من القول بالصحة
فيها أو عدم المانع من هذه الجهة: أن التكليف في جميع الموارد متعلق بالمصادر
لا بأسمائها ونحن وإن قلنا في محله بأن الأوامر متعلقة بالطبايع مقابل من قال
بتعلقها بالايجاد لكنه كلام آخر وفي مقام آخر إذ لا شبهة في أن مفاد الهيئة ايقاع
البعث إلى المادة وهي نفس الطبيعة والبعث إليها تحريك إلى تحصيلها وهو ملازم
205

لايجادها عرفا وعقلا; لأن الطبيعة ليست طبيعة بالحمل الشايع إلا بالوجود وبالآخرة
يتعلق التكاليف بأفعال المكلفين سمي ايجاد الطبيعة أو تحصيلها.
فما قال في جملة من كلامه إن التكليف لو تعلق بحاصل المصدر فكذا:
ليس على ما ينبغي، لأن حاصل المصدر ليس مورد تعلق التكاليف كما أن الإجارة
في الأعمال تتعلق بأعمال المؤجر لا بحاصل المصدر واسمه فإنه مع قطع الإضافة
عن الفاعل ليس قابلا للاستيجار لكونه مستقلا غير مربوط بالفاعل، مع أن الاشكال
في المقام هو قيام الضرورة والسيرة على الاستيجار بالنحو المتعارف في الواجبات
النظامية ولا معنى لتصحيح أمر متخيل غير منطبق على ما في يد المسلمين والجامعة
البشرية.
ومن الواضح أن الإجارة وقعت وتقع على الأعمال بالمعاني المصدرية
فيستأجر الخياط ليخيط له، والصباغ ليصبغ وهكذا فحاصل المصادر ونتائج الأعمال
وآثارها كلها خارجة عن محط الإجارة وهو واضح جدا.
وأما مالية الأعمال كمالية حاصل المصادر ونتائج الأعمال ليست ذاتية بل
يعتبرها العقلاء باعتبار تعلق الأغراض العقلائية بها، فالأعمال بالمعنى المصدري أموال
لتعلق الرغبات والأغراض بها.
وإن شئت قلت إن في الأعمال كالخياطة والنجارة وغيرهما أمورا ثلاثة، المصدر
وحاصله، وهما متحدان وجودا ومختلفان اعتبارا والأثر المرتب عليه المعلول له،
والأولان موجودان متصرمان متقضيان لابقاء لهما إلا بالاعتبار في بعض الأحيان،
والثالث ربما يكون من الموجودات القارة الباقية.
فما وقع لدى العقلاء مورد الإجارة هو الشخص باعتبار عمله بالمعنى المصدري و
مفاد الإجارة أو لازمها انتقال عمل المؤجر إلى المستأجر أي عمله بالمعنى المصدري; وهذا
بعينه متعلق التكليف سواء كان الشئ من النظاميات أو غيرها أو من قبيل القضاء أو غيره.
فالواجب على القاضي الحكم والقضاء بالمعني المصدري وهو الفاصل للخصومة أو
الواجب فصلها وكلاهما فعلان اختياريان، لكن الأول بلا وسط والثاني مع الوسط.
206

وأما حاصل المصدر ونتائج الأعمال أي آثارها فلم يقعا مورد الإجارة بل لا معنى
له كما هو واضح. وأما المالية فلا يعقل أن تكون في اسم المصدر لا في المصدر فإنها
قائمة اعتبارا بالأشياء في الوجود الخارجي أو بلحاظه، والفرض أن المصدر واسمه
شئ واحد خارجا وحقيقة فكيف يعقل أن يكون الشئ الواحد مالا وغير مال في
ظرف وحدته. فكأنه وقع الخلط بين المصدر واسمه وبين العمل وأثره.
ثم لو سلمنا ما ذكره كان لازمة تصحيح إجارة مطلق الواجبات، نظامية كانت
أو غيرها، ضرورة أن التكاليف الشرعية متعلقة بأعمال المكلفين بالمعنى المصدري
ولو قيل بصحة تعلقها بحاصل المصدر لكنه يحتاج إلى دليل وإلا فظاهر الأدلة ما ذكر
فحينئذ مورد تعلق التكليف غير مورد تعلق الإجارة، لأن موردها بزعمه هو حاصل
المصدر أو نتيجة العمل وهما غير متعلقين للتكليف فلو فرض أن يكون شئ منها
متعلقا لغرض العقلاء لا بد من القول بصحة الإجارة عليه. وحديث عدم الحصول
للمستأجر قد مر ما فيه بل لازم كلامه أن يكون الاستيجار للمحرمات صحيحة لولا
دليل آخر غير ما تشبث به " فتدبر ".
وبما مر من البيان تظهر الخدشة في وجه افتراقه بين التكليف في باب
الخمس والزكاة وبين التكليف في باب المخمصة بأن في الأول تعلق بالملك وفي
الثاني بالاعطاء لما مر من عدم معنى لتعلقه بغير أعمال المكلفين ففي قوله تعالى
: آتوا الزكاة كقوله: أقيموا الصلاة: تعلق التكليف بالايتاء والإقامة بالمعنى
المصدري. فمتعلق التكليف في باب الزكاة والخمس وباب الاعطاء في المخمسة
شئ واحد والاختلاف بينهما في أمر آخر. وهو أن ما وراء التكليف في باب الزكاة
والخمس يكون اعتباران آخران.
أحدهما جعل عشر الأموال الزكوية وخمس الغنائم لأربابهما بنحو الإشاعة
كما هو الأقوى أو بغيره، أو بنحو جعل الحق كما قيل.
وثانيهما اعتبار العهدة والدينية في نفس التكليف على الظاهر ولهذا لا يصح
بيعهما ولا يصح أخذ الأجرة على اعطائهما ولم يعتبر شئ منهما في باب المخمصة
207

فيصح بيع المال من المضطر والاعطاء بضمان بل لا يبعد صحة أخذ الأجر على الاعطاء على اشكال.
ومنها ما أفاده الشيخ الأنصاري (قده) من التفصيل بين الواجب العيني وبين
الواجب الكفائي فمنع أخذ الأجرة على الأول دون الثاني وجعل من الثاني أخذ
الطبيب الأجرة على حضوره عند المريض إذا تعين على علاجه، فإن العلاج وإن كان
معينا عليه إلا أن الجمع بينه وبين المريض مقدمة للعلاج واجب كفائي عليه وعلى
أوليائه ومن الأول أخذها على بيان الدواء إذا تعين عليه فلا يجوز.
وأنت خبير بأن ما ذكره ليس حلا للاشكال الذي وقعنا فيه من أن الشهرة و
السيرة على جوازه في الواجبات النظامية مطلقا من غير تفصيل بين التعين بالعرض
وغيره، ضرورة أن بناء العرف من المتشرعة وغيرهم على أخذ الأجرة واعطائها
بإزاء الطبابة والعلاج لا على محض الحضور (نعم) مع حضوره عند المريض يتزايد
الأجر.
قلت إن السيرة مستقرة في الواجبات الكفائية، ضرورة أن النظام
قائم فعلا، والقائم بأمره لا ينحصر حتى يتعين عليه، والطبيب غير منحصر فلا يتعين عليه.
قلت كلا فإن في هذا العصر الذي كثر فيه الأطباء كثرة مدهشة لا يكون
في غالب القراء وكثير من صغار البلاد إلا طبيب واحد أو كحال كذلك، وكذا سائر
من قام به النظام، وكثيرا ما يتعين على الطبيب العلاج ولا يمكن للمريض وأوليائه
الارجاع إلى الخارج ولا احضار الطبيب منه ومع ذلك لا يختلج في ذهن أحد من
المسلمين إلا من شذ ممن له حظ من العلم عدم جواز أخذ الأجر على طبابته بل لو تفوه
أحد بذلك يعد من المنكر.
هذا حال عصرنا فكيف بسائر الأعصار الغابرة التي قل فيها الطبيب فضلا عن
المتخصص وكذا الحال في سائر ما يحتاج قيام النظام إليه.
والانصاف أن ما ذكره قدس سره مجرد تصور غير مطابق للواقع ولا دافع للاشكال لكن
مع الغض عنه لا يرد عليه ما أورد عليه بعض أهل التحقيق (1) من أن المتعين على الطبيب

(1) هو المحقق المدقق الحاج الشيخ محمد حسين الأصبهاني ره.
208

إن كان الطبابة فلا يعقل أن تكون مقدماتها واجبا كفائيا، ضرورة أن المقدمة
تابعة لذيها فلا يعقل وجوب ذي المقدمة تعينا على أحد ووجوب مقدماتها كفائيا،
وإن كان الواجب العلاج فيجب على الطبيب باعلام الدواء وعلى الأولياء بالاستعلام،
فهنا واجبان تعينيان ولكل مقدمات تجب تعينا عليه فلا وجوب كفائيا " انتهى ملخصا ".
(وفيه) أن الواجب النفسي في المثال حفظ النفس وهو واجب كفائي وله مقدمات
منها العلاج أي بيان الدواء وهو متعين على الطبيب كما صرح هو به في أسطر قبل
ذلك، وعليه لو قلنا بأن الوجوب المقدمي مترشح من ذي المقدمة على جميع المقدمات
الطولية والعرضية أي المقدمات ومقدمات المقدمات في عرض واحد، لأن الملاك
متحقق في كلها: فلا يلزم من تعين بعض المقدمات على بعض المكلفين تعين
مقدمات مقدماتها عليه فإذا وجب حفظ النفس وجوبا مطلقا علي جميع المكلفين
كفاية اجتماعا أو انفرادا ترشح منه على مبنى القوم وجوبا مقدميا علي جميع
المقدمات كالعلاج ومقدماته وهكذا ومع تعين بعض المقدمات على بعض عقلا
لعجز غيره لا تتعين مقدمات أخرى عليه سواء كانت مقدمات بلا وسط أو معه.
نعم لو قلنا بأن ترشح الوجوب من ذي المقدمة إلى المقدمات طولا بمعنى أن
الوجوب مترشح منه إلى المقدمة بلا وسط ومن المقدمة إلى مقدمتها وهكذا، و
يكون الوجوب المقدمي في مقدمة المقدمة تابعا للمقدمة في الكفائية والتعينية.
لكان للاشكال وجه لكن المبنى غير وجيه.
هذا على مسلك القوم من ترشحية وجوب المقدمة عن ذيها قهرا وعلية وجوبه
لوجوبها ولكن على مذهبنا من أن الوجوب المقدمي على فرضه مجعول اختياري
متوقف على مقدمات ومباد كوجوب ذي المقدمة: يقع الكلام على طور آخر ولعل
لازمه عدم لزوم تبعية وجوب المقدمة لذيها في بعض الأطوار.
ثم إن الشيخ الأنصاري تعرض لنقوض أخر غير الطبابة بعضها مربوط بالمقام
وبعضها بالتعبديات منها جواز أخذ الوصي الأجرة على تولي أموال الطفل الموصى عليه
209

حتى فيما تعين عليه العمل فأجاب عنه سابقا بأنه لا ينافي ما ذكرنا حكم الشارع بجواز
أخذ الأجرة بعد العمل عليه كما أجاز للوصي أخذ أجرة المثل أو مقدار الكفاية لأن هذا
حكم شرعي لا من باب المعاوضة.
وقال في المقام: وأما أخذ الوصي الأجرة على تولي أموال الطفل فمن جهة
الاجماع والنصوص المستفيضة على أن له أن يأخذ شيئا، وإنما وقع الخلاف في تعيينه
فذهب جماعة إلى أن له أجرة المثل حملا للأخبار على ذلك، ولأنه إذا فرض احترام
عمله بالنص والاجماع فلا بد من كون العوض أجرة المثل. وبالجملة فملاحظة النصوص
والفتاوى في تلك المسألة ترشد إلى خروجها عما نحن فيه " انتهى ".
أقول توهم بعضهم (1) المناقضة بين هذا ودليله السابق فإن مبنى السابق على أنه حكم شرعي لا من باب العوض واعترف في المقام باحترام عمله بالنص والاجماع
فالعوض أجرة عمله بل هو مناقض لأصل دليله على حرمة أخذ الأجر على الواجبات
حيث تمسك بعدم حرمة العمل المتعلق للوجوب.
ويندفع بأن ما اعترف به هو قيام الاجماع والنصوص على أصل الأخذ وأما
كونه على وجه أجرة المثل فلم يعترف به بل حكاه عن جماعة في تعيين مقداره
وأن له أجرة المثل للأخبار ولاحترام عمله ولم يظهر ارتضائه لذلك، بل قوله: و
بالجملة فملاحظة النصوص (الخ) ظاهر في أن مدعاه خروجها تخصصا لا تخصيصا فيرجع
هذا إلى ما سبق منه هذا ولكن الشأن في أن الشارع المقدس إن جعل الأجر بإزاء
عمله فقد أذن في أكل المال بالباطل وهو لا يلتزم به، والقول بأنه أجاز الأخذ
مجانا وبلا عوض وبلا لحاظ عمله خلاف الضرورة مع أنه أيضا من قبيل إجازة أكل المال
بالباطل.
وقد تصدى بعض المحققين (2) لدفعه بما حاصله: أن المقصود نفي اعتبار
المعاوضة المالكية بين عمل الوصي بعد وجوبه عليه وبين ما رخص في أكله من مال

(1) هو المحقق الحاج الشيخ محمد حسين الأصبهاني رحمه الله.
(2) هو العلامة الميرزا الشيرازي الثاني رحمه الله.
210

الصغير بل اعتبار العوضية إنما هو في نظر الشارع قبل وجوبه، والوجوب و
الرخصة متفرعان عليه، فاعتبار العوضية قبل تعلق الوجوب وبهذا اللحاظ ليس
أكلا للباطل.
(وفيه) أن اعتبار العوضية لشئ يكون في ظرف تحققه مسلوب المالية أكل
للمال بالباطل، وماليته قبل تعلق الوجوب عليه مع الاشكال فيها كما يأتي، وكذا
صالحيته لها في نفسه لا تصحح العوضية ولا تدفع بها الاشكال، وبالجملة أن الترخيص
في أخذ المال إن كان بلا عوض ومجانا وعلى صرف التعبد فهو مع كونه خلاف القطع
مرجعه إلى الإذن في أكل المال بالباطل; وإن كان بلحاظ العمل الخارجي فالمفروض
أنه خارج عن المالية بالايجاب، وإن كان بلحاظ العمل تعلق الوجوب فهو غير متحقق
ولا يكون ما لا قبل تحققه لكون المفروض أن في ظرف تحققه لا مالية له، وما كان
كذلك لا يعقل اعتبار ماليته قبل تحققه.
والانصاف أن الوجه المذكور مع اعمال الدقة فيه لا يفي بدفع الاشكال، مع أن
ظاهر الفتاوى والمتفاهم من النصوص عرفا هو جواز الأخذ في مقابل العمل وإن
اختلفوا في أن مقدار المأخوذ هل هو أجرة المثل أو قدر كفايته أو أقل الأمرين.
والتوجيه المتقدم على فرض صحته في نفسه لا يدفع الاشكال ولا ينطبق على
الواقع كالتوجيه الآخر لبعض أهل التحقيق (1) وهو أن الشارع اعتبر استحقاق
الصغير بعمل الوصي بعوض فلا عوض على الواجب بل ايجاب العمل منبعث
عن استحقاق الصغير له فهو من باب وجوب أداء ما يستحقه الغير " انتهى ".
وأنت خبير بأن هذه التكلفات والوجوه الاختراعية المخالفة للنصوص والفتاوى
إنما يتشبث بها إذا ألجأنا دليل عقلي قاطع على ارتكابها، وقد تقدم أن طريق التخلص
عن الاشكال المتقدم لا ينحصر بما ذكره الشيخ للوجه الذي قدمناه في مبنى حرمة
أخذ الأجر على الواجبات ومعه لا يستكشف اعتبار الشارع لذلك الذي ادعاه الموجه
المتقدم في خلال كلامه، مع بعض مناقضات فيه أغمضنا عنه مخافة التطويل، فتحصل

(1) هو المحقق المدقق الشيخ محمد حسين الأصبهاني رحمه الله.
211

مما مر أن دفاع الشيخ الأعظم غير دافع.
ومنها وجوب بذل العوض على المضطر فقد أجاب عنه الشيخ بأن العوض
للمبذول لا للبذل. (وفيه) مضافا إلى أن المضطر ربما يضطر إلى عمل من الغير ولا أظن
بالتزامهم على عدم جواز أخذ الأجر معه: أن مقتضى دليله وهو أن جواز الاستيفاء قهرا
وعلى رغمه يوجب سلب احترام عمله: مسلوبية احترام مال يقهر المالك على اتلافه
بل قد يكون الالجاء والاضطرار مؤديا إلى أن يكون المالك مباشرا لاتلافه كما لو
اضطر إلى طلي دواء لا يتمكن منه إلا مالكه فيلزم ويقهر على الطلى والاتلاف ولا أظن
بأحد الالتزام بالمجانية.
فما في تعليقة بعض المحققين (1) من إبداء الفرق بين الأعمال والأعيان
(غير وجيه) ومنه يظهر الكلام في جواز أخذ الأم المرضعة أجرة ارضاع اللباء إذا وجب
عليها دفعا واشكالا.
ومنها أخذ الأجر على العمل العبادي النيابي فإن أخذه لو كان منافيا للاخلاص
لكانت العبادات الاستيجارية على وجه النيابة باطلة والاستيجار عليها باطلا، والنص
والفتوى متطابقان على صحتها وصحته فلا بد من الالتزام بعدم المنافاة.
ولقد تصدى الشيخ الأعظم لدفع الاشكال وابداء الفرق بين المقامين، ولا بأس
بالإشارة إلى ماهية النيابة في اعتبار العقلاء قبل التعرض لدفاع الشيخ ليتضح ما يمكن
أن يكون فارقا بين المقامين.
فنقول الظاهر اختلاف ماهية الوكالة والنيابة في اعتبار العقلاء فإن الوكالة
عبارة عن تفويض أمر إلى الغير وايكاله إليه من غير اعتبار كون الوكيل نازلا منزلته
في الاعتبار أو عمله نازلا منزلة عمله وانتساب العمل إلى الموكل باعتبار كونه فعلا
تسبيبا له، ففي الوكالة يكون الوكيل والموكل ممتازين في عالم الاعتبار، والفعل
صادر مباشرة من الوكيل، وتسبيبا من الموكل، وليست الوكالة في العباديات، فلا
تصح في الحج والصلاة وغيرهما مما هي أفعال عبادي مباشري، ونظيرها في العرف

(1) هو العلامة الميرزا الشيرازي الثاني رحمه الله.
212

حضور أعيان المملكة في الأعياد لدى السلطان للسلام، فإنه مع عذر بعضهم عن
الحضور يقبل ذلك النيابة لا الوكالة لدى العقلاء وهو دليل على اختلافهما.
وأما النيابة في العمل فيحتمل تصورا أن تكون عبارة عن تنزيل شخص
نفسه منزلة غيره فيه، بمعنى تبديل شخصية النائب بشخصية المنوب عنه في صقع
الاعتبار، فتكون مبينة على انساء النائب وافنائه وتحول وجوده بوجود المنوب عنه
كما في باب الاستعارة على المذهب الحق من كون بنائها على تناسى التشبيه والمشبه
والمشبه به، بل مبنية على دعوى كون شخص أسدا حقيقة فيحسن اثبات لوازم الأسد
له ونفي لوازم غيره عنه، وله أشباه في العرف، كمجالس الشبيه والعزاء المعروفة
في بعض البلاد فصار شخص شمرا وآخر ابن زياد إلى غير ذلك، فإن في تلك المحنة
تتبدل الأشخاص بشخصيات أخر فهي مبنية على تناسى الشخصيات الحقيقية ولها
نظائر أخر في مجالس اللهو سيما في هذه الأعصار فحينئذ يكون ما صدر منه منتسبا
إلى الشخصية الثانية أي المنوب عنه ومسلوبة عن الأولى، فلو كانت النيابة في الأعمال
كذلك لا يعقل أن يقع الأجر في مقابل العمل فإن صقع اتيانه صقع فناء النائب و
وجود المنوب عنه فقط والعمل عمله ولا معنى للأجر في عمل المنوب عنه.
وفي هذا الاعتبار لا يكون للعمل اعتباران فإن النائب وعمله منسيان فالنائب
هو المنوب عنه ليس إلا والعمل عمله ليس إلا، فالأجرة في هذا الاعتبار تقع بإزاء
تنزيل النائب شخصه منزلة المنوب عنه وتبديل نفسه بأخرى في عمل فصقع العمل
ليس صقع اعتبار الأجرة إذ العمل عمل المنوب عنه فلا أجر له في عمل نفسه لنفسه،
فبقي اشكالان.
أحدهما أن الأجر إن كان بإزاء التنزيل لا بد من استحقاقه بمجرد التنزيل
الذي هو أمر اعتباري وبناء قلبي وإن كان بإزاء التنزيل والعمل يعود الاشكال وينهدم
هذا الأساس وكذا إن كان بإزاء التنزيل المقيد بالعمل.
والجواب أن الأجر بإزاء التنزيل في العمل وهو وإن لم يتحقق إلا بالعمل و
يتوقف تحققه عليه لكن لا يكون العمل جزءا أو قيدا له، نظير أن يقع أجر على إرادة
213

ضرب زيد بناء على عدم انفكاكها عن المراد خارجا فإن ذلك لا يوجب أن يكون الأجر
بإزاء الضرب جزءا أو قيدا، ففرق بين جعل شئ جزءا أو قيدا للمستأجر فيه، وبين توقف
تحققه عليه، فما نحن فيه علي فرض كون النيابة هي ما تقدم بيانها لا محيص عن كونه
من قبيل الثاني، لعدم الجمع بين اعتبار النيابة بما ذكر، وبين كون العمل جزءا أو قيدا
لأن اعتبار الجزئية والقيدية اعتبار كون العمل للمؤجر والنائب وهو مضاد لاعتبار النيابة.
وإن شئت قلت: إن العمل مترتب على التنزيل ومتأخر عنه رتبة فلا يعقل
تقيده به للزوم صيرورة المتأخر عن الشئ في رتبته " تأمل ".
أو قلت: إن النيابة مبنية على التناسي فرضا والتقيد المذكور مبني على تذكر
العمل وهما متنافيان فالأجر في مقابل التنزيل الغير المنفك من العمل، وهذا بوجه نظير
قوله: " نية المؤمن خير من عمله " بناء على كون المراد منه أن العمل الموجود بنية
أحد الجزئين التحليليين منه خير من جزئه الآخر، حتى لا يرد عليه الاشكال
المعروف، فكما أن الخيرية للنية الملازمة للعمل من غير دخالة العمل في موضوع
الأفضلية لعدم تعقل دخالته، كذلك في المقام يكون الأجر بإزاء النيابة في العمل الغير
المنفكة عنه وغير المتقيدة به.
ثانيهما أن الاخلاص لو كان معتبرا في العمل طولا وعرضا فلا شبهة في بطلان
هذا العمل، لأن أخذ الأجر محرك الفاعل حقيقة في اتيان العمل، ضرورة أنه لولا
الأجر لما نزل نفسه منزلته ولولا التنزيل في العمل لما عمل فالعمل مستند إلى الأجر
بالآخرة.
والجواب بالفرق بين كون شئ غاية لعمل أو غاية للعمل المغيى كباب الداعي
على الداعي على ما تقدم وبين كون شئ متوقفا عليه من غير غائيته له مثلا لو استأجره
للمسافرة يكون السفر لأجل الأجرة ولازمه اتيان الصلاة قصرا فيصح أن يقال: لولا
الأجرة لما صلى قصرا، لأن القصر لأجل السفر والسفر للأجرة.
لكن ليس هذا: من قبيل ترتب ذي الغاية على غايته بل من قبيل كون شئ
من آثار المغيى وأحكامه ففي ما نحن فيه لم يجعل الأجر في مقابل العمل النيابي على
214

ما تقدم من أن العمل عمل المنوب عنه، ولا يعقل فيه الأجر في أفق الاعتبار، فلا يمكن
أن يكون الأجر في سلسلة غاياته.
نعم لولا الأجر لما صار النائب منوبا عنه ولا تتبدل شخصيته بشخصيته ولولا
ذلك لما عمل وبالجملة مع التحفظ على الاعتبار المتقدم وعدم الخلط تندفع الاشكالات.
إن قلت إن ما ذكرت من الأمثلة أمور تكوينية واقعية فأين هي من المورد
الذي من الاعتباريات والتنزيليات فالمحرك الواقعي ليس التنزيل والدعوى بل أمر
واقعي هو الأجر.
قلت بل المحرك على هذا الفرض هو التنزيل وتبديل الشخصية بناء وذهنا، ولا شبهة
في مؤثريته ومبدئيته للإرادة والأعمال أحيانا، ألا ترى أن من نزل نفسه منزلة
السلطان لعبا ولهوا يؤثر ذلك في نفسه بحيث يعمل أعماله بل ربما يحصل في نفسه
نحو تجبر وتبختر وليس ذلك إلا لكون هذا التنزيل والبناء مؤثرا في النفوس وصيرورته
مبدء للإرادة، بل مبدئها ليست الأمور الخارجية وإنما هو أمور ذهنية وادراكات
نفسانية وربما تكون أمثال ما ذكر موثرة في النفس ومبدء للإرادة والتحريك مع
الغفلة والذهول عن الأجر رأسا.
وبالحملة بعد ما عرفت من عدم امكان الجمع بين كون النيابة ما ذكرت وبين
وقوع الأجرة بإزاء العمل لا محيص عن الالتزام ببعض ما ذكرناه.
ومما ذكرناه يظهر الخلط في كلمات الشيخ الأعظم حيث إنه مع جعل اعتبار النيابة
تنزيل الشخص منزلة المنوب عنه خلط في لوازمه وجعل للعمل الخارجي عنوانين.
أحدهما كون فعل النائب والآخر فعل المنوب عنه مع أن لازم هذا الاعتبار عدم انتساب
الفعل إلى النائب بوجه كما مر.
فقوله: فالصلاة الموجودة في الخارج على جهة النيابة فعل للنائب: يناقض في
أفق الاعتبار لقوله: وفعل للمنوب عنه بعد نيابة النائب يعني تنزيله منزلة المنوب عنه
فإن فعل النائب ليس إلا عملا قلبيا واعتبارا وادعاء نظير الحقايق الادعائية لكنه
ملازم أو موقوف في التحقق الخارجي على العمل الخارجي، فالنيابة على هذا المبنى
215

