الكتاب: الطهارة الكبير
المؤلف: السيد مصطفى الخميني
الجزء: ١
الوفاة: ١٣٩٨
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: جمادي الثاني ١٤١٨
المطبعة: مطبعة مؤسسة العروج
الناشر: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني
ردمك:
ملاحظات:

تحريرات في الفقه
كتاب الطهارة
تأليف
العلامة المحقق آية الله المجاهد الشهيد السعيد
السيد مصطفى الخميني قدس سره
الجزء الأول
مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدس سره
تعريف الكتاب 1

بمناسبة الذكرى السنوية العشرين
لشهادة العلامة المجاهد آية الله
السيد مصطفى الخميني (قدس سره)
هوية الكتاب
* اسم الكتاب: كتاب الطهارة (ج 1) *
* المؤلف: السيد مصطفى الخميني (قدس سره) *
* تحقيق ونشر: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني (قدس سره) *
* سنة الطبع: آبان 1376 - جمادى الثاني 1418 *
* الطبعة: الأولى *
* المطبعة: مطبعة مؤسسة العروج *
* الكمية: 3000 نسخة *
* السعر: 10000 ريال *
جميع الحقوق محفوظة للناشر
تعريف الكتاب 2

بسم الله الرحمن الرحيم
تعريف الكتاب 3

الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد خاتم النبيين،
وعلى عترته الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى
يوم الدين.
وبعد.. فقد ساعدني التوفيق للمراجعة إلى بعض ما صنفه في الفقه
والأصول صديقنا الأعز وشريكنا في الدرس والمباحثة، جامع المعقول
والمنقول، حاوي الفروع والأصول الذي قد جمع بين شدة الاستعداد
وقوة الحافظة آية الله الحاج السيد مصطفى الخميني (قدس سره) ابن أستاذنا
العلامة المجاهد الأكبر الإمام الراحل (قدس سره) فوجدته مشتملا على تحقيقات
وتدقيقات عميقة، لا يكون الطالب غنيا عن المراجعة إليه، والمحقق
مفتاق إلى المراجعة والاستفادة منه.
حشرهما الله مع أجدادهما الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين.
محمد الفاضل اللنكراني
18 جمادى الأولى 1418
تعريف الكتاب 4

نبذة مختصرة من حياة المصنف
طهارة المولد وكرم المحتد
في مدينة قم المقدسة، وفي أسرة تطاول السماء مجدا وسؤددا، ولد
الشهيد السعيد عام 1309 ه‍. ش.
سماه أبوه العظيم محمدا، وطوقه ب‍ " مصطفى " لقبا، وكناه
ب‍ " أبي الحسن " ولم يكنه ب‍ " أبي القاسم "، كي لا تجتمع النعوت الثلاثة لغير
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وغلب عليه لقبه، فاشتهر بالسيد مصطفى.
انحدر من صلب ماجد، انحنى له الدهر تبجيلا وتعظيما، وتصاغرت
شواهق الجبال لشموخه وجلاله، ذلك والده المقدس، الذي ملأ الدنيا وشغل
الناس، وأنطق العدو ثناء عليه قبل الصديق، فعدوه رجل العالم الأول لعامين
انبهارا بعظمته وقيادته.
وأما والدته التقية الفاضلة فهي كريمة آية الله الميرزا محمد الثقفي
صاحب كتاب روان جاويد في التفسير وغرر العوائد من درر الفوائد في
الأصول، وكثيرا ما عبر عنه المترجم له في كتبه ب‍ " جدي المحشي ".
وكان آية الله الميرزا أبو الفضل الطهراني صاحب كتاب شفاء الصدور
في شرح زيارة عاشور جدا لوالدته الفاضلة.
مقدمة التحقيق 1

كما كان جدها الأعلى آية الله العلامة الشهير الميرزا أبو القاسم الكلانتر
مقرر الشيخ الأعظم الأنصاري، وتقريراته الشهيرة معروفة ب‍ " مطارح
الأنظار "، ويعبر عنه الشهيد ب‍ " جدي المقرر ".
وهي - حفظها الله تعالى - تنطوي على نفس طيبة طاهرة، وأخلاق
وسجايا حميدة مجيدة، وروح شفافة نقية، لها منامات عجيبة كثيرة لا يتسع
المقام لذكرها وسردها، إلا أن من المناسب هنا أن نذكر ما يخص سيدنا
المترجم له، وذلك ما حدثت به أيام حملها بولدها الشهيد (قدس سره) حيث رأت في
منامها الصديقة الطاهرة (عليها السلام) جالسة في بستان واضعة في حجرها سيد
الشهداء (عليه السلام) وهو طفل صغير.
وقد عبروا لها هذا المنام بأن الله تعالى سيرزقها ولدا ذكرا فحسب، ولم
يكتشفوا - أو لم يكشفوا لها - تأويل رؤياها من بعد، تلك الرؤيا الصادقة، وأنها
ستلد ولدا عظيما يستشهد، ويكون دمه ثورة على الطغاة المستكبرين، ومنارا
للمجاهدين والمستضعفين.
نشأته العلمية وعطاؤه المبكر
نشأ الشهيد وترعرع في ربوع قم المقدسة ورحابها. اشتغل بدراسة
العلوم العصرية الحديثة في أوائل صباه حتى ست سنوات، وبعدها اشتغل
بطلب العلوم الدينية. وقد ارتدى الزي العلمائي الخاص وهو ابن سبع عشرة
سنة وذلك بإصرار من والده العظيم.
درس العلوم الأدبية بإتقان حتى اجتهد فيها وأبدى رأيه السديد في
مقدمة التحقيق 2

قبال آراء علمائها المبرزين، ولو تصفحت كتابه المنيف تفسير القرآن
الكريم لرأيت شواهد الصدق على ما قلناه.
وبعدها شرع بدراسة العلوم الأخرى فقها وأصولا، رجالا وحديثا،
فلسفة وعرفانا. استطاع بذكائه الوقاد ومثابرته الجادة أن يلم بهذه العلوم
العميقة الدقيقة في فترة قياسية وجيزة.
درس العديد من الكتب الدراسية العالية وكان موضع تقدير وحفاوة
فائقين من طلابه ومريديه، وقد غذاهم بعصارة روحه وخالص أفكاره. وقد
أنهى في مدينة قم المقدسة دورة أصولية مختصرة ولما يبلغ الثالثة والثلاثين
من عمره المبارك.
وأما في النجف الأشرف فقد ألقى سماحته دورة أصولية مفصلة، نقد فيها
آراء المحققين، وأبدى فيها آراءه الفذة وتحقيقاته البكر، مما يدل على نضج
علمي وإبداع فكري مبكرين.
هذا، مضافا إلى دروسه الموسعة في الفقه والتفسير التي كانت مثارا
للدهشة في العمق والسعة والاستيعاب.
ومهما بالغنا في تمجيده وإطرائه فلسنا بالغين شأو ما قاله فيه والده
المقدس الإمام الراحل طاب ثراه حيث قال في حق ولده حين بلغ الخامسة
والثلاثين: إن مصطفى أفضل مني حينما كنت في سنه، هذا، مع أن الإمام (قدس سره)
بلغ ما بلغ من تعلم أصول العلوم وفرغ منها في هذا السن، وهذه شهادة منه (قدس سره)
على اجتهاد ولده في شتى العلوم المتعارفة، أصولا وفروعا، معقولا ومنقولا.
وكان من خصائص سيدنا الشهيد ذكاؤه المفرط ودقته النافذة وحافظته
المتميزة، فقد كتب رسالة لا ضرر وهو في السجن لا يمتلك من المصادر غير
مقدمة التحقيق 3

ما في خزانة نفسه، وكتب بحث الواجبات في الصلاة وهو في منفاه في
تركيا، ولم يكن في حوزته غير الوسائل والعروة الوثقى والوسيلة
المحشاة. وقد تجلت سعة حفظه ودقة فكره في جلسة استغرقت حوالي الأربع
ساعات كان السيد الشهيد يجيب فيها على أسئلة الحاضرين في العلوم
المختلفة.
أساتذته الكرام
درس سيدنا الشهيد على أعاظم علماء عصره، وحضر بحوثهم بجدارة
واقتدار وتفهم واستيعاب، وكان من أجلة أساتذته آية الله العظمى السيد
البروجردي قدس الله نفسه الزكية.
وآية الله العظمى السيد محمد المحقق الداماد (قدس سره)، وآية الله العظمى السيد
الحجة الكوهكمري (قدس سره)، الذي عبر عنه السيد الشهيد ب‍ " جد أولادي "، فإنه
تزوج كريمة آية الله العظمى الشيخ مرتضى الحائري (قدس سره)، وكان هذا الشيخ
صهرا لآية الله العظمى السيد الحجة على كريمته، ولهذا عبر المصنف (رحمه الله) عن
آية الله العظمى المؤسس الشيخ الحائري (قدس سره)، أيضا ب‍ " جد أولادي ". وكان
تلمذه في الحكمة والفلسفة على آية الله العظمى السيد أبي الحسن الرفيعي
القزويني (قدس سره).
هذا لكن جل استفادته كانت من والده السيد الإمام العلامة المحقق في
الأخلاق واللغة والفقه والأصول والمعقول والمنقول والعرفان والسلوك وتربية
ذوقه السليم في كشف أسرار العلوم وإدراك حقيقة الدين الاسلامي الناصعة
مقدمة التحقيق 4

والعلاقة الوثيقة بين الدين والسياسة والوعي الاجتماعي والسياسي، ناهيك
عن الفضائل الروحية والنفسية كالزهد والتقوى والشجاعة وغيرها.
وحضر عند أول وروده إلى النجف الأشرف بحوث علمائها المبرزين
كآية الله العظمى السيد الحكيم (قدس سره) وآية الله العظمى السيد الشاهرودي (قدس سره) وآية
الله العظمى السيد الخوئي (قدس سره) وغيرهم، وكان حضوره حضور نقد وتدقيق
وحصيلته رسالته المسماة ب‍ " دروس الأعلام ونقدها. "
مصنفاته
عمر قصير في حساب الزمن، ولكنه كبير في النتائج والآثار، وكم من
أعمار طالت بلا أثر يذكر أو فائدة تؤثر.
أي قلم كان لشهيدنا العظيم سيال متدفق في فنون العلوم المختلفة
والدراسات العلمية المتنوعة، مؤلفات ومصنفات كبيرة ورسائل وحواش
كثيرة كتبها في قم المقدسة وبورسا والنجف الأشرف، إلا أنه - وللأسف - قد
ضاعت علينا كتبه التي صنفها في قم المقدسة حيث قد صادرتها حكومة الشاه
العميل، بعد أن أقصته مع والده العظيم إلى تركيا، ولم يبق لنا منها سوى ما صنفه
في النجف الأشرف وبورسا، حيث جاءت بها إلى إيران المرأة الصالحة التي
كانت تحظى بخدمتهم هناك، وآثرتها على حوائجها ولوازمها الخاصة، خوفا
من ضياع ما رأته من مشاق تحملها سيدنا الشهيد في سنين متمادية في حر
النجف وظروفه القاسية في آناء الليل والنهار.
مقدمة التحقيق 5

كتبه المفقودة:
1 - القواعد الحكمية، وقد أرجع إليها كثيرا من المباحث العقلية الفلسفية بل
والمنطقية في كتبه.
2 - رسالة لا تعاد، وهي رسالة مستوعبة مفصلة.
3 - الخلل في الصلاة، وهذا غير ما كتبه في النجف الأشرف المطبوع ضمن
تراثه.
4 - المختصر النافع في علم الأصول، كتبه أثناء دورته الأصولية الأولى.
5 - رسالة في قاعدة لا ضرر.
6 - رسالة في حديث الرفع.
7 - رسالة في العلم الاجمالي، كتبها في القيطرية أثناء التبعيد.
8 - كتاب الإجارة، وهو مجلدان.
9 - المكاسب المحرمة، وهو جزء من كتابه الكبير تحريرات في الفقه.
10 - تتمة كتاب البيع، وفيه الأبحاث الباقية من كتاب البيع المطبوع ضمن
تراثه.
11 - كتاب الخيارات، وهو المجلدان الأول والثاني من الخيارات.
12 - رسالة في علم الباري.
13 - رسالة في الرد على كتاب الهيئة والإسلام.
14 - رسالة في قضاء الصلوات.
15 - الفوائد الرجالية.
مقدمة التحقيق 6

16 - كتاب الاجتهاد والتقليد، مفصلة.
17 - كتاب الصلاة، والظاهر أنه قسم من كتابه الكبير تحريرات في الفقه،
وقد صرح بكتابته لبعض مباحثه نحو صلاة المسافر والقضاء عن الولي
وصلاة الجماعة وأوقات الصلوات ومكان المصلي والأذان
والإقامة.
18 - رسالة في السرقفلية.
وله تعليقات كثيرة على عدة من الكتب الأدبية والفقهية والرجالية
والفلسفية والعرفانية وقد صرح ببعضها في مطاوي كتبه:
منها تعليقته على شرح الرضي على الكافية.
ومنها حاشيته على خاتمة مستدرك الوسائل.
ومنها تعليقته على كتاب المبدأ والمعاد لصدر المتألهين.
كتبه المطبوعة:
1 - تحريرات في الأصول.
2 - مستند تحرير الوسيلة.
3 - تفسير القرآن الكريم.
4 - تعليقات على الحكمة المتعالية.
5 - تحرير العروة الوثقى.
6 - تعليقة على العروة الوثقى.
7 - دروس الأعلام ونقدها.
مقدمة التحقيق 7

8 - العوائد والفوائد.
9 - ولاية الفقيه: وهو قطعة من كتاب البيع المفقود بعض أجزائه.
تحريرات في الفقه
10 - الطهارة.
11 - الواجبات في الصلاة.
12 - الخلل في الصلاة.
13 - الصوم.
14 - كتاب البيع من أوله إلى مبحث تعاقب الأيدي.
15 - كتاب الخيارات وهو المجلدان الثالث والرابع.
أخلاقه وعبادته
العوامل الوراثية والبيئية والعائلية لها الأثر الكبير على شخصية الانسان
كل انسان، فهو ابن بيئته وابن فواعله التربوية والوراثية، فلا عجب أن نجد
شهيدنا الغالي يعيش قمة الخلق الكريم والفضائل الروحية، والنفسية والسلوكية
والكمالات الأخلاقية والعقلية، فقد عاش في بيت من بيوتات العلم والتقى
والزهد والهدى، تتلألأ لياليه بأنوار التبتل والانقطاع إلى الله المتعال، كما تمتلئ
ساعات نهاره بالعلم والجهاد ومعالي الأمور، بيت يعيش هم الاسلام
والمسلمين بدون فتور أو انقطاع.
لا عجب أن نجد شهيدنا العظيم مجمعا للفضائل والمكارم وقد كان مربيه
بطل العلم والتقوى والجهاد، وقد تشرب من أجوائه التي عاشها بين يديه،
مقدمة التحقيق 8

أسمى الكمالات الروحية والمعنوية وأقدس المزايا والسجايا وأجل النعوت
وأجمل الصفات.
إذا عرفت ذلك تعرف السر في حلول هذا الولد البار من نفس والده
العظيم ذلك الموقع الخاص والمقام الرفيع، فكان يشيد بفضائل ولده قولا
وعملا، ويشير إلى مكانته العلمية والمعنوية، وعرف عنه (قدس سره) أنه لم يمد رجليه
في حضرة ولده إكراما وتبجيلا له.
وقد عرف هذا الولد البار حق والديه، فلم يفعل شيئا كرهاه، وكان
يحترمهما إلى حد التقديس، وكان يعلم ما لوالده العظيم من مقام روحي
وعلمي جليل، وأهداف إلهية عالية يعيش همها بلا فتور ليله ونهاره في صمته
وكلامه، يجاهد في سبيل ربه جهادا كبيرا لا يعرف الكلل ولا الملل ولا الخوف
ولا الضجر، وكان يشير في كل مناسبة - في أحاديثه وكتاباته - بمقام والده
الكبير الفقيه الحكيم والمجاهد العظيم. وسار الولد على مسار أبيه واختط
خطاه، وتبنى أهدافه وأمانيه، وجاهد كما جاهد أبوه بإصرار وشجاعة وعزم
وثبات.
ومن الصفات الغر لسيدنا الشهيد أنه كان شريفا عفيفا زاهدا عابدا قريبا
من الناس محبوبا لديهم، كريما محسنا محبا لأصدقائه مؤثرا للسمر معهم على
سائر المتع، وربما قضى معهم الساعات الطويلة من الليل، ثم يغفي إغفاءة يقوم
بعدها لصلاة الليل والتضرع والابتهال لرب العزة والجلال، ثم يعود بشغف
ونشاط إلى بحثه وتدريسه وتأليفه.
وهكذا كان عالما عابدا مجدا نشطا، مواظبا على النوافل والأدعية
والأوراد، ملتزما بصلاة الجماعة، محتاطا في تصرفاته، خصوصا فيما يتعلق
مقدمة التحقيق 9

ببيت المال إلى أبعد الحدود، وكان زاهدا في دنياه وراغبا في أخراه.
جهاده السياسي
لا بد للمسلم المجاهد من علم بما يجاهد لأجله، وبالمحيط الذي يجاهد
فيه، وبالعدو الذي يجاهده، كما لا بد أن يمتلك الأداة التي يجاهد بها، من قوة
مادية ومعنوية، وقبل ذلك أو مع ذلك لا بد له من قائد حكيم يؤمن بقيادته
إيمانا مطلقا.
لقد توافرت لسيدنا الشهيد كل هذه المقومات التي صنعت منه مجاهدا
عظيما يعيش هم الاسلام والمسلمين حتى تكللت حياته بالشهادة ذلك الوسام
الإلهي العظيم.
لقد كان (رحمه الله) عالما بالشريعة الاسلامية، الخاتمة التي يجاهد من أجلها
وكان مجتهدا فيها أصولا وفروعا.
وكان يعيش هموم المسلمين عن قرب وتفاعل، ومحيطا بمؤامرات
العدو على الأمة الاسلامية بتفصيل وتتبع، وكان يمتلك مع ذلك الشجاعة
والايمان والأعوان، وكان كل ذلك بفضل والده العظيم الذي أحسن تربيته
ووفر له مقومات المجاهد الشجاع، وكان (رحمه الله) يؤمن بقيادة والده العظيم
وحكمته إيمانا مطلقا، وقد غذاه والده الحكيم منذ نعومة أظفاره بالعلم
والتقوى، وأنشأه على فهم الاسلام الحقيقي الناصع وشموليته وكماله
وأصلحيته لقيادة الناس إلى مرفأ الأمن والسلام والسعادة في الدنيا والآخرة
وعلمه منذ أوائل صباه أن السياسة جزء لا يتجزأ من الاسلام، سياسة محمد
مقدمة التحقيق 10

وعلي - صلوات الله عليهما وآلهما -، وليست سياسة الأبالسة والطغاة، سياسة
الحق والعدل والخير لعموم البشر، وليس سياسة الختل والخداع والظلم
والضلال.
علمه وهو صبي يافع ذكي متفتح أن قيادة الناس وحكم البلاد فرض
على عاتق الفقهاء العدول الأكفاء في عصر الغيبة الكبرى، ولا بد للمسلمين أن
يلقوا لهم بالقياد، وأن يذعنوا لهم بالطاعة والانقياد، حتى يقودوهم لما فيه رضا
بارئهم وسعادتهم، وعليهم أن يجاهدوا في سبيل الله تحت قيادتهم، حتى
يرغموا أنوف الطغاة وينتصر الاسلام وتكون كلمة الله هي العليا في الأرض
كما في السماء.
لقد كان الشهيد السعيد ترجمانا صادقا لآراء والده العظيم ومعتقداته كما
كان ساعده الفتي ومساعده الأمين في جهاده العظيم ونهضته الاسلامية
المباركة. ويتبين لك صدق ما سمعت من خلال مواقفه السياسية الجهادية التي
وقفها، وإليك بعض النماذج المهمة من تلك المواقف:
1 - حيث قامت سلطات الشاه الغاشمة باعتقال الإمام الراحل (قدس سره)
لاعتقادها بأن عزل القائد عن الأمة كاف لإخماد الثورة التي ألهبها في نفوس
الأحرار والأخيار، وهنا قام الشهيد السعيد بدوره الفعال في إلهاب مشاعر
الأمة وقيادة جماهيرها الغاضبة من أجل تخليص قائدها العظيم من سجون
الشاه العميل وتحريره من أيدي أزلامه الخونة.
2 - وبعد أن ضاقت السلطات الغاشمة ذرعا بالإمام الراحل ونشاطاته
السياسية الواعية، وخطاباته الحماسية اللاهبة، ورأت في اعتقاله من قبل
خطرا محدقا، عمدت إلى تبعيده عن جماهيره الثائرة مؤملة أن تخبو جذوتها
مقدمة التحقيق 11

المتقدة، فأقصته إلى تركيا وأخضعته هناك للرقابة التامة.
فهل ترى سيدنا الشهيد يقر له قرار أمام هذه الفعلة النكراء التي قامت بها
السلطات الظالمة وطاغوتها المتفرعن؟! لقد صعد الشهيد السعيد من نشاطاته
الجهادية وجهاده السياسي، فقام النظام الشاهنشاهي الغاشم باعتقاله وزجه
في ظلمات السجون، وتحت ضغط الجماهير المسلمة الغاضبة اضطرت
سلطات الشاه المقبور إلى الافراج عنه بعد شهرين فقط. وما أن شم نسيم
الحرية حتى عاد المسلم الثائر إلى نشاطه السياسي الفاعل، فكان بحق خليفة
والده العظيم في قيادة الأمة، التي كانت تضطرم غضبا على الظالمين الآثمين
بحقها وبحق قائدها الأمين، فلم يجد النظام الطاغوتي الظالم بدا من إقصائه
عن وطنه ومغناه إلى تركيا حيث نفي القائد الوالد.
3 - وبعد أن حل أرض النجف الأشرف مع والده الحكيم ورغم كل
الضغوط، كان يقوم في ظل والده القائد بدوره السياسي وواجبه الشرعي تجاه
دينه وأمته، واكب الأحداث الساخنة في الساحة السياسية في وطنه الاسلامي
الكبير في إيران والعراق وسوريا ولبنان وسواها، وكان نائبا لوالده الإمام في
إدارة شؤونه السياسية وقيادة الثورة في بلاده من بعيد بطريقة بكر وأسلوب فذ.
وسينشر المؤتمر المنعقد في الذكرى العشرين لشهادته تفاصيل مواقفه
السياسية ونشاطاته الجهادية ودوره الرائد في ثورة الوالد القائد على الطغاة
والمستكبرين.
مقدمة التحقيق 12

خاتمة حياته وجهاده
لقد أدرك العدو الحاقد خطر بقاء هذا المجاهد الثائر بخصائصه الفذة إلى
جنب والده القائد العظيم، فأراد أن يفت بعضد الإرادة الحديدية الصلبة وأن
يثلم من العزم الراسخ والجبل الشامخ ولم يكن يدور في خلده أن شهادة هذا
المجاهد العظيم، ستكون سببا للقضاء على عميل الغرب العتيد، وتقويض
دعائم الحكم الوطيد لحارس مصالحه الأمين في الشرق الأوسط، كما
أوضحنا ذلك من قبل.
لقد كان لاستشهاده (قدس سره) - ظلما وغدرا - وقع كبير وأثر بالغ في قلوب
المؤمنين كافة، ولكن ذلك الأثر البالغ يتضاعف على قلب والده العطوف
العارف بخصائص ولده الفقيد، الذي نشأ على يديه الكريمتين، ولده الذي
تربى في حجره، ونشأه على خطه وفكره، وسقاه من نمير روحه ونوره، حتى
عقد آماله الكبار عليه، ولقد بكى عليه بكاء شديدا، ولكن لم يفت في عزمه، بل
ألهبه مضاء وعزما أكيدا على محاربة الطغاة والمستكبرين ونصرة
المستضعفين.
لقد قضى الشهيد السعيد نحبه في ظروف غامضة عام 1356 هجري
شمسي عن عمر ناهز السابعة والأربعين، فانطوت بذلك صفحة من صفحات
الخلود، ووري إلى جنب جده العظيم أمير المؤمنين وإمام المتقين - عليه
أفضل الصلوات والتحيات -، وانقضت بذلك حياة حافلة بالمآثر والأمجاد
زاخرة بالفضائل والجهاد، فسلام عليه يوم ولد، ويوم جاهد فاستشهد، ويوم
مقدمة التحقيق 13

يبعث حيا، (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون).
كلمة حول تحريرات في الفقه
الكتاب الذي بين يديك عزيزي القارئ، قسم من الموسوعة الفقهية لآية
الله العلامة المحقق السيد مصطفى الخميني قدس سره الشريف وقد أسميناه
بتحريرات في الفقه أخذا مما ذكره (قدس سره) في أثناء سائر مؤلفاته.
وقد كتب معظمها في النجف الأشرف، وبعضها في قم المشرفة، وقليلا
منها في تركيا، وهي تشتمل على كتاب الطهارة، والصلاة، والصوم، والمكاسب
المحرمة، والبيع، والخيارات والإجارة.
وقد ضاع - وللأسف الشديد - الكثير من أجزاء الكتاب، ولم نعثر إلا
على ذكر منها في مطاوي كلماته، أو ألسنة أصدقائه وتلامذته، وما عثرنا عليه
في الوقت الحاضر:
مباحث المياه، وبعض بحوث النجاسات.
ومباحث نية الصلاة، وبعض أحكام تكبيرة الاحرام، وعدة بحوث في
الخلل.
ومباحث نية الصيام، وبعض المفطرات.
ومن أول كتاب البيع إلى مسألة تعاقب الأيدي.
ومن أوائل بحوث خيار العيب إلى أواخر أحكام الخيار.
وقد قامت مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني (قدس سره) بتحقيق تراثه
الفقهي من التحريرات ضمن تسعة أجزاء، نرجو أن تنال رضا السادة الفضلاء
مقدمة التحقيق 14

والأعلام.
ولسنا بحاجة إلى التعريف بهذه البحوث، والتي هي - كجميع بحوثه
الفقهية والأصولية والعقلية والتفسيرية - قد بلغت القمة من حيث التحقيق
والتدقيق والتتبع، مما يوشك أن لا يراها المراجع في غيرها، وليس هذا إلا لما
حباه الباري سبحانه من الفهم، وسرعة الحفظ، والنبوغ، والصفاء الروحاني،
فكان ممن جمع الله تعالى له بين الدنيا والآخرة، وبين العلم والعمل، وحاز كل
الكمالات التي يحتاجها الفقيه في الاستنباط.
ولا بأس بالإشارة إلى بعض الشواهد الناطقة بصدق ما ادعيناه، أداء
لبعض حقوقه، وكشفا لما خفي على الخاصة، فضلا عن العامة:
أ - كان للشهيد المؤلف (قدس سره) قلم سيال في مختلف العلوم الاسلامية، وكان
موردا للعناية واللطف الربانيين، فقد كتب جميع تراثه الفكري في مدة لا
تتجاوز الخمسة عشر عاما، وبلغ ما وصلنا من آثاره الثمانية والعشرين
مجلدا، رغم أن الضائع هو أكثر من الموجود بأيدينا.
ب - كل من يراجع إحدى آثاره الثمينة في أي العلوم يخال إليه عكوف
المؤلف على تحقيق هذا الأثر فحسب، ولم يكن له شغل إلا تنقيح هذه
المباحث، مع أن تآليفه الفقهية كانت متزامنة مع بحثه الأصولي والتفسيري،
ومتقارنة مع تعاليقه على الحكمة المتعالية، في الوقت الذي كان يتصدى فيه
لدفع الضغوط الواقعة على الأمة الاسلامية من قبل طاغوتي إيران والعراق،
ويدافع عن حريم ساحة والده العظيم في مقابل بعض الملتفين حول المراجع
العظام.
ج - على الرغم من توغله في الأصول والعلوم العقلية، فقد دأب في
مقدمة التحقيق 15

السير على ضوء السنة الحنيفة، ولم يترك الأحاديث والروايات المفتى بها
والمشهورة لأجل أدنى خدشة، أو خلل أورد عليها.
د - من يراجع مؤلفاته (قدس سره) يجده مجتهدا مؤسسا مجددا في الكثير من
آرائه واستدلالاته، ولكنه مع ذلك ففتاواه موافقة لما هو المعروف المشهور،
ولم يتخذ فتوى شاذة، أو فقها جديدا، بل صرح في مواضع من كلماته: بأن
مخالفة المشهور توهن جواز اتباع مرجع التقليد، فكان ذلك أصلا اتبعه.
ه‍ - رأى أن كثرة احتياطات الفقهاء، توجب العسر والحرج على
المقلدين المنفيين في الشريعة السهلة السمحة، وأن الأصل هو السهولة
والسماحة، وتمكن من الجمع بين الاحتياط وعدم الخروج عن هذا الأصل
الأصيل، الأمر الذي لا يتسنى إلا للأوحدي من الفقهاء المبدعين والمبتكرين.
و - لم يتكلف (قدس سره) في استخدام الألفاظ، ولم يتفنن في الاتيان بالعبارات،
وتحرز عن وضع اصطلاحات جديدة توجب صعوبة المطالب العلمية
وتعقيدها، بل سعى إلى بيان آرائه بأقل ما يمكن من الألفاظ، وأفنى اللفظ في
المعنى، وأوكل الكثير مما يلزم شرحه وتوضيحه إلى فهم القارئ الفاضل، ولم
ينقل من الأقوال والاستدلالات إلا محصلها ومفادها، بل وهذبها مما لا يليق
بشأن قائله، وأداها ببيان آخر أوضح، على خلاف دأب الكثيرين ممن جعلوا
كتبهم استنساخا لكتب الآخرين.
مقدمة التحقيق 16

عملنا في تحقيق الكتاب
1 - مقابلة النسخة المستنسخة مع النسخة الخطية للكتاب: وهي مسودة
بخط المصنف (رحمه الله)، وهذه المخطوطة محفوظة مع سائر كتب المصنف (رحمه الله) في
المكتبة العامة لآية الله العظمى المرعشي النجفي (قدس سره)، ونحن بدورنا نشكر
سماحة حجة الاسلام والمسلمين السيد محمود المرعشي دام عزه، لمساعداته
الكثيرة التي قدمها لنا.
2 - تقويم النص وتقطيعه وتزيينه بعلائم الترقيم المناسبة: وهو جهد
علمي وفني يتناسب مع طبيعة الكتاب المحقق من ناحية دقة مطالبه وصعوبتها،
وبذلك يستطيع القارئ الكريم تقدير الجهد المبذول في هذا المجال بالنسبة
لهذا الكتاب.
3 - عنونة مطالب الكتاب: وحيث إن مخطوطة المصنف الشهيد (قدس سره)
مسودة لم يتناولها ثانية بالتصحيح والتهذيب، ولم يضع العناوين لجميع مطالب
الكتاب، لذا فقد قمنا بوضع العناوين بحسب الحاجة في المواضع التي لم
يعنونها المصنف (رحمه الله).
4 - تخريج الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة وأقوال العلماء.
وقد استعملنا كلمة انظر في الموارد التي لم نجزم بثبوت نسبة الأقوال
إلى أصحابها، كما استعملنا كلمة لاحظ في موردين:
الأول: حيث ينقل المصنف (رحمه الله) أقوال العلماء نقلا حدسيا.
الثاني: في الموارد التي لا نعثر على صاحب القول، ونعثر على
مقدمة التحقيق 17

الناقل عنه.
5 - إرجاعات المصنف (قدس سره): سواء كانت إلى نفس كتابه سابقا أو لاحقا،
أو إلى كتبه الأخرى.
هذا، وقد قمنا بتحقيق هذا الكتاب وسائر كتب المصنف الشهيد (قدس سره)
البالغة (28) مجلدا، وأنجزناها بجميع مراحل التحقيق - من المقابلة
والتخريجات البالغة مائة ألف تخريج والتقويم والتقطيع وغيرها - في فترة
زمنية قصيرة جدا قياسا مع العمل الضخم المنجز، وقد تم بتوفيق الله عز وجل
حيث أمدنا بعونه ولطفه، وبجهد مجموعة من الأفاضل باذلين غاية وسعهم في
اخراجه بأحسن وجه أمكنهم.
وفي الختام نرفع إلى مقام المؤلف الشهيد العلامة (قدس سره) وإلى حضرات
الأعلام والفضلاء اعتذارنا مما قد يعثر عليه من خلل أو زلل في عملنا، وعذرنا
في ذلك رغبتنا في إتحاف الملأ العلمي الكريم بمجموعة مصنفات العلامة
الشهيد (قدس سره) القيمة، وذلك بمناسبة الذكرى السنوية العشرين لشهادته.
ولا يفوتنا في هذا المقام أن نشكر فضيلة الأخ الجليل الشيخ
محمد حسين ساعي دام عزه على عظيم جهوده المشكورة التي بذلها في هذا
السبيل، أجزل الله ثوابه وشكر مساعيه.
مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني (قدس سره)
فرع قم المقدسة
مقدمة التحقيق 18

بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله تعالى على
الرسول الكريم، وعلى آله
الطيبين الطاهرين، ولعنة
الله على أعدائهم أجمعين
1

كتاب الطهارة
وهو مشتمل على مقاصد:
وهو مشتمل على مقاصد:
3

المقصد الأول
في المياه وأحكامها
وفيه مقدمة، ومباحث، وفصول:
5

مقدمة
في تقسيم الماء ومعناه
قد تعارف بينهم تقسيم الماء إلى المطلق والمضاف، وهذا التقسيم
بلحاظ الأحكام المختلفة الطارئة عليه، وليس المقصود إلا ذكر أن
المائعات الخارجية، بين ما هو الطاهر المطهر كالماء الخالص، وبين
ما هو الطاهر بالذات، وليس بمطهر، كالماء المخلوط بغيره من أجزاء
المأكولات كالرقي والبطيخ، ومن غيرها كالتراب ونحوه، وكالدبس
المائع والزيت والنفط والعطر وسائر الأعراق المتخذة من النباتات، من
غير كونها من الماء المضاف الاصطلاحي، مع أنها أقرب إلى إطلاق
الماء عليها من غيرها ولو مجازا.
فهذا التقسيم ناظر إلى بيان أمر واقعي، من غير نظر إلى خصوصيات
اللغات، من الحقيقة والمجاز.
ولا يلتزم المقسم بأن الاطلاق قيد الماء المطهر، مع أنه لا بد منه في
حصول القسمة حقيقة.
7

ولا يلتزم بأن المضاف هنا هو معنى الإضافة التي هي النسبة، بل
مقصوده معلوم من الخارج.
ولا يلتزم بأن ماء البحر والبئر من المضاف أيضا، فهذا التقسيم
صحيح مع الغمض عن هذه الأمور.
والعجب، أن قوما توهموا أن المقسم هو الجامع بين الحقيقة
والمجاز!! (1) مع أنه مما لا معنى له إلا بأن يقال: إن لفظ الماء كما هو
موضوع للماء الخالص، موضوع للمائع القابل للصدق عليه وعلى
المضاف، إما بنحو الحقيقة، أو بنحو المجاز، أو بنحو الادعاء بأن يكون
المقسم مدعيا أن الماء المضاف من الماء حقيقة، وأن الماء له أفراد،
منها الخالص، ومنها المخلوط، فعليه يكون التقسيم صحيحا، ومستلزما
لصدق الماء المقسمي على الأقسام بنعت الحقيقة على الفرضين، أو
المجاز على الفرض الثاني.
معنى الماء المطلق والمضاف
ثم إنهم لعدم وقوعهم في مواقف الشبهات في الاشكال، بنوا على
تعريفه: بأنه ما يستحق أن يطلق عليه اسم الماء عرفا من غير قيد
وإضافة (2).

1 - لاحظ مستمسك العروة الوثقى 1: 109، التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 11 و
12، مهذب الأحكام 1: 123.
2 - شرائع الاسلام 1: 24، إرشاد الأذهان 1: 235، جواهر الكلام 1: 61.
8

وكأنه لو لم يكن هذا التعريف له، يقعون في حيص وبيص، مع أن
الأمر ليس كذلك، بل المناط على ما هو الماء، ويكون هو طبيعته، سواء كان
إطلاق لفظ الماء عليه حقيقة، أو مجازا ومحتاجا إلى القرينة، أو أطلق
عليه اللفظ الآخر.
وبالجملة: الأمر سهل، وسيأتي البحث حول الأصول العملية عند
الشك في الصدق والمصداق إن شاء الله تعالى (1).
فالماء المطلق: هو ما ليس الاطلاق قيده، بل هو الطبيعة المائية
الخالصة عن الأشياء الأخر، الموجبة لانقلاب تلك الطبيعة إلى
طبيعة أخرى، بحيث تغايرها، أو تكون هي معها.
والماء المضاف: هو المائع الأعم من كونه سيالا بالماء، كماء الورد
وغيره، أو سيالا بذاته، كالزيت ونحوه، فإن الجامع المزبور هو السيلان
والميعان القابل للصدق عليها أيضا، فلا تغفل وتدبر.
وعدم إطلاق لفظة الماء المضاف على اللبن، لا يورث إشكالا
في هذه المسألة، وإلا يلزم أن يكون ماء الورد من الماء المضاف في
العربية، دون الفارسية، لأنه يسمى فيها ب‍ " گلاب " مع أنه أظهر
المصاديق القريبة من الماء، حتى حكي (2) عن الصدوق القول
بمطهريته (3)، فلا ينبغي الخلط بين ما هو المقصود الأصيل في مثل هذا

1 - يأتي في الصفحة 99 وما بعدها.
2 - جواهر الكلام 1: 311، مستمسك العروة الوثقى 1: 111 - 112.
3 - الفقيه 1: 6، الأمالي: 514، الهداية، ضمن الجوامع الفقهية: 48 / السطر 12.
9

التقسيم، وبين خصوصيات اللغات التي لا بد منها لضيق اللغة والخناق.
كما لا ينبغي الخلط بين ضرب القواعد الكلية الشرعية التي هي
المرجع عند الشك، وبين تعريف الماء على أن يكون مرجعا في الشبهات،
ضرورة أن الشك في الماء - سواء كان لأجل الشبهة المفهومية، أو
المصداقية - إذا كان له منشأ عقلائي، لا يمكن رفعه بهذا التعريف، لأن
مرجع هذا التعريف تشخيص العرف أيضا، نعم الوسواسي يرجع إليهم،
فلا تغفل.
في أقسام الماء المطلق وأنها عشرة
ثم إن المعروف بين جماعة تقسيم الماء: إلى جار، ومحقون، وماء
بئر، وتقسيم المحقون: إلى الكثير، والقليل، ولما كان المقسم عندهم
ماء الأرض، لم يتعرضوا لماء المطر (1)، مع أن الأمر على خلافه، لأنه
منها أيضا.
وقد عدل السيد اليزدي (رحمه الله) إلى تقسيمه: بالجاري، والنابع غير
الجاري، والبئر، والمطر، والكر، والقليل (2).
وهذا مما لا يخفى ما فيه من الاشكالات، فإنه - على الظاهر - قسمه
باعتبار الأحكام، فكان ينبغي أن يترك النابع غير الجاري، كما ترك ماء

1 - شرائع الاسلام 1: 4، جواهر الكلام 1: 71 وما بعدها، مصباح الفقيه، الطهارة: 6 /
السطر 33.
2 - العروة الوثقى 1: 26، فصل في المياه.
10

الحمام.
ولو كان بصدد ذكر العناوين المعروفة وإن كانت متحدة في الأحكام،
فما كان وجه لطرح الماء المستعمل في الأحداث وماء الحمام.
وقد عدل عنه السيد الأصفهاني (رحمه الله)، فترك الكر والقليل، فصارت
الأقسام خمسة، بإضافة الماء الراكد (1)، والأمر سهل.
والذي هو التحقيق: ذكر جميع المياه بعناوينها من غير نظر إلى
الأحكام، لأنه من الممكن تفاوت آرائهم فيها، فهو الجاري، والنابع
الراكد، والبئر، والمطر، والحمام، والكثير، والقليل، والمستعمل في
الأحداث.
وإن شئت أضف إليها الماء المشكوك، حتى تكون هي العشرة
الكاملة، لأن المراد من المشكوك أعم من الشك في خصوصيات هذه
المياه، أو الطهارة والنجاسة، فتدبر.

1 - وسيلة النجاة 1: 10.
11

المبحث الأول
في مطهرية المياه المطلقة
وفيه فصول:
13

الفصل الأول
في محتملات عدم مطهرية ماء البحر
لا شبهة في مطهرية الماء في الجملة، ولا منع من ادعاء الضرورة
عليه، وعليه اتفاق جميع الملل، وأما كون جميع أقسامه مطهرة من جميع
الأحداث والأخباث، من الضروري في الدين - كما يظهر من الجواهر (1)
وهو صريح بعض آخرين (2) - فهو محل منع.
وما توهموه من: أن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، من
القائلين بعدم مطهرية ماء البحر، وهكذا سعيد بن المسيب (3)، فهو لعدم
التدبر في خصوصيات كلامهم:
قال الشيخ في الخلاف: مسألة: يجوز التوضي بماء البحر مع

1 - جواهر الكلام 1: 62.
2 - مصباح الفقيه، الطهارة: 6 / السطر 25، دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلد
الأول: 4، مهذب الأحكام 1: 124.
3 - جواهر الكلام 1: 62، دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلد الأول: 4.
15

وجود غيره من المياه، ومع عدمه، وبه قال جميع الفقهاء. وروي عن
عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص أنهما قالا: التيمم أحب
(أعجب) إلينا منه. وقال سعيد بن المسيب: يجوز التوضي به مع عدم
الماء، ولا يجوز مع وجوده (1) انتهى.
بيان عدم مطهرية ماء البحر لأجل الشبهة الموضوعية
والتدبر في المسألة يورث أنهم لمكان الشبهة الموضوعية،
قالوا بذلك، وكأن رأيهم في المسألة طولية ماء البحر بالنسبة إلى
التراب، أو كأن هذا رأي الأخير، ورأيهما طولية التراب بالنسبة إلى ماء
البحر، أو عرضيتهما.
وهذا لما كانوا يرون فيه من الأملاح الكثيرة المورثة للشبهة في
صدق الماء عليه، ولأجل ذلك الاشتباه أفتوا بأن الوضوء أولا بالماء، ثم
بماء البحر، ثم بالتراب، أو أفتى الأولان بأنه أولا بالماء، ثم بالتراب أو
ماء البحر، وذلك لكلمة أحب أو أعجب في كلماتهم، ولقوله: يجوز
التوضي بماء البحر مع عدم الماء.
فلو كان ماء البحر عنده ماء، لكان ينبغي أن يقيد كلامه، حتى يعلم
أنه يرى ماء البحر ماء، فيعلم منه أنه ما كان يجد صدق الماء على ماء
البحر، وكانت فتواه في المسألة - وهي ما لو كان فاقد الماء واجد ماء

1 - الخلاف 1: 50، ولاحظ أيضا: المغني، ابن قدامة 1: 8، المحلى 1: 359، المجموع
1: 91، سنن الترمذي 1: 47.
16

البحر، فهل يتيمم، أو يتوضأ؟ - أنه يتوضأ، فكأنه كان يقول بمطهرية الماء
طولا لا عرضا، وذلك إذا كان أحد المياه مشتبها في الاطلاق، فلاحظ وتدبر،
والأمر سهل.
بيان عدم المطهرية لأجل الشبهة الحكمية
ثم إن من المحتمل كون فتواهم في المسألة، لأجل الشبهة
الحكمية، وذلك لأن المياه عندهم على قسمين: ماء الأرض، وماء السماء،
فجميع الأنهار والآبار والمنابع وغيرها من ماء السماء، أو من السماء ولو
كان من الثلج و (البرف) وماء البحر من الأرض، ولا دليل على مطهريته في
الكتاب، وما كان عندهم من السنة شئ.
وهذا في حد نفسه وإن كان غلطا، إلا أنه ليس من الأمر
الغريب، بعد ظهور الآيات الآتية في الأمور الأخر، أو مطهرية ماء
السماء.
نعم، فتواهم بالطولية كانت لأجل الأمور الأخر الموجودة عندهم،
فلا يعد هؤلاء من مخالفي مطهرية الماء على الفرض الأول، ولا من
منكري الأمر الضروري على الفرض الثاني، بل غاية ما يظهر منهم،
أنهم يقولون بمطهرية بعض المياه في طول المياه الآخر، أو في عرض
التراب.
17

الفصل الثاني
في بيان المقصود من مسائل المياه
لا شبهة في أن الماء طاهر، وليس هذا هو المقصود في مسائل
المياه، حتى يذكر عليه الدليل من الكتاب والسنة، وإلا يلزم عقد الباب
لجميع الأشياء، فهذا ليس مورد الدعوى، كما لا حاجة إلى ذكر الأدلة
على مطهرية الماء في الجملة.
فالمقصود في المقام، إثبات مطهرية جميع المياه، وإثبات أن
مطهريتها مشروطة بالطهارة، أي يعتبر في كونها مطهرة الطهارة، وعدم كونها
نجسة بالملاقاة كما في القليل، وبتغير أوصافها الثلاثة كما في غيره،
وإثبات أن جميع المياه في عرض واحد في تلك الخاصية والإفادة.
توهم الملازمة بين مطهرية الماء وطهارته والجواب عنه
وتوهم: أن إثبات المطهرية يستلزم إثبات الطهارة، لعدم معقولية
التفكيك، أو عدم معهوديته (1)، في غير محله، لأن الطهارة لو كانت من
الأمور الجعلية الاعتبارية - كما اختاره جماعة (2) - يمكن أن لا تكون

1 - جواهر الكلام 1: 70، جامع المدارك 1: 1 - 2، التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 17.
2 - مجمع الفائدة والبرهان 1: 248، فوائد الأصول 4: 401، نهاية الأفكار 4: 98.
18

مجعولة على الماء، وجعل المطهرية لا يستلزم جعل الطهارة استلزاما
لغويا، وإلا لم يصح إطلاقها على ما لا يصح إطلاق اسم الطاهر عليه،
كالاسلام والنار والانقلاب والاستحالة، فإنها من المطهرات واقعا من غير
كونها طاهرة، بل إطلاق المطهر على الغسل والوضوء والتيمم، أيضا من
هذا القبيل كما لا يخفى.
ولا ملازمة خارجية بينهما، لامكان كون الماء النجس بالدم،
مطهرا للمتنجس بالبول، فلا بد من إقامة الدليل على الشرطية المذكورة.
وما أفاده الفقيه اليزدي بعد ذكر المياه بقوله: وكل منها مع عدم
ملاقاة النجاسة، طاهر مطهر من الحدث والخبث (1) انتهى، غير ظاهر، لأن
غير القليل يطهر ولو لاقى النجس، وكون المقصود منه المعنى الأعم
من الملاقاة التي تورث النجاسة بنفسها كما في القليل، أو توجب
النجاسة لأجل تغير الماء بها في الأوصاف الآتية، لا يجوز هذا الاستعمال
الفاسد قطعا.
هذا، وإثبات أنه طاهر غير كاف عن إثبات اشتراط مطهريته بالطهارة،
مع أنه - على ما أشير إليه - غير محتاج إليه.
فتحصل: أن في المسألة ثلاث دعاو: مطهرية كل ماء، واشتراطها
بالطهارة، وأن هذا حكم عرضي لا طولي، خلافا لجماعة من العامة (2).
ثم بعد ذلك دعويان أخريان: وهو أنه مطهر لكل الأحداث، والأخباث.

1 - العروة الوثقى 1: 26 فصل في المياه.
2 - تقدم في الصفحة 15.
19

الفصل الثالث
فيما يستدل به على مطهرية المياه
وهي الآيات والروايات:
الآيات المستدل بها على مطهرية المياه
منها: قوله تعالى في سورة الفرقان: (وأنزلنا من السماء ماء
طهورا) (1).
والكلام فيه من جهات:
فتارة: من جهة الانزال، وأخرى: من جهة إفادتها العموم، وثالثة:
في كلمة الطهور.
والبحث في الجهة الأخيرة:
تارة: يكون في مادة الطهارة.
وأخرى: في هيئة الطهور.
وثالثة: في مفاد الآية الكريمة.
ورابعة: فيما ورد في الروايات من استعمال كلمة الطهور، الدال
على أن استعمال الكتاب استعمال خاص (2).

1 - الفرقان (25): 48.
2 - وسائل الشيعة 1: 133 - 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1،
الحديث 1 و 4 و 8 و 9 و 10.
20

جهات البحث في مادة الطهارة
والبحث في المادة من نواح شتى، لأنه قد يكون حول أن الطهارة
والنجاسة من الأمور الحقيقية التي كشف عنها الشرع الأقدس، أو
الاعتبارية المجعولة، أو هي من الأمور المعلومة العرفية، إلا أن الشرع
تصرف فيها توسعة وتضييقا.
وقد يكون حول أن الطهارة والنجاسة من الضدين لا ثالث لهما،
أو من العدم والملكة، أو كالعدم والوجود من السلب والايجاب، أو
لهما الثالث، لما أنهما اعتباريان مجعولان، أو تكون الطهارة
مجعولة، دونها.
وقد يكون حول أن هذه المادة، تقبل الاشتداد والضعف بقول مطلق
ولو كانتا من الاعتباريات، لأن الأمور الاعتبارية لا تقبل الاشتداد والضعف
الحقيقي، دون الاعتباري، فتكون للملكية مراتب شديدة وضعيفة كما صرح
به جماعة (1)، ومنهم الفقيه اليزدي في ملحقات العروة (2) أو لا تقبل إلا
على القولين الأول والثالث.
أو يقال: بإمكان فرض التفاضل فيها، إلا أنه خلاف الواقع، فإن اعتبار
التزايد والتفاضل يتقوم بالغرض، فلو وجدنا الثمرة فهو، وإلا فلا حاجة

1 - بلغة الفقيه 2: 70، الإجارة، المحقق الرشتي: 13 / السطر 34، ولاحظ حاشية
المكاسب، المحقق الأصفهاني 1: 32 / السطر 20.
2 - لم نعثر عليه في ملحقات العروة الوثقى، لاحظ حاشية المكاسب، قسم الخيارات:
4 / السطر 32.
21

إليه، فلا ينبغي الخلط بين الأمور التكوينية والاعتبارية، ولا بد من
التأمل جدا.
هذا، وحيث إن الآية قاصرة عن إفادة مطهرية جميع المياه - ولو قلنا:
بأن الطهور هو المطهر وأن الانزال أعم من الانزال المحسوس - فلا
وجه للغور في المباحث المشار إليها، وسيأتي في مطاوي المباحث
الآتية ما يظهر لك من التحقيق فيها.
عدم دلالة الآية على مطهرية المياه
وتوهم: أنها مع إلغاء الخصوصية، أو القول بعدم الفصل، تفيد
العموم (1)، غير نافع لما سيأتي، بل المتأمل فيما قبلها وما بعدها، يطمئن بأنها
أجنبية عن هذه المسألة، ولذلك لا بأس بذكرها، فاستمع إليها:
(وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل
النهار نشورا * وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته
وأنزلنا من السماء ماء طهورا * لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما
خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا * ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر
الناس إلا كفورا) (2).
وأنت بعد التدبر، تعرف أنها في مقام الاحتجاج على المبدأ الأعلى،

1 - لاحظ مستمسك العروة الوثقى 1: 111، دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من
المجلد الأول: 10.
2 - الفرقان (25): 47 - 50.
22

وأنه كما يرسل الرياح فكذا يرسل وينزل الماء الطهور، لاحياء الأراضي
الموات، فالطهارة هنا صفة في الماء صفة ذاتية، من غير نظر إلى
مطهريته للأفراد من الخبائث والأحداث.
وبعبارة أخرى: المطهرية من صفات الماء، وليست مجعولة عليه
وإن أمكن سلبها عنه، كما في الماء النجس، فهي لتلك الجهة قابلة
للجعل، بخلاف الطهور، فإنه من الصفات الطبيعية له، فكأنه أريد هنا
بيان الوصف الطبيعي، الذي عليه يترتب سقي الأراضي والناس الكثير.
وفي قوله: (أناسي كثيرا) شهادة على أن الماء فيه هو ماء المطر
وطائفة من المياه، لا مطلقه، فالآية إما أجنبية عن مسألتنا، أو قاصرة عن
إفادة المقصود بعد ما ورد في ذيلها قطعا.
هذا مع أنه لا يفيد العمومين الأخيرين، وهو مطهريته من جميع
الأحداث، والأخباث، فربما يكون مثل الشمس، فإنها مطهرة لغير
المنقولات، على ما تقرر في محله (1).
وما ذكرناه لا ينافي كون الآية في مقام الامتنان، لأن الماء المنزل هو
الذي فيه الخواص الكثيرة المترتبة عليها، مع أنها في مقام الهداية
وإرشادهم إلى الاعتقاد بالله تعالى وكتبه ورسله، لا المنة، فإثبات
عمومه من تلك الجهة ممنوع جدا.

1 - لاحظ جواهر الكلام 6: 253 - 266، العروة الوثقى 1: 129 الثالث من المطهرات،
تحرير الوسيلة 1: 130.
23

رد توهم عدم دلالة الطهور على المطهرية
وتوهم: أنه لو كان الطهور بمعنى المطهر لا يفيد أيضا شيئا،
لأنه مطهر من القذارات العرفية، ولا يعهد من النجاسة والأحداث
الشرعية في صدر الاسلام، عين ولا أثر (1)، فاسد جدا، لأن قصرها بها يحتاج
إلى دليل، فلو عد في الاسلام شئ قذرا ولو في الأعصار المتأخرة، فهو
يطهر به كسائر الموضوعات المستحدثة.
مع أن مسألة الجنابة والنجاسة الشرعية بنحو الاجمال، كانتا بين
المسلمين، كما يأتي ذيل الآية الثانية.
فتحصل: أن إطالة الكلام في المقام حول كلمة الطهور من حيث
المادة والهيئة التصورية، ثم الهيئة التصديقية من الآية، مما لا
حاجة إليه، وكونها في استعمال الروايات بمعنى المطهر، لا يبلغ إلى حد
يورث الاستعمال الخاص في لسان الكتاب، حتى ينقلب من الحقيقة
اللغوية إلى الحقيقة الثانية في محيط التشريع، كما قيل بذلك في كلمة
السهو (2) فإنه كثيرا ما استعمل مقام الشك، بحيث صار حقيقة فيه في
محيط الأخبار.
هذا، والذي يظهر لي: هو أن الطهور صفة مشبهة فيه من
المبالغة، ولا تتقوم المبالغة بالتزايد والتفاضل الواقعي، بل هي في

1 - دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلد الأول: 130.
2 - مرآة العقول 15: 227، الحدائق الناضرة 9: 293، جواهر الكلام 12: 418.
24

موقف الدعوى تكون مبالغة، وإلا فهو الوصف، ولذلك يشكل حكمه،
لاحتمال كونه كذبا جائزا، والتفصيل يطلب من مقام آخر.
تقريب الاستدلال بالآية الثانية على المطهرية
ومنها: قوله تعالى: (إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من
السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم
ويثبت به الأقدام) (1).
وقد يتوهم: أن الانزال أعم من النزول الحسي (2)، لما ورد في
الكتاب ما يتعين فيه، مثل قوله تعالى: (وأنزلنا الحديد فيه بأس
شديد) (3) ونظائره كثيرة، فلا يختص الاتيان بماء المطر من تلك الجهة، بل
يعم جميع المياه، مع أن جميع المياه إلا ماء البحر - حسب ما يستفاد من
الآية (4) والرواية (5) - من ماء المطر، فيتم المطلوب بعدم القول بالفصل (6).

1 - الأنفال (8): 11.
2 - دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلد الأول: 9 - 10، التنقيح في شرح العروة
الوثقى 1: 18.
3 - الحديد (57): 25.
4 - (وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون)
المؤمنون (23): 18.
5 - عن أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: (وأنزلنا من السماء ماء بقدر
فأسكناه في الأرض): فهي الأنهار والعيون والآبار، تفسير القمي 2: 91.
6 - دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلد الأول: 9 - 10.
25

وهذا ممنوع جدا، لأن الانزال ظاهر في المحسوس، وليست
الاستعمالات في الأعم بالغة إلى حد الهجر واكتساء المعنى الآخر، لما
فيها القرائن فلاحظ، وإتمام القول في ماء البحر بما مر، غير إثبات العموم
بالكتاب كما عرفت.
ومثله توهم: أن الآية في مقام الامتنان، والماء فيها نكرة، ولا امتنان
معها، لأدائه إلى تعطيله في التطهير، فيكون مفادها العموم (1).
وفيه: أن الامتنان فيما كان الضيق من قبل صاحب المنة غير مأنوس،
وليس الماء نكرة، لأن ماء المطر هو القدر المتيقن من المقصود في
الآية، ومجرد كون الكلمة نكرة لا يفيد شيئا، ولا يضر بالمطلوب.
مع أن السنة إذا عينت الماء فيها في المطر، يتم الامتنان، ولا يستلزم
العموم، وقد ورد في الحديث المعتبر عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في خواص
ماء المطر مذيلا فيه، قراءته (عليه السلام) هذه الآية (2)، على وجه يعين فيه ذلك (3).
ودعوى: أن ماء المطر له مصاديق كثيرة، وهو أيضا مجهول من تلك
الجهة، فلا ثمرة في تلك المنة، غير مسموعة، ضرورة أن العرف لا ينتقل
ذهنه منها إلى الأفراد، بل يفهم منها نوع الماء.
هذا مع أن المقدمات السابقة، تفيد عموم المطلوب في ماء المطر،
دون غيره كما لا يخفى.

1 - التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 19.
2 - الأنفال (8): 11.
3 - الكافي 6: 387 / 2، وسائل الشيعة 25: 266، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب
الأشربة المباحة، الباب 22، الحديث 2.
26

دلالة الآية على مطهرية ماء السماء من جميع الأخباث
ثم إن كون الماء المذكور مطهرا لجميع الأخباث والأحداث
- خصوصا الشرعيات الاعتبارية الملتحقة بالعرفيات النافذة - في غاية
الاشكال، فلعله المطهر للأنجاس العرفية والقذارات، ولموجبات تنفر
الطباع البشرية، من غير نظر إلى هذه المسألة، فتكون أجنبية عن
الجهة المقصودة.
اللهم إلا أن يقال: إن التحقيق في مسألة الطهارة والنجاسة، أنهما
من الأمور العرفية، ولا دخالة للشرع الأقدس إلا في إلحاق بعض الأمور
بها، كالخمر والخنزير والكافر، وعدم ترتيب الأحكام على بعض منها،
كالنخاعة ونحوها، وإلا فما هو المستقذر عرفا المعبر عندهم عنه
ب‍ " النجس " ليس إلا ما هو عند الشرع نجس وموضوع الأحكام، وليست
كلمات النجاسة والجنابة والطهارة من المستحدثات الشرعية،
بل هي تستعمل عنده فيما يستعمل عندهم.
فعلى هذا، يكون الماء مطهرا عن مثل البول والمني والعذرة، وهي
الأنجاس الشرعية أيضا، وتكون من المستقذرات العرفية، ويتم في
الباقي بالحكومة الشرعية، لأن الشرع عبر عن جميع ما رتب عليه
أحكام النجاسة ب‍ " القذر " وذلك لنقل العرف منه إلى أحكام القذر
الثابتة عندهم، من الاجتناب، وتصرف أحيانا في كيفية الاجتناب والتطهير،
27

وذلك في قوله (عليه السلام): كل شئ طاهر حتى تعلم أنه قذر (1).
فإن المقصود من القذر هنا الأعم من القذارات العرفية، ومما
ادعي أنه قذر، فإذا كان الماء في الآية مطهرا للقذارات العرفية، يكون
مطهرا لجميع القذارات الشرعية أيضا، فتأمل جيدا.
فتحصل إلى هنا: أن ماء السماء مطهر لجميع الأخباث.
دلالة الآية على مطهرية ماء السماء من جميع الأحداث
وأما كونه مطهرا من الحدث، فذلك لما ورد في وجه نزول الآية من
احتياج أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الماء في غزوة بدر، وقد سبقهم الكفار
إلى الماء (2)، فوسوس إليهم الشيطان، بأن الاسلام كيف يصنع بكم من أن
تصلوا مجنبين ومحدثين، وعدوكم على الماء سيقوى عليكم ويقتلكم، فنزلت
الآية في تلك الوسوسة وذلك الموقف، فيكون دالا على مطهرية الماء
من الحدث أيضا، بل المتعارف ابتلاؤهم بالنجاسات المنوية والبولية
والغائطية، فتكون هي زائلة أيضا بها.
اللهم إلا أن يقال: لم يثبت نجاستهم الشرعية في عصر الآية، ولذلك
ليس من وساوس الشيطان أنهم يصلون في الثوب النجس.
أو يقال: إن قوله تعالى (ويذهب عنكم رجز الشيطان) إشارة إلى

1 - المقنع: 15، مستدرك الوسائل 2: 583، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 30،
الحديث 4.
2 - التبيان في تفسير القرآن 5: 86، بحار الأنوار 19: 222.
28

الجنابة، لأنها منه، ويكون قوله تعالى (ويطهركم تطهيرا) (1) من
الخبث، وهذا تطهير من الحدث، والله العالم.
ال
آية تقتضي كون جميع المياه من السماء
فبالجملة: يثبت بهذه الآية مطهرية ماء السماء لكل الأحداث
والأخباث، ومقتضى الآية الأخرى: (وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه
في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون) (2) وبعض النصوص (3)، أن جميع
مياه الأرض - غير البحر - من السماء، فيثبت مطهرية جميع المياه لجميعها.
وليس مفهوم ماء المطر في الكتاب، حتى يقال: بأن ماء البئر مثلا
وماء الشط ليس منه، بل المطهر هو ماء السماء، والمياه الأخر منه أيضا.
وكون ماء البحر أيضا منه يستلزم بعض الاشكالات، والتحقيق في محله.
وحاصله: أنه مما لا منع منه عقلا، لأن التسلسل في المعدات من
الجائز عقلا وبرهانا، ومقتضى عموم الآية أن جميع المياه من السماء حتى
ماء البحر، وعدم وجود أداة العموم في هذه الآية، لا يورث عدم الاستفادة
منها عرفا، فليتدبر.
وإن شئت قلت: إلغاء الخصوصية ومناسبة الحكم والموضوع
والأولوية ومفهوم الموافقة وأمثال ذلك، يقضي بأن الدليل متكفل للمعنى

1 - الأحزاب (33): 33.
2 - المؤمنون (23): 18.
3 - تقدم في الصفحة 25، الرقم 5.
29

العام، وهذا من الدلالة اللفظية، فتكون الآية عامة، وهذه التعابير لا
تأتي في الآية الأولى، لما عرفت أنها أجنبية عن هذه المسألة، فلاحظ
وتدبر جيدا.
ويحتمل قريبا، عدم تأتيها هنا أيضا، لأن ماء السماء من أظهر مصاديق
الماء.
تقريب الاستدلال بالآية الثالثة على مطهرية جميع المياه
ومنها: قوله تعالى: (فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا) (1) فإن
النكرة في سياق النفي تفيد العموم، فيعلم مطهرية جميع المياه، إلا أنه
ليس إلا من الحدث الأكبر، بل والأصغر، لقوله تعالى قبله (أو جاء أحد
منكم من الغائط) (2).
وقد يشكل: بأن النكرة في سياق النفي ليست من أداة العموم،
فنحتاج إلى مقدمات الحكمة، والآية في مقام ترخيص التيمم فيما لم
يكن الماء، ولعل المطهر ليس إلا الماء الخاص.
هذا مع أنه لا يستفاد منه مطهرية الماء، وقد مضى لزوم جعل
المطهرية عليه، لما سلب هذه الصفة منه في بعض المياه.
وفيه: أنه لو سلمنا الحاجة إليها، لكن لنا دعوى عدم انفكاك مثل

1 - المائدة (5): 6.
2 - (وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو
لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا...) المائدة (5): 6.
30

هذه الهيئة عن كون المتكلم في مقام يرى جميع المياه مطهرة، والشك في
أنها لا تفيد المطهرية من الشك في الأمر الواضح، ضرورة أن المقصود
من ال‍ (ماء) في الآية، ليس إلا التطهر به، كما قال (فاطهروا) فهذا من
لوازمه القطعية، والعموم من لوازمه العرفية.
هذا تمام الكلام في الآيات الثلاث، إلا أن تمام المدعى - وهو
مطهرية جميع المياه لجميع الأحداث والأخباث - غير ثابت بها، وإلغاء
الخصوصية عن الأحداث لفهم المطهرية للأخباث، كإلغائها لفهم
المطهرية لماء البئر من الآية السابقة، كما لا يخفى.
المآثير المستدل بها على أن المياه مطهرة
قد عرفت: أن المقصود ليس إثبات طهارة الماء في نفسه، لأنه
ليس من الأمر المهم، ولا معنى له، للزوم عقد البحث لجميع أجناس
العالم وطبائعه، بل المهم إثبات مطهريتها لجميع الأحداث والأخباث،
ومن الأخباث جميع المتنجسات، حتى يرجع إلى ذلك العموم اللفظي في
مواقف الشبهة.
وتوهم: أنه لا ثمرة فيه، لقيام الاجماعات والضرورة عليها (1)، غير
تمام، لامكان التمسك بإطلاق ذلك العموم لو شك في كيفية التطهر من
المرة والمرتين وغيرها.
اللهم إلا أن يقال: إن مقتضى الاستصحاب التعدد، ويجوز الاتكال عليه

1 - مستمسك العروة الوثقى 1: 110 - 111.
31

بترك الاتيان بالقيود في الكلام، ولكنه محل منع.
والعجب، أن القوم يصرون على إثبات طهارة الماء، مستدلين
بروايات تدل عليها!! وكأنهم ظنوا أن إثبات الطهارة ملازم لاثبات المطهرية،
وهو في محل المنع، لأن المطهرية من الصفات المجعولة، لامكان سلبها
عنها، كما في المنجس من الماء القليل، بل في المستعمل في الاستنجاء
يكون الماء طاهرا غير مطهر، والمقصود ليس أنه جعل المطهرية للماء،
بل بقاؤها عليه بعد ثبوتها العرفي، وعدم ردعه عنها يكفي لنا، فكونه
طاهرا لا يستلزم ذلك، كما أن كونه مطهرا ليس كذلك، كما مضى تفصيله.
عدم دلالة المآثير المشتملة على كلمة طهور على المطهرية
فبالجملة: قد وردت روايات مشتملة على كلمة ال‍ " طهور " مثل
معتبرة جميل بن دراج، عن أبي عبد الله (عليه السلام) - في حديث - قال: إن الله جعل
التراب طهورا، كما جعل الماء طهورا (1).
وفي حديث آخر من أحاديث الوضوء: إن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يقول
عند النظر إلى الماء: الحمد لله الذي جعل الماء طهورا، ولم يجعله نجسا (2).

1 - الفقيه 1: 60 / 223، وسائل الشيعة 1: 134، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 1، الحديث 1.
2 - تهذيب الأحكام 1: 52 / 153، وسائل الشيعة 1: 401، كتاب الطهارة، أبواب
الوضوء، الباب 16، الحديث 1.
32

وفي ثالث: طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب، أن يغسله سبعا (1). وهكذا.
فإن هذه الكلمة حسب القواعد، أمرها دائر بين كونها صفة مشبهة،
أو مبالغة، وحيث إن الأولى غير مناسبة للقرائن في مواضع الاستعمال،
تتعين الثانية.
ومعنى المبالغة، إما يرجع إلى الصفة الذاتية في الماء، فهو
ليس من المبالغة المصطلح عليها، وإما يرجع إلى الادعاء المحتاج
إلى المصحح.
فإن كان الجعل تكوينيا، يتعين الأول، وإن كان إنشائيا أو إخبارا عن أمر
منشأ، يتعين الثاني.
ولعل الظاهر هو الثاني، والمصحح له في التراب هو المطهرية
للغير، ولكن المصحح في الماء يحتمل فيه ذلك، ويحتمل كونه لأجل عدم
انفعاله، أو هما معا، ومقتضى السياق اتحادهما، والجمود يقتضي خلافه كما
لا يخفى، فيكون الدليل من تلك الجهة مجملا.
والعجب من قوم، توهموا في بعض المواقف المشابهة، لزوم أعمية
الفرض مثلا، لئلا تلزم اللغوية!! وكأنهم لم يسمعوا في الأدلة دليلا
مجملا، حتى يكون هذا منه.
ومما يشهد على أن كلمة طهور تستعمل في المآثير من غير إرادة
المطهرية بالمعنى المقصود منها، ما رواه المفيد في المقنعة عن الباقر (عليه السلام)

1 - عوالي اللآلي 4: 49 / 173، مستدرك الوسائل 2: 603، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات والأواني، الباب 45، الحديث 4، مع اختلاف.
33

قال: أفطر على الحلو، فإن لم تجده فأفطر على الماء، فإن الماء طهور (1).
بل قوله (عليه السلام) ولم يجعله نجسا (2) ربما يشهد على أن المقصود من
ال‍ " طهور " هناك، ليس المطهرية بالمعنى المقصود، فلا تغفل.
بيان الاستدلال بحديث: الماء يطهر ولا يطهر
وسيأتي بيان حول استفادة العموم من الطائفة الأخرى من
الروايات، وهي مما تكون ناطقة بأن الماء يطهر ولا يطهر وقد ورد هذا
المضمون مرسلا بإرسال الصدوق، مسندا إلى الإمام (عليه السلام) في الفقيه (3)
ومسندا في الكافي بإسناده عن النوفلي، عن السكوني (4)، ومرفوعا في
المحاسن (5) فالرواية معتبرة على مذهبنا، لأن النوفلي والسكوني
عاميان معروفان بالمتانة، على ما يظهر من رواياتهم في الأبواب المختلفة،
وكون إبراهيم بن هاشم في السند أيضا لا يورث شيئا.

1 - المقنعة: 317، وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1،
الحديث 10.
2 - تهذيب الأحكام 1: 52 / 153، وسائل الشيعة 1: 401، كتاب الطهارة، أبواب
الوضوء، الباب 16، الحديث 1.
3 - الفقيه 1: 6 / 2، وسائل الشيعة 1: 133، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1،
الحديث 3.
4 - الكافي 3: 1 / 1، وسائل الشيعة 1: 134، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 1، الحديث 6.
5 - المحاسن: 570 / 4، وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 1، الحديث 7.
34

وغاية ما يمكن أن يقال: هو أن حذف المتعلق دليل العموم، فإنه
بالنسبة إلى القذارات العرفية معلوم تطهيره، والشرع ألحق النجاسات
المجعولة السياسية وغيرها بها، بتعبيره عنها بال‍ " قذر " كما في كثير من
المآثير، فهو مطهر لجميع الأخباث والمتنجسات بها، وحيث يعبر في مسألة
زوال الأحداث عن مطهرية الماء - كما في الكتاب (1) - يعلم أنه من تلك
الجهة له العموم أيضا، فحذف المتعلق من الشرع الأقدس، دليل على
مطهريته للكل، بشهادة ما عرفت، ومقتضى الاطلاق أن نفس طبيعة الماء
تكون كذلك، فكأنه جعل المطهرية من لوازمها.
محتملات جملة ولا يطهر
هذا مع قطع النظر عن جملة: ولا يطهر وفيها احتمالات:
من كونها ناظرة إلى أن الماء لا ينجس حتى يطهر، فتكون في مقابل
أدلة انفعال الماء القليل.
ومن كونها ناظرة إلى أنه غير قابل للتطهير مقابل ما دل عليه، فتكون
النتيجة لزوم المزج، بإفناء موضوع النجاسة، كما هو خيرة جماعة (2).
ومن كونها ناظرة إلى أنه لا يطهر بغيره، فيكون قابلا للتطهير بنفسه.
ومن كونها ناظرة إلى تأكيد الجملة الأولى، وسريان مطهريته في

1 - (إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به...)
الأنفال (8): 11.
2 - منتهى المطلب 1: 6 / السطر 30، ذكرى الشيعة: 9 / السطر 32.
35

جميع الأشياء من غير النظر إلى حكم الماء بالنسبة إلى الطهارة
وكيفية تطهيره ونجاسته، وكأنه لوحظ الماء بطبيعته في طرف، وسائر
الأشياء القابلة للتطهير به في الطرف الآخر، فقال: الماء يطهر ولا يطهر.
وكونها قاصدا إثبات عدم تطهره بغيره، في غاية الاستهجان، لعدم
وجه لتوهم أن الماء يطهر بملاقاة الكتاب، والقرطاس، والقلم، والدواة،
فيتعين غير الاحتمال الثالث، فتأمل.
هذا، ولكن الانصاف كونها بصدد الاطلاق، ومن جهة حذف المتعلق
في مقام إفادة العموم في محل الاشكال، بل النظر فيها إلى أنه مطهر، في
قبال سائر الأشياء التي ليست بمطهرات إلا بعض منها، فافهم وتدبر.
عدم الفرق بين ماء البحر وسائر المياه في المطهرية
ومما ذكرناه يظهر: أن ماء البحر ليس في طول سائر المياه، إما لتلك
العمومات، أو لعدم الدليل عليه، بل قضية السيرة مطهرية جميع المياه،
وعدم ردع الشرع عنها يكفي، وإمضاء بعض المياه لا يدل على ردعه عن
بعض، فلم يتصرف الشرع في تلك الجهة.
نعم، ألحق بالقذارات العرفية القابلة للتطهير بالماء، سلسلة
القذارات الشرعية موضوعا، فيعلم حكمها.
وأيضا: الحق بالقذارات العرفية والشرعية، القذارات المعنوية
الزائلة بالماء مع الكيفية الخاصة.
فلا جديد له في هذه المسألة.
36

نعم قد تصرف في عموم مطهرية الماء، باخراج الماء المتنجس، مع
أن العرف لا يراه نجسا إلا في بعض الفروض.
هذا مع أنه قد وردت روايات خاصة في ماء البحر ناطقة بجواز
التوضي به، وأنه الطهور (1) بل في رواية دعائم الاسلام عن علي (عليه السلام)
أنه قال: من لم يطهره البحر فلا طهور له (2).
الروايات الظاهرة في أن الطهور ما لا يقبل النجاسة
ثم إن هنا روايات أخر، ربما تكون ظاهرة في أن المراد من الطهور
ما لا يقبل النجاسة، لما فيه العصمة والقوة (3)، فتكون هي دالة على أن
وجه المبالغة هو ذا، دون المطهرية للغير، مثل قوله (عليه السلام): خلق الله الماء
طهورا لا ينجسه شئ (4) وبهذا المضمون كثير في المآثير، فدعوى أن
الماء طهور، لا تصح إلا مع المصحح، وهو هنا - بقرينة قوله لا ينجسه
شئ - هو أنه لا ينفعل، لما فيه الصفة المانعة عنه.
الروايات الظاهرة في المطهرية وبيان وجه الخدشة فيها
وبعض روايات أخر، تشهد على الأعمية في جهة الدعوى، وأن

1 - وسائل الشيعة 1: 136، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 2.
2 - دعائم الاسلام 1: 111.
3 - وسائل الشيعة 1: 133، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 1 و 2.
4 - وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 9.
37

المتكلم لاحظ الجهات الكثيرة في دعواه أنه الطهور مثل صحيحة ابن
فرقد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم قطرة بول،
قرضوا لحومهم بالمقاريض، وقد وسع الله عليكم بأوسع ما بين السماء
والأرض، وجعل لكم الماء طهورا، فانظروا كيف تكونون (1).
فإنها بمقتضى اشتمالها على هذه التوسعة، كالنص في أن الماء عند
الله موجب للوسعة، من عدم قبوله النجاسة، ومن مطهريته لجميع
الأحداث والأخباث.
ولعمري، إن استفادة العموم من هذه الجملة، بمكان من الامكان جدا.
نعم، هذه الرواية لمكان اشتمالها على ما لا يساعده العقل، يشكل
اعتبارها، على ما تقرر في محله، والالتزام بالتفكيك بين الفقرات أيضا
مشكل، لأن سند اعتبار الخبر الواحد بناء العقلاء، وهو قاصر عن شمول
هذه المواضع، فالرواية مشكلة جدا.
وهكذا ما عن إرشاد القلوب بإسناده عن أمير المؤمنين (عليه السلام) (2)،
فإنها في الدلالة أقوى، ولكنها في السند أضعف، وانجبار السند بالشهرة
غير العملية، عندنا ممنوع.