ليست من الأعمال الخارجية ولا يمكن أن يكون العمل الخارجي فعلا للنائب بعد
التنزيل، وما ذكره رحمه الله مضافا إلى مخالفته للاعتبار المتقدم مستلزم لورود
الاشكال السابق عليه كما يأتي بيانه.
ثم لو قلنا بأن حقيقة النيابة هي تنزيل الشخص مقام الشخص يمكن دفع
بعض اشكالات أخر عن النيابة في العبادات.
منها أن النائب لا أمر له بالنسبة إلى العمل والأمر متوجه إلى المنوب عنه
حقيقته، أما الأمر الحقيقي فواضح، ضررة أن الإضافات تشخصها بتشخص أطرافها
فيستحيل خروجها من حد إلى حد، فلا يمكن أن يتخطى الأمر المتوجه إلى المنوب عنه
منه إلى نائبه ومعه لا يمكن انبعاثه لعدم تعلق الانبعاث عن الأمر المتوجه إلى
الغير، وأما الانتساب الاعتباري التنزيلي بلحاظ تنزيل النائب منزلة المنوب عنه
فلا يفيد لأن الانبعاث حقيقة لا يمكن إلا عن البعث الحقيقي فمجرد التنزيل الاعتباري
الادعائي لا يوجب توجه الأمر إليه حقيقة والتوجه الادعائي لا يمكن أن يصير باعثا
حقيقة.
ويندفع بأن حقيقة النيابة إذا كانت لدى العقلاء ما تقدمت، وقد أمضاها الشارع
وأنفذها بالأخبار المتظافرة كروايات ابن مسلم (1) وابن أبي يعفور (2) والبزنطي
(3) وصفوان بن يحيى (4) عن الصادق والرضا عليهما السلام " أنه يقضى عن الميت
الحج والصوم والعتق وفعاله الحسن " مما هي ظاهرة في صحة النيابة وجوازها
يستكشف منهما أي من الأخبار الممضية ومن فرض كونها ما تقدمت التوسعة في
الأدلة الواقعية من حيث توجه التكليف إلى الوجود التنزيلي توسعة حقيقية بمقدار
سعة دائرة الامضاء والانفاذ.
ففي الحج لولا دليل النيابة قلنا بلزومه على المستطيع مباشرة ومع عجزه
لا يقوم غيره مقامه لكن بعد قيام الدليل بجوازها حيا في حال عجزه وميتا نستكشف

(1) الوسائل - كتاب الصلاة - الباب 12 - من أبواب قضاء الصلاة.
(2) الوسائل - كتاب الصلاة - الباب 12 - من أبواب قضاء الصلاة.
(3) الوسائل - كتاب الصلاة - الباب 12 - من أبواب قضاء الصلاة.
(4) الوسائل - كتاب الصلاة - الباب 12 - من أبواب قضاء الصلاة.
216

بسقوطه عنه بالاتيان الأعم بوجوده التنزيلي ويستكشف منه توجه التكليف بأعم.
لا يقال: لازم ذلك وجوبه على المتبرع إذا نزل نفسه منزلته فإنه يقال:
نعم يجب عليه بما أنه المنوب عنه ما دام تنزيله ولهذا يجب عليه نية الوجوب لكن
لا يجب عليه التنزيل ولا إدامته.
نعم لو أجر نفسه للنيابة يجب عليه الوفاء بالإجارة بتنزيل نفسه منزلته في
العمل ومعه ينوي الوجوب إن وجب على المنوب عنه ولو تركه يعاقب على ترك
العمل بالإجارة إذا قلنا بوجوب الوفاء بالعقود ولا يعاقب على ترك الحج لأن التكليف
متوجه إلى المنوب عنه لا النائب. وتوجهه عليه بعد التنزيل توجه إلى المنوب عنه
أيضا أبو جوده التنزيلي فمع اتيانه سقط عنه، لاتيانه بوجوده التنزيلي ومع تركه بقي
على ذمة المنوب عنه لا النائب.
وبالجملة لازم أدلة النيابة توسعة التكليف إلى الوجود التنزيلي، وهذه توسعة
حقيقية ببركة التحكيم والتعبد كما قلنا بنظيرها في باب الاجزاء في المأتي به
بالتكليف الظاهري حيث قلنا بأن مقتضى ظواهر الأدلة الأولية كقوله: " لا صلاة إلا بطهور "
وإن كان اشتراط الصلاة مثلا بالطهارة الواقعية لكن بعد تحكيم قوله: " كل شئ
طاهر " على أدلة الشروط صارت النتيجة توسعة دائرة الشرط إلى الطهارة الظاهرية،
فالصلاة المأتي بها بالطهارة الظاهرية مصداق حقيقي للصلاة ببركة التعبد والتوسعة
المستكشفة بدليل الأصل.
ففي المقام يكون توجه التكليف إلى الوجود التنزيلي حقيقيا ببركة استكشاف
التوسعة من الأدلة فيكون الانبعاث عن البعث، مع امكان أن يجاب في المقام
بوجه آخر غير مبنى على ما ذكرناه ومحصله: عدم الاحتياج إلى توجه الأمر إلى
الآتي بها بعد قيام الدليل على سقوطها عن عهدة المنوب عنه باتيان النائب نظير
أداء دين الغير تبرعا، غاية الأمر يقصد في المقام التقرب والتعبدية.
ومما ذكرناه يظهر الجواب عن اشكال آخر وهو أنه كيف يمكن تقرب المنوب
عنه بعمل النائب، فإن القرب المعنوي كالحسي فكما أن قرب شخص من آخر مكانا
217

لا يوجب قرب غيره فكذلك في القرب المعنوي.
(وفيه) أن القرب المعتبر في العبادة لو كان من الحقايق الواقعية كالكمالات
الروحانية من حصول نحو تنزه وتجرد عن المادة لكان حصولها للمنوب عنه بفعل
النائب ممتنعا لكن لا يعتبر ذلك فيها جز ما، ولما القرب الاعتباري وسقوط الأمر
أو سقوط المكلف به عن عهدته بفعل الغير بمكان من الامكان، ويستكشف ذلك
كله من أدلة النيابة فالنائب يأتي بالفعل بما أنه منوب عنه فيحصل قرب المنوب عنه
لا قرب نفسه، ولا وجه لحصول القرب له في العمل عن غيره اللهم إلا تفضلا، فهذا
القرب الاعتباري لا مانع من حصوله مع قصد تحصيله للغير، كما أن سقوط التكليف
أو المكلف به ممكن فقياس القرب في المقام بالقرب الحسي مع الفارق.
مضافا إلى أن اعتبار نية التقرب أو حصول القرب في العبادات غير ظاهر إذ لا
دليل عليه فلا يعتبر فيها إلا الاخلاص وكونها لله تعالى ومعه يسقط التكليف أو
المكلف به عن عهدة المنوب عنه وهذا موجب لامتيازه عن غيره ممن يشتغل ذمته
ويمكن أن يصير ذلك موجبا للتفضل عليه باعطاء الثواب أو سقوط العقاب عنه.
بل يمكن أن يقال: إن عمل النائب عن المنوب عنه يوجب وصول صورة عمله
البهية إليه كما ورد في بعض الروايات (1) يدخل على الميت في قبره الصلاة والصوم
والحج والصدقة والدعاء.
ويحتمل أن تكون النيابة في اعتبار العقلاء عبارة عن تنزيل العمل منزلة عمل
المنوب عنه، أما بأن يوجد العمل نازلا منزلته ويكون بنفس وجوده عملا للمنوب
عنه فلا يكون منتسبا إلى النائب في وعاء الاعتبار بوجه فيكون الأجرة للتنزيل لا
للعمل، وأما أن يكون التنزيل بعد تحقق العمل فيكون عند وجوده عملا للنائب و
بالتنزيل للمنوب عنه، فعلى الأول تندفع الاشكالات المتقدمة بنحو ما مر بل لا يرد على
هذا الفرض اشكال استحقاق الأجرة بنفس التنزيل فإن التنزيل ههنا تنزيل العمل
فلا يمكن تحققه بغيره. واشكال المنافاة للاخلاص مندفع بأن الأجر في مقابل التنزيل
وهو غير العمل وإن كان موقوفا عليه بل يظهر مما تقدم عدم امكان كون الأجر

(1) الوسائل - كتاب الحج - الباب 1 - من أبواب النيابة.
218

مقابل العمل في الفرض أيضا، لأن اعتبار تحقق العمل عملا للمنوب عنه ينافي اعتبار
الأجر المتقوم يكون العمل عملا للأجير فلا يعقل الجمع بين الاعتبارين فلا يعقل أن يكون الأجر بإزاء العمل، وقد مر أن التوقف غير الغائية.
وهذا بوجه نظير اعطاء الأجر للافطار بالتمر مثلا، فإن ذلك الأجر لا يعقل أن
يقع بإزاء الصوم ولو قيدا، لأنه بإزاء ما يبطله أو ينتهى إليه، فالصوم لا يكون بإزاء
الأجر ولو توقف تحقق استحقاق الأجر بتحقق الصوم فلا يكون الأجر له ولا غاية له.
ومجرد التوقف غير مضر.
وأما مطالبة الأمر في المقام للانبعاث ببعثه فقد تقدم أنه لا تتوقف صحة العبادة
على الأمر، ففي المقام لما فرض كون النيابة عبارة عن قيام العمل مقام عمل المنوب عنه
عرفا فمنه ومن دليل تنفيذ النيابة يعلم أن العمل النيابي موجب لسقوطه عن ذمة
الميت، فيصير ذلك موجبا لانبعاث المتبرع إلى الاتيان عن جد، كما يستكشف منها
صحة الإجارة للنيابة وقد مر امكان حصول التقرب له.
وعلى الثاني أيضا يمكن دفع الاشكالات، أما أولها فبما مر، وأما قضية الاخلاص
فكذلك بأن يقال: إن الأجرة على جعل العمل منزلة عمل المنوب عنه لا على ذاته
نظير أخذ الأجر على اتيان عمل عبادي في مكان كذا فإن جعله فيه ليس عباديا
معتبرا فيه الاخلاص، إلا أن يقال: بالفرق بين ما كان ذات العمل مطلوبا متعلقا للأمر
فيكون القصد إلى اتيانه خالصا وجعله في مكان خاص غير عبادي يصح أخذ الأجر
عليه، وبين ما لا يكون العمل مطلوبا كالمقام حيث لا يكون مطلوبا من النائب وإنما
هو في ذمة المنوب عنه فاتيان النائب له بطمع الأجر لله تعالى.
ففرق بين المقام والصورتين السابقتين، فإن فيهما يكون الأجر مقابل
التنزيل ولا يعقل جعله مقابل العمل كما مر، وأما في المقام فالعمل عمل النائب يأتي
به ليجعله وسيلة لجلب النفع فحينئذ لو قلنا بمقالة الشيخ من مخالفة ذلك للاخلاص
فلا مفر منه. وأما الاشكالات الأخر فيندفع بالتأمل فيما سبق.
ثم إن لوازم النيابة في الصورتين الأخيرتين تخالف مع الصورة الأولى ففيهما
219

لا بد من مراعاة شرائط صلاة المنوب عنه لا شرائط نفسه بل النائب يراعي في شرائط
الفاعل ما هو تكليفه، فلا يجب على الرجل الاخفات أو الستر نحو ستر المرأة لو كان
نائبا عنها يجوز الاقتداء به إن كان نائبا عنها أو عن الميت بخلاف الصورة الأولى.
ولكن الانصاف أن ما لدى المتشرعة وسائر العقلاء وظاهر النصوص في النيابة
ليس شيئا مما تقدم، ضرورة أن الاستيجار إنما يقع في العمل عن الغير فيأخذ الأجر ويقع
في عرف المتشرعة ارتكازا وعملا في مقابل العمل عن الغير فيأخذه ليعمل الحج عن غيره
لا لتنزيل نفسه منزلة غيره في العمل ولا لتنزيل عمله كذلك وهو واضح غير قابل
للخدشة، كما هو ظاهر الأخبار الواردة في الحج عن الغير.
ففي رواية عبد الله بن سنان " قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام إذ دخل عليه
رجل فأعطاه ثلاثين دينارا يحج بها عن إسماعيل ولم يترك شيئا من العمرة إلى الحج إلا
اشترط عليه حتى اشترط عليه أن يسعى في وادي ثم قال يا هذا إذا أنت فعلت هذا كان
لإسماعيل حجة بما أنفق من ماله وكانت لك تسع بما أتعبت من بدنك ". ولعمري إنها
كالصريح في كون الأجر في مقابل العمل عنه.
فما تقدم من التصورات أجنبية عن عمل المسلمين وعن مفاد النصوص كالرواية
المتقدمة وغيرها مما هي منقولة في كتاب الحج التي هي ظاهرة الدلالة في ذلك،
فلا بد من دفع الاشكال عن هذه الواقعة التي بيد المسلمين ومفاد النصوص وهو لا يندفع بما
تقدم ولا بما أفاده الشيخ الأنصاري فيستكشف من النصوص صحة العبادات الاستيجارية
بنحو الداعي علي الداعي ولا يرد عليها ما أوردناه علي الاستيجار في عبادة نفسه
كما لا يخفى.
وأما الاشكال بأنه كيف يسقط عمل عن عهدة شخص بفعل آخر وكيف يتقرب
المنوب عنه بفعل نائبه فليس موجها بعد قيام الدليل، وتقدم الوجه فيهما.
فتحصل من ذلك أن النيابة في الأعمال في ظاهر الشريعة ولدى المتشرعة هي
اتيان العمل عوض الغير وبدله كأداء الدين عنه كما صرح به في رواية الخثعمية
220

فهل ترى من نفسك أن المعطي لدين غيره وعن قبله ينزل نفسه منزلة أو عمله
منزلة عمله. وبالجملة ليس في النصوص إلا نحو قوله: " يحج عنه " أو " يصلى عنه " و
ليس مفاد ذلك إلا نحو قوله: " قضى دينه عنه ".
وأما ما أفاده شيخنا العلامة في صلاته ولعله يظهر من خلال كلمات الشيخ
الأنصاري أيضا. من أن المعتبر في صحة الإجارة قرب المنوب عنه لا قرب العامل
فالاشكال بمنافاة أخذ الأجر للقربة المعتبرة في العبادة كالجواب الداعي على
الداعي في غير محله (فغير وجيه)، لأن حصول القرب على فرض اعتباره مترتب على
العمل الخالص لله تعالى فإن أتى به بعد الخلوص لنفسه تصير مقربة، وإن أتى به لغير
يصير الغير مقربا، فلا بد من لحاظ منشأ حصول القرب للمنوب عنه، وليس هو إلا
اتيان النائب العمل لله. مع أن اتيانه للأجر ينافي كونه لله تعالى، فالأجر ينافي
الاخلاص ومع عدمه لا يحصل القرب للمنوب عنه، ولهذا لو أتى الأجير بالعمل رياء
لا يقع عن المنوب عنه لعدم صلاحيته لحصول القرب له فالاشكال في محله وكذا
الجواب.
وأما الشيخ الأنصاري فلا تخلو كلماته عن اضطراب، فإن الظاهر من بعضها
أن الأجر للعمل المأتي به تقربا إلى الله تعالى نيابة عن غيره، وهو ظاهر في كون
الأجر في مقابل العمل المقيد لكن الظاهر أنه غير المقصود منه بقرينة سائر كلماته
ويظهر من بعضها أن الصلاة الموجودة في الخارج على جهة النيابة فعل للنائب بجهة
وللمنوب عنه بجهة، والظاهر من مجموع كلماته أنه أيضا غير مراد أي لا يعني أن
للصلاة وجودين اعتبارا حتى يرد عليه بأنه ليس لها إلا وجود واحد ينسب إلى النائب
بوجه وإلى المنوب عنه بوجه.
ويظهر من بعضها أن المنطبق على الصلاة الموجودة في الخارج على وجه
النيابة عنوانان أحدهما ذات الصلاة وهي منسوبة إلى المنوب عنه بوجه، وثانيهما
نيابة النائب في فعلها وهي عنوان زائد على ذات الصلاة يقع الأجر بإزائه لا بإزاء
ذات الصلاة
221

والظاهر من مجموع كلماته بعد جعل بعضها قرينة على بعض أن هذا مراده
قال: فالموجود في ضمن الصلاة الخارجية فعلان نيابة صادرة عن الأجير النائب فيقال: ناب
عن فلان وفعل كأنه صادر عن المنوب عنه، فيمكن أن يقال على سبيل المجاز: صلى فلان،
ولا يمكن أن يقال: ناب فلان، فكما جاز اختلاف هذين الفعلين في الآثار فلا ينافي
اعتبار القربة في الثاني جواز الاستيجار على الأول الذي لا يعتبر فيه القربة " انتهى "
وهذه العبارة قرينة على مراده في سائر الفقرات، وكيف كان لو كان مراده
تعدد العمل كما توهم فهو خلاف الواقع، لأن الصلاة المأتي بها واحدة حقيقة و
اعتبارا، وإنما التعدد في انتسابها إلى النائب والمنوب عنه، وإن كان مراده ما ذكرناه
فهو مخالف لما عليه عمل المتشرعة وظاهر الشريعة، لما تقدم من أن الأجر
مجعول في مقابل العمل في عرف المتشرعة وهو الظاهر من الأخبار.
وبما ذكرناه يظهر النظر في وجه آخر منسوب إلى الشيخ، وهو أن النيابة
عنوان يلحق الفعل المنوب عنه وبه يصير متعلقا للإجارة، وهو كون الصلاة عن
فلان; فالصلاة من حيث ذاتها عبادة ومن حيث وصفها أي كونها عن الغير معاملة
محضة نظير الصوم والصلاة في البيت " انتهى ".
والظاهر أن ذلك أيضا راجع إلى الوجه المتقدم، ويرد عليه ما يرد عليه من أنه تصور وتخيل غير مربوط بما بيد المتشرعة وعليه عملهم وغير موافق للظواهر،
كما أن الظاهر رجوع الوجه الآخر المنقول عن رسالة القضاء إلى ذلك: وهو أن
للصلاة قيدين، أحدهما كونها عن قصد القربة، وثانيهما كونها عن الغير ويؤخذ
الأجر على هذا القيد.
ويرده ما يرد سابقه مع أن تلك الوجوه لا تدفع أصل الاشكال، ضرورة
أن المؤجر لا يأتي بالعمل خالصا لله تعالى، وإنما يأتي به طلبا وطمعا في الأجر،
وبهذا، يفترق فعل الأجير لعمل الغير عن فعله لعمل نفسه في مكان كذا مثلا. فأخذ
الأجر لاتيان صلاته الفريضة في مكان كذا لا يضر بالاخلاص إذا أخذه للخصوصية
بعد تحقق داعيه لاتيان فريضته، فالفرق بينهما واضح، والتخلص عن الاشكال ما
222

تقدم. فتحصل مما مر صحة العبادات الاستيجارية " والسلام على محمد وآله ".
خاتمة
وفيها مسئلتان
الأولى جوائز السلطان الجائر وعماله وصلاتهم بل مطلق المال المأخوذ
منهم مجانا أو بعوض لا يخلو عن صور تعرض لمهماتهم الشيخ الأعظم قدس سره.
منها أن لا يعلم أن في جملة أموال الجائر مال محرم يصلح أن يكون المأخوذ
منه. ولا يكون ما في يده طرف العلم الاجمالي; وبعبارة أخرى تكون الشبهة في
أمواله بدوية. والأولى عنوان المسألة بما ذكرناه أي جعل العنوان السلطان الجائر
وعماله كما هو صريح نهاية الشيخ وظاهر المحقق ولهذا فسر صاحب الجواهر الجائر
في عبارة الشرايع بالسلطان الجائر، وهو ظاهر العلامة في التذكرة والقواعد كما
يظهر بالتأمل. وإنما قلنا ذلك لأن مخالفة قواعد العلم الاجمالي في المسائل الآتية
لا بد لها من مستند معتمد معمول عليه.
وما يمكن أن يقال باستثنائه منها نصا وفتوى هو نحو جوائز السلطان الجائر
وعماله والحاق مطلق الظالم به كالسارق أو مطلق من لم يتورع عن الحرام أو مطلق
المال المخلوط به: محل اشكال وكلام كما يأتي انشاء الله.
وكيف كان إن في جوائز السلطان وصلاته وسائر ما يؤخذ منه بعوض أو
بلا عوض شبهتين:
إحديهما احتمال أن لا يكون المال منه وتكون يده عليه غاصبة، وهو مدفوع
في هذه الصورة بقاعدة اليد واطلاق أدلتها، وببعض الروايات الآتية ولو بالفحوى.
وثانيتهما احتمال ممنوعية أخذ الجائزة والصلة وغيرهما من خصوص السلاطين
الجائرين سيما مثل الغاصبين للخلافة، واحتمال عدم جواز أكل أموالهم والتصرف فيها
كاحتمال حرمة عشرتهم وصحابتهم والدخول عليهم وهو مدفوع بأصالة البراءة
والحل.
223

ولعل تمسك الشيخ الأعظم بالأصل لدفع الشبهة الثانية لا الأولى، فوقوع بعضهم
كالفاضل الإيرواني في حيص وبيص من تمسكه بالأصل أو حمل الأصل على قاعدة اليد
لعله في غير محله. ولعل ما ذكرناه ظاهر قوله: فلا اشكال في جواز أخذه وحلية التصرف
فيه للأصل (الخ) ولو فرض عدم ظهوره فلا أقل أنه محتمله، مضافا إلى عدم الاشكال
في الاحتياج إلى الأصل لدفع تلك الشبهة، ولا تندفع بقاعدة اليد ولا بالعلم بكون المال
ماله، إذ احتمال أن جوائزه وعطاياه محرمة علينا ولو علمنا أنها أمواله لاحتمال
مبغوضية مطلق التماس معهم بشؤونه سيما ما كان مظنة لجلب الحب والوداد غير
مدفوع إلا بالأصل، فالحكم بالجواز الفعلي والحلية الفعلية يتوقف على قاعدة اليد و
الأصل كليهما.
نعم تندفع الشبهتان ببعض الروايات الآتية فالتمسك بالأصل مع الغض عنها.
ثم قال الشيخ الأعظم ربما يوهم بعض الأخبار أنه يشترط في حل مال الجائر
ثبوت مال حلال له مثل ما عن الاحتجاج عن الحميري " أنه كتب إلى صاحب الزمان عليه السلام
يسأله عن الرجل من وكلاء الوقف مستحل لما في يده لا يتورع عن أخذ ماله ربما نزلت
في قرية وهو فيها أو أدخل منزله وقد حضر طعامه فيدعوني إليه فإن لم آكل من طعامه
عاداني عليه فهل يجوز لي أن آكل من طعامه وأتصدق بصدقة وكم مقدار الصدقة وأن أهدي
هذا الوكيل هدية إلى رجل آخر فيدعوني إلى أن أنال منها وأنا أعلم أن الوكيل لا يتورع
عن أخذ ما في يده فهل على فيه شئ إن أنا نلت منه (الجواب) إن كان لهذا الرجل مال
أو معاش غير ما في يده فكل طعامه واقبل بره وإلا فلا ". بناء على أن الشرط في الحلية
هو وجود مال آخر فإذا لم يعلم به لم يثبت الحل " انتهى ".
وهو مبني على أن يكون السؤال في الرواية عن شخص غير مبال في مال الوقف
وغير متورع عن أكله، فيكون محط شبهته أن يد غير المتورع معتبرة كساير
الأيادي ويعامل مع ما في يده معاملة ملكه أو أنها ساقطة لأجل عدم تورعه و
عدم مبالاته.
وبعبارة أخرى إن من لم يتورع عن مال الوقف تسقط يده فيما كانت معتبرة
224

لو لم يكن كذلك ولا يكون السؤال عن حيث العلم الاجمالي أو التفصيلي يكون ما في
يده حراما حتى تكون الرواية أجنبية عن الصورة المفروضة.
والظاهر أن السؤال ناظر إلى الوجه الأول، والجواب بأنه إن كان له معاش
(الخ) مناسب له بل لعله ليس أمرا تعبديا لكونه ظاهرا موافقا لبناء العقلاء أيضا في
ترتيب الأثر على اليد; لأن من لم يكن له طريق معاش سوى السرقة أو غصب مال الغير
كالوقت ونحوه لا يعامل العقلاء مع ما في يده معاملة ملكه ولو في الشبهة البدوية.
وعلى أن تقدير أن المراد من الجواب بعد فرض كون السؤال عن الحيثية
المتقدمة أنه إذا لم يكن للرجل مال ومعاش غير الوقف لا يؤخذ بره ولو مع عدم العلم
تفصيلا أو اجمالا بكونه من مال الوقف، وهو عبارة أخرى عن سقوط اعتبار يده فيما
تعتبر يد غيره، وعلى ما ذكرناه يسقط الاشكال على الشيخ من هذه الجهة بأن الرواية
أجنبية عن الصورة الأولى.
نعم هنا اشكال آخر عليه وهو أن موضوع السؤال والجواب فيها وإن كان
عن يد الشخص الذي لا يتورع عن الحرام الذي في يده، لكن المفروض وجود ممر حرام
معلوم بالتفصيل عنده وكان غير متورع عنه، فأجاب في الفرض بما أجاب الذي قلنا
أنه موافق لبناء العقلاء ظاهرا، وهو غير الصور المذكورة أي صورة العلم الاجمالي
بكون حرام في يده أو عدمه، فمفروض السؤال والجواب حيثية غير مربوطة بالصور
المذكورة في المقام.
ثم إن الظاهر من الرواية أنه إن كان له مال آخر يجوز أخذ بره وأما لزوم العلم
الوجداني بكون المال غير الوقف وبكونه حلالا فلا، فلو فرض احراز كونه غير
الوقف بالبينة واحراز كونه حلالا بكونه في يده يكون كافيا لتحقق موضوع الرواية
وتكون أدلة حجية البينة واليد حاكمة عليها ومنقحة لموضوعها. فما أفاده الشيخ
من لزوم العلم بمال حلال له غير ظاهر أن أراد بالعلم هو الوجداني منه.
نعم ربما يستشكل في احراز اليد عنوان مال آخر الذي هو مذكور في
الرواية لعدم الدليل على حجية مثل تلك الأمارات لمثل هذه اللوازم وللكلام فيه
225

محل آخر.
ومنها أن يعلم اجمالا بأن في أموال الظالم مالا حراما يمكن أن تكون الجائزة
منه تماما أو بعضا مع عدم العلم ولو اجمالا بأن الجائزة مشتملة على الحرام، وبعبارة
أخرى تكون الجائزة طرف العلم الاجمالي، وفيها صورتان.
إحديهما صورة عدم تنجيز العلم الاجمالي لأجل الجهات المشتركة مع سائر
المباحث ككون الأطراف غير محصورة ونحوه.
ثانيتهما صورة عدم المانع من تنجيزه من هذه الجهات مع قطع النظر عن
خصوصية المورد، وقبل الورود في المطلب لا بد من التنبيه بأمر ربما صار الخلط فيه
موجبا للخطأ في كثير من مباحث العلم الاجمالي.
وهو أن العلم بالتكليف بحسب الكبرى الكلية قد يتعلق بتكليف فعلي
يعلم بعدم رضا المولى بتركه كائنا ما كان لأجل أهميته عنده نظير قتل النبي صلى الله
عليه وآله وقتل الولد في الموالي العرفية، ومع يسقط جميع الأصول العقلية و
الشرعية وجميع الأمارات العقلائية والشرعية ويجب عقلا الاحتياط التام حرجيا كان
أم لا ولا عذر إلا العجز العقلي، وذلك لأنه مع هذا العلم الوجداني بالتكليف الفعلي
الكذائي لا يحتمل جواز الترخيص في العمل بالأمارات ولو في الشبهات البدوية وكذا
في العمل بالأصول، لأن جواز الترخيص بها مساوق لاحتمال اجتماع النقيضين،
ضرورة أن العلم الوجداني بعدم رضا المولي بترك الواقع لا يجتمع مع احتمال الترخيص
في تركه، فإن إجازة العمل بالأمارة أو الأصل ولو في الشبهة البدوية ملازمة للترخيص
في ترك الواقع على فرض تخلفها عنه.
بل العلم بهذه المرتبة من الأهمية بيان على التكليف الواقعي، وإن شئت قلت
كاشف عن ايجاب الاحتياط، وهو بيان وارد على قاعدة قبح العقاب بلا بيان، ففي هذه
الصورة لا يمكن الترخيص في الشبهات البدوية فضلا عن أطراف العلم أو بعضها، وفي
مثله يصح أن يقال: إن الترخيص في الأطراف ترخيص في المعصية وهو محال لكن
هذه الصورة قليلة الاتفاق في الشرعيات ويجب فيها على المولى عقلا ايجاب الاحتياط.
226