1 - الفقيه 1: 9 / 13، تهذيب الأحكام 1: 356 / 1064، وسائل الشيعة 1: 133، كتاب
الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 4.
2 - إرشاد القلوب 2: 200. مستدرك الوسائل 1: 186، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المطلق، الباب 1، الحديث 6.
38

المبحث الثاني
في الماء المضاف
وفيه فصول:
39

الفصل الأول
حول التقسيم إلى المطلق والمضاف
قد مضى تعريف الماء المضاف، وقد عرفت أن المقصود منه ليس
الذي يضاف إليه كلمة الماء ك‍ " ماء البطيخ " والرمان حتى يقال:
من المضاف ماء الحوض والكيزان، بل وماء الوجه، أو يقال: بأن ماء
الورد من المضاف في العربي، وليس منه في الفارسي وغيره... وهكذا.
بل المقصود بيان أن الماء منه ما هو الخالص، ومنه ما هو اختلط
بشئ كالتراب أو المواد الأخر، كمادة الرقي والورد وغيره.
وحيث إن تقسيم المبسوط الماء إلى المطلق والمضاف (1)، ليس
من التقسيم المستوعب، مع لزوم كونه كذلك في العلوم، فالأولى أن يقال:
المائع إما ما يطلق عليه لفظة الماء على نعت الحقيقة وسائر
مرادفاته، أو ما لا يطلق عليه هذه اللفظة، سواء أطلق عليه مجازا، أو

1 - المبسوط 1: 5.
41

لا يطلق عليه رأسا.
فالأول: طاهر ومطهر من جميع الأحداث والأخباث.
والثاني: طاهر، وليس كذلك.
الفصل الثاني
عدم جعل النجاسة لا يستلزم جعل الطهارة
لا شبهة ولا بحث في أن المائعات المضافة، طاهرة بذاتها، ولا
نحتاج في هذه المسألة إلى الدليل، فالضرورة قاضية بأنها ليست من
الأعيان النجسة.
نعم، إذا كانت الطهارة منقسمة: إلى الطهارة العرفية، والشرعية
المجعولة، فكون غير الأعيان النجسة والملاقيات معها طاهرة، يحتاج
إلى الجعل، وإلا فهي خارجة عنهما.
مثلا: المستقذرات العرفية إذا لم يجعلها الشارع نجسة، فهي
ليست طاهرة، لعدم كونها طاهرة عرفا، ولا جعلها الشارع طاهرة في بدو
طلوع الاسلام.
وترتيب آثار الطهارة على شئ، لا يستلزم الجعل، لأنها الآثار الأعم،
خصوصا فيما كان القذر بطبعه، كالأبوال الطاهرة.
كما أن ترتيب آثار النجس لا يلازمه، لما ذكر، فإن النهي عن الأكل والشرب والتصرف، لا يلازم النجاسة بالضرورة.
42

بل تجويز الأكل والشرب للمياه المضافة وسائر الأشياء، ربما يكون
لعدم كونها نجسة، لا لأجل كونها طاهرة، فإثبات طهارة جميع الأشياء - ومنها
المياه المضافة - مما لا حاجة إليه، بل المدار في الأحكام على
النجاسة وعدمها.
نعم، الأشياء الطاهرة عرفا القابلة لجعل النجاسة عليها، تكون
طاهرة شرعا، لامضاء الشرع إياها، فتكون هي طاهرة شرعا أيضا، ولا منع
من جمع الطهارة العرفية والشرعية، لأن آثار الطهارة الشرعية لا
تترتب على العرفية.
بيان الملازمة بين نفي النجاسة وجعل الطهارة
ويمكن دعوى: أن سكوت الشرع، يورث انجعال الطهارة الشرعية،
إذا كانت هي محتاجا إليها، وأما إذا كان نفي النجاسة الشرعية، كافيا
لايفاء تمام الغرض، فلا يستكشف الطهارة الشرعية من المضي وعدم
الردع، فلا تغفل.
فتحصل: أن أحكام النجس كما تسلب بجعل الطهارة على
شئ، تكون هي مسلوبة بعدم جعل شئ، لا الطهارة، ولا النجاسة،
كما لا يخفى.
ومما ذكرنا يظهر أن: الجهة المبحوث عنها هنا، الأعم من
المياه المضافة، بل هي كسائر الجوامد الطاهرة غير المجعول
لها النجاسة.
43

توهم ودفع
وتوهم: أن هذا البيان ينعكس بالنسبة إلى النجاسة، فيقال:
الطهارة مجعولة، وعند انتفائها يترتب أحكام النجاسة، فاسد جدا، ضرورة
أن الشريعة اعتبرت نجاسة الأشياء الكثيرة، كالكفار والكلاب
والخنازير وغيرها، وعدها قذرا ونجسا، وهكذا ملاقي هذه الأمور اعتبر
نجسا، يترتب آثار القذارات العرفية عليه، ولا يعهد هذا في سائر الأشياء،
ولا دليل لفظي متعرض لجعل الطهارة الواقعية لها.
قاعدة الطهارة لا تفي بجعل الطهارة الواقعية للأشياء
اللهم إلا أن يقال: بأن عموم قاعدة الطهارة، تقضي بمجعوليتها لكل
الأشياء، ولا تنافي بين شمولها للظاهرية والواقعية، ولكنه ممنوع ثبوتا.
ولو فرضنا إمكانه، فكون الجملة الواحدة ظاهرة فيهما معا، غير تام،
ولا ريب في ظهورها - بمناسبة الغاية - في جعل الطهارة للمشكوك، ولا
يلزم من جعلها على المشكوك، جعلها على الواقع قبله، أو التزامه بها
وارتضاؤه كما لا يخفى، ضرورة أن الشك في طهارة شئ ونجاسته، لا يعقل
مع كون جميع الأشياء طاهرا، وهكذا لو كان الجميع نجسا.
وأما لزوم كون طائفة منها طاهرا فهو ممنوع، لأنه إذا لم يجعل
الشرع طائفة منها نجسا، فإنه يستلزم الشك في نجاسة شئ وعدمها،
فيجعل على المشكوك الطهارة.
44

الطهارة والنجاسة من الأوصاف العرفية بل الخارجية
هذا كله على القول: بأنهما من المجعولات الشرعية، وحيث إن
الحق أنهما من الأوصاف العرفية، بل والخارجية للأشياء، ولا تصرف
للشرع فيها إلا سعة وضيقا، بإلحاق بعض القذارات بالطيبات وبالعكس،
فلا يكون شئ إلا وهو طاهر أو قذر بحسب الواقع، ولا واسطة بينهما.
ويترتب على القول بمجعوليتهما، مفاسد كثيرة لا خير في التعرض لها.
الفصل الثالث
في عدم مطهرية المضاف وسائر المائعات
لا شبهة عندنا في عدم مطهرية المياه المضافة والمائعات طرا
للحدث، وقد خالف من مخالفينا الأصم وابن أبي ليلى، فقالا بجواز
التوضي بمطلق المائعات (1)، ولعلهما لا يقولان به في الحدث الأكبر، فتصح
دعوى اتفاق المسلمين على عدم مطهريته للحدث الأكبر، ومن أصحابنا
الصدوق، فجوز الوضوء بماء الورد (2).

1 - الخلاف 1: 55، المجموع 1: 93 / السطر 2.
2 - الهداية، ضمن الجوامع الفقهية: 48 / السطر 12.
45

وبه قال أصحاب الحديث (1)، وهم بمنزلة الأخباريين منا، وعن
الكاشاني الميل إليه (2).
وقال أبو حنيفة بجواز التوضي بنبيذ التمر إذا كان مطبوخا، عند عدم
الماء، وهو قول أبي يوسف (3).
وقال محمد: يتوضأ به ولا يتيمم (4).
وقال الأوزاعي: يجوز التوضي بسائر الأنبذة (5).
فهؤلاء المخالفون، لم ينكروا حصر المطهرية بالماء مع وجوده،
نعم قالوا بالترتيب، كما قلنا به.
نعم، إنا لا نقول بمطهريتها مطلقا، وهم يقولون بها حال الضرورة، ولعله
هو قول ابن عقيل منا أيضا، فإنه - على ما روي عنه - قال: فلا يجوز استعمال
المضاف عند وجود غيره، وجاز في حال الضرورة عند عدم غيره (6) انتهى.
والذي يظهر لنا: أن سائر المائعات ليست مطهرة للأحداث، لا في
عرض الماء المطلق، ولا في عرض التراب، ولا بينهما.

1 - لاحظ الخلاف 1: 55.
2 - مفاتيح الشرائع 1: 47.
3 - الخلاف 1: 56، انظر المبسوط، السرخسي 1: 88 / السطر 12.
4 - الخلاف 1: 56، المبسوط، السرخسي 1: 88 / السطر 11، المجموع 1: 93 /
السطر 15.
5 - الخلاف 1: 56، المجموع 1: 93 / السطر 19، المبسوط، السرخسي: 89 / السطر 1.
6 - لاحظ مختلف الشيعة: 10 / السطر 26.
46

التمسك بالاستصحاب لاثبات عدم المطهرية
وقبل الخوض فيما يدل على مرامنا، نشير إلى مقتضى الأصل في
المسألة، وهو الاستصحاب الحاكم ببقاء الحدث والخبث، أو الحاكم
بعدم تحقق الطهارة التي هي شرط الصلاة وغيرها، بناء على أن يقال: بعدم
الأثر للاستصحاب الأول.
ولك دعوى: أن الواجب ليس إلا الوضوء والغسل، ولا شئ
وراءهما حتى يتمسك بالاستصحاب، وجوديا كان، أو عدميا.
نعم، لو شك في صدق الغسل مع ماء الورد وغيره، فمقتضى الأصل
هو الاحتياط والاتيان بالمصداق المعلوم، لتمامية الحجة من قبله
عليه، ولا يجوز الاكتفاء بالمشكوك، كما لا يخفى.
وتوهم: أن مطهرية المياه والمائعات عرفية، خصوصا بعضها بالنسبة
إلى القذارات العرفية والأنجاس الشرعية، فلنا المطالبة بدليل يمنع
من مطهريتها، وإمضاء مطهرية المياه المطلقة لا يورث ردعهم عن مطهرية
ماء الورد - مثلا - قطعا.
لا يقتضي إلا مطهريتها في الجملة، وهذا في الحقيقة دليل على
خلاف الأصل المحرر تأييدا لفتاوى الصدوق وغيره.
فبالجملة: قضية الأصل هو أن مطهرية المياه وغيرها، تحتاج إلى
الدليل، وهي ثابتة في الماء المطلق والتراب، وفي غيرهما لا بد من إقامة
الأدلة النافية والمثبتة، ومقتضى الأصل عند الشك عدمها، كما عرفت.
47

الفصل الرابع
في الآيات المستدل بها على أن الماء المضاف
وسائر المائعات، ليست من المطهرات
منها قوله تعالى: (وأنزلنا من السماء ماء طهورا) (1).
وقوله تعالى: (وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به) (2).
بتقريب: أنهما في مقام الامتنان، على ما صرح به في الآية الأولى (3)،
وقضية الامتنان ذلك.
وفيه ما لا يخفى، لأن مقتضى الامتنان هو التوسعة، لا التضييق،
وعدم ذكر سائر المائعات لأغراض أخر.
وإن شئت قلت: إنه من علينا في جعل المطهرية، لا في جعلها في
الماء، فإنه امتنان على الماء لا علينا، فتدبر.
الاستدلال بآية التيمم على عدم مطهرية المائعات وجوابه
ومنها: قوله تعالى: (فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا) (4).
وكيفية الاستدلال به حتى يتم جميع المدعى، هو أن الصدر يقضي

1 - الفرقان (25): 48.
2 - الأنفال (8): 11.
3 - جامع المقاصد 1: 123.
4 - النساء (4): 43.
48

بأن ما ليس بماء، لا دخالة له في انتقال الحكم من الطهارة المائية إلى
الترابية، وكلمة الفاء تدل على أن التوضي بسائر المائعات - في طول
الماء المطلق - غير جائز، والهيئة في الذيل تقضي بالتعينية، فكون مائع
في عرض التيمم مطهرا، ممنوع بها أيضا، فبها يثبت أن سائر المائعات ليس
مطهرا، لا في عرض المياه، ولا في طولها، ولا في عرض التيمم، ولا في طوله.
وإن شئت قلت: هذه الآية بصدد بيان وظيفة المكلفين في هذه
الواقعة، فجعلها الماء والتراب طهورين لا غيرهما، يشهد على أن الغير
ليس مطهرا، وإلا لكان عليه البيان التام بحدودها.
وأنت خبير بما فيه، ضرورة أن النكرة في سياق النفي، ليست من
أداة العموم، فلعل الآية ناظرة في مقام آخر، كما هو الظاهر، فتكون دالة
على أن من كان على سفر وكذا وكذا، فلم يجد الماء - أي ما يطهره - فعليه
التراب، فذكر الماء لأنه من مصاديق المطهر عنده ومن أوضح المصاديق،
فلا شهادة لها على أن الماء المضاف ليس مطهرا.
والانصاف: أنها في مقام قيود انتقال الحكم من المائية إلى
الترابية، لا في مقام بيان ذات القيود وحدودها.
نعم، ظاهر كلمة الفاء نفي الواسطة بين الماء والتراب، فدعوى
أنه إن لم يجد الماء فليتوضأ بالمضاف، وإذا لم يجد المضاف فليتيمم (1)،
مسموعة جدا، لاقتضاء الفاء ولذلك لو ورد جواز التوضي بماء الورد،
فإنه لا يرى التعارض بينه وبين الآية الشريفة، بخلاف الفرض الثاني،

1 - لاحظ مصباح الفقيه، الطهارة: 54 / السطر 22.
49

فإنه يعارضها قطعا.
وأما نفي كونها مطهرا في عرض التيمم بها، ففي غاية السقوط،
ضرورة أن الهيئة فيها لا تدعو إلا إلى المادة، وكونها واجبا تعيينيا غيريا
ليس من دلالتهما، بل ذلك لاقتضاء الأصل العقلائي، ولو دلت على نفي
مطهريتها لكانت هي معارضة مع ما يدل على مطهرية ماء الورد فرضا مع
أنه لا يعد معارضا ولو بدوا، فما اشتهر بينهم من دلالتها على المدعى (1)، غير
قابل للتصديق.
والعجب من الفقهاء رضوان الله تعالى عليهم، من تمسكهم بالكتاب
من غير المراجعة إليه!! فنسبوا إليه تعالى ما ليس فيه، وهو وإن لم
تجدوا (2) فإن الآية في المسألة ما ذكرناها.
الفصل الخامس
في المآثير المستدل بها على عموم المدعى
وهي على طائفتين:
الطائفة الأولى: ما تضمن جملة تدل على حصر المطهر في الماء
والتراب، مثل رواية أبي بصير المروية في التهذيب عن
أبي عبد الله (عليه السلام): عن الرجل يكون معه اللبن، أيتوضأ منه للصلاة؟

1 - تذكرة الفقهاء 1: 5، مدارك الأحكام 1: 110، التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 29.
2 - التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 30.
50

قال: لا، إنما هو الماء والصعيد (1) وفي بعض نسخ الوسائل:
أو الصعيد.
ويشكل الاعتماد عليها، لما في سندها من محمد بن عيسى، مع أن تمييز
أبي بصير هنا مشكل، وإن لا يبعد كونه مرددا بين المرادي والأسدي، وهما ثقتان.
ورواية عبد الله بن المغيرة، عن بعض الصادقين قال: إذا كان الرجل
لا يقدر على الماء، وهو يقدر على اللبن، فلا يتوضأ باللبن، إنما هو الماء أو
التيمم... الحديث (2).
وفي اعتبارها من حيث إرسالها إشكال، ودعوى أن الصادقين هما
الصادق والكاظم (عليهما السلام) (3) غير تامة، لأنه من المتأخرين عنهما، والاحتمال
كاف لارسالها، أو لكونها في حكم الارسال.
وتوهم: أن ظاهر المتن يورث أن القائل هو الإمام (عليه السلام)، مما لا يمكن
الركون إليه.
نعم، بناء على ما هو المعروف في أصحاب الاجماع، تكون الرواية
معتبرة، لأن المرسل منهم، ولكن في صحة البناء إشكال، فالروايتان - من
حيث السند - غير تامتين.
ودعوى انجبار السندين بالشهرة القطعية، بل والاجماعات

1 - تهذيب الأحكام 1: 188 / 540، وسائل الشيعة 1: 201، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المضاف، الباب 1، الحديث 1.
2 - تهذيب الأحكام 1: 219 / 628، وسائل الشيعة 1: 201، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المضاف، الباب 2، الحديث 1.
3 - لاحظ دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من الجزء الأول: 27.
51

الكثيرة، غير مسموعة، لأن الشهرة الجابرة هي الشهرة العملية، وهي
هنا غير ممكن تحصيلها، ومجرد التطابق في الفتوى وإن كان يكفي في بعض
المسائل، ولكنه هنا غير كاف، لاحتمال تلقيهم هذه المسألة من
المسلمات التي لا حاجة فيها إلى الرواية والآية، فإن عموم الابتلاء
بالماء يوجب وضوح المسألة وأحكامها، خصوصا مثل هذا الحكم، فلا
جابر لمثلهما. هذا كله حال سندهما.
وجه دلالة الروايتين على نفي المطهرية
وأما دلالتها، فالمشهور أنها نافية لمطهرية سائر المياه المضافة
والمائعات، لإفادتها الحصر بكلمة إنما.
والذي ظهر لي في محله: أن كلمة إنما لا تورث إلا تأكيد الحكم في
المدخول (1)، مثل قوله تعالى: (إنما المشركون نجس) (2) فإنه لا يرى عند
العرف تعارضها مع تنجس المرتد مثلا، ومثل قوله تعالى: (إنما أموالكم
وأولادكم فتنة) (3)... وهكذا، فما أفادوه: من إفادتها الحصر في محل
منع جدا.
وإرجاع كلمة إنما إلى إن النافية والاستثناء، ليس من دأب
المحصلين والمحققين، كما لا يخفى.

1 - تحريرات في الأصول 5: 185.
2 - التوبة (9): 28.
3 - التغابن (64): 15.
52

دلالة الروايتين على نفي مطهرية اللبن
نعم، بعد النظر إلى صدر الرواية، وأن السائل توهم جواز التوضي
باللبن، يعلم أن كلمة إنما جئ بها لرفع هذا الوهم، وإثبات مطهرية
الماء والتراب، من غير النظر إلى الحصر الكلي، فهو دليل نفي مطهرية
اللبن فقط.
اللهم إلا أن يقال: إن مقصود السائل هو الأعم، وذكر اللبن من باب
المثال، ولكنه مشكل إثباته فتدبر.
وجوه أخر للدلالة على عدم مطهرية المائعات
ولك دعوى استفادة العموم من الاتيان بالمطهر الترابي في عرض
المطهر المائي، فإنه لو كان شئ آخر مطهرا، لكان أن يذكر هو، لا ما هو
في طول الماء.
ويمكن الاستدلال على المقصود بها بتقريب: أن التقسيم قاطع
للشركة، فإن كلمة أو توجب أن ما يتوضأ به بين الماء والتراب،
ولا شريك لهما، ولذلك لو ورد الشريك لهما يعد عند العرف معارضا،
فليتدبر جيدا.
أو دعوى: أن كلمة إنما هنا للتعليل، وظاهرها انحصار العلية في
الماء والتراب (1).

1 - التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 30.
53

وفيه: أن التعليل بالأمر المتعبد به قبيح، وقد تقرر لزوم كون العلة
من المرتكزات العرفية أو المدركات العقلية، وإلا فلا يحسن في الكلام.
والاستدلال (1) بما في الفقه المنسوب إلى الرضا (عليه السلام) من قوله
بعد ذكر المياه المضافة: وكل ذلك لا يجوز استعمالها، إلا الماء القراح، أو
التراب (2) غير تام، لما حررنا في تعاليقنا على الفائدة الثانية من خاتمة
المستدرك من عدم تمامية وجوه حجيته، فلاحظ (3).
الطائفة الثانية: من المآثير المستدل بها على عموم عدم المطهرية
ما استدل به الفقيه الهمداني (رحمه الله) (4)، وهي روايات فاقد الماء الآمرة
بالتيمم، مثل معتبرة زرارة، عن أحدهما (عليهما السلام) (5)، وصحيحة الحلبي (6) وداود
الرقي (7) وغيرهما (8)، فإن الظاهر هنا - بترك الاستفصال عن حال الرجل
المسافر - عدم مطهرية شئ آخر، وأنه يدور مدار الماء، وعند فقده

1 - الحدائق الناضرة 1: 398.
2 - الفقه المنسوب للإمام الرضا (عليه السلام): 92.
3 - تعليقات المؤلف (قدس سره) على المستدرك (مفقودة).
4 - مصباح الفقيه، الطهارة: 54 / السطر 9.
5 - الكافي 3: 63 / 2، وسائل الشيعة 3: 341، كتاب الطهارة، أبواب التيمم، الباب 1،
الحديث 1.
6 - الفقيه 1: 57 / 213، وسائل الشيعة 3: 343، كتاب الطهارة، أبواب التيمم، الباب 3،
الحديث 1.
7 - الكافي 3: 64 / 6، وسائل الشيعة 3: 342، كتاب الطهارة، أبواب التيمم، الباب 2،
الحديث 1.
8 - وسائل الشيعة 3: 343، كتاب الطهارة، أبواب التيمم، الباب 3.
54

التراب، ولا ثالث وراءهما.
ويشكل أولا: بأن مفروض الكلام هو المسافر، والمتعارف في حقه،
فقدانه المياه المضافة ولو كانت عنده بعض المائعات فرضا، مما يحتاج
إليه في السفر، فلعل سكوته (عليه السلام) عن التعرض لذلك، لعدم وجوده في
مفروض المسألة.
وثانيا: لا يثبت بها تمام المدعى، وهو نفي المطهرية عنها في جميع
المراحل حتى في عرض التراب، كما لا يخفى.
ودفع الاشكال الأول: بأن السائل مثل زرارة والحلبي والرقي، الذين
هم كانوا يفرضون المسائل، ويطلبون الجواب من المعصوم (عليه السلام)، فعليه لا بد
من الجواب المشتمل على جميع الجهات في المقام، لا يوجب اندفاع
الشبهة الثانية.
فتحصل: أن الاستدلال بالكتاب والسنة، لا يورث إلا بعض
المقصود، ولا دليل لفظي على عموم المطلوب، كما هو المرام في المقام.
الفصل السادس
فيما يستدل به على أن المياه المضافة مطهرة من الحدث
وهو إطلاق مادة الاغتسال القابلة للصدق على الطهارة الحاصلة
بالمضافات.
نعم، لا يتحقق الغسل بمطلق المائعات، حتى يلزم التعارض بين ما
55

يدل على مطهريته، وما يدل على عدم مطهريته.
وبعبارة أخرى: لو سلمنا دلالة الآية والرواية على نفي مطهرية
سائر المائعات، ولكنها قابلة للتخصيص والتقييد، فلو صح الغسل بماء
مضاف ومائع - كالأعراق المتخذة من النباتات - فإطلاق أدلتها يخصص
ويقيد بالآيتين الآمرتين بالاغتسال والغسل.
فقوله تعالى: (حتى تغتسلوا) (1) وقوله تعالى: (فاغسلوا) (2) مقدم
على تلك الأدلة وإن كانت النسبة عموما من وجه، وذلك لأن من موجبات
تقدم أحد العامين من وجه على الآخر، هو أن يكون الدليلان في مورد
التصادق، مختلفي الظهور، فيكون أحدهما أظهر من الآخر، وفيما نحن فيه
الأمر كذلك كما لا يخفى.
ودعوى: أن ذيل الآيتين يشهد على أن المقصود من الغسل ما هو
الحاصل بالماء (3)، غير مسموعة، لاحتمال كون الصدر - وهو إطلاق
المادة - قرينة على أن الماء المذكور في الذيل من باب أحد مصاديق
المطهر، بل هو كذلك، فتدبر.
وإن شئت قلت: فيما لو دار الأمر بين كون الصدر قرينة على الذيل
وبالعكس، يتعين الأول، خصوصا فيما نحن فيه، وما اشتهر من التمسك
بالانصراف في هذه المواقف، لا يرجع إلى المحصل، فعليه يتعين تجويز

1 - النساء (4): 43.
2 - المائدة (5): 6.
3 - التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 34.
56

كون جميع المياه المضافة التي يحصل بها الغسل لغة وعرفا، مطهرة
للحدث، بل وللخبث على ما يأتي تفصيل البحث فيه.
وما يظهر من بعض كتب اللغة، من تقييد الغسل بالماء (1)، حتى
يكون الموضوع له أخص، غير قابل للتصديق، لقيام التبادر على
خلافه.
الوجه في عدم مطهرية المضاف من الحدث
والانصاف: أنه بعد اللتيا والتي، أن قضية الصناعة عدم مطهرية
غير الماء، لأن النسبة بين الدليلين عموم من وجه، ولا وجه لتقدم
أحدهما على الآخر، وما أشرنا إليه غير تام هنا، بل ما تعرض لعدم مطهرية
غير الماء بلسانه، مقدم على ما تعرض للأمر بالاغتسال، لأنه تعرض
لحدود موضوع الآخر.
نعم لو قلنا: بعدم الدليل على نفي المطهرية عن غير الماء، فالعمل
بإطلاق المادة جائز، ولكن الضرورة وبداهة الحكم عند المشهور
مخالفه.
ويمكن دعوى: أن الأوامر المتعلقة بالغسل وإن كانت أعم، ولكن في
طائفة من الروايات ورد التقييد بالماء (2)، وهذا دليل على أخصية
الموضوع في تلك المطلقات، لأن الاتيان بالقيد الغالب في مثل المقام،

1 - المفردات في غريب القرآن: 360، أقرب الموارد 2: 872.
2 - وسائل الشيعة 1: 388، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 15، الحديث 3 وما بعده.
57

شاهد على قيديته، فتأمل جيدا.
وإذا ثبت الحكم في الجملة، فيسري إلى سائر المواقف، للزوم
خرق الاجماع المركب، فلاحظ وتدبر.
الفصل السابع
في عدم مطهرية المضاف عند الضرورة
قال الحسن بن علي بن أبي عقيل المعروف ب‍ " الحذاء "
والنعماني: ما سقط في الماء مما ليس بنجس ولا محرم، فغير لونه أو
طعمه أو رائحته، حتى أضيف إليه مثل ماء الورد وماء الزعفران
وماء الخلوق وماء الحمص وماء العصفر فلا يجوز استعماله عند
وجود غيره، وجاز في حال الضرورة عند عدم غيره (1) انتهى.
وظاهر كلامه: أن مطلق المضاف مطهر من الحدث والخبث عند فقد
الماء المطلق، ولا يظهر منه أنه يقول: بتعين الطهارة المضافية بعد
المائية، أو يقول: بالتخيير بينها وبين الترابية.
والظاهر أنه أراد من قوله: محرم اختلاط الماء بالمغصوب
ونحوه، مما يورث الاشكال في صحة الغسل والوضوء.

1 - لاحظ مختلف الشيعة: 10 / السطر 26.
58

الاستدلال على المطهرية عند الضرورة وجوابه
ويشهد له مضافا إلى قاعدة الميسور، ما رواه عبد الله بن المغيرة،
عن بعض الصادقين (عليهما السلام) قال: إذا كان الرجل لا يقدر على الماء، وهو يقدر
على اللبن، فلا يتوضأ باللبن، إنما هو الماء أو التيمم، فإن لم يقدر على
الماء وكان نبيذ، فإني سمعت حريزا يذكر في حديث: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد
توضأ بنبيذ، ولم يقدر على الماء (1).
وتقريب الاستدلال واضح، ولكن الحديث - من جهة الارسال، ولأجل
جهة الصدور، ولاعراض المشهور، ولعدم متانة المتن - مخدوش جدا،
فإن لفظة الصادقين ليست ظاهرة في الأئمة أو واحد من الاثنين منهم،
فهي في حكم المرسلة.
ولعل عبد الله بن المغيرة لغرض انتقالنا إلى الخدشة في الحكم،
أتى بهذه الجملة، وإلا فإن المتعارف في هذه الاستعمالات مواقف التقية،
والحكم موافق لمذهب أبي حنيفة (2) الذي هو أشهرهم، وكانت فتواه في
عصر الرواية مشهورة، حسب التأريخ والعصر فتدبر.
وما نسب إليه، من أنه كان رجع من فتواه إلى المنع عن التوضي

1 - تهذيب الأحكام 1: 219 / 628، وسائل الشيعة 1: 202، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المضاف، الباب 2، الحديث 1.
2 - المغني، ابن قدامة 1: 9 / السطر 12.
59

به (1)، وهو مختار سائر الفقهاء (2)، وإن فرضنا صحته، ولكنه لا يورث
الاشكال في حملها على التقية، لأن فتواه الأولى كانت شاهرة، مع أن في
النسبة تأملا.
بل نفس هذه الرواية، وخصوص ما ثبت عندهم من رواية ابن مسعود
عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (3)، يدلان على ذهابه إلى الجواز، وسائر الفقهاء - لأجل
الشبهة الموضوعية - منعوا عن التوضي به، كما هو الوارد في رواياتنا،
فقد روى سماعة بن مهران، عن الكلبي النسابة، رواية مفصلة مشتملة على
قصة النبيذ الذي توضأ به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأنه كان من الماء المطلق (4)،
فتكون رواية عبد الله بن المغيرة، ناظرة إلى ذلك، وهو الوضوء بالنبيذ
الكذائي عند عدم وجدانه الماء الصافي والخالص.
هذا مع أن ذيل الحديث من عبد الله على احتمال قوي، أو من
الإمام (عليه السلام) فرضا، إلا أنه أومأ إلى ما فيه بقوله (عليه السلام): في حديث مع أن
حريزا لا يحكي الحديث إلا سماعا من سائر الناس، فالاتكال على مثله
- بعد إعراض المشهور عنه - غير جائز قطعا.
وتوهم: أن الحمل على التقية يختص بمورد التعارض، وما نحن
فيه ليس كذلك، لامكان الجمع العقلائي بالتقييد، كتوهم أن الشهرة من

1 - المجموع 1: 93 / السطر 17.
2 - المغني، ابن قدامة 1: 9 / السطر 9.
3 - سنن ابن ماجة 1: 135.
4 - الكافي 1: 348 / 6، وسائل الشيعة 1: 203، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف،
الباب 2، الحديث 2.
60

المرجحات في مقام التكاذب، والتفصيل يطلب من تحريراتنا في
الأصول (1) وحديث التمسك بالقاعدة المشار إليها (2)، لا يرجع إلى
محصل، كما لا يخفى.
وما رواه الصدوق (3) على فرض كونه رواية، شاهد على أن النبيذ
الذي توضأ به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، لم يخرج من كونه ماء، فعليه يجوز ذلك
عندنا، ولا يختص الحكم بالماء المطروح فيه التمرات.
ثم إنه لو سلمنا السند والدلالة، فلنا دعوى أنه من الأحكام
المختصة بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا دليل على حصرها، على ما تقرر في محله (4)
فتأمل.
الفصل الثامن
في عدم مطهرية ماء الورد من الحدث
قال الصدوق في الأمالي والفقيه والهداية: يجوز
الوضوء بماء الورد وغسل الجنابة (5).
ونسب إلى الكاشاني الميل إليه (6)، بل حكي عنه الفتوى

1 - مما يؤسف له عدم إنهاء الكتاب إلى مباحث التعادل والترجيح.
2 - مصباح الفقيه، الطهارة: 54 / السطر 22.
3 - الفقيه 1: 11 بعض الحديث 20.
4 - لاحظ جواهر الكلام 29: 129.
5 - الأمالي: 514، الفقيه 1: 6، الهداية، ضمن الجوامع الفقهية: 48 / السطر 12.
6 - الحدائق الناضرة 1: 397.
61

به (1)، وهو محل منع، لصراحة كلامه في المفاتيح والوافي (2) في
أنه شبهة في إضافته، ولدعوى أنه من المطلق جوز التوضي به، وعليه
يمكن حمل كلام الصدوق، بل وحمل كلام أصحاب الحديث القائلين
بجوازه، بل وحمل الرواية الآتية، ولكنه ليس بمهم في البحث.
التمسك بخبر يونس على مطهرية ماء الورد من الحدث
والذي هو المهم: هو أنه هل يجوز التوضي بماء الورد ولو كان مضافا
أم لا؟
فمقتضى ما عرفت منا هو الثاني، وقضية رواية يونس، عن
أبي الحسن (عليه السلام) قال: قلت له: الرجل يغتسل بماء الورد، ويتوضأ به
للصلاة. قال: لا بأس بذلك وإطلاقها هو الأول.
ولا يخفى: أن كونها مستند الفقيه محل منع، لأن ظاهره تجويز غسل
الجنابة به، دون الأغسال الأخر، بل من المحتمل قويا أن قوله: يغتسل
هو الغسل من النجاسة، لا الحدث، وإلا كان ينبغي أن يأتي بكلمة أو
وعليه تكون الرواية من الأدلة على جواز رفع الخبث بماء الورد، وبعد
إلغاء الخصوصية وحمله على المثال، يظهر الحكم في سائر المياه
المضافة، ونشير إليها في المبحث الآتي.
ثم إن مقتضى إطلاق الرواية، جواز التوضي بكل ما يعد ماء الورد،

1 - التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 31.
2 - مفاتيح الشرائع 1: 47، الوافي 6: 325.
62

سواء كان من الماء المطلق أو ماء مشكوكا إطلاقه، أو مضافا، فالرواية
على خلاف القاعدة في الفرضين الأخيرين، فتأمل جدا.
وقد يظهر من بعض اختيار الصدوق الأول ذلك أيضا، ولكنه غير
موجود في الكتب المعدة لنقل فتوى الأعلام.
بيان وجوه الخدشة في خبر يونس
فبالجملة: هذه الرواية من حيث السند مخدوشة، لما فيه
أشخاص، مثل علي بن محمد المشترك بين الثقة والضعيف، وسهل بن زياد
غير معتبر عندي، وقد ضعفه النجاشي وغيره (1)، ومحمد بن عيسى عن يونس
الذي قيل في حقه: إنه غير معتمد في رواياته عنه (2) وهذا أيضا شاهد
على أن مستند فتوى الصدوق، ليس هذه الرواية.
وفيها من جهة الصدور أيضا إشكال، لما مضى الايماء إليه.
ولعل ماء الورد الجائز التوضي به، من المطلق في عصر صدور
الرواية، لعدم المياه الغليظة، بل غاية ما كان عندهم الماء الملقى فيه
بعض الورد، كالماء الملقى فيه التمرة والتمرات، فإطلاقها غير معلوم،
لأن من المحتمل - قويا - أن يكون ترك الاستفصال، للاتكاء على التعارف،
ولا أقل من الشك، ضرورة أن الاطلاق الجائي من قبل ترك الاستفصال، لا
يثبت إلا بعد إحراز ما ذكر، فتدبر.

1 - رجال النجاشي: 185 / 490، الفهرست، الشيخ الطوسي: 80.
2 - لاحظ رجال النجاشي: 333 / 896.
63

فالرواية من الجهات الثلاث، غير نقية، بل إعراض المشهور عنها
وعدم كونها مستند الصدوق ظاهرا، يضربها على الجدار.
هذا مضافا إلى معارضته مع الفقه الرضوي النافي بالصراحة
جواز التطهر بماء الورد (1).
وتوهم: أن النسبة بين الرواية ومفهوم الحصر المستفاد من
الكتاب، عموم من وجه (2)، ناشئ عن الغفلة، فإن النسبة عموم مطلق.
نعم لو قلنا: بأن الرواية ناظرة إلى إثبات مطهرية ماء الورد للحدث
والخبث، تكون النسبة عموما من وجه.
ولك دعوى: أن الحصر لا يستفاد من الكريمة قطعا، كما أشرنا إليه،
وغاية ما في الباب استفادته من الرواية، وهي تفيد انحصار المطهرية
للحدث والخبث بالماء، فتكون النسبة بين الرواية ومفهوم الحصر،
عموما مطلقا أيضا.
الفصل التاسع
في عدم مطهرية المضاف من الخبث
المشهور عدم مطهريته للخبث أيضا، وما ترى في الروض من
دعوى الاجماع (3)، وهكذا في الجواهر وغيره (4)، من قلة التدبر في

1 - الفقه المنسوب للإمام الرضا (عليه السلام): 92.
2 - التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 34.
3 - روض الجنان: 133 / السطر الأخير.
4 - جواهر الكلام 1: 315، مجمع الفائدة والبرهان 1: 249.
64

كلمات القوم، على ما سيأتي بعض الكلام فيها.
تحديد الجهة المبحوث عنها في المقام
وقبل الخوض في المسألة، لا بد من الإشارة إلى الجهة
المبحوث عنها، وهو أن الشئ إذا تنجس، فهل يطهر بمطلق الاصطكاك ولو
بالجامدات، أو لا يطهر إلا بالمائع، أو المضاف، أو الماء المطلق؟
وأما البحث حول أن الشئ لا ينجس أصلا، بل اللازم الاجتناب
عن النجس بوجوده أينما كان، سواء كان قائما بنفسه، أو قائما بالغير عرفا،
فهو خارج عن هذا المقام، وسيأتي البحث عنه في مباحث النجاسات (1).
والمخالف في تلك المسألة هو الفيض، حيث توهم أن أجزاء
النجس كأجزاء ما لا يؤكل (2)، فكما هي مانعة عن الصلاة، وإذا زالت تصح
الصلاة مع الثوب، كذلك تلك الأجزاء النجسة، ولا يعقل حمل المتنجس
على شئ إلا مع وجود المنجس، والوساطة في الثبوت مما لا دليل عليها،
بل الظاهر من الأدلة هي الوساطة في العروض، فإذا زالت أجزاء
النجس فقد طهر الشئ، وعليه يلزم سقوط الاستصحاب والأصل المحرر
سابقا، لأنه لا يقين بتنجس الشئ، حتى يشك في زوالها بالمضاف وغيره.
فبالجملة: لا ينبغي الخلط بين المسألتين، وتلك المسألة تعرض
لموضوع هذه المسألة، وهي أنه إذا تنجس الشئ بالسراية، فهل يحتاج

1 - يأتي في الصفحة 283 وما بعدها.
2 - مفاتيح الشرائع 1: 77.
65

في تطهيره إلى مزيل خاص، أو إلى عنوان الغسل أم لا؟
ولا يخفى: أنه لا ملازمة بين كون الشئ متنجسا، وكون المزيل
أمرا مخصوصا، بل يمكن الجمع بين اختيار تنجس الشئ، وإمكان تطهيره
بكل شئ.
نعم، في مثل ما لو زالت الأجزاء النجسة بالهواء والشمس، فإنه
لا يطهر المتنجس، بل لا بد من القول باعتبار الاصطكاك الخارجي والمس
ولو بالثوب.
وأما القول بتنجس الشئ، والقول بإمكان تطهيره بكل شئ ولو
بتلك الأمور المشار إليها - بل ولو بانعدام تلك الأجزاء - فهو يرجع إلى إنكار
التنجس المقصود في تلك المسألة، كما لا يخفى.
القول بمطهرية المضاف ليس شاذا، ولا مهجورا
إذا عرفت ذلك فأعلم: أن المسألة ذات قولين معروفين، وليس السيد
المرتضى وشيخه المفيد، وحيدين في مرامهما، وذلك لدعوى السيد
الاجماع في الناصريات (1) ولقول الشيخ في الخلاف: وهو مذهب أكثر
علمائنا (2) ومثله كلام السيد في الغنية (3) والعلامة في التذكرة (4).

1 - الناصريات، ضمن الجوامع الفقهية: 219 / السطر 3.
2 - الخلاف 1: 59.
3 - الغنية، ضمن الجوامع الفقهية: 490 / السطر 26.
4 - تذكرة الفقهاء 1: 5.
66

ولقول المختلف: وهو المشهور (1) ولنص السرائر في نسبته
إلى السيد وجماعة من أصحابنا (2).
ولقول المفيد، حيث نقل المحقق عنه نسبته إلى المذهب (3)، بل
ومثله السيد في غير الناصريات.
ولما تحرر منا في محله: أن كثيرا من الأعاظم السابقين أصحاب
الكتب والفتوى، مهملين في كتب التراجم والفهارس، بل في عصرنا - مع
هذه السعة والوسائل للاطلاع - يسقط تراجم كثير من الأعلام، ولذلك
استشكلنا في حجية الشهرة صغرويا (4).
فالنسبة إلى الشهرة والاجماع، ودعوى الشذوذ، وأن القول
بمطهرية المضاف مهجور، خال من التحقيق.
نعم، هو المهجور بما لا يوجب إشكالا في المسألة، فإن ذهاب
المتأخرين إلى أمر، لا يورث لنا شيئا.
فتوهم: أن كلام السرائر وغيره خال من التحقيق، نشأ من عدم
الاطلاع على أوضاع السابقين وأحوالهم، أفما سمعت أن الشيخ منتجب
الدين جمع في فهرسته جماعة من العلماء أصحاب التصانيف، مع أنه
سقط - حسبما أقر به السيد الأستاذ البروجردي - من قلمه جماعة،

1 - لاحظ مختلف الشيعة: 10 / السطر 26.
2 - السرائر 1: 59.
3 - المعتبر 1: 82.
4 - تحريرات في الأصول 6: 403.
67

وأنهاهم إلى قريب من سبعين (1)؟! فمنه يعلم أن الأمر ليس كما زعمه
القوم في هذه المسألة، فتدبر.
فعليه تكون المسألة روائية محضة، فإن دلت الروايات على مذهبهما
فهو، أو على مذهب ثالث فهو المأخوذ، ولا حجة في قبالها من تلك
المنقولات والمحصلات المنقولة، فالبحث في المقام يتم في ضمن أمور:
الأول: في اشتراط التطهير بالغسل بالماء
هل يعتبر التطهير بالمائع، أو يكفي التراب مثلا، أو غيره، بأن يكون
اللازم الاصطكاك بشئ ولو كان جامدا؟
فيه وجهان، والذي لا ريب فيه - حسب الأقوال والروايات - هو الأول.
وربما يخطر بالبال توهم، رجوع الثاني إلى إنكار تنجس الشئ،
ولكنك أحطت بما فيه، فإنه - على هذا القول - يجب الاصطكاك وإن لم
يكن مزيلا لشئ لزوال جميع الأجزاء النجسة، بخلاف القول بعدم تنجس
الشئ، كما هو الظاهر.
وجه عدم اشتراط الغسل وجوابه
والوجه المعتمد عليه هنا، هو أن المقصود من الشرع ليس إلا
تنظيف الشئ عرفا، وهي تحصل بالجامد أيضا، فلو تلوثت الظروف، فكما

1 - لاحظ مقدمة جامع الرواة الصفحة ج.
68

تنظف بالماء و (الألكل) وغيرهما مما يشابههما، كذلك تنظف بالثياب، كما هو
المتعارف اليوم في الأسواق، وكما يكون استعمال الماء في مورد القطع
بزوال الأجزاء القذرة، أمرا تعبديا، كذلك استعمال الثوب، فالماء في
الرواية مذكور لغلبة الاستعمال، وهكذا الغسل، للمتعارف، والذي هو
المقصود هو التطهير والتنظيف المأمور به في الكتاب: (وثيابك
فطهر) (1).
وتوهم: أن التطهير مخصوص من حيث اللغة بالغسل، فاسد جدا،
ضرورة استعمالها في الأعم، فيتعين عليه هذا القول الثالث في المسألة.
ولكن الالتزام به - بعد إجمال الآية الشريفة، على ما يأتي بعض
البحث حولها، وعدم معروفية الحكم بين الملة الاسلامية، مع كثرة
الابتلاء به - غير ممكن جدا.
اللهم إلا أن يقال: بأنها ليست مجملة، ضرورة أن حذف المتعلق دليل
العموم، وما ورد من: أن المقصود من التطهير التقصير (2) أو أن
المقصود منه رفع الثياب وتشميرها (3) لا بد وأن يرجع إلى معنى التطهير،

1 - المدثر (74): 4.
2 - كنت عند أبي جعفر (عليه السلام) إذ دخل عليه أبو عبد الله (عليه السلام) فقال أبو جعفر (عليه السلام): يا بني ألا
تطهر قميصك؟ فذهب فظننا أن ثوبه قد أصابه شئ فرجع فقال: إنه هكذا فقلنا: جعلنا
الله فداك ما لقميصه؟ قال: كان قميصه طويلا وأمرته أن يقصر إن الله عز وجل يقول:
وثيابك فطهر.
الكافي 6: 457 / 10.
3 - عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى: وثيابك فطهر قال: فشمر.
الكافي 6: 455 / 1.
69

ويكون من مصاديقه على ما تقرر منا في كيفية تفسير الأخبار من الآيات،
خصوصا بعد عدم ورود التطهير بالمعنى المفسر به لغة.
المختار في معنى قوله تعالى: (وثيابك فطهر)
والذي يظهر لي: أن الثياب المنجرة على الأرض، كانت موجبة لنقل
النجاسات والكثافات، وتنجسه بالقاذورات، وكانت موجبة للتفخيم
والتكبر والمفاخرة والطمطراق فأمروا بالتطهير، للزوم تقصيرها عادة،
فتقصيرها به لأجل تنجسه بعدم التشمير، وما ورد في الروايتين يرجع إلى
معنى واحد أيضا، فبذلك يحصل الطهارة، ويلزم عدم تنجسه الذي هو أيضا
من الطهارة، ولو لم يكن الأمر كما ذكر يلزم الاستعمال الغلط، إلا بالالتزام
بأن من معاني التطهير التقصير، وهو بلا حجة.
وربما يخطر بالبال: أن المراد من الآية تطهير النفس من الأدناس
والأنجاس والأرجاس، وهي كناية معروفة بين العرف والعرب، ويعرب
عنه كتب اللغة فراجع (1)، وقوله (عليه السلام): فسدلت دونها ثوبا (2) ف‍ " الثوب "
والثياب من الكنايات، كما في الفارسية، وعليه تسقط الآية عن
صحة الاستدلال بها بعد هذا الاحتمال القوي جدا.
وتوهم التنافي بين مفاد الروايات الواردة في ذيلها وهذا المعنى
الكنائي، ممنوع، بل ظاهر بعضها يدل على ما أشير إليه، فراجع.

1 - المفردات في غريب القرآن: 308، أقرب الموارد 1: 719.
2 - نهج البلاغة، صبحي الصالح: 48.
70

فتحصل: أن هذه الآية أجنبية عن المسألة (1)، وهكذا عن مختار
السيد والمفيد في المسألة الآتية.
لزوم تقييد الآية بالغسل بالماء على فرض إطلاقها
ولو سلمنا إطلاقها ودلالتها على هذه المسألة، فمقتضى ما تحرر في
محله في المثبتات، حمل المقيد أيضا إذا كان القيد في المقيد ظاهرا في
المفهوم، وكان الحكم والمطلوب واحدا (2)، فعليه يحمل إطلاق الآية على
المقيدات، وسيأتي بعض البحث فيه (3).
ولو سلمنا صحة حمل المقيدات على المتعارف، وأن القيد فيها من
القيود غير الاحترازية، نظير آية الربيبة (4)، فالالتزام بهذا الحكم مشكل،
لما سمعت منا أن هذه الأحكام الكثير ابتلاء الناس بها، لا يحتاج ثبوتها إلى
الرواية وإطلاقها، بل لا بد من اشتهارها بين الناس في جميع

1 - ومثلها قوله تعالى: (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) (أ).
وقوله تعالى: (رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المتطهرين) (ب).
وتقريب الاستدلال بهما بعد حذف المتعلق معلوم، ولا يرد عليهما ما يتوجه إلى الأولى،
بل لهما العموم دونها، فإذا كان التطهر محبوبا، فطهارته ممضاة في الشريعة، فتدبر
جيدا.] منه (قدس سره) [
(أ) البقرة (2): 222.
(ب) التوبة (9): 108.
2 - تحريرات في الأصول 5: 492 - 493.
3 - يأتي في الصفحة 74 - 75.
4 - النساء (4): 23.
71

الأعصار والأمصار.
وتوهم: أن الماء مما كثر في البلاد، فلا يلزم ما ذكر، مدفوع بأن
الأعصار الماضية لا تقاس بهذه الأعصار، فافهم وتدبر.
وقد مضى أن قضية الأصول العملية، لزوم التطهير بما هو القدر
المتيقن وهو الماء المطلق (1).
الاستدلال على مطهرية المسح والغسل بالبزاق
ثم إنه يمكن الاستدلال لهذا المرام، بما رواه الصدوق بإسناده
المعتبر، عن حكم بن حكيم ابن أخي خلاد: أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) فقال
له: أبول فلا أصيب الماء، وقد أصاب يدي شئ من البول، فأمسحه
بالحائط وبالتراب، ثم تعرق يدي، فأمسح به وجهي أو بعض جسدي، أو
يصيب ثوبي.
قال: لا بأس به (2).
فإن الظاهر منه أن الراوي ظن طهارة يده بالمسح، وكفاية التراب
المطهر من الحدث ومن الخبث في ولوغ الكلب، فأجابه الإمام بما
سمعت. وكونها دليلا على عدم منجسية المتنجس، بعيد.
نعم، ظاهرها أنه مطهر من الخبث البولي عند عدم القدرة على

1 - تقدم في الصفحة 47.
2 - الفقيه 1: 40 / 158، وسائل الشيعة 3: 401، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات،
الباب 6، الحديث 1.
72

الماء، فيكون قولا آخر في المسألة، إلا أن ذكر عدم إصابة الماء لا يدل
على شئ، كما لا يخفى.
ولك الاستدلال بمآثير وردت في مسألة الغسل بالبزاق (1)، بناء على
أن الغسل العرفي لا يحصل به، فهو في حكم الجامد، فكما يلغى
الخصوصيات في مذهب المشهور - لكلية الحكم - كذلك هي ملغاة هنا،
وسيوافيك تمام البحث حولها من قريب.
الثاني: في عدم مطهرية المضاف وسائر المائعات
المنسوب إلى المفيد وتلميذه السيد وجماعة من معاصري ابن
إدريس، جواز التطهير بمطلق المائعات (2).
والذي يظهر لي بعد التدبر في كلام السيد صدرا وذيلا المحكي
عن الناصريات وشرح المسائل الخلافية هو أنه من المخالفين
في تلك المسألة، كالفيض الكاشاني (3)، وأنه اتخذ المسألة من المفيد
أستاذه، فإنهما هنا واحد، وإفتاؤه بجواز التطهير بالمسح في الأجسام
الصيقلية دون غيرها، ليس إلا لأجل عدم قوله بالسراية، وأنه مع كون
الجسم صقيلا يتمكن من إزالة الأجزاء النجسة دون غيرها، لأن الأجزاء

1 - وسائل الشيعة 1: 205، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 4.
2 - مفتاح الكرامة 1: 59 / السطر 10، لاحظ الناصريات، ضمن الجوامع الفقهية: 219 /
السطر 3.
3 - مفاتيح الشرائع 1: 77.
73

الصغيرة تدخل الأجواف من الجسم، وهي لا تزول إلا بالماء ومثله، فعليه
لا مخالف في هذه المسألة إلا توهما.
نعم، إطلاق فتوى ابن أبي عقيل (1)، يورث مخالفته طوليا لا عرضيا،
كما مر تفصيله (2).
أدلة مطهرية المائعات ونقدها
ثم إنه يمكن أن يستدل لهذا القول - بعد ما عرفت حال الاجماع
والآيات الثلاث - بنصوص وإطلاقات.
وقبل الإشارة إليهما، لا بد من الايماء إلى نكتة، وهو أن من المحتمل
اختيار السيد في تلك المسألة تنجس الأشياء وسراية النجاسة إليها،
واختياره في هذه المسألة مطهرية غير المائعات أيضا، ولنا اختياره وإن كان
من إحداث القول الثالث كما مضى سبيله.
ولذلك نستدل بالآيتين السابقتين - أيضا - لعموم هذا القول، ولا
يتوجه إليهما الاشكالات المتوجهة إلى الآية الأولى، ولا وجه لدعوى
ورودهما في التطهير بالماء في الاستنجاء، أو الحدث فقط، لأن الروايات
لا توجب حصر العموم في مفادها، كما لا يخفى.
فلو فرضنا قصورهما عن إثبات مطهرية الجوامد في الجملة، فلا
شبهة في دلالتهما على مطهرية المائعات بمقتضى الصناعة، فكما من تطهر

1 - لاحظ مختلف الشيعة: 10 / السطر 26.
2 - تقدم في الصفحة 58، الفصل السابع.
74

بالأحجار مورد حب الله تعالى، ونتيجته جواز الصلاة والطواف وغيرهما،
كذلك من تطهر من نجاسة الدم مثلا بالتراب وهكذا.
نعم، بناء على ما يأتي من استفادة مطهرية المياه المطلقة فقط من
الروايات، يمكن تقييد الآية وتخصيصها.
الروايات الدالة على مطهرية المائعات والجواب عنها
إذا عرفت ذلك فالنصوص كثيرة:
منها: رواية يونس، عن أبي الحسن (عليه السلام) الماضية قال: قلت له:
الرجل يغتسل بماء الورد، ويتوضأ به للصلاة.
قال: لا بأس بذلك (1).
فإنها تدل على إزالة الخبث بالمضاف، وقضية إلغاء الخصوصية
سريان الحكم إلى كل مائع.
ومنها: النصوص الواردة في نفي البأس عن غسل الدم
بالبصاق (2)، وهي نقية السند، تامة الدلالة.
وتوهم إمكان حملها على التقية غير تام، ضرورة أن قوله (عليه السلام): لا
يغسل بالبصاق غير الدم لا يقبل الحمل على التقية، بل حصره خلاف
التقية.

1 - الكافي 3: 73 / 12، وسائل الشيعة 1: 204، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف،
الباب 3، الحديث 1.
2 - وسائل الشيعة 1: 205، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 4.
75

نعم، إعراض المشهور - على إشكال - يوجب وهنها، وكثرة الابتلاء
بمثل ذلك وعدم وضوح الحكم، تكفي لفساد هذا الرأي.
ومنها: ما مر في الأمر الأول من رواية حكم بن حكيم، فإنها ذات وجوه
واحتمالات، ومنها: دلالتها على طهارة اليد النجسة - بالبول - بالعرق
الذي هو لا يقصر من البصاق، فتكون من أدلة السيد على حصول الطهارة
بمطلق المائعات.
ولعمري، إن هذه المسائل الرائجة، لا تثبت بمثل هذه النصوص،
خصوصا بعد إعراض المشهور عنها، ولا سيما بعد موافقتها مع الفتوى
المعروفة عن العامة القائلين بجواز التطهير بالمائعات (1)، فلا ينبغي
التأمل في فساد هذا الرأي أيضا.
كلام صاحب الجواهر ونقده
وأما ما في الجواهر: من الاستدلال على السيد ومن يحذو حذوه،
بالاجماع على نجاسة المائعات بملاقات النجاسة (2)، فتكون الروايات
خلاف ما ذهب إليه المشهور أيضا في تنجس المضاف، فهو غير تام،
ضرورة أن قضية الجمع بين الأخبار - بعد قصور الاجماعات في هذه
المسائل عن إفادة شئ - هو القول بتنجس المائع بورود النجس عليه لا
العكس، فلو ورد المائع الطاهر على النجس فهو يورث طهارته، وهذا هو

1 - الخلاف 1: 59، المبسوط، السرخسي 1: 96.
2 - جواهر الكلام 1: 316.
76

المناسب للاعتبار، كما لا يخفى.
تقريب التمسك بالمطلقات لاثبات مطهرية المائعات
وأما التمسك بالمطلقات، فيتم - على فرض صدق الغسل بمطلق
المائع، وعلى فرض الاطلاق للأوامر الباعثة إلى الغسل في أبواب
النجاسات البالغة حدا لا يحصى - بحمل القيد في المقيدات على
الغالب، وبتكذيب دعوى انصرافها إلى الغسل بالماء، فحينئذ يتم القول
بمطهرية المياه المضافة، خصوصا بعد عدم الدليل على حصر المطهرية
بالماء في المقام، واستفادة الحصر في البول لا يورث الحصر الكلي،
لاختصاصه بأحكام خاصة.
بل الظاهر من قوله (عليه السلام) في أبواب الخلوة: ولا يجزي من البول إلا
الماء (1) أن غير البول يطهر بغير الماء، وإلا يلزم التقييد المستهجن.
اللهم إلا أن يقال: بأنه في قبال قوله (عليه السلام) في الرواية: يجزي من
الغائط المسح بالأحجار فلا دلالة له إلا على أن الغائط أعم، دون البول.
وما أفاده الجواهر: من إهمال المطلقات طرا (2) غير قابل
للتصديق، فإن لسان تلك الروايات مختلف، وفي طائفة منها يكون الحذف

1 - عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: يجزي من الغائط المسح بالأحجار، ولا يجزي من البول
إلا الماء.
تهذيب الأحكام 1: 50 / 147، وسائل الشيعة 1: 316، كتاب الطهارة، أبواب أحكام
الخلوة، الباب 9، الحديث 6.
2 - جواهر الكلام 1: 316.
77

قرينة الاطلاق.
نعم، كثير منها ليس في مقام إفادة كيفية الغسل، بل ربما تكون ظاهرة
في إفادة النجاسة، بإيجاب الغسل، من دون النظر إلى ما يغسل به.
وما أفاده القوم: من أن الماء في طائفة من الروايات جئ لإفادة
المفهوم والاحتراز (1) خال عن التحصيل، ضرورة أن ورود القيد مورد
الغالب لو كان له محل ومورد فهو هنا، فإن الماء الكثير الرائج
والمطهر إلا على المتعارف القليل المؤونة للصرف وغير ذلك، لا يذكر في
الكلام إلا للتعارف وكثرة الأنس به.
وتوهم: أن ذكره مع هذه الشواهد، دليل على أن المتكلم يريد
الاحتراز به، غير ناهض على ما يفهم العرف من هذه القيود.
والعجب من الفقيه الهمداني (رحمه الله)، حيث ظن أن قضية القواعد
حملها على القيدية إذا شك في أنه وارد مورد الغالب!! (2) وذلك لأن
الرجوع إلى تلك القاعدة، يتم في مورد الشك والاحتمال غير المستند،
دون الشك المستقر والاحتمال العقلائي، وقد تقرر في حمل الكلام على
المطلق: أن مع وجود ما يصلح للقرينية، لا يمكن ذلك الحمل، لعدم مساعدة
العقلاء معه (3)، فلا تغفل.
نعم دعوى الانصراف قوية جدا.

1 - التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 42.
2 - مصباح الفقيه، الطهارة: 55 / السطر الأخير.
3 - تحريرات في الأصول 5: 350 - 351.
78

إبطال التمسك بالمطلقات
والذي يسهل الأمر: هو أن جميع هذه المطلقات وتلك العمومات
التي أسسناها في المسألة من الكتاب والسنة، لا تفيد شيئا، بل كلما
ازدادت قوة الدليل على مطهرية المائعات، يعلم ضعف هذا المرام وفساد
هذا الرأي، لأنه لو كان هذا من المذهب، لما خفي على أرباب الأصول
الأولية والثانوية وأصحاب الكتب المدونة في الفتوى من السابقين
واللاحقين، بل يشهر كالشمس في رابعة النهار.
فالحق انحصار المطهر بالمياه المطلقة، كما هو المشهور المعلوم
من المذهب، فلا حاجة إلى تحرير الأمر الثالث، في أن الأدلة قائمة
على مطهرية المياه، بعد بطلان ما يقتضي مطهرية غير المياه من سائر
المائعات، فلاحظ وتدبر.
الفصل العاشر
في انفعال المائعات مطلقا ولو كانت كثيرة،
إلا الماء المطلق إذا كان كرا
أما البحث في الماء المطلق وقليله وكثيره، فسيأتي من ذي قبل إن
شاء الله تعالى.
79

وأما في غيره، فالمشهور بين الأصحاب - بل المجمع عليه (1) - وهو
المعروف في المخالفين (2)، انفعال المياه المضافة وجميع المائعات.
ونسب إلى جماعة منهم عدمه (3)، وهو المنسوب إلى السيد
المرتضى (4)، لأنه يقول بمطهريتها، وإطلاقه يقتضي طهارة النجس الوارد
على المضاف المورود.
وفيه: إمكان المنع، والأمر سهل.
والذي هو المقصود في المقام، إيجاب الاجتناب عن ملاقي
الأنجاس، سواء قلنا بالسراية، أو لم نقل.
نعم، قضية فهم العرف هي السراية، ولكنه ممنوع في موارد مع
وجوب الاجتناب فيها، ضرورة أن القذارات الشرعية لا تسري إلى
الملاقيات عرفا، فلا بد من إقامة الدليل.
مقتضى الأصل العملي في المقام
فبالجملة: مقتضى الأصل عدم وجوب الاجتناب عن الملاقيات، كما
صرح به الجواهر (رحمه الله) (5).

1 - تذكرة الفقهاء 1: 33، منتهى المطلب 1: 22 / السطر 1، ذكرى الشيعة 1: 7 / السطر
الأخير، جواهر الكلام 1: 322.
2 - المجموع 1: 125 / السطر 5.
3 - تذكرة الفقهاء 1: 33، المغني، ابن قدامة 1: 29، الشرح الكبير 1: 31 - 32.
4 - الخلاف 1: 59، الناصريات، ضمن الجوامع الفقهية: 219 / السطر 3.
5 - جواهر الكلام 1: 135.
80

ولا وجه لما قد يتوهم، من أن جعل النجاسة للأعيان النجسة،
يستلزم قهرا وجوب الاجتناب، لأن السراية من تبعات النجاسة في مرتكز
العرف والمتشرعة، بداهة أن ذلك ليس إلا لأجل الأدلة الشرعية،
وللشرع تجويز ارتكاب ملاقي النجاسة، كما قيل به في الوسائط
الكثيرة (1)، فلا إشكال على الأصل المذكور، كما يظهر من الشيخ
الأنصاري (رحمه الله) في كتاب الطهارة (2).
نعم، لا بد من الدليل للخروج عن مقتضاه، من الاجماع والعقل، أو
الكتاب والسنة.
أدلة تنجس المائعات
وما يمكن أن يستدل به عليه أمور:
الأمر الأول: التمسك بذيل العرف
قد تقرر في محله وجوب الاجتناب عن القذر والنجس (3)، وهما من
العناوين العرفية، فكما يجب الاجتناب عن الأعيان النجسة القذرة
العرفية، يجب الاجتناب عن ملاقياتها، لصدق الاسم عليها، فلو وقعت
العذرة في إناء من اللبن، يعد اللبن قذرا، فيجب الاجتناب عنه، لقوله (عليه السلام):

1 - تحرير الوسيلة 1: 123، المسألة 9.
2 - الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 292.
3 - لاحظ مفتاح الكرامة 1: 156 - 158، جواهر الكلام 6: 89.
81

كل شئ طاهر حتى تعلم أنه قذر (1) فإنه يعلم منه لزوم الاجتناب عنه.
نعم، في غير القذرات العرفية تحتاج إلى الدليل، فمثل الكافر
يلحق بالقذارات العرفية، دون ملاقيه، إلا من جهة لزوم خرق الاجماع،
لاستلزامه التفصيل الذي لا يقول به أحد.
وفيه منع واضح، لأنه ليس من الاجماع المعتبر بعد وجود
النصوص في المسألة، فبهذا البيان يثبت السراية في الجملة.
وغير خفي: أن معنى السراية، هو إحداث التكليف الآخر غير
التكليف المتوجه أولا بالأصل، كما أن معناها ليس السراية التكوينية،
حتى يلزم وجود الأجزاء من الشئ الملاقي إلى الملاقي بالكسر، ولذلك
لا نبالي بها مطلقا فتدبر.
إن قلت: لا بد من الالتزام بالسراية، حتى يشمل الدليل الواحد
نجاسة الملاقي والملاقي، فما دام لم يكن اللبن قذرا لا يشمله الأدلة
العامة، وهذا هو النجاسة الاكتسابية قبال الذاتية.
قلت: نعم، إلا أن الجهة المبحوث عنها أعم، ولا يتقوم بذلك.
وبعبارة أخرى: الاستدلال بهذا الوجه، لا يمكن إلا بالالتزام بالسراية
والنجاسة الاكتسابية، حتى تأتي الأدلة المتكفلة لأحكامها هنا، ولكن
نحن في موقف إثبات وجوب الاجتناب عن ملاقيات الأنجاس وإن لم تكن
قذرة عرفا، ولا تكون النجاسة مسرية، فما يظهر من القوم، من تقوم

1 - مستدرك الوسائل 2: 583، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات والأواني، الباب 30،
الحديث 4.
82

المسألة بالسراية (1)، في غير محله.
نعم، في مورد السراية يكون هذا التقرير أيضا، دليلا على لزوم
الاجتناب عن الملاقي، بلغ ما بلغ.
الأمر الثاني: الأدلة اللفظية
قد تقرر في الماء القليل، أن الأدلة اللفظية - بعمومها - قاضية بأن
ملاقاة النجاسة تقتضي السراية، وأيضا تكون الكرية مانعة عن
الانفعال، وذلك لامتناع كون الماء في أصل طبيعته، محكوم الحكمين
المتضادين، وهما الانفعال، واللا انفعال، فيكون في الموضوعين قيدان
وجوديان أو غيرهما، وهما القلة، والكثرة.
ولا يعقل كون القلة موجبة للانفعال، لأنها أمر عدمي، ولاحظ له
حتى يكون له هذه الشأنية، فتكون الكثرة مانعة، وحيث هي منحصرة
بالكرية، فجميع ملاقيات الأنجاس تنجس قهرا، لتمامية المقتضي، وعدم
المانع.
ولو شك في مورد، يكون من الشك في التخصيص، والأصل عدمه.
وتوهم: أنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ممنوع، لأن المفروض استفادة حصر المانع بالكرية في الماء المطلق، فلا وجه
لدعوى أن المقتضي محرز، دون المانع فيما نحن فيه، كما لا يخفى.

1 - جواهر الكلام 1: 322، الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 292، مستمسك العروة
الوثقى 1: 114.
83

مناقشة الدليل السابق
أقول: هذا ما قد أشار إليه الشيخ الأعظم (1)، وقد أتممناه بتقرير منا،
وبهذا البيان يقال بنجاسة المضاف الملاقي ولو كان كثيرا.
ولكنه لو سلمنا جميع ما قد أفاده من الاستفادة في تلك المسألة، لا
يتم الدليل هنا، ولا في الكثير:
أما في الكثير، فلأن الانفعال والتأثر في القليل - في الجملة - أمر
عرفي يدركه العقلاء، وفي غيره لا بد من الالتزام بكشف الشرع، والأدلة
عنه قاصرة، أو الالتزام بالتعبد بالسراية، فهو كذلك، ولا داعي إلى التعبد
في الموضوع بعد إعمال التعبد في الحكم بالاجتناب.
وأما في القليل من المضاف، فلا يتم الدليل فيه أيضا، لأن
المستكشف هناك أمور ثلاثة: اقتضاء الملاقاة للسراية، وقابلية الماء
للانفعال حسب الأدلة الدالة على انفعال الماء القليل، ومانعية الكرية عن
الانفعال، والأمر الأول والثالث في المضاف موجودان ومحرزان، دون
الثاني، لأنه أول الكلام، فالاستدلال به هنا مصادرة كما هو الواضح،
وإثبات قابلية المياه المضافة للنجاسة بأدلتها الخاصة (2)، خروج عن
هذا الدليل كما لا يخفى.
وقد يستدل على المطلوب بالأولوية، فإن الماء القليل إذا كان

1 - الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 292.
2 - التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 51.
84

ينفعل، فالمضاف بطريق أولى، أو الاجماعات المنقولة والشهرات
المحصلة المحققة (1).
وأنت خبير: بقصورهما عن إثبات أمر في المقام.
بل لك الاشكال في الوجه الأول أيضا: بأن ثبوت الصغرى - وهي
القذارة المكتسبة - لا يكفي بدون الكبرى الكلية، ولا دليل على أن كل
قذر يجب الاجتناب عنه إلا ما خرج بالدليل، وقوله (عليه السلام): كل شئ نظيف
حتى تعلم أنه قذر (2) لا يورث الكلية والاطلاق.
إلا أن يقال: بأن مناسبة الحكم والموضوع تقتضي الاطلاق، إلا إذا دل
الدليل، كما في بعض القذرات العرفية.
أو يقال: بأن بناء العقلاء على الاجتناب عن القذرات، وعدم الردع
كاف لاستكشاف اللزوم الشرعي، فتأمل جيدا.
وأما توهم: أن القذر والنظيف في محيط الشرع، غيرهما في محيط
العرف بالضرورة، فهو ممنوع، لما تقرر منا في محله أن الشرع لم يأت
بأمر جديد في هذه المسائل، بل أتى بالقوانين الإصلاحية سعة وضيقا (3).
الأمر الثالث: الآيات
وهي التي يمكن الاستدلال بها على لزوم الاجتناب عن ملاقيات النجس،
ومنها المائعات والمياه المضافة، مثل قوله تعالى: (والرجز

1 - جواهر الكلام 1: 322.
2 - تهذيب الأحكام 1: 285 / 832، وسائل الشيعة 3: 467، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات، الباب 37، الحديث 4.
3 - تحريرات في الأصول 1: 183 - 186.
85

فاهجر) (1).
وقد استدل به السيد في الغنية في مسألة انفعال الماء
القليل (2)، ولا وجه للاختصاص.
ومنها: قوله تعالى في سورة المائدة: (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه) (3).
وقد استدل به جماعة في مسألة حرمة الانتفاع بالأعيان
النجسة (4)، ولا وجه للخصوصية بعد تحقق صغراهما في الملاقيات
بالسراية والاكتساب، لغة وعرفا وطبعا ووجدانا.
ومنها: قوله تعالى (يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم
الطيبات ويحرم عليهم الخبائث) (5).
وقد استدل به جماعة في المسألة السابقة (6)، والأمر كما مضى،
ووجه التقريب في الكل واحد وواضح.
وهكذا قوله تعالى في سوره المائدة: (يسألونك ماذا أحل لهم قل
أحل لكم الطيبات) (7).

1 - المدثر (74): 5.
2 - الغنية، ضمن الينابيع الفقهية 2: 379.
3 - المائدة (5): 90.
4 - تذكرة الفقهاء 1: 464 / السطر 5، مستند الشيعة 2: 395، المكاسب، الشيخ
الأنصاري: 11 / السطر 8.
5 - الأعراف (7): 157.
6 - لاحظ الأم 1: 241، المحلى بالآثار 6: 65، المجموع 9: 35.
7 - المائدة (5): 4.
86

فإن قضية المفهوم ممنوعية الخبائث، ومنها المياه المضافة
الملاقية للأنجاس والمكتسبة للقذارة بها، وتوهم انصراف تلك الآيات إلى
النجاسات الأصلية دون الاكتسابية، لا يرجع إلى محصل.
نعم، هي أخص من المدعى، لعدم حصول القذارة في جميع
الملاقيات كما عرفت.
ولا يخفى: أنه لا منع من التفصيل بين الملاقيات، كما فصل كثير من
المعاصرين في الوسائط الكثيرة (1)، فكما أنهم التزموا به هناك، لعدم
تحقق صغرى الكبرى الكلية الزاجرة عن الأقذار، لقصور السراية
عرفا، ولعدم النص خصوصا إلا في ثلاث وسائط مثلا، كذلك لنا التفصيل
بين ملاقي النجس الذي يعد عرفا مصداق النجس والقذر، وبين ما لا يعد،
بعد ثبوت قصور النصوص الخاصة عن إيجاب الاجتناب على النعت الكلي.
هذا، ولكنك خبير: بقصور هذه الآيات عن إثبات الحكم ولو في
الجملة فيما نحن، وقد تعرضنا لها في المكاسب المحرمة (2)، وأنها
هنالك لا تنفع شيئا، فضلا عن هذه المسألة.
الأمر الرابع: المآثير الكثيرة
وهي واردة في الموضوعات المختلفة المشار إليها في كتب الأصحاب.

1 - العروة الوثقى 1: 173، المسألة 11، تحرير الوسيلة 1: 123، التنقيح في شرح
العروة الوثقى 2: 221.
2 - كتاب المكاسب المحرمة من تحريرات في الفقه (مفقود).
87

مثل ما ورد في نجاسة السمن والزيت وشبهه (1)، بالتفصيل بين الجامد
والمائع، فإنه يعلم منه أن الأمر دائر بينهما، ولا خصوصية للمذكورات.
ومنها: ما ورد في إيجاب إراقة المرق الذي وجدت فيه الفأرة
وماتت (2)، فإنه يعلم منها أن الوجه انفعال الماء المضاف، دون الأمر
الآخر، خصوصا بعد الأمر بأكل اللحم بعد تطهيره وغسله، واحتمال كون ذلك
لرفع المرض الجائي من الفأرة، بعيد عن منساق الأخبار.
ومنها: ما ورد في سؤر اليهود والنصارى (3)، فإن إطلاقاتها تشمل
المضاف وكل مائع، وهكذا ما ورد في سؤر الكلب (4) والخنزير (5)
والنواصب (6)، فإن له من الاطلاق ما يشمل المقام، خصوصا بعد مناسبة
الحكم والموضوع، وأعمية لغة السؤر لكل ما باشره جسم الحيوان.

1 - تهذيب الأحكام 9: 85 / 360، وسائل الشيعة 1: 205، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المضاف، الباب 5، الحديث 1.
2 - الإستبصار 1: 25 / 62، وسائل الشيعة 1: 206، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المضاف، الباب 5، الحديث 3.
3 - الكافي 3: 11 / 5، وسائل الشيعة 1: 229، كتاب الطهارة، أبواب الأسئار، الباب 3،
الحديث 1.
4 - تهذيب الأحكام 1: 225 / 644، وسائل الشيعة 1: 225، كتاب الطهارة، أبواب
الأسئار، الباب 1، الحديث 3.
5 - تهذيب الأحكام 1: 261 / 760، وسائل الشيعة 1: 225، كتاب الطهارة، أبواب
الأسئار، الباب 1، الحديث 2.
6 - الكافي 3: 11 / 6، وسائل الشيعة 1: 229، كتاب الطهارة، أبواب الأسئار، الباب 3،
الحديث 2.
88

ومنها: موثقة عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن الدن يكون
فيه الخمر، هل يصلح أن يكون فيه خل، أو ماء كامخ، أو زيتون؟
قال: إذا غسل فلا بأس (1).
فبالجملة: المتتبع في النصوص والروايات، يطمئن بأن الأمر في
الملاقي للأنجاس، ما ذهب إليه المشهور والأصحاب كلا.
شبهة الجمود على الموارد السابقة وجوابها
ولو كنت في شبهة من التجاوز عن هذه الموارد إلى موارد أخر، ومن
الأخذ بتلك الاطلاقات - كما لا يبعد جدا، فإن شرب الكلب والخنزير من
الإناء، كالنص في أن المشروب هو الماء، كما يشهد به رواية عمار
الساباطي في الأسئار (2)، ولو أريد من الاستدلال بها إلغاء الخصوصية، فهو
خروج عن هذا الأمر، وقد مضى البحث عنه - ومن عدم تمامية أعمية
كلمة السؤر لغة، فإن الظاهر من أقرب الموارد هو بقية الماء في
الإناء، بل قال: ثم استعير لبقية الطعام وغيره (3) تكون المسألة بلا دليل.
والعجب من الحدائق (4) حيث تجاوز عن مورد موثقة

1 - الكافي 6: 427 / 1، وسائل الشيعة 3: 494، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات،
الباب 51، الحديث 1.
2 - تهذيب الأحكام 1: 223 / 641، وسائل الشيعة 1: 229، كتاب الطهارة، أبواب
الأسئار، الباب 3، الحديث 3.
3 - أقرب الموارد 1: 486.
4 - الحدائق الناضرة 1: 392.
89

السكوني (1)، ولم يتجاوز عن مورد صحيحة زرارة!! (2) مع أن الملاك واحد
فتأمل.
هذا، ولكن الانصاف: أن العرف لا يجد في هذه المواضيع خصوصية،
ولو صح في مورد إلغاء الخصوصية، فهو هنا قطعا.
الروايات المعارضة لما دل على التنجس والجواب عنها
ثم إن في المسألة ما يعارضها، مثل ما رواه الكليني، بإسناده عن
سعيد الأعرج، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الفأرة والكلب، يقع في
السمن والزيت، ثم يخرج منه حيا.
قال: لا بأس بأكله (3).
فإنه بعد إلغاء الخصوصية منها، يشكل الحكم بالنجاسة في
جميع الموارد.
اللهم إلا أن يقال: بأن الموضوع في تلك الروايات، هي الفأرة
الميتة، والميتة من كل شئ، والتجاوز هناك - لو أمكن - فهو ينحصر في
مورد الملاقي - بالفتح - وكيفية الملاقاة، دون الملاقي، فتلك الأخبار
كانت في حد ذاتها، قاصرة عن إثبات تنجس المرق بوقوع سائر النجاسات

1 - الإستبصار 1: 25 / 62، وسائل الشيعة 1: 206، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المضاف، الباب 5، الحديث 3.
2 - تهذيب الأحكام 9: 85 / 360، وسائل الشيعة 1: 205، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المضاف، الباب 5، الحديث 1.
3 - الكافي 6: 261 / 4.
90

فيه، وبعد ملاحظة هذه الرواية يفصل بين الميتة وغيرها، من الكلب
الخارج حيا.
ولكنه بعد تبقى المعارضة بينها وبين ما يدل على نجاسة سؤر
الأعيان النجسة.
وهي تندفع: بأن معنى السؤر ليس مطلق المباشر كما أشير إليه،
فعلى هذا يحدث في المسألة قول جديد، حسب الجمع بين الروايات،
فتدبر.
والذي يسهل الخطب، عدم حجية هذه الرواية، لاعراض
المشهور عنها، مع أن في سندها إشكالا، مع أن في بعض النسخ ليس
لفظة الكلب (1) فعليه يتم المطلوب بمقتضى الروايات وإلغاء
الخصوصية من المورد، وبفهم العرف أن الشرع لمكان نجاسة الميتة،
منع عن استعمال الملاقي، فيشترك معها سائر النجاسات، فتأمل جيدا.
وجه آخر لتنجس مطلق المائعات
ومما يشهد على نجاسة المياه المضافة وسائر المائعات، إطلاق
الرطوبة الواردة في الأحاديث التي هي السبب للسراية، وهي الأعم،
ولما كانت النجاسة تسري إلى الجسم بها، فلا بد أولا من نجاستها، وحيث
إن نجاسة الجوامد مورد الاتفاق، وعليها الروايات الكثيرة، فيعلم أن
المائعات أيضا تنجس إلا ما خرج بالنص، كالكر من الماء، فافهم وتدبر.

1 - تهذيب الأحكام 9: 86 / 362.
91

الفصل الحادي عشر
في الفروع المذكورة في المسألة
فمنها: نجاسة المضاف وإن كثر
المشهور بين المتعرضين، نجاسة الكثير كالقليل، واختصاص أدلة
الكر بالمياه، وظاهر تعابيرهم عدم الفرق بين أفراد الكثير، فلو فرضنا
الاوقيانوس من المضاف، فإنه ينجس بملاقاة رأس الإبرة النجس.
اللهم إلا أن يقال: بانصراف كلماتهم عنها (1)، فيكون الاجماعات
المحكية والشهرات المحققة بإطلاقها، شاملة لغير الأفراد الخارجة عن
العادة.
ويظهر من الجواهر (2) وجماعة (3)، كفاية هذه الاجماعات - بعد
إطلاق معقدها - في حكم المسألة، وقد عرفت عدم الاعتداد بها في أمثال
هذه المسائل، كما نص عليه الأصحاب (رحمهم الله).

1 - دليل العروة الوثقى 1: 9.
2 - جواهر الكلام 1: 322.
3 - مصباح الفقيه، الطهارة: 56 / السطر 22، جامع المدارك 1: 19، دليل العروة
الوثقى 1: 9.
92

بيان مقتضى الأصل في المقام
وقد يقال: إن المسألة دائرة مدار أن الأصل نجاسة الشئ
بالملاقاة، أو العكس (1)، وقد مضى بعض الكلام فيه على الوجه
الصحيح (2).
وأما تفسير الأصل، بأن قضية النجاسة سرايتها إلى الملاقيات (3)،
حتى يلزم كونها علة لنقل النجاسة إلى الأطراف، فيكون الماء
المستعمل في الاستنجاء مثلا، طاهرا بالتخصيص، فهو غير راجع إلى
محصل، فإن مسائل النجاسات الشرعية، ليست غير ما عليه الارتكازات
العرفية، فالنجاسة وإن تسري إلى الملاقيات، وتنتقل بأمواج المياه
إلى الأطراف، ولكن ذلك ليس إلا ذوقا خالصا من الدليل، لعدم إمكان
الالتزام بالموارد المختلف فيها أهل الذوق، فربما يجد بعضهم السراية،
وربما لا يجد بعضهم ذلك، فيكون الحكم منوطا بهم كما في الشبهات
الموضوعية.
وبعبارة أخرى: يلزم رجوع هذه المسألة إلى تلك المسائل، وهذا
غير تام حسب ما يؤدي إليه نظر الفقيه، فالأصل المحرر في المسألة،
هو عدم وجوب الاجتناب عن الملاقيات إلا ما خرج بالدليل.

1 - جواهر الكلام 1: 322.
2 - تقدم في الصفحة 80 - 81.
3 - مصباح الفقيه، الطهارة: 18 / السطر 21.
93

التمسك بقاعدة المقتضى وعدم المانع وجوابه
وفي الكثير ربما يذكر أدلة غير ما أشير إليها، ومنها: أن المستفاد من
أدلة النجاسات، سرايتها إلى الملاقيات حسب الاقتضاء لا العلية،
والمستفاد من أدلة الكر انحصار المانعية بالكر من الماء، فعليه يلزم
انفعال الكثير، إلا إذا دل الدليل على خلافه.
وأما تقريبه: بأن الكرية من الماء مانعة، وفيما نحن فيه يلزم انفعال
الكثير (1)، فهو غير مفيد، لأنه مع الشك في المانع لا يمكن الحكم
بالنجاسة.
ويتوجه إلى أصل البرهان: أن المقدمتين غير كافيتين، لأن من
الشرائط قابلية المعلول للتأثر، وهي في الماء ثابتة بمقتضى أدلة انفعال
الماء القليل، فعليه يمكن إتمام البرهان بأن مقتضى الأدلة في المقام
أيضا، انفعال الماء المضاف في الجملة، فالحكم في الكثير قطعي بناء
على تمامية هذه المقدمات.
ولكنك تعلم: أن إثبات الانحصار للكرية بل أنها مانعة عن الانفعال،
في غاية الاشكال، للزوم كون الكثرة القليلة من الكر يسيرا، غير مانع من
تنجس الماء، وإذا بلغت كرا تمنع ولو كان النجس الوارد عليه منا من
البول مثلا، وهذا أمر فاحش فساده.
فتحصل: أن السراية ليست علة، ولا مقتضيا، بل هي نكتة التشريع

1 - الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 300.
94

الكلي، فلو دل دليل على الحكم فهو، وإلا فالأصل متبع.
التمسك بتنجيس المتنجس مطلقا لاثبات تنجس المضاف الكثير
ومما يمكن الاستدلال به على المقصود، هو أن الجامد ينجس
بالرطوبة، فلو لاقى أطرافها برطوبة واردة على الموضع الأول المتنجس،
يتنجس الموضع الثاني وهكذا، وحيث إن المتنجس منجس على الاطلاق،
فيمكن تنجيس الجامد كله بهذه الطريقة (1).
ومن هنا يعلم نجاسة الكثير ولو بلغ ما بلغ، لأن الموضع الأول
ينجس، فإن قلت بنجاسة ذلك الموضع، فلا بد من اختيار نجاسة الكل،
للوجه المذكور، والاستبعاد لذلك ليس أكثر من الاستبعاد لتنجس العالم
بنجاسة واحدة، لعدم انقطاع الحكم، فالنجس من هذا الطرف من العالم،
ينتقل في الجوامد إلى الطرف الآخر منه، فكيف لا ينتقل في المائعات؟!
وإذا كان حكم العرف في مقدار من الماء معلوما، وما زاد عليه صار
مشكوكا، فالشرع القائل بأن ملاقي المتنجس ينجس مطلقا، يرفع الشك،
فإن قلنا في تلك المسألة بما يتراءى من المشهور، فالكثير من المضاف
ينجس، وإلا فلا، فتدبر.
اللهم إلا أن يقال: بأن الحكم هناك في الأشياء الكثيرة المختلفة في
الوجود، ولا يعقل الملاقاة مكررا بين الشئ ونفسه، فلا يحكم بنجاسة
الكثير، فليتدبر.

1 - لاحظ مصباح الفقيه، الطهارة: 56 / السطر 11.
95

التمسك بالمآثير والجواب عنه
ثم إنه قد يتمسك في المسألة بروايات خاصة، ظنا أنها بإطلاقها
تدل على نجاسة الكثير (1)، والذي يظهر لي قصورها:
وأما ما ورد في سؤر النصارى واليهود (2)، وما ورد في المرق
والزيت والسمن وشبهها (3) فعدم إطلاقها بمكان من الوضوح.
نعم، هنا روايتان ربما يستدل بهما عليها:
أولاهما: معتبرة أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ليس بفضل السنور
بأس أن يتوضأ منه ويشرب، ولا يشرب سؤر الكلب، إلا أن يكون حوضا
كبيرا يستقى منه (4).
فإنها بمقتضى إطلاق الجملة الأولى، وظهور الذيل في الماء
الكثير، تدل على نجاسة المضاف الكثير.
وفيه: أن الشرب ظاهر في الماء، وإلا فللمستثنى أيضا إطلاق، لأنه
لو فرضنا الحوض من اللبن، فإنه أيضا لا ينجس.
والعجب أن المستدل يتخيل في روايات القدر المطبوخ فيه اللحم

1 - التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 51.
2 - الكافي 3: 11 / 5، وسائل الشيعة 1: 229، كتاب الطهارة، أبواب الأسئار، الباب 3،
الحديث 1.
3 - وسائل الشيعة 1: 205 - 206، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 5.
4 - تهذيب الأحكام 1: 226 / 650، وسائل الشيعة 1: 226، كتاب الطهارة، أبواب
الأسئار، الباب 1، الحديث 7.
96

إطلاقها، بدعوى القدور الكبيرة المستعملة في الأعراس (1)، ولم ينتقل هنا
إلى ذلك!! ولعمري، إن الحب للأمر يعمي ويصم.
هذا مع أن الظاهر منها لزوم كون الحوض غير المنفعل كبيرا، مع
أنه خلاف الأخبار في مسألة الكر، وحملها على الكر غير صحيح جدا،
فعليه يشكل العمل بهذه الرواية، لاعراض الأصحاب عنها، فافهم.
ثانيتهما: صحيحة زرارة (2)، فإنها أدارت الأمر في نجاسة الملاقي بين
الجمود والميعان، فيعلم علية الميعان، ولأجله تجاوز الأصحاب عن
موردها، فيحكم بنجاسة الكثير، لميعانه.
وفيه: أن الميعان نكتة سراية النجاسة، وهي ممنوعة في الكبير.
خاتمة المطاف في تنجس المضاف الكثير
فعلى هذا تكون الأدلة الاجتهادية، قاصرة عن إثبات الحكم، وقضية
الأصول العملية طهارته استصحابا، وأصالة البراءة عن وجوب الاجتناب
وقاعدة الطهارة والحل.
ولو قيل: بأن القاعدتين لا تجريان في الشبهات الحكمية.
قلنا: في غيرهما الكفاية، بل هو الحاكم عليهما، مع أن المسألة

1 - لاحظ التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 52 - 53.
2 - عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إذا وقعت الفأرة في السمن فماتت، فإن كان جامدا فألقها
وما يليها، وكل ما بقي، وإن كان ذائبا فلا تأكله، واستصبح به، والزيت مثل ذلك.
تهذيب الأحكام 9: 85 / 360، وسائل الشيعة 1: 205، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المضاف، الباب 5، الحديث 1.
97

- في وجه - من الشبهات الموضوعية، لأن وجه النجاسة هي
السراية، وهي مشكوكة في الكثير، فلا تغفل.
ومنها: عدم تنجس الملاقي سواء علا أم سفل
لو لاقى العالي النجس أو بالعكس، فهل ينجس الجميع، أو لا
ينجس مطلقا، أو يفصل فينجس السافل في الأول، دون العالي في الثاني؟
فيه وجوه بل أقوال.
والتحقيق: عدم النجاسة مطلقا، لتعدد الموضوع عرفا، فإن
الموجود في الإناء ساكن، والخارج من فم الإبريق متحرك، وهما لا يعقل
وحدتهما عرفا إلا في بعض الفروض.
ومما ذكرنا يظهر حال المتساوي السطوح، إذا كانت متعددات عرفا،
وإن كان بينها الاتصال الضعيف، وحديث السراية لا يرجع إلى كون
الحكم منوطا بها، بعد ما عرفت حالها، ضرورة أن من المحتمل كون
الوجه في الحكم بالاجتناب عن المائع، كونه واحدا، بخلاف الجامد،
فإنه ينقسم - مع الرطوبة - إلى القسمين: اليابس، والرطب، فيتعدد
الموضوع، فافهم وتدبر جيدا.
وهكذا يعلم حال المضاف الجاري، فإنه لا ينجس بعضه ببعض إذا
كانت المسافة بعيدة، ولا سيما بالنسبة إلى العالي، وضرورة الحكم في
الماء القليل تقضي بأن العالي لا ينجس، ولما كانت السراية من الأمور
السريعة، لا البطيئة، ولا الرقيقة، فيمكن عليها أيضا دعوى طهارة
98

الداني لو تلاقى مع العالي، بشرط جر اليد من تحت الإبريق فورا.
فتحصل: أن الالتزام بالسراية بالمعنى المقصود، وهو حصول
مصداق النجس من دون قيام أجزاء النجاسة بالملاقى، والالتزام بعلية
السراية، أو اقتضاء النجاسة للسراية، وكون الحكم منوطا بها في الأول،
أو كون القاعدة تقتضي النجاسة عند الملاقاة إلا مع الدليل، حتى يلزم
كون المائع المردد بين المضاف والمطلق، أو المردد بين القليل والكثير
نجسا، في حيز المنع، وما يذكر دليلا عليها غير ناهض، لتحمله الاحتمالات
الأخر، فتدبر.
ومنها: أحكام تردد المائع بين المطلق والمضاف
لو تردد المائع بين المطلق والمضاف، يتصور صور، لأنه:
تارة: يكون منشأ التردد الشبهة الموضوعية.
وأخرى: مفهومية.
وثالثة: هما معا.
ولعل ما ورد في كلام الشيخ الأعظم من الشبهة الصدقية (1)
إشارة إلى ذلك.
وعلى التقدير الأول
تارة: حالته السابقة هو الاطلاق.
وأخرى: هي الإضافة.

1 - الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 67.
99

وثالثة: لا تكون له الحالة السابقة.
ورابعة: تكون له الحالتان المتواردتان، والكلام في الأخير يأتي
في المباحث الآتية المناسبة معها.
اختار الكل في الفرض الأول جريان الاستصحاب الموضوعي، وهكذا
في الفرض الثاني، وفيهما بحث، ضرورة أن الاطلاق ليس من قيود الموضوع
في أدلة مطهرية الماء، وهكذا الإضافة، فما هو الموضوع هو الماء.
ثم إن الاطلاق والتقييد، من الأوصاف المنوعة والموجبة لتحول
الموضوع، فكما لو شك في أن الكلب صار ملحا لا يصح التمسك
بالاستصحاب، لأن الوحدة المعتبرة في الموضوع في القضيتين المتيقنة
والمشكوكة، غير محرزة، كذلك الأمر هنا، فعليه لا يمكن - وجدانا - أن يقال:
هذا كان كذا لأنه ربما يكون إشارة إلى ما هو المباين مع السابق، فلا تغفل.
ومن هنا يتجه سقوط جريان الاستصحاب الحكمي، لأن الجامع
المأخوذ في الاستصحاب الشخصي، لا يورث وحدة القضيتين مثلا، فكما
لا معنى لأن يقال: هذا الجسم كان نجسا في المثال المشار إليه، لأن
مصاديقه متبادلة الهوية، كذلك لا يصح أن يقال: هذا المائع كان مطهرا
لأنه المفهوم الجنسي.
فجريان الأصلين الموضوعي والحكمي، مشكل جدا، ودعوى أن الاطلاق
والإضافة من العوارض الشخصية - كالعلم والجهل (1) - فاسدة بالضرورة.
ومما ينبهك على تعدد الموضوع عرفا، ذهابهم إلى طهارة المائع

1 - لاحظ دليل العروة الوثقى 1: 16.
100

المتبدل من الخمرية إلى الخلية وبالعكس، فافهم جيدا.
ثم إن مفهوم الإضافة والماء المضاف ليس موضوعا في
الأدلة حتى يستصحب، بل المستفاد من الأدلة قضية موجبة معدولة
المحمول، وهي: أن المائع غير الماء، لا يطهر واصطياد الموضوع
الكلي المعلوم من الموارد الجزئية، في غاية الاشكال، فعليه يمكن أن
يقال: بعدم جريان الأصل الموضوعي في هذه المسألة، خصوصا لتلك
الجهة، كما لا يخفى.
التردد بين المطلق والمضاف مع عدم الحالة السابقة
وأما في الفرض الثالث، فالمشهور بين المتعرضين عدم ترتيب
أحكام الماء المطلق، وعدم انفعاله بملاقاة النجس، لاحتمال كونه ماء
مطلقا، بعد مفروغية كونه كثيرا وكرا.
نعم، إذا كان قليلا ينفعل، إلا على القول بعدم انفعال القليل، كما إذا كان
كثيرا مفرطا لا ينفعل، بناء على ما مر من عدم انفعال الكثير المضاف.
وقد خالفهم جماعة، كالشيخ الأنصاري (قدس سره) وغيره، وقالوا
بالانفعال (1)، وذلك لأن قضية الأدلة اقتضاء النجاسة للسراية عند
الملاقاة، وإذا شك في وجود المانع، تكون تلك الأدلة مرجعا، لأصالة عدم
التخصيص.

1 - الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 298 و 300، التنقيح في شرح العروة
الوثقى 1: 51.
101

وفيه: أنه لو فرضنا تماميته، يفيد إذا كان الشبهة حكمية، وأما فيما
كانت الشبهة موضوعية - وهو أن الكرية معلوم مانعيتها، ومشكوك
وجودها - فلا يكون المرجع تلك العمومات، للزوم التمسك بالعام في
الشبهة المصداقية، فحصول الأثر لا يعقل إلا بعد المقتضي وعدم المانع،
وإذا شك في الثاني يشك في النجاسة، لأن الملاقاة مقتضية، وليست علة.
ودعوى: أن بناء العقلاء على الاعتناء بالمقتضي عند الشك في
المانع (1)، غير ثابتة.
ولك دعوى: أن الالتزام بالطهارة الظاهرية، لا يورث التخصيص،
حتى يتمسك بأصالة عدمه، لأن مرتبة الحكم الواقعي محفوظة مع
الحكم الظاهري، فعليه يلزم القول بطهارته ولو قلنا بصحة التمسك
بالعام في الشبهة المصداقية، فلا تغفل.
الاستدلال على النجاسة وجوابه
وقد يستدل على النجاسة: بأن المستفاد من الأدلة، أن كل مائع
ينجس بالملاقاة إلا الكر من الماء، وظاهره أن العنوان الخارج أمر
وجودي معلق عليه الحكم، وفي تلك المواضع يستظهر من الدليل أن
الشرط والمعلق عليه هو الأمر الاحرازي، كما في مسألة حرمة النظر
إلى الأجنبية، فإنها ترتفع بالمماثلة والمحرمية الاحرازية، لا الواقعية،
فعليه كما إذا شك في الكرية، يبنى على النجاسة، كذلك إذا شك في

1 - مصباح الفقيه، الطهارة: 75 / السطر 22.
102

المائية، لأن المعتصم هو الماء الكر (1).
وفيه: أنه لو سلمنا جميع المقدمات، لا يمكن الالتزام، لأن الاحراز
- سواء كان جزء الموضوع، أو تمام الموضوع - يكون دخيلا في التنجس،
فيلزم تنجس المائع غير المحرز بالملاقاة وإن تبين بعدها أنه كر من
الماء، فيعلم منه أنه لو كان المستفاد من الأدلة ما ذكرتم، فلا بد من حمل
المستثنى على الأمر الواقعي، مع أن هذا العموم ممنوع، وهكذا يمنع كون
الخارج معنى إحرازيا.
نعم، لا بأس بالالتزام بذلك لو اقتضى الدليل في مورد، كما هو الظاهر.
التمسك باستصحاب العدم الأزلي على النجاسة وما فيه
ثم إن هاهنا طريقا ثالثا، وهو أن قضية استصحاب العدم الأزلي،
إحراز دخول الفرد المشتبه في أفراد العام، وهو عموم دليل الانفعال، ولا
يعارضه استصحاب عدم كونه مضافا، لعدم إثباته أنه ماء (2).
وفيه: - بعد المنع من جريان الأصول في الأعدام الأزلية إلا في صورة،
وما نحن فيه ليس منها، والقائل بجريانه فيها غافل عن الشبهة في
المسألة، وإلا فهي غير قابلة للاندفاع - أنه في هذه المسألة غير تام،
لأن المائية من الماهيات، وليست من أوصاف الموضوع كالقرشية
والقابلية، فلا يمكن أن يقال: هذا كان غير ماء لاحتمال كونه ماء، بخلافه

1 - الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 300.
2 - التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 62.
103

في القرشية.
ولأن العام المشار إليه ليس عنوان غير الماء ينفعل لأنه قابل
للصدق على المجردات وسائر الأشياء غير ما يتنجس أيضا، فما هو
الموضوع هو المائع غير الماء وإحراز بعض الموضوع المركب
بالوجدان، وبعضه بالأصل، لا يوجب إحراز ما هو الموضوع، وهو المعنى
الحرفي والتقيد الواقع في الكلام.
ولو فرضنا أن العموم المستفاد من الأدلة، هو أن غير الماء ينفعل
فلنا دعوى أن الموضوع المستفاد منها في مقابله هو أن غير المضاد وما
يلحق به حكما، لا ينفعل فيكون الأصلان متعارضين، كما لا يخفى.
فالحق في المسألة: هو عدم انفعال المائع المردد، ولا دليل على
تمامية قاعدة المقتضي والمانع، بأن يقال: إن بناء العقلاء على عدم الاعتناء
بالشك في وجود المانع بعد إحراز المقتضي، فيحكم بانفعال الملاقي،
فلا تغفل. هذا كله في الشبهات الموضوعية.
حكم المائع المردد عند الشك في الشبهة الحكمية
وأما في الشبهات المفهومية، فجريان الأصول الموضوعية
والحكمية فيها محل بحث، والتفصيل في الأصول (1).
ولو سلمنا جريان الموضوعية كما هو ليس ببعيد إلا في بعض
الفروض، ففي جريان الحكمية هنا إشكال آخر، وهو أن التعبد بأن ما هو

1 - لاحظ تحريرات في الأصول 8: 542.
104

الموجود في الخارج مطهر، لا يثمر، لأن التعبد بالسبب بما هو السبب، لا
يثبت المسبب إلا عقلا، وهو من الأصل المثبت.
ولو كان مصب الاستصحاب الحكمي قضية تعليقية، وهو أنه كان
إذا يتوضأ بهذا الشئ الخارجي، كان وضوؤه صحيحا فهو في حد ذاته مما
لا بأس به، إلا أنه من التعليقيات الاختراعية، لا الشرعية.
اللهم إلا أن يقال: بأن المستصحب قضية منجزة، وهو أن الوضوء به
كان صحيحا.
ويمكن دعوى: أن استصحاب المطهرية من الأصول الموضوعية،
لأن قضية مرسلة عبد الله بن المغيرة إنما هو الماء أو التيمم (1) هو أن
المطهر وما يتوضأ به هو الماء، فبهذا الأصل يعلم أنه الماء تعبدا، وإذا كان
هو الماء فيندرج في الكبرى الشرعية، كما في الأصول الموضوعية،
فافهم وتدبر جيدا.
حكم التردد في الشبهة المفهومية
ثم إن المائع المردد في الشبهة المفهومية، قد يكون معلوما عدم
إضافته، ومشكوكا مائيته، فإنه حينئذ تجري الأصول الحكمية المنجزة
والمعلقة، ولا يقع التعارض بينهما، لعدم اختلاف حكمهما.
ويمكن دعوى: أن الأصول الجارية في الفرض كلها منجزة، لأن ما

1 - تهذيب الأحكام 1: 219 / 628، وسائل الشيعة 1: 202، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المضاف، الباب 2، الحديث 1.
105

هو المعلوم سابقا، أنه كان غير منفعل، فيستصحب، وعلى هذا كما يمكن
التفصيل في المسألة، فيقال بجريان الأصول المنجزة، دون المعلقة،
لشبهة في كبراها، يمكن عكس ذلك، لأن المنجزة مثبتة، دونها لعدم
تمامية تلك الشبهة، وهذا التفصيل - بعد إمكان التفكيك بين الأحكام - مما
لا بأس به.
وقد لا يكون معلوما عدم إضافته، فإنه حينئذ لا تجري الأصول
الموضوعية، لعدم إحراز الاتحاد المعتبر في جريانها على ما تقرر تقريبه.
هذا تمام الكلام في الشبهة المفهومية من مفهوم الماء.
وأما مفهوم المضاف فلا أثر له، لعدم كونه موضوعا في الأدلة،
واستصحاب عناوين ذاتية من المضاف لا ينفع، فينحصر الأصل بالحكمي،
وحينئذ يلزم التعارض بين التنجيزي والتعليقي، وقد تقرر تقدم الثاني على
الأول في محله (1).
لزوم التيمم والتوضئ عند تردد المائع
ثم إنه فيما لم يعلم حال المائع، يجب عليه التوضي به والتيمم،
لما تقرر من لزوم الاحتياط في الشك في القدرة والعلم الاجمالي
بوجوب أحدهما، إذا لم تكن له الحالة السابقة، أو كانت حالته
السابقة وجدان الماء، فإنه لا ينفع الأصل الموضوعي، لعدم انكشاف
حال المائع به.

1 - لاحظ تحريرات في الأصول 8: 554، الاستصحاب، الإمام الخميني (قدس سره): 143.
106

نعم، إذا كانت حالته السابقة فقد الماء، فالأصل جار، وينحل به
العلم المذكور، والتفصيل يطلب من محله (1).
ويحتمل تعين التيمم عليه في جميع الصور، لما ورد من الأمر
بإهراق الماء (2) فيما هو من قبيل المفروض في المقام، فليتدبر.
الفصل الثاني عشر
كيفية تطهير المضاف والمائعات النجسة
والتي هي المبحوث عنها في المقام، هو إثبات قابليتها للطهارة في
الجملة، أي أن المائع والمضاف - بما هو مضاف - لا يسلب عنه تلك
القابلية بالتنجس كالجامد.
وأما أن كل مائع ومضاف يمكن تطهيره، فهو غير مقصود، لما يمكن
استلزامه الاشكال من الجهات الأخر المانعة من قبوله الطهارة،
الخارجة عن ذات المائع، واللاحقة ببعض مصاديقها، وخلط الأصحاب
أوقعهم في اعتبار بعض القيود في المسألة، من الزيادة على الكرية، أو
إلقاء النجس عليه لا العكس... وهكذا (3).

1 - تحريرات في الأصول 7: 466 - 471.
2 - وسائل الشيعة 1: 151 - 155، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 8، الحديث
2 و 14، وسائل الشيعة 3: 345، كتاب الطهارة، أبواب التيمم، الباب 4، الحديث 1.
3 - جواهر الكلام 1: 323.
107

وجه قابلية المضاف للتطهير والجواب عنه
وغاية ما يمكن أن يقال في المقام لسلب القابلية: أن المطهر هنا
إما هو الانقلاب، فهو لا يفيد، لما تقرر في محله من اختصاصه - للنص - بموضع.
وإما هو الاستحالة، فقد مر الكلام في أنها ليست في مثل المقام من
الاستحالة في الصور النوعية، ولو كانت يعد المعاد عين الأول في نظر
العرف، ويكون من إعادة المعدوم عرفا.
وإما هو الاستهلاك في الماء المطلق المعتصم، بأن تلاقي الأجزاء
المنتشرة المتصغرة الكر والجاري، فإذا عادت - فرضا - يكون طاهرا.
وهذا غير البول المنتشر، فإنه إذا كان في الماء، فلا حكم للشرع
عليه لما لا يرى عرفا، ولكنه لو عادت أجزاؤه هو، تعد بولا وتشمله
أدلة نجاسته.
فبالجملة: ما دام هي في الكر فلا موضوع حتى يكون له حكم، وتظهر
الثمرة في حال العود، ولذلك انتشار الأجزاء في الهواء والماء الكثير
المضاف، مثل انتشارها في المطلق الكثير، في انعدام الموضوع وانسلاب
الحكم قهرا.
فعليه يقال: بحصول الطهارة لتلك الأجزاء بملاقاتها للماء المطلق،
بخلاف أجزاء البول، فالاستهلاك ليس من المطهرات كما توهم، بل
الاستهلاك طريق حصول طهارة المضاف، فيكون المائع قابلا له بالضرورة.
108

ويشكل ذلك أيضا: بأن المائع النجس إن كان غير مضاف، فهو لو كان
قابلا للتطهير، فكان ينبغي الإشارة إليه في النصوص، حتى لا يلزم
الاختلاف في الاقتصاد، ولا يلزم التبذير والاسراف، فإن إهراق السمن
والزيت وإحراقه، دليل على عدم القابلية في نظر الشرع.
وإن كان مضافا كالمرق، فهو أيضا يهراق حسب النص (1) والفتوى (2).
وفي غيره، فحصول الطهارة بعد كون جميع الأجزاء الظاهرية
والباطنية نجسة، يتقوم على القول بإمكان تطهير الصابون والبقولات
التي صار باطنها نجسا، وقد منع كثير منهم عنه (3)، لأن سراية النجاسة
إلى الباطن قليلة المؤونة، بخلاف الطهارة، فإنها متقومة بلقاء الكر
والجاري، دون الرطوبات النافذة.
فالجزء الصغير من المضاف لا بد أن ينقسم، ويكون ذا جهات ست،
وله الباطن والظاهر، وطهارة ظاهره لا تكفي عن باطنه، فكيف يطهر عقلا؟!
بل العرف يجد من النصوص المشار إليها، عدم قابلية الذائب، من
غير فرق بين ما هو الدسم وغيره، خصوصا إذا فرضنا انتشار الزيت في
الماء الحار المغلي.
ولو كان المقصود طهارة المضاف حال الاستهلاك، فهو مثل البول،

1 - الإستبصار 1: 25 / 62، وسائل الشيعة 1: 206، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المضاف، الباب 5، الحديث 3.
2 - صراط النجاة، المسألة 113، الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 299.
3 - العروة الوثقى 1: 113، فصل في المطهرات، المسألة 16.
109

من غير فرق بين الأشياء المستهلك فيه.
بل لو كان آن استهلاكه وملاقاته واحدا، فلا يشترط كون المستهلك
فيه ماء كثيرا، أو مضافا كثيرا، كما فرض السيد في قطرة الخمر الملقاة في
الخل، وظن إمكانه (1)، فراجع.
قابلية المضاف للتطهير في الجملة
هذا، ولكنه مع ذلك كله، التجاوز عن مورد النصوص إلى سائر
المواضيع، غير صحيح، لأن فيها الدسومة المانعة عن قبول الطهارة، مع
أن الأمر بالاهراق والاحراق ليس إرشادا إلى أن تطهيره غير ممكن، بل ربما
كان ذلك لأجل استلزامه تحمل المشاق، مع صرف مقدار من المال.
وتوهم نجاسة الباطن في المقام - كما في الأمثلة المشار إليها -
غير تام، لأن ما هو من الأجزاء نجس يطهر، وما من الأجزاء بالقوة لا ينجس
عرفا، حتى يحتاج إلى التطهير، ولا أقل من الشك، فتدبر.
فتحصل: أن المضاف قابل للتطهير في الجملة.
ولك دعوى طهارة بعض الأصناف منها في صورة الاستحالة
الحقيقية، كما لو صار اللبن نفطا، ودعوى سراية النجاسة من موضع
النجس إلى المستحال إليه، تتم على بعض المباني، وهذا لا ينافي
الجهة المبحوث عنها في المقام.

1 - العروة الوثقى 1: 134، فصل في المطهرات، المسألة 4.
110

تنبيه
المحكي (1) عن بعض كتب العلامة عليه الرحمة، طهارة الماء
المضاف بمجرد الاتصال بالمطلق (2)، وإليه ذهب جماعة في القليل من
المطلق (3)، ولو تم الدليل هناك فلا فارق عند العرف بين الموضوعين،
وحيث إن المسألة هناك محل شبهة، فالأمر هنا أشكل، مع أن في صحة
الاسناد تأملا جدا.
فرع: في أن المضاف قد لا يكون طاهرا ولا نجسا
لو حصل الاستهلاك والإضافة دفعة، كما لو كانت الإضافة من قبل
الأمر الآخر، فمقتضى ما تحرر منا - من أن الاستهلاك ليس من المطهرات،
ولا الاستهلاك بالماء موجبا للطهارة، بل الاستهلاك طريق لإصابة الأجزاء
بالكر ولو كانت الأجزاء مستهلكة بالأمر الآخر (4) - عدم كون هذا الماء
المضاف طاهرا، ولا نجسا، إذا نظرنا إليه بما هو المركب:
أما أنه ليس بطاهر، لأنه صفة معلولة للماء المطلق، فلا بد من
حفظ وجوده للتأثير، ولإزالة الخبث عن الأجزاء المنتشرة، وحيث هو كان

1 - الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 308.
2 - منتهى المطلب 1: 22 / السطر 6.
3 - المبسوط 1: 7، الروضة البهية 1: 13 / السطر 24.
4 - تقدم في الصفحة 108.
111

مضافا في رتبة الاستهلاك، فلا يكون مطهرا، ولا تلك الأجزاء النجسة طاهرة.
وأما أنه ليس بنجس، فلأنه أمر معلول للماء الملقى، وهو لا يبقى
للتأثير، ضرورة أنه حال الالقاء قد لقي المطلق، وهو لا يتأثر منه، وحال
الاستهلاك ليس بشئ عرفا حتى يكون مؤثرا في المضاف، فعليه حكمه
الواقعي في هذا النظر عدم الطهارة والنجاسة، وفي نظر آخر هي الطهارة
كما لا يخفى.
112

المبحث الثالث
أنه لو تغير الماء المطلق
بالنجاسة ينجس
والبحث في هذه المسألة يقع من جهات:
113

الجهة الأولى
في احتمال عدم تنجس الماء المعتصم
بمجرد التغير
هل ينجس الماء المعتصم بمجرد التغير المستند إلى النجاسة أم لا؟
فيه وجهان.
ما ذهب إليه الملة والشريعة هو الأول، مع اختلاف في بعض
الخصوصيات، مثل كونها غالبة وغيره.
وما نحتمله في المسألة هو الثاني، وأن الماء المطلق ما دام لم
يصر مضافا لا ينجس.
أدلة تنجس المعتصم إذا تغير
وذلك لأن ما يدل على مقصودهم هو أن النصوص الصحيحة
115

والموثقة الواردة في المسألة (1)، تدل على أن الماء إذا تغير لونه أو
طعمه أو ريحه بالنجس، فلا يتوضأ منه، ولا يشرب، وهذا هو من الأحكام
الملازمة لاعتبار النجاسة، مع أن التغير أعم من الإضافة، بل لا تحصل
الإضافة بذلك، لما مر أنها غير حقيقة الماء.
هذا مع أن قضية النبوي المنجبر: خلق الماء طهورا لا ينجسه شئ،
إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه اعتبار النجاسة (2).
وهو أيضا قضية ذيل رواية زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام).
قال: وقال أبو جعفر (عليه السلام): إذا كان الماء أكثر من راوية لم ينجسه شئ،
تفسخ فيه، أو لم يتفسخ، إلا أن يجئ له ريح تغلب على ريح الماء (3).
ما يتوجه على القول بالنجاسة
أقول: يتوجه إليها:
أولا: أن نفي الحكمين أعم من اعتبار النجاسة: أما الثاني فهو
واضح، لأنه إذا كان من الخبائث يحرم الشرب.
وأما الأول، فلما سيأتي من صحيحة الحلبي، الصريحة في أن الماء
الآجن - وهو المتغير في الطعم والريح - يتوضأ منه إذا لم يكن ماء صاف.

1 - وسائل الشيعة 1: 137، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3.
2 - المعتبر 1: 40، عوالي اللآلي 1: 76 / 154 و 2: 15 / 29.
3 - تهذيب الأحكام 1: 412 / 1298، وسائل الشيعة 1: 139، كتاب الطهارة، أبواب
الماء المطلق، الباب 3، الحديث 8.
116

وثانيا: أن الماء المضاف ليس المضاف التكويني، بل الماء
المضاف ما لا يعد في نظر العرف ماء، لانسلاب أوصافه الذاتية، ضرورة
أن شيئية الشئ بخواصه، وصورته العرفية، وآثاره البارزة، فكثيرا ما
يتفق أن يصير الماء بالنجس، متغيرا إلى حد الإضافة، فعليه يمكن
الخروج عن إطلاق التغير بالدليل والشاهد.
وثالثا: رواية أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام): أنه سئل عن الماء
النقيع تبول فيه الدواب. فقال: إن تغير الماء فلا تتوضأ منه، وإن لم تغيره
أبوالها فتوضأ منه، وكذلك الدم إذا سال في الماء وأشباهه (1) تدل على أن
المقصود من التغير هو الإضافة، وإلا يلزم إما الالتزام بنجاسة الأبوال من
الدواب، وهو خلاف المشهور.
أو الحمل على التقية، وهو في مورد لم يمكن الجمع العرفي.
أو حمل الهيئة على الكراهة، وهو خلاف الأصل أولا، وثانيا يلزم
التفكيك في الصدر والذيل، لأنه إذا تغير بالدم ينجس، فيلزم التفكيك
في الهيئة، وهو خلاف الفهم العرفي.
فمقتضى الجمع حمل التغير على الإضافة، فيكون الحديث مقيدا
لسائر المطلقات الواردة.
ورابعا: قضية صحيحة الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام): في الماء

1 - تهذيب الأحكام 1: 40 / 111، وسائل الشيعة 1: 138، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المطلق، الباب 3، الحديث 3.
117

الآجن يتوضأ منه، إلا أن تجد ماء غيره فتنزه منه (1) هو أن النواهي عن
الشرب والوضوء، مخصوصة بما إذا لم يكن الماء الصافي، ولا وجه
لحمل الآجن على المتغير من قبل نفسه بعد إطلاقه، ولا سيما بعد الأمر
بالتنزه عنه، فيعلم أن الآجن بالنجاسة لا ينجس لما أمر بالتوضي به.
فالنتيجة: هو أن الشرع المقدس لم يأت في هذه المسألة - من
جهة النجاسة - شيئا جديدا، بل الأخبار في المسألة ناظرة إلى أن
المطلق إذا صار مضافا، ينجس في المقام قهرا للملاقاة، أو ينجس إذا كانت
الإضافة مستندة إلى النجس وإن لم يكن اللقاء.
نعم، قضية الأخبار أمر آخر، وهو وجوب الاجتناب عن الماء غير
الصافي في الشرب والوضوء، أو الغسل أيضا، وهذا مما لا بأس بالالتزام
به بعد عدم حجية رأيهم وفهمهم، فتدبر.
ثم إن مقتضى النبوي والعلوي المعتبر: الماء يطهر ولا يطهر (2)
عدم قابلية الماء للتنجس، لأن الموضوع في القضيتين أمر واحد،
والتصرف فيه بلا وجه، فمفاده أنه لا ينجس حتى يطهر، ولو تنجس
- فرضا - فهو لا يطهر إلا بانسلاب الموضوع بالاستهلاك.
بل قضية بعض المرسلات الآتية بل وغيرها، أن مجرد التغير في
أحد الأوصاف غير كاف، والتغير في جميعها مع الغلبة، يدرجه في

1 - تهذيب الأحكام 1: 217 / 626، وسائل الشيعة 1: 138، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المطلق، الباب 3، الحديث 2.
2 - المحاسن: 570 / 4، الكافي 3: 1 / 1، وسائل الشيعة 1: 134 - 135، كتاب
الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 6 و 7.
118

المضاف قهرا، أو يلحقه به، لموافقة الذوق، ومساعدة الحكم
والموضوع.
وخامسا: أن النبوي المشار إليه مورد الخدشة، وقد طعنه
صاحب الحدائق نهايته (1)، مع أن في دلالته إشكالا، بل هو - فرضا - من
المطلقات المحمولة على التغير إلى حد الإضافة، وفيه من المحتملات
أن يقرأ الفعل في المستثنى مجهولا، أي إلا الماء المتغير لونه أو طعمه
أو ريحه، فإنه ينجسه الشئ وظاهر الفعل المجهول هنا هو التغير
بنفسه أو بشئ طاهر، كما لا يخفى.
ورواية زرارة (2) غير نقية السند، لما فيه علي بن حديد، مع
اشتمالها على اشتراط الغلبة الذي لا يقول به المشهور.
فاستفادة النجاسة للماء المتغير لونه أو غيره، من تلك المآثير
مشكل، والاجماعات المحكية والمحصلات المدعاة (3)، لا تفيد شيئا بعد
وضوح مستند المجمعين، وما في المنتهى: وهو قول من يحفظ عنه
العلم (4) يشهد على أن المخالفين أيضا يوافقونهم، وعليه ينحصر
المخالف بالكاتب، ويجب حينئذ الاحتياط.
فذلكة الموقف ثم إنه لو سلمنا قصور رواية أبي بصير - لما في سندها

1 - الحدائق الناضرة 1: 305.
2 - تقدم في الصفحة 116، الهامش 3.
3 - مدارك الأحكام 1: 28، رياض المسائل 1: 2 / السطر 26، جواهر الكلام 1: 75،
الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 82، مصباح الفقيه، الطهارة: 10 / السطر 6.
4 - منتهى المطلب 1: 5 / السطر 4.
119

محمد بن عيسى بن عبيد (1)، وفيه بحث طويل الذيل - فلا وجه لتقييد
المطلقات.
أو قلنا: بأنها وغيرها متوافقان، ولا دليل على وحدة الحكم، فتبقى
المطلقات بحالها.
أو صدقنا أحد المحامل الأخر حولها، فكفاية هذه المآثير لاعتبار
النجاسة - بعد صراحة صحيحة الحلبي في خلافه - ممنوعة جدا.
بل لنا أن نقول: بأن النسبة بين صحيحة الحلبي وغيرها، عموم
مطلق، لتوافقهما فيما كان الموجود ماءان: أحدهما المتغير، والآخر: النقيع،
واختلافهما فيما لم يكن الماء النقيع، ومقتضى إطلاق الصحيحة جواز
التوضي، وقضية غيرها - بالنص مثلا - عدم جوازه، فيقدم غيرها عليها.
ولكنه مع - ذلك، لا شهادة في تلك الأخبار على اعتبار الشرع نجاسة
المتغير، ومجرد اجتناب العرف في مواقف خاصة، لا يفي لاعتبار القذارة
التي هي موضوع الأحكام الخاصة، فإن تحريم الشرب يمكن أن يكون
لأجل الضرر والخباثة، وتحريم الوضوء لأجل اشتراط كون الماء فيه
صافيا، كما يظهر من بعض الأخبار (2)، ويساعده بعض المطلقات الأخر، ففي

1 - محمد بن عيسى بن عبيد يقطيني ضعيف، استثناه أبو جعفر محمد بن علي بن بابويه
عن رجال نوادر الحكمة وقال: لا أروي ما يختص برواياته....
رجال الطوسي: 422 / 10.
2 - محمد بن علي بن الحسين قال: لا بأس بالوضوء بالنبيذ، لأن النبي (صلى الله عليه وآله) قد توضأ به،
وكان ذلك ماء قد نبذت فيه تميرات وكان صافيا فوقها، فتوضأ به.
وسائل الشيعة 1: 204، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 2، الحديث 3.
120

مرسلة الصدوق قال: وقال الرضا (عليه السلام): ليس يكره من قرب ولا بعد بئر
يعني قريبة من الكنيف يغتسل منها ويتوضأ ما لم يتغير الماء (1).
فبالجملة: استفادة الموضوع من الحكم الأعم، تنحصر بما إذا ساعدها
الاعتبار، وهو هنا ممنوع بعد وجود القرائن.
الاستدلال على عدم نجاسة المتغير المعتصم
ومما يدل على ما أفدناه، ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: الماء لا ينجسه
شئ (2). فمنه يعلم أن المستثنى في الروايات منقطع، وهذا شاهد على أن
المقصود من قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): الماء يطهر ولا يطهر أيضا ما شرحناه وقويناه.
دلالة موثقة سماعة على إرادة القذارة لا النجاسة:
ومما يدل على أن هذه الروايات، ليست في مقام إفادة النجاسة، بل
نفس القذارة العرفية توجب المنع من التوضي والشرب، موثقة سماعة،
عن أبي بصير قال: سألته عن كر من ماء، مررت به وأنا في سفر، قد بال فيه
حمار أو بغل أو انسان.
قال: لا توضأ منه ولا تشرب منه (3).

1 - وسائل الشيعة 1: 141، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 14.
2 - عوالي اللآلي 1: 76 / 153، مستدرك الوسائل 1: 189، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المطلق، الباب 3، الحديث 9.
3 - تهذيب الأحكام 1: 40 / 110، وسائل الشيعة 1: 139، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المطلق، الباب 3، الحديث 5.
121

ولا وجه لحملها على خلاف ظاهرها، بعد اتحادها مع غيرها في
الحكم، بل مقتضى الصناعة عدم نجاسة المتغير بالنجس إذا كان ماء،
لأنه - حسب النبوي والعلوي - لا ينجس، ويكون عمومه قرينة على عدم
اعتبار النجاسة فيما نحن فيه.
نعم، في القليل نلتزم بها، للنص، على إشكال يأتي من ذي قبل (1).
وبعبارة أخرى: يدور الأمر بين التخصيص والتخصص، والثاني متعين
إذا ساعده الذوق والفهم السليم.
والمحصول: أن ما هو مستند المشهور، طائفتان من المأثور:
إحداهما: ما كانت متعرضة للحكم.
وثانيتهما: ما هي ناطقة بالموضوع.
والأولى قد عرفت أنها قاصرة عن إثباتها اعتبار النجاسة، والثانية ما
هي قاصرة سندا ودلالة.
التمسك بالنبوي وجوابه
ولو قيل: بأن النبوي المشهور بين الفريقين مع استناد المجمعين
إليه فهما - لقصور الطائفة الأولى، ولنقل مثل ابن إدريس: أنه متفق على
روايته (2) وللحكاية عن ابن عقيل: أنه متواتر عن الصادق، عن

1 - يأتي في الصفحة 254.
2 - السرائر 1: 64.
122

آبائه (عليهم السلام) (1) - منجبر قطعا سندا، وظاهره أنه الاستثناء المتصل، وأن
الموصول هو النجس، ويؤيده رواية زرارة المتعرضة لاعتبار
النجاسة (2).
قلنا: نعم، إلا أنه لا يفيد المطلوب، ضرورة أن مقتضى القواعد في
الاستثناء عن المنفي، ثبوت نقيض الحكم في المستثنى على الوجه
المذكور في المستثنى منه، فعليه لا بد وأن يصح أن يقال بعد جملة
المستثنى: فإنه ينجسه شئ مع أن الأمر ليس كذلك، بل هو نجس
حسب ما أفتى به المشهور، فيعلم منه أن الموصول هو الماء والاستثناء
متصل فرضا، ولكن الفعل بني على المجهول، أي إلا الماء المتغير لونه
أو ريحه أو طعمه، فإنه ينجسه النجس.
وبعبارة أخرى: الماء المتغير في أحد أوصافه، الموجب لتنفر
الطباع نوعا، ينجس بملاقاة النجس، كما يكون القليل كذلك، فعليه يكون
النبوي غير مربوط بما نحن فيه، ولعله في المضمون أخص من الأدلة
المتضمنة لاعتصام الكر وغيره، ولا بأس بالالتزام به بعد قوة احتمال
الانجبار، فتدبر.
بطلان التمسك بصحيحة زرارة على النجاسة
ودعوى دلالة صحيحة زرارة على النجاسة (3) بعدما عرفت، غير مسموعة،

1 - لاحظ مختلف الشيعة: 2 / السطر 19.
2 - تقدم في الصفحة 116، الهامش 3.
3 - الحدائق الناضرة 1: 179، التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 76.
123

لأن قوله (عليه السلام): إلا أن يجئ له ريح تغلب على ريح الماء (1) ظاهر في أن
الريح مستند إلى غير النجاسة، فإنه حينئذ ينجسه الشئ، فلاحظ
وتدبر جيدا.
مع أنها مشتملة على ما لا يقول به الإمامية، وحملها على التقية
- كما قيل (2) - غير تام، لأنه بنصه خلافها، كما لا يخفى.
ولنا دعوى دلالة صحيح معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:
سمعته يقول: لا يغسل الثوب ولا تعاد الصلاة مما وقع في البئر، إلا أن ينتن،
فإن نتن غسل الثوب، وأعاد الصلاة، ونزحت البئر (3).
ثم إنه يمكن الاستدلال بقاعدة الطهارة، على نجاسة جميع
المستقذرات العرفية إلا ما دل على خلافه، والتغير بالنجاسة من الأقذار
قطعا، فيكون مندرجا في غاية تلك القاعدة، فليتأمل.
الجهة الثانية: في كفاية التغير في صفة واحدة
بناء على نجاسة المتغير، أو وجوب الاجتناب عنه في الشرب
والوضوء والغسل، دون غيرها، فيكون مطهرا من الخبث، وطاهرا في
ذاته، فهل ذلك عند تغيره في جميع الصفات، أو يكفي الصفة الواحدة

1 - تقدم في الصفحة 116.
2 - مقابس الأنوار: 46 / السطر 17.
3 - تهذيب الأحكام 1: 232 / 670، وسائل الشيعة 1: 173، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المطلق، الباب 14، الحديث 10.
124

كاللون وغيره؟
ظاهر المشهور بل هو المجمع عليه، هي الثانية (1)، وهو قضية
المآثير الكثيرة من المعتبرات وغيرها (2)، ولا يعارضها المطلقات، بل
هي تؤكدها.
نعم، قضية صحيحة حريز بن عبد الله، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال:
كلما غلب الماء على ريح الجيفة، فتوضأ من الماء واشرب، فإذا تغير الماء
وتغير الطعم، فلا توضأ منه، ولا تشرب (3) اشتراط الجمع بين الصفة
إجمالا، وظاهر قوله تغير الماء - بقرينة الصدر - هو التغير في الريح.
وهذا هو مقتضى رواية أبي خالد القماط: أنه سمع أبا عبد الله (عليه السلام)
يقول في الماء يمر به الرجل، وهو نقيع فيه الميتة والجيفة.
فقال أبو عبد الله (عليه السلام): إن كان الماء قد تغير ريحه أو طعمه، فلا تشرب
ولا تتوضأ منه، وإن لم يتغير ريحه وطعمه فاشرب وتوضأ منه على نسخة
الإستبصار (4).
وضعف آخر السند ينجبر بحماد بن عيسى، على ما هو المشهور فيهم.

1 - المعتبر 1: 40، منتهى المطلب 1: 5 / السطر 3، رياض المسائل 1: 2 / السطر 26.
2 - وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 9،
و 137 - 141، الباب 3.
3 - تهذيب الأحكام 1: 216 / 625، وسائل الشيعة 1: 137، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المطلق، الباب 3، الحديث 1.
4 - الإستبصار 1: 9 / 10، وفيه: وتوضأ بدل وتوضأ منه، لاحظ جامع أحاديث
الشيعة 2: 9 / 4.
125

ويشهد له ما في مواضع من فقه الرضا (1) فراجع أبواب هذه
المسألة والبئر، فإنه يشهد على أن النسخة عند علي بن موسى كانت
ب‍ " الواو " وجمعا بين الأحاديث اختار شرطية التغير من الأوصاف
الثلاثة.
أقول: قضية بعض نسخ التهذيب (2) تعويض الواو ب‍ " أو " في
الرواية الأولى، فتسقط هذه الأحاديث عن الدلالة، ويبقى سائرها سليما
عن المعارض، ودعوى أنها الواو ممنوعة، بل الظاهر - بقرينة غيرها -
هي أو أو هي معارضة بما في الفقه فتوهم المعارضة بين الأخبار
وسقوطها، والرجوع إلى الأصول العملية، وهي تقضي بطهارة الماء إلى
التغير في جميع الأوصاف، غير تام.
ومما يؤيد هذا التوهم، الملازمة النوعية بين التغير بالطعم
والريح، بل والثلاثة، فلو سبق التغير بأحد الأوصاف، مع التعارف على
التغير بغيره بعد برهة، فلا يحكم بالنجاسة.
وعلى هذا، يمكن دعوى أن الروايات جامعة بين الأوصاف، لتلك
الغلبة، فيتعين القول بكفاية الواحد، لأنه مع الجمع أيضا يثبت
الحكم، فلا تعارض.
وإن شئت قلت: يقع التعارض بين المفهوم والمنطوق، والثاني مقدم،
وإلا فلا مفهوم.

1 - الفقه المنسوب للإمام الرضا (عليه السلام): 91 - 92.
2 - تهذيب الأحكام 1: 216 / 625.
126

الجهة الثالثة: في تنجس المتغير بغير الأوصاف الثلاثة
هل التغير بغير الأوصاف الثلاثة المدركة بالبصر والشم
والذوق، يورث النجاسة؟ ظاهرهم عدمه، ولا خلاف من أحد.
ولكن في المسألة شبهة يشكل حلها، لأن قضية بعض روايات
الباب، أن تمام الموضوع هو التغير، ومنها قول الصدوق: قال الرضا (عليه السلام):
ليس يكره من قرب ولا بعد بئر يعني قريبة من الكنيف فيغتسل منها
ويتوضأ ما لم يتغير الماء (1).
وذيل رواية أبي بصير الماضية: وكذلك الدم إذا سال في الماء
وأشباهه (2) فإنه بعمومه بل وإطلاقه، يشمل جميع التغيرات الحاصلة
من أنواع مشابهات الدم في النجاسة وغيرها.
ومقتضى الروايات الأخر المختلفة في التعديد - فمنها ما يشمل
الثلاثة، ومنها ما يشمل الواحد، ومنها ما يشمل الاثنين - ليس التقييد،
لعدم مساعدة فهم العرف في المقام إلا للمثالية والتعارف، ومقتضى
مناسبة الحكم والموضوع وسريان تنفر الطباع إلى الحرارة الحاصلة
من النجاسة أيضا، هو الأعم.
وتوهم الاجماعات المحصلة على الحصر (3)، في غير محله،

1 - الفقيه 1: 13 / 23.
2 - تقدم في الصفحة 117، الهامش 1.
3 - مقابس الأنوار: 51 / السطر 11.
127

لاحتمال كون نظرهم إلى إثبات الثالثة، لا نفي الرابعة، فتدبر.
مع أنه محتمل كلام الجعفي وابني بابويه، فإنهم - على ما عن
الذكرى -: لم يصرحوا بالأوصاف الثلاثة، بل اعتبروا أغلبية النجاسة
للماء (1) انتهى.
فتوهم الحصر من النبوي وغيره (2)، مبني على فهم القيدية، ولو شك
في ذلك فالمرجع هي الطهارة.
اشكال ودفع
إن قلت: لا نفع في هذه المباحث بعد إنكار نجاسة الماء المتغير،
وحمل النواهي على التحريم في الشرب، لجهة غير النجاسة، وفي
الوضوء على الكراهة، لاقتضاء الطبع ذلك، وهو قاصر عن إثبات
الشرطية وإن مر احتماله، بل وقوته (3).
قلت: لسنا طارحين هذه النصوص، حتى يلزم ما أشير إليه، بل نحن
نقول: بأن المياه المتغيرة تذهب عاصميتها، وتصير قابلا لأن ينجسها الشئ،
سواء تغير بالنجس أو غيره، وهكذا نقول: لو تغير بالنجس، ولم يكن بعد
التغير ملاقيا إياه، فهو لا ينجس.
فعليه لا بد من البحث فيما يوجب ذهاب عاصمية الماء، وأنه هي

1 - مفتاح الكرامة 1: 61 / السطر 20، ذكرى الشيعة: 8 / السطر 11.
2 - لاحظ الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 84.
3 - تقدم في الصفحة 120 - 122.
128

الثلاثة جمعا، أو فرادى حصرا، أو زائدا عليها... وهكذا.
الجهة الرابعة: في أن تغير اللون ملحق بالطعم والريح
لو تغير في طعمه أو ريحه، فلا خلاف من أحد، وعليه الاجماعات (1)
والنصوص (2).
ولو تغير في اللون، ففيه قولان: المشهور من الأقدمين إلى العصر
الأخير، إلحاقه بهما في الأثر (3).
واستشكل فيه: بأن النصوص خالية عن ذكره (4)، ومقصود النافي
منها الرواية المعتبرة، بعد عدم كفاية الاطلاقات، لأنها مقيدة بهما.
ولكنه بمعزل عن التحقيق، وذلك لأن في النصوص روايتين
صريحتين في ذلك، وهي رواية العلاء بن الفضيل، قال: سألت أبا
عبد الله (عليه السلام) عن الحياض يبال فيها.
قال: لا بأس إذا غلب لون الماء لون البول (5) بناء على المفهوم.

1 - المعتبر 1: 40، منتهى المطلب 1: 5 / السطر 3، الحبل المتين: 106 / السطر 12، مدارك الأحكام 1: 29، رياض المسائل 1: 133، مستند الشيعة 1: 11، جواهر الكلام 1: 75.
2 - وسائل الشيعة 1: 137، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3.
3 - المبسوط 1: 5، السرائر 1: 60، تذكرة الفقهاء 1: 15، الحدائق الناضرة 1: 178،
جواهر الكلام 1: 76 - 77.
4 - الحبل المتين: 106 / السطر 13، مشارق الشموس: 203 / السطر 7.
5 - تهذيب الأحكام 1: 415 / 1311، وسائل الشيعة 1: 139، كتاب الطهارة، أبواب
الماء المطلق، الباب 3، الحديث 7.
129

ومعتبرة شهاب بن عبد ربه، قال: أتيت أبا عبد الله (عليه السلام)... إلى أن قال:
قلت: فما التغير؟
قال: الصفرة... الحديث (1).
ولو فرضنا عدم تمامية سند الأولى بمحمد بن سنان (2) كما لا يبعد،
والثانية من جهات عديدة معلومة لأهله، ولكنها عندي غير تامة، فالمتبع
هو رأي المشهور أيضا، لأن تلك الشهرة العظيمة إما جابرة لإحدى هذه
النصوص الواصلة من النبوي وغيره، أو كاشفة عن نص لو وصل إلينا
كنا نفهم منه ما فهمه الكل، أو عن رأي المعصوم (عليه السلام)، فعلى التقادير يتم
المطلوب، إلا على إشكال في مباحث الشهرة، فيرجع إلى محله (3).
إشكال صاحب الحدائق وجوابه
نعم، شبهة ترد عليهم: وهو أن اللون مسبوق الوجود بغيره، فليس هو
دخيلا، للزوم اللغوية، وقد صرح بذلك الحدائق وغيره (4)، وهما أن به

1 - بصائر الدرجات: 258 / 13، وسائل الشيعة 1: 161، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المطلق، الباب 9، الحديث 11.
2 - محمد بن سنان أبو جعفر الزاهري من ولد زاهر مولى عمرو بن الحمق الخزاعي. قال
أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد: أنه روى عن الرضا (عليه السلام) قال: وله مسائل عنه
معروفة وهو رجل ضعيف جدا لا يعول عليه ولا يلتفت إلى ما تفرد به.
رجال النجاشي: 328 / 888، وضعفه الشيخ الطوسي في كتابيه، لاحظ رجال الطوسي:
386 / 7، الفهرست: 143 / 609.
3 - تحريرات في الأصول 6: 388 وما بعدها.
4 - الحدائق الناضرة 1: 181، الحبل المتين: 106 / السطر 15، جواهر الكلام 1: 77.
130

يعلم وجه إهمال اللون في بعض النصوص والآراء، غفلة عن لزوم لغويته
في الاعتبار، كما تقرر في محله.
اللهم إلا أن يقال: بغالبية المسبوقية، وهي تكفي للفرار عن اللغوية،
وتوهم كفاية المقارنة فاسد، فلا بد من كون كل واحد منها مختلف الوجود
سابقا ومسبوقا.
بل لو كان السبق نادرا بحيث يلحق بالعدم، ففي صحة جعله شرطا
مستقلا وسببا أيضا إشكال، بل منع.
ثم إنه قد يشكل الأمر في اللون: وهو أنه من النور، وليس منه
الأثر في الليل، ويلزم نجاسته في النهار، وطهارته في الليل.
وفيه ما لا يخفى، مع أنه من الممكن دعوى إلحاقه به، كما في
كثير من المسائل الشرعية، فتأمل جيدا.
الجهة الخامسة: في تنجس جميع أقسام المياه بالتغير
مقتضى إطلاق النص (1) والفتوى (2)، وعليه دعوى الاتفاق (3)، عدم
الفرق بين أقسام المياه، وتوهم اختصاص الحكم بغير الجاري، ظنا أن
بعضه يطهر بعضا، وهذا معناه عدم تنجسه مطلقا، غير تام.

1 - وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 9.
و 158، الباب 9، الحديث 1، و 204 أبواب الماء المضاف، الباب 3.
2 - الحدائق الناضرة 1: 178، جواهر الكلام 1: 75، العروة الوثقى 1: 30، فصل في
المياه، المسألة 9.
3 - منتهى المطلب 1: 5 / السطر 3، الحدائق الناضرة 1: 178، جواهر الكلام 1: 75.
131

نعم، قد يشكل الحكم في بعض المياه، وذلك لأن قضية الاطلاقات
في خصوص كل ماء، عدم تنجسه حتى بالتغير، وتكون النسبة بينها وبين
المطلقات فيما نحن فيه، عموما من وجه، فلو لم يكن مقيدات في خصوص
بعض المياه - كالبئر، والكر، كما في صحيحة محمد بن إسماعيل بن
بزيع (1)، ومعتبر أبي بصير (2) وغيره (3) - كان لتقديم المطلقات فيما نحن فيه وجه
واضح، وذلك للزوم لغويتها لو أعملنا قواعد باب التعارض، من سقوطهما،
والمراجعة إلى الأصول العملية، وهي قاعدة الطهارة، والاستصحاب.
فعليه يتعين الأخذ بإطلاق صحيحة حريز بن عبد الله، الناطقة بأن
الماء المتغير ينجس (4) مثلا، وحملها على الماء الأعم من الحقيقي

1 - عن الرضا (عليه السلام) قال: ماء البئر واسع لا يفسده شئ إلا أن يتغير ريحه، أو طعمه، فينزح
حتى يذهب الريح ويطيب طعمه، لأن له مادة، الإستبصار 1: 33 / 87، وسائل الشيعة 1
: 172، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 14، الحديث 6.
2 - عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، أنه سئل عن الماء النقيع تبول فيه الدواب؟ فقال:
إن تغير الماء فلا تتوضأ منه، وإن لم تغيره أبوالها فتوضأ منه، وكذلك الدم إذا سال في
الماء وأشباهه. تهذيب الأحكام 1: 40 / 111، وسائل الشيعة 1: 138، كتاب الطهارة،
أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 3.
3 - عن أبي خالد القماط، أنه سمع أبا عبد الله (عليه السلام) يقول في الماء يمر به الرجل، وهو نقيع
فيه الميتة والجيفة، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): إن كان الماء قد تغير ريحه أو طعمه فلا تشرب
ولا تتوضأ منه، وإن لم يتغير ريحه وطعمه فاشرب وتوضأ.
تهذيب الأحكام 1: 40 / 112، وسائل الشيعة 1: 138، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المطلق، الباب 3، الحديث 4.
4 - عن حريز بن عبد الله، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: كلما غلب الماء على ريح الجيفة
فتوضأ من الماء واشرب، فإذا تغير الماء وتغير الطعم، فلا توضأ منه ولا تشرب.
تهذيب الأحكام 1: 216 / 625، وسائل الشيعة 1: 137، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المطلق، الباب 3، الحديث 1.
132

والمضاف، فيكون الخارج الحقيقي، والباقي المجازي، غير صحيح.
ولكن مع الأسف، بعد وجود المقيدات في البئر والكر، دون غيرهما
من المطر والجاري والحمام، تنقلب النسبة في خصوص تلك المياه،
ويكون مفاد الاطلاق فيما نحن فيه والمطلقات - بعد التقييد في خصوص
الماءين - واحدا، والنسبة باقية مع المطلقات في غيرهما، وقضية
القواعد طهارة الماء الجاري والمطر والحمام، ولو تغير بالنجس.
نعم، يمكن دعوى إنكار إطلاق الأدلة في خصوص الماء الجاري،
فيبقى إطلاق الأدلة في هذه المسألة بلا معارض، فيؤخذ به، ولكنه في
المطر والحمام غير ممكن.
اللهم إلا أن يقال: بأن مناسبة الحكم والموضوع وإلغاء
الخصوصية، يقضي بعدم الفرق بين المياه، والتفكيك يحتاج إلى دليل
صريح فيه.
بل لك دعوى تقدم المطلقات في هذه المسألة على غيرها، من غير
ملاحظة النسبة، لأظهريتها من غيرها في مورد التصادم.
أو يقال: بأن الماء في قوله (عليه السلام) مثلا: الماء إذا تغير ينجس من
العناوين المشيرة إلى أنواعه، وهذا أمر رائج في العناوين التي يكون
لأنواعها الأحكام الخاصة، أو لأصنافها، دون نفس الطبيعة من حيث هي
133

هي، وعندئذ تكون النسبة عموما مطلقا، كما لا يخفى.
الجهة السادسة: في الشرائط الدخيلة في تنجس الماء المتغير
وهي أمور، على المعروف بينهم:
فمنها: كون التغير مستندا إلى الملاقاة
ولا يكفي بالمجاورة ولو تغير في جميع أوصاف النجس، وعليه
حكاية الاجماع (1)، ولا يوجد الخلاف من أحد.
ولكن التحقيق: عدم الفرق، لأن التفكيك في هذه المسائل العرفية،
يحتاج إلى دليل صريح ينادي بأعلى صوته، ضرورة أن المستفاد من
الأدلة، ليس إلا أن المناط، هو التغير الحاصل في الماء من النجس،
سواء كان بالملاقاة، أو بالمجاورة، أو بهما معا، أو بالمجاورة مع الملاقاة
غير الدخيلة... أو غير ذلك.
ولعمري، إن هذا التقييد من أعاجيب ما وقع في كلام القوم، فإنه يلزم
منه طهارة المتغير في اللون والريح والطعم وغيرها، ونجاسة المتغير
في اللون فقط!! من غير استفادة العرف خصوصية للملاقاة، فكونه مستندا
إلى الملاقاة، تعبد صرف ومحتاج إلى الاعمال بالدليل الواضح المتقن،
لا الاستظهار، فلو لم يكن إطلاق في الأدلة، وكانت الروايات منحصرة بما
يشتمل على قضايا جزئية، كان القول المذكور متعينا عند المتدبر والمتأمل.

1 - جواهر الكلام 1: 82.
134

ولعمري، إنه لا يحتاج إلى التدبر، بل لو كان في كلام الشرع قيد
الملاقاة، لكنا نطرحه، لكونه غير دخيل في نظر العرف، ويكون من
القيود الغالبية، ولو كان في العالم مورد لالغاء الخصوصية فيها، هو
هذا بلا شك وارتياب.
ومن المؤسف عليه، وجود الاطلاقات في المآثير (1)، خصوصا في
صحيحة حريز بن عبد الله، عن أبي عبد الله (عليه السلام) الماضية، فإنه (عليه السلام) فيها
- مبتدئا بالكلام - لم يعتبر هذا القيد، بل في بعض الأخبار ألغى قيد الملاقاة
المفروض في السؤال، فقال (عليه السلام): إذا كان النتن الغالب على الماء، فلا
يتوضأ، ولا يشرب (2).
فبالجملة: حمل المطلق (3)، ودعوى الانصراف (4) وغير ذلك (5) في
المسألة من الغفلة جدا.
الفرق بين الكثير والقليل من ناحية الملاقاة
ومن العجب، توهم جماعة (6) ومنهم الوالد المحقق - مد ظله (7) - أن

1 - وسائل الشيعة 1: 137، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 3.
2 - تهذيب الأحكام 1: 216 / 624، وسائل الشيعة 1: 139، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المطلق، الباب 3، الحديث 6.
3 - التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 80.
4 - مستمسك العروة الوثقى 1: 119، دليل العروة الوثقى 1: 36.
5 - الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 84.
6 - الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 84، مصباح الفقيه، الطهارة: 10 / السطر 18.
7 - الطهارة (تقريرات الإمام الخميني (قدس سره) الفاضل اللنكراني: 11 (مخطوط).
135

هذه المسألة مثل مسألة انفعال الماء القليل، فكما هناك لا بد من الملاقاة،
كذلك هنا، إلا أن هنا زيادة عليها، وهو التغير!!
وذلك لأن هناك لولا الملاقاة، لا معنى لاعتبار النجاسة، لعدم
وجود الأثر منها فيه، بخلاف ما نحن فيه، فإنه أثر في طعمه وريحه ولونه
وغيرها أشد من التأثير بالملاقاة.
فعلى ما تقرر، تكون طائفة من الروايات، ظاهرة في أن موضوع
وجوب الاجتناب أو النجاسة، هو الماء المتغير بالنجس، لا المتغير
المطلق، ولا المتغير به بشرط الملاقاة، ولا بحال الملاقاة بنحو العلية
الناقصة، أو العلية التامة.
بحث: في تنجس الكثير إن تعفن بمجرد الملاقاة للنجاسة
يمكن دعوى قصور المآثير عن دلالتها على أن المتغير بالنجس،
يكون نجسا فقط، بل مقتضى النصوص هو أن المتغير المتعفن المنزجرة
عنه الطباع المتعارفة، ينجس بملاقاته للنجس، وما ورد في الأسئلة من
مصاديق هذه الكلية، وما وقع جوابا عنها (1) يفيد هذه الكلية، لعدم ورود
القيد في المآثير المفيدة لهذه الخصوصية، وقد مضى شطر من البحث
حول تلك الجهة سابقا.
وهذا هو الظاهر من صحيحة ابن بزيع، عن الرضا (عليه السلام) قال: ماء البئر

1 - وسائل الشيعة 1: 138 - 139، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3،
الحديث 8 و 10 و 12.
136

واسع لا يفسده شئ، إلا أن يتغير ريحه أو طعمه، فلينزح حتى يذهب الريح،
ويطيب طعمه، لأن له مادة (1).
لأن الظاهر هو هكذا إلا أن يتغير ريحه أو طعمه، فإنه حينئذ يفسده
الشئ، فينزح حتى لا يفسده الشئ، والسر في ذلك أنه له مادة.
نعم، ظاهر النبوي بناء على ما اشتهر من قراءة كلمة غير في
المستثنى معلوما، هو أن التغير مستند إلى النجاسة، وأما على قراءتنا
- وقد مضى وجه تعينها - فالكلمة مجهولة، والموصول كناية عن الماء،
ولعل لفظة الموصول محرف ماء، أي إلا ماء غير لونه وريحه
وطعمه، فإنه ينجسه الشئ وعليه يكون مفاده متحدا مع مفاد
الصحيحة وغيرها.
ومنها: كون المتغير متحدا مع المغير في الصفة
والبحث هنا يتم في مراحل:
الأولى: في أنحاء تغير الماء بنجس العين
إذا كان المغير من الأعيان النجسة:
فتارة: يتحد المتغير معه في الوصف.
وأخرى: يخالفه فيه، ولكنه متحد معه في الجنس القريب، فيكون

1 - الإستبصار 1: 33 / 87، وسائل الشيعة 1: 141، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 3، الحديث 12، و 172، الباب 14، الحديث 7.
137

نتنا ومتعفنا ومتنفرا منه الطبع، بأن يكون وصفا للنجس الأخر مثلا.
وثالثة: بأن يكون وصفا ثالثا، ولكنه مورد النفرة.
ورابعة: بأن تغير الماء بزوال الوصف العرضي.
وخامسة: بأن تغير باكتساب الوصف الأحسن.
وسادسة: بأن تغير بقذارة بدن الكافر الذي لا وصف له بذاته حتى يسري.
لا شبهة في نجاسته في الفرض الأول، ومقتضى الاطلاقات نجاسته
في غيره أيضا.
اللهم إلا أن يقال: بأن الظاهر من النصوص الخاصة والأسئلة،
اعتبار الإنتان، وهذا هو المساعد لفهم العرف، لمناسبة الحكم
والموضوع.
ويمكن دعوى اختصاص النجاسة بالفرض الأول، لقوله (عليه السلام):
كلما غلب الماء على ريح الجيفة (1) الظاهر في لزوم الاتحاد في الوصف
مع التعارف في ذلك.
ولكن الانصاف: كفاية غلبة النتن على الماء من قبل النجس في
تنجسه، بل الظاهر أن الماء المفروض في النبوي وغيره، هو الماء
الخالص، لا الماء المتغير في أوصافه بنفسه، واستعمال كلمة الريح
واللون والطعم إما لاشتماله عليها وإن لا يدركه نوع الناس، أو
للمشاكلة.