في الشبهات البدوية مع عدم العلم بهذه المرتبة من الأهمية.
وقد يتعلق العلم بالحجة كاطلاق دليل أو عموم عام أو نحو ذلك من ظاهر
الكتاب والسنة، لا العلم بالتكليف الواقعي الفعلي، فاطلاق الكتاب يقتضي حرمة
الميتة والخمر، كانتا معلومتين تفصيلا أو اجمالا أم مجهولتين، ولكن العلم بالاطلاق
لا يلازم العلم الوجداني بالتكليف الواقعي الفعلي، وأن يلازم العلم بقيام الحجة
على الواقع، لكن يحتمل وجدانا تخلفها عن الواقع وأن لا عذر للعبد مع قيام الحجة
في التخلف عنها، وفي هذه الصورة لا مانع عقلا من الترخيص في المخالفة القطعية فضلا
عن الاحتمالية.
وهذه الصورة هي التي ينبغي أن يبني عليها المباحث الآتية ومباحث العلم
الاجمالي في باب الاشتغال، فمع عدم امتناع الترخيص في الأطراف جميعا أو بعضا
يلاحظ مقتضى الأدلة المرخصة ويؤخذ بها، وإن اقتضت الترخيص في جميعها، فإن
الترخيص في الجميع يلازم غمض العين عن التكليف الواقعي لمصالح أهم منه ولم
لم نعلم بها، فالترخيص في جميع الأطراف في هذه الصورة كالترخيص في الشبهة البدوية
والترخيص في العمل بالأمارات في امكانه، كما أن الجميع مشتركة في الصورة
الأولى في الامتناع.
فمباحث العلم الاجمالي في باب القطع ينبغي أن تكون من قبيل الصورة الأولى كما أن مباحث العلم الاجمالي في باب الاشتغال كعدم تنجيزه في الشبهة الغير المحصورة أو
في صورة الاضطرار إلى بعض الأطراف أو في صورة عدم الابتلاء به إلى غير ذلك من مباحث
التنجيز واللا تنجيز والانحلال التعبدي وغير ذلك: ينبغي أن يبحث عنها في فرض
الصورة الثانية، فإنه ساقطة مع الصورة الأولى كما لا يخفى على أولي النهى.
وبحثنا في المقام من قبيل الصورة الثانية، فمع فرض هذه الصورة لو كان العلم
الاجمالي غير منجز كالشبهة الغير المحصورة أو كفرض الاضطرار إلى بعض الأطراف
وغيرهما من موارد عدم التنجيز فحكمها حينئذ كالصورة الأولى بعين ما ذكر فيها.
ثم إنه حكي عن جماعة كراهة الأخذ ونحن وإن بنينا على عدم التعرض
227

إلا لمهمات المسائل لكن لا بأس هنا بالإشارة الاجمالية.
فنقول إن هاهنا عناوين كراهة كل منها على فرض ثبوتها غير مربوطة بالآخر
كما أن رفعها لا يكون على نسق واحد (منها) عنوان الاستعطاء من السلطان وعماله
(ومنها) أخذ جوائزهم (ومنها) التصرف في نفس المأخوذ استعطاء بما هو مأخوذ
كذلك أو بنحو الجائزة بلا استعطاء بما هو مأخوذ كذلك (ومنها) التصرف في المال
المنسوب إليهم وإن لم يكن بنحو الاستعطاء أو الجائزة وعلم كونه ماله وحليته (ومنها)
التصرف في المال وأخذه بما أنه مال مشتبه حليته وحرمته.
والظاهر أن الصورة الأولى خارجة عن محل البحث وإن كان الاستعطاء مكروها
مطلقا ولعله من الجائر أشد كما هو ظاهر بعض الروايات الآتية، وما استدلوا لها في
المقام بعضها راجع إلى العنوان الأخير وبعضها إلى الثاني أو الثالث أيضا كما أن ما ذكر
في رفع الكراهة من اخبار ذي اليد واخراج الخمس على فرض صحته إنما هو راجع
إلى رفع الكراهة الحاصلة بالعنوان الأخير دون غيره.
أقول: يمكن تعميم مثل قوله: " دع ما يريبك " (1) وقوله: " من ترك الشبهات
نجى من المحرمات " (2)، وكذا أخبار التثليث والتوقف (3) إلى جميع الصور المتقدمة
بأن يقال: في كل من تلك الصور شبهة الحرمة فكما أن في الأموال التي بيده ريب و
شبهة كذا في الاستعطاء وأخذ الجائزة من السلطان وعماله والتصرف فيها بل في مطلق
المال المنسوب إليهم فقوله: دع ما يريبك شامل لجميعها.
لكن الظاهر عدم ثبوت الكراهة الشرعية التابعة لحزازة ذاتية من تلك الأخبار على كثرتها، لأن لسانها لسان الارشاد إلى عدم الابتلاء بالمحرمات كما
يظهر من قوله: " فمن ترك الشبهات نجى من المحرمات، ومن أخذ بالشبهات ارتكب
المحرمات وهلك من حيث لا يعلم " وقوله: " والمعاصي حمى الله فمن يرتع حولها يوشك
أن يدخلها " (4).

(1) الوسائل - كتاب القضاء - الباب 12 - من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضى به.
(2) الوسائل - كتاب القضاء - الباب 12 - من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضى به.
(3) الوسائل - كتاب القضاء - الباب 12 - من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضى به.
(4) الوسائل - كتاب القضاء - الباب 12 - من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضى به.
228

مضافا إلى أن الناظر في الأخبار الواردة في عدم جواز الفتيا بغير علم والقضاء (1)
كذلك، وما ورد من نحو قوله: " بين رشده، وبين غيه "، (2) وغير ذلك مما وردت
في العلم يقطع بأن المراد منه فيها على كثرتها كتابا سنة وليس خصوص العلم
الوجداني بل الأعم منه ومما حصل من ظاهر الكتاب والسنة، فمن أفتى بظاهر الكتاب
والسنة وقضى على موازين القضاء أفتى وقضى بعلم، وبين الرشد ما دل الدليل الشرعي على
رشده لا خصوص ما علم وجدانا وكذا المراد من الريب والشك والجهل ونحوها المقابل
له ليس الوجداني منها، فعليه تكون أدلة اليد وسائر الأمارات حاكمة أو واردة على
مثل تلك الروايات ومعدمة لموضوعها تعبدا وتحكيما كما أن الريب من جهة الشبهة
الحكمية مدفوع بمثل حديث الرفع الحاكم عليها.
نعم يبقى سؤال قلة المورد أو فقدانه في تلك الأدلة، وللكلام فيه محل آخر.
وكيف كان اثبات الكراهة الشرعية بها: غير وجيه.
نعم يمكن الاستدلال لها في بعض تلك العناوين المتقدمة أو جميعها ببعض
روايات خاصة كرواية حريز (3) ولا يبعد صحتها إذ ليس في سندها ما يناقش فيه إلا سهل
بن زياد وهو سهل، وفي طريق الكافي بدل حريز حديد وهو ابن حكيم الثقة
" قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول اتقوا وصونوا دينكم بالورع وقووه بالتقية و
الاستغناء بالله عز وجل عن طلب الحوائج إلى صاحب السلطان أنه من خضع لصاحب
سلطان ولمن يخالفه على دينه طلبا لما في يديه من دنياه أخمله الله عز وجل ومقته
عليه، ووكله إليه، فإن هو غلب على شئ من دنياه فصار إليه منه شئ نزع الله جل اسمه
البركة منه ولم يأجره على شئ منه بفقه في حج ولا عتق ولا بر ".
فإن الظاهر من صدرها استحباب الاستغناء عن طلب الحوائج من صاحب السلطان

(1) الوسائل - كتاب القضاء - الباب 4 - من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن
يقضى به.
(2) الوسائل - كتاب القضاء - الباب 12 - من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن
يقتضى به.
(3) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 42 - من أبواب ما يكتسب به.
229

بل لا يعبد استفادة كراهة طلبها منه أيضا.
والفقرة لثانية أي قوله: من خضع (الخ) ظاهرة في شدة كراهة الخضوع له طلبا
لما في يديه ولو بنحو الجائزة المترتبة على جلب قلبه.
والفقرة الثالثة أي قوله: فإن هو غلب على شئ (الخ) إن كانت مربوطة
بخصوص الخاضع لطلب الدنيا، لا دلالة فيها إلا على عدم البركة والخير في المال
الذي يصير إليه بتلك الوسيلة ولو بنحو الجائزة، فتدل على كراهة التصرف المأخوذ
جائزة في هذا الفرض لا مطلقا وإن كانت أعم من ذلك ويراد بها من صار إليه شئ من أمواله
مطلقا فلا بركة فيه: تدل على كراهة المأخوذ منهم عطية وجائزة ونحوهما، ولا يبعد
على هذا الفرض استفادة كراهة القبول أيضا " تأمل "، والأظهر الاحتمال الأول
فلا دلالة فيها على كراهة مطلق الجائزة (نعم) تدل على كراهة قسم منها، واحتمال
رجوع الضمير إلى طالب الحوائج: بعيد.
وأما سائر الروايات فلا دلالة فيها على الكراهة الشرعية، لا في المال ولا في سائر
العناوين المتقدمة أما قوله: " إن أحدكم لا يصيب من دنياهم شيئا " (الخ)،
فإنه في ذيل صحيحة أبي بصير (1) وبمنزلة التعليل لحرمة الدخول في أعمالهم،
والظاهر أن المراد منه أنهم استعملوكم في الحرام لا محالة، فلا يمكن استفادة
الكراهة من التعليل الوارد في الدخول المحرم.
وأما المروي عن موسى بن جعفر عليه السلام " والله لولا أني أرى من أزوجه
من عزاب " (الخ) (2) فلأن وجه عدم قبوله غير معلوم، ولعله للاحتراز عن
المشتبه احتياطا ومعه لا تدل على الكراهة الشرعية، وبمثلها يجاب عن رواية العلل
مرسلة (3) " وكان الحسن عليه السلام والحسين عليه السلام يأخذان من معاوية الأموال فلا ينفقان من

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 42 - من أبواب ما يكتسب به.
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 51 - من أبواب ما يكتسب به مجهولة بمحمد
بن الحسن المدني وغيره.
(3) المستدرك - كتاب التجارة - الباب 44 - من أبواب ما يكتسب به.
230

ذلك على أنفسهما ولا على عيالهما ما تحمله الذبابة بفيها ".
نعم قد تشعر بالكراهة صحيحة الوليد بن صبيح (1) " قال دخلت على أبي عبد الله
عليه السلام فاستقبلني زرارة " إلى أن قال: " يا وليد متى كانت الشيعة تسأل عن أعمالهم إنما
كانت الشيعة تقول يؤكل من طعامهم ويشرب من شرابهم ويستظل بظلمهم "، إذ لا يبعد
أن يكون ذلك تقريرا على حزازة أكل طعامهم (الخ) ولولا قوله: يستظل بظلهم،
لكان من المحتمل أن يراد من السؤال عن الأكل والشرب دفع احتمال نجاستهم فلا يخلو
ما ذكر من الأشعار بالحزازة.
ولكن اثبات الكراهة بذلك مشكل فلا دليل عليها. بل لا يعبد دلالة بعض الروايات
على عدمها كقوله: " لا بأس بجوائز السلطان " (2) وقوله: " جوائز العمال ليس بها
بأس " (3) بناء على أن البأس أعم من الحرمة أو استعماله غالبا في الكراهة، وإن احتمل
في المقام بمناسبة غلبة شبهة الحرمة رجحان إرادة نفيها، لا نفي الكراهة أو الأعم
منها، وكقوله: " إن الحسن والحسين عليهما السلام كانا يقبلان جوائز معاوية " (4) إذ كان
بصدد بيان الحكم من حكاية عملهما، فلا يبعد ظهورها في نفي البأس مطلقا لولا رواية
العلل المتقدمة، وكبعض الروايات الدالة على إجازة الأخذ والحج بها، وأوضح
منها رواية عمر أخي عذافر (5) المشتملة على حكاية ذهاب متاعه ووعد عامل
المدينة اعطاء عوضه، وفيها " فائت العامل فتنجز منه ما وعدك فإنما هو شئ دعاك الله
إليه لم تطلب منه ".
فإن الظاهر منها أنه مع عدم الطلب لا حزازة في أخذه ولا في المأخوذ، لأنه
من دعوة الله تعالى وعطيته، مضافا إلى أن الطلب مكروه لا حرام، والظاهر منها رفع ما
ثبت بالطلب، وهذه الرواية رافعة لاجمال رواية حريز المتقدمة لو كان فيها اجمال.
فتحصل من ذلك أن في المأخوذ مع الاستعطاء أو بالملق والخضوع حزازة وفي

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 45 - من أبواب ما يكتسب به.
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 51 - من أبواب ما يكتسب به.
(3) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 51 - من أبواب ما يكتسب به.
(4) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 51 - من أبواب ما يكتسب به.
(5) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 51 - من أبواب ما يكتسب به.
231

التصرف فيه كراهة، وبدون ذلك لا دليل على كراهته الشرعية.
ثم إن الكراهة لو كانت من ناحية الاستعطاء أو الملق والاستعطاف أو لأجل
كون الأخذ والاستفادة منه معرضا لحصول المحبة له أو قلنا بكراهة نفس الأخذ فلا
ترفع باخبار ذي اليد ولا باخراج الخمس وهو واضح بل الظاهر عدم رفعها مطلقا
باخباره بما هو ذو اليد.
نعم لو قلنا بأن المراد من مثل قوله: " دع ما يريبك " هو الريب الوجداني وقلنا
باستفادة الكراهة منه: يمكن أن يقال: برفعها باخبار من يوثق بصدقه كان بذي
اليد أم لا، لرفع الريب عرفا، وكذا لا يرفع باخراج الخمس وإن قلنا باستحبابه،
لعدم الملازمة بين استحبابه وعدم الكراهة في التصرف في البقية، والأمر سهل.
وأما الصورة الثانية وهي صورة عدم المانع من تنجيز العلم الاجمالي بالجهات
العامة المذكورة في محلها فمع الغض عن أخبار الباب وغيرها قد يقال: إن العلم
الاجمالي حاصل بأن هذا المال الذي أجاز الجائر في تصرفه أو أعطاه جائزة لغير الجائر
أو غيره مما في يده ومقتضاه الاجتناب عن الجميع ولو قلنا بأن الخروج من محل الابتلاء
مؤثر في عدم تنجيزه فإن الأموال التي تحت يد الجائر غير خارج عنه، ضرورة عدم
استهجان الخطاب بالنسبة إليها وأنها مورد ابتلائه من حيث امكان الابتياع وإجازة
التصرف ونحو ذلك وبالجملة اعتبار عدم الخروج بهذا النحو عن محل الابتلاء خلاف
الضرورة مع الغض عن فساد أصل المبنى، فالعلم الاجمالي موجب للتنجيز.
ويمكن المناقشة فيه بأن العلم الاجمالي بأن هذا لزيد المغصوب منه أو ذلك غير
مفيد، لأن مال زيد مثلا بما هو ماله وبهذا العنوان ليس موضوعا للحكم وما هو موضوع
له هو مال الغير بلا إذنه أو مال أخ مسلم بغير طيب نفسه ولم يتعلق علم اجمالي بهذا
العنوان، لأن ما في يد الجائز الغير المأذون فيه من قبله كما هو مفروض المسألة
معلوم تفصيلا أنه للغير ولامرء مسلم لا يطيب نفسه بالتصرف فيه كما هو معلوم الحرمة
تفصيلا، فالحكم الشرعي وموضوعه معلومان تفصيلا بالنسبة إلى ما في يد الجائر وإن لم
يعلم أنه له أو لغيره وما أجاز في التصرف فيه مشتبه بدوي بالنسبة إلى الموضوع
232

ذي الحكم، وكذا بالنسبة إلى الحكم وإن علم اجمالا أن هذا لزيد لو ما في يد الجائر
وبالجملة ما علم اجمالا ليس موضوعا للحكم ولا اجمال فيما هو موضوع له.
وهذا بوجه نظير ما علم تفصيلا بكون مايع خمرا وعلم اجمالا بأنها إما من هذا
العنب أو ذاك فإن العلم الاجمالي غير متعلق بموضوع ذي حكم فلا يكون منجزا في عرض
العلم التفصيلي، فالعلم الاجمالي المذكور لا يمنع عن أصالة الحل.
وقد يقال لا مسرح لاجراء أدلة حل ما لم يعلم بحرمته في المقام يعني في باب
إباحة التصرف في جوائز السلطان أصلا، لأنه إن كان هناك أصل أو أمارة تقتضي جوازه
كاليد وأصالة صحة تصرف المسلم على تقدير جريانهما فالحل مستند إليه، وإلا فأصالة
عدم ملك المجيز لما أجازه أو عدم سبب ملك المجاز له; بل أصالة عدم ملك المجاز
حاكمة على أصالة الحل " انتهى ".
أقول أما اليد وأصالة الصحة فيأتي الكلام فيهما، وأما الأصول الموضوعية
المذكورة ففي جريانها اشكال، أما أصالة عدم سبب الملك التي قررها المورد المحقق
طاب ثراه بأن ما في يد الجائر صار ملكا له بسبب حادث كالشراء والصلح والتوريث و
نحوها، وكلها مسبوق بالعدم، فأصالة عدم حدوث سبب الملك حاكمة على أصالة الحل
فيرد عليها بأن ما هو موضوع للحكم الشرعي أي حرمة التصرف أو عدم حليته هو ملك الغير
بغير إذنه أو مال الأخ المسلم لا بطيب نفسه، وهذا الحكم ثابت معلوم مع قطع
النظر عن بعض الروايات الواردة بهذا المضمون ويؤيده الروايات فالاستصحاب إن أحرز
موضوع هذا الحكم يصير حاكما على أصالة الحل فلا بد من النظر في أن الأصل المذكور
أو سائر الأصول الموضوعية المذكورة هل يصلح لاحراز موضوع الدليل الاجتهادي أو لا،
فنقول: إن أصالة عدم حدوث سبب الملك لا تفيد سواء قلنا بأن السببية مجعولة
استقلالا، أو قلنا بأن المجعول هو المسبب عقيب وجود السبب، لأنه على الأول يكون
ترتب السبب على المسبب عقليا وإن كانت السببية شرعية، فأصالة عدم وقوع السبب
لا تثبت عدم ملكية ما بيد الجائر وإن أغمض عن الاشكال المطرد في نحو تلك الأصول
العدمية بعد كون الجعل متعلقا بالجانب الوجودي، وكذا على الثاني، لأن السببية
233

غير مجعولة على الفرض، فعدم حدوث السبب لا أثر له رأسا وأصالة عدم حدوث
الملك له غير أصالة عدم حدوث السبب إلا أن يقال: إنه على هذا الفرض يكون السبب
موضوعا لترتب المسبب الشرعي عليه فبنفيه ينفي مع الغض عن الاشكال المطرد.
ثم لو بنينا على اثبات عدم ملكية الجائر بأصالة عدم السبب لكن عدم ملكيته
ليس موضوعا لحرمة التصرف وعدم الحل. بل الموضوع ملك الغير بغير إذنه في
التصرف أو التصرف في ملك الغير بغير إذنه ومال الأخ المسلم بغير طيب نفسه والأصل
المذكور لا يفيد لاثبات الموضوع.
ومن هنا يظهر الكلام في أصالة عدم ملكية المجيز لهذا المال وكذا أصالة
عدم ملك المجاز.
إن قلت: إن احتمال الحل ناشئ من احتمال كونه مال الجائر وأصالة عدم كونه
ماله يدفع هذا الاحتمال تعبدا.
قلت إن الحل لازم أعم لكون المال مال الدافع ومال غيره مع إذنه وكونه من
المباحات وكونه مال الأخذ المجاز واقعا لكن لما علم وجدانا أو بطريق معتبر عدم
كونه إلا مال الدافع أو المغصوب منه لا محالة يكون احتمال الحل منحصرا بكونه
مال الدافع فتكون الملازمة بين عدم كونه مال الدافع وبين عدم الحل مطلقا علمية،
وفي مثله لا يثبت إلا بالأصل المثبت، فإن نفي اللازم الأعم بنفي أحد الملزومات للملازمة
العلمية عقلي ومن الأصل المثبت.
ثم هنا أصل آخر تمسك به المحقق المتقدم طاب ثراه (1) وهو أصالة عدم
وقوع الإذن من المالك في مورد إذن الجائر، وهو بهذا الظاهر مخدوش، لأنها من قبيل
استصحاب الكلي لاثبات حال الفرد، فإن استصحاب عدم وقوع الإذن من المالك لا يثبت
أن هذا الموجود ملك لمالك لم يأذن فيه.
وإن أراد منها أصالة عدم كون الإذن المحقق الصادر من الجائر من المالك على
أن يكون اللام في الإذن للعهد (فيرد عليه) أن الإذن المحقق ليست له حالة سابقة بالكون

(1) هو العلامة الميرزا الشيرازي الثاني رحمه الله.
234

الناقص، واستصحاب عدم الكون المحمولي غير مفيد، وبالجملة يرد عليه ما يرد على أصالة
عدم القرشية والتفصيل في محله، مضافا إلى أنه مع تسليم جريانه أيضا غير مفيد،
لأن استصحاب عدم كون الإذن المحقق من مالكه لا يثبت عدم إذنه مطلقا ولو
بغير هذا الفرد إلا بالملازمة العلمية نظير ما تقدمت الإشارة إليه آنفا.
نعم يمكن تقرير الأصل بوجه آخر بأن يقال: إن هذا المال كان سابقا
لمالك لم يأذن في التصرف فيه، لا بنحو المعلوم بالاجمال أو الفرد المردد، حتى يقال:
بأنه لا شك في هذا المعنى الاجمالي أو الفرد المردد حتى يستصحب، ولا تتحد القضية
المتيقنة والمشكوك فيها، لا موضوع المتيقنة مجمل أو مردد، وليس هذا المعنى المجمل
أو المردد مشكوكا فيه، بل يشار إلى الفرد الواقعي والمالك الحقيقي فيقال: إن
هذا المال كان لمالك موجود مشخص واقعا لم يأذن فيه وإن لم أعرفه. وهو لا يضر
بالعلم بالواقع فيستصحب هذا العنوان، وهو عين العنوان المأخوذ في الدليل الاجتهادي
فينقح به الموضوع ويترتب عليه الحرمة، ويدفع به موضوع أصالة الحل.
إلا أن يقال: بورود نظير شبهة الغروب والمغرب في المقام فكما يقال:
بعدم جريان استصحاب عدم الغروب هناك، لأنه إن كان عبارة عن سقوط القرص
فهو معلوم التحقق وإن كان زوال الحمرة فهو معلوم العدم فلا شك في البقاء بل
الشك في انطباق مفهوم الغروب على هذا أو ذاك وهو أجنبي عن الاستصحاب يقال
هاهنا بأن لا شك في الواقع، لأن الإجازة من الجائر متيقنة، ومن الطرف الآخر
متيقنة العدم، والشك في انطباق المالك على الجائر أو الطرف فليس من البقاء.
لكن الظاهر عدم وقع للشبهة لا هناك ولا ههنا لتحقق الشك وجدانا في بقاء النهار
هناك وإن كان منشأه في الواقع الاشتباه في المفهوم فدوران الأمر بين الأمرين المعلوم
كل منهما على فرض محقق الشك في بقاء النهار.
فالشك في بقائه تارة يكون لأجل الشك في ذهاب الحمرة بعد احراز المفهوم
وأخرى لأجل الشبهة في المفهوم وهي محققة الشك وجدانا لا منافيته، وكذلك
235

في المقام، لأن الشك في بقاء عدم إذن المالك الواقعي وجداني وإن كان منشأه
العلم الاجمالي بأن مالكه هو الجائر المجيز أو غيره. وبالجملة لا يمكن انكار
هذه الواقعة أي العلم بعدم إجازة المالك الواقعي لهذا المال والشك في بقائه و
تبدله.
نعم هنا شبهة أخرى هي أن المعتبر في الاستصحاب وحدة القضية المتيقنة و
المشكوك فيها. وبعبارة أخرى يعتبر تعلق الشك بعين ما تعلق به اليقين وليس في المقام
كذلك، لأن العلم قد تعلق بشئ والشك بالآخر. ويتضح ذلك بالتدبر في مورد استصحاب
الكلي من القسم الثاني كالفرد المردد بين طويل العمر وقصيره بعد مضي زمان احتمال
بقاء القصير فإنه قد يراد فيه استصحاب الكلي بين الحيوانين منقطع الإضافة عن
الخصوصيات فلا كلام فيه ههنا بل الظاهر وحدة القضيتين وعدم الاشكال من هذه الجهة، و
قد يراد استصحاب شخص الحيوان الموجود في الخارج بأن يقال: قد علم تحقق
حيوان شخصي خارجي وجزئي حقيقي قبل مضي زمان العلم بزوال القصير وبعده
شك في بقاء ذلك الجزئي فيستصحب.
(وفيه) أن القضية المتيقنة ههنا غير القضية المشكوك فيها، لأن اليقين
تعلق بالحيوان مردد بين القصير والطويل، ضرورة عدم تعلقه بخصوص الطويل
أو القصير والشك في البقاء لم يتعلق بالحيوان المردد بينهما بل هنا احتمالان كل
تعلق بأحد طرفي الترديد، احتمال بقاء الحيوان وهو متعلق بالطويل واحتمال عدمه
وهو متعلق بالقصير. وبعبارة أخرى ما هو محتمل البقاء وهو الطويل محتمل
التحقق من أول الأمر كما أن ما هو محتمل الزوال محتمل التحقق، وما هو يقيني
التحقق ومحتمل البقاء هو الكلي الجامع بينهما.
وإن شئت قلت إن المتيقن هو المعلوم بالاجمال إذا لو خط الموجود الخارجي
بخصوصيته فإن الحيوان في الخارج وإن كان جزئيا حقيقيا لكن العالم مردد بين
كونه طويل العمر أو قصيره وهذا عبارة أخرى عن العلم الاجمالي; والفرد المردد
بحسب وجدان العالم والشك في البقاء لم يتعلق بهذا المعلوم بالاجمال; لأن معنى
236