1 - تهذيب الأحكام 1: 216 / 625، الإستبصار 1: 12 / 19، وسائل الشيعة 1: 137،
كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 1.
138

ولو فرضنا أن استعماله، لأجل تعارف اتصاف نوع مصاديقه بها من
قبل نفسه، أو الجسم الطاهر، خصوصا في مناطق الروايات، ولكنه لا
يورث ظهورها في أن التغير بذهاب الوصف العرضي كاف.
كما أن دعوى: أن العرف يفهم منها، لزوم وجود الوصف في الماء
بالمغير، وهذا من زواله به، غير كافية، لامكان دعوى أن عود الوصف
الأصلي عندهم، من قبيل حدوث الوصف الجديد، فلا تغفل.
الثانية: في حكم تغير الماء بالمتنجس
إذا كان المغير من الأعيان المتنجسة الحاملة لوصف النجس،
كما لو تغير مقدار من الماء بالدم، ثم ألقي في الكر فتغير، فمقتضى الاطلاق
النجاسة، وهكذا مقتضى أن المياه الكثيرة، تتغير بالماء المتوسط بين
الجيفة وبينها، ولا يمكن الالتزام بعدم نجاستها.
وهذا مقتضى عدم إدراك الخصوصية، بعد اقتضاء المناسبة الأعمية.
ويدل عليه ما ورد في البئر القريب من الكنيف (1)، كما لا يخفى.
ولو استشكل في الوجوه كلها كما يمكن، ولكن الوجه الأخير ظاهر
ومتعارف فيما نحن فيه، فتأمل.
والذي هو التحقيق: أن كلمة شئ في النبوي، ليست كناية عن النجاسة،
ولا يختص بالنجس من الأعيان، بل الظاهر منه هنا - كما في روايات الكر -

1 - وسائل الشيعة 1: 141، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 14،
و 171 الباب 14، الحديث 4، و 197 - 200، الباب 24.
139

كل ما يمكن أن يتنجس منه الشئ الآخر، ويحصل من قبله التغير، فلو
انتقل وصف النجاسة إلى الماء، ولم يكن الناقل نجسا - كما إذا كان
الجسم بالمجاورة حامله، فلاقى الكر من الماء وغيره - فإنه لا ينجس.
نعم، لا يشترط كون المتنجس المغير، نجسا بالوصف الحاصل
فيه، بل لو كان الماء فيه ريح الجيفة بالمجاورة، وتنجس بأمر آخر، فإنه
شئ نجس غير وصف الماء، ولكنه يأتي النظر فيه أيضا.
نعم، إذا كان المتنجس حامل وصف غير النجاسة، فإنه لا يورثها،
لانصراف الدليل عنه، لأن من مناشئه في هذه المواقف، استقذار الطباع
بعنوان النجس، وهو هنا ممنوع كما لا يخفى.
عدم اختصاص الحكم بالمتنجس المنجس
ثم إنه هل يختص الحكم بالمتنجس المنجس، أم لا؟ فيه وجهان.
لا يبعد الثاني، لأن عدم نجاسة الشئ بملاقاته، لا ينافي نجاسته
باستهلاكه فيه، وإيراثه مثله في الوجود والاعتبار، فإن الظاهر من الأدلة
أن الماء المتغير اعتبر نجسا بالتغير، لا متنجسا، فيكون من الأعيان النجسة.
ولذلك لا ينافي حصر القول بالنجس العين فيما نحن فيه، الالتزام
بنجاسة الطرف الآخر من الماء الملقى فيه الجيفة، لأن الماء الملاقي
معها يعد من الأعيان النجسة، ولا يقبل الطهارة إلا كما يقبل سائر الأعيان
النجسة، فما أفاده الأصحاب في المقام (1)، غير قابل للركون إليه.

1 - كشف اللثام 1: 26 / السطر 35، جواهر الكلام 1: 83 - 84، مستمسك العروة الوثقى 1: 120.
140

فعلى هذا، لو ألقي مقدار من المتغير في الكر وغيره، فإنه ينجس،
لكونه - في الاعتبار - من النجاسات الذاتية، كالكافر.
فبالجملة: الأعيان النجسة الموجبة للتغير، مشمولة للمطلقات،
والمتنجسات بغير التغير خارجة عنها، لما يستظهر من المآثير أنها بصدد
اعتبار النجاسة العينية للماء المتغير، فإنه لا يقبل الطهارة إلا بزوال
الوصف، فهو مثل الكافر في الأعيان النجسة، لخروجه موضوعا عن
عنوان النجس.
ولو ألقي في الكر، فإن عاد مع وصف التغير، فهو نجس أيضا كما في
البول، وإلا فهو مثل الخروج الموضوعي عن تحت الدليل، فعلى هذا فيه
اعتبار العين النجس قطعا، فإذا ألقي في الكر وتغير به، فهو ينجس.
ومما ذكرناه يظهر وجه القول بالطهارة في المرحلة الثالثة، كما
أشير إليه آنفا، ولا حاجة إلى التكرار، كما يظهر مواقف الخلل في
كلمات القوم - رضوان الله تعالى عليهم -.
وعلى هذا، يظهر أيضا وجه ما نسب (1) إلى السيد في الجمل (2)
والشيخ في المبسوط (3) مع حكاية الاجماع عنه على التنجيس (4)، إلا
أن مصب كلامهم يحمل على الماء المتغير بالنجس، لا المتنجسات الأخر،
فتدبر.

1 - كشف اللثام 1: 26.
2 - رسائل الشريف المرتضى 3: 22.
3 - المبسوط 1: 8.
4 - مفتاح الكرامة 1: 62 / السطر 3.
141

إشكال ودفع
إن قلت: بناء على هذا، يلزم طهارة الماء المتغير بزوال التغير،
لاندراجه في الموضوع الآخر، كما لو أسلم الكافر.
قلت: نعم، ويشبه حينئذ العصير المغلي، فإنه نجس العين، ولكنه
إذا ذهب ثلثاه، يندرج تحت العنوان الآخر الطاهر العين.
ولكنه لا يلزم ذلك، ضرورة أن عنوان الماء المتغير موضوع
النجاسة، وإذا صدق في الخارج على موجود أنه الماء المتغير صدق
أنه نجس ويكون التغير من عوارض الماء، فإذا زال التغير يقصر الدليل
الاجتهادي عن اعتبار النجاسة له بعده، وهكذا الدليل الاجتهادي عن
إدراجه في الماء الطاهر، لاحتمال كون التغير بعد العروض، موجبا
لنجاسته بقاء، أو حدوث الجهة الأخرى لبقائه على النجاسة.
ومنها: كون التغير حسيا لا تقديريا
وتحقيق المسألة يظهر بالتدبر في أن النجاسات مختلفة في الأثر،
فإن منها ما لا يورث تغيرا بنوعه، كالكلب والخنزير والكافر، فلا معنى
لكون تقديره بالجيفة موجبا لنجاسة الماء.
ومنها: ما لا يورث بصنفه، كبعض الأبوال من بعض البلاد، فهو أيضا
مثل سابقه.
ومنها: ما لا يورث لقصور في شخصه، فهو كذلك.
142

والتغير تارة: يحصل في الماء، لتمامية علته من وجود المقتضي،
وعدم المانع، بعد لحاظ أنه تدريجي الوجود، ولكنه لا يدرك بالحواس،
فهذا لا معنى لكونه موضوعا للحكم إلا على الوجه الآتي فساده.
وأخرى: يحصل فيه ويدرك بالآلة، ويدركه القوي من الناس أو
الحيوانات، فهو أيضا ليس موضوعا للحكم، لأن المدار على المتعارف،
فلا معنى لالحاق التقديري منه به.
وثالثة: ما يدركه الناس، إلا أنه تغير في نهاية الضعف، بحيث يقال:
هو أخذ في التعفن والتغير فإن اعتبرنا الغلبة، فهذا محكوم بالطهارة
بكلا المعنيين الآتيين في الغلبة، وإلا فهو محكوم بالنجاسة.
والتقديري منه أيضا محكوم بالطهارة، لرجوعه إلى تقدير
الوجود وتقدير موضوع الحكم، ولو كان التقدير في هذه المواقف، موجبا
لالحاق الحكم بالمقدر يلزم لغوية أخذ الشئ موضوعا.
ورابعة: ما بلغ غايته في التغير، فإنه حينئذ يلحق بالتقديري منه
حكما، لرجوعه إلى أن عدم إدراكه لوجود المانع من الظلمة والغيم،
أو الشرط وهو النور... وهكذا، أو لعدم البصر والذوق.
أنحاء قصور شخص النجس
ثم إن قصور شخص النجس:
تارة: يكون لاشكال في الاقتضاء، كما مر.
وأخرى: لعدم الشرط، مثل الحرارة، أو وجود المانع مثل البرودة.
143

وثالثة: لاتحاد الماء معه في الصفة، فيكون هو الأبيض وهكذا
النجس، أو هو الأحمر والملقى فيه الدم... وهكذا.
والظاهر هو الحكم بالطهارة، إلا إذا اشتد الوصف بالنجس، فإنه
نجس، لحصول التغير.
توهم ودفع
إن قيل: ليس التغير من العناوين الذاتية، بل هو الطريق إلى
موضوع آخر، وهو استهلاك مقدار من النجس في الماء، ويختلف المقدار
حسب اختلاف الماء، وهذا المقدار يعلم بالتقدير بالماء المتغير به.
قلنا: نعم، ولكنه مجرد إمكان، ولا يساعده ظواهر المآثير، وهكذا
مفهوم الغلبة فإنها لا تدرك إلا بالحواس، فتوهم أنها تساعد الأمر
التقديري، في غير محله وإن كان من بعض الأجلاء (1).
ومن عجيب البحث إطالة الكلام حول لزوم اجتماع المثلين
والضدين (2)!! الذي هو الأجنبي عن المقام، كما لا يخفى على ذوي الأفهام.
فرع: في حكم تغير الماء عند طائفة دون أخرى
لو كان الماء متغيرا عند طائفة، وغير متغير عند أخرى، لاختلاف

1 - الحدائق الناضرة 1: 182.
2 - لاحظ مصباح الفقيه، الطهارة: 11 / السطر 30، مستمسك العروة الوثقى 1: 122،
دليل العروة الوثقى 1: 42.
144

مداركهم، واختلاف عاداتهم وملكاتهم، فهل يلحق الثاني بالأول، أو ينعكس،
أو هو طاهر عند قوم، ونجس عند آخرين؟
وهذا يرجع إلى البحث حول أن موضوع النجاسة، هو التغير
الواقعي، أو التغير جزء، والادراك جزؤه الآخر.
فإن قلنا بالأول، فعلى القوم الثاني تبعيتهم للأول، وتصديقهم في
حصول الموضوع، وهم في حكم البينة القائمة على الموضوع الشرعي.
وإن قلنا بالثاني، فيلزم اختلاف الحكم الواقعي حسب اختلاف
نظرياتهم.
وإن قلنا: بعدم لزوم تصديقهم في دعواهم التغير، فيلزم اختلاف
الحكم الواقعي والظاهري، حسب اختلاف إدراكاتهم.
وجوه.
وهنا وجه آخر، وهو أن موضوع النجاسة، هو التغير الواقعي
البالغ مرتبة الإحساس، فلو اختلفت الطوائف في الحس، فكل يتبع
حسه وعقيدته، ولازمه كون الماء الواحد طاهرا ونجسا واقعا، والالتزام
به مشكل جدا.
ودعوى لحوق كل قوم خارج من المتعارف بالآخر، مسموعة، إلا في
مفروض البحث. وهو ما لا ثالث في البين، حتى يكون هو المرجع في
الخروج عن المتعارف وعدمه، وهذا أيضا شبهة في المسألة، تؤيد ما
سلكناه فيها، فتأمل.
145

بحث وتحقيق: في اشتراط غلبة النجس على الماء
قد عرفت: أن مقتضى الأدلة، عدم لزوم الاتحاد في الوصف بين
المغير والمتغير، ولكن قضية التدبر في كلمات القوم والمآثير، شرطية
كون النجس غالبا على الماء، وذلك لما وقع في كلام الجعفي وابني
بابويه، من اعتبار أغلبية النجاسة على الماء (1).
وفي كلام المحقق: اعتبار استيلاء النجاسة على أحد أوصافه (2).
وفي كلام العلامة: أن المدار على الغلبة (3).
وفي كثير من المآثير، اعتبار غلبة ريح الجيفة على الماء، وغلبة
لون البول على لون الماء (4).
وحيث إن الغلبة لا تصدق إلا فيما كان أثر النجس - الذي هو من
مشخصات النجاسة - ثابتا في الماء، فيلزم اتحادهما في الوصف، حتى
يقال: بغلبة النجاسة، واستيلائها عليه وإلا فهو غير صادق، كما لا يخفى.
وعليه، يحمل المطلقات في المآثير، على هذه المقيدات وإن كانتا
موجبتين، لتحقق ملاك التقييد.
ومن عجيب ما وقع في المقام، كلام الجواهر (قدس سره) (5)!! وكأنه

1 - ذكرى الشيعة: 8 / السطر 11، مفتاح الكرامة 1: 61 / السطر 20.
2 - شرائع الاسلام 1: 4.
3 - منتهى المطلب 1: 8 / السطر 1.
4 - وسائل الشيعة 1: 137، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3.
5 - جواهر الكلام 1: 81.
146

لا يبالي بتمامية ما يذكره ردا على اعتبار الغلبة، وإلا فعلى مثله لا تخفى
هذه الأمور الواضحة، بل على من دونه بمراتب.
ودعوى أن قضية القول بالغلبة، طهارة الماء المتغير بالجيفة في
الريح (1)، ممنوعة، لأن الجيفة والدم في تغير الماء، على حد سواء في
انتشار الأجزاء في الماء.
وتوهم: أنه في الدم يتغير بالنشر، وفي الجيفة بأثرها وخاصيتها (2)،
في غاية السقوط، مع أن الجيفة لها الآثار المشخصة، ومنها ريحها، فإذا
وجدت في الماء يصدق غلبة النجاسة بريحها على الماء كما يصدق
غلبة الدم بلونه على الماء فما يظهر من المتأخرين، من حمل
الغلبة على التغير (3)، مع أن الغلبة لا تصدق إلا حال التغير
الخاص، ضعيف جدا.
وتوهم: أن الصفرة الحاصلة من الدم، غالبة على الماء، في
محله، إلا أنه غير كاف، لما أن المدار على غلبة النجاسة بخصوصياتها
الموجودة فيها، من الريح والطعم واللون على الماء، قضاء لحق النصوص.
ودعوى: أن الصفرة ليست من آثار الجيفة، مع أنها في النص
مذكورة (4)، غير تامة، لأن المتعارف انقلاب الماء بالجيفة في اللون

1 - لاحظ مصباح الفقيه، الطهارة: 11 / السطر 3.
2 - مصباح الفقيه، الطهارة: 10 / السطر 36.
3 - جواهر الكلام 1: 81، مصباح الفقيه، الطهارة: 11 / السطر 1، مستمسك العروة
الوثقى 1: 124.
4 - بصائر الدرجات: 238 / 13، وسائل الشيعة 1: 161، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المطلق، الباب 9، الحديث 11.
147

الأصفر، فكأنه منها، بمعنى أن الجيفة عملها الصفرة، كما أن الدم عمله
الحمرة، ولتلك النكتة أتي بها في الرواية دون سائر الألوان، كما أن الاتيان
بريحها في المآثير، لأن سراية الريح أسرع من اللون، ولا يطلع الناس
نوعا على طعمها حتى يشخص ذلك.
تأييد اعتبار الغلبة برواية ابن سنان
ومما يؤيد اعتبار الغلبة، رواية عبد الله بن سنان، قال: سأل رجل أبا
عبد الله (عليه السلام) وأنا حاضر، عن غدير أتوه وفيه جيفة.
فقال: إن كان الماء قاهرا، ولا توجد منه الريح، فتوضأ (1).
وأما ما في ذيل معتبر شهاب بن عبد ربه: وكلما غلب عليه كثرة الماء
فهو طاهر (2) فهو ظاهر في أن المراد هي الكثرة الموجبة للتغير والغلبة.
فتوهم: أنه شاهد على أن العناوين الأخر، مأخوذة طريقا، فيتم القول
بالتقدير، فاسد.
وقريب منه في الفاسد، دعوى أن النسبة بينهما عموم من وجه، فإذا
تغير الماء مثلا ينجس، وإذا غلبت النجاسة بكثرتها - أي كان مقدارها أكثر

1 - الكافي 3: 4 / 4، وسائل الشيعة 1: 141، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب
3، الحديث 11.
2 - بصائر الدرجات: 238 / 13، وسائل الشيعة 1: 161، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المطلق، الباب 9، الحديث 11.
148

من مقدار الماء - نجس أيضا (1)، فافهم وتدبر جيدا.
الجهة السابعة: في قابلية الماء للتطهير وكيفية تطهيره
لو فرضنا نجاسة الماء المتغير، فهل هو قابل للطهارة أم لا؟.
ثم على فرض قبوله، فهل يكفي زوال التغير أم لا؟.
وعلى الثاني، فهل يكفي مجرد الاتصال أم لا؟.
وعلى الثاني، فهل يشترط الامتزاج الخاص أم لا؟.
وعلى جميع التقادير، يشترط زوال التغير في حصول الطهارة، أم لا،
أو يقال بالتفصيل بين المياه؟
ففيه أبحاث:
البحث الأول: في قابليته للتطهير
فقد يشكل ذلك، لأن الظاهر من النبوي والعلوي المتقدم: الماء
يطهر ولا يطهر أنه إذا تنجس لا يقبل التطهير من قبل نفسه، لأنه من قبل
غيره مما لا يتوهم، حتى يحتاج إلى الدفع، فيعلم منه أنه غير قابل لذلك.
وأما تطهيره باستهلاكه، فهو تسامح واضح، فإن المقصود هو التطهير
الحقيقي الذي لا يفرض إلا مع بقاء الموضوع، وإلا فجميع الأنجاس تقبله.
وهذا ربما يكون الظاهر من القائلين بالامتزاج، البالغ مزجه إلى

1 - لاحظ الحدائق الناضرة 1: 182.
149

حد الاستهلاك، فإنه لو فرض الكثير من البول كذا، لصار طاهرا، ولو
عادت الأجزاء المستهلكة، فصدق عليها البول - كما لو عادت الأجزاء
من المتغير وصدق عليها المتغير - فإنهما في الفرضين نجس بالبداهة.
فهذا الاحتمال ليس بعيدا جدا، خصوصا بعد ما إذا راجعنا العرف
والعادة في طهارة الأشياء المتنجسة، من أن الماء بملاقاته لها، وتحمله
قذارتها، وفراقه منها، يورث رجوعها إلى الطهارة الخلقية الأولية، وهذا
في مطلق المائعات مما لا يتصور.
وقد مر منا في مباحث المياه المضافة، ما يتعلق بالمسألة (1)،
وحول النبوي هناك، وفي ابتداء هذه المسألة أيضا من الاحتمالات الكثيرة
فيه، ولكنه غير خفي أن أظهرها، ما يتعلق بمرامنا هنا.
فبالجملة: بناء على تمامية هذه الشبهة، يلزم القول بالاستهلاك في
تطهير المياه النجسة، ولا يكفي الاتصال، ولا الامتزاج.
وهذا ليس خرقا للاجماع بعد ما أشير إليه، ويقتضيه إطلاق كلام
القائلين باعتبار الامتزاج، وإذا اقتضى الدأب والديدن في تطهير
المتنجسات، ذهاب النجاسة بالماء مع بقاء الذات، فالتمسك
بعمومات مطهرية المياه حتى لنفسها، في غير محله، لأن العرف
لا يجد طريقا إلى تطهير الماء النجس - كالبول - إلا بالالقاء في الكثير
الموجب لاستهلاكه.

1 - تقدم في الصفحة 107 - 109 و 118 - 119.
150

عدم دلالة صحيحة ابن بزيع على كفاية الامتزاج
إن قلت: قضية صحيحة ابن بزيع (1)، نجاسة ماء البئر، وتطهيره
بالمادة الموجودة فيه بالاتصال أو الامتزاج.
قلت: يمكن دعوى أن المتعارف، اخراج الماء الكثير المتغير،
وبقاؤه يسيرا، وغلبة المادة الموجودة البالغة إلى حد استهلاكه فيها،
فلو كان لها الاطلاق من تلك الجهة، فما هو المنصرف إليه عند العرف
هو ما يساعدهم، وأنت خبير بأن العقلاء في كيفية تطهير المائعات، لا طريق
لهم إلا الاستهلاك والافناء، ولا طريق عندهم لتطهير الماء مع بقاء المتغير
مع بقاء موضوعه، فإذا لاحظنا الصحيحة، نجد أنها ليست في مقام إفادة
الأمر التعبدي الصرف في تطهير ماء البئر، وليس مجرد الاتصال والامتزاج
من التطهير عند العرف والعقلاء، بخلاف الاستهلاك المستلزم لفناء
موضوعه.
ثم مقتضى الاطلاق فرضا، هو التفصيل بين الماء الذي له المادة،
كالجاري والنابع والبئر، بل والحمام، وما لا مادة له كالراكد، لأن قضية
النبوي، عدم قابلية الماء للتطهير إذا تنجس، وقضية الصحيحة - بعد
عموم التعليل - قبول الماء المذكور للطهارة إذا تنجس، ونتيجة الجمع هو
التقييد، والالتزام به غير ممنوع شرعا، كما لا يخفى.

1 - تقدمت في الصفحة 137.
151

البحث الثاني: في كفاية مجرد زوال التغير
لو زال وصف التغير بنفسه أو بالجسم الطاهر غير المياه الغالبة،
فهل يطهر المتغير أم لا؟ فيه قولان:
فعن الشافعي وأحمد من المخالفين (1)، وعن يحيى بن سعيد والشهيد (2)
- بل والعلامة في بعض كتبه ك‍ " النهاية " قد مال إليه (3)، وفي الحدائق:
وقد صرح جمع من الأصحاب: بأن القول بطهارة المتغير بزوال التغير،
لازم لكل من قال بالطهارة بالاتمام (4) فتأمل - هو الأول، وعن الآخرين هو
الثاني.
وأنت خبير: بأن هذا القول، لا ينافي القول بأن الماء المتنجس
لا يقبل الطهارة، لأنه ليس من التطهير الحقيقي، بل هو من قبيل تبادل
العناوين الكلية المجعولة عليها النجاسة والطهارة، فإذا خرج شئ من
عنوان، ودخل في الآخر، يكون نجسا أم طاهرا، كالكافر والمسلم، فكما لا
يطهر الكافر، ولا المسلم ينجس، مع حفظ الموضوع، كذلك الماء المتغير
لا يطهر، ولا غيره ينجس.
وإن شئت قلت: الطهارة في تبادل العناوين، ليست من الطهارة

1 - منتهى المطلب 1: 11 / السطر 19، المغني، ابن قدامة 1: 35، المجموع 1: 132.
2 - الجامع للشرائع: 18، الروضة البهية 1: 13 / السطر 16.
3 - نهاية الإحكام 1: 258.
4 - الحدائق الناضرة 1: 246.
152

الحاصلة من التطهير الحقيقي الذي هو بالماء، أو بالشمس، أو
بالأرض مثلا، بل هي الطهارة على التوسع والمجاز، فلا تغفل.
هذا، والذي يقرب الأول، هو أن الطهارة ليست إلا فيما كانت الأشياء
موجودة على خلقتها الأولية والأصلية، فإذا تلوثت بالأخباث والقذارات
تعد نجسة، وإذا زالت النجاسة، ورجعت إلى ما كانت عليه، تصير
طاهرة، والمزيل في بعض الأشياء يكون الماء، وفي بعضها يكون التراب
والشمس، وفي الثالثة نفس زوال العين... وهكذا.
وهذا الاختلاف في المزيل، مما يوافقه ذوق أهل العرف أيضا في
الأشياء، لاختلافها في الجهة المحتاج إليها. وهذا بحسب النوع والكلي،
لا العام الاستيعابي حتى ينقض، فلا تختلط.
فإذا تغير الماء بالنجس، فهو من الأنجاس الشرعية والمستقذرات
العرفية، وإذا زالت تلك الأوصاف السيئة، وصار الماء صافيا أحسن في
صفائه من الأول، فقد عاد إلى الطهارة الذاتية المجعولة له تكوينا
وتشريعا، فالقول بنجاسة الشئ بعد ذلك، يحتاج إلى الدليل القويم
الظاهر والصريح، كما في الجامدات الوارد فيها الأمر بالغسل فيه.
ثم إن استفادة العنوانية من أخبار الباب (1)، غير ممكنة، فليس
المتغير وغير المتغير كالمسلم والكافر، في كونهما موضوعين للطهارة
والنجاسة، فإذا تبدل العنوان يتبادل الحكم.

1 - وسائل الشيعة 3: 428 - 429، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 19.
153

علية التغير حدوثا وبقاء
نعم، لا ينحصر القول بطهارة المتغير إذا زال تغيره بها، بل يمكن دعوى
استفادة العلية حدوثا وبقاء للتغير ولو اقتضت الصناعة العلمية خلافها،
كما هو الحق، ولكن المناسبات المعمولة في هذه الموضوعات العرفية
- التي لا يعمل الشرع فيها التعبد الخاص الصرف - تقضي بأن المتغير
تمام الموضوع للنجاسة، وإذا لم تكن النجاسة بانتفاء علتها، يكون
الموضوع طاهرا قهرا وعرفا.
فاحتمال كون النجاسة باقية تعبدا محضا، واحتمال كون نفس
التلبس في آن ما كافيا لاعتبار بقائها، واحتمال حدوث العلة الأخرى
لبقائها، كلها من المذمومات العقلائية، ولا ينتقل العرف من أخبار الباب
إلا إلى ما أشرنا إليه إنصافا.
وأهون من المحتملات المزبورة، احتمال كون الملاقاة موجبة
للنجاسة بشرط التغير، فإذا زال الشرط لا يرتفع الحكم، لبقاء الموجب
وهي الملاقاة.
التمسك بحديث عوالي اللآلي
ومما يستدل به الحديث النبوي في عوالي اللآلي قال (صلى الله عليه وآله وسلم):
إذا بلغ الماء كرا لم يحمل خبثا (1).

1 - عوالي اللآلي 1: 76 / 156، مستدرك الوسائل 1: 198، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المطلق، الباب 9، الحديث 6.
154

أو قال (صلى الله عليه وآله وسلم): إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا (1).
وفيه: أنه غير تام سندا، وما عن مبسوط الشيخ (قدس سره) من نسبته
إليهم (عليهم السلام) (2)، محمول على تفسيره أخبار الكر بذلك، غير ملتفت إلى
اختلاف المعنيين ظاهرا.
ولو فرضنا اعتباره، لذهاب جمع إلى مفاده فرضا، ولكنه معرض
عنه، لأن عمل المتأخرين لا يقاوم إعراض القدماء.
فالرواية غير معتبرة قطعا، ولكنها تدل على اعتصام الماء، وتضاده مع
القذارة إذا كان كثيرا، وأن كثرته تمنع عن تأثير الغير فيه، سواء كان الغير
من الأعيان النجسة، أو المتنجسات، أو وصف التغير القائم به، فإنه إذا
لاقاه النجس لا ينجس، وإذا تغير فهو ينجس، لما مضى، وإذا زال الوصف
فبقاء النجاسة باعتبار تأثير ذلك الوصف فيه، وهو بكثرته يدافعها، وعليه
تكون دلالته على المطلوب تامة، من غير حاجة إلى حمل مفاده على
الأعم من الدفع والرفع.
وعليه يمكن الاستدلال للمطلوب بالمآثير الواردة في الكر، وأنه
لا ينجسه شئ (3) فإنه يشمل وصف التغير أيضا، فتدبر جيدا.
وتوهم: أنه يعتبر نجاسته، لأجل بعض الاحتمالات السابقة، غير

1 - عوالي اللآلي 1: 76 / 155، مستدرك الوسائل 1: 198، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المطلق، الباب 9، الحديث 7.
2 - المبسوط 1: 7.
3 - وسائل الشيعة 1: 158، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9.
155

تام، لأن ما يمكن عرفا أن يكون وجها لبقاء النجاسة، كونه متصفا
بالوصف المذكور، فيكون الوجه تأثيره فيها دون غيره، فتأمل.
وإن شئت قلت: إن مفاده أن الكر لا يتحمل النجاسة، فيدفعها
ويرفعها، ولا وجه لاختصاصه بالثاني، وهما أنه مثل ما ورد في الكر، ولا
لاختصاصه بالأول، ظنا أن نفي الحمل ظاهر في أنه كان محمولا عليه،
وهو مقتضى القضية الشرطية الظاهرة في حصول الكر تدريجا، فهو
الأعم، ويكون مرجعا بعد زوال التغير، ولا تصل النوبة إلى الاستصحاب.
وفي المسألة، ونسبة الرواية مع أخبارنا، وما ورد في الكر،
مباحث، ولكنها غير راجعة إلى المحصل بعد ضعف السند.
إمكان انجبار ضعف خبر العوالي
وقد يستظهر انجبار السند (1)، لدعوى ابن إدريس: أنها مجمع عليها
بين المخالف والمؤالف (2) وقد رواها الشيخ في الخلاف (3) والسيد
في بعض كتبه (4) على ما حكي، مع عمل مثل ابن إدريس بها في مسألة
النجس القليل المتمم كرا (5)، مع دعوى الاجماع على طهارته (6).

1 - مدارك الأحكام 1: 43.
2 - السرائر 1: 63.
3 - الخلاف 1: 174.
4 - الإنتصار: 8.
5 - السرائر 1: 63 - 65.
6 - السرائر 1: 66.
156

ويؤيده دعوى الجواهر عليه الرحمة: من أن إرسالها لا يمنع
عن العمل بها، لأنه قد رواها من لا طعن في روايته، كالمرتضى والشيخ،
مع عملهما بها، مع أن المرتضى لا يعمل بالآحاد، وإذا ضم إليها ما في
المبسوط من نسبتها إلى الأئمة (عليهم السلام)، يتم المقصود، وهو الوثوق
بصدورها (1).
أقول: الاجماعات المنقولة التي تكون المحصلات على خلافها، لا
ثمرة فيها، واحتمال كون الرواية مصطادة من أخبار الكر نقلا بالمعنى، ظنا
وحدة المؤدى، غير بعيد إنصافا، كما عن الشهيد في بعض كتبه (2)، وخلو
المجامع الأولية عنه يورث الوهن إجمالا، واستبعاد العقل والعقلاء
لطهارة النجس المتمم كرا، توهين آخر عليه.
فدعوى الوثوق (3) مع ذهاب المشهور إلى خلاف مؤداه، غير
مسموعة جدا.
نعم، هي تامة الدلالة مع قطع النظر عن فهم العرف، وعن
المغروس في الأذهان في باب الطهارة، فلاحظ.
الاستدلال بصحيحة ابن بزيع على الطهارة
ومما استدل به على طهارة الكثير، إذا زال وصف تغيره بنفسه،

1 - جواهر الكلام 1: 152.
2 - لم نعثر عليه في هذه العجالة.
3 - لاحظ جواهر الكلام 1: 152.
157

صحيحة ابن بزيع، عن الرضا عليه آلاف التحية والثناء قال (عليه السلام): ماء
البئر واسع لا يفسده شئ، إلا أن يتغير ريحه أو طعمه، فينزح حتى يذهب
الريح، ويطيب طعمه، لأن له مادة (1).
وجه الاستدلال على المعروف بينهم، هو أن كلمة حتى تعليلية،
فتفيد أن تمام الموضوع ذهاب الريح وحصول الطيب، ولا مدخلية لشئ
آخر، قضاء لحق العلة في كونها تامة.
وعليه يتعين كون التعليل الثاني، جوابا عن وهم السائل، وأنه كيف
تحصل الطهارة بمجرد النزح الموجب لزوال الوصف؟! فقال: لأنه له
مادة هي الدخيلة في زواله، فإذا زال فهو طاهر.
وتوهم: أن ذلك يختص بماء البئر (2) ممنوع، لأن كلمة حتى
تعليلية، وهي تفيد أن العلة ليست إلا مدخولها، وهي سارية في جميع
المياه، سواء كانت ذات مادة، أم لم تكن، لأن المادة لا دخالة لها في
الحكم، بل هي الدخيلة في حدوث السبب التام، وهو زوال الوصف،
وعليه لا فرق بينها وبين ما أورث ذلك من الرياح الشديدة وغيرها.
أقول: قد يشكل ذلك، لما تقرر من أن الأصل في تلك الكلمة، أن تكون
للغاية، ولا سيما فيما أمكن استمرار ما قبلها بدون ما بعدها، كما نحن فيه.
وفيه: أن مدخول حتى قد يكون علة غائية لما قبلها، وقد يكون

1 - الإستبصار 1: 33 / 87، وسائل الشيعة 1: 141، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 3، الحديث 12.
2 - التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 110.
158

غير دخيل في الحكم السابق، كما في مثل: سر من البصرة حتى الكوفة
فإن حتى هنا بمعنى إلى ولا دخالة للكوفة في موضوع الحكم أصلا،
لأنها خارجة عن المحدود.
وإذا علمت هذا تذكرت، أن الأمر هنا ليس كما توهمه الأصحاب،
ضرورة أن مدخول حتى علة غائية للأمر بالنزح، ولكنه يشك في أنها
علة غائية تامة، أم ناقصة، ويكون التعليل الثاني علة أخرى.
ويرفع الشك بلزوم حملها على التامة، وأن ما هو تمام المطلوب من
الأمر بالنزح تدريجا، حصول مدخول هذه الكلمة، كما في قولنا: ليكرم
زيد حتى يكرمك فإنه ظاهر في أن العلة الغائية للأمر بالإكرام وإبقائه
واستمراره، حصول إكرامه إياك، فإذا أكرمك يتم المطلوب، ويعلم أن الأمر
الآخر ليس دخيلا.
وهذا بلا فرق بين أن يكون نفس حصول الطيب وذهاب الريح
- المستلزم لحصول الريح الأصلي، وصيرورة الماء صافيا - هي الطهارة
الشرعية، بعد كونها طهارة عرفية قطعا، أو كان ذلك مستلزما للطهارة
الشرعية قهرا، مع أن الظاهر هو الأول، فكون جملة فيطهر الماء بعد
قوله: يطيب محذوفة، غير موجه جدا.
هذا مع قطع النظر عن كلمة: لأن له مادة.
الاستظهار من تعليل الصحيحة
وأما إذا نظرنا إليها، فالانصاف أن الظهور المذكور باق على انعقاده،
159

وذلك لا لأجل أن هذه الجملة تعليل لأمر عرفي، بل هي تعليل لأمر شرعي،
وهو ثبوت الاعتصام لماء البئر الذي يكون قليلا نوعا. وجه الاستظهار
معلوم بعد كون الجملة الابتدائية حكما شرعيا، والجملة الثانية من
توابعها، والثالثة الجملة الاستثنائية، وهي من متعلقاتها، والجملة الرابعة
من متعلقات الثالثة، فلا وجه لكون النظر في التعليل إلى الأمر
المذكور تبعا.
فلو ورد: أكرم زيدا يوم الجمعة، أمام الأمير في السوق، حتى إذا
أهانك، لأنه صديقي فإن التعليل ظاهر في إيجاب الاكرام، ولا سيما بعد
رجوع الضمائر من الأول إلى الآخر إلى البئر، وخصوصا بعد تأبي مدخول
حتى عن التعليل.
بل لو قلنا: بأن نفس صيرورة الماء صافيا، هي الطهارة العرفية الممضاة،
فتكون شرعية، كما أشير إليه، فحينئذ رجوع التعليل إليه يكون أبعد.
وفي النتيجة يثبت الفرق بين ما كان الطهارة الشرعية لازمها، أو
كانت هي هي، وقد علمت أن ما هو الأوفق بذوق العرف هو الثاني، فيتعين
رجوع العلة إلى الصدر، ويعلم أن المطلوب يتم وإن لم تكن العلة
تعليلا لأمر عرفي، خلافا لما يظهر من القوم - رضوان الله تعالى عليهم -.
وما قد يقال من: أن مفاد الصحيحة شرطية زوال الوصف، وعلية
المادة للطهارة معا، وأن هذا هو مقتضى الجمع بين كون مدخول حتى علة
غائية من الأمر بالنزح، وكون المادة دخيلة في حصول المطلوب، غير
قابل للتصديق، وتطبيق فتوى المشهور على الصحيحة، غير كونها مقيدة
فتواهم حسب الفهم العرفي والذوق والاعتبار، فلا الاتصال شرط،
160

ولا الامتزاج، بل الأمر دائر بين كون زوال الوصف كافيا، وبين الاستهلاك.
وتوهم أخصية الصحيحة من المدعى، وعدم طهارة الماء
الراكد بزوال وصف التغير - كما في تقريرات الوالد المحقق - مد ظله (1) -
غير تام، لأن خصوصية النزح ملغاة، ودخالة المادة في حصول الطيب
- بناء على كونها علة عرفية - ممنوعة، بل المدار على رجوع الماء إلى
الخلقة الأصلية والطينة الصافية والطيب الأصلي، وذلك بأي شئ
حصل، فافهم وتأمل.
استدلال الوالد المحقق ببعض الأخبار وإيراده عليها
ومما استدل به الوالد المحقق - مد ظله - صحيحة حريز، عن أبي
عبد الله (عليه السلام) أنه قال: كلما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضأ من الماء
واشرب... (2).
وقضية هذا العموم، أن المدار على الغلبة، سواء كانت قبل التغير،
أو بعده.
وأورد - مد ظله - عليه: أن ظاهرها أن المدار على غلبة الماء بما هو
الماء، لا الأمر الآخر كالرياح، وهذا يصدق في الصورة الأولى، دون الثانية (3).

1 - الطهارة (تقريرات الإمام الخميني (قدس سره) الفاضل اللنكراني: 46 (مخطوط).
2 - تهذيب الأحكام 1: 216 / 625، وسائل الشيعة 1: 137، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المطلق، الباب 3، الحديث 1.
3 - الطهارة (تقريرات الإمام الخميني (قدس سره) الفاضل اللنكراني: 44 (مخطوط).
161

ومثلها رواية عبد الله بن سنان الماضية قال: سأل رجل
أبا عبد الله (عليه السلام) وأنا حاضر عن غدير أتوه وفيه جيفة. فقال: إن كان الماء
قاهرا ولا توجد منه الريح فتوضأ (1) استظهارا وجوابا.
وهكذا رواية الفضيل عنه (عليه السلام) قال: لا بأس إذا غلب لون الماء لون
البول (2).
وموثقة أبي بصير عنه (عليه السلام) قال: إذا كان النتن الغالب على الماء، فلا
تتوضأ، ولا تشرب (3).
والأخير أصرح في وجه، لأنه ظاهر في أن المدار على كون النتن
غالبا، وإذا زال وصف الإنتان فيزول الحكم عرفا، لظهوره في أنه تمام المناط.
وأورد عليه: أنه يحتمل قويا كونه كذلك حدوثا، لا بقاء (4).
دلالة الأخبار السابقة على كفاية التغير
أقول: الحق أن هذه الأخبار تدل على المطلوب، وذلك لوجهين.
الأول: أن الماء إذا كان قابلا لتأثير الجيفة فيه، ومنع عنه الرياح
فلم يغلب عليه ريح الجيفة، يكون طاهرا بلا شبهة، بمقتضى فهم العرف

1 - تقدم في الصفحة 148، الهامش 1.
2 - تهذيب الأحكام 1: 415 / 1311، وسائل الشيعة 1: 139، كتاب الطهارة، أبواب
الماء المطلق، الباب 3، الحديث 7.
3 - تهذيب الأحكام 1: 216 / 624، وسائل الشيعة 1: 139، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المطلق، الباب 3، الحديث 6.
4 - الطهارة (تقريرات الإمام الخميني (قدس سره) الفاضل اللنكراني: 45 (مخطوط).
162

من هذه المآثير، مع أن لازم ما أفاده نجاسته إن أخذنا بالمفهوم، أو عدم
شمولها له إن طرحناه.
الثاني: الظاهر أن المقصود من غلبة الريح على الجيفة، أن لا
يكون الماء متعفنا بها، ويكون صافيا وخالصا، وليس مفهوم الغلبة فيه
الخصوصية، ولو اشترط أن يكون الماء بما هو الماء غالبا، يلزم خروج
جميع المياه عن مفاد الروايات، لأن الماء يغلب غالبا بضميمة بعض
الخصوصيات الموجودة فيه، كالغلظة والبرودة واللون وغيرها، وقلما
يتفق غلبته بطبيعته الصافية والخالصة.
وبالجملة: العرف يستفيد من هذه التعابير، أن تمام الملاك والمناط
كون النتن غالبا، وقضية مفهوم الشرط والقيد طهارته، مع أنه لا حاجة
إليه، لفهم العرف ذلك من مناسبات الحكم والموضوع.
فتحصل إلى هنا: أن مقتضى النصوص والاعتبار، كفاية زوال وصف
التغير في الطهارة، وفاقا لجمع مضى ذكرهم.
البحث الثالث: في كفاية مجرد الاتصال
لو سلمنا قصور الأدلة عن إثبات حكم الماء بعد زوال تغيره، أو فرضنا
تمامية دلالة صحيحة ابن بزيع على أنه لا يطهر بمجرد زوال الوصف، فهل
يكفي مجرد الاتصال، كما هو مختار جمع من الفقهاء (1)، أو لا بد من الامتزاج،

1 - نهاية الإحكام 1: 232، جامع المقاصد 1: 135 - 136، الروضة البهية 1: 13 /
السطر 15، مقابس الأنوار: 82 / السطر 12، العروة الوثقى 1: 43، فصل ماء البئر،
المسألة 2، التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 310.
163

كما اختاره جماعة من المتأخرين (1)، تبعا للمحقق في المعتبر (2)؟
مقتضى الأصل العملي في المقام
وقبل الخوض في أدلة الطرفين، لا بد من الإشارة إلى مقتضى
الأصول العملية عند الشك، وذلك هو النجاسة للاستصحاب، فكما أن
الاستصحاب يقضي بنجاسته بعد زوال الوصف وقبل الاتصال، كذلك قضيته
نجاسته إلى حال الاتصال وبعده، بل وبعد الامتزاج إذا لم يكن مستلزما
لعدم موضوعه بالاستهلاك ونحوه.
وتوهم: أنه من الشك في المقتضي أولا، ويعارضه الأصل العدم
الأزلي ثانيا (3)، ممنوع صغرى وكبرى، والتفصيل في الأصول.
ودعوى: أن موضوع الاستصحاب هو الماء المتغير وهو منتف (4)،
غير مسموعة، ولو سلمنا ذلك فهو لا يضر بجريانه، لأنه بعد الانطباق على

1 - مستند الشيعة 1: 16، الطهارة، الشيخ الأنصاري: 1: 139، مصباح الفقيه، الطهارة:
20 / السطر 8، دليل العروة الوثقى 1: 50، تحرير الوسيلة 1: 10.
2 - المعتبر 1: 50.
3 - مدارك الأحكام 1: 46 - 47، دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلد
الأول: 88.
4 - لاحظ مصباح الفقيه، الطهارة: 25 / السطر الأخير، دليل العروة الوثقى 1: 54، دروس
في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلد الأول: 88، مهذب الأحكام 1: 150.
164

الخارج، يتعلق اليقين بالموضوع الخارجي، من غير لحاظ وصف التغير،
وعندئذ يكون باقيا.
نعم، لو انحصر جريان الاستصحاب بما إذا تعلق اليقين بموضوع
الدليل الاجتهادي، كان لمنعه وجه، وتكون قاعدة الطهارة حينئذ محكمة.
أدلة كفاية الاتصال
إذا عرفت ذلك فاعلم: أن ما يمكن أن يوجه به القول بكفاية الاتصال
أمور:
أحدها: الاجماعات في كلمات جماعة، حتى قيل: بعدم الخلاف في
المسألة إلى زمان المعتبر (1) وهي غير نافعة بعد كون مستندهم المآثير
البالغة إلينا.
ثانيها: أن الماء بعد الاتصال يكون واحدا، وهو محكوم بالطهارة أو
النجاسة، لا سبيل إلى الثاني، فتعين الأول (2).
ثالثها: ما في المرسلة المروية عن المختلف عن ابن أبي عقيل
(في كلام طويل قال في ذيله:) فأبصرني يوما أبو جعفر (عليه السلام) فقال: إن هذا
لا يصيب شيئا إلا طهره، فلا تعد منه غسلا (3).
والمشار إليه على ما في كلام ابن أبي عقيل، ليس غدير الماء،

1 - لاحظ الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 138.
2 - مقابس الأنوار: 82 / السطر 14.
3 - لاحظ مختلف الشيعة: 3 / السطر 4.
165

ولعله الماء الموجود في الكوز كما في كلامه، فراجع.
فالاستدلال به كما عن بعض المعاصرين (1)، للغفلة عن حقيقة
الحال، مع أن مجرد الإصابة لو كان كافيا، لكان ذلك مجزيا في الجامدات.
ودعوى اختلاف فهم العرف بين المائع والجامد، غير مسموعة، لما
عرفت أن العرف لا يجد طريقا إلى طهارة الماء إلا بالوجه الماضي
تفصيله وتحقيقه (2).
ومنه يعلم ما في الاستدلال (3) بقوله (عليه السلام): كل شئ يراه ماء المطر فقد
طهر (4).
رابعها: معتبر حنان، قال: سمعت رجلا يقول لأبي عبد الله (عليه السلام): إني
أدخل الحمام في السحر، وفيه الجنب وغير ذلك، فأقوم فاغتسل، فينضح
علي بعد ما أفرغ من مائهم.
قال: أليس هو جار؟.
قلت: بلى.
قال: لا بأس (5).

1 - مهذب الأحكام 1: 229.
2 - تقدم في الصفحة 59 - 60.
3 - مهذب الأحكام 1: 228.
4 - الكافي 3: 13 / 3، وسائل الشيعة 1: 146، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 6، الحديث 5.
5 - الكافي 3: 14 / 3، وسائل الشيعة 1: 213، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف،
الباب 9، الحديث 8.
166

فإنها بإطلاقها تشمل حالتي الدفع والرفع.
وفيه: أنها بإطلاقها تشمل حالة التغير أيضا، فلا بد من التقييد بتلك
المآثير، وما فيه واضح، لبعد أفهام الناس من ذلك الاطلاق أولا.
ولأن للحمام خصوصية، حتى قيل بالعفو في ماء الحمام، لا
الطهارة، لاحتياج الناس فيه إلى التوسعة ثانيا.
ولأن فرض مسألتنا في الحياض الصغار، مما لا يمكن عادة، وكون
المادة في الحمام موجبة لرفع نجاسة ما في الحياض، لا يلازم رافعيتها
للماء الزائل عنه وصف التغير ثالثا.
ولأن قوله (عليه السلام): أليس هو جار؟ لا يفيد كونه إلا كالجاري وبمنزلته،
فهل هو جار في جميع الأحكام، أو يختص بدفع النجاسة دون رفعها؟
فبالجملة: لا يستفاد - إنصافا - من المآثير في ماء الحمام، أن الاتصال
سبب الطهارة، سواء تمسكوا بما مر، أو بقوله (عليه السلام): ماء الحمام كماء النهر،
يطهر بعضه بعضا (1) فإن كيفية التطهير غير معلوم منها، كما لا يخفى.
خامسها: النبوي المزبور سابقا: الماء إذا بلغ كرا لا يحمل خبثا (2).
فإن المقدار من الزائل عنه وصف النجاسة، إذا اتصل بالكر، يصير
منطبقا عليه عنوان الحديث، فيكون طاهرا، وبعدم القول بالفصل يتم
المطلوب في غير المفروض.

1 - الكافي 3: 14 / 1، وسائل الشيعة 1: 150، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 7، الحديث 7.
2 - تقدم في الصفحة 154.
167

وفيه: - بعد الغض عن جهات عديدة - أن الاتصال لا يستلزم الطهارة،
بل هو محقق عنوان آخر وهو الكر فعليه لا وجه لاسراء الحكم منه
إلى موقف آخر، ولا سيما بعد حكاية القول بالتفصيل بين الجاري
والحمام وبين الكر، باعتبار الامتزاج في الأولين، دون الأخير، كما حكي
عكسه عن الجواهر (1) فإنه (قدس سره) مال إلى هذا التفصيل، والعلامة في
بعض كتبه والموجز وشرحه مالوا إلى الأول (2)، فلا بأس حينئذ
بالالتزام بكفاية الاتصال في بعض المياه، دون البعض.
ولكنه غير تام، لعدم تمامية سند النبوي، كما مضى تفصيله.
سادسها: صحيحة ابن بزيع (3) - مع كثرة المحتملات فيها - ظاهرة في
أنها في مقام توسعة ماء البئر، ونفي الضيق عنه، ومن آثاره عدم انفعاله
واعتصامه، ولكن يحصل فيه الضيق إذا تغير، وهذا الفساد يرتفع بعد زوال
الوصف بالنزح بالمادة، وتلك المادة ليست أجنبية عنه، بل هي دخيلة
فيه، وأول مراتب الدخالة هو الاتصال.
وتوهم: أن النزح له الخصوصية (4) فاسد، لأن العرف لا يجد إلا
دخالته في رفع الوصف، فلو ارتفع وصف التغير من قبل ذاته، أو غير ذلك،
أو لوجود شئ فيه كالعطر ونحوه، فقد حصل ما هو الشرط في حصول
الطهارة والتوسعة الثابتة لماء البئر في صدر الحديث.

1 - جواهر الكلام 1: 103 و 149، مصباح الفقيه، الطهارة: 22 / السطر 30.
2 - منتهى المطلب 1: 6 / السطر 30.
3 - تقدمت في الصفحة 137.
4 - الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 97.
168

ودعوى: أن المتعارف في ماء البئر هو المزج قهرا، لأن اخراج
الماء وحصول المادة فيه، يستلزم ذلك، فلا يكفي الاتصال (1)، غير مسموعة،
لأن ظاهر الحديث عدم دخالة شئ آخر وراء زوال وصف التغير والمادة.
وهل المادة الدخيلة التي هي العلة، لا بد وأن تكون ممازجة مع
ماء البئر، أو يكفي الاتصال؟
الظاهر هو الثاني، لأن من الممكن زوال وصف التغير بالنزح
الأول، فلا يحصل المزج أصلا، ولأن علية المادة لا تعقل إلا بكونها مرتبطة
مع ماء البئر، وأول مراتبها هو الاتصال، فدخالتها زائدة عليه ممنوعة.
فما أفاده الفقيه الهمداني (2) وغيره (3): من إمكان اتكاء المتكلم
على القيد الحاصل قهرا وهو المزج غير تام، لظهور الرواية في أن
العلة الوحيدة بعد حصول الغاية، هي المادة الموجودة لماء البئر.
وما قاله البهائي في الحبل المتين: من إجمال الرواية (4) غير
قابل للتصديق، لظهورها في مقام التشريع، وإلا يلزم كذب قوله (عليه السلام): ماء
البئر واسع لأن من البئر ما ليس كذلك.
نعم، دعوى قصور الفهم عن تعيين المعلول لقوله (عليه السلام): لأن له
مادة ليست بعيدة، إلا أن العرف بعد التوجه إلى أن الجملة الأخيرة
سيقت لارجاع الماء إلى التوسعة الأولية والطهارة، يطمئن بأنه علة

1 - مصباح الفقيه، الطهارة: 12 / السطر 28.
2 - مصباح الفقيه، الطهارة: 12 / السطر 32.
3 - لاحظ الطهارة (تقريرات الإمام الخميني (قدس سره) الفاضل اللنكراني: 16 (مخطوط).
4 - الحبل المتين: 118 / السطر 1.
169

لحصول الطهارة والتوسعة، فيتم المطلوب.
الخدشة في صحيحة ابن بزيع وجوابها
أقول: هي العمدة في الباب، ولكنها غير كافية للخروج عن مفاد
الاستصحاب، وذلك لأن الأمر بالنزح وإن لم يكن نفسيا، إلا أنه إذا احتمل
الخصوصية المتعارفة الغالبة - بل الكلية الملازمة معه - لا يرفع
اليد عنه، وذلك لأجل أن النزح لا خصوصية له، في مقابل ما لو أخرج
ماء البئر بغير النزح.
وأما حصول المزج قهرا معه نوعا - بل كلا - فمما لا يكاد ينكر، ولا
معنى لالغاء النزح من تلك الجهة، بعد احتمال كون المتكلم ناظرا إليه،
فكما يستفاد دخالة زوال وصف التغير قبل التعليل من مدخول حتى
ونفسها، كذلك يستفاد دخالة المزج من النزح ولكنه بعد ذلك يطهر لما
فيه من المادة، فتأمل.
وفيه: أنه بناء عليه لا وجه للتعليل، لأنه تكرار ما حصل، فلو كان
المزج دخيلا، وهو حاصل بالنزح، يصير التعليل بعد ذلك بشيعا كما لا
يخفى، بخلاف ما لو كان المقصود زوال وصف التغير، فإنه بعد ذلك يصح
أن يعلل حصول الطهارة بالمادة المتصلة، فالمزج وإن يحصل قهرا،
ولكنه غير دخيل فقها.
فبالجملة: بعد ما مر منا في مفاد مدخول حتى (1) تبين أن التعليل

1 - تقدم في الصفحة 158 - 159.
170

مربوط بصدر الرواية قطعا.
أدلة القول باعتبار الامتزاج
وما يمكن أن يستدل به للقائلين بالامتزاج أيضا أمور:
الأول: إذا خلط بالنجس ماء طاهر، فتحصل الوحدة، وهي تستلزم
وحدة الحكم، وهي الطهارة قطعا، لما لا يصير الكر الملقى نجسا.
وفيه: أن ذلك بعينه يأتي في الاتصال كما مضى (1)، وأنه إما يحصل
المزج، أو لا يحصل، فعلى الثاني فهما ماءان ممتازان لهما حكمان، وإن حصل
الامتزاج بورود الماء الطاهر في الماء النجس وتفصله به، فإنه حينئذ ينجس،
لصيرورته أقل من الكر، مع ملاقاته للنجس الموجود في جوفه.
فعليه ينقلب الدليل عليهم، ويلزم عليهم اعتبار الأزيد من الكر، أو
عدم كفاية المزج إلا بماء له المادة.
الثاني: ما ورد من أن كل شئ يراه المطر فقد طهر وما أصاب هذا
شيئا إلا وقد طهره (2).
وفيه: أن مقتضاهما إما كفاية الاتصال، وإما لزوم الاستهلاك، وهو
الظاهر منه، لما مضى أن على الأول يلزم كفايته في الجامد أيضا، فهما
يدلان على ما هو الأقرب عندنا، من عدم قبول الماء النجس الطهارة إلا
بانعدام الموضوع.

1 - تقدم في الصفحة 165.
2 - وسائل الشيعة 1: 146، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 5.
171

الثالث: ما ورد في الوسائل: إن ماء الحمام كماء النهر، يطهر بعضه
بعضا (1).
وهذا كما يدل على قبول الماء الطهارة، يدل على كفاية الاتصال،
والامتزاج القهري لا يستلزم شرطيته، كما لا يخفى.
مع أن الظاهر - جمعا بين الأخبار - كونه في مقام تقوي بعض الماء
بالبعض في الاعتصام ودفع النجاسة، لا رفعها.
الرابع: صحيحة ابن بزيع، فإنها إذا لم تكن مجملة كما عن
البهائي (رحمه الله) (2)، ولا دالة على كفاية الاتصال، تدل على شرطية الامتزاج، إما
لأن اللازم العادي من موردها ذلك، فلا إطلاق للتعليل، لصحة اتكاء المتكلم
على القرينة الحالية.
وإما لاستلزام النزح المأمور به ذلك، فيكون كالقرينة اللفظية على
التعليل المذكور.
هذا مع مراعاة موردها، من فرض البئر الموجود فيه الماء بمقدار إذا
ينزح منه الماء المتغير، يبقى الماء بمقدار يصح أن يقال: حتى يطيب،
ويذهب ريحه وإلا فلو كان الماء الخارج جميع ماء البئر، فإنه يكون
خارجا عن مفروضها.
وهكذا لو كان المقدار الباقي من المتغير، مستهلكا في الماء
الوارد أو الباقي الطاهر، فعندئذ يعلم قبول الماء النجس الطهارة، ويعلم

1 - وسائل الشيعة 1: 150، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 7.
2 - الحبل المتين: 118 / السطر 1.
172

شرطية الامتزاج.
وقد حكي عن الوالد المحقق - مد ظله -: أنه لولا هذه
الصحيحة، كان نفي قابلية المياه للطهارة متعينا (1).
أقول: مع غمض النظر عما أسسناه في مفاد مدخول حتى ورجوع
التعليل إلى الصدر (2)، لا يمكن الركون إلى ما أفاده القوم لاعتبار
المزج، ضرورة أن الاتكاء على القرينة الحالية، أو كون المزج لازما
كليا أو نوعيا، غير ممكن إلا إذا ثبتت لنا تلك النوعية، وهي في مورد
الشك، لصحة دعوى أن مياه الآبار في زمن صدور الرواية ليست كثيرة،
بحيث تبقى إلى حد المزج، لا الاستهلاك.
ودعوى: أن صدق قوله (عليه السلام): حتى يذهب ريحه، ويطيب طعمه (3)
يتوقف على كون الماء الباقي بعد زوال تغيره، بمقدار معتنى به، بحيث لا
يحصل الاستهلاك له بعد ورود الماء الطاهر في البئر، غير مسموعة، لأن
الوحدة الملحوظة هنا، ليست وحدة شخصية عقلية، بل هي وحدة الماء
عرفا، ولا شبهة في أن العرف بعد النزح يقول: بأن ماء البئر قد طاب
طعمه من غير أن يتفحص عن حال الماء الباقي، وأنه هل يكون بمقدار
يصح أن يعبر عنه بذلك التعبير أم لا؟ بل بلا روية وانتظار ينادي بأعلى
صوته: أنه قد راح ريح ماء البئر، وطاب طعمه.

1 - الطهارة (تقريرات الإمام الخميني (قدس سره) الفاضل اللنكراني: 33 (مخطوط).
2 - تقدم في الصفحة 158 - 159 و 170.
3 - تقدم في الصفحة 158.
173

فعليه يمكن أن يكون أكثر الآبار في الأراضي الفاقدة للمياه، والنائية
عن البحور، والواقعة في البوادي والصحور، من هذا القبيل، فلا امتزاج
بالمعنى المعروف في كلماتهم المتأخرة نوعا، حتى يستكشف الحكم.
ثم إن هذه الصحيحة، قاصرة عن إثبات طهارة الماء النجس
بالمزج مع الكر أو اتصاله به قطعا، والتجاوز عنه إلى ما هو المعتصم،
كالتجاوز عن علية الاسكار إلى ما يزيل العقل.
ودعوى إلغاء الخصوصية عرفا، لفهم العرف أن تمام العلة هي
ذلك، في غاية الوهن (1).
هذا مع أن لنا في الصحيحة شبهة، لأنها مورد إعراض المشهور،
لدلالتها وصراحتها في عدم تنجس ماء البئر، والمشهور بينهم إلى عصر ابن
الجهم والعلامة، هي النجاسة.
اللهم إلا أن يقال: بأن فتواهم للجمع بين المآثير، ولا أقل من احتماله،
فيشك في الاعراض، وقضية الصناعة عند الشك في الاعراض، حجية
الصحيحة، كما لا يخفى (2).
فتحصل: أن الماء المتغير، إما يطهر بزوال وصف تغيره، أو بانعدام
موضوعه بالاستهلاك، قضاء لحق الاستصحاب.
وما اشتهر: أن المعروف بين القدماء إلى عصر المحقق في

1 - مستمسك العروة الوثقى 1: 127.
2 - لاحظ التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 287.
174

المعتبر هو كفاية الاتصال (1) في غير محله، لأن ظاهر المبسوط (2)
والسرائر (3) والوسيلة (4) وكل من عبر في متنه ب‍ " تكاثر الماء الوارد
وتدافعه " (5) إما شرطية الامتزاج، أو لزوم الاستهلاك، ولعل الثاني أقرب،
كما مضى بعض المؤيدات عليه (6)، فإنكار كفاية الاتصال والامتزاج ليس
مخالفا للاجماع المركب، إلا على بعض المحتملات في كلمات الأصحاب
ومتونهم.

1 - تقدم في الصفحة 165.
2 - المبسوط 1: 7.
3 - السرائر 1: 62 - 63.
4 - الوسيلة: 73.
5 - لاحظ المقنعة: 66، المراسم: 36، إصباح الشيعة، ضمن سلسلة الينابيع الفقهية 2: 3.
6 - تقدم في الصفحة 150 - 151.
175

المبحث الرابع
في الماء الجاري
والكلام حوله يقع في موقفين:
177

الموقف الأول
في موضوعه
وقد ورد في السنة الماء الجاري ويترتب عليه الأحكام الخاصة،
من غير تعرض منهم (عليهم السلام) لمفهومه، وفيه الاحتمالات الكثيرة.
ولا شبهة في أن الجريان المطلق، الصادق على مثل ماء الإبريق،
ليس مقصودا، بل المشتق هنا مبدؤه الملكة والصفة الثابتة المستقرة،
ك‍ " التجارة " والتاجر.
وكما أن الجاري لا يصدق بمجرد تلبس الماء بالجريان، كذلك
يصدق وإن لم يكن الماء جاريا بالفعل، بشرط جريانه وسيلانه في برهة
من الزمان، فهو مثل التاجر المحبوس الذي يصدق عليه العنوان
المذكور، فالنابع غير السائل بنحو الاطلاق، ليس عرفا جاريا قطعا.
نعم، في الفرض المشار إليه، هو الجاري بلا شبهة.
179

فما أفاده القوم: من الجريان الفعلي (1) شرط في الجملة، وما نفاه
الشهيد (2) والسبزواري (3) وغيرهما (4)، صحيح في الجملة، ولعلهما أرادا
إلحاق النابع غير السائل - بنحو كلي - بالجاري حكما، أو استكشفا من
الأدلة اللفظية مناطا أعم، فافهم.
ومن العجيب، مراجعة جماعة من الأصحاب كالسيد في مفتاح
الكرامة إلى اللغة في فهم المعنى المركب (5)، وهو الماء
الجاري!! مع أن المركبات ليست ذات وضع على حدة، وانصرافها إلى
موارد لا يورث الوضع التعيني بلا شبهة، مع أن في بعض المآثير ورد:
أليس هو جار؟ (6) من غير ذكر الموصوف.
فعليه يتعين الرجوع إلى العرف واللغة في فهم الجاري من
غير إضافة إلى الماء ثم بعد الإضافة ربما يستظهر منه المعنى الآخر،
كما هو كذلك فيما نحن فيه، ضرورة أن الجاري ليس عنوانا مثل
التاجر ولكنه بعد مراعاته مضافا إلى الماء يعرف منه المعنى
الأخص إنصافا.

1 - كشف اللثام 1: 26 / السطر 25، جواهر الكلام 1: 72، العروة الوثقى 1: 32، في
المياه، فصل في الماء الجاري، وسيلة النجاة 1: 11.
2 - الروضة البهية 1: 13 / السطر 6.
3 - ذخير المعاد: 116 / السطر 3.
4 - مستند الشيعة 1: 19.
5 - لاحظ الحدائق الناضرة 1: 171، مفتاح الكرامة 1: 60 / السطر الأخير.
6 - الكافي 3: 14 / 3، وسائل الشيعة 1: 213، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف،
الباب 9، الحديث 8.
180

فعلى ما تقرر إلى هنا تبين: أن الماء الجاري ظاهر في الماء
الذي فيه هذه الصفة على نعت الاستقرار في الجملة، فلا بد فيه من مبدأ
ومادة، تكون هي منشؤه وأساسه وأصله.
ما يتصور من أنحاء الجريان
وتلك المادة وذلك المبدأ التكويني - بحسب التصور - كثيرة، لأنها:
تارة: تكون تحت الأرض.
وأخرى: تكون على وجه الأرض.
وثالثة: تكون في السماء.
فما كانت تحت الأرض:
تارة: تكون من قبيل النابع والخارج بقوة.
وأخرى: تكون من قبيل الخزائن الموجودة فيه، وبعد حفر القنوات
تجري وتظهر على وجه الأرض.
وثالثة: تكون بنحو الرشح والتعرق.
ورابعة: تكون من قبيل النضح، فيجمع الماء تحت الأرض يسيرا
يسيرا، ويظهر بطريق القناة على وجه الأرض.
وما كانت على وجه الأرض أيضا، فيها بعض الاحتمالات الماضية،
مثل كون المخزن في قلل الجبال، والاحتمالات الأخر مثل كونها الثلوج
و (البروف) وأمثالهما.
وما كانت في السماء كماء المطر، فإنه كثيرا ما يكون مبدأ السيلان
181

والجاري، إلا أنه غير دائم، ربما لا يزداد على الساعتين، ولكنه كلام آخر
كما لا يخفى، ضرورة أن من الطائفة من اعتبر الدوام (1)، ومنهم من لا يعتبره
في حصول الماء الجاري (2).
الأقوال في موضوع الجاري
هذه عمدة المحتملات في المسألة، وفيها قولان، بل أقوال:
المنسوب إلى المشهور - بل في المدارك والدلائل: إجماع
الأصحاب - أن الجاري لا عن نبع، من أقسام الراكد (3).
وعن ابن أبي عقيل نفي اعتبار النبع (4)، ولعله يريد كفاية مطلق
المادة مع السيلان، ولكن في النسبة إشكالا.
وظاهر ما نسب إلى الوالد المحقق - مد ظله - كفاية الرشح، بل في
كلامه كفاية تبدل الأبخرة إلى الماء في صدق الجاري ولا حاجة إلى
وجود المخزن تحت الأرض في صدقه (5)، وإن كان ظاهر النبع الواقع
في كلماتهم يوهمه، فتأمل.
والذي هو التحقيق: كفاية مطلق المادة، ولا دليل على الخصوصية،

1 - الدروس الشرعية 1: 119، التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 113.
2 - مجمع الفائدة والبرهان 1: 250.
3 - مدارك الأحكام 1: 28، لاحظ مفتاح الكرامة 1: 61.
4 - لاحظ مختلف الشيعة: 2 / السطر 10، جامع المقاصد 1: 110، لاحظ دروس في
فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلد الأول: 91.
5 - الطهارة (تقريرات الإمام الخميني (قدس سره) الفاضل اللنكراني: 4 (مخطوط).
182

كيف وأكثر الأنهار الكبيرة - كالفرات ودجلة ونهر الأردن وغيرها - من
الثلوج المتمركزة في قلل الجبال؟! بل العيون كلها منها، وتزداد وتنقص
بها، وربما تجف، لعدم نزول الأمطار و (البروف).
ولكن كفاية المادة الحاصلة من غير الطريق الطبيعي - كمخازن
المياه في المدائن - ممنوعة جدا، كما أن النبع الحاصل بحيلة الانسان
غير كاف، ضرورة أنه لا يعد جاريا أو يكون الجاري في الأدلة منصرفا
عن هذه الفروض، ومنصرفا إلى الصور التي تجري المياه ومن ورائها
المواد التي هي أساسها، وتلك المواد تكون طبيعية، لا جعلية وصناعية،
فلو فرضنا أنها الماء الجاري عرفا، ولكنها منصرف عنها المآثير
والأخبار، كما لا يخفى.
فتحصل: شرطية السيلان في الجملة، دون النبعان، ويكفي مطلق
المادة، وما أفاده المشهور: من أنه النابع السائل غير تام، لنقضه
بالنابع المصنوع غير الطبيعي، لعدم إطراد سائر المواد التي يصدق معها
الجاري قطعا.
وإن شئت قلت: الجاري في المآثير، عنوان يشير إلى ما يرتكز عند
العرف والعقلاء، ولا حاجة إلى تحديد الفقهاء، بل في ذلك إغراء
بالجهل، وإلقاء في التهلكة، لأنه من الموضوعات العرفية الواضحة
عندهم، فكما أنهم (عليهم السلام) لا يعرفون الموضوعات العرفية، لأن العرف هو
السند فيها، فكذلك على الفقهاء العظام ذلك.
183

بعض شرائط صدق الجاري واعتصامه
بقي الكلام حول بعض القيود الأخر الدخيلة في صدق الجاري
أو في الموضوع المذكور في المآثير المحتمل دخالتها فيه.
وغير خفي: أن كثيرا ما لا تكون النسبة بين ما هو مفاد اللغة، وما
هو الموضوع في الدليل التساوي، لأن من الممكن كون الانصراف إلى
صنف خاص مورد نظر المتكلم في قانونه.
الشرط الأول دوام سيلان المادة
فعليه يقال: إن من الشرائط والقيود، كون السيلان ومادته على
وصف الدوام، بمعنى أنه لو حدثت العيون، وكانت مدة عمرها ساعة أو
ساعتين، وكان ذلك معلوما من أول الأمر عند العرف وأهالي البلد، فإنه ماء
نابع سيال، ولكنه إما ليس ب‍ " الماء الجاري " إلا مسامحة أو - لو كان -
يكون خارجا عما هو الموضوع في الأدلة، للانصراف عنها.
وإلى ذلك يرجع ما أفاده الشهيد (1)، وتبعه جملة من المتأخرين (2)،
وما وقع من البحث حول كلامهم من اللغو المنهي، بعد عدم لزومه،
ووجوب الرجوع إلى ما هو قابل للتصديق، فلا تغفل.
وما عن الحدائق: أن الدوام لو كان كذا فهو باطل، ولو كان كذا

1 - الدروس الشرعية 1: 119.
2 - العروة الوثقى 1: 34، فصل في الماء الجاري المسألة 4.
184

فهو مما لا دليل عليه (1) خال عن التحصيل، فإنه يراد به الدوام العرفي،
قبال المثال المشار إليه، ودليله الاستظهار من الاطلاقات العرفية.
ولعمري، إنه بلا شبهة، خارج عن مصب المآثير في المسألة،
فالقيد المذكور لازم قطعا.
الشرط الثاني اتصال الجاري بمادته
ثم إن ظاهرهم اشتراط الاتصال بالمادة في صدق الجاري أو في
اعتصامه، مستدلين ب‍ " اقتضاء الفهم العرفي " والاغتراس الذهني
والمرتكز العقلائي على اختلاف تعابيرهم، بل وهو قضية صحيحة
ابن بزيع.
والمراد من الاتصال هو الربط الخارجي، والالتصاق في الوجود.
وفيه: أن جميع ما ذكر يقتضي خلافه، لأن العرف لا يجد خصوصية
لهذا النحو من الوصل.
نعم، لا بد من وجود الربط بينهما، وأن تكون المادة الخارجية، مبدأ
تكون الماء الساري والسائل، بمعنى كون اعتصامه منها، وهذا لا يقتضي
أكثر من عدم البينونة بين المادة والماء.
وبعبارة أخرى: لا بد من كون الماء الجاري، ذا مبدء مكون طبيعي مثلا،
من غير الشرط الآخر.

1 - الحدائق الناضرة 1: 195.
185

وتوهم اقتضاء مورد الصحيحة ذلك الاشتراط (1)، فاسد جدا، لأعميته
منه كما لا يخفى.
بل إعمال التعبد في مباحث الطهارة والنجاسة، يحتاج إلى دليل
نص فيه، فما اشتهر بين المتأخرين، من شرطية الاتصال الحقيقي (2)،
غير مبرهن.
نعم، المياه مختلفة، فمنها: ما هي طبعها الاتصال بين المادة والماء،
كالعيون والنوابع، ومنها: ما ليس كذلك، فما كان من قبيل الأول فالانفعال
ربما يضر، بخلاف الثاني.
تنبيه: في أن المدار على المادة لا الجريان
يمكن دعوى: أن عنوان الماء الجاري ليس له الموضوعية، بل
المدار على كون الماء ذا مادة، فإن ما له المادة - سواء كان جاريا، أو
غير جار - معتصم بمقتضى معتبرة ابن بزيع (3)، والعلة فيها مخصصة ومعممة،
فالإطالة حول القيود المعتبرة في صدق الجاري من الأمر الباطل.
أقول: إذا كان التعليل الوارد في الصحيحة، مرتبطا بالجملة

1 - لاحظ مهذب الأحكام 1: 159.
2 - العروة الوثقى 1: 33، المسألة 3، مستمسك العروة الوثقى 1: 137، دليل العروة
الوثقى 1: 71، دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلد الأول: 114، مهذب
الأحكام 1: 164.
3 - دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلد الأول: 104.
186

الأخيرة - على ما عرفت تفصيله (1) - فإنه حينئذ يتم الكلام السابق، لأن
كون الماء ذا مادة إذا كان يطهر، وتكون المادة موجبة لرفع النجاسة، فهي
علة للاعتصام، ودفع النجاسة بالأولوية القطعية ومساعدة العرف قطعا.
وأما إذا كان علة لصدر الرواية، فهي لا تفيد كونه موجبا لرفع
النجاسة إذا غسل فيه مرة واحدة، فعليه لا بد من فهم معنى " الجاري "
لاختصاصه بعدم الانفعال، وبكونه يورث طهارة ملاقية بملاقاة واحدة، فافهم
وتدبرا جيدا.
ذنابة: في أن الجاري مقابل للراكد
يمكن استظهار أن الماء الجاري في الروايات، مقابل ما في
المركن كما في صحيحة ابن مسلم (1).
والوجه: أن الماء الراكد لما فيه الركود، كأنه يقلع النجاسة
الموجودة في الجسم، بخلاف السائل، فإنه لمكان ما فيه من الحركة
والسيلان، يقلع القذارة، ولتلك النكتة ربما كان التعدد معتبرا.

1 - عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الثوب يصيبه البول؟ قال: اغسله
في المركن مرتين، فإن غسلته في ماء جار فمرة واحدة.
تهذيب الأحكام 1: 250 / 717، وسائل الشيعة 3: 397، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 2، الحديث 1.
187

الموقف الثاني: في حكمه
لا خلاف في أنه لا ينجس إذا كان بمقدار الكر، وما يمكن أن يعد
وجها له غير وجيه، كما أن المشهور نجاسته بالتغير، حسب ما مر
تفصيله (1).
وأما إذا كان أقل من الكر، فالذي هو المشهور، وعليه الاجماعات
الكثيرة المدعاة، اعتصامه وعدم انفعاله (2)، خلافا للسيد في الجمل (3)
والعلامة في كتبه (4)، إلا فيما يظهر من الإرشاد (5) ولجماعة من الطبقة
المتأخرة (6).
والمسألة ذات الرواية، فلا كاشف عما عداها، خصوصا بعد اقتضاء
إطلاق كلمات جمع من القدماء عدم الشرطية (7)، وإن صرح به مثل
ابن البراج (8) وأمثاله (9).

1 - تقدم في الصفحة 115 وما بعدها.
2 - الخلاف 1: 195، الغنية، ضمن الجوامع الفقهية: 489 / السطر 29، المعتبر 1: 41،
جامع المقاصد 1: 111، جواهر الكلام 1: 85.
3 - رسائل الشريف المرتضى 3: 22.
4 - تذكرة الفقهاء 1: 3 / السطر 23، تحرير الأحكام: 4 / السطر 23، منتهى المطلب 1:
6 / السطر 12، نهاية الإحكام 1: 228.
5 - إرشاد الأذهان 1: 235.
6 - التنقيح الرائع 1: 38، مسالك الأفهام 1: 1 / السطر 25، الحدائق الناضرة 1: 187.
7 - المراسم: 37، الوسيلة: 72.
8 - لاحظ جواهر الكلام 1: 85.
9 - الغنية، ضمن الجوامع الفقهية: 489 / السطر 28.
188

أدلة عدم اشتراط كرية الجاري
وما يمكن أن يوجه به الرأي المشهور، طوائف من المآثير:
الطائفة الأولى: الروايات المتكفلة لطهارة الماء
وأنه لا ينجسه شئ إلا غلبة النجاسة والتغير بها (1)، فإن قضية
إطلاقها، ومفهوم انحصار النجاسة بالغلبة والتغير، عدم اعتبار الكرية
في مطلق المياه، خرج منها القليل الراكد.
أقول: هي مع قطع النظر عما في سند بعضها، واختصاص مورد جمع
منها بالغدير والنقيع، وهما الراكد، وانصراف الآخر إلى مثلها، لاختصاص
محالها بالمياه الراكدة، وصحة الاتكاء على بعض القرائن الحالية في مقام
تأدية الحكم، أن موضوعها ليس الماء بطبيعته الصادقة على القليل
والكثير، حتى يشمل الجزء العقلي بالضرورة، بل الماء فيها - بمناسبة
عروض التغير عليه، وأنه من عوارض الماء الكثير متعارفا - هو الماء
الكثير، فتكون هذه الطائفة مهملة بالنسبة إلى الكثرة والقلة.
بل الأخبار هنا ليست في مقام بيان الماء نوعا وصنفا، بل هي ناظرة
إلى نجاسته وكيفية تأثير النجس في الماء، فالتمسك بهذه الطائفة غير
تام جدا.

1 - وسائل الشيعة 1: 135 - 141، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1،
الحديث 9، والباب 3، الحديث 1 و 3 و 4 و 6 و 7 و 11 و 13.
189

فبالجملة: إثبات الاطلاق لهذه الطائفة في غاية الاشكال، لأن
الملحوظ في موضوعها الماء الكثير مع كونه من حيث الكثرة مهملا،
وأنها هي الكثرة البالغة كرا، أو غير البالغة.
ومن هنا يعلم وجه النظر في استفادة نفي الشرطية من الحصر (1)،
فإن موضوعه إذا كان على النحو المشار إليه، فالحصر تابع له
بالضرورة، فما اشتهر (2) من التمسك بمفهوم النبوي: الماء كله طاهر
لا ينجسه شئ (3) وغيره (4)، غير ظاهر، لأن قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): إلا ما غير... إلى
آخره، شاهد على أن الماء لوحظ مع الكثرة الاجمالية، وليس من قبيل
قولنا: الماء جسم سيال بارد بالطبع فافهم.
ومن هذه الطائفة مضمرة سماعة بن مهران، قال: سألته عن الرجل
يمر بالميتة في الماء.
قال: يتوضأ من الناحية التي ليس فيها الميتة (5).
وفي ثبوت الاطلاق للماء نظر واضح.

1 - روض الجنان: 134 / السطر 17.
2 - مدارك الأحكام 1: 31.
3 - عوالي اللآلي 3: 9 / 6، مستدرك الوسائل 1: 186، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المطلق، الباب 1، الحديث 5 مع اختلاف يسير.
4 - لاحظ وسائل الشيعة 1: 138 - 139، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3،
الحديث 3 و 4.
5 - تهذيب الأحكام 1: 408 / 1285، وسائل الشيعة 1: 144، كتاب الطهارة، أبواب
الماء المطلق، الباب 5، الحديث 5.
190

الطائفة الثانية: ما وردت في خصوص الماء الجاري
وهي بين ما لا سند له، وتكون دلالته تامة، مثل روايات فقه
الرضا (1) والسيد فضل الله الراوندي (2)، ودعائم الاسلام (3).
ومضمونها: أن الماء الجاري لا ينجسه شئ.
وتوهم انجبار ضعف الاسناد بعمل الشهرة (4)، غير تام، لاشتراطها في
الجبر بكونها عملية، وهي غير ثابتة.
ويقرب منها ما في الجعفريات (5) فإن احتمال تمامية سندها، أقوى
من الكتب المشاركة معها، فتأمل.
وبين ما هو المسند، وفيه بعض الأسانيد الصحيحة، ولكنها أجنبية
عن هذه المسألة، مثل المآثير المذكورة في الباب الخامس في
الوسائل فإنها ناظرة إلى نفي البأس عن البول في الماء الجاري (6)،

1 - الفقه المنسوب للإمام الرضا (عليه السلام): 91.
2 - نوادر الراوندي: 39، مستدرك الوسائل 1: 191، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 5، الحديث 4.
3 - دعائم الاسلام 1: 111.
4 - مستند الشيعة 1: 21.
5 - الجعفريات: 11، مستدرك الوسائل 1: 190، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 5، الحديث 1.
6 - لاحظ وسائل الشيعة 1: 143، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 5.
191

ومن راجع أبواب التخلي (1) يطمئن بما أشير إليه.
وتوهم دلالتها الالتزامية العرفية على نفي البأس عن نفس الماء
الجاري أيضا (2)، في غير محله، لممنوعيتها أولا، ولعدم لزوم تعرض
الإمام (عليه السلام) لجميع الجهات في المجلس الواحد ثانيا، فإن الأحكام تنشر
تدريجا، وليس هذا من الاغراء بالجهل والالقاء في التهلكة، فلا تختلط.
نعم، فيها رواية واحدة ربما تكون ظاهرة، في أن السؤال يكون عن
الماء الجاري الذي يبال فيه، وهي موثقة سماعة بن مهران قال: سألته
عن الماء الجاري يبال فيه.
قال: لا بأس به (3).
فإنه مع قطع النظر عن الشبهات الممكنة فيها، يحتمل قويا كون
جملة يبال فيه غير مرتبطة بالأولى، فكأنه حذفت همزة الاستفهام، لعدم
الاحتياج إليها في كثير من المقامات.
هذا مع أنها مضمرة، ودعوى قطعية الاضمار عن المعصوم، غير
معلومة جدا وإن لم يقل به الأصحاب رضي الله عنهم.
فما يظهر من الشيخ في التهذيب وجماعة من أتباعه، من
التمسك بها في هذه المسألة (4)، غير قابل للتصديق، كما أن ذكرها بعنوان

1 - وسائل الشيعة 1: 324 و 340، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، الباب 15 و 24.
2 - لاحظ دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلد الأول: 96.
3 - تهذيب الأحكام 1: 34 / 89، وسائل الشيعة 1: 143، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المطلق، الباب 5، الحديث 4.
4 - تهذيب الأحكام 1: 34.
192

التأييد - كما في الجواهر (1) - غير صحيح أيضا.
الطائفة الثالثة: المآثير الكثيرة في الأبواب المختلفة
فمنها: صحيحة محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الثوب
يصيبه البول.
قال: اغسله في المركن مرتين، وفي ماء جار فمرة واحدة (2).
وتوهم: أنها من الأدلة الدالة على عدم انفعال القليل، لأن المركن
قليل، فلا يتم الاستدلال بها، لأقوائية الأدلة المخالفة، والتفكيك بين
الصدر والذيل يضر بالحجية عند العقلاء، غير بعيد جدا.
ولكنه يمكن دعوى أن المقصود هو الماء الراكد، والتمثيل
بالمركن لمراعاة التقيد.
مع أن المركن له المصاديق المختلفة في الصغر والكبر، ولا
بأس بالتقييد في الجملة الأولى، لما ورد في الكر، كما سيأتي تفصيله (3).
فبالجملة: قد يستدل بها (4)، بتقريب أن نجاسة الثوب لو استلزمت
نجاسة الماء إذا كان قليلا، لكان عليه (عليه السلام) بيانها، لأن العرف ينتقل ذهنه

1 - جواهر الكلام 1: 86.
2 - تهذيب الأحكام 1: 250 / 717، وسائل الشيعة 3: 397، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات، الباب 2، الحديث 1.
3 - يأتي في الصفحة 253 - 254 وما بعدها.
4 - مصباح الفقيه، الطهارة: 8 / السطر 3.
193

من طهارة الثوب به إلى عدم نجاسته قطعا.
ولا يصح قياسه بالغسالة (1)، فإنها ليست مطهرة أولا، وثانيا القذارة
العرفية تساعد على نجاستها، دون نجاسته.
وفيه: أنه لا يتم إلا إذا كان المتعارف أقلية الماء الجاري من الكر
في المنطقة المعهودة، وإلا فلا يقع المخاطب في الجهل والخلاف، كما
لا يخفى.
فما أفاده الفقيه الهمداني (2) لا يرجع إلى محصل، هذا مع ما عرفت
آنفا، فراجع.
وله تقريب آخر، وهو أن قضية إطلاقها عدم اشتراط الكرية، إذا لم
نقل باعتبار ورود الماء القليل في تطهير الثوب النجس، كما هو الظاهر.
ولكنه ربما يشكل، بأن الكلام سيق لإفادة كيفية التطهير بالراكد
والجاري، من غير النظر إلى إفادة أي قسم منهما.
نعم، دعوى ظهور الجملة الثانية في أن المناط هو الجريان، كما
أن في المركن هو الركود، غير بعيدة، حتى اشتهر أن تعليق الحكم على
الوصف، مشعر بالعلية (3).
فبالجملة: لو تم إمكان الالتزام بمفاد الصحيحة - من التفصيل بين
الكر والجاري - لكان التقريب المذكور نافيا لشرطية الكرية.

1 - دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلد الأول: 98.
2 - مصباح الفقيه، الطهارة: 8 / السطر 5.
3 - فرائد الأصول 2: 541، أجود التقريرات 1: 435، القواعد الفقهية 1: 286.
194

ومنها: صحيحة ابن بزيع، فإنها نافية لاشتراط الكرية - على ما
اخترناه في المراد منها، من رجوع التعليل إلى الصدر - فيعلم من عموم
التعليل أن جميع المياه ذات المادة، موسع لا ضيق فيها، فيكون مطهرا من
الأحداث والأخباث من غير شرط، وغير منفعل بملاقاة النجاسة.
ويمكن دعوى: أنه لو رجع إلى الجملة المحذوفة كما هو
المعروف بينهم، أو الجملة الأخيرة المذكورة - كما هو المختار، بناء على
رجوعه إلى الأخير من غير لزوم إشكال - يتم المطلوب، لأنه إذا كانت
المادة سببا لرفع النجاسة، فكونها سببا لرفعها أولى، وهذا هو المفهوم
منها عرفا.
وتوهم: أن الأولوية القطعية في المسائل العبادية ممنوعة، فاسد
ضرورة أن مسألتنا هذه ليست منها، فإن للعرف قدما راسخا في هذه
المسائل، وليس للشرع إبداعات فيها كما لا يخفى.
وإن شئت قلت: بعد ما تغير ماء البئر، وكان ما لا يتغير منه أقل من
الكر، فهو إما ينجس، أو لا ينجس.
فعلى الثاني: فهو المطلوب، لأن عدم تنجسه مع كونه قليلا للمادة،
فيكشف عموم الحكم.
وعلى الأول: فإما يقال: بأنه إذا تنجس، لا يطهر ما زال عنه وصف
التغير، فهو خلاف الصحيحة.
وإما يقال: بأنه ينجس بعد ما تغير، وإذا زال وصف التغير يطهر بنفسه،
ثم يورث طهارة ما زال عنه الوصف، فهو بلا دليل، وإذا كان زوال النجاسة
عنه بعد ذلك للاتصال بالمادة، فكون الملاقاة موجبا لنجاسته بلا وجه.
وإما يقال: بأنه يورث طهارة المتغير، الزائل عنه وصف التغير، مع
195

كونه نجسا بالملاقاة، ولا منع من الالتزام بذلك إذا اقتضت علية الملاقاة
للنجاسة، كما هي المفروضة، وبه يجمع بين تلك وهذه الصحيحة، ولكنه
غير تام قطعا.
وأنت خبير: بأن الصحيحة ظاهرة في أن الماء إذا زال وصف تغيره،
يطهر من غير الحاجة إلى الاتصال والامتزاج والاستهلاك، مع أن من
الممكن كون موردها - غالبا - من الاستهلاك، بوجه مضى سبيله (1)، من
غير لزوم الخلاف، فاستكشاف عدم اعتبار الكرية من الجملة الأخيرة
ممنوع، ولكنها تدل على عدم اعتبار الكرية بوجه عرفت.
نعم، قد مضى كلام في صحة الاتكاء على مثلها الصريحة في سعة
ماء البئر (2)، مع أن المشهور بين القدماء القول: بأن ماء البئر ليس بواسع،
فكأنهم أعرضوا عنها، ولكن قضية الصناعة عند الشك في الاعراض،
الرجوع إلى أدلة حجية السند إلى أن يثبت الموهن، وهو الاعراض،
والتفصيل يطلب من مقامه (3).
ومنها: ما رواه الشيخ بإسناده عن علي بن جعفر، قال: سألت أبا
الحسن (عليه السلام) عن البيت يبال على ظهره، ويغتسل فيه من الجنابة، ثم
يصيبه الماء، أيؤخذ من مائه فيتوضأ للصلاة؟
فقال (عليه السلام): إذا جرى فلا بأس به (4).

1 - تقدم في الصفحة 151.
2 - تقدم في الصفحة 174.
3 - تحريرات في الأصول 6: 400.
4 - تهذيب الأحكام 1: 411 / 1297.
196

ومثلها صحيحة محمد (1) وصحيحة ابن الحكم (2) في الميزابين سالا،
أحدهما: بول، والآخر: ماء، فإنه يعلم من هذه الأخبار، أن نفس السيلان
والجريان، دخيل في عدم التنجس، من غير دخالة الأمر الآخر، فتأمل جدا.
الطائفة الرابعة: المآثير المختلفة الواردة في ماء الحمام
مثل صحيحة داود بن سرحان الناطقة بأن ماء الحمام بمنزلة الماء
الجاري (3).
وتوهم إجمالها، لما في الوافي في ذيلها: لما الزق بهما من
التراب (4) غير تام، لخلو كثير من نسخ التهذيب عنه (5)، ولقوة احتمال
نقل هذه الجملة من ذيل رواية محمد بن مسلم (6) إلى ذيلها خطأ.
ومثل رواية ابن أبي يعفور الناطقة ب‍ " إن ماء الحمام كماء النهر، يطهر

1 - الكافي 3: 12 / 2، وسائل الشيعة 1: 144، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 5، الحديث 6.
2 - الكافي 3: 12 / 1، وسائل الشيعة 1: 145، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 6، الحديث 4.
3 - تهذيب الأحكام 1: 378 / 1170، وسائل الشيعة 1: 148، كتاب الصلاة، أبواب
الماء المطلق، الباب 7، الحديث 1.
4 - الوافي 6: 52 / 8.
5 - لاحظ تهذيب الأحكام (الطبعة الحجرية) 1: 107 / السطر 24، تهذيب الأحكام 1:
378 / 1170.
6 - تهذيب الأحكام 1: 378 / 1172، وسائل الشيعة 1: 148، كتاب الطهارة، أبواب
الماء المطلق، الباب 7، الحديث 2.
197

بعضه بعضا " (1).
ومثل ما ورد: أن سبيله سبيل الجاري (2).
والاستدلال بها يتم بعد وضوح أن المقصود من التنزيل، هو التوسعة
في ماء الحمام من جهة الاعتصام، كما شهدت به سائر المآثير والأخبار الواردة في ماء الحمام (3).
وبعد وضوح أن المراد من ماء الحمام هو ما في الحياض الصغيرة،
لأنه يشبه الجاري في كونه ذا مادة، ولذلك نزل منزلة الجاري، فكما أن
المادة خارجة عنه، فهي خارجة عن ماء الحمام، ولأنه مورد السؤال
والابتلاء، ولأن من الممكن وجود مخازن الحمام خارجة عنه، كما
لا يخفى.
وبعد وضوح أن ما في الحياض أقل من الكر قطعا، حسب ما يرى في
عصرنا، فضلا عن عصرهم.
وعندما تبين ذلك، يتضح أن الجاري المنزل عليه لو كان كرا، وكانت
الكرية دخلية فيه، لما كان وجه لهذا التنزيل.
وفيه: أنه يلزم بناء على هذه المقدمات، عدم صحة تنزيل ماء
الحمام

1 - الكافي 3: 14 / 1، وسائل الشيعة 1: 150، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 7، الحديث 7.
2 - الفقه المنسوب للإمام الرضا (عليه السلام): 86، مستدرك الوسائل 1: 194، كتاب الطهارة،
أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 2.
3 - وسائل الشيعة 1: 148، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7.
198

منزلة ماء الكر، ويكون قولنا: ماء الحمام بمنزلة الكر غلطا، مع
فساد ذلك قطعا، فيعلم عدم صحة الكشف المزبور.
وبعبارة أخرى: إذا قلنا: زيد كالأسد لا يلزم كون جميع مصاديق
الأسد شجاعا.
فبالجملة: لو سلمنا جميع المقدمات المشار إليها في تقريرات المحقق
الفقيه الوالد - مد ظله (1) - لما كان وجه لتمامية النتيجة، فتدبر.
هذا مع أن تمامية المقدمة الثالثة، غير واضحة، وسيأتي تفصيله
في محله إن شاء الله تعالى (2).
ثم إنه يمكن التقاريب الأخر، إلا أن الأدلة السابقة كافية، ولا
وجه لإطالة البحث حول ما لا يرجع إلى محصل.
في تأييد المختار ببعض المآثير
ثم إنه قد ورد في هذا الباب ما يؤيد المطلوب، مثل قوله (عليه السلام) في
رواية بكر بن حبيب: إذا كانت له مادة (3).
وقوله (عليه السلام) في موثقة حنان بن سدير، قال: أليس هو جار؟.
قلت: بلى.

1 - الطهارة، (تقريرات الإمام الخميني (قدس سره) الفاضل اللنكراني: 6 (مخطوط).
2 - يأتي في الجزء الثاني: 3 وما بعدها.
3 - التهذيب 1: 378 / 1168، وسائل الشيعة 1: 149، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المطلق، الباب 7، الحديث 4.
199

قال: لا بأس به (1).
فإنه يعلم منهما، أن المناط هو الجريان، وكونه ذا مادة، التي هي
الدخلية في كونه جاريا واقعا أو تعبدا.
فيعلم من جميع ما مر، أن للجريان الذي لا يصدق إلا مع المادة،
دخالة تامة في عدم التنجس كالكرية، وما ذهب إليه الشيخ الأعظم،
من قصور الأدلة اللفظية، وتمامية الاجماعات المعتضدة بالشهرة (2)، غير
تام، بل الأمر بالعكس.
ولو تم الاشكال في الأولى، فالثانية قاصرة بعد ما مر، فإن الضرورة
قاضية بأن هذه المسائل ليست ذات رواية غير واصلة، ولا تكون تلك
الاجماعات كاشفة عن أمر وراء ما وصل إلينا، بعد قوة احتمال كونها كافية،
كما اختاره الأكثر، فتدبر.
وما يمكن أن يوجه به الرأي الأخير، طوائف من الروايات:
الأولى: الطائفة الأخيرة الواردة في ماء الحمام
فإنها (3) على ما أفاده الشيخ (رحمه الله)، تدل على اشتراط الكرية (4)، وحيث

1 - الكافي 3: 14 / 3، وسائل الشيعة 1: 213، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف،
الباب 9، الحديث 8.
2 - الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 75.
3 - وسائل الشيعة 1: 148 - 150، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7.
4 - الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 75 - 77.
200

يظهر من القوم وقوع الشيخ في المقام في الاشتباه الواضح، حتى لا
يذكرون رأيه أو يردونه (1)، فلا بأس بأن يقال:
إن الظاهر منه أن البحث في مسألة اشتراط الكرية في الماء
الجاري، ليس من الواضح مصبه، ولا من الظاهر مورده، فإنه هل
المقصود من الكرية المعتبرة، هو المقدار المعتبر في عدم انفعال الماء
القليل، من غير شرط آخر وهو تساوي السطوح؟
أم المقصود منها هي الكرية المخصوصة، فلو كان مقدار الماء
الجاري أضعاف الكر، مع الاختلاف في السطح، ينجس بالملاقاة، فلا بد
من الكرية في السطح الواحد؟ وهذه المجملة غير واضحة من كتب
العلامة.
كما أن المقصود أيضا مجمل، من جهة أن الماء الجاري يشترط
فيه الكرية، أو هو مع مادته.
وتوهم: أن الماء الجاري هو السائل، لا مادته، فاسد، لتفسيرهم
الجاري ب‍ " النابع السائل " (2) والنبع مادته، فهي دخلية في صدق
الجاري الذي هو المقصود في الشريعة.
والكتب المتعرضة لهذه الجهة، خالية عما يرفع به الاجمال،
ولعل العلامة كان يعتقد ذلك في المجموع، دون البعض منه.

1 - مستمسك العروة الوثقى 1: 132.
2 - جواهر الكلام 1: 72، مصباح الفقيه، الطهارة: 6 / السطر 33، العروة الوثقى 1: 32،
فصل في الماء الجاري، التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 112 - 113.
201

فعلى هذا، فقوله (عليه السلام): ماء الحمام بمنزلة الماء الجاري (1) أو هو كماء
النهر، يطهر بعضه بعضا (2) لا يدل إلا على اتحادهما في الحكم، وإذا كانت
كرية المادة وما في الحياض شرطا، فيعلم شرطية ذلك في الجاري أيضا،
قضاء لحق التنزيل.
أقول: بعد التأمل والتدبر، لا يظهر لي أن نافي الكرية ما يريد بها،
فهل يريد بها نفي المقدار المطلق، أو نفي المقدار المخصوص بالتساوي
في السطوح، الذي هو المراد من الكرية في بحثنا؟
وهكذا لا يظهر أن مثبتها يريد شرطية كرية المجموع، أو
المخصوص بالسريان والجريان.
ثم إنه بعد ملاحظة ما أبدعناه، وملاحظة الاختلاف الموجود بينهم في
ماء الحمام، من أنه هو ما في الحياض، أو الأعم منه ومن المادة، يظهر أن
استفادة الشيخ شرطية الكرية من حديث المنزلة، ليس بعيدا.
نعم، مبانيه فيما استفاده منها فاسدة.
ويمكن دعوى ظهور التنزيل، في أن المقصود إسراء أحكام المشبه
به إلى المشبه، لا العكس، فلا دلالة له على خلاف ما قصده المشهور
منه، كما لا يخفى.
فبالجملة: إذا كان رأيه الشريف في ماء الحمام، أنه الأعم، وكان
يرى

1 - تهذيب الأحكام 1: 387 / 1170، وسائل الشيعة 1: 148، كتاب الطهارة، أبواب
الماء المطلق، الباب 7، الحديث 1.
2 - الكافي 3: 14 / 1، وسائل الشيعة 1: 150، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 7، الحديث 7.
202

اعتبار الكرية عند العلامة في المادة والماء الجاري، فيلزم كون
الجاري كرا، لأن ما نزل منزلته، هو المشابه معه في جميع الجهات
التكوينية إلا في مجعولية المادة، وأريد من التنزيل ذلك، فهما يتفقان في
الكرية وغيرها من الأحكام، فتأمل جيدا (1).
الطائفة الثانية: ما رواه الكليني والشيخ
عن عمار بن موسى الساباطي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سئل عما
يشرب منه الحمامة... (إلى أن قال:)
فقال (عليه السلام): كل شئ من الطير يتوضأ مما يشرب منه، إلا أن ترى في
منقاره دما، فإن رأيت في منقاره دما فلا تتوضأ منه، ولا تشرب (2).
وسئل عن ماء شربت منه الدجاجة.

1 - ثم إنه يظهر تقريب الاستدلال بمرسلة ابن أبي يعفور (أ).
وله تقريب آخر، وهو أن الظاهر منها اعتصام الجاري بعضه ببعض، ولا مدخلية للمادة
فيه، فعليه هو بمنزلة الماء المحقون، واشتراط الكرية فيه قطعي (ب).
أقول: نعم، إلا أن ماء النهر ليس ماء النهر إلا حال كونه ذا مادة، فاعتصام بعضه ببعض
ممنوع إلا في تلك الحال، وعندئذ ليس بمنزلة المحقون.
وفي المقام تفصيل خارج عن الجهة المبحوث عنها] منه (قدس سره) [.
(أ) تقدمت في الصفحة 198.
(ب) الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 77.
2 - تهذيب الأحكام 1: 228 / 660، وسائل الشيعة 1: 230، كتاب الطهارة، أبواب
الأسئار، الباب 4، الحديث 2.
203

قال: إن كان في منقارها قذرا، فلا تتوضأ منه، ولا تشرب منه... (1).
وقد رواه الصدوق مرسلا نقلا بالمعنى (2)، كما هو دأبه كثيرا.
وقضية الاطلاق اللفظي والسكوتي في الأولى والثانية، نجاسة
جميع المياه إلا الماء الكثير، حسب أدلته.
ولكن الاطلاق السكوتي غير منعقد جزما، لأن من شرائطه الحاجة
إلى الاستفصال، حتى يكون تركه دليلا على الاطلاق، وهي ممنوعة،
لوضوح أن مقصوده المياه القليلة في الظروف المتعارفة، ولا أقل من
الشك.
وأما الاطلاق اللفظي في الأولى، فهو أيضا - بعد التأمل - ممنوع،
لوضوح أن مصب السؤال والحكم واحد، وتوهم ثبوت الاطلاق له - بحيث
يقتضي نجاسة الجاري - من سوء السليقة والفهم، كما لا يخفى.
الطائفة الثالثة: المآثير الواردة في الكر (3)
فإنها بمفهومها الشرطي والوصفي والقيدي، تدل على انفعال غير
الكر ولو كان جاريا، بل ظاهر صحيحتي إسماعيل بن جابر، أنهما سيقتا لإفادة
المفهوم، لأنه سئل فيهما عن الماء الذي لا ينجسه شئ، فأجيب ب‍ " أنه

1 - الإستبصار 1: 25 / 64، وسائل الشيعة 1: 231، كتاب الطهارة، أبواب الأسئار،
الباب 4، الحديث 3.
2 - الفقيه 1: 10 / 18.
3 - وسائل الشيعة 1: 158 - 164، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9.
204

الكر " (1) أو أنه ذراعان عمقه... (2)، فيعلم منهما أن ما وراءه ينجس.
وقد تقرر في محله: أن مفهوم الحد والتحديد، خارج عن النزاع
المعروف في حجية المفاهيم (3)، فقولنا في تحديد الانسان: هو الحيوان
الناطق ناف لسائر الأمور الأخر المحتملة دخالتها في حده.
ثم إن قضية معتبرة أبي بصير: ولا تشرب من سؤر الكلب، إلا أن
يكون حوضا كبيرا يستقى منه (4) أيضا نجاسة القليل ولو كان جاريا،
وحجية مفهوم الحصر مفروغ عنها في محلها عند الأصحاب رضي الله عنهم،
إلا من شذ (5).
ومثلها صحيحة علي بن جعفر، عن أخيه قال: سألته عن الدجاجة
والحمامة وأشباههما تطأ العذرة، ثم تدخل في الماء، فيتوضأ منه للصلاة؟
قال: لا، إلا أن يكون الماء كثيرا، قدر كر من الماء (6).
فإنهما بمفهومهما، تدلان على انحصار الماء المعتصم بالكر.

1 - الكافي 3: 3 / 7، وسائل الشيعة 1: 159، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 9، الحديث 7.
2 - تهذيب الأحكام 1: 41 / 14، وسائل الشيعة 1: 164، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المطلق، الباب 10، الحديث 1.
3 - تحريرات في الأصول 5: 13.
4 - تهذيب الأحكام 1: 226 / 650، وسائل الشيعة 1: 226، كتاب الطهارة، أبواب
الأسئار، الباب 1، الحديث 7.
5 - انظر مطارح الأنظار: 187 / السطر 25.
6 - وسائل الشيعة 1: 155، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 8، الحديث 13،
والباب 9، الحديث 4.
205

النسبة بين مفهوم أدلة الكر وأدلة الجاري
ودعوى: أن النسبة بين المفهوم وأدلة الماء الجاري، عموم من
وجه، فلا ينهض المفهوم لاعتبار الكرية، إما لتقدم تلك الأدلة عليه
لأقوائيتها، أو لتكافئهما وتساقطهما، ويكون المرجع بعد ذلك، إطلاق الطائفة
الأولى التي النسبة بينها وبين المفهوم عموم مطلق، ولمكان سقوط
المفهوم بالمعارضة، لا بد من الرجوع إلى تلك المطلقات النافية
لانفعال الماء القليل، جاريا كان أو راكدا (1)، مسموعة.
إلا أن الشيخ قال: تتقدم أدلة الكر على الجاري (2) ظنا أن اخراج
الفرد النادر من أدلة الجاري - بتقديم مفهوم الكر - أولى من اخراج جميع
أفراد الجاري من أدلة الكر، غافلا عن أن تقديم أدلة الجاري، لا يستلزم
تقييد موضوع أدلة الكر، حتى يكون جميع الأفراد من الجاري خارجا.
مع أن الندرة ممنوعة جدا، وأن ميزان الجمع ليس الامكان العقلي،
وليس هذا الجمع لتلك النكتة والجهة من الجموع العقلائية.
وفي مقابله صاحب الجواهر حيث قال بالعكس (3)، معللا بوجوه
لا تخفى، غير ذاكر منها وجها، وهي معلومة، إلا أنها غير تامة.
وقد يقال: بأن تقديم المفهوم، يستلزم لغوية قيد الجريان، والبئر،

1 - مستدرك الوسائل 1: 186، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 5.
2 - الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 78.
3 - جواهر الكلام 1: 85.
206

وكونه ذا مادة ولا عكس (1).
وفيه: أن قضية العكس صرف النظر عن مفهوم الحصر، الدال على
انحصار المعتصم بالكر، ولا ترجيح كما لا يخفى.
ويمكن دعوى: أن المسألة فيما نحن فيه، من قبيل تعدد الشرط
واتحاد الجزاء، ضرورة أن مفهوم الشرط هنا، كما يعارض بمنطوق أدلة
الجاري، كذلك منطوق أدلة الكر، معارض بمفهوم الجاري، لأن هذا القيد
في تلك الأدلة، بمنزلة الوصف المورث للمفهوم، ومقتضى الجمع العرفي
كون الجاري كالكر في الاعتصام.
وفيه: أن الأمر كذلك، إلا أن حجية مفهوم الشرط والوصف ممنوعة،
ويكون مقتضى الحكم العرفي ذلك، لعدم المعارضة لولا مفهوم الحصر
في أدلة الكر غير المعارض بمثله في أدلة الجاري، فلا تغفل.
فبالجملة: كون هذه المسألة من صغريات تلك المسألة الأصولية،
منوط بفرض اعتبار المفهومين، وهو مجرد فرض لا نفع له في الفقه، فعليه
يثبت التهافت بين الأدلة.
وأما الرجوع إلى الطائفة الأولى، فهو يتم إذا تم السند والدلالة،
وقد عرفت عدم الاطلاق فيها، ومضت الشبهة في ثبوت الاطلاق للنبوي
المنجبر تفصيلا (2).
بل لو سلمنا إطلاقها، فالنسبة بعد التقييد تنقلب، فإن النسبة بين

1 - لاحظ التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 124 - 125.
2 - تقدم في الصفحة 190.
207

النبوي ومفهوم أدلة الكر، مطلق لا بد من التقييد، فيصير مفاده أن
الله تعالى خلق الماء الكر طهورا وعندئذ تقع المعارضة بينه وبين دليل
الماء الجاري، فعليه لا يمكن حل الاشكال.
ولا ترجيح لملاحظة النسبة الأولى، بل الظاهر ينعكس الأمر،
ويكون النبوي دليلا لمذهب العلامة وأصحابه رضوان الله تعالى عليهم،
فافهم وتدبر.
مقتضى الأصل العملي في المقام
فبالجملة: تسقط الطائفتان، لتكافئهما، وحيث لا يندرجان تحت
الأدلة العلاجية عندنا، فلنا دعوى كفاية استصحاب الطهارة وقاعدتها،
لاثبات الطهارة والمطهرية:
أما الأولى: فهي معلومة.
وأما الثانية: التي هي المقصود بالأصالة في القليل الجاري دونها -
خلافا لما يظهر من جلهم، حيث غفلوا عن ذلك، وتمسكوا بقاعدة الطهارة -
فهو أن مقتضى أدلة المياه، أنها مطهرة بذاتها وطبعها، ولكنها إذا كانت نجسة
تكون النجاسة مانعة، وإذا تعبدنا بطهارتها وعدم نجاستها، فتثبت مطهريتها،
فتأمل، فإنه لا يخلو من إشكالات واضحة.
رجوع إلى النسبة بين أدلة الكر وأدلة الجاري
إن قلت: يمكن تقييد مفهوم الحصر بأدلة الجاري، ويمكن دعوى
208

انصراف أدلة الكر إلى الراكد.
قلت: لا ضرورة أن مفاد الحصر بالتبادر، معارض لجميع ما يدل على
خلافه، أخص كان، أو أعم، أو مباينا، وقد فصلناه في محله (1)، واخترنا أن
مفهوم الشرط والوصف وما شابههما، غير قابل للتقييد، للزوم الخلف، وهذا
مثله في وجه، والانصراف المزبور ممنوع بعد المراجعة إلى أحاديث
المسألة.
نعم، يمكن دعوى أن العرف بعد المراجعة إلى كثرة المآثير
الدالة على خصوصية المادة والبئر والمطر والجاري - مع خروج
المطر والحمام من مفهوم الحصر قطعا، وتقدم أدلتهما عليه - يفهم أن هذه
الرواية الدالة على الحصر، ليست في مقام إفادته، بل هي تفيد الفرد
الكامل، والمتعارف بين الناس، والأكثر وجودا وابتلاء... وغير ذلك، فإنه
بعد هذا الوجه تسقط دلالتها على الحصر، وتكون الطائفة الأولى بلا
معارض، ويتم المقصود.
عدم اعتصام الجاري ومطهريته مع الافراط في القلة
ثم إن مقتضى إطلاق فتواهم، أن الماء الجاري القليل معتصم ومطهر
ولو كانت قلته في نهايتها وغايتها، وهو عندي مشكل، بل ممنوع، لانصراف
الأدلة عنها، بل يمكن عدم صدق الجاري على النابع السائل الذي تمام
مائه في يوم يبلغ كوزا.

1 - تحريرات في الأصول 5: 185 - 186.
209

ولعل القائل بالكرية، يريد اعتبار الكثرة الدخيلة في الاسم، أو
في موضوع الأدلة، فإنه لو كان كذلك فهو التحقيق الحقيق بالتصديق، كما
لا يخفى.
بحث وتفصيل في المراد من كرية الجاري
قد مضى إجمالا (1): أن الكرية المشترطة في المقام، مجملة من
جهتين:
من أن المقصود كون الجاري بمقدارها، فلو كان طول المجرى
فرسخا، وكان بمقدار الكر، فهو يكفي، أم المقصود كونه في سطح واحد،
على النحو المقرر في الكر ومطهريته.
فإن قلنا بالأول، فلا يكون تقديم مفهوم أدلة الكر على أدلة الجاري،
موجبا لالغاء قيد الجريان لأنه من خصوصياته، ولعل مقصود العلامة
ذلك، ولا يستظهر من العبارات المحكية خلافه، فتأمل.
ومن أن المقصود كرية ما في الخارج، أو كرية الكل، أو كرية
المجموع، والقائل بعدم اعتبارها ينفي المجموع، أو الأول فقط.
فيه وجوه واحتمالات، فإن كان مفهوم الجاري مركبا من الماء
الخارج والداخل المسمى ب‍ " المادة " فيعلم أن المقصود هو المجموع،
ولكن الظاهر أن الماء الجاري هو ما في الخارج وإن كانت المادة
دخيلة في صدقه عليه.

1 - تقدم في الصفحة 200 - 201.
210

وأما كرية المادة، أو هي مع الخارج، فليست شرطا عندهم، لأن
صريح كلامهم في أن المادة قد تكون راشحة، وعندئذ لا معنى لشرطية
الكرية فيها.
بل الحق: أن الماء الراكد الواقع تحت الأرض، إذا لم يتخلق فيه
الماء بالرشح، فإنه ليس مادة، فلو كان البئر غير ذي مادة راشحة، وكان
فيه الماء الراكد القليل، فتغير سطحه، فإنه ينجس، لأنه القليل، ولا
خصوصية لعنوان البئر بل المدار على الامداد المتوجه إليه
بالتخلق والايجاد.
ومن هنا يعلم: أن استغراب بعض فضلاء العصر، من نفي كرية
المادة (1)، في غير محله، لتوهمه أن لازمه كون الماء تحت الأرض، له
الخصوصية، غافلا عن عدم كونه مادة إذا لم يكن يتخلق فيه بالتدريج
المياه الجديدة، ولو كانت المادة أعم، لكانت مادة الحمام مادة حقيقية،
لا تعبدية.
فعليه لا يعتبر الكرية مطلقا، ولا يشترط عند القائلين بها إلا في
الماء الخارج، دون المادة والمجموع، فلا تغفل.
فرع: في حكم العيون غير المتعدية
العيون غير المتعدية، ليست بئرا، ولا جاريا، ولا راكدا قليلا، ولا

1 - دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلد الأول: 104.
211

كثيرا عرفا، فهي أمر آخر، وحكمه عدم الانفعال، لمعتبرة ابن بزيع (1).
وأما إجراء الأحكام الأخر - مثل حكم الجاري - عليه، فهو غير
معلوم، خلافا لما يظهر من الفقيه اليزدي حيث قال: هي مثل الجاري (2)
ولم يقيده، وقد قيده بعض فضلاء العصر (3).
والذي هو التحقيق: أن كل ماء ذي مادة، فيه السعة، وليس معناها
الاعتصام كما توهمه الجمهور، بل هو أحد آثار جعل السعة، ولو كان كذلك
لما كان يحتاج إلى التكرار، فيعلم من قوله: لا يفسده شئ أنه غير
السعة المجعولة عليه.
نعم، هو من الآثار البارزة فجميع المضايق مرفوع عنه، ومنه
الاحتياج إلى التكرار، فلو كان المتنجس لا يطهر بالمرة الأولى، ففيه
الضيق المنفي، ولعل إطلاق كلامه ناظر إلى هذا التقريب، فتدبر.
فرع آخر: في حكم الجاري بلا مادة
الجاري على السطح بلا مادة، إذا كان قليلا ينجس، إلا في موارد:
الأول: ما إذا كانت له المادة وانقطعت، فإن ما هو الباقي والجاري
فعلا في النهر، نجاسته غير معلومة بالملاقاة، لأن ما هو المقطوع به

1 - الإستبصار 1: 33 / 87، وسائل الشيعة 1: 141، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 3، الحديث 12.
2 - العروة الوثقى 1: 32 فصل في المياه، الماء الجاري.
3 - دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلد الأول: 105.
212

خروجه من أدلته ما لم يكن له المادة، فلو كان المدار على
المادة في
الاعتصام فهي منتفية.
ولكنك عرفت: أن عنوان الجاري معتصم، والخارج منه الفروض
الأخر غير هذه الصورة (1).
الثاني: ما إذا كان طول النهر، إلى حد يعد الماء فيه ماءين، فتكون
الملاقاة في طرف غير موجبة للنجاسة في الطرف الآخر، ولعل هذا هو
مقتضى إطلاق معتبرة شهاب بن عبد ربه، فإنه (عليه السلام) أمر بالتوضي من
الجانب الآخر (2)، فتدبر.
الثالث: ما إذا كان الجريان على وجه التسنيم، أو التسريح الشبيه
به، فإنه في هذه الفروض المتضاربة، أيضا يشكل تنجسه، لامكان
استفادة دخالة السريان العرفي في التنجس، لما دل الدليل في اليابس
على دخالة الرطوبة في ذلك فالقول: بعدم السريان رأسا، أو أنه على
وجه الابداع، أو مثله، غير مقبول، بل الميزان هو السريان العرفي، فتأمل
جدا.
وللمسألة وجوه ومباحث أخر، لا بد من الخوض فيها - إن شاء الله
تعالى - في مباحث النجاسات.

1 - تقدم في الصفحة 182 - 183.
2 - بصائر الدرجات: 238 / 13، وسائل الشيعة 1: 161، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المطلق، الباب 9، الحديث 11.
213

خاتمة: فيها مسائل
الأولى: في الشك في أن للجاري القليل مادة أم لا؟
الماء الجاري القليل، إذا شك في أنه ذو مادة، فإن كان مسبوقا بها،
فمقتضى استصحاب اعتصامه ومطهريته وعدم انفعاله، وأنه كان إذا لاقاه
النجس لا ينجس، وأنه كان ذا مادة، أنه بحكم معلوم المادة.
والاشكال في جريان الأصل الأخير: بأن العلة لا تكون قيد
الموضوع، غير بعيد، ويكفينا الأصول الأخر الحكمية.
وإن كان مسبوقا بعدمها، فقضية الأصول الوجودية والعدمية
التنجيزية والتعليقية انفعالها، والاشكال في بعضها لا يضر بالمقصود،
نظير إشكال تقدم بعضها على البعض للسببية، فتدبر.
وإذا لم يعلم حاله السابقة، أو كانت المادة والجريان متحدي
الزمان، أو احتملنا انقطاع المادة في آن اتصافه بالجريان، بأن كانت
المادة سابقة، والجريان بعدها، ولكن نحتمل انعدامها حال اتصافه به،
فإنه إن أريد استصحاب كون الماء ذا مادة، فهو في مورده.
ولكن إن أريد استصحاب أن هذا الماء الجاري كان ذا مادة، فإنه غير
جار بالضرورة، لعدم الحالة السابقة للموضوع الموصوف.
فإذا لم يجر الأصول الموضوعية، أو الحكمية التي في حكمها كما
تقدم، فقضية استصحاب الطهارة وقاعدتها، طهارة الماء القليل الملاقي،
214

ويكفي أحدهما، إلا أن الأقوى جريان الاستصحاب دون القاعدة.
وجوه القول بالنجاسة
الوجه الأول: ولكنه مع ذلك، ذهب جمع من فضلاء الأمة إلى
النجاسة، ومنهم الفقيه اليزدي (رحمه الله) في العروة (1) وما يمكن أن يكون
وجها له جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، وقد نسب
إليه (2)، ولكنه صرح في كتاب النكاح بخلافه (3).
مع أنه لو كان هذا مستنده، لكان عليه تنجيس الماء المردد بين
القلة والكثرة، لأن قضية العام نجاسة كل ماء إلا الكر وذا المادة،
فعليه لا بد من التماس دليل آخر.
هذا مع أنه لو سلمنا جواز التمسك، يتعين القول بطهارته، لأن
العام المستفاد من الكتاب والسنة، عدم انفعال الماء، وأنه خلق طهورا
لا ينجسه شئ (4) إلا القليل بلا مادة، والكثير المتغير.
وكون العموم انفعال كل ماء قليل إلا ذا مادة يحتاج إلى الدليل
اللفظي، ومفاهيم أدلة الكر قاصرة عن ذلك، كما مضى (5)، وكفاية الاصطياد

1 - العروة الوثقى 1: 33 فصل في المياه، المسألة 2.
2 - التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 129.
3 - العروة الوثقى 2: 805 فصل في أحكام النكاح، المسألة 50.
4 - المعتبر 1: 40، وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 1، الحديث 9.
5 - تقدم في الصفحة 204 - 207.
215

ممنوعة، وإلا يلزم عليه تنجيس المردد بين المطلق والمضاف عند
الملاقاة، مع أنه قال بطهارته.
ودعوى: أن قضية انفعال الماء في الجملة، قابليته بالطبع
للنجاسة، وإلا يلزم كون القلة - وهي الأمر العدمي - سببا لقابليته،
فالجهات الأخر مانعة عنها، غير مسموعة، لأن إيجاب الاجتناب عن الماء
بعد الملاقاة، لا يدل على القابلية.
ولو سلمنا ذلك، فالقابلية هي الامكان الاستعدادي المتصف
ب‍ " القرب " و " البعد " وفي الماء الكثير قابليته، وهكذا في القليل،
والشرع أخذ مرتبة منها موضوعا لحكمه، ولذلك ينجس الكثير بالتغير
أيضا، فلا دخالة لعنوان القلة فيها.
فبالجملة: العدول عن ظاهر النبوي إلى ضده، غير ممكن، إلا بوجه
عقلي وطريقة برهانية، لا بهذه الوجوه والاعتبارات، فلا تغفل.
الوجه الثاني: يمكن أن يوجه الحكم بالنجاسة، بجواز التمسك
بقاعدة المقتضي والمانع (1)، وقد مر شطر من البحث حول قاعدة الانفعال
حسب ما اختاره الشيخ الأعظم (رحمه الله) في مسائل الماء المضاف، فراجع (2).
وتمامية هذه القاعدة عند العقلاء في بعض الأمور، لا تورث تمام
المدعى في المقام، كما لا يخفى.
الوجه الثالث: وهنا وجه ثالث اختاره بعض فضلاء مقاربي عصرنا.

1 - لاحظ دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلد الأول: 107.
2 - تقدم في الصفحة 83 - 84.
216

ومجمله: أن التخصيص من الأحكام الالزامية إذا كان على عنوان
وجودي - مثل قولك: لا تدخل علينا أحدا ثم قال: إلا أصدقائي - ظاهر
في كون الاحراز قيدا في المستثنى، فعند الشك يصح التمسك
بالعمومات (1).
وقد مر ما يتعلق به أيضا في الماء المضاف، وعلمت أنه لو كان
تاما عرفا، فهو في الأحكام التكليفية (2)، لا مثل المقام، للزوم كون الماء
المحرزة مادته بالملاقاة، غير نجس إذا كان العلم تمام الموضوع، وكان
الماء بلا مادة.
وإذا كان الاحراز جزء الموضوع، يلزم تنجس ذي المادة بالملاقاة إذا
لم يحرز ذلك.
ودعوى: أنه بعد الاحراز يؤثر الملاقاة السابقة، أعجب من هذه
المقالة، بل يلزم اتصاف الماء الواحد بالنجاسة والطهارة الواقعيتين،
حسب اختلاف حالات الأشخاص، فلا تغفل.
ثم إن الوجهين الأخيرين، ليسا مستندين لمثل الفقيه اليزدي،
القائل بنجاسة الماء في هذه المسألة، وطهارته في الفرضين الأخيرين
المشار إليهما سابقا (3).
ثم إن في المثال المذكور خلطا بين احتياط العقلاء في الإذن في

1 - لاحظ دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلد الأول: 107.
2 - تقدم في الصفحة 102 - 103.
3 - تقدم في الصفحة 215 - 216.
217

التصرف في مال الغير، وبين كون المقتضي عنوان المقيد.
كما أن قضية الاستصحاب، عدم جواز الإذن، لاخراج المورد عن
عنوان الخاص به، فلا تختلط.
الوجه الرابع: ثم إن هاهنا وجها رابعا موقوفة تماميته على كبرى
شرعية، وهي أن الماء القليل ينجس، إلا إذا كان ذا مادة وعلى جريان
الأصل في العدم الأزلي المشار إليه أيضا سابقا.
وأنت خبير: بأنا لو سلمنا الثاني لا يتم الأول، ضرورة أن قضية
الجمع بين الكتاب والسنة، يفيد أن كل ماء خلق طهورا لا ينجسه شئ
إلا الماء القليل الذي لا مادة له، والكثير المتغير، على إشكال فيه،
وقد مضى (1).
وأما كون الكبرى الشرعية: أن كل ماء قليل ينجس إلا ذا مادة
غافلا عن العمومات الأولية الواردة في مطلق الماء، فهو ممنوع، لعدم
جواز الغفلة عن الأدلة، بل لا بد من الجمع العرفي أولا، ثم إجراء الأصول
الموضوعية المنقحة المورثة جواز التمسك بالعمومات في الشبهات
المصداقية، بمعنى اخراجها عن المشتبه تعبدا.
فمفهوم أدلة الكر وإن كان يفيد عموم تنجس الماء القليل،
وصحيحة ابن بزيع تخصصه مثلا، ولكنه أيضا مخصص لعموم النبوي (2)،

1 - تقدم في الصفحة 115 - 120.
2 - المعتبر 1: 40، وسائل الشيعة 1: 134، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 1، الحديث 9.
218

ولسائر ما ورد في عدم تنجس جميع المياه على الاطلاق، فافهم وتدبر
جدا.
هذا، وفي صحة جريان الأصول الموضوعية التي لا أثر لها ولا أثرا
أصوليا - وهو صحة التمسك بالعموم كما نحن فيه - إشكال، بل منع، وقد
منعنا عن جريان الأصول في الشبهات الموضوعية مطلقا، وتفصيله في
محله، فلاحظ وتأمل جيدا (1).
فالماء القليل المشكوك وجود المادة له، محكوم بالطهارة، لأجل
الاستصحاب، وقاعدتها.
اشتراط ورود الماء المشكوكة مادته في التطهير به
وهل هذا إذا ورد على النجس يطهره، أم لا؟ فيه وجهان:
من أن شرط المطهرية هي الطهارة، وهي تحصل بالأصلين.
ومن أن موضوع المطهرية هو الماء الموصوف ب‍ " الطاهر "
والتوصيف لا يثبت بهما إلا عقلا.
وأما جريان استصحاب المطهرية بنحو الاهمال، فغير كاف، لأنه لا
يطهر إذا ورد النجس عليه، فيكون المستصحب حكما تعليقيا، فإن كان هذا
مستفادا من دليل شرعي، فلا بأس بجريانه، وإلا ففيه إشكال.
فبالجملة: صارت الأقوال في المسألة ثلاثة: نجاسته، وطهارته دون
مطهريته، ومعها.
وقد مضى الايماء في بعض المقامات السابقة، إلى احتمال كون

1 - تحريرات في الأصول 8: 436.
219

المشكوك كريته واعتصامه بالمادة، مطهرا ولو بورود النجس عليه، وأن
ما يتنجس من المياه، هو القليل المحرز عدم وجود المادة له، فلا تغفل.
الثانية: في تغير بعض الجاري
لو تغير بعض الجاري، بحيث انفصل بين المادة وبعض منه، الماء
المتغير، فالذي هو المتصل بها حكمه واضح، إما لكونه ذا مادة، أو
لكونه عاليا غير متغير كما توهم (1).
والذي هو المنفصل عنها بالمتغير ولو كان متصلا بمقدار يسير
غايته، إن كان كرا فهو، وإلا ففي كونه معتصما إشكال، بل المتعرضين منعوا
عنه، وحكموا بانفعاله.
وفيه: أن الجواهر احتمل ذلك هنا (2) وفي مسألة البئر (3)، ولعل
نظره كان إلى أن الفصل التكويني، يورث عدم صدق ذي المادة على
المقدار المنفصل، أو عدم صدق الجاري عليه، والفصل بالماء
النجس لا يورث الانفصال إلا بالدليل، وهو مفقود، لعدم ما ينهض في
الأدلة على لحوق الفصل به بالفصل بالجدار ونحوه تعبدا، أو على أن
الماء المتوسط بين القليل والمادة، لا بد وأن يكون طاهرا.
بل لو كان الفصل بالنجاسة مضرا، فهو ليس لأجل الأمر

1 - لاحظ جواهر الكلام 1: 89، مستمسك العروة الوثقى 1: 140.
2 - جواهر الكلام 1: 89.
3 - جواهر الكلام 1: 270.
220

الاعتباري، بل هو لأجل التغير الموجب لانقسام الماء عرفا في
الوهم، لا في الخارج، بل هو لأجل عروض الطعم أو اللون، وهذا يستلزم
عدم الفرق بين المتغير بالنجس وعدمه، وهم غير ملتزمين به قطعا.
توهم ودفع
وتوهم: أنه لا بد من كون الماء ذي مادة، مستمدا من المادة، بمعنى أنه إذا
نقص منه شئ، فيتم بالمادة (1)، فهو مضافا إلى عدم تمامية كبراه - لعدم
الدليل على هذه الشرطية - يلزم نجاسة الماء القليل الواقع وراء الماء
الطاهر المدسوم، فإن الدسوسة تمنع عن إتمام ما نقص، ولا يمكن
الالتزام بالنجاسة.
مع أنه في مفروض المسألة، يتم ما نقص بالنجس، ولا دليل على
أنه لا بد وأن يتم بالطاهر، فإنه أول البحث، فلا تغفل.
فبالجملة: العرف يحكم بأن هذا الماء ذو مادة، وبعضا منه - مع
كونه ذا مادة - نجس وهذا لا يوجب انقطاع الماء عن المادة بالضرورة.
مقتضى الأصول العملية في المقام
ثم إن قضية الأصول العملية اعتصامه، لأنه كان قبل التغير ذا
مادة، والآن كما كان، ومنشأ الشبهة في أن هذا النحو من الفصل، يضر
بالصدق أم لا.

1 - التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 147.
221

وأما توهم: أن ذلك لأجل الشبهة المفهومية في الاتصال، الذي هو
الشرط في اعتصام الجاري وذي المادة (1)، فهو فاسد، لعدم كونه داخلا
في الأدلة اللفظية، وقد مر أن الاتصال ليس بالمعنى المعروف شرطا، بل
المناط صدق ذي المادة وهذا يستلزم الاتصال، لعدم صدقه على
المنقطع عنه، كما لا يخفى (2).
وفي المسألة مباحث أخر مربوطة بالمسائل العملية، يطول
الكتاب بذكرها.
هذا، وما أفاده الجواهر: من إجمال المورد، والرجوع إلى قاعدة
الطهارة (3) مع أن قضية ما تحرر عندهم، هو الرجوع إلى عموم الماء
القليل ينجس موافق لما تقرر عندي، من سراية الاجمال إلى العام،
والتفصيل في محله (4).
وما قيل: من أن التمسك بالاستصحاب في غير محله، لعدم جريانه
في الشبهة المفهومية (5) غير تام أيضا، لما تحصل منا جريانه إلا في
بعض الفروض.
وتوهم عدم جريانه، لأن المتيقن هو مجموع الماء، ومجرى
الاستصحاب بعضه، غير كاف، لأن تحليل اليقين إلى الأجزاء، بمكان من

1 - دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلد الأول: 121.
2 - تقدم في الصفحة 185.
3 - جواهر الكلام 1: 89.
4 - تحريرات في الأصول 5: 232.
5 - دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلد الأول: 122.
222

الامكان، وهذا كاف في جريان الاستصحاب، كما لا يخفى.
ومثله توهم: أن المسألة من صغريات مسألة دوران الأمر بين عموم
العام، واستصحاب حكم المخصص (1)، ضرورة أن تلك المسألة في مورد
عدم وجود الاطلاق للدليل المخصص، لا في موقف الشبهة المفهومية،
فإنه عند الأكثر غير جار رأسا، وإذا قلنا بجريانه، فهو من الاستصحاب
المنقح حال الشبهة المصداقية، فلا تصل النوبة إلى العموم، فالبحث
هناك في تعارض الاستصحاب الحكمي وعموم العام، لا الموضوعي، فلا
تغفل وتدبر.
الثالثة: في حكم الراكد المتصل بالجاري
الراكد المتصل بالجاري، كالجاري عند من تعرض له (2)،
فالحوض المتصل بالنهر بساقية، يلحقه حكمه وهو الاعتصام، وأما سائر
أحكام الجاري المترتبة على عنوانه - بناء على اختصاصه بها - فغير
مترتبة، لأنه الواقف، ولا يعقل كونه واحدا مع الجاري موضوعا.
اللهم إلا أن يقال: بأن العرف حال اتصاله به ووروده عليه، يراه
جاريا، ويصفه به.
وقد يشكل: بأن قضية الصناعة عدم اعتصامه، ومثله أطراف
النهر، لأن اعتصام هذا الماء ينحصر بكونه إما ملحقا موضوعا

1 - دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلد الأول: 121.
2 - العروة الوثقى 1: 34 فصل في المياه، المسألة 6، مستمسك العروة الوثقى 1: 139.
223

بالجاري، أو حكما:
أما موضوعا، فإنه غير ما في النهر بالضرورة، والعرف لا يعقل أن
يحكم على الواقف الساكن أنه الجاري.
وأما حكما، فكونه ذا مادة ممنوع، لأن ما هو مادته ليس في النهر
عرفا، وما في المنبع والجبال ليس مادته، لفصله بالأجنبي، وهو الماء
المتخالف معه في الوصف التكويني، وهي الحركة والسكون، فما في
أطراف النهر إذا كان واقفا، ينجس بملاقاة النجس، لأنه ليس بجار، ولا
بذي مادة.
نعم، بناء على كفاية مطلق المادة - حتى مثله - فهو، ولكنه ممنوع
حتى عندنا.
وما في الحوض لا يعتصم بالوارد، فإن تقوي السافل بالعالي لو
كان أمرا عرفيا كليا، لما كان يحتاج في ماء الحمام إلى الدليل التعبدي،
فما في الحوض إذا كان قليلا، وكان الماء الجاري الوارد عليه أيضا قليلا
ذا مادة، فهو مثل الحمام الذي كانت خزانته كرا، فما حكم به الأصحاب لا
يخلو من شائبة إشكال.
حكم الماء الموجود في أطراف النهر
ثم إن ما في أطراف النهر، تارة: يتبدل فيه الماء بالأمواج، فله
لا لحاقه به وجه، ولكنه إذا كان واقفا ينتن بعد مدة، فإنه كيف يتقوى بما في
جواره إذا كان لا يحكم عليهما بالوحدة؟! وإلا فهو معلوم الحكم.
224

هذا، ولكن الوجدان في هذه المسألة على الاعتصام، وفي المسألة
السابقة على حكم العرف بعدمه.
وهل المتبع هي الصناعة، أم حكم العرف والمغروسات الذهنية،
خصوصا في هذه المواقف؟ وجهان، لا يبعد الثاني، فتأمل.
225

المبحث الخامس
في الماء الراكد
والبحث فيه يتم في ضمن أمور:
227

الأمر الأول
في الماء القليل
لا شبهة في أنه إذا بلغ إلى حد الكر، لا ينجس بالملاقاة،
والاختلاف في حد الكر، ليس من الاختلاف في هذه المسألة، فالقائل
بعدم انفعال ما دون حد، ليس من القائلين بانفعال القليل، بل القائل بأن
الكثير لا ينفعل، لا يعد من القائل به، لأنه أخذ عنوانه حدا، وأوكل الأمر
إلى العرف. وهذا هو المحكي (1) عن بعض العامة، كابن سيرين، ومسروق (2).
وأما إذا لم يبلغه، ولم يكن ذا مادة واقعية أو تعبدية، فالمسلمون
اختلفوا في حكمه، والظاهر أن كل من اعتبر الحد، فلا بد أن يقول: إما
بالنجاسة فيما دونه، أو ممنوعية الاستعمال في الجملة، أو التفصيل، فما
قد يظهر من نسبة القول بالطهارة إلى القائل بالحد، قابل للجمع، فتأمل.

1 - المجموع 1: 113 / السطر الأول.
2 - التفسير الكبير 24: 94 / السطر 26.
229

أقوال العامة في الماء القليل
فبالجملة: فعن أبي حنيفة التفصيل بين القليل البالغ إلى حد
يتحرك أحد الجانبين بملاقاة الجانب الآخر فينجس، وإلا فلا (1).
ولا يخفى سخافته، إلا أن المقصود دفع ما قيل: من نسبة النجاسة
إليه على الاطلاق.
وقال ما لك بالطهارة، وبها قال جمع منهم، كالحسن البصري،
وإبراهيم النخعي، وداود (2)، وهم أقدم على أرباب المذاهب الأربعة،
فأبو حنيفة تبعهم في الطهارة، إلا أن اخراج القليل الساري فيه النجاسة،
اجتهاد منه.
وأما نسبة اشتهار الطهارة إليهم كما في مفتاح الكرامة (3) فغير
تام، لذهاب الأقدمين منهم إلى التحديد في الكر.
فعن ابن عباس وابن عمر وأبي هريرة وسعيد بن جبير ومجاهد وأحمد
وإسحاق وأبي عبيدة وأبي ثور، اعتبار القلتين (4)، فمنه يعلم أن المخالفين
مختلفون في المسألة.
كما يعلم منه وقوع البحث في عصر الخلفاء، خلافا لما يأتي عن

1 - الخلاف 1: 192، المغني، ابن قدامة 1: 25 / السطر 17، المجموع 1: 113 /
السطر 3.
2 - المجموع 1: 113 / السطر 7.
3 - مفتاح الكرامة 1: 74 / السطر 5.
4 - الخلاف 1: 191.
230

الكاشاني (رحمه الله) (1).
والذي هو المهم في المقام، الاطلاع على آرائهم، لاحتياجنا إليها
في فهم المسألة من أخبارنا وما وصل إلينا، فلا تغفل.
ثم وصلت النوبة إلى الشافعي، فهو مضطرب القول، ومفصل في
الفروع الكثيرة، وقيل: المعروف منه هي النجاسة (2) وهو غير بعيد،
على ما يظهر من أقواله في تطهير الماء القليل (3)، ولكنه حكي عنه القول
بالطهارة أيضا (4).
وهكذا ابن حنبل (5)، ولكنه أيضا يقرب منا.
فتحصل: أن من الممكن كون كثير من الروايات الواردة في الطهارة
فرضا، ناظرة إلى فتواهم تقية، خصوصا فيما صدر من الصادقين (عليهما السلام) بل
والكاظم والرضا (عليهما السلام).
اللهم إلا أن يقال: ذهاب جمع من القدماء والأقدمين إلى النجاسة (6)،
يمنع عن صدور الرواية تقية، لأن مخالفة المتقى منه معهم، كافية في
خلاف المتقي معه.
إلا أن يقال: بأنهم قائلون بالتحديد في الكر، وهو أعم من النجاسة، فتدبر.

1 - يأتي في الصفحة 259.
2 - مقابس الأنوار: 67 / السطر 14.
3 - الخلاف 1: 194، كتاب الأم (مختصر المزني): 9.
4 - لاحظ تذكرة الفقهاء 1: 22، فتح العزيز 1: 209.
5 - لاحظ المغني، ابن قدامة 1: 24 / السطر 14.
6 - مفتاح الكرامة 1: 72 / السطر 22 و 74 / السطر 13.
231

أقوال أصحابنا في الماء القليل
ثم إن أصحابنا أيضا اختلفوا، فالذي هو المشهور، وعليه الاجماعات
الكثيرة (1) البالغة إلى ثلاثين (2) أو أكثر، هي النجاسة، من دون فرق بين
النجاسة والمتنجس.
وفي قبالهم ما نسب إلى العماني (3)، والقاضي نعمان أبي حنيفة
الشيعي (4)، بل والكليني والصدوق من الطهارة (5)، ولكنه غير تام في
الأخيرين، وظاهر الثاني أنه من المفصلين (6).
وقيل: إن الأول ذهب إلى تنجس القليل مطلقا، لا جواز استعماله
كذلك ولو مع الامتزاج انتهى.
ولعله ظاهر جمع ممن منع الاستعمال، وهو لا يستلزم النجاسة كما
لا يخفى.
فما في المقابيس من نسبة الطهارة إلى هؤلاء الأعاظم (7)، غير

1 - مدارك الأحكام 1: 38، الحدائق الناضرة 1: 280، جواهر الكلام 1: 105، مستمسك
العروة الوثقى 1: 141.
2 - مفتاح الكرامة 1: 72، مهذب الأحكام 1: 168.
3 - مهذب البارع 1: 79، لاحظ مختلف الشيعة: 2 / السطر 10.
4 - دعائم الاسلام 1: 111 - 112، مقابس الأنوار: 65 / السطر 35.
5 - مقابس الأنوار: 66 / السطر 22 و 26.
6 - الهداية، ضمن الجوامع الفقهية: 48 / السطر 15، الفقيه 1: 6.
7 - مقابس الأنوار: 65 - 66.
232

موافق للتحقيق، نعم هو مختار جمع من المتأخرين (1)، فتأمل.
وعن الشيخ في المبسوط التفصيل بين النجاسة التي يدركها
الطرف وغيرها (2).
وفي الاستبصار التفصيل بين ما لا يدركه الطرف من الدم
وغيره (3)، وهذا هو المنسوب إلى كثير من الناس في غاية المراد (4)
ومنهم المدارك (رحمه الله) (5) بل هو المنسوب إلى المحقق في النافع (6).
وعن الفاضل الخراساني صاحب الكفاية التفصيل بين
النجاسة والمتنجس لولا الاجماع (7).
وأما جعل القول بطهارة الغسالة من الأقوال في هذه المسألة، فغير
مناسب، لما يظهر من عقد الباب، ولكنه مما لا مشاحة فيه، وعندئذ يلحق
السيد (رحمه الله) في الناصريات بالمفصلين بين الوارد والمورود (8)، وتبعه
جماعة كالحلي في السرائر (9) ووافقهم من العامة الشافعي (10).

1 - مفتاح الكرامة 1: 73 / السطر 27.
2 - المبسوط 1: 7.
3 - الإستبصار 1: 23، ذيل الحديث 57.
4 - مفتاح الكرامة 1: 74 / السطر 6.
5 - مدارك الأحكام 1: 139 - 140.
6 - مستند الشيعة 1: 35، المختصر النافع: 4.
7 - مستمسك العروة الوثقى 1: 146.
8 - الناصريات، ضمن الجوامع الفقهية: 215 / السطر 9.
9 - السرائر 1: 180 - 181.
10 - المجموع 1: 137 - 138.
233

الأمر الثاني: في وجوه القول بعدم تنجس القليل بالملاقاة
الوجهان الأول والثاني:
حجة القائلين بالطهارة مضافا إلى اقتضاء الأصل، المطلقات
الأبية عن التقييد، مثل النبوي المسند والعلوي: الماء يطهر ولا يطهر (1)
فإن الظاهر من الجملة الثانية - بعد مراعاة المناسبة بين الماء وصفته
المطهرية - أنه لا يتنجس حتى يحتاج إلى التطهير، فما هو بطبعه مطهر
لا يقبل النجاسة.
ويؤيد هذا الاحتمال ما ورد في دعائم الاسلام عن أميرا لمؤمنين (عليه السلام)
أنه قال: ليس ينجس الماء شئ (2).
وعن الصادق (عليه السلام) فإن الماء لا ينجسه شئ (3).
وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): الماء لا ينجسه شئ (4).
هذا، ولكن في الرواية محتملات أخر، ربما تبلغ إلى أكثر من عشرين،

1 - المحاسن: 570 / 4، وسائل الشيعة 1: 135 كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 1، الحديث 7.
2 - دعائم الاسلام 1: 111، مستدرك الوسائل 1: 189، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المطلق، الباب 3، الحديث 5.
3 - نفس المصدر، الحديث 6.
4 - عوالي اللآلي 1: 76 / 153، مستدرك الوسائل 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المطلق، الباب 3، الحديث 9.
234

واستظهار المعنى الواحد مشكل جدا.
الوجه الثالث:
النبوي المشهور بين الأصحاب المذكور سابقا: خلق الله الماء
طهورا لا ينجسه شئ، إلا ما غير لونه أو ريحه أو طعمه (1).
فإن الحصر يفيد طهارة القليل الملاقي مع النجس، وهو الآبي عن
التقييد، بل الاستثناء يؤكد العموم، ويورث نصوصية المستثنى منه فيما
عداه، ولا يكون الجمع بينه وبين ما هو الأخص منه من الجمع العرفي،
وذلك لأجل أن حجية مفهوم الحصر مستندة إلى التبادر، وهو لا يكون إلا
في الموضوع له، فعليه تكون هيئة الاستثناء، ظاهرة في نفي غير
المستثنى، وحصر المقصود في المستثنى حصرا حقيقيا - لا إضافيا - غير
قابل للتخصيص.
وجميع المآثير المشتملة على توصيف الماء ب‍ " الطهور " (2) فإنه
ليس إلا لأجل زيادة أمر فيه، إما عدم قابليته للنجاسة، أو مطهريته للغير،
أو هما معا.
والظاهر من قوله: لا ينجسه شئ أنه من الآثار المترتبة على
كونه

1 - المعتبر 1: 40، وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1،
الحديث 9.
2 - وسائل الشيعة 1: 133 - 137، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث
1 و 4 و 8 و 9 و 10، والباب 2، الحديث 1 و 4.
235

طهورا، كما في قولك: الخمر مسكر حرام فإن الحرمة فيه معلول
الاسكار، ونجاسة المتغير بالدليل المتصل، لا تنافي إباءه عن التقييد
بالمنفصل، فهذا التوصيف يأبى عن اخراج القليل بإثبات انفعاله.
وإن شئت قلت: هذه الطائفة في مقام الامتنان، وأي امتنان أعظم من
عصمة الماء القليل الذي هو الأكثر ابتلاء؟! وإخراجه من تلك الأدلة
خلاف الامتنان الظاهر من تلك الأدلة.
ودعوى عدم إطلاقها، لأنها في مقام إثبات التشريع، بحذاء ما ورد من
قرض الأمم السابقة لحومهم، غير مسموعة، لأن المآثير مختلفة، وقصة
القرض ممنوعة عقلا وإن وردت به المآثير الصحيحة، ومقتضى الامتنان
هو الاطلاق الآبي عن التقييد، فتدبر.
هذه هي الوجوه الثلاثة.
الوجه الرابع:
- وهو العمدة - الطوائف المختلفة من الروايات:
الطائفة الأولى: الروايات المقسمة للماء
وهي التي تكون ظاهرة في أن الماء قسمان: ماء متغير، وماء غير
متغير، أو ماء غالب، وماء مغلوب، أو ماء قاهر، وماء مقهور، بالنسبة إلى
أوصاف النجاسة والنجس هو الأول في الأول، والثاني في الأخيرين.
وتوهم: أن الموضوع لهذا التقسيم، هو الماء الكثير فيكون
236

القليل خارجا عنه، لأن المفروض فيها هي المياه الموجودة في
الغدير، والحياض الكبيرة في أوساط البلد، والنقيع الواقع أطراف
الطريق وهكذا (1)، غير تام بعد التدبر فيما أفاده المعصوم (عليه السلام) بعد السؤال
عن تلك المياه، ففي رواية أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام): أنه سئل عن
الماء النقيع تبول فيه الدواب.
فقال: إن تغير الماء فلا تتوضأ ولا تشرب... (2).
فإن إعادة كلمة الماء من غير توصيفه ب‍ " النقيع " شاهد على أن
الحكم لمطلق الماء، دون الماء الخاص. ومثلها غيرها.
وإسراء خصوصيات المورد إلى هذه الكليات في الجواب، غير
جائز قطعا، كما أن النظر إلى خصوصيات الأسئلة دون القيود الواردة في
الأجوبة غير تام.
ولك دعوى: أن انصراف النقيع والغدير والحياض إلى ما
فوق الكر - بحيث كان يصح إتكاء المتكلم عليه، ولا يكون ترك الاستفصال
دليلا على الاطلاق - ممنوع جدا، لشهادة السؤال في الغدير عن عمقه في
روايات الكر، فراجع (3).