تعلقه به أن يشك في بقاء هذا المعلوم المجمل المردد فإذا علم بوجود حيوان
مردد بين الفرس والحمار وشك في موت ما هو المردد المجمل بأن احتمل موته
سواء كان فرسا أو حمارا كان الشك متعلقا بعين ما تعلق به اليقين وتكون القضيتان
متحدتين. وأما في المقام فليس كذلك لأنه لا يحتمل زوال الحيوان المردد بين
الطويل والقصير كما هو واضح، وما نحن فيه كذلك لأن المال الذي لم يتعلق به
إذن المالك معلوم بالاجمال ومردد بين كونه للجائر أو غيره وبعد إذن الجائر علم
بتبدل عدم إذنه بالوجود وعلم ببقاء عدم إذن الطرف لو كان مالكا لكن الشك في
بقاء عدم كان المالك لأجل احتمال كون المالك غير الجائر; لا لاحتمال عدم التبدل
سواء كان المالك جائرا أم غيره فمحتمل البقاء محتمل التحقق لا متيقنه.
وبالجملة المتيقن معلوم بالاجمال ومحتمل البقاء أحد المحتملين دون الآخر
فاستصحاب عدم وقوع الإذن من المالك كاستصحاب عدم التمليك منه غير جار
" فتدبر فإنه حقيق به ".
وأما استصحاب الكلي فلا مسرح له في المقام لأن أحد طرفي الترديد مالك
والآخر غير مالك ولا يعقل أن يكون الجامع بينهما القابل للصدق عليهما المالك
الغير الآذن مع أن في استصحاب الجامع في المقام اشكالا نغمض عنه.
ثم إن الظاهر جريان الأصل الحكمي وهو أصالة بقاء حرمة التصرف في المجاز
فيه من قبل الجائر، لأن عدم جوازه قبل إجازته كان معلوما بالتفصيل وإن كان
منشأه معلوما اجمالا، وهو نظير العلم بنجاسة مايع تفصيلا مع التردد في أن نجاسته
من وقوع قطرة من دم زيد فيه أو عمرو فالتردد في المنشأ لا في المعلول، فالعلم
التفصيلي متعلق بحرمة التصرف في المال المأخوذ والشك في بقائها عينا ففرق بين
المقام وما تقدم كما يظهر بالتأمل، كما أن استصحاب عدم النقل بعد تمليك الجائر
لا مانع منه.
ثم إنه ربما يتوهم أن اليد معتبرة في المأخوذ بعد العلم التفصيلي بحرمة ما
في يد الجائر (وفيه) أن ما قلنا في عدم تأثير العلم الاجمالي وعدم منجزيته
237

في حرمة التصرف، لا قبل الإجازة ولا بعدها، للعلم التفصيلي بحرمة الجميع قبلها و
حرمة ما في يد الجائر بعدها، وأن العلم بأن هذا مال زيد أو مال الجائر لا يؤثر في
حرمة التصرف: غير جار ههنا، لأن اليد أمارة عقلائية أنفذها الشارع وهي كاشفة
عن مالكية ذي اليد ويترتب على ما في يده جميع آثار الملكية الواقعية من البيع
والشراء والصلح والإجارة ونحوها بل يجوز الشهادة على ملكية ذي اليد، ومع
العلم الاجمالي بأن بعض ما في يده ليس منه تسقط يده عن الأمارية والحجية سواء كان
مستندها الدليل الشرعي كقوله: " من استولى على شئ منه فهو له "، أو بناء
العقلاء; لعدم البناء جزما على ترتيب آثار ملكية ذي اليد على مالين يعلم بأن أحدهما
مغصوب وعلى أحدهما المعين فلا محالة تسقط عن الاعتبار، وذلك من غير فرق بين كون
المالين تحت يده أو نقلهما أو نقل واحدا منهما إلى غيره ومن غير فرق بين ما إذا أجاز في
تصرفهما أو تصرف واحد منهما أو لا فالعلم التفصيلي بحرمة التصرف أجنبي عن
المقام، مع أن اعتبار إجازة التصرف فيه ونفوذ تمليكه مستندا إلى اليد موقوف
على اعتبارها قبلهما فلا يعقل توقف حجيتها على أحدهما.
نعم لو قلنا بأن المستند لها هو الدليل التعبدي أي قوله: " من استولى على
شئ " (الخ) بناء على عدم وروده امضاء لما في يد العقلاء يمكن أن يقال إن اطلاقه
يقتضي حجيتها ولو في موارد لم يحرز بناء العقلاء على العمل أو أحرز عدم بنائهم
عليه فيصح أن يقال إنه مع خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء مطلقا بناء على
سقوط أثر العلم به أو مع سقوط العلم بوجه آخر تكون اليد حجة بالنسبة إلى سائر
الأطراف فيفصل بين كون المستند في اعتبار اليد بناء العقلاء فيقال بعدم اعتبارها
مطلقا وبين كونه الدليل الشرعي فيفصل بين سقوط العلم عن التنجيز وعدمه.
هذا بناء على اطلاق أدلة اعتبار اليد بالنحو المشار إليه لكنه لا يخلو من تأمل.
ويمكن دعوى بناء العقلاء على ترتيب آثار اليد في بعض الأطراف المبتلى به
مع كثرة الأطراف وإن لم تبلغ حد غير المحصورة والمسألة محتاجة إلى الفحص
والتأمل.
238

وأما أصالة الصحة المتشبث بها للمقصود فإن كان المراد منها أصالة الحمل
على المباح في دوران الأمر بين حرمة العمل وحليته فيقال: إن تصرف الجائر في
الجائرة بنحو الإجازة في التصرف فيها أو الاعطاء لها محمول على الإباحة الواقعية
ولازمها ملكيته ونفوذ إجارته وتمليكه فيدفع بها احتمال حرمة تصرف المجاز
واحتمال عدم النقل إليه والأصول الحكمية محكومة لأصالة الصحة ولو قيل بعدم
حكومتها على الأصول الموضوعية لما عرفت من عدم جريانها فليس في المقام إلا أصالة
حرمة التصرف وأصالة عدم الانتقال.
فيمكن أن يناقش فيها بأن المحرز من بناء العقلاء على اعتبار أصالة الصحة
وكذا الأدلة الشرعية التي يظهر منها مفروغية اعتبارها في الأبواب المتفرقة
الكثيرة كجواز الاكتفاء بتجهيز الميت الصادر من المسلم مع احتمال فساده،
والأدلة المرغبة إلى الجماعة مع احتمال بطلان صلاة الإمام والمأمومين الحائلين في
الصفوف، وأدلة تنفيذ الوكالة وجواز ترتيب الآثار على فعل الوكيل وكذا الوصي
إلى غير ذلك من الأدلة الظاهرة في جواز الاتكال على فعل الغير من أول الفقه إلى
آخره، وقلما كان في الفقه موضوع نحو أصالة الصحة في وفور الأدلة على اعتباره وإن لم يكن شئ منها بعنوانها لكن يعلم منها مفروغيتها هو حمل الفعل الذي له جهة
صحة وجهة فساد على الصحة الواقعية مع الشرائط المقررة في محله.
فبناء العقلاء على ترتيب آثار الصحة على أفعال تقع تارة صحيحة وأخرى فاسدة
كالعقود والايقاعات وكانوا يشهدون على ما ملكه الغير ببيع وصلح ونحوهما ويتزوجون
المطلقات ولا يعتدون باحتمال الفساد، ولم يحرز بنائهم على حمل فعل مردد بين
الحرمة والحلية التكليفية على الحلية الواقعية فيحلفون على كون فعله حلالا و
يشهدون عليه مع احتمال الحرمة بل خلافه محرز إذ الدوران بين الحرمة والحلية
ليس من دورانه بين الصحة والفساد بالمعنى المتقدم الذي هو موافق للعرف والاعتبار،
وهذا العنوان وإن لم يكن موضوع دليل لفظي بل هو عنوان مأخوذ في كلام الفقهاء،
لكن يمكن الاستيناس به لاختصاص حجيتها بالمورد المتقدم.
239

وكيف كان نحن لا نحتاج إلى الدليل على العدم بل يكفي عدم الدليل على
اعتبارها في المورد.
وإن أريد منها الصحة الوضعية أي نفوذ إجازته وصحة هبته وجائزته ليستكشف
منها ملكية الجائر ويترتب عليها آثارها.
(ففيه) أن المسلم من بناء العقلاء والأدلة الشرعية غير مورد العلم الاجمالي
سواء كان منجزا أم لا، مضافا إلي أنه لا يثبت بأصالة الصحة إلا صحة العقد ونحوه
وكون المال لغيره: لا ينافيها كما قرر في محله.
مضافا إلى امكان الاستدلال بعدم جواز ترتيب تلك اللوازم أي كشف الملكية
ونحوها عليها بقوله في رواية حفص بن غياث الواردة في اعتبار اليد " ولو لم يجز
هذا لم يقم للمسلمين سوق ".
فإن الظاهر منها أن سلب اعتبار اليد موجب لاختلال نظم السوق مع أنه لو
ترتبت على أصالة الصحة تلك اللوازم وثبتت بها الملكية وغيرها من الآثار لما اختل
نظام السوق بواسطة عدم اعتبارها بل لما احتاج المسلمون إلى اعتبارها في قيام
سوقهم ولو فرض في بعض الموارد النادرة الاحتياج إليه لما كان موجبا لاختلاله مع عدم
اعتبارها مطلقا.
فتحصل من جميع ما مر أن في بعض الموارد على بعض المباني تكون اليد
حجة ويصح الاستناد إليها ويدفع بها استصحاب حرمة التصرف وعدم الانتقال، وفي
سائر الموارد تكون أصالة حرمة التصرف وعدم الانتقال محكمة وتقدم على أصالة
الحل تحكيما.
هذا كله فيما علم اجمالا بأن هذا المال المأخوذ مثلا من الغير أو ذلك فيما هو
في معدود. وأما إذا علم أن في أموال فلان مال محرم وكان له طرق معاش محللة وبعض
طرق محرمة فالظاهر قيام بناء العقلاء والسيرة المتشرعة على اعتبار يده، وهذه
الصورة خارجة من مفروض مسئلتنا هذه وسيأتي الكلام فيها.
240

ثم إن الشيخ الأنصاري تعرض لمسألة أخرى في ذيل المسألة الثانية تكون
من شقوقها أو مسألة مستقلة وهي صورة تنجيز العلم الاجمالي جميع الأطراف.
وتفصيل القول فيه بوجه يتضح الحال في مطلق العلم الاجمالي أنه تارة يكون
العلم الاجمالي من قبيل المقام، وهو ما كان الأطراف مسبوقة بالعلم التفصيلي مع عدم
ايجاب جريان الأصل فيها للمخالفة العملية، فاستصحاب حرمة التصرف في كل من
الأطراف جار وحاكم على أصالة الحل بناء على جريانه في الأطراف في هذا الفرض
وبناء على عموم أدلة الحل للأطراف المعلوم بالاجمال.
وأما في سائر الصور وفي مطلقها بناء على سقوط الأصول في الأطراف بالمعارضة
أو عدم جريانها فربما يقال: مقتضى اطلاق أدلة الحل وخصوص صحيحة عبد الله بن
سنان (1) عن أبي عبد الله عليه السلام " قال: كل شئ فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبدا حتى تعرف
الحرام بعينه فتدعه، حلية جميع الأطراف وسقوط العلم الاجمالي رأسا وقد تقدم
عدم محظور عقلي فيه.
(وفيه) أن في الصحيحة احتمالات:
أحدها أن المراد بالشئ هو الموجود المتشخص كما هو ظاهره والضماير
راجعة إليه فيكون المعنى كل موجود شخصي في الخارج فيه حلال وحرام فهو لك حلال
حتى يتميز الحلال والحرام ويعرف الحرام بعينه، فيختص بمورد اختلاط الحلال و
الحرام وحصول موجود شخصي عرفي، كاختلاط الخل والخمر، وهذا بعيد جدا سيما مع عدم
تحقق الغاية مطلقا أو نوعا.
ثانيها هذا الاحتمال، لكن مع ارجاع ضمير فيه إلى جنس الشئ المتشخص
استخداما فالمعنى كل متشخص في جنسه نوع حلال ونوع حرام مع الجهل بانطباق
أحد العنوانين عليه فهو حلال حتى تعرف أنه حرام بعينه باندراجه تحت النوع الحرام
فيختص بالشبهة البدوية أو يعم أطراف العلم الاجمالي باطلاقه.
ثالثها أن يراد بالشئ الطبيعة فالمعنى كل طبيعة قسم منها حلال وقسم حرام
فهي حلال حتى تعرف القسم الحرام فتدعه، وهذا كالثاني في الاختصاص بالشبهة

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 4 - من أبواب ما يكتسب به.
241

البدوية أو الاطلاق.
رابعها أن يراد بالشئ مجموع شيئين فصاعدا مع اعتبار الوحدة فيراد كل
مجموع فيه حلال وحرام أي بعضه حلال وبعضه حرام فذلك المجموع حلال أبدا حتى
تعرف الحرام فتدعه، وأما احتمال أن يكون المراد من قوله: " فيه حلال وحرام "
احتمالهما: فبعيد غايته.
فعلى الاحتمال الأول والرابع تكون واردة في خصوص المعلوم بالاجمال أو
المختلط بنحو ما مر لكن الاحتمالين ضعيفان مخالفان لفهم العرف أما الأول فظاهر
وأما الرابع فلأن حمل كل شئ على كل مجموع واحد بالاعتبار في غاية البعد، فالأظهر
هو الاحتمال الثالث.
ويؤيده ورود نظيرها في ذيل روايات الجبن، كرواية عبد الله بن سليمان (1)
" قال سألت أبا جعفر عليه السلام عن الجبن فقال لقد سألتني عن طعام يعجبني " إلى أن قال:
" قلت " ما تقول في الجبن قال أولم ترني آكله قلت بلى ولكني أحب أن أسمعه منك فقال
سأخبرك عن الجبن وغيره كل ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام
بعينه فتدعه ".
فإن السؤال عن الطبيعة ولو بلحاظ وجودها لا عن خصوص مصداق أو مصاديق
منضمة بعضها ببعض ولعل منشأ سؤاله علمه بأن يجعل في بعض الأمكنة فيه الميتة،
كما ربما تشهد به رواية أبي الجارود (2) " قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن الجبن فقلت
له: أخبرني من رأى أنه يجعل فيه الميتة فقال: أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة
حرم ما في جميع الأرضين " (الخ)، فعلية لا يراد بها خصوص المعلوم بالاجمال بل إما
يراد بها خصوص المشتبه بدوا أو مقتضى اطلاقها التعميم لكن الأخذ بهذا الاطلاق
مشكل أو ممنوع.

(1) الوسائل - كتاب الأطعمة والأشربة - الباب 61 - من أبواب الأطعمة
المباحة - الأولى مجهولة لأن عبد الله بن سليمان مشترك بين المجاهيل والثانية ضعيفة
بأبي الجارود.
(2) تقدم آنفا
242

أما أولا فلاعراض الأصحاب عنه فإنه لم ينقل جواز ارتكاب الجميع إلا عن
شرذمة من المتأخرين، والكلام ههنا في مطلق المعلوم بالاجمال لا خصوص الجوائز و
سيأتي الكلام فيها.
وأما ثانيا فلأن العقل وإن لا يأبى عن تجويز ارتكاب جميع الأطراف لما تقدم
لكن العرف والعقلاء يأبون عنه بعد ما لا يحتمل تخصيص الواقع، لأن الحكم الظاهري
لا يخصص الأحكام الواقعية حتى يحتمل في مورد التخصيص عدم الاقتضاء في الموضوع
ولا يحتمل أن يكون عروض الشبهة موجبا لتغيير مفسدته فلا محالة يكون الموضوع،
باقيا علي مفسدته لكن في الشبهة البدوية يكون التحليل الظاهري لمصلحة في
التوسعة أو مفسدة في التضييق تكون في نظر الشارع الأقدس مراعاتها أهم من المفسدة
المبتلى بها في بعض الأحيان بخلاف أطراف العلم الاجمالي فإن ترك العقول بحالها
من إلزام الاجتناب لا يوجب مفسدة غالبة على مفسدة الواقع ولا يكون في ترك الأطراف
مضيقة وحرج.
وإن شئت قلت: إن ما ذكرناه سابقا من عدم كون الترخيص في جميع الأطراف
ترخيصا في المعصية إنما هو بنظر العقل الدقيق المخالف لنظر العرف وأما بهذا النظر
فيكون الترخيص في جميع الأطراف مستبعدا أو قبيحا فتكون مثل تلك الرواية
قاصرة عن اثباته، فلو صح ذلك فلا بد من الالتزام بجواز ايقاع المكلف نفسه في
الشبهة فيخلط الحرام بالحلال عمدا فيرتكب الجميع وهو كما ترى.
وتوهم أن الرواية متعرضة لحال ما كان مشتبها بطبعه وبلا اختيار (تحكم)
وبالجملة أن الرواية في محيط العرف مخصصة أو منصرفة عن أطراف العلم
الاجمالي.
وأما موثقة مسعدة بن صدقة (1) عن أبي عبد الله عليه السلام " قال سمعته يقول كل شئ
هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثواب
يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة والمملوك عندك لعله حر قد باع نفسه أو خدع

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 4 - من أبواب ما يكتسب به.
243

فبيع قهرا أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك والأشياء كلها على هذا حتى
يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة " ففي كونها من أدلة أصالة الحل اشكال.
منشأه عدم انطباق شئ من الأمثلة المذكورة فيها على أصالة الحل لأن
احتمال السرقة في المال الذي اشتراه من الغير مدفوع باليد الحاكمة عليها وكذا
الحال في المملوك، واحتمال أختية امرأة تحته وكذا احتمال كونها رضيعته مدفوع
ببناء العقلاء على عدم الاعتناء بتلك الاحتمالات فيما بأيديهم، ولعل منشأه قاعدة
اليد فإنها لا تنحصر على مورد الشك في ملكية الأعيان بل الاستيلاء واليد على كل شئ
أمارة عقلائية على ملكيته له بالمعنى الأعم.
فمن استولى على موقوفة بعنوان التولية عليها وبعمل عملها معها يبني
العقلاء على ولايته وأن يده واستيلائه أمارة عليها، ومن استولى على امرأة
استيلاء زواج بحكم العقلاء بكونها زوجته ويعمل معها معاملة زوجيته الواقعية
من غير اعتناء باحتمال أنها أخته أو رضيعته هذا بالنسبة إلى استيلاء الغير واضح.
والظاهر أنه كذلك لو شك المستولي بعد استيلائه سيما مع معاملته مع المستولي
عليه معاملة الملكية أو الزوجية فمن كانت تحته امرأة يعامل معها معاملة الزواج
ثم شك في أنها أخته أو رضيعته لا يعتني به، لأن، الاستيلاء الزواجي كاشف عن
زوجيته ولو اعتنى بشكه يعد مخالفا لطريقة العقلاء كما أن الأمر كذلك فيما استولى
عليه من الأموال.
ولعل قوله: " من استولى على شئ منه فهو له " يعم مطلق الاستيلاء فيعم
كونه له لمطلق الاختصاص الأعم من الاختصاص الملكي ولو استشكل فيه فلا ينبغي
الاشكال في بناء العرف، مع أن مقتضى الاستصحاب عدم كونها رضيعته، وأما استصحاب
عدم كونها أخته النسبية فجريانه مبني على جريان الأصل في الأعدام الأزلية.
وكيف كان ليس شئ من الأمثلة مورد جريان أصالة الحل، فلا بد من دفع الاشكال
أما بأن يقال إن الأمثلة المذكورة لم تذكر مثالا لقوله كل شئ هو لك (الخ) بل ذكرت
على سبيل التنظير بأمور عقلائية للتشابه بينها وبين أصالة الحل بوجه فكأنه قال:
244

كما أن في الموارد المذكورة يبنى على الحل كذلك يبنى عليه في مطلق ما شك فيه
من غير نظر إلى وجه البناء عليه، فتكون الرواية بصدد بيان أصالة الحل والأمثلة تقريب
بالأذهان بوجه.
أو يقال: إن قوله: " هو لك " جملة وصفية لقوله: " كل شئ " و " حلال " خبره،
فكأنه قال: كل شئ استوليت عليه حلال حتى تعلم خلافه، بدعوى أن الأمثلة قرينة
عليه وفي ضمير الفصل اشعار به فتكون الرواية بصدد بيان جواز ترتيب آثار الحلية على
ما استولى عليه تأسيسا أو ارشادا إن قلنا بموافقته لبناء العقلاء.
أو يقال: إن المراد بقوله: " كل شئ هو لك حلال " ليس أصالة الحل بقرينة
الأمثلة بل المراد بيان الحلية المنكشفة بتلك الأمارات تأسيسا أو ارشادا، والمراد
بالمعرفة هي الوجدانية أو الأعم منها، ومن البينة المقدمة عليها كما جعل في ذيلها
الاستبانة وقيام البينة غاية للحل، أو يقال: إن المراد بالحلال معنى عام بنحو الجمع
في التعبير يشمل مورد الأصل والإمارة لا خصوص واحد منهما، فقد ظهر أنها من أدلة
أصالة الحل على بعض الاحتمالات، والانصاف أن الاتكال عليها لأصالة الحل واجرائها
في أطراف العلم مشكل في مشكل ولو سلم ذاك وذلك يأتي فيها ما قلناه في صحيحة
ابن سنان.
ثم إن السيد الطباطبائي تمسك بروايات لعدم لحوق حكم الشبهة المحصورة
في المقام بل مطلقا أي في غير الجوائز وغير السلطان وعامله في الجملة أو في جميع
الأطراف.
منها ما وردت في شراء السرقة والخيانة كصحيحة أبي بصير (1) " قال: سألت
أحدهما عن شراء الخيانة والسرقة قال: لا، إلا أن يكون قد اختلط معه غيره، فأما
السرقة بعينها فلا، إلا أن يكون من متاع السلطان فلا بأس بذلك "، ورواية الجراح
المدائني (2) عن أبي عبد الله عليه السلام " قال: لا يصلح شراء السرقة الخيانة إذا عرفت ".
وموثقة سماعة (3) " قال: سألته عن شراء الخيانة والسرقة فقال: إذا عرفت أنه

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 1 - من أبواب عقد البيع وشروطه - الثانية ضعيفة بجراح المدائني.
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 1 - من أبواب عقد البيع وشروطه - الثانية ضعيفة بجراح المدائني.
(3) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 1 - من أبواب عقد البيع وشروطه - الثانية ضعيفة بجراح المدائني.
245

كذلك فلا، إلا أن يكون شيئا اشتريته من العامل ".
أقول أما الكلام في السلطان وعامله فسيأتي انشاء الله، وأما في غيرهما فمحصل
الكلام فيه: أن الروايتين الأخيرتين مساقهما كمساق سائر ما وردت في شراء السرقة
والخيانة كقوله في حديث المناهي (1) " ومن اشترى خيانة وهو يعلم فهو كالذي
خانها "، وقوله: " من اشترى سرقة وهو يعلم فقد شرك في عارها وإثمها "، وقوله
في بيع الجارية المسروقة (2) " إذا أنبأهم أنها سرقة فلا يحل، وإن لم يعلم فلا
بأس " هو التفصيل بين العلم والجهل لا العلم الاجمالي والتفصيلي فلا دلالة فيها
على مطلوبه.
مع أن توهم نفي البأس عن بعض الأطراف بالخصوص بلا مرجح كما
ترى " تأمل " وعن كليهما دفعة أو تدريجا مخالف للروايات المذكورة، ضرورة
أن من اشترى مجموع أمرين يعلم كون أحدهما سرقة أو اشترى مخلوطا من
المسروق وغيره فقد اشترى السرقة وهو يعلم وصدق أنه اشترى السرقة مع معرفته
بأنها سرقة.
مضافا إلى أن الظاهر من مرسلة ابن أبي نجران (3) عن أبي عبد الله " قال: من اشترى
سرقة وهو يعلم فقد شرك في عارها وإثمها " أن الشركة في العار أمر عقلائي لا تعبدي.
ومن الواضح أن شراء أطراف ما علم كون بعضها سرقة دفعة أو تدريجا عار وعيب
لدى العقلاء ويعد مشتريها آكل مال السرقة، والظاهر أن شراء بعض الأطراف
أيضا لا يخلو من عار وعيب بخلاف مورد الشك البدوي مع قيام الطرق العقلائية
على ملك البايع، وبالجملة أن الظاهر من تلك الروايات هو تجويز المجهول
لا المعلوم بالاجمال، وتوهم الاطلاق غير وجيه وعلى فرض التسليم فلا شبهة في
الانصراف.
وأما صحيحة أبي بصير فيمكن أن يقال فيها: إن الاختلاط مع غيره في مقابل
السرقة بعينها هو الاشتباه بغيره فإن قوله: بعينها تأكيد للسرقة كأنه قال: السرقة

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 1 - من أبواب عقد البيع وشروطه
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 1 - من أبواب عقد البيع وشروطه
(3) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 1 - من أبواب عقد البيع وشروطه
246

نفس السرقة ولا شبهة في أن المختلط بمعنى الامتزاج إذا اشترى يقع الاشتراء
بالسرقة بعينها ونفسها; وكذا إذا اشترى المعلوم بالاجمال بأطرافه يصدق أنه
اشترى السرقة بعينها، فتلك الجملة قرينة على أن الاختلاط ليس هو الامتزاج
ليلزم التناقض بين الجملتين، بل يراد به الاشتباه شبهة بدوية، ولو سلم دلالتها
على جواز شراء المختلط بالحرام فالظاهر أن السؤال عن الحكم الوضعي أي صحة
الشراء كما هو كذلك في جميع الأسئلة الواردة في الأسباب الشرعية والعقلائية،
فالمراد أن شراء السرقة غير جائز وأما إذا اختلط بغيره فيصح شرائه، لأنه مال
يمكن تطهيره باخراج خمسه أو التصالح أو الصدقة فلا ربط لها بعدم اعتبار العلم
الاجمالي.
وبالجملة أن تصحيح شراء المختلط لا يدل على جواز أكل المشتري إياه
لعدم كونها في مقام بيان غير صحته ولو فرض اطلاقه فلا محالة وجب اخراج خمسه
بأدلة ثبوته في المال المختلط بالحرام.
ولو أغمض عن ذلك فلا بد وأن يقال: إن الاختلاط موجب للتحليل واقعا و
خروج الملك عن ملكية صاحبه ودخوله في ملك الغاصب ليصح الشراء، وهو بعد الغض
عن مخالفته للقواعد المحكمة وعدم امكان تركها إلا بأدلة قاطعة صريحة معمول
عليها، وهذه الرواية مع الاحتمال المتقدم لا تصلح لذلك: موجب لوقوع التعارض بينها
وبين سائر الروايات المتقدمة، لأن سلب العلم ولو اجمالا عن الطريقية والحجية غير
ممكن، فلا بد من التصرف في المعلوم فلا بد وأن يقال: إن موضوع الحكم
في الصحيحة هو المال المختلط علم به أم لا، فشراء المال المختلط بالسرقة صحيح
واقعا علم بها أم لا.
ومضمون تلك الروايات أن شراء المعلوم باطل اجمالا كان العلم، أم تفصيلا،
مختلطا كان المعلوم، أم لا، فتتعارض الطائفتان تعارض العموم من وجه والترجيح
مع سائر الروايات بوجوه لو قلنا بعمل العلاج في تعارض العامين من وجه، ومع القول
بالتساقط فمقتضى القواعد العامة عدم الجواز.
247

ومنها ما وردت في باب الربوا.
كصحيحة الحلبي (1) عن أبي عبد الله عليه السلام " قال: أتى رجل أبي فقال: إني ورثت مالا وقد
علمت أن صاحبه الذي ورثته منه قد كان يربي وقد أعرف أن فيه ربا واستيقن ذلك وليس يطيب
لي حلاله لحال علمي فيه، وقد سألت فقهاء أهل العراق وأهل الحجاز فقالوا: لا يحل أكله فقال
أبو جعفر عليه السلام: إن كنت تعلم بأن فيه مالا معروفا ربا وتعرف أهله فخذ رأس مالك ورد ما سوى
ذلك وإن كان مختلطا فكله هنيئا فإن المال مالك واجتنب ما كان يصنع صاحبه فإن رسول الله
صلى الله عليه وآله قد وضع ما مضى من الرباء وحرم عليهم ما بقي فمن جهل وسع له جهله حتى
يعرفه فإذا عرف تحريمه حرم عليه ووجب فيه العقوبة إذا ركبه كما يجب على
كل من يأكل كل الرباء ".
وقريب منها صحيحته الأخرى (2)، ورواية أبي الربيع الشامي (3) " قال:
سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل أربى بجهالة ثم أراد أن يتركه قال أما ما مضى فله
وليتركه فيما يستقبل ثم قال إن رجلا أتى أبا جعفر عليه السلام وذكر الحديث المتقدم.
وأنت خبير بأن مورد بحثنا بعد الفراغ عن الحكم الواقعي وعدم الفرق بحسب
اطلاق الأدلة والطرق الاجتهادية بين المعلوم والمجهول أي كان الحكم متعلقا بنفس
الطبيعة من غير قيد وإنما العلم كان طريقا محضا إلى الواقع.
وأما إذا اختلف الحكم الواقعي بحسب حال العلم والجهل فهو خارج عن محط البحث
ونحن وإن لم تكن بصدد تنقيح المسألة المعنونة عند الفقهاء في باب الربا لكن من الواضح
للمراجع أن المبحوث عنه عندهم في المال الربوي الحاصل بجهالة، والمال المورث
ممن كان يربي هو الحكم الواقعي فذهب ابن الجنيد إلى التفصيل بين المختلط و
المعزول في الربا بجهالة وفي المورث ممن يربى، وقواه بعض المتأخرين استنادا
إلى تلك الروايات فيظهر أن مورد كلامهم غير ما نحن بصدده.

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 5 - من أبواب الرباء.
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 5 - من أبواب الرباء - الثانية مجهولة
بأبي الربيع الشامي - وفي سندها خالد بن جرير وهو لم يوثق.
(3) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 5 - من أبواب الرباء - الثانية مجهولة
بأبي الربيع الشامي - وفي سندها خالد بن جرير وهو لم يوثق.
248

وأما صحيحة الحلبي المتقدمة فالظاهر من قوله فيها: " فإن المال مالك "
إن المختلط ماله واقعا، ولما كان احتمال كون الاختلاط من النوافق بعيدا جدا
لا يبعدان يقال: إن الأمر برد الربا المعروف إلى صاحبه إن كان معروفا محمول
على الاستحباب.
بل يمكن أن يقال: إن الأمر بالرد لما تعلق بصورة واحدة وهي معروفية
المال وصاحبه تكون سائر الصور أي صورة اختلاطه مع معروفية الصاحب وعدمها،
وصورة كون الصاحب غير معلوم مع معروفية المال وعدمها داخلة في عدم لزوم الرد،
وذكر أحد مصاديق المفهوم غير عزيز، ويكون التعليل للجميع، لا لخصوص صورة
الاختلاط فيكون الحمل على الاستحباب حينئذ أقرب.
وعليه يمكن أن يكون المفروض في السؤال والجواب صورة جهالة المورث
بحكم الربا بالقرينة المذكورة وبمحفوفية الرواية بما لا يبعد أن تكون قرينة عليه
زائدة على ما ذكرناه وهو قوله: فإن رسول الله صلى الله عليه وآله قد وضع ما مضى (الخ)
فإن الظاهر أن التناسب بينه وما تقدم هو مفروضية جهالة المورث.
ويؤيده أيضا رواية أبي الربيع المتقدمة عن أبي عبد الله عليه السلام حيث استشهد
عليه السلام بعد بيان حكم الربا بجهالة بقول أبيه عليه السلام وهو ما في رواية الحلبي بعينها
وهو شاهد على أن مورد قول أبي جعفر عليه السلام أيضا هو الربا بجهالة.
ويحتمل أن يكون مورد السؤال فيها هو الربا مع عدم العلم بكونه بجهالة
أو لا، فحينئذ لا يبعد القول بأمارية يد المورث لما في يده لاطلاق قوله: " من استولى
على شئ منه فهو له "، ولبناء العقلاء فحينئذ يكون قوله: " فإن المال مالك " لأجل
انتقاله إليه ممن يكون ماله بأمارة شرعية فيحمل الأمر برد ربا المعروف على
الاستحباب، بل لو قلنا في تلك المسألة بالتفصيل كما قال به ابن الجنيد يكون
ذلك في الحكم الواقعي كما أشرنا إليه، وقريب مما ذكرناه يقع الكلام في صحيحة
الحلبي الأخرى، وكيف كان اثبات ما رامه السيد رحمه الله بهذه الروايات مشكل
بل ممنوع، هذا كله في غير روايات الباب.
249

وأما الروايات الخاصة بجوائز السلطان وعماله.
فمنها صحيحة أبي ولاد (1) " قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما ترى في رجل
يلي أعمال السلطان ليس له مكسب إلا من أعمالهم وأنا أمر به فأنزل عليه فيضيفني ويحسن
إلى وربما أمر لي بالدراهم والكسوة وقد ضاق صدري من ذلك فقال لي: كل وخذ
منه فلك المهنأ (الحظ - خ ل) وعليه الوزر ".
والظاهر أن الرجل المسؤول عنه من هو داخل في ديوان السلطان نحو الوزير
والمستوفي والوالي، وبالجملة المراد منه أهل الديوان لا من يعمل للسلطان شخصه
كالخياط ونحوه، ولا غير الديواني كمن يعمل للسلطان كالسراج والصيقل، و
يظهر من الجواب أن المراد منه غير الشيعي المجاز من قبل الأئمة (ع) في الدخول
في أعمالهم وهو واضح ويراد بقوله " ليس له مكسب " أن لا معيشة له إلا من
أعمالهم، وليس المراد الكسب المساوق للتجارة ظاهرا حتى يقال إن المراد منه
الأجير للسطان في عمل.
والظاهر أن تقييد مورد السؤال بما ذكر ليس لمجرد بيان الواقعة من غير
نظر إلى احتمال دخالته في الحكم، بل هو لأمر ارتكازي عقلائي; وهو أن من لا
مكسب له ولا طريق لمعيشته إلا الحرام لا يعتني العقلاء بيده ولا يعملون مع ما في
يده معاملة ملكه نظير ما مر في رواية الاحتجاج (2) في قضية وكيل الوقف حيث
قيد فيها جواز أخذ بره يكون معاش ومال له غير الوقف، وقد قلنا إن الجواب
موافق ظاهر بناء العقلاء في اعتبار اليد.
وعلى ذلك يكون التقييد لاحتمال دخالته في الحكم فكأنه قال: من لا معاش
له إلا من عمل السلطان يجوز أخذ جائزته والأكل من طعامه، لا للعلم التفصيلي
بحرمة ما في يده، فإن العلم به ممنوع نوعا; لاحتمال كون ما أعطاه من غير الحرام
كارث أو هدية ونحوهما، وقلما يتفق للوارد على الوالي والعامل العلم التفصيلي

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 51 - من أبواب ما يكتسب به.
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 51 - من أبواب ما يكتسب به.
250

بحرمة عطيته ونحوها، مضافا إلى أن السؤال معه بعيد جدا.
وقوله: " ولك المهنأ وعليه الوزر " لا يراد به ظاهرا أن الوزر في ذلك المال محقق
معلوم حتى نحتاج في توجيهه إلى أن المفروض في السؤال معلومية حرمته على العامل
سواء كان من الخراج ونحوه أو من صلب مال السلطان أو من الظلم على العباد، وكان
قوله: " لا مكسب له غير أعمالهم " لإفادة ذلك، وإن احتمل الحلية للأخذ، لاحتمال
جواز بعضها للشيعة.
بل الظاهر أن ذلك تعبير عرفي يقال في مورد المشتبه عند السائل فيقال لمن يأكل
من طعام المضيف: إن حظه لك ووزره عليه أي إن كان فيه وزر، فالتعبير جار
على ما تعارف عند الناس وليس له ظهور في فرض الوزر الفعلي المحقق وبالجملة
ليس ذيل الرواية قرينة على فرض العلم التفصيلي بل الصدر قرينة على الذيل
لو سلم ظهور ماله
نعم الظاهر في مفروض السؤال هو مورد العلم الاجمالي مع خصوصية
زائدة هي قوة احتمال كون الجائزة من الحاصل في أعمالهم إذ لا مكسب له غيره
ومن ترك الاستفصال يستفاد أن الحكم جار فيما إذا علم اجمالا باشتمال أموال العامل
على محرم غير نحو الخراج والزكاة سيما مع كثرة الظلم في ديوانهم وأخذهم مال
الناس زائدا على الأموال المفروضة في الاسلام.
ثم الظاهر أن مورد الرواية هو كون الجائزة والضيافة من أطراف المعلوم
بالاجمال وسائر الصور خارجة عنه حتى مورد العلم الاجمالي باشتمالهما على محرم
لغاية بعد حصول العلم لمن ورد على العامل وصار ضيفا له بغتة على اشتمال ضيافته أو
جائزته على العين المحرمة.
فمورد السؤال والجواب هو الصورة التي قلنا فيها بحرمة التصرف بحكم
الاستصحاب أي ما إذا كان بعض الأطراف مجازا أو جائزة دون سائر ما في يد المجيز،
فالصورة التي فرضها الشيخ الأنصاري في ذيل الصورة الثانية خارجة عن مورد الرواية
وإنما موردها هو الصورة الثانية، وقد عرفت حال اليد وأصالة الصحة والخروج عن محل
251

الابتلاء، فصحيحة أبي ولاد مخالفة لاستصحاب حرمة التصرف في المال وللعلم الاجمالي
الموجب لسقوط اليد عن الاعتبار، لما عرفت من سقوطها ولو لم تكن الأطراف أو
بعضها جائزة التصرف له.
إلا أن يقال: إن جريان الاستصحاب وسقوط اليد عن الاعتبار إنما هو في مورد
علم اجمالا أن هذا المجاز أو الجائزة من مال الغير أو ذاك الذي تحت يد المجيز ويلحق
به ما إذا لم يكن للمجيز معيشة إلا من الحرام كالسرقة وقطاع الطريق وغيرهما ممن
كان طريق معاشه منحصرا في غير المشروع، وأما من كان له طرق مشروعة لمعاشه
فيده معتبرة ولو علم اجمالا بأن في أمواله مغصوبا أو محرما، لما مر أن بناء العقلاء
وسيرة المتشرعة علي معاملة الملكية مع ما في يد التاجر وغيره ولو مع العلم بأن في
أمواله محرما، وتدل عليه الرواية المتقدمة في متولي مال الوقف.
فيمكن أن يقال في المقام إن مورد السؤال هو جائزة من يلي عمل السلطان و
لا مكسب له غيره، والظاهر أن ضيق صدره لأجل اعتقاده بأن ما في يد العامل حرام
نوعا ولو كان من قبيل الخراج والمقاسمة والزكاة، لعدم أهليتهم لأخذها، ولعله
الظاهر من تقييده بأن لا مكسب له غير أعمالهم، وقد قلنا بسقوط اليد لدى العقلاء إذا
كان ذو اليد ممن لا شغل له إلا الحرام.
والجواب بالحل لعله لأجل كون نوع ما في يد العمال من الخراج و
المقاسمة والزكاة مما أخذها السلطان بدعوى ولايته الشرعية حلالا أخذه وشرائه
وكان الزارع المأخوذ منه فارغ الذمة منها شرعا كما يأتي الكلام فيه.
فحينئذ يكون يد العامل الذي لا شغل له إلا عمل السلطان على الجوائز والأموال
الآخر كيد التاجر الذي لا شغل له إلا التجارة وإن علم أن في تجارة هذا وما في يد ذاك
محرما، فكما أن يد التاجر كاشفة عن ملكيته ومعتبرة لدى العقلاء والمتشرعة
كذلك يد العامل على الأموال التي تحت استيلائه كاشفة عن كونه مأخوذة خراجا
ومقاسمة ونحوهما لا ظلما وعدوانا; فهذه اليد معتبرة لدى العقلاء والمتشرعة بعد
حلية ما ذكر وإن علم اجمالا أن في جملة الأموال التي تحت يدهم مالا مغصوبا.
252

فلا يبعد أن تكون الروايات الواردة في حل الجوائز موافقة للقاعدة بعد
البناء على حلية الخراج ونحوه وجواز أخذها وشرائها من السلاطين وعمالهم. ولو
نوقش في كاشفيتها عن كون المأخوذ خراجا ونحوه فلا أقل من اعتبارها لدى العقلاء
وعدم الاعتناء بكونه مأخوذا ظلما وعدوانا.
وإن شئت قلت كما أن ما في يد عامل الصدقات من قبل السلطان العادل
يعامل معه معاملة ملكيته الأعم من الملكية الشخصية والسلطنة على جهة الولاية
فيشترى العقلاء والمتشرعة منه ما في يده وإن علم أن ما في جملة الأموال التي تحت
يده حراما ولا يعتنى باحتمال كون المحرم هذا البيع كذلك في المقام بعد
الفرض المتقدم.
وبعبارة أخرى أن وجه التوقف عن الأخذ والمعاملة معه أما احتمال كونه
من مال الصدقة فالمفروض أنه أجاز ولي الأمر الحقيقي لذلك، أو العلم الاجمالي
باشتمال ما في يده على المظلمة فقد عرفت عدم اعتناء العقلاء بذلك في الأشباه
والنظائر.
وإن أبيت عن كل ما ذكر فلا ينبغي الاشكال في أن الروايات الواردة في
الباب على كثرتها لا تدل على الحل في غير المورد المتقدم أي مورد العلم الاجمالي
بأن في أموال العامل محرما واحتمل كون المأخوذ منه، وأما سائر الصور الأربع و
كذا الصورة التي تعرض لها الشيخ الأنصاري في ذيل الصورة الثانية فلا دلالة لها
عليه، لأن قوله: جوائز السلطان لا بأس به، وقوله: أمر بالعامل فيجيزني بالدراهم
آخذها قال نعم قلت وأحج بها قام نعم ونحوهما: منصرفة إلى ما هو المعمول المتعارف
المعهود من جائزة السلاطين وعمالهم من غير علمهم بأنها محرمة أو فيها محرم بل من
غير العلم بأن هذا أو ذاك محرم، وبالجملة ليست الروايات بصدد تحليل مال الغير
على الأخذ بمجرد كون المأخوذ منه سلطانا وعاملا له.
وإن شئت قلت إن الروايات بصدد بيان جواز أخذ جائزتهم، لا تحليل المحرم
المعلوم بالتفصيل أو الاجمال فلا اطلاق لها من هذه الجهة.
253

نعم لما كانت الصورة الثانية كالملازم لجوائزهم بمعنى أن العلم بكون بعض
أموالهم محرما حاصل لنوع الناس فلا محالة تكون هذه الصورة مشمولة للحكم.
وتشهد لما ذكرناه روايات (منها) صحيحة معاوية بن وهب (1) " قال قلت
لأبي عبد الله عليه السلام أشتري من العامل الشئ وأنا علم أنه يظلم قال اشتر منه "، و
قريب منها رواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله عنه عليه السلام (2) (ومنها) موثقة إسحاق بن عمار (3) " قال سألته عن الرجل يشتري من العامل وهو يظلم قال يشتري منه
ما لم يعلم أنه ظلم فيه أحدا " وهي كالنص فيما ذكرناه فإنه استثنى فيها صورة العلم
تفصيلا أو اجمالا بأن فيه الحرام.
(ومنها) صحيحة أبي عبيدة (4) عن أبي جعفر عليه السلام " قال سألته عن الرجل
منا يشتري من السلطان من إبل الصدقة وغنم الصدقة وهو يعلم أنهم يأخذون منهم
أكثر من الحق الذي يجب عليهم قال: فقال ما الإبل إلا مثل الحنطة والشعير وغير
ذلك لا بأس حتى تعرف الحرام بعينه ".
وليس المراد بقوله ذلك العلم التفصيلي وتجويز شراء ما علم اجمالا أن فيه
حراما بل المراد به ما هو المتعارف من شراء الصدقات حيث لا يعلم بأن في مورد الشراء
محرما وإن علم بأن في أموال العامل محرما، ويمكن أن يكون بعينه تأكيدا
للحرام فيعم العلم الاجمالي أيضا، وبالجملة ليس المراد تجويز شراء أموال المظلوم
إلا إذا علم تفصيلا وهو واضح.
نعم هنا روايات ربما يتوهم تنافيها لما ذكرناه ومعارضتها لتلك الروايات.
(منها)، صحيحة أبي بصير (5) " قال سألت أحدهما عن شراء الخيانة و
السرقة قال: لا، إلا أن يكون قد اختلط معه غيره فأما السرقة بعينها فلا، إلا أن

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 52 - من أبواب ما يكتسب به.
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 53 - من أبواب ما يكتسب به.
(3) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 53 - من أبواب ما يكتسب به.
(4) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 52 - من أبواب ما يكتسب به.
(5) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 1 - من أبواب عقد البيع وشروطه.
254

يكون من متاع السلطان فلا بأس بذلك ".
(ومنها) موثقة سماعة (1) " قال سألته عن شراء الخيانة والسرقة فقال إذا عرفت
أنه كذلك فلا إلا أن يكون شيئا اشتريته من العامل "، وقريب منها رواية أحمد بن
محمد بن عيسى في نوادره عن أبيه (2) عن أبي عبد الله عليه السلام حيث دلت على جواز شراء الخيانة
والسرقة المعروفة بعينها من السلطان وعماله
وأنت خبير بأن في الصحيحة احتمالات
أحدها أن يراد بالمسروق من متاع السلطان ما كان لشخصه، ولعل نفي
البأس لكونه ناصبا، وقد ورد فيه خذ ماله أينما وجدت، وعلى هذا الاحتمال لا تنافي
بينها وبين ما تقدمت لكنه بعيد عن مذاق الشارع سيما بالنسبة إلى السلطان الذي تقتضي
التقية المداراة معه للمصالح العامة ويكون في تركها مظنة الفتن العظيمة، والظاهر أن
سيرة الأئمة (ع) المعاملة معهم في أملاكهم وأموالهم معاملة الملاك، ولا ينافي ذلك
أن يكون الحكم الأولي هدر دمهم ومالهم، كما أن الزواج معهم أيضا صحيح واقعا في
دار التقية لأن أحكامها واقع ثانوي.
ثانيها أن يراد به ما سرق من السلطان بما هو سلطان أي يجوز شراء ما سرق من
بيت المال باعتبار أن بيت المال من المسلمين وليس للسلطان الجائر ولاية عليه، و
هو أيضا بعيد لما تقدم في الوجه الأول.
ثالثها أن يراد به متاع السلطان المسروق من الناس والمأخوذ منهم خيانة
فيراد تجويز شراء المسروق إذا كان السلطان وعماله سارقا فيراد به التفصيل بهن
السلطان الجائر وغيره فأجاز شراء مال المظلوم سرقة من السلطان لا من غيره، و
هو أبعد الوجوه، بل ينبغي القطع بفساده لمخالفته للقواعد المحكمة العقلية و
الشرعية وللأخبار المتقدمة ولظاهر الرواية.
رابعها أن يراد بمتاع السلطان ما أخذه بعنوان السلطنة الشرعية من الخراج
وغيره خيانة على الاسلام وعلى أئمة الحق الولاة للأمر، ولا بأس بتسمية هذا

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 1 - من أبواب عقد البيع وشروطه.
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 52 - من أبواب ما يكتسب به.
255

سرقة، وهو أقرب الاحتمالات من حيث موافقته للعقل ولسائر الروايات ولسيرة الأئمة
وأصحابهم; فلا بد من حملها عليه وأن لا يخلو من مخالفة ظاهر ولو نوقش فيه فلا
أقل من عدم ظهورها في الاحتمال الثالث حتى يتوهم مخالفتها لما تقدم، وعليه
تحمل الروايتان الأخريان، فيراد من شئ اشتريته من العامل هو ما يكون العامل
بما هو عامل كفيلا لبيعه.
وأما احتمال تجويز شراء المال المسروق من الناس إن كان السارق عاملا
فينبغي القطع بفساده فلا يراد بتلك الروايات اثبات مزية للسلطان أو العامل زائدة
على تجويز الشراء من بيت المال منهم، بل لا أظن مما وردت في الروايات السابقة
من تحليل جوائز السلطان وعماله وإن علم أنهم يظلمون الناس ويأخذون منهم زائدا
عن الحق المقرر عليهم إرادة اثبات مزية لهم على ولاة الحق، بل الظاهر أنه أريد
بها تجويز الأخذ منهم على نحو الأخذ من الوالي العادل، لا اثبات الجواز فيما لا يجوز
لو كان المعطي السلطان العادل وعماله.
ولهذا قلنا إن تلك الروايات موافقة القواعد بعد جواز شراء الصدقات والخرائج
وعليه يلحق به كل مورد يكون من قبيل المقام، لا لالغاء الخصوصية من الروايات،
فإنه ممنوع بل لاقتضاء القواعد ذلك.
ثم بما ذكرناه في مفاد الروايات يتضح عدم معارضتها لرواية الاحتجاج
المتقدمة (1) الواردة في بعض وكلاء الوقف المستحل لما في يده وفيها " الجواب إن كان
لهذا الرجل مال أو معاش غير ما في يده فكل طعامه واقبل بره وإلا فلا " فإن موردها و
هو عدم ممر يحل لنا الأخذ منه غير مورد الروايات حيث كان في أيديهم من الصدقات
والخرائج وهي حلال لنا.
ومنها أن يعلم تفصيلا حرمة ما يأخذه فيحنئذ تارة يعلم بامكان رده إلى مالكه
أو من بحكمه، وأخرى يعلم بعدم امكانه، وثالثة يشك في ذلك، وعلي التقادير قد
يعلم يرضى مالكه بأخذه، وقد يعلم بعدم رضاه، وقد يشك فيه، وعلى التقادير

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 51 - من أبواب ما يكتسب به.
256

قد يحصل العلم بالحرمة قبل وقوعه في يده; وقد يحصل بعده،
وقبل التعرض لحال
الصور لا بأس بالإشارة إلى مفاد الأدلة الاجتهادية وحدود دلالتها.
فنقول منها موثقة سماعة (1) عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث " أن رسول
الله صلى الله عليه وآله قال: من كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها فإنه لا يحل دم
امرء مسلم ولا ماله إلا بطيبة نفس منه "، والظاهر من نفي الحلية في مقابل الحلية
بطيب نفسه هي الواقعية لا الأعم منها ومن الظاهرية حتى يقال: باستفادة حكمين
منها، أحدهما نفي الحل الواقعي واثباته لدى طيب نفسه، وثانيهما نفي الحلية
الظاهرية الذي بمنزلة جعل الاحتياط عند الشك في طيب نفسه فكأنه قال: لا يحل
ماله مطلقا واقعا وظاهرا إلا مع طيب نفسه فيحل معه واقعا، فيكون الاستثناء من
قسم من المستثنى منه، فإن هذا الاحتمال مخالف للظاهر وموجب للتفكيك بين الصدر
والذيل وأن لا يمتنع الجمع بينهما بجعل واحد.
وعلى ما استظهرناه ربما يقال: بجواز التصرف في أموال المسلم مع الشك
في رضاه لو لم يحرز عدم رضاه بالأصل وهو مخالف فتوى العلماء، وسيرة العرف
على ما حكى وادعى (وهو غير بعيد)، ويمكن الاستشهاد له بموثقة أبي بصير
(2) في باب حرمة سب المؤمن عن أبي جعفر عليه السلام " قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله
سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر وأكل لحمه معصية وحرمة ماله كحرمة دمه "
بدعوى كونه بصدد بيان الكيفية في حرمة المال لا أصل الحرمة بدليل تغيير أسلوب
البيان فيها، ومقتضى اطلاق التشبيه وجوب الاحتياط لدى الشك كما وجب في
الدم، ولذا اشتهر بينهم وجوبه فيه كما ى جب في الدم.
وربما يقال: إن الظاهر عرفا في مثل المورد الذي جعل الطيب سببا لجواز
التصرف هو عدم جوازه إلا باحراز السبب وقيام الحجة (وفيه) أن الظاهر أنه بصدد

(1) الوسائل - كتاب الصلاة - الباب 3 - من أبواب مكان المصلي - موثقة
لزرعة وسماعة.
(2) الوسائل - كتاب الحج الباب 158 - من أبواب أحكام العشرة.
257

بيان الحكم الواقعي في المستثنى والمستثنى منه، فإن أريد بما ذكر أن الاحراز
غاية للحكم الواقعي فمع كونه خلاف ظاهر استثناء عنوان الطيب الظاهر في الواقعي
منه لا احرازه كما في جميع العناوين المأخوذة في الأحكام: يلزم الالتزام بحرمة
التصرف واقعا مع طيب نفس صاحب المال واقعا ما لم يحرز وهو كما ترى; ولا أظن
التزامهم به.
وإن جعل احراز الطيب استثناء من الحكم الظاهري فلا حكم ظاهري
مجعول إلا أن يجعل نفي الحل أعم من الظاهري والواقعي والاستثناء لخصوص الظاهري
أو قيل بعموم المستثنى والمستثنى منه فيراد منه لا يحل المال واقعا وظاهرا إلا مع
طيب نفسه واقعا فيحل واقعا وإلا مع احرازه فيحل ظاهرا، وكل ذلك تعسفات
لا ينبغي التقول بها.
ثم الظاهر أن انتساب عدم الحل إلى ذات المال مبني على ادعاء وتنزيل
كما في الأشباه والنظائر على ما هو التحقيق، لا على حذف المضاف كما قيل،
فيكون مقتضى اطلاق التنزيل ونفي حلية الذات نفي حلية مطلق التصرفات.
ودعوى الانصراف إلى التصرفات الراجعة إلى نفع المتصرف لا ما يرجع إلى نفع
صاحب المال (غير وجيهة) بل الظاهر منه تحديد حمى المالكية وتثبيت سلطنة المالك
والمنع عن دخالة الغير في سلطانه، فلا وجه لدعوى الانصراف عن التصرف النافع له برغم
أنفه المخالف لسلطنته، ومن غير فرق بين كون منعه لذلك لعرض عقلائي أو لا.
وأبعد منها دعوى كونه القدر المتيقن منه خصوصا مع عدم عموم لفظي
إلا باعتبار حذف المتعلق الراجع في تشخيصه إلى العرف، فإن القدر المتيقن لا يضر
بالاطلاق وإلا لما سلم اطلاقه في الفقه، وحذف المتعلق ممنوع كما أشرنا إليه، و
بالجملة دعوى عدم حلية الذات إنما تحسن إذا كان جميع التصرفات غير حلال أو نزل
حلالها منزلة العدم وهو يحتاج إلى دلالة.
نعم يمكن دعوى الانصراف عن مورد لم يكن في نفس المالك رضا ولا كراهة
فعلا ولو ارتكازا إذا كان التصرف لمجرد الإيصال إليه بل يمكن الاستيناس للحكم
258