1 - دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلد الأول: 129، مهذب الأحكام 1: 173.
2 - تهذيب الأحكام 1: 40 / 111، وسائل الشيعة 1: 138، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المطلق، الباب 3، الحديث 3.
3 - تهذيب الأحكام 1: 417 / 1317، وسائل الشيعة 1: 162، كتاب الطهارة، أبواب
الماء المطلق، الباب 9، الحديث 12.
237

والعجب من المستشكلين على هذه الطائفة!! (1) وكأنهم بنوا على
عدم وجود إطلاق يقتضي عدم انفعال القليل، ولكنه غير صحيح جدا.
الطائفة الثانية: الروايات المتفرقة
فمنها: رواية زرارة، عن الباقر (عليه السلام) قال: قلت له: راوية من ماء
سقطت فيها فأرة أو جرذ أو صعوة ميتة.
قال: إذا تفسخ فيها فلا تشرب من مائها، ولا تتوضأ، فصبها، وإذا كان
غير متفسخ فاشرب منه، وتوضأ، واطرح الميتة إذا أخرجتها طرية، وكذلك
الجرة وحب الماء والقربة، وأشباه ذلك من أوعية المياه.
قال: وقال أبو جعفر (عليه السلام): إذا كان الماء أكثر من راوية، لم ينجسه شئ،
تفسخ فيه أو لم يتفسخ فيه، إلا أن يجئ له ريح تغلب على ريح الماء (2).
وهي لو سلم سندها من الاشكال في علي بن حديد من عدم
التوثيق (3)، وتممت دلالتها من غير لزوم اضطراب، بدعوى التفكيك بين
الجملة الأخيرة والأولى وأنهما في مجلسين إلا أن زرارة أردف بينهما،
ودعوى أن التفسخ إما التغير في الجملة الأولى، أو يكون المنهي عنه
لاستلزامه شرب الأجزاء النجسة وملاقاة الأعضاء في الوضوء معها كما لا

1 - مهذب الأحكام 1: 173.
2 - تهذيب الأحكام 1: 412 / 1298، وسائل الشيعة 1: 139، كتاب الطهارة، أبواب
الماء المطلق، الباب 3، الحديث 8.
3 - معجم رجال الحديث 11: 302.
238

يبعد، فهي تدل على انفعال القليل.
ولكنه حسب هذه الرواية، إذا كان بمقدار الظروف العادية، دون
الظروف والأوعية المزبورة فيها، فقوله: أشباه ذلك لا يشمل الصغار
منها قطعا، فتكون هذه الرواية من معارضات أخبار الكر، ومن مؤيدات
القائلين بأن المراد من أخبار الكر، هي الكثرة العرفية قبال القلة، وقد
مضى أن من العامة من يقول بذلك (1).
فبالجملة: لا تفي بتمام المقصود، وهو طهارة القليل - أي قليل كان -
بالضرورة، وسيأتي البحث حولها في محلها (2).
ومنها: مصححة المستند عن محمد بن مروان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)
قال: لو أن ميزابين سالا، أحدهما: ميزاب بول، والآخر ميزاب ماء، فاختلطا، ثم
أصابك، ما كان به بأس (3).
وحملها على ماء المطر، بقرينة صحيحة هشام بن الحكم (4)، غير
تام، والتدبر حول مفادهما وخصوصيات المدينة، وأن السطوح كانت مبالا
ومغسلا، يورث الاطمئنان بأن المقصود ليس ماء المطر حال التقاطر، بل لا
معنى لذلك بعد فرض اختلاط ماء الميزاب والبول، فإنه حينئذ كان يفرض

1 - تقدم في الصفحة 229.
2 - يأتي في الصفحة 280.
3 - الكافي 3: 12 / 2، وسائل الشيعة 1: 144، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 5، الحديث 6.
4 - الكافي 3: 12 / 1، وسائل الشيعة 1: 145، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 6، الحديث 4.
239

اختلاط ماء المطر والبول.
ولولا ضعف السند الأول بمجهولية عدة الكافي لأن أحمد بن
محمد - على الظاهر - ليس ابن خالد، ولا ابن عيسى، وبغيره الواقع في
أواخر السند، لكان دلالته تامة.
اللهم إلا أن يقال: بظهور الثاني في القليل مع انقطاع المطر أيضا،
كما عرفت.
والعجب من تصحيح النراقي (رحمه الله) الرواية الأولى (1)!! وهو غفلة قطعا.
ومنها: صحيحة علي بن جعفر، عن أخيه أبي الحسن موسى بن
جعفر (عليه السلام)، قال: سألته عن رجل رعف فامتخط، فصار ذلك الدم قطعا صغارا،
فأصاب إناءه، ولم يستبن ذلك في الماء، هل يصلح له الوضوء منه؟
فقال: إن لم يكن شيئا يستبين في الماء فلا بأس، وإن كان شيئا بينا فلا
تتوضأ منه.
قال: وسألته عن رجل رعف وهو يتوضأ، فتقطر قطرة في إنائه، هل
يصلح الوضوء منه؟
قال: لا (2).
وهي كما يستدل بها على نجاسة القليل على الاطلاق (3)، يستدل بها على

1 - مستند الشيعة 1: 25.
2 - الكافي 3: 74 / 16، وسائل الشيعة 1: 150، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 8، الحديث 1، ليس فيهما جملة ولم يستبن ذلك في الماء، نعم وردت هذه
الجملة في الوسائل الطبعة الحجرية 1: 79 / السطر 34 - 35.
3 - دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلد الأول: 124.
240

مرام الشيخ، من التفصيل المذكور سابقا (1)، ويستدل بها على عدم الانفعال.
وغاية ما يمكن تقريبه: هو أن الظاهر إصابة الدم بالماء، والجواب
نص في عدم انفعاله، وظاهر الجملة الثانية هي نجاسة الماء.
ولكنه ممنوع، لعدم الملازمة بين النهي والنجاسة، كما في الماء
المستعمل في الحدث، والذي استنجي به، بل لك حمل الهيئة على
الكراهة، لأن الأمر في الأولى ليس للوجوب، بل هو للرخصة.
والتفكيك بين الجملتين - باختيار مذهب الشيخ - مستلزم للفقه
الجديد، لأن الأدلة قاصرة عن نجاسة كل شئ بكل نجس، والالتزام
بالتفكيك وإن يلازم الجمع العرفي بين الأدلة، ولكنه غير صحيح قطعا.
فالنهي هنا كالنهي عن الصلاة في عرق الجنب (2)، فكيف حملوه
هناك على ممنوعيته فيها، ولا يحملونه هنا على شرطية أمر في ماء يتوضأ
به؟! ومن المحتمل أن يكون الأمر بالتوضي، لأجل عدم نجاسة الأجزاء
الصغار، فتكون الرواية خارجة عن محل البحث.
ولو كان المدار على الاستبانة في هذه الرواية، يستلزم بعض
الاشكالات الأخر، كما لا يخفى. وتأتي زيادة تفصيل حولها عند ذكر مذهب
الشيخ (قدس سره) (3).
ودعوى: أن إصابة الإناء، أعم من إصابة الظرف والمظروف (4)، غير

1 - تقدم في الصفحة 233.
2 - وسائل الشيعة 3: 447، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 27، الحديث 12.
3 - يأتي في الصفحة 265 - 267.
4 - لاحظ مستمسك العروة الوثقى 1: 148.
241

مسموعة، لأنه كقوله في ذيله: قطرة في إنائه.
ولكن الانصاف: قصورها عما نحن بصدده، لقول السائل: ولم يستبن
ذلك في الماء فإنه عندئذ لا معنى لتفصيل الإمام (عليه السلام) في الجواب، ومن
استدل به لهم غفل عن هذه الجملة، ولذلك حكى الرواية بدونها، فيعلم
منه أن الجهة المسؤول عنها مبهمة، من حيث أن الملاقي - بالفتح -
نفس الإناء، أو ما فيه، ولذلك اختلف التعبيران صدرا وذيلا، والجملة
الثالثة كأنها زيادة من الراوي في هذه الرواية بعد سماعه عنه (عليه السلام) في
مجلس آخر، فتدبر.
ولو سلمنا أن النسخ الأصلية غير مشتملة على قول السائل: ولم
يستبن ذلك في الماء فتكون الرواية مجملة، فليتأمل.
ومنها: معتبر محمد بن ميسرة، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل
الجنب، ينتهي إلى الماء القليل في الطريق، ويريد أن يغتسل منه، وليس
معه إناء يغرف به، ويداه قذرتان.
قال: يضع يده، ثم يتوضأ، ثم يغتسل، هذا مما قال الله عز وجل: (ما
جعل عليكم في الدين من حرج) (1) (2).
وهي - بناء على كون المراد من الماء القليل ما كان أقل من الكر،
وأن المراد من القذارة هي الشرعية، وأن المقصود من قوله: يضع

1 - الحج (22): 78.
2 - الكافي 3: 4 / 2، وسائل الشيعة 1: 152، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 8، الحديث 5.
242

يده أي يدخل في الماء، ومن قوله: يتوضأ أي يتطهر - تدل على
عدم الانفعال لولا قوله: هذا مما قال الله عز وجل... فإنه بظاهره، دليل
على مرفوعية شرطية طهارة الماء للتطهير به والغسل به، لأنه هو جعل
الله تعالى، وهو الموجب للحرج، فلا دلالة بعد ذلك على الطهارة
المعقودة في المسألة.
وأما لزوم نجاسة البدن، فهو غير مضر بعد مرفوعية شرطية
الطهارة، فإنها أيضا مرفوعة للاستلزام، فتكون الرواية حينئذ من
المعارضات لما دل على شرطية الطهارة، من الأمر بالإراقة ونحوها (1).
ومن القريب جدا كون المراد من وضع اليد صرف النظر عنه
واستثناءه من الأعضاء الواجب غسلها، فتجب سائر الأعضاء، لقوله تعالى،
وعليه تحمل الرواية على صورة اختصاص القذارة الخبثية باليدين،
وتكون سائر الأعضاء طاهرة، وهو فرض بعيد، ولكنه لا ينافيه ظاهر
الحديث.
ويحتمل إفادتها إيجاب التيمم، لأنه يريد من الأمر ب‍ " الوضع " صرف
النظر عن الغسل، ومن قوله تعالى التيمم، كما في رواية أبي بصير، عن
أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن الجنب يحمل الركوة أو التور، فيدخل
إصبعه فيه.
قال: إن كانت يده قذرة فأهرقه، وإن كان لم يصبها قذر فليغتسل منه،

1 - وسائل الشيعة 1: 151 - 155، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 8،
الحديث 2 و 4 و 10 و 11 و 14.
243

هذا مما قال الله تعالى: (ما جعل عليكم في الدين من حرج) (1).
فإن الآية تناسب قوله (عليه السلام): أهرقه فهو بمنزلة قوله (عليه السلام): يضع يده.
وإرادة وضع اليد من الماء من هذه الجملة، بعيدة جدا، لبعدها عن
المتعارف في المستعملات المأنوسة.
مع أنه من المحتمل إرادة وضع اليد عن الماء، أي الاعراض عنه،
لا فيه، فتكون الجملة مجملة.
ولا يبعد أن يراد من القليل هو الأقل من الكر، وكأنه حكم معروف
عند السائل، وكان يرى نجاسة الماء بيده القذرة مع عدم تمكنه من
التطهير بالإناء، فوقع في حيص وبيص، فسأل عما سأل، فالرواية تشهد على
معروفية نجاسة القليل، وتدل على أن الوظيفة هو التيمم، ثم بعد ذلك
يتطهر ويغتسل، فالاتيان بكلمة ثم دليل على التراخي.
وأما ما ذكره القوم من: أنها تدل على طهارة الماء حال الضرورة،
فلا تفي بتمام مطلوب العماني وأصحابه (2)، فهو غير تام، لأنه ربما أريد من
الآية الشريفة، نفي تنجس القليل، لأن نجاسته ضيق وحرج، و (ما جعل
عليكم في الدين من حرج) (3) وهذا القبيل من الاستدلال كثير في المآثير
والأخبار.
ومنها: رواية أبي مريم الأنصاري، قال: كنت مع أبي عبد الله (عليه السلام) في

1 - تهذيب الأحكام 1: 37 / 100، وسائل الشيعة 1: 154، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المطلق، الباب 8، الحديث 11.
2 - مصباح الفقيه، الطهارة: 15 / السطر 31.
3 - الحج (22): 78.
244

حائط له، فحضرت الصلاة، فنزح دلوا للوضوء من ركي له، فخرج عليه
قطعة من عذرة يابسة، فأكفى رأسه، وتوضأ بالباقي (1).
دلالتها منوطة بحمل العذرة على نوع النجس منها، وهو مشكل،
وانصرافها إليه غير واضح بعد أعمية الموضوع له.
مع أن السند مجهول (2) ومخلوط (3).
والالتزام بمفاده بالنسبة إلى حضرته عليه الصلاة والسلام، في
غاية الاشكال في حد نفسه، مع أنه لا يثبت عدم تنجيس النجس الماء
القليل، لأن الملاقاة كانت في البئر، وهي لا تنجس، وبعد انقطاع الماء
بالدلو لا ملاقاة حتى تستلزم النجاسة، فلعل المعنى المصدري دخيل في
ذلك شرعا، فلا تغفل.
ومنها: الطائفة الكثيرة التي مضمونها ما في الفقيه قال: سئل
الصادق (عليه السلام) عن الماء الساكن يكون فيه الجيفة.
قال: يتوضأ من الجانب الآخر، ولا يتوضأ من جانب الجيفة (4).
قال: وأتى أهل البادية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: يا رسول

1 - تهذيب الأحكام 1: 416 / 1313، وسائل الشيعة 1: 154، كتاب الطهارة، أبواب
الماء المطلق، الباب 8، الحديث 12.
2 - عبد الرحمن بن حماد الكوفي وأبو مريم الأنصاري لم يوثقا في كتب الرجال - قال ابن
الغضائري: عبد الرحمن بن حماد ضعيف.
معجم رجال الحديث 9: 293 و 322.
3 - لأنه روى هذا الخبر بعينه، سعد عن موسى بن الحسن عن أبي القاسم عن عبد الرحمن
بن حماد الكوفي في نسخة أخرى، جامع الرواة 1: 449.
4 - الفقيه 1: 12 / 21.
245

الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إن حياضنا هذه تردها السباع والكلاب والبهائم.
فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لها ما أخذت أفواهها، ولكم سائر ذلك (1).
وإطلاق هذه الطائفة، يورث طهارة القليل منها.
ويمكن دعوى ظهورها في الكثير البالغ أكرارا، لأنه المتعارف في
الحياض التي تردها هذه الحيوانات (2)، وفي نفس هذه الأخبار ما يومئ
إلى خلاف مقصودهم، لأنه في صحيحة صفوان بن مهران الجمال قال:
وكم قدر الماء؟.
قال: إلى نصف الساق، وإلى الركبة.
فقال: توضأ منه (3).
فإنه مضافا إلى دلالتها على تقسيم الماء إلى الماءين، تومئ إلى
أن الحياض كبيرة وليست من قبيل حياضنا في دورنا، ولا أظن التزام القائل
بطهارة القليل بدلالة مثلها على مقصوده.
ومنها: ما رواه يونس عن بكار بن أبي بكر، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام):
الرجل يضع الكوز الذي يغرف به من الحب في مكان قذر، ثم يدخله
الحب.
قال: يصب من الماء ثلاثة أكف، ثم يدلك الكوز (4).

1 - الفقيه 1: 8 / 10.
2 - مصباح الفقيه، الطهارة: 15 / السطر 21.
3 - تهذيب الأحكام 1: 417 / 1317، وسائل الشيعة 1: 162، كتاب الطهارة، أبواب
الماء المطلق، الباب 9، الحديث 12.
4 - الكافي 3: 12 / 6، وسائل الشيعة 1: 164، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 9، الحديث 17.
246

وهي ربما تدل على الانفعال، لأن الأمر بالصب على الكوز والدلك،
دليل على تنجس ما في الحب به عرفا، وتنجس الكوز بالقذر الموجود
في المحل، ولا معنى للمراجعة إليهم (عليهم السلام) في المسائل العادية.
ويمكن دعوى: أنه ابتلي بذلك فأدخله، فقال (عليه السلام) بلزوم الصب، لرفع
الاشكال، ولزوم الدلك لئلا يلزم بعد ذلك، فيعلم منه عدم تنجس ماء الحب.
ويشهد لذلك مضافا إلى قوله: يدخله قوله في نسخة أخرى:
ثلاثة أكواز بذلك الكوز (1) فإنه عندئذ يتعين ظهوره في عدم تنجسه، ولكن
الرواية مجهولة السند ومختلطة، فليراجع.
ومنها: معتبرة زرارة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن الحبل يكون
من شعر الخنزير، يستقى به الماء من البئر، هل يتوضأ من ذلك الماء؟
قال: لا بأس (2).
ولا شبهة في ظهورها في حد ذاتها، في أن المشار إليه، الماء
الخارج الممكن التوضي به فعلا، لا الداخل الخارج عن محل الابتلاء،
ولا وجه لبناء الأصحاب على تخريب ما استدل به خصمهم على
الطهارة (3)، فإنه خال عن الانصاف، ولذلك الظهور التزم السيد بطهارة شعر

1 - الكافي 3: 12 / 6، جامع الأحاديث 2: 23، كتاب الطهارة، أبواب المياه، الباب 6،
الحديث 13، الهامش 2.
2 - الكافي 3: 6 / 10، وسائل الشيعة 1: 170، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 14، الحديث 2.
3 - مستند الشيعة 1: 47.
247

الخنزير، على ما نسب إليه (1).
وفي بعض المآثير ما يدل على أن الفرض من السؤال، الانتفاع بماء
البئر (2)، ولكنه غير كاف لصرف هذا الظاهر، لامكان الأسئلة الكثيرة
جوانب الموضوع الواحد.
نعم، هي لا تدل على عدم تنجس القليل بملاقاة عين النجس، لأن
القطرة المتنجسة بالشعر، ربما لا تورث النجاسة، فلا دلالة لها على ما
هو المقصود.
كما أن دعوى القطع بوقوع القطرة في كل دلو من الحبل، غير
مسموعة، والعلم الاجمالي في مثله لا ينفع، كما لا يخفى، فليس المفروض
في السؤال وقوعها فيه حتى ينتفع به الخصم، كما لا يخفى.
كما ليس المفروض اتصال الحبل بالماء في الدلو، بل المتعارف
خلافه.
وفي الرواية احتمالات أخر:
منها: أنه سأل بقوله: هل يتوضأ من ذلك الماء بما أنه وقع في
المقدمات حرام، وهو الانتفاع بالشعر، لا بما أنه نجس (3).
ومنها: أن في الاتيان بكلمة ذلك للبعيد، إشعارا إلى أن المشار

1 - التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 163، الناصريات، ضمن الجوامع الفقهية: 218،
المسألة 19.
2 - الكافي 6: 258 / 3، وسائل الشيعة 1: 170، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 14، الحديث 3.
3 - لاحظ التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 162.
248

إليه ما هو البعيد، وإلا كان يقول: هذا الماء.
ولا يخفى ما فيهما.
ومنها: مرسلة ابن أبي عمير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في عجين عجن
وخبز، ثم علم أن الماء كانت فيه ميتة.
قال: لا بأس، أكلت النار ما فيه (1).
ودعوى: أنها من أدلة مطهرية النار (2)، غير مسموعة، بل الذيل يفيد
أن أجزاء الميتة قد احترقت بالنار، أي أن النار أكلت ما في الماء من
الميتة، لا أكلت ما في العجين من الماء.
ولكنها مشكلة، لاحتمال كون الميتة طاهرة، مع إجمال الماء مع
أن ما اشتهر في مرسلات ابن أبي عمير (3)، مورد البحث.
هذا مع أنه لا يدل على عدم نجاسة الماء القليل بالميتة، بل
غايته دلالته على عدم تنجس المتنجس العجين، وأجزاء المتنجس
الموجودة في العجين قد أكلتها النار، فلا تغفل.
ومنها: الطائفة الواردة في المستعمل في الجنابة الناطقة بعدم
الانفعال (4)، مع تعارف نجاسة بدن الجنب، خصوصا مع ترك الاستفصال في
جميع هذه الأخبار.

1 - تهذيب الأحكام 1: 414 / 1304، وسائل الشيعة 1: 175، كتاب الطهارة، أبواب
الماء المطلق، الباب 14، الحديث 18.
2 - روضة المتقين 1: 70.
3 - اشتهر أنه لا يروي ولا يرسل إلا عمن يوثق به، معجم رجال الحديث 1: 63.
4 - وسائل الشيعة 1: 211، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 9.
249

وحملها على صورة عدم القذارة الخبثية (1)، في غاية الاشكال، وكذا
حملها على استعماله في الحمام (2)، فتكون من القليل المستثنى بالأدلة
الخاصة، فعليه يعلم عدم الانفعال، وهي تدل على تمام المقصود
والمطلوب.
ومنها: رواية الفضيل بن يسار، عن أبي عبدا لله (عليه السلام): في الرجل
الجنب يغتسل، فينتضح من الماء في الإناء.
فقال: لا بأس، (ما جعل عليكم في الدين من حرج) (3).
ومنها: رواية عمر بن يزيد، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أغتسل في
مغتسل يبال فيه، ويغتسل من الجنابة، فتقع في الإناء ما ينزو من الأرض.
فقال: لا بأس به (4).
ودعوى: أنه الحكم الحيثي، كدعوى أن المتعارف التطهير قبل
الاغتسال.
ومثلها دعوى: أن الأرض المبال عليها، غير الأرض التي ينزو منها
الماء في الإناء (5).
ومنها: موثقة عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سألته عن الرجل هل

1 - مرآة العقول 13: 46.
2 - نفس المصدر.
3 - الكافي 3: 13 / 7، وسائل الشيعة 1: 212، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف،
الباب 9، الحديث 5.
4 - الكافي 3: 14 / 8، وسائل الشيعة 1: 213، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف،
الباب 9، الحديث 7.
5 - مستند الشيعة 1: 47، جواهر الكلام 1: 129.
250

يتوضأ من كوز أو إناء غيره إذا شرب فيه، على أنه يهودي؟
فقال: نعم.
قلت: فمن ذلك الماء الذي يشرب منه؟
قال: نعم (1). والدلالة واضحة.
وتوهم: أنها متعرضة لصورة الشك، فاسد جدا، لأن قوله: على أنه
يهودي مرتبط بمفروض سؤاله، وهو الرجل وعندئذ يظهر أن مقصوده
فرض كونه يهوديا، وقضية الجواب إما عدم نجاسة اليهودي، أو طهارة
القليل، فلا يتم المطلوب، وتندرج الرواية في تلك المسألة.
ومنها: الطائفة الواردة في ماء الحمام (2)، فإنها دالة على عدم انفعال
القليل، وقضية إلغاء الخصوصية شمول الحكم لغير مورده، ولا سيما بعد
عدم اعتبار الكرية في المادة، ولا في المجموع.
ومنها: الطائفة الواردة في ماء الاستنجاء (3)، الصريحة في عدم
تنجس الماء المستنجى به، لنفي البأس عن ملاقيه، وقضية إلغاء
الخصوصية عدم الانفعال مطلقا.
وهكذا لا فرق بين ما كان الماء واردا أو بالعكس، لعدم مساعدة فهم
العرف لغير ذلك.
فبالجملة: لا بد من عدم الخلط بين الماء النجس، وبين ما لا يجوز

1 - تهذيب الأحكام 1: 223 / 641، وسائل الشيعة 1: 229، كتاب الطهارة، أبواب
الأسئار، الباب 3، الحديث 3.
2 - وسائل الشيعة 1: 148، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7.
3 - وسائل الشيعة 1: 221، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 13.
251

استعماله في الشرب وبعض الاستعمالات، فلو كان الماء في
الشريعة قابلا للتنجس، لكان هو ماء الاستنجاء، لأنه لاقاه أنجس
القذارات العرفية، بل خالطه أجزاؤه الصغيرة قهرا وقطعا.
ومنها: التعليل الوارد في ذيل ما رواه الصدوق في العلل عن
الأحول، قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام)، فقال: سل عما شئت فارتجت
علي المسائل.
فقال: سل، ما لك؟!.
فقلت: جعلت فداك، الرجل يستنجي فيقع ثوبه في الماء الذي
يستنجي به.
فقال: لا بأس فسكت، فقال: أو تدري لم صار لا بأس به؟.
قلت: لا والله جعلت فداك.
قال: إن الماء أكثر من القذر (1).
وهذا - مضافا إلى كونه دليلا على عدم تنجسه واقعا وليس عفوا -
دليل على عدم انفعال الماء إلا بالكثرة والغلبة والقهر، وأشباهها الواردة
في الطائفة الأولى من المآثير، ولا يمكن تخصيصها بأدلة الانفعال، لأن
موردها داخل في هذه الكبرى، وهو أسوأ حالات اللقاء مع النجس، وبذلك
يثبت عموم دعوى الخصم في المسألة إذا تم سندها. ولكنه مشكل من
جهات شتى.

1 - علل الشرائع: 287 / 1، وسائل الشيعة 1: 222، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف،
الباب 13، الحديث 2، مع اختلاف يسير.
252

كما أنه لو تم، يورث امتناع الجمع العرفي بين الطائفتين من
الروايات، فإنه لولاها يمكن الجمع العرفي بحمل المطلقات من هذه
الطائفة على المقيدات في الطائفة الآتية، ولكنها تمنع من ذلك، لورودها
في مورد القليل فالجمع المذكور يستلزم طرح هذه الرواية، فلا يكون جائزا.
ومنها: معتبرة محمد بن مسلم، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الثوب
يصيبه البول.
قال: اغسله في المركن مرتين، فإن غسلته في ماء جار فمرة واحدة (1).
والمركن: هي الإجانة التي تغسل فيها الثياب قاله الجوهري (2).
وفي الأقرب: الإجانة إناء تغسل فيه الثياب، وما حول الغراس
شبه الأحواض (3).
وفي المنجد: الإجانة جرة كبيرة (4).
فكونها موضوعة للإناء الصغير، غير ثابت، مع ما قيل: إن الظروف
القديمة المهيأة لحفظ المياه، كانت كبيرة، لما قد يتفق الاحتياج إلى
الماء، وما كان من المطر أثر، ولا من غيره خبر (5) فهو من المطلقات.
إلا أن انصرافها إلى أنه كان أقل من الكر، غير بعيد إنصافا، وإن

1 - تهذيب الأحكام 1: 250 / 717، وسائل الشيعة 3: 397، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات، الباب 2، الحديث 1.
2 - الصحاح 5: 2126.
3 - أقرب الموارد 1: 5.
4 - المنجد: 4.
5 - لاحظ دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلد الأول: 41.
253

كان للمنع وجه.
وقد يشكل الرواية، لأجل عدم التزام الخصم بمفادها من التفصيل.
ومنها: غير ذلك من المآثير المشابهة لها في السند والدلالة (1)،
وما ذكرناها جلها لولا كلها.
التحقيق في تنجس القليل بالملاقاة
أقول: لا شبهة في أن هذه المسألة، كانت من قديم الأيام مورد الكلام،
ومن كان يقول باعتبار حد في الماء، فلا بد أن يريد منه الأثر المخصوص، ولا
أثر له - على ما استقصينا - إلا الطهارة والنجاسة، فإذن يعلم أن الجهة
المبحوث عنها ليست حديثة، وليست أمرا مغفولا عنها، ولا غير مبتلى بها
في كل يوم مرات عديدة، خصوصا في تلك الأمصار والأعصار، فهل يعقل
دعوى أن مثل هذه الجهة كانت كذلك، ومع هذا خفي على علماء الشيعة،
ورواة الشريعة، وأرباب الفتوى، وأصحاب الحديث والآراء؟! فلو كان
مذهب الإمامية ذاهبا إلى الطهارة، لكانت القصة معلومة، وهكذا
النجاسة، فلا تمس الحاجة في مثلها إلى الرواية والخبر، سواء كان
مفادها الطهارة، أو النجاسة، بل لا بد من المراجعة إلى تأريخ المسألة،
وفتوى الصحابة في رسائلهم وكتبهم، وما يستفاد من بنائهم ومرامهم.
ولا شبهة عند كل أحد، في أن الواصل إلينا منهم هي النجاسة، ولم

1 - وسائل الشيعة 1: 175، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 14، الحديث 16،
وسائل الشيعة 1: 229، كتاب الطهارة، أبواب الأسئار، الباب 3، الحديث 2.
254

يعهد من أحد منا إلا من هو شاذ من المتأخرين والقدماء، كابن أبي
عقيل، وقد مرت الشبهة في النسبة (1).
وهذا أمر يصدقه الاغتراس، ويجد كل عاقل أن معنى النجاسات هو
الاحتراز عن المتنجسات، وبناء العرف على الاستقذار من الملاقيات، من
غير فرق بين الجامدات والمائعات، بل هو في الثواني أكثر.
وذهاب المخالفين إلى تنجس القليل في الجملة - إلا بعضا منهم
- يشهد على أن المسألة كانت من الصدر الأول معلومة، وأن علماء العامة
يتمسكون في آرائهم بالكتاب، والسنة النبوية، وبعض الأمور المشابهة
لها، ولا معنى لاختلافهم في حد الكر - اختلافا فاحشا كثيرا - مع عدم بلوغ
شئ إليهم من صاحب الشريعة.
ولعمري، إن التدبر في المسألة والفحص حولها، يمنع عن توهم
طهارة الماء القليل، ولا يجوز لأحد البحث حولها، فإنه لا يكون عندي إلا
عن البناء على إيجاد الاشتباه، والميل إلى التفرد في الرأي والفتوى.
ولا يخفى الفرق بين الشبهات العلمية المذكورة لتشحيذ الأذهان،
وبين اختلاط الأباطيل بالحق العيان، ولا ينحل لي هذه المعضلة، وهي
رضا شخص واحد بمخالفة الطوائف الكثيرة من الروايات البالغة -
على ما قيل - إلى مئات (2)، للعمل بخبر واحد أو أخبار، مع عدم وضوح
الدلالة وجدانا وإنصافا، وقصور الاسناد.

1 - تقدم في الصفحة 232.
2 - مهذب الأحكام 1: 168.
255

وبناء على ما ذكرناه إلى هنا تبين: أن الأدلة من حيث السند
والدلالة قاصرة، ولا حاجة إلى الجمع والترجيح.
توهم دلالة المآثير على أن للطهارة مراتب ودفعه
ولو فرضنا تمامية السند والدلالة، فقد يقال: بأن قضية الجمع هو
القول بمراتب الطهارة (1)، وذلك كما في ماء البئر، فما يدل على الطهارة،
مثل ما يدل هناك عليها، وما يدل على النجاسة، مثل ما يدل على النجاسة
هناك، فالأوامر الواردة في لزوم الغسل، كالأوامر الواردة في لزوم النزح،
والأخبار الواردة للحد الذي لا يتنجس معه الماء، كالواردة لمقادير
النزح لرفع القذارة العرفية في ماء البئر.
وأنت خبير: بأن المآثير الدالة على الانفعال، لا تنحصر بتلك الأوامر،
ضرورة أنها لا تفي لاثبات النجاسة إلا استظهارا، فيمكن حملها على
الطهارة لظهور أقوى، بخلاف ما دل على نجاسته، فإن مآثير الكر تدل على
النجاسة.
ولو كان في مآثير البئر ما يدل على النجاسة، فهو معارض مع ما يدل
على عدمها، ولا يمكن الجمع العرفي بين هذه الطوائف، بحمل الدال على
النجاسة على القذارة العرفية، والدال على عدم النجاسة على عدم
تلك المرتبة من القذارة، أو عدمها مطلقا، فلا تغفل.

1 - شرح تبصرة المتعلمين، المحقق العراقي 1: 106.
256

الأمر الثالث: في أدلة تنجس القليل بالملاقاة
حجة المشهور - مضافا إلى الاجماعات الكثيرة (1)، ومفروغية
المسألة في كلمات جمع (2)، والشهرات المتحققة في كل عصر، وعدم
احتياجهم إلى الأدلة اللفظية كما أشير إليه آنفا - الطوائف المختلفة من
المآثير والأخبار.
وقد استقصاها فقيه العصور المتأخرة صاحب الجواهر عليه
الرحمة (3)، وأنهاها الآخرون، إلى أن ادعي أنها بلغت ثلاثمائة رواية (4).
ولو أمكن الخدشة في كثير منها سندا ودلالة، لأجل أن الشهرة
ليست جابرة، أو لا تكون جابرة في خصوص المسألة.
ولأن كثيرا منها - لأجل النهي عن الشرب والاغتسال والتوضي -
توهم دلالتها على النجاسة، مع أنها أعم كما هو الظاهر، بل الروايات
الصريحة في الترخيص مع الضرورة - بعد النهي عن التوضي - قرينة
على أن النواهي في غيرها ليست كاشفة عن النجاسة.
ولأن حجية مفهوم الشرط والقيد ممنوعة، كما تقرر في الأصول (5).

1 - جواهر الكلام 1: 105، مستمسك العروة الوثقى 1: 141.
2 - الوسيلة: 73، شرائع الاسلام 1: 4، الدروس الشرعية 1: 118.
3 - جواهر الكلام 1: 106 - 116.
4 - لاحظ مهذب الأحكام 1: 168.
5 - تحريرات في الأصول 5: 21 وما بعدها.
257

ولأن أخبار النجاسة، توافق مذهب جماعة من العامة، كما مضى (1).
ولأن القذارة العرفية منهي عنها، ولكنها غير النجاسة الشرعية،
فربما تكون الروايات متعرضة للأولى، دون الثانية.
ولأن القول بالنجاسة، يستلزم الحرج والضيق، وقد ورد في
الأخبار (2) التمسك بالآية لعدم تشريع الحكم الحرجي بالذات،
ولا ينحصر دلالتها على تضييق المطلقات وتقييدها.
ولأنه يستلزم طرح ما يدل على طهارة القليل، كما عرفت.
ويستلزم الابتلاء بأخبار الكر مع اضطرابها، فهي بذاتها تدل على أن
مسألة الكر، مبنية على التنزهات العرفية بمراتبها، أو على أن ما لا يتغير
من الماء هو البالغ كرا.
ويستلزم التفصيل بين المياه القليلة، فيكون ماء الغسالة طاهرا،
وهكذا ماء الاستنجاء والحمام.
ويستلزم الوسواس، لوقوع الناس فيما لا يرضى به الشريعة
السهلة السمحة.
ويستلزم القول بخلاف إطلاقات الكتاب، الدالة على أن كل ماء
طاهر مطهر، من غير فرق بين قليله وكثيره (3).
هذا مع أن التطهير بالماء الوارد على المتنجس، غير ممكن،

1 - تقدم في الصفحة 230 - 231.
2 - تقدم في الصفحة 250.
3 - الأنفال (8): 11، الفرقان (25): 48.
258

والالتزام بعدم لزوم طهارته على الاطلاق مشكل، وفرار عن الشبهة.
فلو أمكن جميع ذلك، لما يمكن المصير إلى القول بالطهارة، لأن
سيرة المتشرعة المتلقاة يدا بيد من الأسلاف، ليست منشؤها المآثير
والروايات، فهي على النجاسة كهي على أن صلاة الصبح ركعتان وهكذا،
وهذا أمر يعرفه كل صغير وكبير، ومن البديهيات الملحقة بالقطعيات.
كلام المحدث الكاشاني والجواب عنه
والعجب منه (قدس سره)!! حيث قال في الوافي: ومما لا شك فيه، أن
ذلك لو كان شرطا، لكان أولى المواضع بتعذر الطهارة، مكة والمدينة
المشرفتين، إذ لا يكثر فيها المياه الجارية، ولا الراكدة الكثيرة، ومن أول
عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى آخر الصحابة، لم ينقل واقعة في الطهارة، ولا
سؤال عن كيفية حفظ الماء عن النجاسات، وكانت أواني مياههم يتعاطاها
الصبيان والإماء الذين لا يتحرزون عن النجاسات، بل الكفار كما هو
معلوم لمن تتبع انتهى (1).
وأنت خبير: بأن المشهور بين معاصري الصحابة والخلفاء، القول
بالتحديد في المياه، وهل هذا إلا لذهابهم إلى تنجسه كما صرح به
أبناؤهم؟!
ولو كان الأمر كما توهمه، لما كان وجه لاختلاف فقهاء تلك العصور
في هذه المسألة مع قرب عهدهم، وقد مضى أن عبد الله بن عباس المتوفى

1 - الوافي 6: 20.
259

سنة سبع وثمانين، وعبد الله بن عمر المتوفى سنة أربع وسبعين، وأبا
هريرة المتوفى سنة سبع وخمسين، وهكذا الفقهاء المعاصرين للسجاد
عليه الصلاة والسلام، ذهبوا إلى نجاسة القليل (1).
وتوهم أن ما ذكروه للتحديد في أمر آخر غير النجاسة، فاسد وإن
احتملناه، لتنصيص الفخر في التفسير: بأن ابن عمر قال: إذا كان الماء
أربعين قلة، لم ينجسه شئ وعن سعيد بن جبير المتوفى سنة خمس
وتسعين: أن الراكد إذا كان قدر ثلاث قلال، لم ينجسه شئ (2)... وهكذا،
فعليه يعلم خلاف ما توهمه.
مع أن الأحكام الشرعية تدريجية الابلاغ، فليكن القول بوجوب
الاجتناب عن المياه القليلة في العصر المتأخر عن العصر الأول، فعليه
لا وجه لما ظنه، فافهم وتبصر.
تذنيب: في حكم التعارض بين روايات نجاسة القليل وطهارته
لو سلمنا دلالة عدة من الروايات على الطهارة، فلا شبهة في دلالة
الأكثر منها على النجاسة، ولا يمكن إنكار ذلك بعد المراجعة إليها، فيلزم
التعارض.
فإن قلنا: بأن الشهرة مورثة للوهن في سند الطائفة الأولى، فيتميز
الحجة عن اللا حجة.

1 - تقدم في الصفحة 230.
2 - التفسير الكبير 24: 94 / السطر 24.
260

وإن قلنا: بأنها لا تورث شيئا، أو لأن المشهور - من باب الجمع بين
الأخبار - قالوا بالنجاسة، فتستقر المعارضة، فتكون الشهرة الفتوائية
مرجحة.
مع أن المعروف في عصر هذه المآثير، عدم انفعال الماء القليل،
فتكون تلك الطائفة موافقة للعامة فتطرح، إما لأجل المعارضة كما هو
المشهور، أو لتميز الحجة عن اللا حجة، كما هو الحق عندي.
نعم، قضية إطلاق الكتاب مطهرية كل ماء، وهذا يستلزم عرفا عدم
تنجسه، والالتزام به مع كونه مطهرا مشكل، فيقع التهافت بين المرجحات
والمميزات. ولكن قد عرفت عدم دلالة الكتاب على العموم المذكور (1)،
فتأمل.
وقد يشكل حملها على التقية، لأجل إمكان التوصل إلى الحكم
الواقعي، معللا بذهاب جمع من قدمائهم إلى ذلك، كما عرفت.
ولكنه مدفوع: بأن المناط في التقية، ليس فتوى فقيه العصر، بل
المناط اشتهار الحكم بين الناس، والتزام الخلفاء به، وهذا هو الموجب
للاتقاء، ولا يشترط إمكان التفصي، لأن الخوف من الظالم، يوجد مع
الاحتمال الضعيف، ولا سيما في تلك المواقف الحرجة، وخصوصا رعاية
التقية في حقهم (عليهم السلام) ربما كانت أوجب من غيرهم.

1 - تقدم في الصفحة 22 - 23.
261

الأمر الرابع: في التفصيل بين ملاقاة النجس للقليل والمتنجس
حكي عن العلامة الخراساني (رحمه الله)، التفصيل في الماء القليل بين
النجاسات والمتنجسات، وقال بعدم الانفعال في الثواني، دون الأوائل (1).
وهو الوحيد في هذا القول البعيد عن الأفهام.
وما استدل به، قصور الأدلة عن إفادة عموم الحكم، ضرورة أن مفهوم
أدلة الكر إيجاب جزئي، والقدر المتيقن منه عين النجس، بل كلمة
شئ فيها ظاهرة في الأعيان النجسة، كما قال به المشهور في كلمة
وجوه النجس (2) في رواية تحف العقول (3).
ودعوى: أن المنطوق مفاده سلب العموم، لا العموم المسلوب،
فيكون مفاد المفهوم أيضا إيجاب العموم، لا الايجاب الجزئي، غير
مسموعة، لأنه وإن كان كذلك في جانب المنطوق، ولكنه على سبيل
الاجمال، لا التفصيل، بمعنى أن مفاده منطوقا أن الماء القليل ينجسه كل
شئ، وكل واحد من النجاسات لا أنه ينجسه هذا وذاك... إلى آخر
النجاسات، فإنه باطل قطعا، فإذا كان مفاده في المنطوق ذلك، فالسلب
المرتبط بالعام الاستغراقي، ظاهر عرفا في الايجاب الجزئي.

1 - مستمسك العروة الوثقى 1: 146.
2 - جواهر الكلام 22: 8 - 9، المكاسب، الشيخ الأنصاري: 2 / السطر 25، حاشية
المكاسب، السيد اليزدي: 3 / السطر 9.
3 - تحف العقول: 333.
262

هذا، ولكنه لو تم ما ظنه، يلزم القول بأن القدر المتيقن هي
النجاسات العرفية والقذارات الأصلية، دون النجاسات الجعلية
الملتحقة بها في الاعتبار والشرع.
هذا مع أن المفهوم هو هذا الماء إذا لم يبلغ قدر كر، ليس بأن لا
ينجسه شئ ولعل ظهورها في عموم السلب أقوى، كما لا يخفى.
وربما يدل عليه معتبر زرارة في مسألة الحبل من شعر الخنزير
الماضية (1)، فإن المتعارف تقاطر الماء منه في الدلو، فعلى هذا يتعين
التفصيل.
ولو توهم دلالة جمع من المآثير، على عدم الفرق بين النجس
والمتنجس (2) - كموثقة سماعة (3)، ومعتبر شهاب بن عبد ربه (4)، وصحيحة
أبي بصير (5)... وغير ذلك (6)، لاشتمالها على لزوم الاجتناب عن الماء

1 - الكافي 3: 6 / 10، وسائل الشيعة 1: 170، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 14، الحديث 2.
2 - دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلد الأول: 147.
3 - تهذيب الأحكام 1: 37 / 99، وسائل الشيعة 1: 153، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المطلق، الباب 8، الحديث 9.
4 - الكافي 3: 11 / 3، وسائل الشيعة 1: 152، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 8، الحديث 3.
5 - الكافي 3: 11 / 1، وسائل الشيعة 1: 152، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 8، الحديث 4.
6 - تهذيب الأحكام 1: 39 / 105، وسائل الشيعة 1: 153، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المطلق، الباب 8، الحديث 7.
263

الملاقي مع القذر، وهو أعم من العين القذرة - فلا بد من التقييد،
لأنها بالاطلاق، مع أن المنصرف منها هي الأعيان، فلا تغفل.
فبالجملة: القول بالتفصيل حسب الصناعة قوي.
اللهم إلا أن يقال: بأن معقد إجماع المجمعين مطلق، لأن كثرة
الابتلاء بالمسألة تلجئ الأمة إلى السؤال، وتورث وجوب التنبيه
على العلماء والفقهاء، فمن سكوتهم وعدم تصريحاتهم بالفرق، يعلم قطعا
عدم الفرق (1).
نعم لو قلنا: بعدم تمامية الاجماع التعبدي في المقام، فلك دعوى
إعراضهم عن هذه الرواية، لظهورها في التفصيل.
اللهم إلا أن يدعى كفاية عمل السيد (رحمه الله) بها في عدم توجه الوهن
إليها (2)، مع أن مجرد عدم العمل لا يورث الوهن، ضرورة أن من المحتمل
القوي استظهارهم منها صورة الملاقاة مع العين، كما صرح به
الشيخ (رحمه الله) (3).
هذا، وقد عرفت عدم احتياج المسائل المبتلى بها في كل ساعة مرارا
إلى الرواية، بل تلك المسائل من المتلقاة عن الآباء والجدات إلى عصر
الأئمة الهداة عليهم صلوات الله الملك العلام، فلا ينبغي الخلط بين
المقام، وسائر المسائل والأحكام.

1 - مستمسك العروة الوثقى 1: 146.
2 - الناصريات، ضمن الجوامع الفقهية: 218، المسألة 19.
3 - تهذيب الأحكام 1: 409، ذيل الحديث 1289.
264

الأمر الخامس: في تنجيس ما لا يدرك ولا يمكن التحرز عنه
قال الشيخ في الاستبصار بعد ذكر صحيحة علي بن جعفر
الماضية، عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السلام) (1):
فالوجه في هذا الخبر، أن نحمله على أنه إذا كان الدم مثل رأس
الإبرة التي لا تحس ولا تدرك، فإن مثل ذلك معفو عنه (2).
وفي المبسوط بعد اختيار تنجس القليل بالنجاسات، قال:
إلا ما لا يمكن التحرز عنه، مثل رؤوس الإبر من الدم وغيره، فإنه
معفو عنه، لأنه لا يمكن التحرز عنه انتهى (3).
وأنت خبير: بأن مصب البحث هنا، حول تنجس الماء القليل
بالنجس، فلا بد من كون الملاقي معه، مفروغ النجاسة، لا المشكوك
نجاسته بالشك الحكمي أو الموضوعي، وظاهره (قدس سره) معفوية الدم وغيره،
لا الماء القليل، وهذا في الحقيقة يرجع إلى بحث آخر في مباحث
النجاسات.
ويشهد لذلك تجاوزه عن مورد النص، وتعديه إلى غيره، ويؤيده
تعليله بأنه الحرج والمشقة، فكأنه كان يرى نجاسة كل شئ

1 - تقدم في الصفحة 240.
2 - الإستبصار 1: 23 / 57.
3 - المبسوط 1: 7.
265

بالأجزاء الصغيرة المتصاعدة من العذرات الموجودة في شوارع
النجف وأزقته.
فعلى هذا، لو تم دلالة الصحيحة على عدم التنجس، فهي غير
معمول بها، والاجماع على خلافها، فتأمل جدا.
هذا مع أنك قد عرفت حالها (1)، والمحتملات الكثيرة فيها، مع
اختلاف نسخها، والرواية التي شأنها استدلال المتخاصمين من الجوانب
الثلاثة أو الأربعة بها، وكل يدعي ظهورها في مرامه، مما يشكل الخروج
عنها بدعوى الظهور المستقر لها، كما لا يخفى.
إرادة العلم الاجمالي من الصحيحة لا التفصيلي
ولكنه بعد التدبر في تلك الصحيحة، يعلم أن السؤال ظاهر في
العلم الاجمالي بإصابة الأجزاء الصغار للإناء، لأنه مع العلم التفصيلي
بإصابة نفس الإناء، لا معنى لسؤال مثل ابن جعفر، لوضوح المسألة، وعدم
الحاجة إلى فرضها، مع عدم مناسبة الجواب من التفصيل لذلك، كما
هوا لظاهر.
وأما العلم التفصيلي بإصابة الدم بما في الإناء، فهو غير تام، لعدم
صحة إطلاق الإناء بما فيه، ولذلك فرض السائل في ذيل الرواية - فيما
وقعت القطرة في الإناء - صورة المسألة على الوجه الآخر، فعليه

1 - تقدم في الصفحة 240 - 241.
266

يستظهر بعد المراجعة إلى اللوازم العادية في تقطر الأجزاء
الصغار المنتشرة في الهواء والأرض، العلم الاجمالي، كما أفاده الشيخ
الأعظم في اشتغال الرسائل (1).
وأما إضافة الجملة الأخرى إلى السؤال كما في الوسائل
الموجودة عندنا - وهو قوله: ولم يستبن ذلك في الماء (2) - فهي مخدوشة،
مع أنه لا يناسبها الجواب أيضا عرفا، فلو قيل بناء عليه يلزم الاجتناب،
للعلم الاجمالي.
وتوهم: أنه خارج عن محل الابتلاء، فاسد كما عن الشيخ (3)، ضرورة
أنه في محله، للعلم الاجمالي بعدم صحة السجدة على الإناء، أو
الوضوء بما في الإناء. مع أن شرطية محل الابتلاء لتنجيز العلم، ممنوعة.
نعم، دعوى قيام السيرة العملية على عدم الاعتناء في هذه المواقف
بهذه المشتبهات، قوية جدا، فتكون الرواية مؤيدة لها.
ويمكن دعوى دلالتها على عدم نجاسة الأجزاء غير المحسوسة من
النجاسة، وأن الأمر بالتوضي عند عدم الاستبانة، كاشف عن طهارة الماء،
لعدم نجاسة تلك الأجزاء، فافهم وتدبر جيدا.
ثم إنه ربما يتوهم اختلاف المعنى مع اختلاف قراءة كلمة شئ في
الرواية نصبا ورفعا (4)، ولكنه غير تام.

1 - فرائد الأصول 2: 421.
2 - لاحظ ما تقدم في الصفحة 240، الهامش 2.
3 - نفس المصدر.
4 - الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 118.
267

الأمر السادس: في التفصيل بين القليل المتصل بالكر وغيره
حكي عن صاحب المعالم التفصيل في الماء القليل بين ما كان
متصلا بالكر، وما كان بالغا حد الكر، فإن الثاني لا يتنجس، بخلاف الأول،
ضرورة أنه ليس من المياه المعتصمة، كالمطر والبئر وغيرهما (1).
وغاية ما يتوهم لاعتصامه، توهم أنه بمجرد الاتصال، يكون متحدا
في الاسم مع الكثير، وهذا واضح البطلان عرفا، بل وعقلا، لأن المراد من
الماء البالغ كرا، ليس طبيعته، وإلا فلا ينجس ماء أصلا، ولا صنفه، بل
المقصود هو الشخص المورد للملاقاة، فلا بد من الوحدة العرفية حتى
يقال: هذا ماء بالغ حد الكر فلا ينجس.
وإذا فرضنا القليل المتصل بالكثير، بعيدا عنه بفرسخ، أو أقل إلى
أن يكون في جنبه، ولكنه في الإناء، ويجري الماء من المخزن فيه، فإنه
لا يعد واحدا قطعا مع ما في المخزن، سواء كان عاليا، أو مساويا، أو دانيا
ويخرج الماء بقوة كهربائية إلى الفوق، فعليه إذا لاقاه النجس ينجس،
لعدم بلوغه كرا.
ولكنه مع هذا التقريب الذي سمعته مني، يمكن دعوى عدم انفعاله،
لا لاتحاده مع الكثير، فإنه واضح البطلان، بل لأن المستفاد من أدلة ماء

1 - مستمسك العروة الوثقى 1: 149.
268

الحمام (1)، وقوله هناك: إذا كانت له مادة أن المادة أعم من مادة
البئر، ويتم حينئذ التمسك بصحيحة ابن بزيع (2)، فالقليل المتصل بالكثير
معتصم، لاتصاله بالمعتصم.
نعم، عندئذ لا بد من كون الماء الكثير كرا، للزوم سراية النجاسة إليه.
اللهم إلا أن يقال: بأن المثال المفروض من تلك الجهة كالحمام،
فلو أمكن الالتزام هناك بعدم اعتبار الكرية مطلقا أمكن هناك. هذا فيما كان
الماء يجري من المخزن في الإناء.
وإذا كان الماء راكدا، وموجودا في الأواني المختلفة، المتصلة بالثقب
الموجودة فيها، فالظاهر أنه ينجس الماء بالملاقاة، لاختلاف المياه
عنوانا، وعدم كون أحدها مادة للآخر، ضرورة عدم صدق هذا الماء كر
مشيرا إلى ما في أحد الإناءين والإناء الآخر في محل بعيد منه، وصدق هذه
المياه كر لا يكفي، وإلا يلزم عدم وجود الماء القليل بالضرورة، فليتدبر.
الأمر السابع: في نفي الفرق بين الوارد والمورود عليه
قال السيد (رحمه الله) في الناصريات في المسألة الثالثة: ولا فرق
بين ورود الماء على النجاسة، وبين ورود النجاسة على الماء، وهذه

1 - تهذيب الأحكام 1: 378 / 1168، وسائل الشيعة 1: 149، كتاب الطهارة، أبواب
الماء المطلق، الباب 7، الحديث 4.
2 - الإستبصار 1: 33 / 87، وسائل الشيعة 1: 141، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 3، الحديث 12.
269

المسألة لا أعرف فيها نصا لأصحابنا، ولا قولا صريحا، والشافعي
يفرق بين ورود الماء على النجاسة، وورودها عليه، فيعتبر القلتين في
ورود النجاسة على الماء، ولا يعتبر في ورود الماء على النجاسة،
وخالفه سائر الفقهاء في هذه المسألة.
ويقوى في نفسي عاجلا إلى أن يقع التأمل لذلك، صحة ما ذهب
إليه الشافعي، والوجه فيه أنا لو حكمنا بنجاسة الماء القليل الوارد
على النجاسة، لأدى ذلك إلى أن الثوب لا يطهر من النجاسة إلا بإيراد
كر من الماء عليه، وذلك يشق، فدل على أن الماء إذا ورد على النجاسة،
لا يعتبر فيه القلة والكثرة، كما يعتبر فيما يرد النجاسة عليه (1) انتهى.
وحكي (2) موافقة الحلي له، وقال في ذيل المسألة: إنه الموافق
لأصل المذهب وفتاوى الأصحاب (3) انتهى.
ولكنه غير ظاهر، لعدم إمكان اطلاع الحلي (رحمه الله) على ما خفي على
السيد، بعد تصريحه بعدم عرفانه نصا لأصحابنا، ولا قولا صريحا.
فبالجملة: في المقام مسائل، مسألة طهارة الغسالة، ومسألة كيفية
تطهير المتنجس بالماء القليل، وسيأتي حكمهما (4)، ومسألة اعتصام
السافل بالعالي، وتقوي العالي بالسافل، وقد مضى حكمها (5)، ومسألة

1 - الناصريات، ضمن الجوامع الفقهية: 215، المسألة الثالثة.
2 - الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 118، السرائر 1: 181.
3 - السرائر 1: 181.
4 - يأتي في الجزء الثاني: 98 وما بعدها.
5 - تقدم في الصفحة 98.
270

ورود الماء على النجس وبالعكس، وهو المقصود هنا بأن يقال: لو
ورد النجس في الماء القليل فهو ينجس، دون عكسه، بأن ورد الماء على
النجس.
ولكن هنا أيضا مسألتان:
أولاهما: ما إذا ورد الماء على النجس وانفصل عنه.
وثانيتهما: ما إذا لم ينفصل.
فإنه ربما يمكن القول بالنجاسة في الثاني، وإن قيل بالطهارة في
الفرض الأول، وذلك لأن الملاقاة المورثة للنجاسة أعم من المعنى
المصدري وحاصله، فليتدبر.
والبحث حول عبارة السيد (رحمه الله) لا يرجع إلى محصل، وربما تكون
العبارة الواصلة منه، ظاهرة في المسألة الأخيرة، ويكون ذيلها دليلا على
منع الكبرى، لأن الالتزام بتلك الكبرى يؤدي إلى المشقة.
والذي يمكن أن يكون دليلا للفرق، قصور أدلة تنجيس النجاسات أولا.
وظهور الموارد الخاصة في كون المدار على اللقاء من قبل
النجاسة، لا العكس، ثانيا.
وإطلاق النبوي الشاهد على أن جميع المياه لا ينجسه شئ (1)، إلا
الماء القليل الثابت بمفهوم أخبار الكر (2)، وهو في حكم الموجبة
الجزئية ثالثا، ومجرد الاستبعاد غير كاف، للزومه في الماء المستنجى

1 - الكافي 3: 1 / 1، وسائل الشيعة 1: 134، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 1، الحديث 6.
2 - وسائل الشيعة 1: 158، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9.
271

به والحمام أيضا.
وأنت خبير: بأن التفصيل المستبعد في أنظار المتشرعة، يحتاج إلى
النصوص الخاصة، كالموردين المشار إليهما، والالتزام هناك لا يورث
قرب التفصيل هنا، كما هو الواضح.
مع أن الفرق بين الوارد والمورود، بعد أن العرف لا يدرك إلا
دخالة خصوصية اللقاء فقط، في غاية المنع.
كلام الوالد المحقق والجواب عنه
وعن الوالد المحقق - مد ظله -: أن قضية الصناعة عدم الفرق،
لأن العام الأصولي والاطلاق الأحوالي الثابت في منطوق أخبار الكر، لا
ينتفي في مفهومها بالمرة، بل الاستيعاب المستفاد من النكرة في سياق
النفي في المنطوق ينتفي، دون الاطلاق الأحوالي، فيكون المفهوم دليلا في
مورد القدر المتيقن على عدم الفرق بين الوارد والمورود (1).
وفيه: أنه إن أريد أن مقدمات الحكمة في المنطوق، تكفي عن
المقدمات في المفهوم، فهو في محل المنع، لأن المفهوم قضية أخرى.
وإن أريد الملازمة العرفية بين المقدمتين، أو تمامية المقدمات
في المفهوم أيضا، فهو يحتاج إلى الدليل، وبعد الاهمال في العام الأصولي،
يشكل ذلك في الأحوالي، كما لا يخفى.
هذا خصوصا على مذهبه، من عدم الاحتياج إلى المقدمات في

1 - الطهارة (تقريرات الإمام الخميني (قدس سره) الفاضل اللنكراني: 19 (مخطوط).
272

العمومات اللفظية، ومنها النكرة في سياق النفي، فإذن يلزم الالتزام
بالاهمال، لأن انتفاء الافرادي يستتبع الانتفاء الأحوالي قهرا، فلا تغفل.
نعم، إطلاق معقد الاجماع لما عرفت، دليل على بطلان التفصيل، إلا أن
تمامية أصل الاجماع في المسألة، ممنوعة كما عرفت (1).
الأمر الثامن: في المراد من القليل والكثير وحدهما
قد مضى: أن الذي عليه المسلمون إلا من شذ، انفعال الماء القليل
في الجملة (2). والذي هو المهم بالبحث، هو أن المراد من القليل
والكثير ما هو، وأن حد القلة والكثرة بالكم المتصل، أو المنفصل،
وأي شئ هو؟
أقول: لا شبهة في أن الماء، ذو الوحدة العرفية الاتصالية
القابلة للانقسام إلى القسمة بالوزن، والمساحة وهي الكيل، وإنما
البحث حول أن الشرع المقدس، عين بالتعيين الشرعي اللازم رعايته
حدا، أو لم يعين، بل أوكل الأمر إلى العرف، فيكون المدار على القلة
والكثرة بنظرهم، وتكون تصرفات الشريعة من باب ذكر المصاديق للمعنى
الكلي المعتبر، وهو أصل الحد، وأنه يعتبر كثرة ما، ومقدار ما في عدم
الانفعال، قبال من ينكر أصل اعتبار الحد، كمالك وداود وأمثالهم ممن مضى (3).

1 - تقدم في الصفحة 232 - 233.
2 - تقدم في الصفحة 254.
3 - تقدم في الصفحة 230.
273

ثم بعد الفراغ عن ذلك، واستكشاف الحد الشرعي فرضا، يقع
البحث في الجهات الأخر من التحديدات المروية في الأخبار، الواصلة
إلينا من حملة الدين، وأولي الأمر - صلوات الله تعالى عليهم -.
الجهة الأولى: في أن المدار في تحديد الكثير هو العرف
قد مضى: أن ابن سيرين ومسروق، ذهبا إلى أن الذي ينفعل هو
القليل، والذي لا ينفعل هو الكثير، ولم يعينا حدا (1).
وهذا هو الحكم الذي يصدقه الوجدان والعرف بالضرورة، لأن
التحديدات في المسائل الاغتراسية، ترجع إلى الاشكالات الكثيرة،
بخلاف ما إذا كان الأمر بيد العرف فإنه تارة يرى أن القطرة من البول في
الأقل من الكر بمثقال لا تورث النجاسة، والعذرة الواقعة في الأكثر منه
تورث القذارة، وهكذا.
وأبواب النجاسات والطهارات، مبنية على الاتساعات الشرعية
والعفو في كثير من المواقف الموجبة لوقوع الناس في المشقات،
والحرج، واختلال النظام.
فعلى هذا، الذي يعرفه العرف ويصدقه الذوق، أن المياه مختلفة
في الاستقذار بالملاقيات، وأن الملاقيات متفاوتة في التأثير، إلا أنه
ليس - حسبما مر - المدار على عدم حصول القذارة العرفية من الماء
الملاقي للعين القذرة، لأنه يرجع إلى التفصيل في المياه والنجاسات،

1 - تقدم في الصفحة 229.
274

وهذا مما لا يمكن الالتزام به، حسب ما يؤدي إليه النظر، ويدل عليه
الأثر.
بل المدار على الكثرة العرفية القريبة من المصاديق المعينة
في المآثير والروايات حسب الأوزان والأكيال. وتلك الحدود المشار
إليها في الأخبار، متسامح فيها، لأن المناط هي الكثرة الجامعة لها،
والمشتركة فيها.
وغير خفي: أن هذا المطلب لو تم، يرتفع به تعارض المآثير،
واختلاف التحديدات، والاشكالات غير القابلة للانحلال، حسب ما يؤدي
إليه نظر العرف في الجمع بين الروايات، وكأنه حد وسط بين القول
بانفعال الماء القليل، وبين نفي الماء الكثير الشرعي، ولا يكون خرقا
للاجماع، إلا أنه ليس من الاجماع الكاشف عن رأي المعصوم بالضرورة،
بعد الاختلاف الكثير الناشئ عن المآثير الواصلة، فالمناط هو ما يؤدي
إليه النظر في الجمع بين شتات المآثير والروايات.
فتحصل: أن دعوى حكم العقل بإيجاب التحديد الشرعي - لئلا
يلزم الحيرة على المكلفين في معنى القلة والكثرة - فاسدة جدا.
وتعيين الحد في مفهوم الإقامة في السفر بالعشرة أيام، لا يورث
شيئا، ضرورة أن كثيرا من العناوين المأخوذة في الأدلة، مختلفة الصدق
حسب الأنظار، وأي عنوان أعظم تشتتا فيه مثل عنوان الخبيث الذي
حرم - حسب ما قيل - في الشريعة؟! مع أن الخبائث والرذائل، كثيرا ما
تختلف باختلاف العادات في الملل والأقوال، بل والأشخاص، وعناوين
المكيل والموزون تختلف في العصور والأمصار، بل أفتى المشهور
بأن كثير السفر يتم، وأحالوا ذلك إلى العرف.
275

مع أنه يمكن دعوى: أن ما هو الأقل هو الأقل، من مجموع ما ورد في
الشرع، فبعد المراجعة إلى المآثير يظهر لك ذلك إن شاء الله تعالى.
أقسام العناوين المأخوذة في الأخبار ومنها الكثير
فنقول: العناوين المأخوذة في المآثير على أنحاء:
فتارة: تكون هي العناوين الاسمية المطلوبة بالنظر المستقل،
ك‍ " الأكثر ".
وأخرى: تكون في الأدلة عناوين كثيرة، إلا أن بعضا منها إرشاد وأمارة
وطريق إلى الآخر، كعنوان البلوغ والاحتلام ونبات الشعر
والخمس عشرة سنة فإنها عناوين، إلا أن الكل ربما تكون طريقا إلى
الاحتلام، والعناوين المذكورة في الرضاع، فإن بعضا منها طريق إلى الآخر.
وثالثة: تختلف العناوين في المآثير، إلا أن من الممكن رجوع
المجموع إلى العنوان الآخر المشترك بين الكل غير المذكور مثلا في
الأخبار، ولكن العرف يجد ذلك بعد الدقة في أطراف المسألة، كما ذكرنا
ذلك في كتاب الصلاة، وقوينا هناك أن عنوان خفاء الأذان والجدران من
العناوين المترشحة عن الأمر الآخر، وهو عنوان البعد عن المنزل،
وانقطاع المسافر عن البلد بحيث يكون مسافرا بالاطلاق الصحيح
ومنقطعا (1)، وبذلك تنحل الشبهة الواردة في تلك المسألة، وإلا فالشبهة
غير قابلة للحل حسب النظر العلمي، فليراجع.

1 - لم نعثر عليه فيما بأيدينا من مباحث الصلاة من تحريرات في الفقه.
276

ومن ذلك ما نحن فيه، فإنه بعد التأمل الشديد في المآثير، والتدبر
التام في الأخبار، ربما يظهر أن المقصود ليس عنوانا خاصا وتحديدا
إلزاميا شرعيا، بل المقصود من المجموع بيان الحد العرفي المتسامح
فيه ل‍ " الكثير " وأن ما هو القليل هو القليل حسب نظر العرف، كالمياه
في الأواني والظروف والقدور، وشدة الاختلاف في الأخبار تشهد على ذلك.
كما أن بعض الأمور الأخر، يبعد هذا المرام، إلا أن الفقيه كل الفقيه
لا بد له من مراعاة جميع المقربات والمبعدات، حتى يتوجه إلى ما هو
المقصود الأصلي بين الروايات.
فإذا تمكنت من تصوير مصب البحث، وعرفت أنه ليس بحثا إبداعيا
بعيدا عن الأذهان، وعلمت أن بعض المسلمين ذهبوا إلى ذلك، كما صرح به
الرازي في كتابه الكبير نقلا عن ابن سيرين ومسروق (1)، قائلين: باعتبار
الكثرة والقلة، من غير التحديد لهما، فإنه يعلم من ذلك، أن المناط في
الانفعال هو القلة العرفية، والمناط في عدمه هي الكثرة العرفية،
ويستظهر من المآثير الحدود المتعارفة من الكثرة والقلة، فيسهل لك
تصديق ما أبدعناه إذا ساعدته الروايات، وإلا فلا بد من الغور في المباحث
الأخر.
الأخبار الدالة أو المؤيدة لإرادة الكثرة العرفية
فإليك أخبار تدل أو تؤيد - من النصوص والاطلاقات - ذلك الأصل
الذي يصعب الآن عليك تصديقه:

1 - التفسير الكبير 24: 94 / السطر 26.
277

فمنها: ما رواه الشيخ بإسناده الصحيح في التهذيب (1)
والاستبصار (2) عن محمد بن علي بن محبوب، عن محمد بن الحسين -
والظاهر أنه ابن] أبي [الخطاب الثقة - عن علي بن حديد، عن حماد بن
عيسى (عثمان) عن حريز، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له: راوية
من ماء سقطت فيها فأرة، أو جرذ، أو صعوة ميتة.
قال: إذا تفسخ فيها فلا تشرب من مائها، ولا تتوضأ منها، وصبها، وإن
كان غير متفسخ فاشرب منه، وتوضأ، واطرح الميتة إذا أخرجتها طرية، وكذلك
الجرة وحب الماء والقربة، وأشباه ذلك من أوعية الماء.
قال: وقال أبو جعفر (عليه السلام): إذا كان الماء أكثر من راوية لم ينجسه شئ،
تفسخ فيه، أو لم يتفسخ، إلا أن يجئ له ريح تغلب على ريح الماء.
وربما يستظهر من ذكر الكافي الذيل بطريق آخر، كونه رواية مستقلة
جمعها معها زرارة، وحكاها حريز، قال فيه محمد بن يعقوب، عن علي بن
إبراهيم، عن أبيه، عن محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان جميعا، عن
حماد بن عيسى، عن حريز، عن زرارة، قال: إذا كان الماء أكثر من... (3).
البحث السندي في الرواية السابقة
وهذه الرواية لأجل علي بن حديد ومحمد بن إسماعيل في السند

1 - تهذيب الأحكام 1: 412 / 1298.
2 - الإستبصار 1: 7 / 7.
3 - الكافي 3: 2 / 3، وسائل الشيعة 1: 140، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 3، الحديث 9.
278

الثاني، مورد الاشكال، ولكن الذي قواه النوري في الخاتمة وثاقته (1)،
ومن تدبر في كلمات القوم، وتوجه إلى خلو نصوص أرباب الرجال من
تضعيفه، يطمئن بأن منشأ الوهن كان اعتقاده بالفطحية، على إشكال في
تمامية النسبة (2)، وقد وردت روايات تدل على مكانته العالية عند
المعصوم (عليه السلام) زائدا على العدالة والوثاقة (3)، والتفصيل يؤدي إلى
الملال، فما عن الشيخ في بعض كتبه (4) محل منع.
وأما محمد بن إسماعيل، المشترك بين الجماعة الكثيرة البالغة
إلى ثلاثة عشر نفرا، فهو وإن كان غير ممكن فعلا تعيينه، ولكنه غير لازم،
لظهور قول الكليني: جميعا في أن ابن أبي عمير الموجود في
التهذيب (5) مطابق نسخة الكافي فيصح السند، ويعتبر عندنا.
البحث الدلالي للرواية السابقة
ثم إن الأصحاب أطالوا الكلام في فقه الحديث، والذي نتعرض له

1 - مستدرك الوسائل (الخاتمة) 3: 689 - 690.
2 - معجم رجال الحديث 11: 304.
3 - عن أبي علي بن راشد، عن أبي جعفر الثاني (عليه السلام) قال: قلت جعلت فداك قد اختلف
أصحابنا فأصلي خلف أصحاب هشام بن الحكم؟ قال: عليك بعلي بن حديد، قلت:
فآخذ بقوله؟ قال: نعم، فلقيت علي بن حديد، فقلت: نصلي خلف أصحاب هشام بن
الحكم؟ قال: لا. رجال الكشي 2: 563.
4 - تهذيب الأحكام 7: 101 / 435، الإستبصار 3: 95 / 325.
5 - انظر تهذيب الأحكام 1: 42 / 117، جامع أحاديث الشيعة 2: 22، كتاب الطهارة،
أبواب المياه، الباب 6، الحديث 9.
279

- وقد ذكرنا بعض ما يتعلق به في المباحث السابقة (1) - هو أن الظاهر من
الرواية ما هي الأقل من الكر، والظاهر من التفسخ هو الانفجار، دون
التغير، وحمله عليه باطل في حد نفسه، ويشهد له الذيل أيضا، كما لا يخفى.
والمقصود على ما يظهر، ليس نجاسة الماء المتفسخ فيه، بل
النهي لأجل الملازمة العرفية بين استعمال الماء، ولصوق أجزاء الميتة
المتفسخة في الماء بالبدن، أو شربها ضمن شرب الماء، فالنهي كأنه
تنزيهي، أو تحريمي، ولا أقل من احتمال الملازمة، فيصح النهي حينئذ.
فيعلم من الحديث: أن الأوعية الكبيرة البالغة إلى الحدود
المعينة في الرواية، لا تنجس بالملاقاة، كما نص به في قوله حينما أمر
بالشرب والوضوء مع وجود الملاقاة، وتدل على أن الأواني الصغيرة، هي
ليست من الأشباه المقصودة في الرواية، فما كان أشباه تلك الظروف في
الكبر، لا ينجس، دون الأواني غير المشابهة معها فيه. هذا حكم المسألة
بعد النظر إلى الصدر.
وأما قضية النظر إلى الذيل، فهو أن المفهوم من القضية
الشرعية، أن الماء البالغ حد الراوية ينجس، دون الأكثر، مع أن
الصدر يقول بعدم تنجسه، وعندئذ يمكن تقييد المفهوم، فيكون ما ينجس ما
كان الأقل من راوية. هذا بناء على القول بالمفهوم وإمكان تقييده.
وأما على ما تقرر، من امتناع تقييد مفهوم الشرط، للزوم الخلف (2)،

1 - تقدم في الصفحة 238 - 239.
2 - تحريرات في الأصول 5: 47 - 48.
280

فيقال: بأن في هذه الرواية لا يثبت المفهوم، لعدم ثبوت الاستقلال
للذيل، فربما يكون الصدر قرينة على أن المراد من قوله: أكثر البالغ
حد الراوية، والأكثر قبال الأقل وهذا إطلاق عرفي بعيد عن مساق
المستعملات العقلائية، فلو فرضنا استقلال الذيل فيحمل على ذلك،
لاقتضاء الفهم العرفي.
ودعوى ظهور الرواية في تنجس الماء البالغ إلى حد الراوية
بالتفسخ، وعدم تنجسه بالملاقاة، وعدم تنجس البالغ إلى الأكثر منها
بالتفسخ وعدمه، وتنجس غير البالغ إلى الراوية بالتفسخ والملاقاة،
وتنجس الأكثر من الراوية بالغلبة والتغير، قريبة، إلا أن عدم إمكان
الالتزام بتمام المراد، لا يورث سقوط الرواية، إلا إذا قلنا: بأن التفكيك في
المقام لأجل الاعراض، لا عدم العمل للجمع بين المآثير، ولكنه غير
معلوم، فليراجع، وتدبر.
ومما يشهد على صحة الاستعمال المذكور آنفا، قوله في فقه
الرضا (عليه السلام): كل غدير فيه من الماء أكثر من الكر، لا ينجسه شئ... (1).
ومنها: معتبر علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السلام)، قال:
سألته عن الدجاجة والحمامة وأشباههما تطأ العذرة، ثم تدخل في
الماء، أيتوضأ منه للصلاة؟

1 - الفقه المنسوب للإمام الرضا (عليه السلام): 91، مستدرك الوسائل 1: 189، كتاب الطهارة،
أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 7.
281

قال: لا، إلا أن يكون الماء كثيرا، قدر كر من الماء (1).
فإنه يشهد على أن الميزان هي الكثرة، وتعيين الكر بعد الاختلاف
مع سائر المعينات في الروايات، من باب تعيين أحد المصاديق الواضحة
من الكثير.
وتوهم لزوم حمل المجمل على المبين، غير تام، لعدم الاطلاق في
دليله، بل المدار على مساعدة العقلاء، فربما يساعد العكس، فيحمل
المبين على المجمل، لقيام القرينة على عدم خصوصية شرعية في
المبين.
ومنها: رواية علي بن جعفر في كتابه، عن أخيه، قال: سألته عن
حب (جرة) ماء فيه ألف رطل، وقع فيه أوقية بول، هل يصلح شربه أو
الوضوء منه؟
قال: لا يصلح (2).
وهي بعد كون السائل مثله، تشهد على أن مسألة الكر، ليست من
المسائل الشرعية، وإلا فهي على خلاف ما نطقت به كافة المآثير في
باب الأوزان، ولا ينبغي خفاؤه على مثله، فيفرض مثل هذا السؤال، فكأنه
كان الأمر عنده مبنيا على مرتكزاتهم، فسأل فيما شك في مرتكزه العقلائي،
وإلا فلا معنى للسؤال عن الشبهة الموضوعية للتغير في المثال المذكور،

1 - تهذيب الأحكام 1: 419 / 1326، وسائل الشيعة 1: 155، كتاب الطهارة، أبواب
الماء المطلق، الباب 8، الحديث 13.
2 - مسائل علي بن جعفر: 197 / 420، وسائل الشيعة 1: 156، كتاب الطهارة، أبواب
الماء المطلق، الباب 8، الحديث 16.
282

أو عما يقرب منها كما لا يخفى.
ومنها: معتبرة أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ليس بفضل السنور
بأس أن يتوضأ منه ويشرب، ولا تشرب من سؤر الكلب، إلا أن يكون حوضا
كبيرا يستقى منه (1).
فإنها أيضا من أحسن الشواهد على ما أبدعناه في المسألة.
ومنها: الكافي عن علي بن محمد، عن سهل، عن أحمد بن محمد بن
أبي نصر، عن صفوان الجمال، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الحياض
التي ما بين مكة إلى المدينة، تردها السباع، وتلغ فيها الكلاب، وتشرب
منها، ويغتسل منها الجنب، ويتوضأ منه.
فقال: وكم قدر الماء؟.
قلت: إلى نصف الساق، وإلى الركبة وأقل.
قال: توضأ منه (2).
ومثلها التهذيب (3) والاستبصار (4) مع الاختلاف اليسير.
فإن الظاهر منها، أن المقصود ليس الاطلاع على الحد الشرعي،
فإنه غير واف بذلك، ولو كان المتعارف كافيا لما كان وجه للسؤال، لأن

1 - تهذيب الأحكام 1: 226 / 650، وسائل الشيعة 1: 226، كتاب الطهارة، أبواب
الأسئار، الباب 1، الحديث 7.
2 - الكافي 3: 4 / 7، وسائل الشيعة 1: 162، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب
9، الحديث 12.
3 - تهذيب الأحكام 1: 417 / 1317.
4 - الإستبصار 1: 22 / 54.
283

المتعارف في مثلها ذلك، ولأجل حمل المشهور المطلقات في
المسألة السابقة على ذلك.
فعليه يعلم: أن الرواية تدل على أن المناط، حصول الكثرة
العرفية، التي هي حاصلة بعد كون العمق إلى الركبة.
ومنها: رواية بكار بن أبي بكر قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) (1)...
المستدل بها على أن المناط هو الحب، وهو مما ورد في الرواية الأولى،
ويكون من أشباه الراوية.
ومنها: الكافي عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد الله بن
المغيرة، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الكر من الماء نحو
حبي هذا وأشار إلى حب من تلك الحباب التي تكون بالمدينة (2).
فما أحسن دلالته على ما ذكرناه، فإنه - مضافا إلى دلالته على
انفعال القليل - يدل على الحد العرفي.
فإن الضرورة قاضية باختلاف الحباب في القلة والكثرة،
والمتعارف حاكم بعدم بلوغ نوع منها إلى حد الكر، على الوجه
المعروف بين الأصحاب رضوان الله تعالى عليهم.
والاشكال في الارسال، مرفوع بعبد الله الحاكي عن بعض أصحابنا،
فإنه ظاهر في كونه من المعتبرين، كما لا يخفى.

1 - الكافي 3: 12 / 6، وسائل الشيعة 1: 164، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 9، الحديث 17.
2 - الكافي 3: 3 / 8، وسائل الشيعة 1: 166، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 10، الحديث 7.
284

ومنها: التهذيب (1) والاستبصار (2) محمد بن علي بن محبوب، عن
العباس - والظاهر أنه ابن المعروف الثقة - عن عبد الله بن المغيرة،
عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: إذا كان الماء قدر قلتين لم
ينجسه شئ.
والقلتان: الجرتان.
وكون القلة نصف الكر ممنوع قطعا، فيكون دليلا على أن المناط
أمر آخر يتسامح في حدوده.
وفي حديث الأعرج: أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن الجرة تسع مائة
رطل، يقع فيها أوقية من دم، أشرب منه وأتوضأ؟
قال: لا (3).
وفي هذه شهادة على أن الحدود كثيرة الاختلاف، وربما يختلف
الحكم باختلاف مقدار النجاسة الملاقية، والالتزام بأن القلتين أكثر من
الكر كثيرا مما لا بأس به، إلا أنه شاهد على ما ذكرناه، وسنذكر تفصيله إن
شاء الله تعالى (4).
ومنها: معتبر محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الثوب
يصيبه البول.

1 - تهذيب الأحكام 1: 415 / 1309.
2 - الإستبصار 1: 7 / 6.
3 - تهذيب الأحكام 1: 418 / 1320، وسائل الشيعة 1: 153، كتاب الطهارة، أبواب
الماء المطلق، الباب 8، الحديث 8.
4 - يأتي في الصفحة 287 - 289.
285

قال: اغسله في المركن مرتين... (1) إلى آخره.
فإن المركن كما مضى، من الظروف الكبيرة غير البالغة حد
الكر بالضرورة، ويكون من أشباه الحب والجرة (2).
ومنها: المطلقات الكثيرة التي استدل بها القائل بعدم الانفعال، وقد
مضى حالها (3)، إلا أنها تدل على الاطلاق بالنسبة إلى خصوصية الحد
الشرعي، فهي منفية بها قطعا، ضرورة أن الالتزام بكون جميع تلك الموارد
تزداد على الكر، غير صحيح، ويشهد له سؤاله (عليه السلام) في الرواية السابقة،
وترك الاستفصال دليل على أن الحكم موضوعه الأعم، فافهم.
ومنها: نفس روايات الأوزان (4) والمساحات (5)، فإنها شاهدة على أن
الحد الذي لا ينجسه شئ، لا يتسامح فيه كثيرا، فالمدار على أن لا يكون
الأقل مما ورد في الأخبار والمآثير، ولا نبالي بالالتزام بعدم لزوم ذلك أيضا،
بل الميزان هي الكثرة العرفية المعبر عنها بكلمة الأشباه في الرواية،
وبكلمة الكبير بل والكثير فيها كما عرفت، وحدود ذلك مما يعرفه
العرف، وربما تختلف مصاديقها حسب النجاسات ومقدارها الواردة عليه،
لشهادة بعض الأخبار بذلك، كما أشير إليه.

1 - تهذيب الأحكام 1: 250 / 717، وسائل الشيعة 3: 397، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات، الباب 2، الحديث 1.
2 - تقدم في الصفحة 253.
3 - تقدم في الصفحة 238 - 253.
4 - وسائل الشيعة 1: 167، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 11.
5 - وسائل الشيعة 1: 164، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 10.
286

ومنها: التقييد الوارد في بعض المآثير، كقوله (عليه السلام) في مرسلة
حريز: إذا ولغ الكلب في الإناء فصبه (1) فإن كلمة في الإناء ليست واردة
مورد الغالب، بعد ما ترى في المآثير من الحكم بعدم لزوم الصب في
الظروف الكبيرة.
شواهد على إرادة الكثير العرفي
ثم إن الشواهد الكثيرة قائمة على ما ذكرناه:
فمنها: استعمال كلمة الإناء في نوع مآثير المسألة فليراجع، فإن
ذلك دليل على أن المتشرعة كانت أذهانهم حول انفعال الماء البالغ إلى
هذه الحدود، لا الحدود الأخرى التي تكون أكثر.
ومنها: التحديدات الشرعية مع قطع النظر عن القرائن الخاصة،
منزلة على الدقة العرفية، ومعها يتسامح في حدودها، والتدبر في معاني
الكر لغة وإطلاقا، يعطي أن الشرع المقدس لا يكون مراده من الكر
معناه الحديث، ولا حقيقة شرعية له، فعليه كيف يمكن الجمع بين
المعنى الواصل من اللغوي للكر، والمعنى الوارد في المآثير من
الشرع؟!
والالتزام بأن الكر في الأخبار، مطلق على المعنى الآخر المتعارف
في تلك العصور، وهو أصل المقدار، والتعيين في خصوص منه لا ينافي

1 - تهذيب الأحكام 1: 225 / 645، وسائل الشيعة 1: 226، كتاب الطهارة، أبواب
الأسئار، الباب 1، الحديث 5.
287

الاستعمال الحقيقي، أو الالتزام بأن للشرع استعمالا خاصا وإطلاقا قبال
العرف، كما قيل به، لعدم الملائمة بين قول اللغويين وما في المآثير، أو
الالتزام بأنه للحد الكثير، والشرع أراد منه الحد الخاص منه، كلها غير
مبرهن وبعيد جدا.
وهذه الشبهة والعويصة غير قابلة للانحلال إنصافا، ضرورة أن
المراجعة إلى الكتب المدونة في اللغة، تعطي أن المراد من الكر في
الأخبار، لا ينطبق على المراد من الكر في اللغات، فعلى هذا يمكن
دعوى أن المقصود ليس الحد الخاص، بل المقصود بيان ما لا ينفعل من
الماء، وهو البالغ إلى هذه المقادير على الوجه المتسامح فيه.
والعجب أن أصحابنا الإمامية في مسألة كثير السفر، اختاروا من بين
العناوين المستثناة عنوان كثرة السفر!! ولا دليل لهم إلا الاستظهار
الخالي من الشاهد، ضرورة عدم اضطراب المآثير هناك، وعدم قيام
الشاهد اللفظي على المعنى الأعم الشامل لتلك الخصوصيات، بخلاف ما
نحن فيه كما عرفت.
ثم إن المحكي عن ابن طاوس (1)، هو العمل بكل ما روي، وهذا
لا يستقيم إلا على ما أبدعناه، ولعل في نفسه الشريفة كان الأمر كذلك، فنعم
الوفاق.
هذا، فعلى طلاب الفقه التدبر فيما هو المتفاهم، والتفكر في
المسألة بين الانصاف والبصيرة، والتتبع حول ما ورد عن المعصومين

1 - مفتاح الكرامة 1: 70 / السطر 14.
288

- صلوات الله تعالى عليهم - فلعلهم يقفون على ما لا وقفنا عليه
وبذلك تنحل المعضلات الكثيرة المبتلى بها في المقام، التي لا يمكن
الخروج عن حدودها بالوجه الصحيح الشرعي، فإن فهم معنى الرطل
والكر وسائر اللغات الموضوعة في شرح هذه الكلمات، من أصعب
الأمور، كيف والمشهور في الرطل هو أنه الوزن، وظاهر اللغويين - كما
يأتي - أنه الكيل؟! كما عرفت الأمر في الكر أيضا، وسيتضح زيادة توضيح
من ذي قبل إن شاء الله تعالى (1).
الجهة الثانية: في تحديد الكر وزنا وحجما
لو سلمنا التحديد الشرعي، وأن الحدود المذكورة في المآثير
محمولة على المقدرات الدقيقة غير المتسامح فيها إلا بتسامح يسير فرضا،
فالبحث يتم في مقامين، لأن الحدود الواصلة إلينا منه تارة: تكون من
قبيل الكم المنفصل، وأخرى: تكون من قبيل الكم المتصل، وهي المساحة.
المقام الأول: في مقدار الكر حسب الأوزان والأرطال
فالمشهور بينهم المدعى عليه الاجماع في الناصريات
والانتصار والغنية والمعتبر والمفاتيح (2) وعن الصدوق: أنه

1 - يأتي في الصفحة 295 - 297.
2 - الناصريات، ضمن الجوامع الفقهية: 214، المسألة الثانية، الإنتصار: 8، الغنية، ضمن
الجوامع الفقهية: 489 / السطر 33، المعتبر 1: 47، مفاتيح الشرائع 1: 85.
289

من دين الإمامية (1) وفي التنقيح: أنه المشهور بين الأصحاب (2)
ويظهر من المدارك دعوى الاجماع عليه (3)، هو أنه ألف ومائتا رطل.
واختلفت كلماتهم في المراد من الرطل فالذي نسب إلى
المشهور (4)، وعليه دعوى الاجماع عن الشيخ (5)، أنه الرطل العراقي.
وذهب الصدوقان (6) والمرتضى (7) إلى أنه مدني، ونقل في
الانتصار عليه الاجماع (8)، وقال: إنه الذي دلت عليه الآثار المعروفة
المروية وجعله الصدوق من دين الإمامية (9).
وفي مفتاح الكرامة (10): وقد يلوح من الخلاف والنافع
والمعتبر والمنتهى والتذكرة والذكرى التردد (11)، فليلاحظ
انتهى.

1 - مفتاح الكرامة 1: 69 / السطر الأخير، الأمالي: 514، المجلس 93.
2 - التنقيح الرائع 1: 41.
3 - مدارك الأحكام 1: 47.
4 - مستند الشيعة 1: 57.
5 - لاحظ كشف الرموز 1: 48، مفتاح الكرامة 1: 70 / السطر 8.
6 - مفتاح الكرامة 1: 70.
7 - الناصريات، ضمن الجوامع الفقهية: 214، المسألة الثانية.
8 - الإنتصار: 8.
9 - الأمالي، الصدوق: 514.
10 - مفتاح الكرامة 1: 70 / السطر 10.
11 - الخلاف 1: 190، المختصر النافع: 2، المعتبر 1: 47، منتهى المطلب 1: 7 /
السطر 17، تذكرة الفقهاء 1: 19، ذكرى الشيعة: 8 / السطر 33.
290

وهذا يستظهر من ابن حمزة، لجعله هذا أحوط (1).
والمعروف بين العامة: أنه خمسمائة رطل.
وعن الحسن بن صالح بن حي: أنه ثلاثة آلاف رطل بالعراقي (2).
والذي يظهر: أن الدعوات المذكورة غير واضحة، ضرورة أن
المحكي عن جميع القميين في الخلاف قبال الأرطال، هو الأشبار (3)،
فكيف تصح الاجماعات، أو ليسوا هؤلاء الأعاظم من الفقهاء منهم؟!
ومخالفة الصدوقين بذكر الرطل في بعض كتبهم، وعدم ذكره في
المقنع وإن يضر بما عن الخلاف في نقل الاتفاق عنهم، إلا أن المجموع
من هذه المحكيات، عدم وجود الشهرة الكاشفة عن النص في
المسألة، أو الرأي المنسوب إلى الحجة (عليه السلام).
وأيضا يظهر: أن المآثير في هذا المقام، غير قابلة للحمل على
التقية، لعدم موافقتها لمذهب العامة، اللهم إلا أن يستكشف من اضطراب
الروايات وجود الفتاوى عنهم، ولكنه في غاية الاشكال وإن يورث الوهن
في بعض الفروض، فليتدبر.
نعم، مرسلة ابن المغيرة والفقيه الآتية تحمل على التقية، إلا أن
القلة فيها مفسرة ب‍ " الجرة " وهي مفسرة - في موثقة سعيد الأعرج -
بتسعمائة رطل، فتكون مخا لفة لجميع فتاوى العامة أيضا.

1 - الوسيلة: 73.
2 - الإنتصار: 8، أحكام القرآن، للجصاص 3: 341 / السطر 3.
3 - الخلاف 1: 190.
291

نعم، في تفسير القلة عن الشافعي خلاف، والأمر سهل.
المآثير المحددة لوزن الكر
ثم إن المآثير في هذه المسألة، على طوائف:
أولها: صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له:
الغدير فيه ماء مجتمع تبول فيه الدواب، وتلغ فيه الكلاب، ويغتسل فيه
الجنب قال: إذا كان قدر كر لم ينجسه شئ، والكر ستمائة رطل (1).
وما في التهذيب والاستبصار محمد بن أبي عمير، قال: روي لي
عن عبد الله - يعني ابن المغيرة - يرفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام): إن الكر
ستمائة رطل (2).
وقد يستظهر اتحاد الخبرين.
وقد يشكل سندهما، لقول الشيخ: إن ذلك لم يعتبره أحد من
أصحابنا فهو متروك بالاجماع (3)، ولأن مراسيل ابن أبي عمير - على ما هو
المشهور فيها من الاعتبار، وصحة الاعتماد - غير معتبرة.
اللهم إلا أن يقال: باعتبار تلك المراسيل خصوصا، لتصريح النجاشي
في ترجمته بسكون الأصحاب إلى مرسلاته (4).

1 - تهذيب الأحكام 1: 414 / 1308، وسائل الشيعة 1: 159، كتاب الطهارة، أبواب
الماء المطلق، الباب 9، الحديث 5.
2 - تهذيب الأحكام 1: 43 / 119، الإستبصار 1: 11 / 16.
3 - الإستبصار 1: 11 ذيل الحديث 17.
4 - رجال النجاشي: 326 / الرقم 887.
292

نعم، كون المراد من المراسيل في عبارته ما هو المصطلح عليه،
غير واضح، فعله يريد المقطوعة، وهي ما يكون مسندا إلى الراوي
الأخير، دون ما لا يكون مسندا أصلا.
هذا مع أن هذه الرواية من مراسيل ابن المغيرة وابن أبي عمير، فربما
يكون ما هو الحجة هي الصورة الأخيرة، لا مطلق الصور، فليتدبر.
ويمكن دعوى عدم ثبوت الاعراض الموهن، لما عرفت منا مرارا: أن
الرواية إذا كانت صريحة أو ظاهرة في أمر، وكانت بمرأى ومنظر من
المجمعين، وأعرضوا عنها، فهي الموهونة، ولكنها إذا كانت قابلة للجمع مع
سائر ما ورد، فلا يثبت الوهن، لجمعهم بينها وبين غيرها في المدلول، وفيما
نحن فيه الأمر كذلك.
ثانيها: مرسلة ابن أبي عمير، عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام)
قال: الكر من الماء الذي لا ينجسه شئ ألف ومائتا رطل (1).
وفي المقنع مرسلا نحوه، قال: وروي... إلى آخره (2).
والاشكال في السند بما مضى قد اتضح.
وهنا خصوصية أخرى قد تعرض لها المتضلع النوري في
الخاتمة، وهو قوله: عن بعض أصحابنا أو أصحابه (3) فإنه ظاهر في
أنه من الذين في رتبته فقها وحديثا، دينا ومذهبا وعملا، أو أدنى منه

1 - تهذيب الأحكام 1: 41 / 113، وسائل الشيعة 1: 167، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المطلق، الباب 11، الحديث 1.
2 - المقنع: 31.
3 - مستدرك الوسائل (الخاتمة) 3: 541 / السطر 30.
293

برتبة، وتكون المرسلة المذكورة مقطوعة، فلا تغفل.
ثالثها: مرسلة ابن المغيرة - وهو من أصحاب الاجماع - عن بعض
أصحابه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا كان الماء قدر قلتين لم ينجسه شئ،
والقلتان: جرتان (1).
ومقتضى الاطلاق في التفسير، وظهور خبر سعيد الأعرج - أنه سأل
أبا عبد الله (عليه السلام) عن الجرة تسع مائة رطل، يقع فيها أوقية من دم، أشرب
منه وأتوضأ؟ قال: لا (2) في أن الجرة المسؤول عنها كانت تسع المقدار
المذكور، هو أن الكر ألف وثمانمائة رطل، وقد عرفت وجه إمكان
الاعتماد عليها.
رابعها: علي بن جعفر في كتابه، عن أخيه، قال: سألته عن جرة (حب)
ماء فيه ألف رطل، وقع فيه أوقية بول، هل يصلح شربه أو الوضوء منه؟
قال: لا يصلح (3).
إن قلت: قضية هذه الرواية وسابقتها، فساد الماء بالملاقاة ولو كان
كثيرا عرفا، وهذه الجرة قد وقعت في الرواية الأولى التي كانت عمدة ما
استدل بها على ذلك.

1 - تهذيب الأحكام 1: 415 / 1309، وسائل الشيعة 1: 166، كتاب الطهارة، أبواب
الماء المطلق، الباب 10، الحديث 8.
2 - تهذيب الأحكام 1: 418 / 1320، وسائل الشيعة 1: 169، كتاب الطهارة، أبواب
الماء المطلق، الباب 13، الحديث 2.
3 - مسائل علي بن جعفر: 197 / 420، وسائل الشيعة 1: 156، كتاب الطهارة، أبواب
الماء المطلق، الباب 8، الحديث 16.
294

قلت: فيه نظر، لعدم تمامية سندهما فتأمل، ولعدم تمامية دلالتهما،
لما عرفت من أن المفروض وقوع الأوقية من الدم والبول، وهذا ربما
يورث المنع التنزيهي، لاستلزام استعمال ما لا ينبغي وهو أكل تلك الأجزاء،
أو للزوم المنافرة، بل في السؤال المزبور قرينة على أن الماء البالغ
إلى هذه الحدود، ما كان ينجس، إلا أن كثرة النجاسة ألجأتهم إلى
السؤال، فلا تختلط.
فبالجملة: هذه الطوائف متكاذبة، واتفاق الطوائف الثلاث على كذب
الأولى، لا يورث الوهن، وهذا من خواص الموضوع المتنازع فيه، لأنه
من الأمر الدائر بين الأقل والأكثر.
كلام المحقق الشيخ حسين الحلي في المقام
وقد يقال: بعدم إمكان رفع الاجمال المتراءى في موضوعها، لاختلاف
اللغويين في معنى الرطل وأنه هو الكيل، أو الوزن، أو هما معا، وتكون
الروايات ناظرة إلى الوزن، أو الكيل، أو هما معا، على الاختلاف أو
الوفاق، فإليك نصهم إجمالا:
ففي الجمهرة فسر الرطل بالكيل والوزن، على حد سواء (1).
وفي المخصص بالكيل، باعتبار تشبيهه بالمن الذي هو الكيل
كما في الصحاح (2).

1 - لاحظ دليل العروة الوثقى 1: 77.
2 - الصحاح 4: 1709.
295

وعن التهذيب: ما يوزن به (1).
وفي تاج العروس: اعتبره كيلا (2).
وعن الليث: الرطل مقدار من (3).
وفي المصباح جمع بينهما، إلا أنه جعل معناه الأصلي الشائع
الوزن، ثم الكيل (4).
وعن كتب اللغة الفارسية أيضا ربما يستظهر ذلك (5)، على إشكال
فيه.
نعم، في ترجمان اللغة: رطل پيمانه نيم من است (6).
وعن تأريخ الطبري: شرب المأمون رطلا آخر، وقال: اسقوه
رطلا، فأخذه في يده اليمنى (7) فإنه ظاهر في كونه كأسا يشرب فيه أحيانا.
فكون هذه المآثير في مقام إفادة الوزن والكم المنفصل في الكر
ممنوع، أو قابل للمنع، ولا ظهور قطعي حسب اللغة، فالنظر الأساسي حول
المساحات، فتكون هذه الطوائف مورثة للخلاف مع ما ورد في المساحات،
بناء على ظهورها في الكيل، إلا أنه مشكل، فيشكل الاعتماد عليها.
ثم إن هذا الذي أفاده الفاضل الخبير - على إشكال في بعض ما

1 - دليل العروة الوثقى 1: 78.
2 - تاج العروس 7: 346 / السطر 4.
3 - نفس المصدر / السطر 9.
4 - المصباح المنير: 273.
5 - فرهنگ فارسي معين 2: 1660.
6 - لاحظ دليل العروة الوثقى 1: 78.
7 - تأريخ الطبري 8: 578.
296

أفاده - الشيخ الفقير، والذي يشار إليه بالبنان فضلا، ولا يشار إليه
بالعنوان فقرا، الحسين الحلي مد ظله العالي، يؤيد بروايات ذكرها
الحدائق في آخر المسألة العاشرة من الربا (1)، ومنها صحيحة محمد
بن مسلم (2)، ورواية عمر بن يزيد (3)، ورواية الكلبي النسابة في باب
الأنبذة، عن الصادق (عليه السلام)... (إلى أن قال:) فقلت: بأي الأرطال؟
فقال (عليه السلام): أرطال مكيال العراق (4).
ومنه يعلم: أنه عند الاطلاق ينصرف إلى الكيل، كما كان ينصرف
إلى العراقي، فتأمل.
والاستشكال في الروايات فرضا من الجهة الأخرى، لا يورث خللا
في ظهورها في أن الرطل أطلق فيها على الكيل، فتأمل.
دعوى رفع اجمال الوزن بروايات المساحة وجوابها
هذا، ودعوى رفع الاجمال بحسب الوزن بروايات المساحة (5)، فإنها

1 - الحدائق الناضرة 19: 275.
2 - الكافي 5: 189 / 11، وسائل الشيعة 18: 141، كتاب التجارة، أبواب الربا، الباب 9،
الحديث 3.
3 - تهذيب الأحكام 7: 18 / 78، وسائل الشيعة 18: 133، كتاب التجارة، أبواب الربا،
الباب 6، الحديث 2.
4 - الكافي 1: 283 / 6، وسائل الشيعة 1: 203، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف،
الباب 2، الحديث 2.
5 - التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 194.
297

إذا كانت دالة على أن العبرة بسبعة وعشرين شبرا، يلزم كون المراد من
الرطل هو العراقي، والرطل العراقي - بحسب المساحة كان، أو الوزن
- يساويهما، ضرورة أن الرطل بحسب الوزن والمساحة واحد، أي أنه
كما يكون كيلا متعارفا، يكون المقدار المكيل به مائة وثلاثين درهما،
والدرهم بحسب المثقال الصيرفي، نصف المثقال وربع عشره، وبحسب
المثقال الشرعي الذي هو ثلاثة أرباع الصيرفي، نصف المثقال وخمسه،
وهذا هو المدعى عليه الاتفاق والاجماع، فكون الرطل وزنا أو كيلا لا يضر
بالمقصود.
نعم، الشبهة والعويصة في مسألة التطبيق بين المحددين - وهي
مسألة أخرى يأتي تفصيلها من ذي قبل إن شاء الله تعالى (1) - غير نافعة،
لأن الروايات في تلك المسألة أيضا مختلفة كثيرا، والمشهور هناك على
خلاف ذلك، ورفع إجمال تلك المآثير بهذه المسألة، يستلزم الدور
الصريح، فما ذهب إليه الشيخ المذكور (رحمه الله): من عدم معلومية الموضوع
له، لا يضر بشئ في المسألة، بعد كون مقدار الرطل معلوما.
فبالجملة: كما يكون الكر كيلا، فلا منع من كون الرطل أيضا كيلا
صغيرا، وهما معلومان حسب الوزن بعد المراجعة إلى أهله، فلا بد من رفع
الاجمال في هذه الطوائف والاختلاف في نفس المآثير.

1 - يأتي في الصفحة 339.
298

وجه لرفع الاجمال عن روايات الوزن
وغاية ما يمكن دعواه: هو أن المراجعة إلى وضع المدينة ووضع
العراق، وارتباط البلدين معا، وذهاب جماعة من العراقيين بعناوين كثيرة
إلى تلك الناحية المقدسة، بعد كون العراق مركز السلطنة الاسلامية،
فيكون له النفوذ على سائر الممالك كما في عصرنا، يعطي الاطمئنان
باشتهار الوزن العراقي في تلك البلاد النائية، فيكون المقصود من
المرسلة العراقي، ويعرب عنه إطلاق رواية الكلبي وانصرافها في
كلامه (عليه السلام) - على ما فيها - إليه، وقضية الجمع العرفي - بعد كون المكي
ضعف العراقي - حمل الصحيحة على المرسلة، وهذا هو الجمع العرفي
قطعا وبلا شبهة.
وأما رفع إجمال أحدهما بالنص الآخر، فهو وإن كان من بعض
الفضلاء السابقين (1)، إلا أنه ليس من الجمع العرفي، والأمر سهل.
هذا مع أن ابن مسلم ربما كان مكيا كما قيل (2)، أو كان في البين قرينة
عليه.
الاشكال على الوجه السابق
ولكن الذي يورث الاشكال: أن ما اشتهر أن الرطل في المرسلة

1 - شرح تبصرة المتعلمين، المحقق العراقي 1: 100.
2 - لاحظ التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 191.
299

والصحيحة عراقي ومكي، غير قابل للتصديق، لاشتهار الرطل
المدني حسب المآثير في عصر الأئمة أيضا، ففي المآثير: الفطرة عليك
وعلى الناس كلهم ومن تعول، ذكرا كان أو أنثى، صغيرا كان أو كبيرا، حرا كان
أو عبدا، عظيما كان أو رضيعا، تدفعه وزنا ستة أرطال برطل المدني، والرطل
مائة وخمسة وتسعون درهما (1).
وفي رواية علي بن بلال: في الفطرة، وكم تدفع؟
قال: فكتب: ستة أرطال من تمر بالمدني، وذلك تسعة أرطال
بالبغدادي (2).
وفي معتبر زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يتوضأ
بمد ويغتسل بصاع، والمد رطل ونصف، والصاع ستة أرطال (3) وهكذا.
فإنه يعلم منه اشتهار هذا الرطل أيضا، ولذلك حمل جماعة الرطل
في المرسلة على المدني، كما عرفت سابقا، فالحمل المذكور غير مبرهن جدا.
بطلان ملاحظة بلاد الرواة لرفع إجمال روايات الوزن
وأما ما اشتهر: من ملاحظة بلاد الرواة في الحمل على المكي

1 - تهذيب الأحكام 4: 79 / 226، وسائل الشيعة 9: 342، كتاب الزكاة، أبواب زكاة
الفطرة، الباب 7، الحديث 4.
2 - الكافي 4: 172 / 8، وسائل الشيعة 9: 341، كتاب الزكاة، أبواب زكاة الفطرة، الباب
7، الحديث 2.
3 - تهذيب الأحكام 1: 136 / 379، وسائل الشيعة 1: 481، كتاب الطهارة، أبواب
الوضوء، الباب 50، الحديث 1.
300

والمدني والعراقي، فهو غير تام، بل ربما ينعكس الأمر، ضرورة أن
جميع رواة الصحيحة كوفيون، فإن ابن أبي عمير كوفي، وهكذا ابن المغيرة
وإبراهيم بن عثمان، أبو أيوب. وأما محمد بن مسلم، فقد قال النجاشي: إنه
كان وجه الأصحاب بالكوفة (1).
وأما المرسلة فمرسلها الكوفي، إلا أن المرسل عنه غير معلوم، فلا
يبقى وجه لما توهمه الأصحاب، من ملاحظة حال المخاطبين، والاشتهار
المتوهم ضعيف بما ذكرناه.
المراد من الدرهم والصاع
ثم إن الدرهم الذي جعل معرفا للأرطال، فيه خلاف أيضا، وهكذا
الصاع، فإن في الأعصار المتقدمة كانت تختلف أوزان الدراهم، ويشهد
لذلك بعض المآثير:
ففي الكافي عن سعد بن سعد الأشعري قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام)
عن أقل ما تجب فيه الزكاة من البر والشعير والتمر والزبيب.
فقال: خمسة أوساق بوسق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
فقلت: فكم الوسق؟
فقال: ستون صاعا (2).

1 - رجال النجاشي: 323.
2 - الكافي 3: 514 / 5، وسائل الشيعة 9: 175، كتاب الزكاة، أبواب زكاة الغلات، الباب
1، الحديث 1.
301

وفي موثقة زرارة وبكير، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: أنبتت الأرض...
إلى أن قال: والوسق ستون صاعا، وهو ثلاثمائة صاع بصاع
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (1).
ومثلها المرسلة عن أحدهما (عليهما السلام) (2).
وفي المجمع: وفي مكاتبة جعفر بن إبراهيم إلى أبي الحسن (عليه السلام):
وأخبرني أنه (يعني الصاع) يكون بالوزن ألفا ومائتين وسبعين وزنة (3)...
إلى أن قال: وفي الحديث: كان صاع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خمسة أمداد (4)، ولعله
كان مخصوصا به، وإلا فالمشهور أن الصاع الذي كان في عهده (صلى الله عليه وآله وسلم)
أربعة أمداد (5) انتهى.
والوزنة تفسر ب‍ " الدرهم " حسب ما في المآثير، إلا أنه أيضا
يحتاج إلى الشاهد، مع اختلاف الدراهم حسب الأمصار والأعصار، فإني قد
رأيت في بعض المتاحف اختلاف الدراهم بكثير، والأصغر منها يقرب رأس
السبابة، وهذا الاختلاف ليس في المساحة، بل الظاهر منها اختلافها في
الوزن
أيضا.

1 - تهذيب الأحكام 4: 19 / 50، وسائل الشيعة 9: 177، كتاب الزكاة، أبواب زكاة
الغلات، الباب 1، الحديث 8.
2 - تهذيب الأحكام 4: 14 / 35، وسائل الشيعة 9: 179، كتاب الزكاة، أبواب زكاة
الغلات، الباب 1، الحديث 12.
3 - الكافي 4: 172 / 9، وسائل الشيعة 9: 340، كتاب الزكاة، أبواب زكاة الفطرة،
الباب 7، الحديث 1.
4 - مستدرك الوسائل 1: 348، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 43، الحديث 3.
5 - مجمع البحرين 4: 362.
302

فذلكة الموقف
فتحصل إلى هنا: عدم إمكان الخروج عن هذه المجملات
المترائية في الكلمات والروايات مع شدة الاختلاف، خصوصا مسألة
اشتهار الرطل في المدني، ففي مكاتبة الهمداني - بعد أن يقول: اختلف
أصحابنا في الصاع، فبعضهم يقول: الفطرة بصاع المدني، وبعضهم يقول:
الفطرة بصاع العراقي - قال في ذيله: فأخبرني بالوزن فقال: يكون ألفا
ومائة وسبعين درهما.
هذا بحسب نقل العيون (1) فانظر كيف فسر الصاع المدني وزنا، ولم
يفسر غيره، مع أنهما في السؤال مذكوران؟!
وفي الرواية السابقة قال: والرطل مائة وخمسة وتسعون وهذا
هو الرطل المدني أيضا.
وقد يتوهم إمكان حمل الصحيحة على التقية (2)، وقد مضى فساده (3).
ومثله توهم ضعف المرسلة بالارسال (4)، وقد عرفت وجهه (5)،
خصوصا في مثلها المعمول بها، والمدعى على مضمونها الاجماع، فيكون
الخبران مختلفين، فإن كانا ظاهرين فبأيهما أخذتم جائز.

1 - عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 309 / 73.
2 - مستند الشيعة 1: 57.
3 - تقدم في الصفحة 291.
4 - لاحظ التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 190.
5 - تقدم في الصفحة 292 - 293.
303

إلا أنه هنا غير ممكن، فلا بد من إثبات الاجمال، أو إرجاع المسألة
إلى ما قويناه، وهو أن الماء غير المنفعل، هو الكثير عرفا المتسامح فيه
جدا، فيكون المراد من الصحيحة الرطل المدني الذي هو الشائع كما
عرفت، ومن المرسلة العراقي الذي هو أيضا شائع، فيتقارب المضمونان
في إفادة الكثير الموضوع في بعض المآثير السابقة لعدم التنجس.
ومثل هذا التقارب في الوزن التقارب في المساحة بين فتوى
المشهور وما اشتهر في العصر.
إشكال في الجمع بين الأخبار المتعارضة
ومما يورث الاشكال في الجمع بين المآثير والأخبار، ما عن النهاية
والمنتهى: أن الرطل مائة وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع (1).
وعن المقنع: أنه مائة وأربعة وعشرون درهما وأربعة أتساع (2).
ولعله للعمل برواية المروزي المتضمنة كون المد مائتين وثمانين
درهما (3).
وعن المصباح ما في منتهى العلامة، ولكنه ليس في
المصباح منه أثر فتدبر، ولعل العلامة استند إلى ما فيه من النسخ

1 - لم نعثر عليه في النهاية، ولكن ذكره في التحرير كما في مفتاح الكرامة 1: 71 /
السطر 1، تحرير الأحكام: 64 / السطر الأخير، منتهى المطلب 1: 497 / السطر 18.
2 - لاحظ مفتاح الكرامة 1: 71 / السطر 4، المقنع: 156.
3 - تهذيب الأحكام 1: 135 / 374، وسائل الشيعة 1: 481، كتاب الطهارة، أبواب
الوضوء، الباب 50، الحديث 3.
304

الموجودة عنده، والله العالم.
المراد من الكر هو المكيال المعروف
ثم إن الظاهر في الكر أنه الكيل المعروف، ويشهد له نفس
رواياته، فإن قولهم (عليهم السلام): قدر كر (1) ظاهر في أنه الكيل، مع صراحة
اللغويين في ذلك:
ففي المصباح: الكر كيل معروف، وهو ستون قفيزا، والقفيز
ثمانية مكاكيك، والمكوك صاع ونصف (2).
وفي النهاية: الكر بالبصرة ستة أوقار، وقال الأزهري: الكر
ستون قفيزا، والقفيز ثمانية مكاكيك، والمكوك صاع ونصف، فهو - على هذا
الحساب - اثنا عشر وسقا، وكل وسق ستون صاعا (3) انتهى.
فيعلم أمران: أنه الكيل، وأنه المختلف في البلاد.
وفي القاموس: الكر - بالضم - مكيال للعراق، وستة أوقار
حمار، وهو ستون قفيزا، أو أربعون أردبا (4) انتهى.
ولعل الأوقار هو (خروار) بالفارسية، حتى يتوافق مع قول صاحب
ترجمة القاموس حيث قال:

1 - وسائل الشيعة 1: 158، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9.
2 - المصباح المنير: 640.
3 - النهاية، ابن الأثير 4: 162.
4 - القاموس المحيط 2: 130.
305

كر پيمانه است برأي أهل عراق، وبار شش خر است (1).
فإن الظاهر أن كلمة (خروار) أصله (خربار) أي (بار خر) فصار
(خروار).
ولكن المتعارف في حمل الحمير خلاف ذلك، لأن المراد منها في
عصرنا، أكثر من حمل الحمير بغير يسير، كما لا يخفى، فما ورد في المآثير
ليس هو المراد من الاطلاقات العرفية.
إلا أنه يعلم من تلك الاطلاقات الخالية عن القرائن: اشتهار الكر
في عصر المآثير، ولا شبهة في اختلاف الأكيال في بلدة واحدة، فضلا عن
البلاد، مع أن مآثير الكر كثيرة، والرواة فيها مختلفون بلدا ومنطقة، فيعلم -
على هذا - أن الأمر على التسامح، فكان الكر في مختلف البلاد متقارب
المساحة، كما هو كذلك قطعا في بلدة واحدة، لاختلاف سائر الأكيال
المستعملة في الحوائج أيضا اختلافا يسيرا، فما ذهب إليه المحققون في
المسألة من الدقة (2)، خلاف التحقيق قطعا، كما أن ما أفدناه من التسامح
الكثير، قريب من التحقيق جدا.
مع أن من الممكن استظهار ذلك من الشيخ، حيث قال في أول
الاستبصار: بأنه لا يروي فيه إلا ما يعتمد عليه (3)، وقد تعرض لشتات
المآثير في المساحة (4)، وما يمكن ذلك إلا بالوجه الذي ذكرناه في

1 - منتهى الإرب 4: 1089، باب الكاف.
2 - العروة الوثقى 1: 35، فصل في المياه، المسألة 4، مستمسك العروة الوثقى 1: 162.
3 - الإستبصار 1: 5.
4 - الإستبصار 1: 10، باب كمية الكر.
306

الجهة الأولى من البحث (1)، كما لا يخفى.
المقام الثاني: في تحديد الكر حسب المساحة
وحيث إن المسألة غامضة، لا بأس بصرف عنان الكلام فيها.
فنقول: اختلفت أرباب الرأي والفتوى في ذلك إلى أقوال:
أحدها: ما ذهب إليه المشهور، وهو أنه ثلاثة أشبار ونصف طولا
وعرضا وعمقا، وقد ادعى عليه الاجماع في الغنية (2).
وفي الخلاف نسبته إلى جميع القميين وأصحاب الحديث (3)،
ولعل المراد من الأصحاب هنا هم الأخباريون من العامة، لا المحدثين من
الخاصة، فإنهم هم القمييون.
وقد يظهر المناقشة في الاجماع والشهرة من المعتبر (4) والشيخ
البهائي (5).
ثانيها: ما ذهب إليه جماعة من الأصحاب، كالصدوق في
الفقيه (6) وفي بعض نسخ الهداية (7) وهو أنه ثلاثة أشبار عرضا

1 - تقدم في الصفحة 274.
2 - لاحظ الغنية، ضمن الجوامع الفقهية: 489 / السطر 34.
3 - الخلاف 1: 190.
4 - المعتبر 1: 46.
5 - الحبل المتين: 108.
6 - الفقيه 1: 6.
7 - الهداية، ضمن الجوامع الفقهية: 48 / السطر 17.
307

وطولا وعمقا، وإليه ذهب المختلف (1) والروض (2) والمجمع (3)
ومن العجب نسبته في السرائر إلى القميين (4)!! وهو مختار نهاية
الإحكام (5) والدلائل (6) وبعض أساتيذ مفتاح الكرامة (7) ولعله
المعروف بين المعاصرين، كما أن مجمع البحرين نسب القول الأول
إلى جمهور متأخر الأصحاب (رحمهم الله) (8).
ثالثها: ما عن ابن الجنيد، وهو أنه ما بلغ تكسيره مائة شبر (9)، ولا
أعرف له وفاقا.
رابعها: ما عن القطب الراوندي، وهو أنه ما بلغ تكسيره إلى عشرة
أشبار ونصف (10)، وهذا القولان بينهما غاية الخلاف.
خامسها: ما عن جماعة من المعاصرين تبعا للمدارك (11) وهو أنه

1 - لاحظ مختلف الشيعة: 4 / السطر 6.
2 - روض الجنان: 140 / السطر 24.
3 - مجمع الفائدة والبرهان 1: 260.
4 - السرائر 1: 60.
5 - مفتاح الكرامة 1: 71 وانظر نهاية الإحكام 1: 232.
6 - لاحظ مفتاح الكرامة 1: 71.
7 - مفتاح الكرامة 1: 71 / السطر 14.
8 - مجمع البحرين 3: 472.
9 - لاحظ مختلف الشيعة: 3 / السطر الأخير.
10 - لاحظ مستند الشيعة 1: 61.
11 - مدارك الأحكام 1: 51.
308

ستة وثلاثون شبرا (1).
سادسها: ما في مفتاح الكرامة أنه قال: قال الأستاذ في حاشية
المدارك: الظاهر من الرواية الشكل المدور... إلى أن قال: وعلى
هذا يصير مجموع مكسرها ثلاثة وثلاثين شبرا تقريبا (2) انتهى.
وقد اختاره الشيخ المعاصر الحلي - مد ظله - فقال: والظاهر هو ما
بلغ مجموعه ثلاثة وثلاثين شبرا ونصفا وثمنا ونصف الثمن (3).
سابعها: ما عن ابن طاووس من تجويزه العمل بجميع ما روي (4)، كما
يستظهر من استبصار الشيخ (5)، ولكنه يرجع إلى ما أسسناه، وليس قولا
في مسألة المساحة.
ثم إن الظاهر أن أبناء العامة، لا يقولون بهذا التحديد في الكر (6)،
وعلى هذا لا معنى لرفع الاختلاف بين المآثير، بحملها على التقية، فتدبر
جيدا.
وأيضا ليست المسألة إجماعية، حتى يستكشف به أو بالشهرة
القريبة منه رأي المعصوم (عليه السلام) لما تعرف أن الاختلاف الشديد منشؤه

1 - العروة الوثقى 1: 35، فصل في الماء الراكد، المسألة 2، الهامش 5.
2 - مفتاح الكرامة 1: 72 / السطر 6.
3 - دليل العروة الوثقى 1: 83.
4 - مدارك الأحكام 1: 52.
5 - لاحظ الإستبصار 1: 10 - 11.
6 - المغني، ابن قدامة 1: 23.
309

الأخبار، فما يظهر من الاتكاء على الاجماع (1)، ساقط جدا.
مقتضى الروايات في تحديد حجم الكر
فعليه يتعين الغور في الروايات، وتعيين مفادها إن أمكن، وإلا فلا بد
من الطرح والرجوع إلى مقتضى الأصل، أو الذي اخترناه جمعا بين جميع
المآثير في الكر وزنا ومساحة، وتلك المآثير مختلفة ومتشتتة، ويبلغ
مجموعها إلى طوائف:
الطائفة الأولى: ما تدل بظاهرها على أنه ستة وثلاثون شبرا
وهي صحيحة إسماعيل بن جابر - التي قال في حقها المدارك:
إنها أصح ما وقفت عليها (2) وقد رواها التهذيب والاستبصار - قال:
قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الماء الذي لا ينجسه شئ.
قال: ذراعان عمقه، في ذراع وشبر سعته (3) (4).
والاشكال في الجواهر: بأنها رواية قد أعرض عنها الأصحاب (5) في

1 - الغنية، ضمن الجوامع الفقهية: 489 / السطر 34.
2 - مدارك الأحكام 1: 51.
3 - في نسخة: وسعه (منه (قدس سره).
4 - تهذيب الأحكام 1: 41 / 114، الإستبصار 1: 10 / 12، وسائل الشيعة 1: 164 -
165، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 10، الحديث 1.
5 - جواهر الكلام 1: 178.
310

غير محله، لما عرفت أن الاختلاف المذكور، يوهن الركون إليهم
في ذلك، وكون الاجماع المركب كاسرا، ممنوع جدا. مع أن من المحتمل عدم
وصول جمع منهم إليها، أو حملها على ما فهموا من غيرها، كما يأتي
الايماء إليه، وكيف أعرضوا عنها وقد اعتمد عليها ابن طاووس، بل والشيخ
كما مر البحث عنه (1)؟! ولعلها مورد عمل الصدوق في المقنع حيث
حكاها فيه مرسلا (2).
وقد يشكل سندها بإسماعيل بن جابر، الذي روى في هذه المسألة
رواية أخرى مخالفة معها (3)، فإن ذلك يورث القصور في جريان قاعدة عدم
السهو والغفلة في حقه عند العقلاء، اللهم إلا على الجمع العرفي
الذي أبدعناه، فتأمل.
المراد من السعة
ثم إن المتفاهم العرفي منه، كون المراد من السعة هو الطول
والعرض، والتعبير عنهما بذلك، لعدم الخصوصية لأحد الضلعين على
الآخر، وذكر العمق بخصوصه لعدم تمامية المقصود إلا به على

1 - تقدم في الصفحة 309.
2 - المقنع: 31.
3 - عن إسماعيل بن جابر قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام)... قال: ثلاثة أشبار في ثلاثة أشبار.
الكافي 3: 3 / 7، وسائل الشيعة 1: 159 - 160، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 9، الحديث 7.
311

الوجه السهل، ودعوى الخصوصية في ذلك (1)، غير قابلة
للتصديق.
فعليه يلزم كون كل طرف منه ذراعا ونصفا، وعمقه ذراعين، وإذا كان
كل ذراع شبرين، يلزم كون المجموع - بعد ضرب أحد الضلعين في الآخر،
وضرب المجموع في العمق - ستة وثلاثين شبرا، ولا حاجة إلى شاهد في
ذلك بعد مساعدة الوجدان، والمناط في هذه التحديدات هي الأوساط
العرفية.
وتوهم أن الحد الشرعي للذراع - وهو القدمان (2) - مما ورد في
مآثير المواقيت (3)، في غير محله، لعدم دلالتها على أنه المراد منه في
جميع الأبواب، كما لا يخفى.
توهم دلالة السعة على الشكل الأسطواني
وقد يشكل: بأن المتفاهم العرفي من قوله: سعته هو الشكل
الدوري (4)، فإنه المتعارف في الكر أولا مع عدم ذكر من الطول
والعرض، مع أنه لا يكون جميع الأطراف أشبارا ثلاثة، لأن بين النقطتين
الذي هو قطر المربع، أكثر من الأضلاع، فعندئذ لا بد من كون سطح الدائرة
ثلاثة أشبار، وعمقها أربعة.

1 - التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 199.
2 - جواهر الكلام 1: 178.
3 - وسائل الشيعة 4: 136 - 140، كتاب الصلاة، أبواب المواقيت، الباب 7.
4 - التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 199.
312

وإذا أردت معرفة المجموع، فعليك أولا معرفة مساحة سطح
الدائرة، ثم الضرب في العمق، وتلك المساحة تحصل من ضرب الشعاع
- وهو نصف القطر - في نفسه، ثم ضرب الحاصل في العدد پي، وهو
14 / 3، فإذا حصل منه 065 / 7 فاضربه في الأربعة أشبار، فيحصل منه
الثمانية والعشرون شبرا وستة وعشرون في المائة، أي 26 / 28، فلا تدل
الرواية على ما هو المعروف منها.
وأما توهم دلالتها على أنه السبعة والعشرون تسامحا (1)، فهو فاسد،
لعدم المعنى للتسامح في التحديدات إلا على الوجه الذي ذكرناه، فعلى
هذا تكون الرواية ظاهرة في غير ما ذهب إليه الأمة، ومفادها أمر وراء ما
اختاره الأصحاب إلا من شذ.
إبطال التوهم السابق
وفي كون الظاهر منه الشكل الدوري إشكال، بل منع، ضرورة أن
العرف لا يجد خصوصية للشكل، بل يجد أن هذه الرواية وأمثالها في
جميع المقامات، ظاهرة في إفادة المقدار الذي يتسع به هذه المساحة،
سواء كانت دورية أو مكعبة، واختيار الدور - لكون بعض الظروف
دوريا - غير صحيح، للزوم توهم خصوصية من بين الاشكال، فالمراد إفادة
المقدار المذكور، وسواء فيه جميع الاشكال، ولا نظر إلى الشكل
الخاص.

1 - التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 201.
313

توهم إجمال الرواية وجوابه
وتوهم: أن الرواية مجملة (1)، في غير محله، لأن عدم إمكان الالتزام
بمفادها، غير الاجمال في دلالتها.
ودعوى: أن الذراعين مجمل حسب حمله على الأقدام أو
الأشبار (2)، غير مسموعة بعد اتفاقه مع الشبر، وإرادة القدم منه في مورد أو
موردين لا يورث الاجمال، فلا معنى لرفع اليد ما دام لم يكن في الكلام
قرينة خاصة، أو لم يكن الاستعمال شائعا إلى حد الحقيقة الشرعية،
بحيث يكون الذراع ظاهرا في القدمين في محيط المتشرعة والشريعة،
فعليه تكون الرواية ظاهرة في أن الكر ستة وثلاثون شبرا.
ولو سلمنا الاجمال، ولكنها في جميع محتملاتها نافية لما يستفاد من
غيرها، فيدور الأمر بين كونها ظاهرة في الأكثر من ثمانية وعشرين قدما أو
شبرا، أو ظاهرة في ستة وثلاثين قدما أو شبرا، أو تكون مجملة من الجهتين،
ونافية لسبعة وعشرين وثلاثة وأربعين، وهذا كاف.
ودعوى رفع الاجمال في ناحية القدم، لأنه زائد على الشبر بمقدار
يسير وهو السدس (3)، فاسدة، لأنه كذلك إذا كان القدم والشبر
موضوعين، دون الأقدام والأشبار، فإنه إذا بلغت إلى كثير تزداد القلة، وربما

1 - مستند الشيعة 1: 65.
2 - دليل العروة الوثقى 1: 87.
3 - مستمسك العروة الوثقى 1: 155.
314

يصير الاختلاف بين الأقدام والأشبار في الرواية إلى أكثر من ثلاثة
أشبار، كما لا يخفى.
بعد المحتملات الأخر
ثم إن الاحتمالات الأخر الكثيرة في الرواية، بعيدة في الغاية: بأن
تكون الرواية ناظرة إلى العمق والطول، وساكتة عن العرض، فمن هذا
الضلع يكون الأمر بالخيار.
أو تكون ناظرة إلى العرض، فلا بد من كون الضلع الآخر أزيد من
الذراع والشبر.
أو تكون ناظرة إلى الأبعاد الثلاثة، فيكون الطول ذراعا، والعرض
الذي أريد من كلمة سعته يكون شبرا، فلا بد حينئذ من قراءة الشبر
بالرفع (1).
فبالجملة: قد مضى أن المحقق في المعتبر أفتى بمضمونها على ما
يظهر منه، حيث قال بعد الاشكالات في سائر الأخبار: فهذه مشيرا إليها
حسنة، ويحتمل أن يكون قدر ذلك كرا (2) انتهى.
ومراده من الحسنة هي الموافقة للتحقيق، لا مقابل الصحة والضعف.
وهذه مورد فتوى المدارك أيضا حيث قال في ذيله: وهو متجه (3)

1 - جواهر الكلام 1: 178.
2 - المعتبر 1: 46.
3 - مدارك الأحكام 1: 51.
315

فما في الحبل المتين من نفي عمل واحد من الأصحاب بها (1)، غير
موافق
للصواب.
الطائفة الثانية: ما تدل على أنه ثلاثة أشبار ونصف، في ثلاثة أشبار
ونصف، في ذلك أيضا
فمنها: رواية أبي بصير، ففي التهذيب والاستبصار: أخبرني
الشيخ، عن أبي القاسم جعفر بن محمد، عن محمد بن يعقوب، عن محمد بن
يحيى، عن أحمد بن محمد (2)، عن عثمان بن عيسى، عن ابن مسكان، عن أبي
بصير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الكر من الماء، كم يكون قدره؟
قال (عليه السلام): إذا كان الماء ثلاثة أشبار ونصفا (3)، في مثله ثلاثة أشبار
ونصف، في عمقه في الأرض، فذلك الكر من الماء (4).
ومثله في الكافي (5).
ومنها: ما رواه الكافي عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن
ابن محبوب، عن الحسن بن صالح الثوري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا

1 - الحبل المتين: 108 / السطر الأخير.
2 - في التهذيب إضافة ابن يحيى (منه (قدس سره).
3 - في الإستبصار: ونصف (منه (قدس سره).
4 - تهذيب الأحكام 1: 42 / 116، الإستبصار 1: 10 / 14، وسائل الشيعة 1: 166،
كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 10، الحديث 6.
5 - الكافي 3: 3 / 5.
316

كان الماء في الركي كرا لم ينجسه شئ.
قلت: وكم الكر؟
قال: ثلاثة أشبار ونصف عمقها، في ثلاثة أشبار ونصف عرضها (1).
البحث الدلالي
ودلالتها عليه واضحة، ويصير المجموع عشرة أشبار ونصفا، وإليه
ناظر كلام الراوندي (2)، والنظر إلى الضرب غير موافق للأنظار
السطحية، لعدم الحاجة إلى الاطلاع عليه، بل الاطلاع على الأضلاع،
كاف في حصول المطلوب.
وتوهم قصور دلالة الرواية الأولى على مقالة المشهور، لعدم ذكر
البعد الثالث فيها (3)، في غير محله، إما لعدم الحاجة إليه، أو لظهور
قوله: في مثله في البعد الثاني، والجملة الثالثة في البعد الثالث.
وإن شئت قلت: استفادة الأبعاد الثلاثة، لا يمكن إلا من العبارة
الشاملة للجمل الثلاث والرواية مشتملة عليها، فإن قوله: في مثله
الجملة الثانية، وإلا يلزم التكرار، فيحصل البعدان من هذه الكلمة،
والجملة الثالثة صريحة في العمق، ولا يتصور العمق إلا فيما كان

1 - الكافي 3: 2 / 4، وسائل الشيعة 1: 160، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9،
الحديث 8.
2 - تقدم في الصفحة 308، الهامش 10.
3 - التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 208.
317

للشئ جنبان آخران، فإنكار دلالة هذه الطائفة على ما هو المشهور
بل المدعى عليه الاجماع (1)، في غاية المكابرة، فلا حاجة إلى الجملة
الأولى الزائدة في الاستبصار في الرواية الثانية (2).
مع أن تقديم أصالة عدم النقيصة على عدم الزيادة، قريب من حكم
العقلاء.
والذي يخطر بالبال: إبدال كلمة في الأرض إلى: في العرض
في الرواية الأولى، فإنه يناسب المقام، ولا يناسبه تلك الجملة جدا.
نعم، في التركيب الواصل إلينا، لا يمكن تغير كلمة في العرض
بوجه عرفي، فلعل الراوي قدم وأخر في العبارة، وكان غرضه إفادة الأبعاد
الثلاثة، والله العالم.
البحث السندي
ثم إن الذي هو المهم في المقام، تصحيح سند هاتين الروايتين، ولقد
تصدى الأصحاب - رضوان الله تعالى عليهم - في كتبهم الاستدلالية لذلك (3)،
وأطالوا المقال في المقام، والذي يمكن المصير إليه في هذه المرحلة
وجوه:

1 - الغنية، ضمن الجوامع الفقهية: 489 / السطر 34.
2 - الإستبصار 1: 33 / 88.
3 - الحدائق الناضرة 1: 268، جواهر الكلام 1: 173، مهذب الأحكام 1: 182.
318

أحدها: انجبارا لضعف بعمل المشهور (1)، وتوهم أنه الشهرة غير العملية،
في غير محله، لتمسكهم بها في كتبهم، ولظهور أن مستندهم ليس إلا ذاك.
اللهم إلا أن يقال: بعدم تمامية الشهرة، لذهاب القميين إلى
خلافهم (2)، وفيهم الصدوق في بعض كتبه (3)، ووالده (رحمه الله)، بل في عدم
اعتمادهم على مثلهما وهن عليهما، بل هو ظاهر كل من ألغى التحديد
بالمساحة، واكتفى بذكر حد الكر بالوزن.
ثانيها: وجود ابن محبوب في الرواية الثانية، فإنه من أصحاب
الاجماع، والسند إليه معتبر، لأن المراد بابن يحيى هو العطار، وبأحمد بن
محمد إما ابن عيسى، أو ابن خالد، وكلاهما جليلان ثقتان (4)، ومن بعده وإن
كان محل الخلاف، إلا أن رواية ابن محبوب عنه كثيرا، تكفي لوثاقته وحسنه.

1 - منتهى المطلب 1: 7 / السطر 25، مستند الشيعة 1: 62، مستمسك العروة الوثقى 1: 152.
2 - لاحظ الخلاف 1: 190.
3 - لاحظ الفقيه 1: 6، الهداية، ضمن الجوامع الفقهية: 48 / السطر 17.
4 - أحمد بن محمد بن عيسى بن عبد الله بن سعد بن مالك بن الأحوص بن السائب بن
مالك بن عامر الأشعري، من بني ذخران بن عوف بن الجماهر بن الأشعر، يكنى أبا
جعفر وأول من سكن قم من آبائه سعد بن مالك بن الأحوص.
ثقة له كتب، ذكره الشيخ في رجاله في أصحاب الرضا (عليه السلام).
رجال الطوسي: 366، رجال النجاشي: 81 / 198، معجم رجال الحديث 2: 296.
أحمد بن محمد بن خالد بن عبد الرحمن بن محمد بن علي البرقي أبو جعفر، أصله
كوفي وكان جده محمد بن علي... كان ثقة في نفسه، يروي عن الضعفاء واعتمد
المراسيل وصنف كتبا...
رجال النجاشي: 76 / 182، معجم رجال الحديث 2: 261.
319

اللهم إلا أن يقال: بأن حديث أصحاب الاجماع، غير راجع إلى
محصل (1)، فعليه لا بد من استفادة الوثاقة له من كلمات القوم.
والذي يظهر لي: أن طعن الشيخ (رحمه الله) في التهذيب محصور بالنسبة
إلى ما يختص بروايته، وظاهره ترخيص العمل بجميع رواياته التي
لا يختص بها، ومثلها هذه الرواية.
هذا، مع أن ظاهر الوحيد حسنه (2)، لأن عدم استثنائه وإن لم يستلزم
الوثاقة، ولكنه دليل عدم المجروحية، وهو يلازم مرتبة من الحسن، فما
في التنقيح (3) في غير محله من وثاقته.
اللهم إلا أن يدعى أيضا، عدم ثبوت حسنه إلا بتصريح أرباب الرجال
الأقدمين، وهم ساكتون عنه، فتدبر جيدا.
ثالثها: تصحيح سند الرواية الأولى ذاتا، وذلك بدعوى أن أحمد بن
محمد هو ابن عيسى، أو هو ابن خالد، وكونه ابن يحيى - كما في التهذيب
- غير تام، أو أنه معتبر في نفسه أيضا.
وبدعوى: أن ابن عيسى موثوق به.
وبدعوى: أن أبا بصير إما أحد الثلاثة الذين هم كلهم ثقات، كما عن

1 - قال الشيخ في تهذيب الأحكام 1: 408، ذيل الحديث 1282: والراوي له الحسن بن
صالح وهو زيدي بتري، متروك العمل بما يختص بروايته.
تنقيح المقال 1: 285 / 2579، معجم رجال الحديث 4: 361.
2 - تعليقة الوحيد البهبهاني على منهج المقال (الطبعة الحجرية): 101.
3 - تنقيح المقال 1: 285 / 2581.
320

الوحيد (1)، أو هو الليث المرادي كما استظهره الجواهر (2) أو يكفي
رواية عبد الله بن مسكان عنه في الوثوق (3)، لأنه من أصحاب الاجماع.
فعليه لا بد من إثبات هذه الدعاوى الثلاث حتى يتبين الحق.
المراد من أحمد بن محمد في المقام
أما الدعوى الأولى، فإثباتها قليل المؤونة، لأن ابن يحيى في هذه
الطبقة، ليس الذي يروي عنه الصدوق بلا واسطة، ولا الفارسي الذي
يروي عنه التلعكبري سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة، فينحصر بكونه ابن
العطار، ولزوم رواية الأب من الابن مما لا بأس به جدا وقطعا، وهو ثقة
ومعتبر على الأصح.
إلا أن الالتزام به أيضا غير صحيح، لرواية التلعكبري - المتوفى
سنة 385 - عنه إجازة في سنة ست وخمسين وثلاثمائة، فهذا ابن يحيى
من المهملين، لا الضعفاء والمجاهيل.
ومن المحتمل كونه ابن يحيى الكوفي، أخا كامل بن محمد، من
أصحاب الكاظم (عليه السلام) إلا أنه لا يفيد شيئا.
ولأجل ذلك التجأ الأصحاب (رحمهم الله) إلى إثبات أنه ابن عيسى، وقد وقع

1 - حاشية الوحيد البهبهاني (المطبوعة بهامش مدارك الأحكام): 9، جواهر
الكلام 1: 174.
2 - جواهر الكلام 1: 174.
3 - مهذب الأحكام 1: 182.
321

التصحيف أو اشتبه الأمر على بعض النساخ (1)، ذاكرين: أنه هو
الذي يروي عنه العطار كثيرا، ويروي عن عثمان بن عيسى مرارا وقد ادعى
الحدائق القطع بذلك (2)، واستوجهه الآخرون (3) حتى الوالد (4)، مؤيدين
ذلك بتفرد نسخة التهذيب بذكر ابن يحيى وعدم طعن جملة من
المتأخرين - كالعلامة (5) وغيره (6) - في سند الرواية إلا بعثمان بن عيسى
وأبي بصير، وإلا كان هو الأولى، لتقدمه ومجهوليته المطلقة.
ولك دعوى: أن الرواية مروية مرتين، مرة بابن عيسى، ومرة بابن
يحيى، فما في الكافي (7) والاستبصار (8) هو ابن عيسى على ما قيل: بأن
أحمد بن محمد عند الاطلاق في أوائل السند هو ذاك أو هو وابن خالد
البرقي، لكونهما في الطبقة الواحدة، وقد روى عنهما الكليني بالعدة
المذكورين في محله، وما في التهذيب هو ابن يحيى (9)، للتصريح
به، فتكون الرواية من هذه الجهة نقية كما هو الواضح. ولكنه بعيد في
حد ذاته، كما لا يخفى.

1 - جواهر الكلام 1: 173.
2 - الحدائق الناضرة 1: 268.
3 - الحدائق الناضرة 1: 268، مستند الشيعة 1: 62، جواهر الكلام 1: 173.
4 - الطهارة (تقريرات الإمام الخميني (قدس سره) اللنكراني (مخطوط).
5 - منتهى المطلب 1: 7 / السطر 25.
6 - كشف الرموز 1: 47، روض الجنان: 140 / السطر 15.
7 - الكافي 3: 3 / 5.
8 - الإستبصار 1: 10 / 14.
9 - تهذيب الأحكام 1: 42 / 116.
322

وثاقة أحمد بن محمد بن عيسى
وأما الدعوى الثانية، فإثباتها حسب ما يؤدي إليه النظر الدقيق
ممكن، وذلك لأن اجتماع الوجوه الكثيرة، كاف في حصول الوثوق وإدراج
مثل ابن عيسى في المعتبرين، ضرورة أن أمره دائر بين كونه من الثقات
الأجلاء، أو الموثقين، أو من الذين عثروا في برهة، ثم تابوا ورجعوا.
وأما احتمال كونه متروك الرواية - كما يظهر من العلامة، فقال:
الوجه عندي التوقف فيما ينفرد (1) وفي كتب الاستدلال جزم بضعفه (2) -
فهو غير تام، مع احتمال كونه راجعا إلى غيره، ولو كان الأمر كما قيل،
لكانت الرواية في هذه المسألة معتبرة، لإفتائه بها في كتبه الكثيرة (3).
ولقد تصدى المتضلع النحرير، والخبير البصير، شيخ إجازتنا
النوري في الخاتمة لوثاقته، فأتى بما هو حق النظر إلا ما شذ (4).
ولكن الذي يسهل الخطب: أن إمعان الأنظار الدقيقة، وإعمال
القوى الفكرية، في اخراج الرجالات العلمية من المطاعن المحكية،
إلى معالي ومدارج المحاسن الجلية، خارج عن الطرق العقلائية في
حجية أخبار الآحاد المروية عن الأئمة الأطهار - صلوات الله تعالى

1 - رجال العلامة الحلي: 244.
2 - منتهى المطلب 1: 7 / السطر 25.
3 - إرشاد الأذهان 1: 236، قواعد الأحكام: 4، تذكرة الفقهاء 1: 19.
4 - مستدرك الوسائل (الخاتمة) 3: 602 / السطر 9.
323

عليهم أجمعين -.
والذي هو المهم في المقام، أنه لم يضعفه أرباب الرجال،
والالتزام بالفسق والفجور والشرك والكفر في رواة الأحاديث، إذا كانوا
متحرزين عن الأكاذيب، مما لا بأس به، وابن عيسى منهم، أي ممن لم
يضعف. ولو فرضنا اندراجه في القسم الثاني، ولكنه معتبر ظاهرا، لعدم
الحاجة إلى تلك النظرة العلمية بعد الغور فيما وصل إلينا في حقه،
فراجع وتدبر.
وثاقة أبي بصير
وأما الدعوى الثالثة، فيمكن إثباتها:
تارة: برواية ابن مسكان الذي هو من أصحاب الاجماع، وفيه ما قد
أشير إليه (1).
وأخرى: بأن أبا بصير كنية المكفوفين، وهم ليث بن البختري
المرادي أبو يحيى، وأبو بصير الأصغر الذي عد من أصحاب الباقرين
والكاظم (عليهم السلام) ويحيى بن القاسم الأسدي أبو محمد، وهو أبو بصير الأكبر
الذي عد من أصحاب الصادق والكاظم (عليهما السلام) ويحيى بن أبي القاسم
الحذاء المكفوف، الذي عد من أصحاب الباقر (عليه السلام).
ولا شبهة في وثاقة الثاني، لتصريح أربابه (2)، وقد مات سنة
خمسين ومائة، التي مات فيها جمع من الأقدمين من الأصحاب رضي الله عنهم.

1 - تقدم في الصفحة 320.
2 - رجال النجاشي: 441.
324

والظاهر وثاقة الأول أيضا، لشهادة المآثير الكثيرة المروية في
الكشي وعدم طعن أحد منهم فيه (1)، وصريح كلام ابن الغضائري في
وثاقته (2) كاف وإن جرح في دينه، وهو لا يتم ولا يضر، والتفصيل في محله،
وما ورد من المآثير الذامة لا يعارض المادحة، لمحموليتها على ما حمل
عليه ما ورد في حق زرارة وابن مسلم (3)، مع أنها لو كانت ساقطة
بالتعارض، يكفي لحسن حاله الشواهد والقرائن الأخر، فتدبر.
ولقد تعرض لتفصيل البحث، العالم المعاصر صاحب قاموس
الرجال حفظه الله تعالى في رسالة على حدة (4)، فإن شئت فعليك
بالمراجعة إليها.
وأما ابن أبي القاسم، فالذي يظهر لي هو أنه السابق آنفا، وما في
التنقيح - تبعا لجماعة من الأصحاب - أنه الثالث (5)، غير ثابت، بل
الثابت أنه أبو بصير الأكبر حذاء الأصغر، ولو كان الثالث غير الثاني
ليلزم التوصيف على عكسه، لأن الأصغر عد من أصحاب الثلاثة، والأكبر
عد من أصحاب الاثنين، فهو والثاني واحد، فيكون أبو بصير اثنين، وهما من
أصحاب الثلاثة، إلا أن أحدهما أكثر علما وورعا وعنوانا، وهو الذي لم

1 - رجال الكشي 1: 398.
2 - جامع الرواة 2: 34.
3 - معجم رجال الحديث 7: 226، و 17: 255.
4 - الرسالة المبصرة في أحوال أبي بصير، المطبوع في ملحق الجزء الحادي عشر من
قاموس الرجال.
5 - تنقيح المقال 3: 309 / 12975.
325

يصرح الأصحاب بوثاقته إلا جامع الرواة في ذيل كلامه (1)، والآخر
في الرتبة المتأخرة مع كونه واقفيا، وقد صرح النجاشي فقط بوثاقته
ووجاهته (2)، والله العالم.
هذا، وأما دعوى وثاقة الكل، فهي غير مبرهنة، ومجرد توثيق
الآغا (رحمه الله) (3) غير كاف، ولكن حسب ما يؤدي إليه نظرنا في الطريقة
العقلائية في حجية أخبار الآحاد، وثاقة الكل.
وأما دعوى: أن أبا بصير في الرواية أحدهم المعين، وهو الليث
المرادي، لرواية ابن مسكان عنه، كما في الجواهر (4) فغير ناهضة عليها
الحجة الشرعية.
نعم دعوى: أنه إما الليث أو الأسدي، واحتمال كونه الثالث (5) بعيد،
لعدم كونه من أصحاب الصادق (عليه السلام) فتكون الرواية لأحد الأولين، قريبة،
وربما تقوم عليها الحجة، لما أشير إليه كما لا يخفى.
وغير خفي: أن الليث المرادي هو أبو بصير الذي لم يصرح الأقدمون
بوثاقته، فكان على الجواهر استظهار أنه الأسدي، فتكون الرواية
لأجله موثقة، فلا تغفل.
فبالجملة: بعد اللتيا والتي، دعوى الوثوق بالصدور - بعد اعتضادها

1 - جامع الرواة 2: 338.
2 - رجال النجاشي: 441.
3 - حاشية الوحيد البهبهاني (المطبوعة بهامش مدارك الأحكام): 9.
4 - جواهر الكلام 1: 174.
5 - ذخيرة المعاد: 122 / السطر 23.
326

بالشهرة القوية (1) - مسموعة جدا، وبعدما عرفت وضوح دلالتها على
الأبعاد الثلاثة، وأن معناها هو أن الكر هو أن يكون الماء ثلاثة أشبار
ونصفا، في نفسها ثلاثة أشبار ونصفا، في العمق في الأرض، والتركيب
واضح، فإن الخبر بعد الخبر - في الأدب - معروف وجائز، وهناك هو الأقرب
إلى أسلوب الكلام من غيره، لأن المراد بيان أمر واحد متعدد الجهة
والأبعاد، فلا بد من عد هذه الطائفة معارضة مع سائر الطوائف.
بطلان إرادة الشكل الأسطواني
فما ترى في بعض الكتب الحديثة، من دلالتها على الدورية،
فيكون المجموع ثلاثة وثلاثين شبرا، ونصفا، وثمنا، ونصف الثمن (2)،
لا يرجع إلى المحصل، وخروج عن الأفهام السوقية في فهم الأحاديث
المروية.
وأما الشبهة تارة: في رواية ابن يحيى (3)، بأنها في الدورية، لأن
موضوعها الركي وهو دوري (4).
وأخرى: بأن صدرها متضمن لاشتراط الكرية في عدم انفعال ماء

1 - مستمسك العروة الوثقى 1: 152.
2 - مهذب الأحكام 1: 183.
3 - الكافي 3: 2 / 4، وسائل الشيعة 1: 160، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 9، الحديث 8.
4 - حاشية الوحيد البهبهاني (المطبوعة بهامش مدارك الأحكام): 9.
327

البئر، وهو غير مقبول (1).
وثالثة: بأن النسخة الصحيحة الأصلية - وهي الكافي
والتهذيب بل والنسخة المصححة من الاستبصار - خالية عن
الجملة الأولى، فتكون هي مشتملة للبعدين: العمق، والعرض (2).
فكلها واهية واضحة:
أما الأولى فتدفع: بأن الأخذ بخصوصيات الحد، يورث شرطية
الدورية في عدم انفعال الماء، وهو واضح المنع، فعليه يعلم أن جميع
المآثير بصدد بيان المقدار الذي لا ينفعل، وهو الذي يملأ هذه المساحة،
من غير النظر إلى الدورية أو المكعبية، مربعية أو مستطيلية أو غير
ذلك، سواء كان أحد البعدين أكثر من الآخر، أو البعدان أزيد من الثالث، أو
يكون أحد الأبعاد نصف شبر، والآخران إلى حد ينجبر نقصان البعد الناقص
وهكذا، فحمل هذه التحديدات على الشكل الخاص من الهندسي، من
سوء الدرك.
وأما الثانية: فلأن من الأصحاب من يقول بذلك (3)، فلا يلزم التفكيك
بحسب الصدور، بل هو قضية الجمع بين المآثير، وهذا مما لا يورث
الوهن في ذيلها، كما لا يخفى.
وأما الثالثة فتدفع: بعدم الحاجة إلى تلك الجملة، لما عرفت من

1 - مرآة العقول 13: 11، مصباح الفقيه، الطهارة: 29 / السطر 12.
2 - التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 205.
3 - مستمسك العروة الوثقى 1: 195.
328

أن العمق لا يتصور إلا مع البعدين، وأما كون البعدين شخصين بعنوان
العرض والطول فهو غير لازم، بل يستلزم توهم خصوصية الدورية
في عدم الانفعال، كما مضى.
مع أن العرض في مقابل العمق بدون ذكر الطول، ظاهر في السعة،
بل أريد منه ذلك في قوله تعالى: (وجنة عرضها كعرض السماء
والأرض) (1) وهكذا في قوله: (عرضها السماوات) (2) فليتدبر.
الطائفة الثالثة: ما تدل على أنه ثلاثة أشبار، في ثلاثة أشبار ضربا
فيكون المجموع سبعة وعشرين.
فمنها: ما رواه المشايخ الثلاثة بالأسانيد الأربعة، عن أحمد بن
محمد، عن محمد ابن خالد البرقي، عن ابن سنان، عن إسماعيل بن جابر
قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الماء الذي لا ينجسه شئ.
فقال: كر.
قلت: وما الكر؟
قال: ثلاثة أشبار، في ثلاثة أشبار (3).
وفي كون ما في المجالس - من أنه قال: وروي: أن الكر هو ما

1 - الحديد (57): 21.
2 - آل عمران (3): 133.
3 - الكافي 3: 3 / 7، وسائل الشيعة 1: 159 - 160، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 9، الحديث 7.
329

يكون ثلاثة أشبار طولا، في ثلاثة أشبار عرضا، في ثلاثة أشبار
عمقا (1) - رواية غير ما مر (2) إشكال، ولعله نقل بالمعنى مضمونها،
مع أنها لا فائدة فيها لارسالها، فتبقى الأولى وحيدة مستند الصدوقين -
على ما حكي (3) - وسائر القميين، على ما نسبه إليهم السرائر (4)
وجماعة من المتأخرين (5).
البحث الدلالي لرواية إسماعيل بن جابر
والكلام فيها بحسب الدلالة واضح، لأنها حسب المتفاهم العرفي
ظاهرة في الضرب، واحتمال تعرضها للبعدين، وعدم ذكر العمق، لعدم لزوم
كونه مثلهما، بل هو على حسب المتعارف في مثله، غير مضر، لعدم
مساعدة العرف معه. وهكذا لو كان العمق مورد التعرض دون أحد
الضلعين الآخرين.
وأما تتميم الضلع الآخر بالاجماع (6)، فهو لا يخلو من غرابة. هذا كله
حول دلالتها.