في هذه الصورة بل وصورة الشك في الرضا بأخبار اللقطة إذا اطلاقها يقتضي جواز الالتقاط
مع الشك في رضا صاحبه ومع العلم بخلو نفسه من الطرفين (نعم) الظاهر عدم اطلاقها
لحال العلم بعدم الرضا.
فأدلة حرمة التصرف وكذا دليل جعل الاحتياط في الأموال مع الشك على فرض
وجوده منصرفة عن مثل المقام، فعليه يجوز أخذ المال للرد إلى صاحبه مع العلم بخلو
ذهنه ومع الشك في رضاه.
ثم الظاهر من طيب نفسه هو الفعلي منه ولو بنحو الارتكاز والاختزان في النفس و
إن كان غافلا عنه، فلا يعتبر الالتفات إلى طيب نفسه، بل يكفي ما هو المخزون فيها
كما لا يكفي التقديري منه مع عدم تحققه فعلا، وإلا لزم الالتزام بجواز التصرف مع
كراهته الفعلية إذا أحرز أنه على تقدير التفاته بجهة كعلمه وورعه يصير راضيا و
تطيب نفسه به وهو كما ترى، ثم إن الكلام في هذه الرواية جار في سائر ما بمضمونها
أو قريب منها.
إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى حال الصور المتقدمة من حيث الحكم التكليفي و
الوضعي.
فنقول أما لو علم برضا صاحب المال فلا اشكال في جوازه في جميع الموارد،
كما لو علم عدم رضاه ولو بأخذه ورده إليه، فلا ينبغي أيضا التأمل في حرمته لاطلاق
الأدلة، سواء كان عدم الرضا أو المنع بجهة عقلائي أم لا. ودعوى الانصراف وعدم
الاطلاق قد عرفت ما فيهما.
وقد يقال بتعارض الرواية مع نحو قوله عون الضعيف صدقة، كموثقة السكوني
(1) عن أبي عبد الله عليه السلام " عونك الضعيف من أفضل الصدقات "، بدعوى أن أخذ المال
من الغاصب والرد إلى صاحبه من العون عليه، ومع نحو قوله: " كل معروف صدقة "
كما في صحيحة معاوية بن وهب (2) فإن ذلك معروف فيكون مستحبا كالصدقة، بل

(1) الوسائل - كتاب الجهاد - الباب 59 - من أبواب جهاد العدو.
(2) الوسائل - كتاب الأمر بالمعروف - الباب 1 - من أبواب فعل المعروف
259

مع نحو قوله: " ما على المحسنين من سبيل " (1) فإن ما ذكر احسان على صاحبه،
فمع عدم رضاه أو منعه يمكن أن يقال بسقوطهما بالتعارض والرجوع إلى أصالة الحل.
بل يمكن أن يقال بحكومتها عليها (نعم) لو كان المنع لغرض عقلائي، فالظاهر
عدم جوازه لعدم صدق الاحسان ونحوه، أو مع صدقه يكون مشوبا بالإساءة فيقدم
جانب الحرمة.
(وفيه) مضافا إلى أن سنخ تلك الروايات الواردة في المستحبات لا اطلاق لها
حتى يزاحم المحرمات: أن التصرف في مال الغير بلا إذنه أو مع منعه ظلم عليه لا إعانة
واحسان، ومنكر لا معروف، فيكون خارجا عن مفادها موضوعا، ولو سلم فلا شبهة
في انصرافها عن مثل المورد، فلا وجه للتعارض بينها وبين ما تقدم.
بل لقائل أن يقول: إن تنزيل العون والمعروف منزلة الصدقة يستشعر منه عدم
جواز التصرف بغير إذن صاحبه، كما أن الصدقة لا تصح ولا تجوز بجهة محرمة فكما
لا تجوز الصدقة بمال الغير أو بماله إذا تعلق به حق الغير كذلك لا يجوز العون و
الاحسان مع كون مورده التصرف في مال الغير بلا إذنه أو مع منعه.
نعم قد عرفت جواز الأخذ لمجرد الإيصال إلى صاحبه في مورد خلو ذهنه عن
الرضا والكراهة ولو ارتكازا، وأن لا يجوز سائر التصرفات لتعليقها على طيب نفسه
الظاهر في الفعلية، وكذا يجوز في مورد الشك في طيب نفسه لكونه من الشبهة المصداقية
للأدلة، ولانصراف دليل جعل الاحتياط في مورد الشك عنه على فرض وجود دليل لفظي
كما أشرنا إليه، ولو كان الحكم اجماعيا يكون المتيقن منه غير المورد.
هذا إذا لم يلحق مورد الشك في عدم الرضا بالعلم به بالأصل فلا بد من بيان حال
الاستصحاب ومورد جريانه ولا جريانه.
فنقول مقدمة إن المحتمل في قوله: " لا يحل مال امرء مسلم إلا بطيبة نفس
منه " أن يكون بصدد بيان حكم المستثنى أي الحلية مع الطيب، فيكون المراد
من قوله لا يحل ماله إلا بالطيب: أنه لا يتحقق الحل إلا بالطيب الذي سببه،

(1) سورة البقرة - الآية 92.
260

ومع فقده ينتفي المسبب، لا بصدد جعل عدم الحل على موضوعه فحاصل المراد أن
الحل مسبب عن الطيب وينتفى بانتفائه وهو أمر عقلي لا مجعول شرعي وأن يكون بصدد بيان
حكم المستثنى منه أي جعل عدم الحل مع فقد الطيب، وأن يكون بصدد بيان حكمهما
فيكون المجعول عدم الحل مع فقد طيب نفسه والحل مع تحققه، وتظهر الثمرة عند
الشك في بعض الموارد.
ثم إن قوله: لا يحل، يمكن أن يكون بصدد بيان مجعولية هذا الأمر العدمي
بنفسه وإن فرض استلزامه للحرمة، ويمكن أن يكون كناية عن مجعولية الحرمة نظير
قوله: إن الخبر الكذائي لا يوافق القرآن، أو أن فلانا لا يوافق الفلان في كذا
حيث يراد به المخالفة، وقوله: فلان لا يرضى بذلك، ويراد به كراهته لا نفي رضاء،
وهو الأظهر.
والأظهر أنها بصدد بيان حكم المستثنى منه كما يظهر من صدرها أي قوله:
" فإن دمائكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم " (الخ)، أو بصدد بيان
الجملتين لا بيان خصوص المستثنى.
ثم إنه على القول بجعل السببية في مثل المقام أي جعل سببية الطيب للحل أو
عدمه لعدمه: لا يفيد الاستصحاب على جميع الاحتمالات، لأن نفي المسبب بنفي
سببه عقلي وإن كان جعل السببية شرعا، كما أن ترتب المسبب على سببه عقلي
لا شرعي، فلو قلنا بجعل سببية الطيب للحل فاستصحاب عدم الطيب لنفي الحل
عقلي، بل نفي الحل على الفرض الأول مما تقدم عبارة عن سلب الحكم الشرعي،
لا اثبات الحكم أي عدم الحل فاثباته بهذا السلب أيضا عقلي، ولو أغمض فاثبات
الحرمة بسلب الحل أيضا عقلي.
وأما على القول بجعل المسبب عقيب السبب في مثل المقام، فاثبات المسبب
باستصحاب سببه لا مانع منه، وأما نفيه بنفيه لا يخلو من كلام، هذا على الاحتمال
الأول، وأما على غيره فإن قلنا بجعل المسبب عقيب السبب فلا اشكال في أن استصحاب
عدم الطيب لعدم الحل: غير مثبت وإن كان اثبات الحرمة به مثبت إلا أن يكون المجعول
261

حرمة التصرف فالأصل إنما يجري إن كان المجعول المسبب عقيب السبب وقلنا
بأنه الحرمة عقيب عدم طيب نفسه.
ثم إن جريان الاستصحاب موقوف على احراز موضوع الدليل الاجتهادي به
وهو إنما يحرز وينقح إذا كان الموضوع بقيوده مجرى الأصل، ففي المقام موضوع
عدم الحل أي الحرمة مال امرء مسلم بلا طيب نفسه فلا بد من تنقيحه بالأصل حتى
يترتب عليه الحكم، فإن كان ذلك بقيوده مسبوقا بالتحقق يجري الأصل، فلو علم أن
صاحب المال الكذائي كان لا يطيب بالتصرف فيه وشك في تبديله يستصحب و
يحكم بالحرمة من غير فرق بين اعتبار طيبه سابقا أو لا، كما لو كان صاحب
المال غير بالغ واحتمل عند بلوغه حصول طيب نفسه فاستصحاب عدم طيب نفسه
قبل البلوغ كاف لاثبات الحرمة حال البلوغ، لكفاية كون الموضوع ذا أثر
حال الشك.
إلا أن يناقش في المثال بأن موضوع الحكم هو أمر كذا وهو رجل بالغ،
وبالغاء الخصوصية تدخل المرأة فيه، لا غير البالغ، فيأتي فيه الاشكال الذي في
الفرض الآتي " فتدبر ".
وأما إن علم بعدم طيب نفسه قبل انتقال المال إليه فاستصحاب عدم طيب
نفس صاحب المال الذي هو موضوع الحكم لا يجري، لعدم الحالة السابقة اليقينية
للمستصحب، وما هو مسبوق بالتيقن هو عدم طيب نفسه بهذا المال لا بما هو مضاف إليه،
وهو مع قطع الإضافة ليس موضوعا للحكم، واثبات الإضافة بعد الجر إلى زمان الملكية
عقلي وليس الموضوع مركبا بل بسيط مقيد، وبهذا يظهر عدم جريان استصحاب عدم
الطيب بعدم المغصوب منه أو بعدم المغصوب " فتدبر ".
هذا حال الحكم التكليفي، وأما الوضعي منه فنقول: إن الأخذ إما أن يكون
بعد العلم بالحرمة أو قبله وعلى التقديرين قد يكون مع العلم برضاه، وقد يكون مع
العلم بعدمه، أو مع العلم بخلو ذهنه منهما، أو مع الشك في رضاه وعدمه، أو خلود ذهنه
وعدمه، وعلى أي تقدير تارة يكون الأخذ باكراه واضطرار تقية وتارة يكون
باختيار، فإذا كان بعد العلم به ومع الاختيار فالضمان وإن لم يثبت ظاهرا لكن ثبوته
262

واقعا تابع لعدم رضاه واقعا، كما أن عدمه تابع لرضاه واقعا ولا دخل للعلم والجهل
فيهما، فمع العلم برضاه جاز الأخذ ظاهرا لكنه موجب لضمان اليد، ومع العلم بعدمه
لا يجوز ظاهرا ومتجر فيه وإن لم يضمن واقعا، وفي صورة الشك أيضا يكون الضمان
الواقعي تابعا لعدم رضاه.
نعم مع احراز عدم طيب نفسه بالأصل كما في بعض الصور يحكم بضمانه و
مع عدم جريانه فالحكم به تابع لمقدار دلالة دليل الاحتياط في الأموال، فإن دل
على لزومه في الحكم الوضعي أيضا يحكم بالضمان احتياطا، وإن قلنا باختصاص دليله
بالتكليف وعدم دليل على الوضعي كما لا يعبد فلا يحكم به، لكون الشبهة مصداقية
لأدلته، ومع العلم بعدم كراهته ورضاه فعلا لو أخذه بقصد الرد إليه يكون محسنا
ولا ضمان عليه.
نعم هنا كلام وهو أن نفي السبيل عن المحسن هل يختص بمن كان محسنا
فعلا وفاعلا، أو بمن كان محسنا فعلا، أو بمن كان محسنا فاعلا وإن لم يكن كذلك واقعا.
فمن أخذ ضالة ليردها إلى شخص بتخيل أنه صاحبها وكان غيره لم يضمن على الأخير
دون غيره، ومن أخذها ليردها إلى شخص بتخيل أنه غير صاحبها وكان صاحبها
فتلف قبل الرد لم يضمن على الثاني، مقتضى الاشتقاق إن كان الاختصاص بالثاني
لكن مقتضى المناسبة بين الحكم والموضوع الاختصاص بالثالث ولو كان مكرها
أو مضطرا لأجل التقية في أخذه فمع رضاه لا اشكال فيه ومع عدمه يمكن أن يقال: إن
الأخذ الاكراهي والاضطراري كلا أخذ بمقتضى دليل الرفع الرافع لذات ما أكرهوا
عليه وما اضطروا إليه، ومقتضى رفع الذات رفع جميع آثاره وضعا وتكليفا وهو
حاكم على دليل ضمان اليد والاتلاف، لأن موضوعهما الأخذ والاستيلاء والاتلاف،
ودليل الرفع يرفعهما ويجعلهما بمنزلة العدم.
نعم لا بد للأخذ من ارتكاب ما هو أقل محذورا فيقصد الرد إلى صاحبه ومع
قصد التملك يضمن وكذا مع عدم قصد رده إليه لاطلاق دليل اليد.
ودعوى عدم اطلاقه غير وجيهة كدعوى أن الأخذ بمنزلة عدمه مطلقا فإنه لا يضطر
263

إلى أخذه بلا قصد رده ولا يكره عليه كذلك بل هو مضطر إلى مهملة الأخذ لا مطلقه ولا قسم
خاص منه.
إن قلت إن دليل الرفع ينفي ما يضطر إليه وهو لا يضطر إلى الأخذ بلا ضمان و
مقتضاه نفي الحكم التكليفي لا الوضعي.
قلت لا يعقل تقييد الموضوع بحكمه فالرفع إنما يتعلق بالأخذ الذي هو
موضوع ضمان اليد لا بالأخذ الضماني، وبعبارة أخرى أن موضوع الضمان هو الأخذ
والاستيلاء ولا يعقل أن يكون الأخذ الضماني، ودليل الرفع يرفع الموضوع.
إن قلت لازم ذلك عدم الضمان في الأكل في المخمصة وهم لا يلتزمون به.
قلت فرق بين المقامين، فإن في المخمصة لا يضطر إلا إلى سد الرمق وهو
يحصل بنفس المال، لا بمال الغير، ولا بالمال المجان، وفي المقام يضطر إلى أخذ
مال الغير لا أخذ ذات المال وهو مرفوع " تأمل " مع أن مقتضى امتنانية دليل الرفع
عدم المجانية في الأكل، وأما في المقام فلما كان الضمان على الجائر لا يكون نفي
الضمان عن الأخذ منافيا للامتنان.
هذا كله إذا كان الأخذ بعد العلم بالحرمة، وأما إذا كان قبله فلا يخلو إما
أن يكون شاكا ملتفتا أو غافلا، أو قاطعا بأنه مال الجائر; فعلى الأول إما أن يكون
يد الجائر معتبرة عنده وأمارة على ملكيته أو لا فعلى الثاني يستصحب عدم طيب
نفس صاحب المال إن كان المال مسبوقا بكونه للغير مع عدم طيب نفسه بأن يكون
هذا المعنى الموضوع للحكم بجميع قيوده مسبوقا باليقين، وأما إذا كان بعض
قيوده مسبوقا به وبعض آخر حاصلا بالوجدان فلا يجري الأصل ولا يحرز به الربط
لكونه مثبتا.
وهذا نظير ما لو كان موضوع جواز التقليد الفقيه إذا كان عادلا أو الفقيه العادل;
فإنه إذا كان الموضوع مسبوقا باليقين بقيوده يجري الاستصحاب بخلاف ما لو كان
فقاهته مسبوقة بالتحقق دون عدالته وكانت عدالته محرزة بالوجدان حال الشك
في فقاهته، فإن اجراء استصحاب كونه فقيها لاحراز موضوع الدليل بالأصل والوجدان:
264

غير صحيح، لعدم اثبات الكون الرابط أو التوصيف به إلا بالأصل المثبت.
نعم لو كان الموضوع مركبا كأن دل الدليل على أن التقليد يصح من رجل
عالم وعادل: يمكن احرازه بالأصل والوجدان وأن لا يخلو من كلام، والمقام من
قبيل الأول فلا يجري الأصل، وفي صورة عدم جريانه لا يجوز الأخذ مع الاختيار
إلا للايصال إلى صاحبه مع الامكان ولاجراء حكم مجهول المالك مع عدمه، ومع
الاضطرار والاكراه يأتي فيه الكلام المتقدم.
وأما مع القطع بكونه مال الجائر أو الغفلة أو الالتفات بنائه على اعتبار
يده وأخذه بعنوان التملك: فيقع الكلام فيه في مقامين، أحدهما في أنه هل يكون
الأخذ بنية التملك مع الجهل بكونه للغير موجبا للضمان أو لا، الثاني بناء على الضمان
هل يبقى حكمه مع نية الحفظ بعد العلم بالحال أو لا
أما الأول فعن الشهيد والطباطبائي عدم الضمان مع الجهل، واستدل الأول
بأن يده يد أمانة فيستصحب ولعل مراده أنه بحكم الأمانة في عدم الضمان، و
لعل موضوع كلامه هو القسم الشايع من المأخوذ وهو مورد جهله بأنه مال الغير مع
الالتفات والاتكال على يده; لا مطلق الجهل ولعل وجهه أنه مع الاتكال بالأمارة الشرعية
في الأخذ بعنوان التملك يرفع الضمان، ويكون حاله حال الأمانة، بتخيل أن الأمر بالعمل
بالأمارة أو الإذن به ينافي التضمين وهو كما ترى، ولعل موضوع كلامه مطلق الجهل.
ووجه عدم الضمان أن رفع ما لا يعلمون أعم من الوضعي كساير فقراته.
(وفيه) أن دليل جعل الاحتياط حاكم على ما لا يعلمون " تأمل " مع أن شموله
لمورد قيام الأمارة على الخلاف ومورد القطع به غير ظاهر مضافا إلى عدم التزام
الأصحاب بذلك.
وقد يقال: إن دليل اليد لا يشمل مورد الجهل لأن ظاهره الاختصاص بما إذا
أخذ المال قهرا على المالك (وفيه ما لا يخفى)، ضرورة اطلاقه لجميع أنحاء الأخذ
فالأوفق بالقواعد هو الضمان.
المقام الثاني وينبغي تعميم البحث إلى كل ما كان أخذه موجبا للضمان سواء
265

علم بالواقعة حال الأخذ أم لا.
قد يقال: إنه إذا نوى الحفظ والرد إلى صاحبه زال الضمان وذلك لدخوله تحت
عنوان الاحسان الموجب لعدم الضمان المخصص لعموم على اليد في الابتداء والأثناء
، والحاصل أنه إذا انقلبت اليد من العدوان والخيانة إلى الاحسان والأمانة ينقلب
الحكم، وربما يرد ذلك بأن يد الاحسان غير مقتض للضمان وهو لا يزاحم اليد
المقتضي للضمان.
(وفيه) أن مدعاه تخصيص دليل اليد بدليل الاحسان وليس المقام من قبيل
تزاحم المقتضي مع اللا مقتضي إذ لازمه الضمان حتى إذا كان محسنا من أول الأمر وهو
كما ترى.
فالجواب عن القائل بالانقلاب أن مقتضى دليل الاحسان هو نفي السبيل عن
المحسن بما هو محسن لا نفيه ولو عما يقتضي إسائته أو غير احسانه، ومقتضى دليل
اليد أن حدوثها على الشئ موجب للضمان مستمرا إلى زمان التعدية فموجب الضمان
حدوث اليد الغير الاحساني فقط وليس للاستيلاء الاحساني أثر في الضمان حتى يرفع
بدليل الاحسان، وبعبارة أخرى أن الموجب للضمان اليد العدواني وهي غير مرفوعة
بدليل الاحسان وما صدر عنه احسانا ليست موجبة للضمان حتى يرفع، فتحصل
منه أن مقتضى القواعد عدم الانقلاب ولهذا لا يلتزمون به في يد الغاصب وعلى أي
تقدير يجب على الأخذ رد المأخوذ إلى صاحبه بعد العلم بالقضية مع العلم بعدم رضا
صاحبه بقائه عنده بل مع الشك أيضا بدليل الاستصحاب فيما جرى فيه والاحتياط في
الأموال ودليله في صورة عدم رضاه، مضافا إلى حكم العقل وإلى أنه ظلم وعدوان
اطلاق الأدلة.
فإن اطلاق قوله في مثل صحيحة الشحام (1) " لا يحل دم امرء مسلم ولا ماله إلا
بطيبة نفسه " عدم حل حفظه وحبسه وغيرهما وإن فرض عدم صدق التصرف عليها، لأن
مفادها أعم منه، ودعوى تقدير التصرف قد مر بطلانها، ولازم عدم الحل التخلص عنه

(1) الوسائل - كتاب القصاص - الباب 1 - من أبواب القصاص في النفس.
266

بأقرب ما يمكن التخلص كالمتوسط في الأرض المغصوبة وذلك بحكم العقل.
وأما التشبث بأدلة وجوب رد الأمانات (فغير سديد)، لأن المورد ليس من قبيل
الأمانات، بل من الغصب أو نظيره إلا أن يدعى الأولوية وهي غير ظاهرة، فالدليل عليه
ما عرفت.
ويدل عليه في الغاصب صحيحة الحذاء (1) عن أبي جعفر عليه السلام " قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وآله: من اقتطع مال مؤمن غصبا بغير حقه لم يزل الله معرضا عنه ماقتا لأعماله التي
يعملها من البر والخير لا يثبتها في حسناته حتى يرد المال الذي أخذه إلى صاحبه "، و
نحوها مرسلة رواية أخرى (2) وعن النبي صلى الله عليه وآله (3) " من أخذ عصا أخيه فليردها ".
والصحيحة تدل على وجوب الرد فورا، ولو كان وجوبا عقليا للتخلص عن
غضب الله، والظاهر من الرد الإيصال إلى صاحبه وايقاعه تحت سلطانه ويده ولا يكفي
مجرد التخلية بينه وبين صاحبه، وهو موافق لحكم العرف والعقلاء بخلاف باب
الوديعة حيث إن ارتكاز العقلاء والمناسبات تقتضي صرف ظواهر الأدلة لو دلت على
وجوب الرد كما عليه الفقهاء أيضا، وما ذكرناه مناسب لآخذ الغاصب بأشق الأحوال
بل الظاهر لزوم الرد والايصال وإن كان ضرريا أو حرجيا، لما ذكر من أخذه بالأشق،
ولانصراف دليلهما عنه.
وهل المأخوذ بغير عدوان وغصب وإن كان على وجه الضمان كالأخذ مع الجهل
أو الجبر يلحق بالغصب أو بالوديعة فلا يجب إلا التخلية، الأقرب الحاقة بالغصب في
وجوب ايصاله إلى صاحبه والتخلص عنه بأقرب الطرق، لعدم حل الأموال إلا بطيب نفس
صاحبها (نعم) لو كان الإيصال حرجيا يمكن رفعه بدليله.
ثم لو كان المالك مجهولا فهل يجب الفحص عنه أو لا، اختار الشيخ الأعظم
الثاني تمسكا باطلاق جملة من الروايات كرواية علي بن أبي حمزة (4) " قال كان لي صديق

(1) الوسائل - كتاب الجهاد - الباب 78 - من أبواب جهاد النفس.
(2) المستدرك - كتاب الغصب - الباب 1.
(3) المستدرك - كتاب الغصب - الباب 1.
(4) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 47 - من أبواب ما يكتسب به - ضعيفة بعلي بن أبي حمزة البطائني وفي سندها إبراهيم بن إسحاق وهو مشترك ولعله الأحمري الضعيف
267

من كتاب بني أمية فقال لي: استأذن لي على أبي عبد الله عليه السلام فاستأذنت له فأذن له، فلما
أن دخل سلم وجلس ثم قال: جعلت فداك إني كنت في ديوان هؤلاء القوم فأصبت من
دنياهم مالا كثيرا وأغمضت في مطالبه إلى أن قال فقال الفتى: جعلت فداك فهل لي
مخرج منه قال إن قلت لك تفعل قال أفعل قال فأخرج من جميع ما كسبت في
ديوانهم فمن عرفت منهم رددت عليه ماله ومن لم تعرف تصدقت به " الحديث.
فإن مقتضى اطلاقها جواز التصدق بلا فحص، والحمل على مورد اليأس عن معرفة صاحبه
كالحمل على عدم معرفته بعد الفحص خلاف الظاهر.
نعم لا يبعد انصرافه عن مورد يعلم بالعثور عليه بالفحص سيما إذا علم بمعرفته
بالفحص قليلا وبالجملة أن ترك الاستفصال دليل العموم بل ذيلها دال على عدم لزوم الفحص
إذ من البعيد بل غير الممكن أنه كان تفحص عن صاحب الأموال الكثيرة والأشخاص
المتفرقة ويئس عن معرفتهم في أشهر قلائل، مع أن عدم ذكره الفحص دليل العدم.
والعمدة هي ترك الاستفصال والاطلاق وإلا فمن الممكن المناقشة في حجية قول الراوي
في بقائه أشهر قلائل. والانصاف تمامية دلالتها لولا ضعف سندها.
إلا أن يقال لا معنى للاطلاق وترك الاستفصال في المقام لأنه قضية شخصية
يحتمل علم الإمام عليه السلام بالواقعة وأن المورد لا يجب فيه الفحص " فتدبر ".
وأما سائر الروايات ففي اطلاقها اشكال.
كصحيحة محمد بن مسلم (1) عن أبي عبد الله عليه السلام " في رجل ترك غلاما له في كرم
له يبيعه عنبا أو عصيرا فانطلق الغلام فعصر خمرا ثم باعه قال: لا يصلح ثمنه " إلى أن
قال: " ثم قال أبو عبد الله (ع) إن أفضل خصال هذه التي باعها الغلام أن يتصدق بثمنها ".
فإن الظاهر أنه بصدد بيان أفضلية هذه الخصلة من غيرها فكأن له خصالا معهودة هي
أفضلها، لا بصدد بيان وجوب التصدق، وكيف كان لا اطلاق فيها كما لا يخفى، ومنه
يظهر الكلام في رواية أبي أيوب (2).

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 55 - من أبواب ما يكتسب به.
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 55 - من أبواب ما يكتسب به.
268

وكرواية أبي علي بن راشد (1) " قال: سألت أبا الحسن عليه السلام: قلت جعلت فداك
اشتريت أرضا إلى جنب ضيعتي بألفي درهم فلما وفيت المال خبرت أن الأرض وقف
فقال: لا يجوز شراء الوقف، ولا تدخل الغلة في مالك وادفعها إلى من وقفت عليه قلت:
لا أعرف لها ربا قال: تصدق بغلتها "، فإن الظاهر من قوله: " لا أعرف لها ربا " أن من
المحتمل عنده أن لا يكون له رب رأسا وإن وقفت الأرض لمطلق الخيرات، وإلا كان
حق التعبير في مجهول المالك أن يقول: لا أعرف ربه، والحاصل أن الظاهر أن
الوقف كان مجهول المصرف لا مجهول المالك، مع أن في متنها أيضا كلاما.
وكرواية علي بن ميمون الصائغ (2) " قال سألت أبا عبد الله عليه السلام عما يكنس من
التراب فأبيعه فما أصنع به قال تصدق به فأما لك وأما لأهله ". فإن الظاهر من قوله
أما لك وأما لأهله أن كون الذرات للغير غير معلوم وكان نظره التخلص من المحتمل
ويحتمل أن تكون الذرات معرضا عنها ويراد بما ذكر التخيير بين التملك والتصدق
لنفسه أو التصدق عن أهله " تأمل ".
وأما روايته الأخرى (3) ففي معلوم المالك فلا يمكن العمل بظاهرها.
وكيف كان ليس في الروايات ما يمكن الاستناد إليها لترك الفحص الواجب
عقلا والمؤيد بما دلت على وجوب الفحص في عدة موارد، فالأقوى وجوبه عقلا.
وقد يقال: إن من بيده المال المجهول مالكه إن علم بعثوره على مالكه
بالفحص يجب عليه ولو شك فيه فإما أن يكون التردد بين من يقدر على ايصال المال
إليه ومن لا يقدر، أو بين من يقدر على الإيصال إلى كل منهم، وعلى الأول يجب الفحص
إذا كان تردده بعد العلم بكونه محصورا بين المقدورين، وبدونه لا يجب الفحص،
لأن خروج بعض الأطراف المعين من العلم الاجمالي عن مورد التكليف يوجب عدم

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 17 - من أبواب عقد البيع - مهملة بمحمد بن
جعفر الرازي.
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 16 - من أبواب الصرف - مضمرة وضعيفة بعلي بن ميمون الصائغ.
(3) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 16 - من أبواب الصرف - مضمرة وضعيفة بعلي بن ميمون الصائغ.
269

وجوب الاحتياط بالنسبة إلى البعض الآخر بل يرجع فيها إلى أصالة البراءة، ومع
سقوط التكليف فلا مقتضى للفحص " انتهى ".
لازم ما ذكره اجراء البراءة في الشك في القدرة على الإيصال ابتداء، ومبناه
على ما يظهر من كلامه أن القدرة من القيود الشرعية المستكشفة بالعقل.
ويرد عليه بعد الاشكال في مبناه بما قرر في محله من أن القدرة ونحوها من
الأعذار العقلية لامتثال التكاليف لا قيودها شرعا أو عقلا، وأن التكاليف الكلية القانونية
فعليات على موضوعاتها من غير تقييد بالعلم والقدرة والالتفات وغيرها فحينئذ يجب
الاحتياط عقلا مع الشك في القدرة ويجب الفحص: أن ما ذكر إنما يتم لو قلنا بأن الواجب
على الغاصب ونحوه الإيصال إلى صاحب المال وجوبا شرعيا. وأما إن قلنا بعدم وجوبه
شرعا بل ليس في المال المغصوب ونحوه إلا حرمة الاستيلاء على أموال الناس عدوانا وبلا
حق وحرمة التصرف فيها ونحوه كالحفظ والحبس وإنما يجب الإيصال تخلصا عن المحرم
المعلوم عقلا: فلا شبهة في وجوب الفحص عقلا ولو عند الشك في القدرة، ونحوه ما إذا
قلنا بتكليفين وجوب الإيصال وحرمة التصرف والاستيلاء ونحوهما، والانصاف أنه
لا يمكن مساعدة القائل المدقق التقي في المبنى ولا البناء.
ثم إنه هل يتعين عليه الفحص أو يتعين الرد إلى الحاكم فإنه ولي الغائب
والرد إليه بمنزلة الرد إلى صاحبه، أو يتخير بينهما بأن يقال: يجب عليه التخلص
من الحرام وهو يحصل بأحدهما.
الظاهر عدم تعين الرد إلى الحاكم وعدم التخيير، لأن ولاية الحاكم على
الغائب ليس على نحو الاطلاق إذ لا دليل عليه، وإنما هي ثابتة فيما إذا لم يمكن الرد
إلى صاحبه الغائب أو المفقود حسبة، وليس للغاصب ومن بحكمه ترك الفحص والرد
إلى الحاكم بل وليس للحاكم القبول إلا في بعض الموارد حفظا للتضييع ومؤنة الحفظ
وغيره على الغاصب.
نعم يمكن نفي وجوبها على غير الغاصب ولو كانت يده يد ضمان لنفي الحرج
والضرر بناء على ثبوت نفي الضرر كنفي الحرج كما هو المعروف عند المتأخرين،
270

فالأقوى وجوب الفحص وتعينه عليه، إلا أن يقال: بدلالة حسنة داود بن أبي يزيد
أو صحيحته (1) على تعين الرد إلى الحاكم.
روى عن أبي عبد الله عليه السلام " قال قال رجل إني أصبت مالا وإني قد خفت فيه
على نفسي ولو أصبت صاحبه دفعته إليه وتخلصت منه قال فقال له أبو عبد الله عليه السلام:
والله إن لو أصبته كنت تدفعه إليه قال أي والله قال فأنا والله، ماله صاحب غيري قال:
فاستحلفه أن يدفعه إلى من يأمره قال: فحلف فقال: فاذهب فاقسمه في إخوانك و
لك إلا من مما خفت منه قال فقسمته بين إخواني "، بدعوى اطلاقها لكل مال مجهول
غصبا كان أو غيره وأن المراد بكون المال له عليه السلام أنه ولي أمره لا مالكه الخاص كما
في الأشباه والنظائر حتى في سهم الإمام عليه السلام علي احتمال غير بعيد، فيكون
الفقيه قائما مقامه، فاطلاقها يقتضي وجوب ارجاع كل مجهول مالكه إلى الحاكم
إلا ما خرج كاللقطة.
(وفيه) منع اطلاقها لقوة احتمال أن يكون المراد به اللقطة بل لا يبعد ظهور
قوله أصبت مالا في الإصابة والعثور عليه فجأة ومن باب الاتفاق كاللقطة دون المأخوذ
جائزة أو غصبا.
مضافا إلى احتمال أن يكون السؤال بعد الفحص واليأس أو الفحص سنة كما عن
الصدوق وربما يشعر به قوله: " ولو أصبت صاحبه " (الخ) مضافا إلى أن الأمر بالتصدق مع عدم
اليأس عن صاحبه وامكان العثور عليه، بعيد جدا، بل مقطوع الخلاف، مع أنها قضية
شخصية يشكل فهم الحكم الكلي منا، فتحصل من ذلك تعين الفحص عليه.
ثم إن مقتضى القواعد لزوم الفحص إلى أن حصل اليأس سواء حصل قبل تمام
السنة أم لا ولو لم يحصل إلى الزائد عن السنة يجب إلا أن يقال: مقتضى اطلاق أدلة اللقطة
ثبوت أحكامها ولو أخذها غصبا وعدوانا أو ضمانا، ففي صحيحة الحلبي (2) عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث " قال واللقطة يجدها الرجل ويأخذها قال يعرفها سنة

(1) الوسائل - كتاب اللقطة - الباب 7 - والتردد بين الحسنة والصحيحة من جهة موسى بن عمر -
(2) الوسائل - كتاب اللقطة الباب 2
271

فإن جاء لها طالب وإلا فهي كسبيل ماله " ونحوها غيرها، ولا ينبغي الاشكال في اطلاقها
للأخذ الاحساني والغصبي وغيرهما.
وتوهم أن الحكم بأنه كسبيل ماله بعد تعريف السنة حكم ارفاقي لا يناسب
الغاصب (مدفوع) بأن الحكم الارفاقي يناسب أيضا الغاضب التائب الذي أراد ايصال
المال إلى صاحبه بتعريف السنة، فإذا كان مقتضى الاطلاق اسراء الحكم إلى الغاصب
ومن بحكمه لا مانع من اسرائه إلى مطلق المأخوذ غصبا أو ضمانا.
إلا أن يقال مضافا إلى أن الالتزام بالحكم في المتلقط غصبا وعدوانا مشكل،
ولعل الفقهاء لا يلتزمون به: إنه لو فرض جواز الأخذ بالاطلاق لكن لا يصح اسراء الحكم
من اللقطة إلى غيرها، ودعوى إلغاء الخصوصية باطلة لعدم مساعدة العرف معه، كما أن اسراء الحكم، إلى المقام من النص الوارد في ايداع اللص: غير ممكن، فعن
حفص بن غياث (1) " قال سألت أبا عبد الله عليه السلام من رجل من المسلمين أو دعه رجل
من اللصوص دراهم أو متاعا، واللص مسلم، هل يرد عليه فقال: لا يرده، فإن
أمكنه أن يرده على أصحابه فعل، وإلا كان في يده بمنزلة اللقطة يصيبها " (الخ)
. فإن اسراء الحكم إلى غير الوديعة لا يصح وإن لا يبعد الاسراء إلى مطلق الغاصب كما عن
الفقهاء.
ثم إن الظاهر من صدر الرواية أنه سئل عن حكم ما في يد اللص مع الشك في
كونه منه سيما بلحاظ قوله: " واللص مسلم " الظاهر أو المشعر بأن السؤال عن اعتبار
يد اللص المسلم وإن كان الجواب ظاهرا في مفروغية كون ما أودعه للغير، فيمكن
أن يجعل الحكم قرينة على أن الموضوع المال المسروق.
إلا أن يقال بامكان أن تكون يد اللص لدى الشارع الأقدس أمارة على كون
ما في يده للغير فيجب ترتيب آثار ملكية غيره، فيؤخذ بظاهر الصدور يحمل الحكم
على مفروغية كونه للغير، لقيام الأمارة عليه وهي يد اللص الذي شغله ذلك الحصول الغلبة
التي يمكن أن تكون مبنى حجية اليد، لكن الانصاف أن ذلك بعيد عن فهم العرف

(1) الوسائل - كتاب اللقطة الباب 18 - ضعيفة بقاسم بن محمد وغيره.
272

من الرواية، وكيف كان لا يمكن فهم حكم المقام منها.
ثم بعد الفحص واليأس يقع الكلام في تكليفه على حسب القواعد قال السيد
الطباطبائي: مع قطع النظر عن النصوص الاحتمالات عديدة: وجوب التصدق، ووجوب
الامساك والوصية به حين الموت، ووجوب الدفع إلى الحاكم، والتخيير بين اثنين
منها أو الثلاثة، ثم قال وجه الثالث أن الحاكم ولي الغائب فيجب الدفع إليه لأنه بمنزلة
الدفع إليه ولا بأس به، وإن كان في تعينه نظر إلا أن يقال: إذا جاز وجب لأنه القدر المتيقن
حينئذ لكنه مشكل لامكان تعين الأولين أيضا (نعم) الوجه الأول يمكن دفعه بما ذكره
المصنف من أنه مع الشك يكون الأصل الفساد.
لكن يمكن أن يقال: إن الأصل المذكور لا يقتضي حرمة التصدق حتى يتعين
الآخر، لأن المفروض احتمال وجوبه كما يحتمل وجوب غيره والعقل حاكم بالتخيير
في مثل ذلك فيجوز التصدق بمعنى الدفع إلى الفقير وإن كان لا يجوز له أخذه ولا
للمتصدق ترتيب آثار الملك عليه والثمر هو جواز الدفع بدون الاعلام فيجوز له التصرف
حينئذ " انتهى ".
(وفيه) أن مقتضى عدم حلية مال امرء مسلم إلا بطيبة نفسه وحرمة ابقاء التسلط و
الاستيلاء عليه عدوانا وبلا حق: حرمة التصرف فيه بالتصدق وحرمة الامساك فيندفع
احتمالهما تعيينا أو تخييرا، فيبقى احتمال وجوب الرد إلى الحاكم، ولا يدفع بما ذكر، بل
مقتضى ولاية الحاكم وكونه بمنزلة صاحبه وجوب الرد إليه تخلصا عن الامساك
المحرم أو توسلا إلى الواجب إن قلنا بوجوب الرد والايصال شرعا، لحكومة دليل
ولايته على دليل عدم حل مال المسلم ودليل وجوب رد المغصوب، فتحصل منه أن
غير احتمال الرد إلى الحاكم مدفوع بالدليل.
مضافا إلى أنه مع فرض جريان أصالة فساد الصدقة وأصالة عدم وقوعه صدقة
لا يبقى مجال للرد إلى الفقير بغير جهة الصدقة، لعدم احتمال جواز اتلاف مال الغير
واعطائه بالفقير بغير وجه الصدقة فضلا عن احتمال وجوبه، فالمحتمل مدفوع
بالأصل، وغير الصدقة لا يحتمل، فمقتضى القواعد مع الغض عن النصوص الخاصة وجوب
273

الارجاع إلى الحاكم.
وأما الأخبار فمنها المطلقات المتقدمة وفي دلالتها على وجوب التصدق تعيينا
أو تخييرا اشكال، أما رواية علي بن أبي حمزه (1) في قضية بعض كتاب بني أمية لعنهم الله
فلاحتمال أن يكون أمر أبي عبد الله عليه السلام إذنا له في التصدق وكان أمر المجهول بيد
الإمام عليه السلام ولا اطلاق فيها يدفع هذا الاحتمال; وأما صحيحة محمد بن مسلم (2)
ورواية أبي أيوب (3) فلاحتمال أن يكون قوله: " يتصدق بثمنه " على صيغة المجهول،
فعليه لا يكون بصدد بيان فاعل الصدقة وإن كان المظنون كونه على صيغة المعلوم
لكن الظن غير حجة.
وتوهم أن السائل سأل عن وظيفته فلا بد من كون الجواب عنها (مدفوع) بأن
جوابه في الصحيحة قوله: " لا يصلح ثمنه " وأما قوله: " إن أفضل خصال " (الخ)
فكلام مستأنف.
نعم لا يبعد ذلك في رواية أبي أيوب وإن احتمل مع قراءة أن يتصدق بصيغة
المجهول أن الصدقة أحب ففهم الراوي عدم جواز أكل ثمنه " تأمل " مضافا إلى ما
تقدم من عدم اطلاق فيها نظير قوله: " أحب الأشياء عندي صلاة الليل " حيث لا اطلاق
فيه يدفع الشك في شرط أو مانع.
وأما رواية أبي علي بن راشد (4) فموردها غير المورد لما تقدم أن ظاهرها
عدم معرفة رب للموقوفة رأسا وهو غير مجهول المالك المعلوم ملكيته لشخص، كما أن رواية ميمون الصائغ (5) أيضا غير موردنا.
وأما موثقة إسحاق بن عمار (6) " قال سألت أبا إبراهيم عليه السلام عن رجل نزل في

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 47 - من أبواب ما يكتسب به - ضعيفة.
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 55 - من أبواب ما يكتسب به.
(3) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 55 - من أبواب ما يكتسب به.
(4) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 17 - من أبواب عقد البيع.
(5) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 16 - من أبواب الصرف
(6) الوسائل - كتاب اللقطة - الباب 5.
274

بعض بيوت مكة فوجد فيه نحوا من سبعين درهما مدفونة فلم تزل معه ولم يذكرها
حتى قدم الكوفة كيف يصنع قال يسأل عنها أهل المنزل لعلهم يعرفونها قلت فإن لم
يعرفوها قال: يتصدق بها ".
فلا يبعد دلالتها على المقصود بأن يقال: إن موردها يد ضمان بل عدوان
وغصب فإن اخراج المال من مكة إلى الكوفة بغير حق ولا فحص عن صاحبه يوجب
الضمان ويكون عدوانا، ومقتضى اطلاق الذيل وجوب الصدقة عليه عند اليأس عن
صاحبه.
وتوهم أن الأمر بالصدقة بعد التعريف عند صاحب البيت دليل على وجوب الصدقة قبل
الفحص (مدفوع) بأن الفحص إنما يجب توصلا ومقدمة لا تعبدا ونفسا، ولا شبهة
في أن وجدان دراهم مدفونة في بيوت مكة التي هي محل ورود الحجاج من البلاد
المتفرقة النائية في سنين كثيرة يوجب اليأس عن معرفة صاحبها كما هو واضح،
فالأمر بالتصدق في مورد اليد الغاصبة والضامنة مع إلغاء الخصوصية عن المورد
موجب لفهم عموم الحكم إلى كل يد غصب وضمان، ولا يحتمل عرفا خصوصية الدفن
ولا بيوت مكة ولا الدراهم.
إلا أن يقال: إن في مورد الرواية خصوصية لا يمكن الغائها وهي احتمال كون
الدراهم المدفونة لا رب لها، لاحتمال أنها من السنين القديمة التي انقرض أربابها،
فلا يكون من مجهول المالك المعلوم أن له مالكا. ولو فرض وجود مورد في المقام
كذلك يمكن التفصيل بينه وبين غيره لهذه الرواية وللرواية الواردة في الوقف
كما تقدمت.
والتمسك باستصحاب بقاء مالكها أو أن لها ربا لالحاق غيرها بها محل اشكال من وجوه
مع أن احتمال خصوصية الدفن حاصل ولا يصح الغائها كما نرى اختلاف الأحكام مع
اختلاف خصوصية في الموضوع نظير المقام كالدار يوجد فيها الورق والدابة يوجد في
جوفها الشئ (1) والسمكة يوجد في جوفها المال (2).

(1) الوسائل - كتاب اللقطة - الباب 9.
(2) الوسائل - كتاب اللقطة - الباب 10.
275

وأما صحيحة يونس بن عبد الرحمن (1) " قال سئل أبو الحسن الرضا عليه السلام وأنا
حاضر إلى أن قال فقال رفيق كان لنا بمكة فرحل منها إلى منزله ورحلنا إلى منازلنا فلما أن
صرنا في الطريق أصبنا بعض متاعه معنا فأي شئ نصنع به قال: تحملونه حتى تلحقوهم
بالكوفة قال: لسنا نعرفه ولا نعرف بلده ولا نعرف كيف نصنع قال: إذا كان كذلك
فبعه وتصدق بثمنه، قال له على من جعلت فداك قال: على أهل الولاية " فغير مربوطة
بالمقام، لأن وجود المتاع من الرفقة عند بعضهم كان برضا صاحبه وإذنه ثم نسي
فبقي عنده فلا تكون يده غاصبة أو ضامنة، مضافا إلى احتمال أن يكون أمره بالتصدق
إذنا منه عليه السلام، فاستفادة حكم المورد منها في غير محلها.
ومنه يظهر الكلام في موثقة هشام بن سالم (2) الراجعة إلى أجير يقوم في
الرحى ففيها الأمر بالدفع إلى المساكين ونحوها احتمالا صحيحة (3) منه أيضا،
ويعلم الحال أيضا في رواية نصر صاحب الخان (4) ورواية حفص بن غياث (5)
وبالجملة يشكل استفادة حكم المورد من الروايات الآمرة بالتصدق.
وأما مرسلة الحلي في السرائر فغير حجة. ودعوى جبرها بالشهرة المحققة
غير ظاهرة; لعدم معلومية استناد المشهور على فرض ثبوت الشهرة بها، ونفس
الشهرة على فرضها غير حجة في المقام، لقرب استنادهم بالأخبار الكثيرة المتقدمة
وغيرها وتخلل الاجتهاد فيها.
ثم إن جملة من الروايات الدالة على لزوم حفظه والوصية به كصحيحة هشام
بن سالم وذيل موثقته وصحيحة معاوية بن وهب (6) ورواية الهيثم (7) فموردها عدم

(1) الوسائل - كتاب اللقطة - الباب 7.
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 22 - من أبواب الدين والقرض.
(3) الوسائل - كتاب الميراث - الباب 6 - من أبواب ميراث الخنثى.
(4) الوافي - كتاب المعايش والمكاسب - الباب 53 - من أبواب رجوه المكاسب
- ج 10 - ص 53.
(5) الوسائل - كتاب اللقطة - الباب 18.
(6 - 7) الوسائل - كتاب الميراث - الباب 6 - من أبواب ميراث الخنثى.
276

اليأس عن معرفة صاحبه، ضرورة أن الأمر بالطلب لا يحسن إلا في مورد الاحتمال
العقلائي بالمعرفة إذ الطلب بدونه لغو فالأمر فيها محمول على مورد الرجاء وعدم اليأس
مع أن في نفسها شواهد على ذلك ولو فرض الاطلاق في بعضها يجب تقييده بمثل
صحيحة يونس بن عبد الرحمن المتقدمة، فالقول بالتخيير بين التصدق والحفظ في
غير محله بعد كون الحكمين في موردين ورتبتين إذ مع الرجاء يجب الفحص ولا يجوز
التصدق ومع اليأس مورد التصدق لو قلنا به.
فتحصل من جميع ذلك أن مقتضى الأدلة والقواعد وجوب الفحص ومع اليأس
الرجوع إلى الحاكم ولكن مؤنة الحفظ وغيره على الآخذ كمؤنة الفحص.
هذا كله لو لم نقل باطلاق حسنة داود بن أبي يزيد أو صحيحته وقلنا باختصاصها
باللقطة، وإلا فالأمر أوضح لحكومتها على الأدلة الآمرة بالتصدق فيكشف منها أن
الأمر به من قبيل الإذن (نعم) لو قيل بدلالة الروايات على الإذن الكلي لا يبقى مجال
للبحث ولا ثمرة له، لعدم لزوم الرجوع إلى النواب بعد إذنهم العام.
إلا أن يقال إذن كل إمام معتبر حال حياته كإذن النواب لكنه غير وجيه بل
لعله خلاف أصول المذهب، فالأحوط بل الأقوى وجوب الرجوع إلى الحاكم للاشكال
في رواية ابن أبي يزيد كما تقدم وعدم اطلاق في الباب، ولا اعتماد على الشهرة المحكية
بما مر لكن مع ذلك لا يبعد عدم لزوم الارجاع إلى الحاكم لكثرة موارد الأمر
بالتصدق في مجهول المالك مع السكوت عن الارجاع إلى الحاكم، وقوة احتمال
الاطلاق في بعض الروايات كصحيحة ابن مسلم وأوضح منها رواية أبي أيوب مؤيدة بالشهرة
المنقولة لكن الأحوط التصدق بإذن الحاكم وتوكيله.
ولا ينبغي الريب في أن مصرف المال التصدق بعد اليأس كما هو مفاد الأدلة و
مقتضى قاعدة لزوم ايصال المال إلى صاحبه حتى الامكان فإن الحفظ مع اليأس يعد لغوا،
وتؤيده الروايات الواردة في مجهول المالك وإن اختلفت مواردها.
ثم لو قلنا بتعين التصدق عليه فتصدق فجاء صاحبه ولم يرض به فهل يضمن مطلقا
أو لا كذلك، أو يفصل بين يد الضمان وغيره.
277

اختار الشيخ الأعظم الضمان بعد الاشكال في أدلة الضمان وفي اطلاق ما دلت على
وجوب التصدق بدعوى تحكيم استصحاب الضمان فيما تقتضي اليد الضمان على
البراءة في اليد الغير المقتضية له بعد عدم القول بالفصل ورد ذلك بأن التحقيق
جريان استصحاب عدم الشغل بالبدل حتى في مورد يد الضمان، لأن معنى ضمان
اليد أنه إذا تلف يضمن فما لم يتلف لا ضمان فيستصحب.
(وفيه) مضافا إلى أن مقتضى ظاهر دليل ضمان اليد أن الاشتغال بالعين تنجيزي
لا تعليقي ويأتي في محله تحقيقه: أنه لو بنينا على التعليق يجري الاستصحاب
التعليقي فإن الاتلاف ولو بالتصدق قبل الفحص موجب للضمان ويكون التعليق شرعيا
فرضا; والاستصحاب التعليقي حاكم على الاستصحاب التنجيزي كما قرر في محله،
فلا اشكال من هذه الجهة، وإنما الاشكال من جهة تحكيمه الاستصحاب على البراءة
في المقام، لأن الاجماع على عدم الفصل غايته اثبات التلازم بين الحكمين الواقعيين،
واثبات أحد المتلازمين باستصحاب الآخر مثبت ولو كان التلازم شرعيا، فإن تحقق
الملازم بتحقق ملازمه عقلي.
هذا إن ادعى عدم الفصل بين الحكمين الواقعيين كما هو ظاهره من دعوى
التحكيم، وإن ادعى التلازم بين الحكمين الظاهريين فلا وجه للتحكيم بل الوجه
التعارض، هذا مضافا إلى جريان استصحاب عدم الضمان في الطرف الآخر أيضا فمع
عدم القول بالفصل واجدائه يتعارض الأصلان فالأقوى بحسب الأصل التفصيل.
كما أن الأقوى بحسب قاعدة اليد والاتلاف الضمان مطلقا ودعوى انصراف
دليله إلى ما كان الاتلاف عليه لا له: في غير محلها، كدعوى ظهور الاتلاف في العلية
التامة وهي في المقام مفقودة، لأن الضمان موقوف على عدم إجازة المالك بما ذكره
الشيخ من ضمانه أو لا ورفعه بالرضا بالصدقة وإن أمر بالتأمل، لكنه أوجه; لأن
التصدق بعد فرض عدم جواز الرجوع إلى الفقير وقد ادعى الشيخ الأعظم عدم
القول بجوازه اتلاف لماله عرفا ومقتض للضمان فلا وجه لكونه مراعى بأمر متأخر
غير دخيل في الاتلاف.
278

وربما يقال لا دليل على ضمان الاتلاف يؤخذ باطلاقه وما اشتهر أن من
أتلف مال الغير فهو ضامن مستنقذ من الموارد الجزئية.
(وفيه) أن دليل موثقة أبي بصير (1) في باب حرمة سباب المؤمن عن أبي
جعفر عليه السلام: " قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله سباب المؤمن فسوق إلى قوله وحرمة ماله
كحركة دمه " فإنه في قوة قوله: " من أتلف مال الغير فهو ضامن "، لأن معنى حرمة
ماله أنه لا يذهب هدرا بل هو محترم لا بد من جبره كدمه فإنه لا يطل دم رجل مسلم
أي لا يهدر، وبالجملة التصدق بمال الغير موجب للضمان ولو كان يده يد أمانة واحسان.
وتوهم أن التصدق احسان في غير محله.
هذا مع الغض عن اخبار وجوب التصدق، وأما بنظر إليها فالظاهر استفادة
عدم الضمان منها للملازمة العرفية بين إلزامه على التصدق والاتلاف وعدم الضمان
وأما في باب اللقطة فلم يكن التصدق متعينا عليه بل هو مختار بين الأخذ لنفسه والحفظ
لصاحبه والتصدق بالضمان.
مضافا إلى دلالة رواية داود بن أبي يزيد عليه بناء على أن المراد بالإصابة
أعم من اللقطة وكذا رواية علي بن أبي حمزة، هذا حال الصورة الثالثة، وأما الصورة
الرابعة فقد أحال الشيخ الأعظم تحقيقها على كتاب الخمس ونحن نقفوا أثره.
المسألة الثانية مقتضى القواعد أن ما أخذه السلطان الجائر المستحل لأخذ
الخراج والمقاسمة باسمها ومن الغلات وغيرها بعنوان الزكاة عدم وقوعها خراجا
وزكاة وبقائها على ملك صاحبها وعدم نفوذ تصرفاته من البيع ونحوه وبقاء الخراج
والزكاة على ذمة المالك أو في أمواله هذا مما لا اشكال فيه، كما لا اشكال عقلا
في جواز إنفاذ ما أخذه كذلك أخذا واعطاء وانفاذ معاملاته على المأخوذ وعدم
قبح شئ من ذلك عقلا بن هو مستحسن لرفع الحرج والضرر عن صاحب الزكاة
والخراج وعن سائر المسلمين، بل قد يلزم عقلا إذا توقف نظام الممالك الاسلامية
عليه، فلا بد في ذلك من اتباع الأدلة ولا يجوز طرح ظاهر دليل معتمد بتوهم
مخالفته للعقل.

(1) الوسائل - كتاب الحج - الباب 158 - من أبواب أحكام العشرة.
279

ولا يخفى أنه لا ملازمة بين إنفاذ المأخوذ زكاة وخراجا ووقوعهما كذلك
وانقاذ المعاملة عليها وضعا وبين حلية الأخذ وحلية التصرفات في المأخوذ على
الجائر لامكان صحة شئ وضعا وحرمته تكليفا فلا مانع من حرمة البيع وقت
النداء وصحته.
فلو دل دليل على نفوذ أعمال السلاطين في أخذ المذكورات والمعاملة عليها
لا يكشف منه حلية تصرفاتهم وأخذهم واعطائهم تكليفا لأن كل ذلك تصرف في
سلطان الوالي العادل فله المنع عن تصرفاتهم والانفاذ على فرض وقوعها،
وقد استفيض
نقل الاجماع وعدم الخلاف والشهرة على جواز الشراء من السلطان الجائر، وتدل على
جوازه بل جواز مطلق المعاملة جملة من الروايات.
منها صحيحة الحذاء (1) عن أبي جعفر عليه السلام: " قال: سألته عن الرجل منا يشتري
من السلطان من إبل الصدقة وغنم الصدقة وهو يعلم أنهم يأخذون منهم أكثر من الحق
الذي يجب عليهم قال فقال ما الإبل إلا مثل الحنطة والشعير وغير ذلك لا بأس به حتى
تعرف الحرام بعينه قيل له فما ترى في مصدق يجيئنا فيأخذ من صدقات أغنامنا فنقول
بعناها فيبيعناها فما تقول في شرائها منه فقال إن كان قد أخذها وعزلها فلا بأس قيل له
فما ترى في. الحنطة والشعير يجيئنا القاسم فيقسم لنا حظنا ويأخذ حظه فيعزله بكيل
فما ترى في شراء ذلك الطعام منه فقال: إن كان قبضه بكيل وأنتم حضور ذلك فلا بأس
بشرائه منه من غير كيل ".
وهي بفقراتها الثلاث تدل على المطلوب أي نفوذ أخذ الجائر بمعنى وقوع ما أخذه
صدقة وجواز الشراء منه ونفوذه بل جواز سائر المعاملات عليه، أما الفقرة الأولى
فدلالتها ظاهرة سيما مع تسمية ما زاد عن الحق الواجب حراما ومفروضية كون
المأخوذ حقا واجبا عليهم.
والمناقشة فيها تارة بأن السائل في مقام السؤال عن حكم آخر وليس بصدد
السؤال من السلطان الجائر فلا اطلاق فيها من هذه الجهة وقوله: " يأخذون منهم

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 52 - من أبواب ما يكتسب به.
280

أكثر " (الخ) لا يدل على كون السلطان جائرا، لأن عمال السلطان العادل يمكن أن
يصدر منهم الظلم أحيانا بلا اطلاع من السلطان عليه وضمير الجمع لا يرجع إلى السلطان
بل إلى عماله الذين يأخذون الصدقات، ومعلوم أن السلطان لا يأخذ بنفسه بل لعل
مفروضية كون الأخذ حقا قرينة على أن السؤال عن السلطان العدل، وأخرى بأن
الالتزام بمضمونها غير ممكن لأنه مخالف للقواعد لتجويزه الشراء في غير مورد
واحد وهو العلم التفصيلي بالحرام ومقتضاه جوازه مع العلم الاجمالي حتى اشتراء جميع
أطرافه دفعة لصدق عدم معرفته بالحرام بعينه ومفصلا وهذا موهن لها فيشكل العمل بها،
(مدفوعة) بأن الظاهر الذي كالنص أن السؤال عن السلطان الجائر الذي كانت
صدقاتهم محل الابتلاء والسؤال عن كلي لم يكن محل الابتلاء رأسا ولا متوقعا لذلك
مقطوع الخلاف ويشهد له أيضا قوله: " الرجل منا يشتري من السلطان " إذ من المعلوم
أن المراد به هو الشيعة الإمامية قبال السلطان الذي ليس منا، فالحمل على عمال
سلطان العدل وفرض ظلمهم لا ينبغي احتماله، فلا اشكال من هذه الجهة، كما أنه من
المحتمل في قوله: " حتى تعرف الحرام بعينه " أن يكون قوله: (بعينه) تأكيدا
للحرام لا قيدا للمعرفة، ومع لا تكون الرواية مخالفة للقواعد.
مضافا إلى أن اطلاقها مخالفة لها فيتقيد عقلا فلا يصح طرحها، وليس في السؤال
ما يدل على أن المعلوم بالاجمال في مورد الشراء بل الظاهر أن مراده أن السلطان
إذا كان في أمواله مظلمة يجوز الشراء منه أم لا، والانصاف أن الخدشة فيها
في غير محلها، وقد تقدم أن الحكم ليس مخالفا للعقل بل موافق للاعتبار
والعقل لتنظيم أمر المسلمين والإسلام مع عدم بسط يد السلطان العادل وتسهيل
الأمر على الأمة فلا معنى لردها بعد الاقرار بظهورها وصحتها واعتماد الأصحاب
عليها والعمل بها.
وأما احتمال رجوع ضمير لا بأس به إلى الإبل المذكور أخيرا ويراد به لا بأس
بشراء الإبل إلا ما علم أنه حرام وقد علم أن إبل الصدقات حرام حسب القواعد وإنما
أجمل في الكلام تقية (لا ينبغي الاصغاء إليه) إذ هو في غاية السقوط كما لا يخفى.
281

كما أن الظاهر من الفقرتين الأخيرتين أن السائل أراد السؤال من مسئلتين مربوطتين
بعمال الصدقات ومقسمها وشراء ما أخذوا بعد ما سئل الحذاء مسئلته، والحمل على
غيرها خلاف ظاهر الكلام وسياقه وفهم العقلاء منه واحتمال كون الفقرتين مستقلتين
في مجلس غير مجلس سؤال الحذاء ضعيف، مع أن ظاهر المصدق والقاسم هو عمال
السلطان فلا اشكال فيها، لا سندا، ولا دلالة، ولا عملا.
والظاهر أن تعليق نفي البأس في الفقرة الثانية بالأخذ والعزل لأجل أن قبلهما
لا يتعين زكاة وصدقة ولا ولاية للجائر مطلقا حتى تصح معاملته للملك المشاع بناء
على إشاعة الزكاة كما هي الأرجح وإنما نفذت تصرفاته بعد الأخذ والعزل حفظا للمصالح
وتسهيلا على العباد.
ثم إنه لا دلالة في الرواية على سقوط الضمان من الجائر، لأن مجرد وقوع ما
أخذه صدقه وصحة الشراء من إبل الصدقات وغيره لا يلازم سقوط الضمان عنه، لأن
الزكاة بعد حصولها لا بد في صرفها من تصرف ولي أمرها أو إذنه والظالم ليس بولي
فلا بد من رفع ضمانه من دلالة دليل على صحة صرفه في مصارفها الشرعية، والصحيحة لا دلالة
عليها، وإن كان المظنون قويا وقوعها مصرفا إذا صرفها في المصارف الشرعية، و
التفكيك بين الوقوع في الأخذ وبين الوقوع في الاعطاء في غاية البعد، لكن مجرد
الاستبعاد ليس بحجة.
نعم تدل على ذلك بل وعلى جميع المطالب المتقدمة حسنة أبي بكر أو صحيحته (1)
" قال دخلت على أبي عبد الله عليه السلام وعنده إسماعيل ابنه فقال ما يمنع ابن أبي السماك أن
يخرج الشباب الشيعة فيكفونه ما يكفيه الناس ويعطيهم ما يعطي الناس ثم قال لي لم
تركت عطائك قلت مخافة على ديني قال: ما منع ابن أبي السماك أن يبعث إليك
بعطائك، أما علم أن لك في بيت المال نصيبا ".
فإن الظاهر من صدرها وذيلها أن ما أعطى من بيت المال شباب الشيعة وكذا لو
أعطى نصيبه ابن أبي السماك من بيت المال يقع على ما هو عليه ومصرفا شرعيا، كما

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 51 - من أبواب ما يكتسب به.
282

أن التعبير ببيت المال وأن لأبي بكر فيه نصيبا دليل على أن المأخوذ من الناس وقع خراجا
وزكاة، فتدل الرواية مضافا إلى ما دلت عليه السابقة على خروج الغاصب من الضمان
لو عمل في الصدقات على طبق الشرع.
والخدشة فيها بأن الدخول في أعمالهم محرم وقد سوغه فيها (في غير محلها)،
لامكان أن يكون لدخول شباب الشيعة مصلحة مجوزة لذلك، كما أن احتمال كون
نصيبه من بيت المال من وجوه أخر غير ما هو المعهود من بيت المال: لا يصغى إليه،
فالرواية ظاهرة الدلالة نقية السند معمول بها.
وتدل على المطلوب من وقوع المذكورات على ما هي عليها وسقوطها عن
المأخوذ منه وصحة شرائها: جملة من الروايات التي وقع السؤال فيها عن الاشتراء
عن العامل، كصحيحة معاوية بن وهب (1) " قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام أشتري من العامل
الشئ وأنا أعلم أنه يظلم فقال اشتر منه "، ونحوها رواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله
(2) وكموثقة أسحق بن عمار (3) " قال سألته عن الرجل يشتري من العامل وهو
يظلم قال: يشتري منه ما لم يعلم أنه ظلم فيه أحدا ".
فإن اختصاص العالم بالذكر كرارا في الروايات يدل على أن السؤال ليس
عن مطلق الظالم أو عن مطلق من بيده مال الغير بل يكون عن الصدقات التي في يد
العامل فتكون تلك الروايات نظير رواية أبي عبيدة فهي تدل على المقصود في الجملة
إذ لا اطلاق لها فتكون في مقام بيان حكم آخر.
وتدل عليه أيضا موثقة سماعة (4) " قال سألته عن شراء الخيانة والسرقة فقال إذا
عرفت أنه كذلك فلا إلا أن يكون شيئا اشتريته من العامل " ونحوها رواية محمد بن
عيسى (5) مرسلة عن أبي عبد الله عليه السلام بل وصحيحته عن أبي بصير عن أحدهما (ع) (6) وفي

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 52 - من أبواب ما يكتسب به.
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 53 - من أبواب ما يكتسب به.
(3) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 53 - من أبواب ما يكتسب به.
(4) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 1 - من أبواب عقد البيع.
(5) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 52 - من أبواب ما يكتسب به.
(6) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 1 - من أبواب عقد البيع.
283

ذيلها " فأما السرقة بعينها فلا إلا أن يكون من متاع السلطان فلا بأس بذلك ".
ضرورة أن المراد من السرقة والخيانة التي أجاز اشترائها ونفي البأس عنه ليست إلا
ما أخذها السلطان وعماله عن الناس باسم الخراج والزكاة بغير حق خيانة وسرقة أو
كان بحكمها، ضرورة عدم خصوصية للسلطان الجائر وعماله في ذلك أي في السرقة
من أموال الناس، والشاهد عليه مع وضوحه الروايات المتقدمة الدالة على عدم جواز
شراء ما يعلم أنه ظلم فيه أحدا وما عرف أنه حرام بعينه.
وكيف كان لا ينبغي الاشكال في دلالتها على نفوذ المعاملات وسقوط الزكاة و
نحوها من ذمة صاحبها (نعم) لا دلالة لها على سقوط الضمان على الوالي الجائر، وتدل
عليه أيضا ما دلت على جواز تقبل خراج الأراضي الخراجية وجزية الرؤوس بل ما دلت
على جواز تقبل الأرض من السلطان.
فمن الأولى موثقة إسماعيل بن الفضل الهاشمي بطريق الصدوق (1) عن أبي عبد الله
عليه السلام " قال سألته عن الرجل يتقبل خراج الرجال وجزية رؤوسهم وخراج النخل و
الشجر والآجام والمصائد والسمك والطير وهو لا يدري لعل هذا لا يكون أبدا أو
يكون أيشتريه وفي أي زمان يشتريه ويتقبل منه فقال إذا علمت أن من ذلك شيئا واحدا
قد أدرك فاشتره "، ورواها الكليني باختلاف يسير وفي روايته إرسال.
ومن الثانية رواية إسماعيل بن الفضل الهاشمي (2) عن أبي عبد الله عليه السلام " قال
سألته عن الرجل استأجر من السلطان من أرض الخراج بدراهم مسماة أو بطعام مسمى
ثم آجرها وشرط لمن يزرعها أن يقاسمه النصف أو أقل من ذلك أو أكثر وله في الأرض
بعد ذلك فضل أيصلح له ذلك قال نعم إذا حفر لهم نهرا أو عمل لهم شيئا يعينهم بذلك
فله ذلك قال وسألته عن الرجل استأجر أرضا من أرض الخراج بدراهم مسماة " إلى أن قال " إذا استأجرت أرضا فأنفقت فيها شيئا أو رممت فيها فلا بأس بما ذكرت ".
ورواية الفيض بن المختار (3) " قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام جعلت فداك ما تقول

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 12 - من أبواب عقد البيع.
(2) الوسائل - كتاب الإجارة - الباب 21.
(3) الوسائل - كتاب الإجارة - الباب 21.
284

في الأرض أتقبلها من السلطان ثم أواجرها من آخرين على أن ما أخرج الله منها من
شئ كان لي من ذلك النصف أو الثلث أو أقل من ذلك أو أكثر قال لا بأس ".
ويدل عليهما جميعا صحيحة الحلبي (1) عن أبي عبد الله (ع) وفيها " لا بأس أن
يتقبل الأرض وأهلها من السلطان " إذ الظاهران المراد بأهلها جزية رؤوسهم.
أما دلالة الأولى والثالثة فظاهرة، وأما الثانية فلدلالتها على نفوذ عمل السلطان
في استيجار الأراضي الخراجية فتدل على أن ما أخذه أجرة وقعت كذلك لصحة الإجارة،
فتدل نفوذ عمله وصحة إجارة الأراضي التي أمرها أصالة بيد الحاكم العدل.
وقد يورد على دلالتها بأنها بعد ما كانت في مقام بيان حكم آخر بعد الفراغ عن أن
السلطان آخذ لا محالة عن مستعملي الأرض الضريبة فلا دلالة على جواز أصل التقبل
بل جوازه مفروغ عنه ولعل جوازه لأجل أن السلطان يأخذ ما يأخذه البتة وبعد ذلك كل
مستعمل الأراضي يرضون لا محالة أن يتقدم واحد ويضمن للسلطان ما هو آخذ
منهم ثم يدفعون ما هو عليهم لهذا المتقبل فإن ذلك أمان لهم من جور الجائرين
واعتداء المأمورين فهم يدفعون بطيب النفس لهذا ليدفع عنهم الظلامات " انتهى ".
(وفيه) مضافا إلى أن صحيحة الحلبي في مقام بيان جواز التقبل من السلطان
كما لا يخفى: أن ما ذكره من طيب نفس مستعملي الأرض بما ذكره غريب، ضرورة أن الفرار
من الأفسد إلى الفاسد ومن الظلم الكثير إلى الظلم القليل بالنسبة لا يوجب طيب النفس
بالفاسد وبالظلم، ومعلوم أنهم لا يرضون بأداء الخراج وجزية الرؤوس، وإنما يطيب
نفسهم بوقوع هذا الظلم بيد من لا يجوز فوق ذلك، وهذا غير طيب النفس على أصل
الأداء، مع أن طيب نفسهم لا يفيد بعد كون الأمر بيد ولي الأمر العادل.
ومن هنا يظهر فساد ما لو يقال: إن من المحتمل أن يكون مستعملي الأرض
ممن يعتقد بلزوم أداء الخراج إلى الوالي الجائر بتوهم أنه على الحق فكان أدائهم
بطيب نفسهم، لما عرفت من أن طيب نفسهم لا تأثير له، مضافا إلى أن هذا الطيب
المبني على أمر فاسد لا يفيد، فهو نظير طيب النفس في المعاملة الفاسدة مع أن المقبوض

(1) الوسائل - كتاب المزارعة والمساقات - الباب 18.
285

بها كالمقبوض غصبا وكيف كان لا ينبغي الاشكال في دلالة الروايات على المقصود فلا
ينبغي إطالة الكلام فيه.
ينبغي التنبيه على بعض الأمور
الأول مقتضى القواعد اختصاص الحكم بما يأخذه السلطان فإنه المتيقن من
نفوذ أمره ويحتاج في النفوذ على الذمم أو على المال المشاع قبل الأخذ إلى دليل
وقد دل الدليل على نفوذه بالنسبة إلى تقبل الخراج وجزية الرؤوس، بل لو فرض
وجود دليل على جواز المعاملة مع ما أخذ من الخراج وجزية الرؤوس يستفاد منه
جوازها بالنسبة إلى الذمم أيضا، لأن جعل الخراج والجزية بيد الوالي فإذا دليل
على جواز المعاملة على المأخوذ يكون دالا على صحة جعله ونفوذه على الذمم و
لازمه العرفي في جواز الحوالة على ما جعله ونفوذها.
وأما الزكاة والخمس مما كان المجعول بجعل إلهي غير مربوط بالوالي فلا
دليل على نفوذ أمره قبل أخذه، بل ظاهر الفقرة الثانية من صحيحة أبي عبيدة المتقدمة
عدم نفوذه إلا بعد الأخذ والعزل كما أشرنا إليه سابقا.
واحتمال أن يكون ذلك لأجل كون الزكاة حقا لا ملكا فلا ملكية إلا بعد
الأخذ والعزل (ضعيف) لما قرر في محله من كونها ملكا بنحو الإشاعة والاشتراك
، كما أن احتمال كون زكاة الأغنام قبل العزل مجهولة (فاسد) بعد البنا، على
الإشاعة.
نعم لو كانت من قبيل الكلي في المعين يمكن أن تكون النكتة ما ذكر
لكنه مع ضعفه يمكن توصيفه بما يخرجه عن الجهالة، وكيف كان عدم الجواز لا
يحتاج إلى دليل خاص بل يكفي عدم الدليل على النفوذ، ودعوى إلغاء الخصوصية
عن الحراج والجزية واسراء الحكم إلى الزكاة والخمس (في غير محلها) لاحتمال
الفرق بين المجعول الإلهي وبين ما جعله الوالي.
كما أن التشبث بعدم الفرق بين ما جعله الله تعالى وما جعله رسول الله صلى الله عليه وآله
286

أو أمير المؤمنين عليه السلام ومقتضى ترك الاستفصال في الأدلة جواز التقبل حتى فيما بقي
الجعل من زمان رسول الله صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين عليه السلام فإذا نفذ فيما جعلا نفذ فيما جعله الله
تعالى (غير وجيه) باحتمال الفرق وعدم الدليل على التسوية وكفى الاحتمال في عدم جواز
الاسراء، مضافا إلى عدم العلم ببقاء ما جعله رسول الله صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين عليه السلام
إلى ذلك الزمان ومجرد الاحتمال غير كاف، ولعل ترك الاستفصال في مثل صحيحة
الحلبي لعدم بقاء مجعولهما فالأقوى بحسب القواعد والأخبار التفصيل بين المجعول
الإلهي وما جعله الوالي.
ثم لا يخفى أن نقل الاجمال وعدم الخلاف في هذه المسألة التي ظاهر كلمات
أكثر الفقهاء أو كلهم على ما قال الشيخ الأعظم اختصاصه بالمأخوذ موهون لا يتكل
عليه، كما أن إبداء القول الثالث كالتفصيل المتقدم مع اقتضاء الدليل وعدم ثبوت
الاجماع على عدم الفصل لا مانع منه.
ثم إن استشهاد الشيخ الأنصاري لعدم الفرق بين المأخوذ وغيره بظاهر الأصحاب
في باب المساقاة حيث يذكرون أن خراج السلطان على المالك إلا أن يشترط خلافه
غير ظاهر، فإنه لو فرض توجه ظلم إلى مالك الأشجار أو أراضي فمع جعل المساقاة
أو المزارعة لا معنى لتوجهه وتعلقه إلى المزارع والساقي، وأما إذا شرط عليهما
أداء المظلمة فهو شرط سائغ يجب الوفاء به، فلا تدل كلماتهم في المساقاة ولا في
المزارعة على ما رامه.
الثاني مقتضى القواعد الأولية حرمة أداء الزكوات والأخماس، وكذا الخراج
والمقاسمة وجزية الرؤوس إلى حكام الجور إذا أمكن ذلك ولم يكن مخالفا للتقية
فلا بد من حرمة منعهم ووجوب التأدية إليهم من قيام الدليل عليه.
ويمكن التفصيل في هذه المسألة أيضا بالنظر إلى الأدلة الخاصة بين الخراج
وجزية الرؤوس مما يكون التعيين بجعل الوالي وبين الزكوات والأخماس مما هو يجعل
الله تعالى بأن يقال: إن اللازم العرفي من تنفيذ جعل الوالي ما ضرب على الأرض من خراجا
وعلى الرؤوس جزية لزوم أدائه، فإن السلاطين عدولا كانوا أو فساقا إنما جعلوا الخراج
287

والجزية على الناس بأن يؤدوا إليهم لا إلى غيرهم، وكان صرفها في مصارفها بيدهم من
غير اختيار لأحد فيه، فإذا دل الدليل على نفوذ جعل الوالي الجائر كان لازمه
العرفي أو مدلوله المطابقي هو وجوب الرد إليه وعدم جواز التخلف والخيانة، وهو
نظير ما إذا ورد دليل على إنفاذ معاملة كان مفادها انتقال سلعة بثمن فإن لازم ذلك
صيرورة كل من السلعة والثمن منتقلا إلى من أنتقل إليه بحسب الجعل ولازمه العرفي
حرمة المنع والخيانة السرقة.
فإذا ضرب الوالي على كل جريب من أرض درهما بأن يؤدي إليه ما ضرب عليها
ليصرفه في لمصارف المعهودة، ودل دليل على نفوذ ذلك: كان لازمه صيرورته مالك
التصرف شرعا بحسب الوضع ولو حرم عليه تكليفا كما مر ولازم ذلك عرفا حرمة
منعه ووجوب أدائه إليه.
وتشعر بذلك أو تدل عليه صحيحة أبي بصير ومحمد بن مسلم (1) جميعا عن أبي جعفر
عليه السلام " أنهما قالا له هذه الأرض التي يزارع أهلها ما ترى فيها فقال كل أرض دفعها
إليك السلطان فما حرثته فيها فعليك مما أخرج الله منها الذي قاطعك عليه وليس
على جميع ما أخرج الله منها العشر إنما عليك العشر فيما يحصل في يدك بعد مقاسمته لك ".
فإن الظاهر منه أن عليه ما قاطعه عليه السلطان أن يرد عليه فإنه المتفاهم عرفا من
نظائره لولا قرينة أو دليل على خلافه.
ولما الزكوات ونحوها فلا دلالة بل ولا اشعار في أدلة إنفاذ المعاملات على
المأخوذ منها على وجوب أدائها إلى السلطان وهو واضح، مضافا إلى قيام الدليل على
وجوب منعها عنهم وهو صحيحة عيص بن القاسم (2) عن أبي عبد الله عليه السلام في الزكاة
" قال ما أخذ منكم بنو أمية فاحتسبوا به ولا تعطوهم شيئا ما استطعتم فإن المال لا يبقى
على هذا أن يزكيه مرتين "، ورواية أبي البختري (3) عن جعفر عليه السلام عن أبيه عليه السلام
" أن عليا عليه السلام كأن يقول اعتد في زكاتك بما أخذ العشار وأخفها عنه ما استطعت.

(1) الوسائل - كتاب الزكاة - الباب 7 - من أبواب زكاة الغلات.
(2) الوسائل - كتاب الزكاة - الباب 20 - من أبواب المستحقين. للزكاة
(3) الوسائل - كتاب الزكاة - الباب 20 - من أبواب المستحقين. للزكاة
288

فالتفصيل بينهما غير بعيد، وأما رواية علي بن يقطين (1) " قال قلت لأبي
الحسن عليه السلام ما تقول في أعمال هؤلاء قال: إن كنت لا بد فاعلا فاتق أموال الشيعة
قال: فأخبرني على أنه كان يجبيها من الشيعة علانية وبردها عليهم في السر "،
فمع إرسالها وكونها في قضية شخصية راجعة إلى علي بن يقطين ولعل ما كان يتولى
أو في أهبة توليه من الأراضي لم تكن أراضي الخراج المعهودة " تأمل ": أن الظاهر
من قوله: " أموال الشيعة " أن ما أخذ منهم كان أموالهم وأخذ منهم جورا وظلما،
ولا بأس باطلاق الجباية عليه بعد جعل السلطان ظلما، ولهذا كان يرد عليهم خفاء
وهم لا يؤدون الخراج إلى ولي المسلمين بحق مع أنه غير جائز.
ومن المحتمل أن يكون ذلك إذنا منه عليه السلام لعلي بن يقطين بأن يأخذ ما على
الشيعة من الخراج وغيره ويرد إلى مستحقيهم فليس المراد من الرد إليهم الرد إلى
من أخذ منهم.
ومنه يظهر الكلام في رواية أحمد بن زكريا الصيدلاني (2) عن رجل من بني
حنيفة من أهل بست وسجستان " قال: وافقت أبا جعفر عليه السلام في السنة التي حج فيها "
ثم حكى قضية كتابة أبي جعفر عليه السلام إلى وإلى سجستان وامحاء الوالي خراجه من ديوانه
وقوله: " لا تؤد خراجا ما دام لي عمل "، فإنها أيضا مع ضعفها واردة في قضية شخصية
لا يعلم أن الخراج المأخوذ منه كان من الأراضي الخراجية أو من ملكه الشخصي.
وأما رواية ابن جمهور (3) المشتملة على كتابة أبي عبد الله عليه السلام إلى النجاشي والي
الأهواز وفارس فلا دلالة لها رأسا لأن الظاهر منها أنه أمر بأداء الخراج من ماله
عنه فراجع.

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 46 - من أبواب ما يكتسب به.
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 46 - من أبواب ما يكتسب به.
تمت التذييلات بيد العبد المحتاج إلى ربه الغني مجتبى بن عبد العلي الطهراني
عفى الله عنهما.
(3) تقدم آنفا تحت رقم 2.
289

ثم لا يبعد أن يكون التفصيل المذكور ظاهر جملة من الأصحاب، وقد
حكى عباراتهم شيخنا الأنصاري وأولها بما هو خلاف ظاهرها
فإنهم تعرضوا الخصوص الخراج والمقاسمة وأفتوا بحرمة
الجحود والانكار والمنع مع دعوى الاتفاق عليه ولا
أظن اسرائهم الحكم إلى الزكاة مع ورود رواية
صحيحة على وجوب المنع ثم إن شيخنا الأنصاري
تعرض لفروع وتنبيهات أخر سيأتي حكم
بعضها انشاء الله تعالى في خلال كتاب البيع
ونحن نختم الكلام هاهنا حامدا له
تعالى شكرا لنعمائه مصليا علي
محمد وآله الطاهرين، لا عنا على
أعدائهم أجمعين
وكان ذلك في يوم السبت ثامن شهر جمادى الأولى سنة ثمانين وثلاثمائة
بعد الألف.
المطبعة العلمية - قم
290