1 - الأمالي، الصدوق: 514.
2 - مستمسك العروة الوثقى 1: 157، مهذب الأحكام 1: 185.
3 - حبل المتين: 108 / السطر 10.
4 - السرائر 1: 60.
5 - حبل المتين: 108 / السطر 10، مدارك الأحكام 1: 49.
6 - الحدائق الناضرة 1: 263.
330

البحث السندي للرواية السابقة
والذي هو المهم تصحيح سندها، ففي التهذيب: أخبرني الشيخ
أيده الله تعالى، عن أحمد بن محمد بن الحسن وهو ابن الوليد الثقة عن
أبيه وهو الجليل الثقة المتوفى سنة 343 عن محمد بن يحيى وهو
العطار الثقة عن محمد بن أحمد بن يحيى وهو الثقة المعتمد (1).
وفي الاستبصار: أخبرني الحسين بن عبد الله، عن أحمد بن محمد
بن يحيى العطار وهو الثقة وإن لم يصرح الأقدمون به عن أبيه، عن
محمد بن أحمد بن يحيى وهو الماضي آنفا عن أحمد بن محمد، عن
البرقي وهما الثقتان عن عبد الله بن سنان، عن إسماعيل بن جابر (2).
وفي التهذيب: أخبرني الشيخ أيده الله تعالى، عن أحمد بن
محمد، عن أبيه، عن سعد، عن عبد الله، عن أحمد بن محمد، عن البرقي، عن
محمد بن سنان، عن إسماعيل بن جابر (3).
وفي الكافي: محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن البرقي، عن
ابن سنان، عن إسماعيل بن جابر (4).

1 - تهذيب الأحكام 1: 41 / 115.
2 - الإستبصار 1: 10 / 13.
3 - تهذيب الأحكام 1: 37 / 101.
4 - الكافي 3: 3 / 7.
331

الاشكال في صحة السند لأجل محمد بن سنان
وقضية ما أشير إليه في أثناء السند، اعتبار جميع الاسناد إلى ابن
سنان، وحيث أنه - سواء كان عبد الله، أو محمدا - ثقة على ما تقرر، فلا تبقى
شبهة فيه، فتصير هذه الطائفة أيضا قابلة ذاتا للمعارضة مع ما سبق.
ولو سلمنا أن محمدا ليس ثقة، لتصريح كثير من أرباب الرجال
والعلم بضعفه، ولكنه في هذه الرواية موثوق به، مقبولة روايته لدى
القميين، الذين هم معلوموا الحال في الدقة الخاصة بهم في السند
والرواية، بل ذلك إما دليل وثاقته، أو دليل أنه عبد الله الذي صرح
الأصحاب بوثاقته.
وقد يشكل ذلك كله: بأن محمدا ضعيف، ومن في السند هو محمد، أو
يحتمل قويا كونه هو، فيسقط الخبر عن الاستدلال به، ولا شهرة على طبقها
حتى تكون جابرة (1)، وما ترى من تصحيح السند من زمن العلامة إلى
العصور المتأخرة، للغفلة عن حقيقة الحال، وذلك أن محمدا - المتوفى
سنة العشرين والمائتين بحسب الطبقة - معاصر للبرقي، ولم يعهد في
الاسناد رواية البرقي إلا عن محمد، فإمكان روايته عنه غير كاف، بل لا بد
من القرينة على وقوعها، وإذا كان الواقع منحصرا بهذه الرواية المختلفة
أيضا في الاسناد كما عرفت، فلا يمكن دعوى أنه عبد الله جدا.

1 - لاحظ منتقى الجمان 1: 51.
332

فبالجملة: إشكال صاحب المعالم على الرواية سندا (1) وإن كان
مدفوعا بجوانبه بما عن البهائي (2)، إلا أن ما هو الحجر الأساس أمران:
عدم رواية البرقي عن عبد الله بحسب ما في الأسانيد (3)، وإن أمكن
ذلك بحسب الطبقات.
وعدم رواية عبد الله عن جابر بن إسماعيل أيضا بحسب ما حكي في
الأسانيد الموجودة (4).
وأما دعوى روايتهما معا، فهي بذاتها ممكنة، ولكنها بعيدة جدا، فعليه
لا يمكن حل المشكلة إلا بما أشير إليه، وهو وثاقة ابن سنان، ولقد تصدى
لها الشيخ المعظم النوري (قدس سره) في الخاتمة (5)، والسيد بحر العلوم في
رجاله (6).
والذي هو المشكل، قصور أدلة حجية خبر الواحد عن شمول هذه
المآثير، التي بالاجتهادات العلمية والقواعد الفكرية يمكن توثيق
رواتها، فلاحظ وتدبر.
نعم، في خصوص هذه الرواية، يمكن دعوى الوثوق بالصدور بما
مر من الشواهد.

1 - منتقى الجمان 1: 36.
2 - مشرق الشمسين: 387.
3 - انظر جامع الرواة 1: 487.
4 - انظر جامع الرواة 1: 93.
5 - مستدرك الوسائل (الخاتمة) 3: 558.
6 - رجال السيد بحر العلوم 3: 278.
333

توهم الفقيه الهمداني والجواب عنه
وأما توهم حذف كلمة نصف من هذه الرواية، كتوهم زيادة
نصف على رواية أبي بصير، فكلاهما مما لا يصغى إليه، ولا ينبغي للفقيه
- وهو الهمداني (رحمه الله) (1) وغيره (2) - التدخل في هذه المجالات، لاستلزامه
الملاعبة في الطرق الاجتهادية، ولا معنى للجمع بين المآثير بمثل ذلك
وأمثاله.
الطائفة الرابعة: ما يكون ظاهرها أنه ذراعان وشبر، في ذراعين
وهو مفاد ما روي عن المقنع (3) والنسخ مختلفة:
ففي الوسائل: في ذراعين وشبر (4).
وفي بعض النسخ: ذراع وشبر، في ذراع وشبر (5).
فما أفاده الوسائل من الحمل (6) لا يصح على النسخ الأخر، فعليه
يلزم الاشكال، والأمر سهل، لعدم تمامية السند أيضا.

1 - مصباح الفقيه، الطهارة: 29 / السطر 27.
2 - شرح تبصرة المتعلمين، المحقق العراقي 1: 102.
3 - المقنع: 31.
4 - وسائل الشيعة 1: 165، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 10، الحديث 3.
5 - وسائل الشيعة (الطبعة الحجرية) 1: 81 / السطر 19.
6 - لاحظ وسائل الشيعة 1: 164 - 165، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 10،
الحديث 1.
334

تعارض الطوائف السابقة وعلاجه
فبالجملة: هذه الطوائف الأربع متكاذبة.
ومن العجب، كل من ذهب إلى جانب، خدش سند الطوائف الأخر!!
وحيث هم أرباب الفضل والرجال، يلزم الوهن في جميع الأسانيد.
أو يقال: لعدم تدبرهم في المسألة حقه، وقعوا في حيص وبيص،
وكل يجر النار إلى قرصه، والاستظهار بالقرائن الكلية والجزئية،
يختلف حسب اختلاف الأفهام والأذواق والنفوس، فلا خير في ذلك كما هو
واضح.
ومن بنائهم على الخدشات السندية، يعلم أن الجمع الدلالي
العقلائي في محيط التقنين والتشريع، غير ممكن بين هذه الشتات.
وحمل الأقل على الالزام، والأكثر على مراتب الندب والاستحباب -
كما يلوح من بعض الأعلام (1) - ليس من الحمل العرفي في هذه المواقف،
خصوصا في هذه الطوائف التي هي في مقام التحديد والحصر، كما هو
الواضح.
فعلى ما تقرر، كما لا يمكن الجمع العقلائي بينها، لا يمكن ترجيح
طائفة على أخرى، لأن ما ورد في الترجيح بالشهرة، ناظر إلى الشهرة
الفتوائية، دون الروائية، ولا بد من كونها شهرة بحيث كان ألغي في الطرف

1 - مدارك الأحكام 1: 52.
335

الآخر بينا، وليس الأمر في هذه المسألة كذلك.
وأما الترجيح بالكتاب وبمخالفة العامة أيضا فغير ممكن هنا،
لما عرفت أن العامة بين قائل بعدم الانفعال، وبين قائل بالانفعال في القليل
العرفي، وبين قائل بالوزن (1)، ولا خبر من المساحة بينهم حتى يكون بعض
الطوائف ناظرا إليه.
هذا، وفي شمول أخبار التعارض لهذه المسألة إشكال، ضرورة أن
مفادها الأقل والأكثر، والأخذ بالأكثر أخذ بالأقل، وظاهر المآثير في باب
التعارض هو ما يكون الخبران مختلفين، بحيث لا يلزم من الأخذ بأحدهما
الأخذ بالآخر، فليتدبر.
فعلى هذا، تصبح المسألة مشكلة، فلا بد من الطرح ورد علمها إلى
أهلها. والعمل على طبق القواعد والأصول العملية والالتزام بذلك، أيضا في
غاية الاشكال.
وتوهم الجمع الدلالي، بدعوى أن الكر كيل، والبلاد مختلفة
بحسب الكيل، كما قد مضى شطر من الكلام حول ذلك (2)، فلا بد من حمل
الأخبار على مختلف البلاد، فما كان من البلاد كيله وكره المتعارف فيه
ثلاثة أشبار، في ثلاثة أشبار، فذلك المقدار من الماء عاصم، وهكذا سائر
البلاد، فتصبح الطوائف المتكاذبة متوافقة، فهو وإن كان غير بعيد في
ذاته، إلا أنه يحتاج إلى الشاهد القطعي والعرفي، وهو غير ناهض، بل

1 - تقدم في الصفحة 229 - 231 و 291.
2 - تقدم في الصفحة 305 - 306.
336

الظاهر من السؤال عن الكر، عدم معلومية ذلك في عصر صدور
الأخبار.
دفع التعارض بإرادة القليل والكثير العرفيين
فعند ذلك ترى: أن ما سلكناه في هذا المضمار متعين، وأن جميع هذه
الطوائف متوافقة في الإفادة، وأن المدار على القليل والكثير العرفيين،
وما ورد في الأخبار مصاديق الكثير العرفي، وهذا أمر يساعده الذوق
السليم، ويناسبه الارتكاز والوجدان، وتؤيده الشواهد النقلية المزبورة
سابقا، من الأخبار والآثار، من غير لزوم التسامح، لأن الكل مصداق الكثير
واقعا، وبذلك يجمع بين هذه المآثير طرا، وما ورد في الكر وزنا أيضا،
فلا تغفل، ولا تخلط جدا.
الجمع باختلاف المياه حسب الخلط والصفاء وجوابه
وأما الجمع الدلالي بين المآثير، بدعوى اختلاف المياه حسب
الخلط والصفاء (1)، فغير جائز، للخروج عما هو الطريق الصحيح في
الجمع، مع أنه لو كان ذلك هو مراد المتكلم، لكان عليه أن يجعل الطريق
المتوسط بين السبعة والعشرين والثلاثة والأربعين، ما هو المتوسط بين
المقدارين، وليس الأمر كما توهم.
وبعبارة أخرى: وإن يمكن أن يجعل هذه المساحات الثلاث أمارة
الكرية، فإذا كان الماء صافيا خالصا عن جميع الشوائب والزيادات،

1 - دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلد الأول: 183 - 184.
337

فالكر كذا، وإن كان خليطا بمقدار متوسط عرفي - كالمياه المتعارفة في
المدينة والعراق - فالكر كذا، وإن كان خليطا كثيرا جدا فالكر كذا، ولكنه
بلا شاهد، بل الشواهد كلها على خلافه كما لا يخفى.
وأما ترجيح الطائفة الأولى على غيرها بالأصحية، فقد أشير إلى ما
فيه: من قصور شمول أخبار العلاج لما نحن فيه.
الجمع بالأمارية وما فيه
ومما ذكرنا مرارا يظهر: أن دعوى الجمع الدلالي بين شتات المآثير،
بجعل الأقل كرا واقعا، وجعل الأكثر أمارة وعلامة لتحقق ذلك قبله (1)، غير
قابلة للتصديق، لإباء المآثير عن ذلك، وعدم المناسبة لاختلاف الأمارة
عن ذي الأمارة بهذه المثابة.
وجعل الوزن أصلا، والمساحة أمارة، أو بالعكس، أو جعل بعض
الأوزان أمارة لبعض المساحات، وبعض المساحة علامة لبعض الأوزان،
أو غير ذلك، فكله من التوهم البارد الذي لا يجوز الاصغاء إليه، فما يظهر
من بعض أفاضل العصر (2) وغيره (3) في المقام، غير مستقيم جدا.
وقد مضى: أن من القميين من يقول في الأوزان بالأزيد، وفي

1 - مستمسك العروة الوثقى 1: 158.
2 - التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 213.
3 - مستمسك العروة الوثقى 1: 158.
338

المساحة بالأنقص (1)، والمشهور على عكسه، فكيف التوفيق بين
الفتاوي التي هي المأخوذة من المآثير والأخبار بالأفهام العرفية؟!
فعليه يتقرر لك أن الأمر كما حققناه.
الجهة الثالثة: فيما يتوجه إلى القوم والأصحاب صدرا وذيلا
فيما اختاروا في حد الكر وزنا ومساحة
فالمشهور القائلون: بأنه بحسب الوزن مائتان وألف رطل عراقي
كيف ارتضوا أن يقولوا: هو بحسب المساحة ثلاثة وأربعون إلا ثمن شبر
مع أن الحد الأول دائم السبق على الثاني، ويكون الاختلاف بينه وبين
المساحة كثيرا؟!
فعن الاسترآبادي: أن ماء المدينة يساوي ستة وثلاثين شبرا (2).
وعن المجلسي: أنه يساوي ثلاثة وثلاثين (3).
وقيل: يساوي سبعة وعشرين (4).
وقيل: ثمانية وعشرون تقريبا (5).

1 - تقدم في الصفحة 290 - 291 و 307.
2 - لاحظ الحدائق الناضرة 1: 276، جواهر الكلام 1: 178.
3 - مرآة العقول 13: 15، وانظر مستمسك العروة الوثقى 1: 158.
4 - مستمسك العروة الوثقى 1: 158.
5 - نفس المصدر.
339

والقميون القائلون: بأنه مائتان وألف بالرطل المدني (1) كيف
ارتضوا في المساحة بأنه سبعة وعشرون؟!
والقائلون: بأنه في الوزن مثل الأول كيف ارتضوا في المساحة
بستة وثلاثين؟! مع أنهم متوجهون إلى اختلاف المياه خفة وثقلا حسب
الخلط والصفاء، وربما يختلف ذلك حسب الجواذب ضعفا وقوة، فإن من
الممكن اختلاف البلدان في ذلك، فيكون الشئ الواحد في منطقة، أخف
منه في المنطقة الأخرى.
والذي يقول بالوزن مثل المشهور، كيف ارتضى بأنه بحسب المساحة،
سبعة وعشرون، مع الاختلاف الشديد المرئي في المياه خفة وثقلا؟!
فقد يتصدى جمع لحل المعضلة المتوجهة إلى مقالة المشهور
بما عرفت ومر، بحمل المساحة على أنها علامة الكر، وأن ما هو الكر
المضبوط هو الموزون (2)، وأما الأشبار فهي مختلفة جدا، فلا بد من صرف
النظر عن الظهور في هذه الطائفة، وهذا ما يساعده العرف أيضا.
وأنت خبير: بأنه غير مقبول، لعدم الوجه الصحيح لذلك، مع أن
جعل الأشبار الكثيرة علامة المقدار القليل، غير موافق للذوق السليم،
خصوصا إذا كان المتعارف في المياه بين الثلاثين والأربعين، ولا يتفق أن
يصل الموزون إلى أربعين، كما عليه الكل ظاهرا.
وتصدى الآخرون لحل الاشكال على الآخرين: بأن النسبة بين

1 - مدارك الأحكام 1: 47.
2 - تقدم في الصفحة 337 - 338.
340

الحدين عموم من وجه، فمن يأخذ بالرطل العراقي، فلا بد وأن
يأخذ بسبعة وعشرين، ومن يأخذ بالرطل المدني، لا بد وأن يأخذ بستة
وثلاثين.
وهذا من الغريب، للزوم طرح الظاهر جمعا بين الآثار بطريق غير
عقلائي.
وأما دعوى: أن الصناعة في المساحة قاضية بسبعة وعشرين،
وهذا يوافق المشهور في الأرطال، الذي هو أيضا يوافق الصناعة (1)، فهي
غير مرضية من الجوانب الثلاثة.
وهي عدم موافقة الصناعة للطرفين، لما مضى في ذيل الطوائف
الماضية، ولما مضى في مسألة الرطل.
وعدم تماميتها في نفسها، ضرورة أن النسبة بين الحدين ولو كانت
من وجه، ولكنه يستلزم صرف النظر عن ظاهر كل واحد من الحدين في
نفي الأمر الآخر في الحدية، وهذا بلا وجه، غير جائز.
مع أن أقلية الموزون عن المساحة، ممنوع حسب ما قيل في
التوزين، فإنه كما يتوجه إلى المشهور تقدم الوزن على المساحة
دائما، يتوجه إلى القائل بسبعة وعشرين، تقدم المساحة على الوزن
دائما إلا ما شذ، فيكون المدار على المساحة، فيلزم لغوية الوزن أيضا.
مع أن التطابق مجرد ادعاء لا يثبت، لبعده عن الأفهام جدا، فلا تخلط.
فتحصل: أن هذه الشبهات واردة على جميع الأعلام في ذكر الحدين
للكر، من غير فرق بين المشهور وغيره.

1 - دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلد الأول: 182 - 183.
341

نعم، بناء على ما أسسناه واخترناه، لا يلزم شبهة حتى يحتاج إلى
الدفاع، كما هو الظاهر البارز.
الجهة الرابعة: في قضية الأدلة والأصول العملية
إذا سقطت الأدلة اللفظية عن الاستدلال سندا أو دلالة، فهل عند ذلك
لا بد من القول: بأن القدر المتيقن من المنفعل، ما كان أقل من سبعة
وعشرين، لأن الأصل الأولي عدم انفعال الماء مطلقا؟
أو القول: بأن القدر المتيقن من اللا انفعال هو الثلاثة والأربعون،
فلو نقص منه شئ ينفعل، لأن الأصل انفعال الماء إلا إذا كان كرا؟
وقد مضى شطر من البحث حول ما هو الحق في المسألة، حسب
الأدلة اللفظية (1).
والذي هو الأقرب: أن الماء إذا ثبت قابليته للنجاسة في الجملة،
فلا بد فيه من العاصم، وهو البالغ إلى الحد الأكثر لدى الشك،
لرجوعه إلى الشك فيما يعصمه.
وتوهم: أن القلة مقتضية للانفعال، في غير محله، لأنها ليست أمرا
خارجيا حتى يكون مقتضيا لشئ.
اللهم إلا أن يقال: ظاهر النبوي (2)، هو أن الماء لا ينجسه شئ إلا إذا

1 - تقدم في الصفحة 274 - 277.
2 - المعتبر 1: 40، وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1،
الحديث 9.
342

كان متغيرا بالاستثناء، أو قليلا بالتخصيص المنفصل، وإذا كان مفهوم
القليل والكر والكثير مجملا، فلا بد من المراجعة إلى العام،
وهو عدم تنجس الماء، والقدر المتيقن منه الذي ينجس، هو غير البالغ
إلى الحد الأقل.
فبالجملة: قضية ما حرر في الأصول، هو الرجوع إلى العمومات في
الشبهة المصداقية المفهومية للمخصص (1)، وأما النظر إلى
المقتضيات، وأن الكثير فيه الاقتضاء دون القليل، فغير جائز، للزوم
الاجتهاد في مقابل النص كما لا يخفى.
نعم، في ثبوت النبوي سندا، وفي وضوحه دلالة، مباحث هامة
مضت (2).
ولو فرغنا عن جميع تلك المباحث، وفرضنا الاطلاق له من هذه
الجهة أيضا، فالذي هو المحرر عندي: عدم جواز الرجوع إلى
العمومات في المفروض من الكلام أيضا، لما تقرر من رجوع الشبهة
المصداقية إلى الموضوعية في محيط التقنين والتشريع مطلقا (3).

1 - تحريرات في الأصول 5: 237 - 238.
2 - تقدم في الصفحة 118 - 121.
3 - لاحظ تحريرات في الأصول 5: 236 و 251 و 254 - 255.
343

فروع
الأول: في عدم تحقق العصمة بالاتصال بالثلوج
إذا جمد بعض ماء الحوض، وكان الباقي قليلا غير كر، أو ذابت
الثلوج و (البروف) الموجودة في الشوارع والجواد، ولم يكن الذائب قدر
كر، أو كان قليلا عرفا، فهو عند الكل ماء قليل، والوجه واضح.
وتوهم اعتصامه بالثلوج، لأنها المياه، بل هي أولى بكونها ماء من
السائل الجاري كما عن منتهى العلامة (1)، في غير محله، وهكذا توقف
التحرير (2) والقواعد (3).
نعم، يمكن دعوى اندراجه في عموم تعليل صحيحة ابن بزيع (4)، لعدم
الفرق بين المياه المعنونة في الكتب الفقهية، وهذا الماء السائل في
الزقاق والشارع المستند إلى ملايين الأطنان من (البروف) النازلة
الموجودة أطراف الشارع، فالمناط صدق التعليل المذكور، ولعله قريب
في بعض الفروض والصور.

1 - منتهى المطلب 1: 29 / السطر 34.
2 - تحرير الأحكام: 6 / السطر 18.
3 - لاحظ مستمسك العروة الوثقى 1: 163.
4 - الإستبصار 1: 33 / 87، وسائل الشيعة 1: 172، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 14، الحديث 6.
344

ثم إنه قد يشكل: بأن الماء بعدا لجمود يخرج عن عنوان المائية،
ويكون الجامد منه غير ذاك عرفا (1)، فعليه إذا جمد القليل المتنجس فهو
كالكلب الصائر ملحا، فيلزم طهارته حال جموده، بل بعد الذوبان، لامتناع
إعادة المعدوم العرفي، إلا إذا كان الإعادة عرفية أيضا، فليتدبر جيدا.
الثاني: في حكم الشك في الكرية
الماء المشكوك كريته، إن كان معلوم الحال في السابق من القلة
والكثرة، فبمقتضى الاستصحاب الموضوعي والحكمي، يترتب عليه جميع
الأحكام السابقة، إلا إذا تعدد الموضوع، كما لو كان في الحوض أكرارا،
ثم وضع عنه جميع الماء دفعة، فبقي المشكوك، فإنه لا يمكن الإشارة
إليه فيقال: هذا كان كرا كما لا يخفى.
هذا كله بناء على كون الكر موضوعا للأحكام.
وأما بناء على ما قويناه، من أن موضوعه الكثير العرفي (2) فالشك
عندئذ يرجع إلى الشبهة المفهومية، وفي جريان الأصل فيها بحث مضى
تفصيله في الماء الجاري (3).

1 - دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلد الأول: 187.
2 - تقدم في الصفحة 274 وما بعدها.
3 - تقدم في الصفحة 222.
345

حكم الماء مجهول الحال
وإن كان مجهول الحال، فقد يقال: بأنه مجرد فرض، لأن المياه كلها
- حسب الخلقة الأولية - تكون مسبوقة بالقلة (1).
وفيه منع واضح، لأن مياه البحار ليست كذلك، لأن السحاب منها،
ولو كانت هي منها يلزم الدور أوا لتسلسل، والالتزام بصحة التسلسل هنا -
كما هو المحقق في محله (2) - لا يورث رفع الشبهة هنا كما هو الظاهر،
لتقدم الأصل - وهو الماء - على البخار - وهو الفرع - عند خلق الأرض.
هذا، ولا تحتاج المسألة إلى هذا البحث المضحك بعد صيرورة
القليل كثيرا، فإنه يزول عنه وصف القلة فإذا أخذ من البحر مقدار
مشكوك الكرية، فلا يمكن إجراء العدم النعتي، لعدم إمكان الإشارة إليه
ب‍ " أن هذا كان قليلا وغير كر " كما هو الواضح.
ولا ينبغي التعرض لمثل هذه المسائل، إلا أن في عصرنا الطلاب في
النجف الأشرف، بلغوا ولم يدركوا، وإني بعدما جئت من تركيا إلى هذه
البلدة، وبقيت فيها مدة، وجدت أن أهل العلم هنا في سطح دان جدا،
ومحتاجون إلى عالم قوي الدرك، راقية أفكاره، ولعل الله بعد ذلك يحدث
أمرا.

1 - التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 223.
2 - الشفاء، الإلهيات، المقالة الثالثة، الفصل الأول: 330، وشرح المنظومة، قسم
الحكمة: 132 - 135.
346

فبالجملة: في هذه الصورة قضية التحقيق، عدم نجاسة الماء
الملاقي كما مر تفصيله في مباحث الماء الجاري (1)، فلا نعيده.
حكم مطهرية مشكوك الكرية بالملاقاة
وأما مطهريته بالملاقاة، فهي عند الأكثر مفروغة العدم، ولكنه
يمكن توهم الاشكال، لأن كل ماء طاهر ومطهر، خرج منه القليل حسب
الأدلة الشرعية اللفظية، فإنه طاهر وليس مطهرا بالملاقاة، وأما هذا
الماء فهو طهور ومطهر حسب العمومات، وإخراج القليل إذا كان حسب فهم
العرف، ظاهرا في كون الحكم منوطا بالاحراز - كما قيل في أمثاله - لا يضر
بالعموم المزبور، ولكنه مجرد وهم مضى فساده (2).
ويمكن دعوى الملازمة بين ماء لا ينفعل، وماء يطهر بالملاقاة عرفا
وشرعا، ولكنها تحتاج إلى الاستدلال. هذا كله في مطهريته بالملاقاة.
وأما مطهريته بإلقائه على المتنجس، فإن كان قبل ملاقاته مع
النجس، فهو الواضح.
وأما بعد ملاقاته، ففي استكشاف الموضوع الشرعي المقيد - وهو
الماء الطاهر - بقاعدة الطهارة، إشكال مضى البحث حول ذلك في
الماء القليل والجاري، فراجع (3).

1 - تقدم في الصفحة 214.
2 - تقدم في الصفحة 217.
3 - تقدم في الصفحة 219.
347

الثالث: في حكم الكر المسبوق بالقلة
الكر المسبوق بالقلة، إذا علم ملاقاته للنجاسة، ولم يعلم السابق
من الملاقاة والكرية، فإن جهل تأريخهما، أو علم تأريخ الكرية،
فالمعروف الحكم بطهارته (1)، وعن بعض الأفاضل الحكم بالنجاسة (2)،
واحتاط بعض آخر (3).
وإن علم تأريخ الملاقاة، حكم بنجاسته، وقيل: بطهارته.
والنظر في هذه المسألة يقع في جهتين:
الجهة الأولى: في مفاد الأدلة الاجتهادية.
والجهة الثانية: في مقتضى الأصول العملية.
مفاد الأدلة الاجتهادية
أما الأولى: ففيما هو المستفاد منها ثبوتا احتمالات:
الأول: كون القلة والكثرة أمرين وجوديين، ويكون الماء نوعين:
نوع منه - وهو القليل - ينجس، والنوع الآخر - وهو الكر - لا ينجس.
أو لو سلمنا أن القلة هي عدم الكثرة، ولكن المعتبر في الدليل

1 - مستمسك العروة الوثقى 1: 166، مهذب الأحكام 1: 191.
2 - دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلد الأول: 195.
3 - العروة الوثقى 1: 37، فصل في المياه، المسألة 8، التعليقة 4، دروس في فقه الشيعة،
القسم الثاني من المجلد الأول: 194.
348

يكون على وجه التنويع، لا التخصيص، فكل واحد من القلة
والكثرة شرط الانفعال واللاانفعال.
وهذا مما يشكل استفادته من الأدلة إثباتا، لعدم ظهور فيها يساعد
ذلك، فتأمل.
الثاني: كون الماء بطبعه قابلا للنجاسة، ومعتبرا عدم عصمته، وأما
عصمته فهي من خصوصيات بعض أصنافه، كالكر والجاري، وهذا هو
الظاهر من الشيخ (قدس سره) (1)، وعليه مبنى قاعدة المقتضي والمانع. وقد فرغنا
عن ذلك في السابق (2)، وأن التقريب والاستحسانات العقلية، لا تقاوم
ظواهر الأدلة.
الثالث: عكس الثاني، فتكون قضية العمومات طهورية الماء كتابا
وسنة، وقد خرج منه الماء المتغير والقليل.
وتوهم: أن ظاهر أدلة الكر هو التنويع، وأن الماء ماءان: ماء بالغ
كرا فلا ينجسه شئ، وماء غير بالغ إليه فينجسه الشئ، في غير محله،
لأن الظاهر منها نظارتها إلى الأدلة المتعرضة لطهورية الماء، وأنه
ليس على إطلاقه، بل لا بد من شرط فيه، وهو الكرية، فالأصل والعموم
الأولي هو أن الله تعالى خلق الماء طهورا لا ينجسه شئ (3) والاشكال في
سنده واضح الدفع، وفي دلالته - من جهات أخر - لا يضر بالمقصود هنا،

1 - الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 162.
2 - تقدم في الصفحة 83 - 84.
3 - المعتبر 1: 40، وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1،
الحديث 9.
349

ويستظهر لك بعض المحتملات الأخر.
مقتضى الأصول العملية في مجهولي التأريخ
وأما الثانية: فقضية الأصول العملية في مجهولي التأريخ هي
الطهارة، لتساقط الاستصحابين، أو لعدم جريانهما، لأجل فقد شرط اتصال
زمان الشك باليقين، كما في الكفاية (1) أو لأجل انصراف أدلة
الاستصحاب عنهما، أو لكون كل واحد منهما مثبتا.
وربما يخطر بالبال دعوى نجاسته، لما عرفت أن من المحتملات،
عدم كون الاعتصام مجعولا للماء، بل المجعول عدم الاعتصام للماء القليل،
فإذا أحرز بالاستصحاب القلة أو عدم الكرية إلى زمان الملاقاة،
فالتنجس من الآثار الشرعية، بخلاف استصحاب تأخر الملاقاة عن
الكرية، فإنه لا أثر له، لعدم جعل من الشرع على الكر الملاقي
للنجس.
وأما مع فرض جعل العصمة للكر الملاقي للنجس، فاستصحاب عدم
الملاقاة إلى زمان حصول الكرية، مثل الاستصحاب الأول، فإن كان هذا
مثبتا فهو مثله، فما توهمه بعض الأفاضل في المقام - من مثبتية هذا دون
ذاك (2) - غفلة وذهول.
كما أن توهم: أن عدم مثبتية الأصل الأول، لأجل أن الموضوع مركب

1 - كفاية الأصول: 480.
2 - لاحظ دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلد الأول: 196.
350

من جزءين، أحدهما: يثبت بالاستصحاب، والآخر: بالوجدان (1)،
في غير محله، لامتناع كون موضوع الحكم الواحد متعددا، فإن المركب من
جزءين، إن كان بين جزءيه ربط وتوصيف، فلا يمكن إثبات الكل بإجراء
الأصل في جزء، وضم الوجدان إليه في الجزء الآخر.
وإن لم يكن ربط بينهما، فلا يعقل تعلق الحكم الواحد بالمتباينين
بالضرورة والوجدان.
فتحصل: أن قضية الأصول العملية، تابعة لما يستفاد من الأدلة
الاجتهادية، وحيث إن الظاهر من الأدلة، أن طهورية الماء على أصل
خلقته، وليست من المجعولات الشرعية، ويوافقه العرف في ذلك،
فتكون المآثير في الباب، إخبارا عن الأمر العرفي المعلوم عند العقلاء،
فلا يجري إلا الأصل الواحد، وهو ما يقتضي نجاسته.
إن قلت: إذا لم يكن الموضوع في المقام مركبا ومقيدا، فلا بد من
تصويره على وجه معقول.
قلت: ما هو المستفاد هو القضية الشرطية، وهي أن الماء إذا كان
قليلا ينجس بالملاقاة وهذا الماء قليل بالاستصحاب، فينجس بالملاقاة
الوجدانية، فما توهم من أن الموضوع مركب ومقيد، ويكون الأصل مثبتا،
في غير مقامه.
فتحصل: أن الموافق للذوق وظواهر الأدلة، عدم جعل الطهارة أو
عدم النجاسة للماء الكر، بل المجعول شرعا هي النجاسة للقليل، وإذا

1 - نفس المصدر: 195.
351

كانت القضية المتكفلة لهذا الجعل، على نعت القضية
الشرطية، فلا يلزم كون الأصل الجاري في المسألة من الأصل المثبت.
وما قيل: من رجوع القضايا الشرطية إلى القضية البتية،
برجوع الشرط إلى وصف الموضوع في غاية الوهن والسقوط.
ثم إن العلامة النائيني - أخذا عن نكاح الجواهر - بنى على
أمر واضح المنع (1)، على ما مر تفصيله (2)، وهو نجاسة الماء هنا، لأجل ما
قال به في المشكوك كريته مع الجهل بحالته السابقة، ولا نعيده، حذرا
عن اللغو المنهي، فتدبر.
مختار صاحب الكفاية ونقده
وأما إطالة البحث حول المسائل الأصولية المتعلقة بالمسألة
من جهات عديدة، فهي مزعجة جدا.
وإجمالها: أن حديث اعتبار اتصال زمان الشك باليقين، أجنبي عن
هذه المواضيع، وإن توهمه صاحب الكفاية (3) وثلاثة من أتباعه (4)،
ومثبتية الأصلين معا ممنوعة، فجريانه ذاتا غير ممنوع.
إلا أن يقال: بأن الظاهر من أدلة الاستصحاب، كون الشك في الأمر
السابق فعليا في الزمان الحال، دون الماضي والاستقبال، فإذا شك في

1 - دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلد الأول: 107.
2 - تقدم في الصفحة 217.
3 - كفاية الأصول: 480.
4 - فوائد الأصول 4: 515، نهاية الدراية: 211 - 212، نهاية الأفكار 4: 213 - 214.
352

عدالة زيد في الحال، فهو مجرى الاستصحاب، بخلاف ما إذا شك في
بقائها إلى يوم الجمعة مع القطع بفسقه يوم السبت.
وهكذا إذا شك في بقائها إلى يوم كذا مع القطع بوجودها فعلا، كما
مثلوا لذلك بالشك في بقاء رمضان إلى يوم الاثنين مثلا، وهو فعلا في أثناء
رمضان، فإن جريانه فيهما محل الكلام، ولكن النظر إلى قضية عدم جواز
نقض اليقين بالشك، يعطي عدم الفرق بين الصور الثلاث، فتدبر.
عدم الفرق بين احتمال مقارنة الحادثين وعدمه
ثم إن الظاهر عدم الفرق فيما أسلفناه، بين كون المفروض عدم
احتمال المقارنة بين الحادثين - الكرية والملاقاة - وبين احتمالها، فإن
استصحاب بقاء القلة إلى الملاقاة، إذا كان أثره موقوفا على إجرائه إلى
ما بعد الملاقاة، فهو يجري، لتمامية أركانه كما لا يخفى.
نعم، إذا كان أمر الملاقاة، دائرا بين تقدمها على الكرية، أو مقارنتها
معها، ولا يحتمل تأخرها عنها، فعند ذلك يلزم كون أمر الكرية أيضا، دائرا بين
المقارنة مع الملاقاة، والتأخر عنها كما هو الظاهر، فعلى هذا يشكل
جريان الاستصحاب.
اللهم إلا أن يقال: بأن الحكم في صورة تقارن الكرية والملاقاة هو
النجاسة، وسيأتي تحقيقه في بعض الفروع الآتية، فإنه عند ذلك يحكم
بنجاسة الماء المفروض في المسألة، وهو الكر المسبوق بالقلة.
353

بيان للمعارضة بين الأصلين
وربما يخطر بالبال أن يقال: بمعارضة الأصل الجاري في ناحية إبقاء
القلة إلى الملاقاة، بالجاري في الطرف الآخر بوجه آخر، وهو أن
المقصود من تأخر الملاقاة إلى الكرية، إن كان إثبات أن اللقاء كان على
الكر، أو أن الكر لاقى النجس، فهو من المثبت بالمعنى الذي ذكرناه، لا
بالمعنى الذي أفاده القوم رضي الله عنهم.
وإن كان المقصود نفس التعبد بعدم الملاقاة إلى الكرية، فهو
ليس مثبتا بالضرورة، فعليه يرجع إلى قاعدة الطهارة أو استصحابها.
ولو صح ما قيل: من أن الأصل الجاري في الطرف الأول كان مثبتا
يلزم جريان هذا الأصل بلا معارض.
هذا كله فيما كان تأريخ الحادثين مجهولا.
مقتضى الأصول العملية في معلوم الكرية تأريخا
وأما لو كان تأريخ الكرية معلوما، فإن قلنا: بعدم جريان الأصل في
معلوم التأريخ، لقصور الأدلة عن شموله، فالقول بالطهارة متعين، لأن
نفس التعبد بعدم الملاقاة إلى زمن الكرية، كاف في ترتيب آثار الطهارة.
ولو أشكل الأمر في جريانه - وهو أن نفي السبب، لا يستلزم نفي
المسبب إلا عقلا، فنفي الملاقاة لا يكفي لترتيب آثار الطهارة - فلا محيص
عن قاعدة الطهارة.
354

وإن قلنا: بجريانه، وإن معلومية تأريخ الكرية، لا تورث معلومية
نسبتها إلى زمان حدوث الملاقاة، فإن معلومية الشئ بحسب أصل
الوجود، لا تنافي مجهوليته بحسب بعض الخصوصيات، فإذا كانت الكرية
معلومة العدم، فهي بجميع خصوصياتها معلومة العدم، وإذا تحقق وجودها
يشك في وجود بعض خصوصياتها، فيجري الاستصحاب بالنسبة إلى تلك
الخصوصية، وهي هنا المقارنة مع الملاقاة، وهكذا تقدمها عليها،
فيتعارض الأصلان: أصل عدم ملاقاة هذا الماء مع النجس إلى الكرية،
وأصل عدم تقدم كرية هذا الماء على الملاقاة.
وأنت خبير بما فيه، لا من أجل كونه من الأصل الجاري في العدم
الأزلي، فإنه عندنا في خصوص بعض الصور جار، بل لأجل مثبتيته
الظاهرة، فلا تغفل.
ثم إن حكم الفرض الأخير - وهو ما إذا كان تأريخ الملاقاة معلوما - يظهر
مما سبق، والقائل بنجاسته تشبث بتعارض الأصلين أولا، وإجراء الأصل في
الطرف المقتضي للنجاسة فقط ثانيا، بدعوى مثبتية الأصل الآخر، فتدبر.
الرابع: في حكم القليل المسبوق بالكرية الملاقي للنجاسة
القليل المسبوق بالكرية الملاقي لها، إن جهل التأريخان،
أو علم تأريخ الملاقاة، فالمعروف فيه هي الطهارة (1)، وقيل:

1 - العروة الوثقى 1: 37، فصل في المياه، المسألة 8، مستمسك العروة الوثقى 1: 167،
مهذب الأحكام 1: 193.
355

بالنجاسة (1).
وإن علم تأريخ القلة، فالأكثر على نجاسته، وعن جماعة طهارته (2).
أقول: قضية الأدلة الاجتهادية ما عرفت، ومقتضى الأصول العملية
هنا في مجهولي التأريخ - على المشهور بين الأصحاب - تعارضها
والتساقط، وعلى قول عدم جريانهما ذاتا، وقد مر ما يتعلق بذلك (3).
الكلام حول أصالتي عدم القلة وعدم الملاقاة
يبقى الكلام: في أن أصالة عدم القلة إلى حال الملاقاة، ليست
ذات أثر شرعي على ما احتملناه، من أن عدم النجاسة ليس من الأحكام
المجعولة على الكر الملاقي للنجس.
وأما أصالة عدم الملاقاة إلى القلة، فإن أريد بها إثبات وقوع
الملاقاة على القليل، فهو من المثبت.
وإن أريد بها نفس التعبد بعدم الملاقاة، فلا يكون مثبتا، لأنه يحرز به
موضوع القضية الشرعية، وهو أن الماء القليل إذا لم يلاقه النجس
لا ينجس وهذه القضية مفهومة من منطوق القضية الواردة وهي أن
القليل إذا لاقاه النجس ينجس.
وأما دعوى: أن استصحاب بقاء الكرية إلى حال الملاقاة، يورث

1 - دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلد الأول: 199.
2 - دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلد الأول: 200، مستمسك العروة الوثقى
1: 167.
3 - تقدم في الصفحة 350 - 351.
356

سقوط أثر الملاقاة، وأما أصالة عدم الملاقاة إلى القلة، فليست
ذات أثر شرعي، لأن نفي سبب النجاسة إلى حال حدوث القابلية لها -
وهي القلة - لا يورث تأثير السبب فيها إلا بالأصل المثبت، لعدم دليل
على جعل القضية المذكورة بنحو القضية الشرطية.
وبعبارة أخرى: الواصل إلينا من الشرع، إن كان هكذا: الكرية
علة عدم الانفعال، والقلة علة الانفعال فإن التعبد بعدم العلة لا يستلزم
شرعا التعبد بعدم المعلول، لعدم تكفله بجعل الحكم الشرعي.
وإن كان هكذا: إذا كان الماء قليلا ينجس بالملاقاة فإذا أحرز عدم
قلته بالأصل، فهو من قبيل إحراز الموضوع بالنسبة إلى الحكم، فيصح
التمسك به (1).
فغير مسموعة، لما يمكن أن يقال: بأن الأمر لو سلمنا يكون كذلك،
فظاهر الأدلة هو الثاني، فإن مفهوم أخبار الكر هو أنه إذا لم يبلغ كرا
ينجسه الشئ بالملاقاة وإذا أحرز عدم الملاقاة إلى القلة فيترتب
عليه الطهارة، لأن المفهوم من القضية المذكورة هو أن القليل إذا لم
يلاقه النجس لا ينجس فليتدبر جدا.
ومن هنا يعلم وجه القول بالنجاسة في جميع صور المسألة،
ولا نحتاج إلى التفصيل، لخروج المسألة عن طور الكتاب.
كما ظهر وجه القول بالطهارة في جميعها، فإن أصالة بقاء الكرية
ليست مثبتة، بخلاف أصالة عدم الملاقاة إلى حدوث القلة، ففي
المجهولين يجري الأصل الأول دون الثاني، وفيما كانت القلة معلومة

1 - دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلد الأول: 200.
357

لا يجري الأصل الأول ذاتا، أو يجري ولا يعارضه الثاني، وفيما كانت
الملاقاة معلومة إما لا تجري ذاتا، أو تجري ولا تعارض الأول أيضا.
الوجه في تفصيل الفقيه اليزدي
وأيضا انقدح مما مر وجه القول بالتفصيل، كما هو مختار الفقيه
اليزدي (رحمه الله) (1) وجماعة (2)، فإنه (قدس سره) بنى على طهارة الماء في المجهولين
ومعلوم الملاقاة، وعلى النجاسة في الصورة الثالثة، واحتاط في
الأولين، وذلك لتعارض الأصلين، وعدم جريان الأصل في معلوم التأريخ.
ووجه الاحتياط، قوة جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية،
أو قوة موافقة العرف على أن المستثنى في مثل المسألة، هو محرز
الكرية، ففي الماء المشكوك كريته غير الجاري فيه الأصل المحرز به
قلته، يرجع إلى العام المخصص.
ومن العجب، أن بعض شراح كلامه غفل عن وجه احتياطه (3)!!
فلا تخلط.
الخامس: في حكم المسبوق بالكرية والقلة
المسبوق بالكرية والقلة، المجهول حالته السابقة والفعلية،

1 - العروة الوثقى 1: 37، فصل في المياه، المسألة 8.
2 - العروة الوثقى 1: 37، المسألة 8.
3 - دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلد الأول: 199.
358

الملاقي للنجس، محكوم بالطهارة، لتعارض الأصلين، ولا أصل
يحرز به كون الملاقاة حال القلة، فيرجع إلى قاعدتها أو استصحابها.
أو هو محكوم بالنجاسة، لما مضى أن استصحاب الكرية لا أثر
شرعي لها (1)، لأن عدم انفعال الكر ليس من المجعولات الشرعية، بل
المجعول الشرعي هو انفعال ما دون الكر، وذلك لعدم الحاجة إلى
جعله، ولذلك كان الأقوى في أخبار الكر كونها مسوقة لبيان المفهوم،
ولذلك صار حجة عند أرباب الفقه والأصول مع عدم قولهم بحجيته،
فليتدبر.
وأما عدم مثبتية استصحاب القلة، فقد مضى وجهه (2).
وعلى القول بمثبتية هذا وذاك، فلا يجري الأصلان.
أو هو محكوم بالطهارة، لعدم مثبتية الأصل في جانب الكرية، دون
العكس، كما هو رأي الأكثر في أمثال المقام.
أو أن استصحاب القلة، معارض باستصحاب تأخر الملاقاة عن
الكرية، لمجهولية تأريخ الحوادث الثلاثة الواقعة على الماء
الشخصي الموجود.
ودعوى: أن تأخر الملاقاة لا أثر له شرعا، مدفوعة بأن نفس التعبد
به، كافية في عدم إمكان الحكم بالنجاسة، فتدبر.
فبالجملة: تتعارض الأصول وتتساقط، فيرجع إلى الأصلين الآخرين،

1 - تقدم في الصفحة 350.
2 - تقدم في الصفحة 351 - 352.
359

والمسألة بعد تحتاج إلى التأمل.
وأما القول بنجاسته بعد السقوط، وهما أن المستثنى من أدلة انفعال
محرز الكرية (1)، فقد فرغنا عن ضعفه مرارا.
السادس: في حكم تتميم القليل المتنجس
القليل النجس المتمم كرا بطاهر، أو نجس، أو متنجس بتلك
النجاسة، أو غيرها، لا يطهر على المشهور بين الأصحاب (2).
وعن المرتضى وسلار وابن البراج وابن سعيد بل وابن إدريس،
طهارته (3)، وعن السرائر نسبته إلى المحققين (4).
وحكي عن ابن حمزة في الوسيلة (5) بل وعن مبسوط الشيخ (6)،
التفصيل بين الاتمام بالطاهر والنجس، فيطهر بالأول، دون الثاني.
وحيث إن المسألة ليست إجماعية فلا خير في نقل الأقوال فيها،
والمتبع هو البرهان.
وهذه المسألة كانت معنونة في العامة، وقال الشافعي - كما في

1 - دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلد الأول: 192.
2 - الخلاف 1: 194، شرائع الاسلام 1: 4، جواهر الكلام 1: 150.
3 - جواهر الكلام 1: 150، رسائل الشريف المرتضى 2: 361، المراسم: 36،
المهذب، ابن البراج 1: 23، الجامع للشرائع: 18، السرائر 1: 63.
4 - جواهر الكلام 1: 150، السرائر 1: 63.
5 - مستند الشيعة 1: 50، الوسيلة: 73.
6 - مستمسك العروة الوثقى 1: 170، المبسوط 1: 7.
360

الخلاف - بالطهارة (1)، وهو المحكي عن ابن حي (2). ولها صور كثيرة:
لأنه تارة: يتم النجس بالنجس.
وأخرى: يتم الطاهر بالنجس.
وثالثة: يتم النجس بالطاهر.
وعلى كل تقدير:
تارة: يكون التتميم باستهلاك الطاهر في النجس، أو امتزاجه به،
بحيث لا يبقى عرفا.
وأخرى: يكون التتميم بالاتصال.
وأيضا تارة: يتم بالماء المتنجس.
وأخرى: يتم بالمضاف المتنجس.
وثالثة: يتم بالبول والخمر.
وحيث أن البحث في بعض الصور، يغني عن الآخر، فلا نطيل الكلام.
مع أن دعوى الضرورة على بطلان هذه الآراء في المسألة، غير خالية عن
الانصاف، ضرورة تأبي النفوس الشرعية عن قبول ذلك، فلو كان في
المسألة رواية صحيحة وظاهرة في ذلك، فلا يصار إليها، لقصور بناء
العقلاء على الاعتماد عليها في مثلها.
وعلى كل تقدير: يتم البحث في مقامين:

1 - الخلاف 1: 194، الأم 1: 5.
2 - المعتبر 1: 53، مستمسك العروة الوثقى 1: 171 - 172.
361

المقام الأول: في قضية الأدلة الاجتهادية
وهي مختلفة، فإن منها ما يستدل بها على الطهارة في جميع الصور،
ومنها ما يستدل بها عليها في بعض منها.
فمن الأولى: المشهورة المعروفة الصحيحة: الماء إذا بلغ قدر كر
لا ينجسه شئ (1).
فإن إطلاق الموضوع يشمل الماء المتنجس، وإذا بلغ بأي شئ كان
إلى كر - بحيث يصدق عليه الكر من الماء - لا ينجسه شئ، وحيث لا
معنى لعدم تنجيسه الشئ بعد تنجسه، فلا بد من زوال النجاسة ببلوغ
الكرية، حتى تصح الدعوى على الاطلاق.
ودعوى الاهمال، والأخذ بالقدر المتيقن منه - وهو الماء الطاهر -
كدعوى الانصراف في عدم تمامية الوجه الصحيح له.
وهذا التقريب لعدم ظهوره بذهن أحد، بعيد عن المتفاهم العرفي،
ولكن بعد المراجعة إلى فهم الأصحاب - رضي الله عنهم - في صحيحة ابن
بزيع (2)، وأن التعليل الوارد في ذيلها راجع إلى جملة محذوفة، وإلا
لا يستقيم التعليل، يسهل عليهم قرب ذلك هنا، لأن الاطلاق لا يستقيم إلا بزوال

1 - تهذيب الأحكام 1: 39 / 107، وسائل الشيعة 1: 158، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المطلق، الباب 9، الحديث 1.
2 - الإستبصار 1: 33 / 87، وسائل الشيعة 1: 172، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 14، الحديث 6.
362

النجاسة عن الكر المتنجس المتمم بالبول، فضلا عن غيره.
ومنها: النبوي الذي قال في حقه ابن إدريس: إنه مجمع عليه بين
المخالف والمؤالف (1) وهو: أن الماء إذا بلغ كرا لم يحمل خبثا (2).
وقد مر شطر من الكلام حوله (3)، وأن النسخ مختلفة، ولكنها
متقاربة، وبمضمونه أفتى الشافعي وابن حي من المخالفين كما مر، ولعله
منشأ ذهاب بعض الأصحاب، فليس متروكا بنحو كلي، وقد أرسلها السيد (4)
والشيخ (رحمهما الله) (5).
ومن الاجماع المزبور، وعدم وجوده في الكتب المأثورة والجوامع
الأولية، يعلم أن نظر ابن إدريس كان إلى أن هذه المرسلة كالمآثير
الواردة في الكر دلالة، وكان لا يرى اختلافا في المفاد بينهما، والله العالم.
وفي موضع من الخلاف نسبته إليهم (عليهم السلام) (6) وقد أذعن بانجباره
الجواهر (7).
فبالجملة: هي إما مختصة بالماء المتنجس، أو بالطاهر، أو لها
الاطلاق، فعلى الأول والثالث يتم المطلوب، ولا سبيل إلى تعيين الثاني،

1 - السرائر 1: 63.
2 - عوالي اللآلي 1: 76، مستدرك الوسائل 1: 198، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 9، الحديث 6.
3 - تقدم في الصفحة 154 - 157.
4 - الإنتصار: 8.
5 - المبسوط 1: 7.
6 - الخلاف 1: 174.
7 - جواهر الكلام 1: 152.
363

لظهور قوله: لم يحمل خبثا في أن الخبث كان محمولا عليه، فإذا
بلغ إلى حد كذائي، لا يتمكن من الحمل.
ولو أخذ بإطلاق الماء كما سبق، فلا بد من تصوير الجامع بين كون
الكرية دافعا ورافعا، وقد فرضناه في المسائل السابقة، وهذا مما لا يحتاج
إلى مزيد تأمل، كما لا يخفى.
ولو سلمنا استبعاده عرفا، فحمل إطلاق الصدر على الماء النجس،
ليس أهون من حمل إطلاق صدر الرواية السابقة على الماء الطاهر،
كما صنعه الأصحاب حسب ارتكازهم، فتكون هذه المرسلة مسوقة لبيان
رافعية الكر فقط، فليتدبر.
فبالجملة: آراء الأعلام في هذه المرسلة أربعة:
فذهب جمع إلى قوة سندها، وتمامية دلالتها (1).
وجمع إلى ضعفهما (2).
وبعض إلى ضعف السند، وقوة الدلالة (3).
وبعض عكس الأمر (4)، والله العالم.
وقد مر في موضع من كتابنا عن أبي حنيفة - ظاهرا -: أن هذه
المرسلة تدل على انفعال الكر بالملاقاة، كما لا يخفى.
ومنها: قصور الأدلة من اعتبار النجاسة في الكر المزبور، لأن

1 - السرائر 1: 63.
2 - المعتبر 1: 53، الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 155.
3 - دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلد الأول: 212 - 213.
4 - جواهر الكلام 1: 152.
364

المياه النجسة هي الكثيرة المتغيرة، والقليل الملاقي للنجس،
وأما هذا الكر فشمول الأدلة له - طهارة ونجاسة - مخدوش، فيرجع إلى
العمومات الأولية الفوقانية، وهو أن كل ماء خلق طهورا (1) فإن التمسك
بها - بعد إجمال المخصص - جائز عندهم.
فبالجملة: الاستدلال السابق إن تم فهو، وإلا فلا يتم دلالتها على نجاسة
الكثير الملاقي، فيرجع إلى العام السابق.
بل يمكن دعوى: أن مقتضى عدم جريان الاستصحاب في الشبهات
الحكمية، هو الطهارة في جميع الصور (2)، فإن استشكل في المراجعة
إلى العام، أو استشكل في سنده، أو في غير ذلك، فلا يلزم التفصيل بين
الصور.
اللهم إلا أن يقال: بأن عدم جريان الاستصحاب في الشبهات
الحكمية - على ما قربناه في سالف الزمان في كتاب الصلاة تفصيلا (3) -
مخصوص بالحكمية التكليفية، دون الوضعية، كما هو الظاهر.
ثم إنه غير خفي: بأن المراجعة إلى العام الفوقاني أو قاعدة
الطهارة، لا تنحصر بصورة دعوى قصور الأدلة، بل الأمر كذلك حتى لو تم
الاستدلال من الطرفين، لأن النسبة بين الأدلة عموم من وجه، والمرجع
بعد التساقط إلى الدليل الفوقاني أو قاعدة الطهارة، فتثبت الطهارة

1 - المعتبر 1: 44، وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1،
الحديث 9.
2 - التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 254.
3 - لم نعثر عليه فيما بأيدينا من مباحث الصلاة من تحريرات في الفقه.
365

الواقعية على الأول، والظاهرية على الثاني.
وتوهم عدم جواز المراجعة إلى القاعدة لو كان مفاد العام،
قابلية كل ماء للنجاسة (1)، كما هو المعروف عنهم، في غير محله، لأنه غير
نافع، وما هو النافع غير ثابت، وهو كون العام الأول هكذا: كل ماء نجس
وأما ثبوت القابلية بنحو العموم، فلا يورث رفع الشك عما نحن فيه، كما
لا يخفى.
أدلة الطهارة في بعض الصور
ومن الثانية: أن النجس المتمم بالطاهر، خارج عن مصب أدلة
انفعال القليل، لظهورها فيما كان القليل الطاهر ملاقيا للنجس، وغير بالغ
بالملاقاة إلى حد الكر، وإذا كان القليل المتمم - بالفتح - طاهرا، ومتحدا
مع النجس، ولا يكون للماء الواحد حكمان، فيحكم على الثاني بالطهارة.
وهذا التقريب واضح الفساد، لأن الماء المتغير المتحد مع غير
المتغير، نجس بمقدار تغيره، وطاهر قسمه الآخر، ولو كان فيه الامتزاج
العرفي كما مر، ولو كان المفروض الامتزاج بالنجس إلى حد الاستهلاك،
فلا يحكم عليه بشئ من الطهارة والنجاسة إلا تبعا للكل.
هذا، مع أن تعيين طهارة المجموع بلا مرجح، لأن الاجماع قائم على
عدم التعدد، لا الطهارة.
وقد يقال في تقريبه، كما عن الوالد المحقق - مد ظله -: بأنه إذا

1 - مستمسك العروة الوثقى 1: 171.
366

كان طاهرا مع ملاقاته للنجس، فيكون معتصما، وإذا كان معتصما فيطهر
الباقي بالاتصال به أو الامتزاج معه، لأنه في حكم المادة له (1)، وعموم
التعليل في صحيحة ابن بزيع (2) يشمل المقام، ولا يتوجه إليه حديث
الترجيح بلا مرجح.
ومنها: إذا حصلت الكرية والملاقاة في زمان واحد، فقد حكم
الأصحاب - إلا من شذ - بطهارته، وقضية إطلاق هذه الفتوى، طهارة
المجموع في هذه المسألة.
ومنها: قصور أدلة تنجيس النجاسات عن شمول هذه المسألة، فإن
القليل الطاهر ينجس بملاقاة النجس، إذا كان الملاقي باقيا بعد الملاقاة
عرفا، وإذا كان يستهلك بالملاقاة - كما إذا ألقي قطرة بول في ماء أقل من الكر
بمقدارها - فإن في تنجسه به إشكالا.
فبالجملة: الطاهر المتمم بالنجس ولو كان من غير المياه المطلقة
أو المضافة، لا ينجس بصرف الملاقاة له، لأن الاستهلاك والملاقاة في
زمان واحد عرفا.
وغير خفي: أن هذا الوجه يستلزم طهارة غير المتمم أيضا، كما هو
الظاهر.
هذا غاية ما يمكن تقريب الاستدلال به في جميع صور المسألة، أو
في بعضها، وهو - تشحيذا للأذهان - يذكر، ولذلك نحول أجوبتها إليهم

1 - الطهارة (تقريرات الإمام الخميني (قدس سره) الفاضل اللنكراني: 23 - 24 (مخطوط).
2 - تقدم في الصفحة 362، الهامش 2.
367

- حفظهم الله تعالى -.
المقام الثاني: في مقتضى الأصول العملية
لو سلمنا قصور الأدلة الاجتهادية، وقصور إطلاق معقد الاجماع عن
شمول بعض صور المسألة، ففيما كان التتميم بالاتصال أو الامتزاج
المحفوظ معه الموضوعان، فلا شبهة في لزوم الالتزام بالحكم السابق
على الاتصال، من النجاسة والطهارة، ولا منع من كون الماء الواحد من
جهة، متعددا وذا حكمين من جهة أخرى.
اللهم إلا أن يقال: بأن استصحاب النجاسة، حاكم على استصحاب
الطهارة بعد وجدان الملاقاة، من غير النظر إلى أدلة الكر، وأدلة انفعال
الماء القليل، بل النظر مقصور على أن هذا الطاهر جسم لاقى النجس
الاستصحابي.
وفيه: أنه غير كاف للحكومة، لتقومها بكون أحد الشكين مسببا عن
الشك الآخر، وفيما نحن فيه ليس الأمر كذلك، فإن الشك في طهارة الماء
مسبب عن الشبهة الحكمية، وهي أن الملاقاة مع هذا الماء النجس،
تورث النجاسة أم لا، والحكومة تكون في مورد كان الشك المزبور،
مسببا عن نجاسة الملاقي - بالفتح - ولذلك ينعكس ويقال: بأن الشك في
نجاسة الماء، مسبب عن كفاية الماء الآخر في تطهيره أم لا، فما عن
المصباح (1) خال عن التحصيل.

1 - مصباح الفقيه، الطهارة: 24 / السطر 8.
368

وما اشتهر: من تعارض الأصلين، للاجماع على وحدة الحكم في
غير محله في بعض الصور المزبورة، وأما في صورة الامتزاج فلعل معنى
الاجماع، يرجع إلى أن الموضوعين غير باقيين، فلا يعقل تعدد الحكم مع
وحدة الموضوع، كما في صورة الاستهلاك.
فبالجملة: فيما بقي الموضوع الواحد فيلتزم بحكمه فقط، دون
الموضوع الآخر، لانتفائه.
مثلا: إذا ألقي مثقال من الطاهر في المتنجس المتمم به، فإن
استصحاب نجاسته غير معارض، وهكذا في عكسه، فإن استصحاب طهارته
غير معارض.
وإذا كانا نجسين، واستهلك كل منهما - بحيث لا يمكن الإشارة إلى
الموضوع لاجراء الاستصحاب - فاستصحابهما يسقط، وإجراء الاستصحاب
في الموجود المؤلف منهما محل إشكال، لأنه لا يقين بنجاسته قبل ذلك، فما
كان متيقن النجاسة معدوم حال الشك، وما هو حال الشك موجود غير
متيقن النجاسة، فتصير النتيجة قاعدة الطهارة في هذه الصورة.
بل فيما إذا كان تتميم النجس بالاتصال بنجس آخر، يمكن دعوى
تعارض الاستصحابين، كما ادعاه الأصحاب في المتمم بالطاهر، وذلك لأن
الاجماع القائم على وحدة الحكم، ليس ناظرا إلى وحدة الحكم بحسب
الطهارة والنجاسة، بل هو ناظر إلى وحدته على الاطلاق، فلا يكون الماء
الواحد محكوما بنجاستين، فعليه يتعارض الأصلان، ويرجع إلى قاعدة
الطهارة.
وبناء عليه، يلزم في النجس المتمم بالنجس، اختيار الطهارة، سواء
369

كان التتميم بالاستهلاك حتى لا يجري الأصلان، أو كان بالاتصال حتى
يتعارضا.
ومثلها التتميم بالامتزاج، وهكذا في النجس المتمم بالطاهر
المستهلك فيه، بل والممتزج به، للشك في بقاء موضوع الاستصحاب عرفا.
وليعذرني إخواني لو خرجت عن طور المسألة والكتاب.
تذنيب: في تتميم القليل المتنجس بغير الماء
القليل المتمم بالطاهر من سائر المائعات، بل ومثل التراب - إذا
لم يصر مضافا بها، وسلب الاسم عن المتمم به - معتصم أم لا، فيه وجهان:
من أنه الكر من الماء، والمراد من الماء أعم مما كان صافيا غير
خليط بشئ، أو كان مخلوطا بمقدار من التراب، أو ماء الورد، أو النفط، أو
غير ذلك.
ومن أن المدار على الدقة العرفية في المقادير والمساحات،
ولا يجوز الاتكال على الاطلاقات المسامحية إلا مع الدليل، وفيما كان
الماء خليطا بمقدار من الأشياء الأخر طبعا، فالسيرة القطعية قائمة على
كفايته وعصمته، لأن المياه المتعارفة في عصر المآثير، كانت غير
صافية، كما في الزكاة المخلوط بها مقدار من الأحجار والتراب وغيرهما،
فإن الجابي الدائر في المزارع، الأخذ من الغلات بعنوان الزكوات، من
قبل أمير المؤمنين عليه الصلوات، لا يأخذ الحنطة الصافية قطعا، فعليه
لو خلطها بعد صفائها بمقدار من الحنطة، فلا دليل على الاجتزاء به ولو كان
370

أقل من المقدار الذي فيها بالطبع والعادة.
فلو كان كر من الماء، فيه من من التراب على العادة، فهو معتصم،
بخلاف ما إذا كان أقل بمثقال، فخلط بالتراب حتى صار بحسب الوزن كرا،
فإنه ليس بمعتصم.
ولك التفصيل بين ما يخالطه بالاستهلاك - فإنه وإن لم يكن كرا،
وليس الآن أيضا كرا من الماء، لعدم الاستهلاك الحقيقي، بل وامتناعه، إلا
أنه خلاف المرتكز العرفي، ولا سيما بعد كونه أصفى من المياه الآخر بعد
ذلك أيضا - وبين ما يخالطه لا بالاستهلاك.
مثلا: المتعارف في المياه، وجود بعض الجوامد المرئية بالبصر،
فإن الماء إذا بلغ كرا بها فهو معتصم، للملازمة النوعية بينها وبين الكر،
خصوصا في المدينة المشرفة، ومكة المكرمة، وإذا كان تتميم الكر
بإلقاء شئ فيه، فهو غير موجب لكونه معتصما، بخلاف الفرض الأول،
والله العالم.
مسألة: في تقارن الكرية والملاقاة وزوال الكرية بالملاقاة
حدوث الكرية والملاقاة في آن واحد، كزوالها والملاقاة في آن
واحد. ولو زالت الكرية بالملاقاة - كما لو شرب الكلب منه - فالظاهر
نجاسته.
اللهم إلا أن يدعى قصور شمول أدلة الانفعال لمثله، أو دعوى ظهور
الملاقاة في اللقاء المصدري، ولا يكفي اللقاء بقاء.
371

ذنابة: في أن العبرة بالاستهلاك لا التتميم
قضية ما تحرر منا في محله: أن المياه النجسة بالملاقاة، لا تطهر
ولو تممت بألف كر، فإن طريق تطهيرها الاستهلاك العرفي، دون الامتزاج، ولا
الاتصال (1).
نعم، لو كان الاستهلاك والتتميم في آن واحد، فللقول بطهارة الكل
وجه، كما لا يخفى.

1 - تقدم في الصفحة 150 - 151.
372

المبحث السادس
في ماء الغيث
والبحث حوله يتم ضمن جهات:
373

الجهة الأولى
في موضوع المسألة
وهو ماء المطر والمطر وهو بحسب اللغة: عبارة عن ماء
السحاب، والماء المنسكب من السحاب، وقضية إطلاقه - بعد اعتراف
جمع، مع التأييد ببعض الآثار - كون جميع المياه ماء المطر، كما مضى
تفصيله (1).
وضعف هذه المقالة، لا يحتاج إلى مزيد تدبر، ولا سيما أن المدار
على الصدق العرفي ومساعدة أهل اللغة، فما هو المراد منه، هو الماء
النازل من السحاب، طبيعيا كان، أو مصنوعيا، كما تعارف في اليوم من
إرسال الأبخرة إلى السماء، فإذا وصلت إلى الحد الخاص يتقاطر وينزل،
فإنه أيضا مطر قطعا، ولا يشترط في صدق العنوان المذكور شئ آخر.
نعم، كون الماء النازل بحد خاص في القوة والكثرة والكبر، حتى

1 - تقدم في الصفحة 25 - 26.
375

يوصف بعنوان المطر أمر آخر خارج عن وظيفة الفقيه.
ودعوى انصراف الأدلة عن النادرة القليلة والضعيفة في
المطهرية، غير بعيدة، ولكنها غير داخلة في الصدق اللغوي، فإن المتفاهم
منه أعم من كونه ذا قوة، أو ذا جثة، أو ذا كثرة، ولذلك كثيرا ما يستعمل كلمة
القطرة في المطر، فيقال: نزلت قطرة مطر أو قطرات كما في المآثير
والروايات (1)، وهذا يؤيد ما ذكرناه.
فبالجملة: في كونه ماء مطر اتفاق، وعليه الضرورة والوجدان.
حول بعض المصاديق التي يشك في صدق المطر عليها
بقي الكلام في المصاديق الأخر:
منها: المياه المجتمعة من المطر المتقاطر عليها فعلا من السماء،
فهل هي أيضا مطر؟
لا شبهة في كونها منطبقا عليها عنوان المطر وما عن العلامة بحر
العلوم: من أنها ليست منه، وجعلها من الراكد المعتصم بالمطر (2)، غير
موافق للذوق، والاستعمال، ولظاهر اللغة، لأن المطر هو المنسكب من
السحاب، وليس في كلامهم تقييد بحال نزوله وتقاطره، وسيتضح لك ما
ألجأه إلى الالتزام المزبور.
ومنها: المياه المجتمعة من غير المطر المتقاطر عليها من السماء،

1 - وسائل الشيعة 1: 144 - 148، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6.
2 - مهذب الأحكام 1: 208.
376

فإنها ليست منه لغة وعرفا، ويشهد للأول أن النازل عليه إذا كثر
على المجتمع من ماء البئر مثلا - بحيث غلب عليه - ربما يؤدي إلى
انسلاب اسمه، ويصدق عليه بعد الغلبة ماء المطر والغيث وما هذا إلا
لأجل أن العرف يجد الموجود المجتمع ماء المطر.
ومنها: المجتمع من ماء المطر المتقاطر عليه من السماء قطرات
خفيفة، فإنه - على ما عرفت منا - يعد ماء الغيث والمطر لصدقه على
النازل.
وقد يقال: بأن عدم صدق المطر على القليل والقطرة، يورث عدم
صدق المطر على المجتمع المزبور (1).
وأنت خبير: بممنوعية هذا. نعم دعوى انصراف الأدلة هنا ممكنة، إلا
أنها غير مرضية، فما يظهر من القوم، بل والمشهور، من اخراج مثله عن
موضوع المسألة، غير قابل للتصديق جدا.
اللهم إلا أن يقال: بأن المشهور اعتبروا في صدق المطر القوة
والاشتداد إذا أريد زوال النجاسة به. وأما إذا أريد زوالها بالمجتمع حال
التقاطر عليه، فلا يعتبر عندهم شدة تلك القطرة وذلك المطر.
ومنها: الفرض السابق مع انقطاع المطر ثم اتصاله، بأن تكون
السماء ذات فيض وإمساك، وذات إضافة وبسط طبعا في منطقة، فإن هذا
الانقطاع المعلوم اتصال المطر بعده بساعة أو ساعتين، يورث انسلاب اسم
المطر وماء الغيث عن المجتمع المزبور ظاهرا عندهم.

1 - التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 263.
377

نعم، ولكنه لا يخلو من مناقشة، ضرورة أنه ماء من السحاب
موضوعا، وإخراجه حكما يحتاج إلى الدليل، بعد ثبوت الاطلاقات، وقصور
الأدلة المقتضية لانفعال القليل عن شموله، كما سنشير إليه، ومن
الممكن دعوى أن هذه الفترة ليست مضرة، لأن بناء ماء المطر على الفترة
والانفعال.
ومنها: الفروض الأخر، مثل كون النزول على قطعة من المجتمع
دون تمامه، ويتصور ذلك في الطست، فإنه إذا كان جانب منه تحت
السماء، وجانبه الآخر تحت السقف، فهل هو كاف في صدق ماء المطر؟
الظاهر نعم.
الجهة الثانية: في اعتصامه ومطهريته
أما الثانية بل والأولى فهي في الجملة مورد الاتفاق، وعليها دعاوي
الاجماعات المنقولة والمحصلة (1). ولا نحتاج إليها، لأنها القدر المتيقن
من الكتاب، وقد مر ممنوعية شموله لغيرها (2).
نعم، استفادة العصمة منه مشكل، ضرورة أن المطهرية المستفادة
من الكتاب، أعم منها، وغاية ما يستفاد من توصيفه ب‍ " الطهور " زيادته
على أصل الطهارة المشترك معه سائر الأشياء، ولكن تلك الزيادة هي التي
تتصور في التراب والأرض، وهي المطهرية دون العصمة.

1 - مستند الشيعة 1: 26، جواهر الكلام 6: 312.
2 - تقدم في الصفحة 25 - 26.
378

وقد مر شطر من البحث حول ذلك في بدو الكتاب (1).
نعم، قضية انفعال ماء المطر حين التقاطر، اعتبار العسر والشدة،
وهو كذلك، إلا أنه ليس من الاستدلال بالكتاب.
فبالجملة: اعتصام ماء المطر ومطهريته في الجملة، أمر قطعي لا
غبار عليه، ولا شبهة تعتريه، وسيظهر لك في ضمن بعض الجهات الأخر
بعد نقل مآثير المسألة، إن شاء الله تعالى.
ومما يشهد على ذلك، مفروغية المسألة في عصر الأخبار، لأنها
سيقت لبيان أمر آخر زائد على أصل العصمة، وتدل عليها السيرة القطعية
العملية من الجاهل والعالم.
ويشهد لها: أن اعتبار نجاسة غسالته، يستلزم لغوية اعتبار
مطهريته نوعا، لأن الغسالة من كل شئ في الأرض، تلاقي الشئ الآخر
قهرا، وإذا صارت طاهرة بالمطر بعد الانفصال، فاعتبار نجاسته لغو نوعا.
الجهة الثالثة: في حكم الشك في العصمة والمطهرية
إذا شك في شرطية شئ في عصمته ومطهريته، فقضية الاطلاقات
في أصل الماء وبعض المطلقات هنا عدمه، لعدم رجوع الشك المزبور
إلى الشك في الموضوع، وهو مطهرية المطر.
مثلا: إذا شك في شرطية كون المطر بحيث إذا كان على الأرض
المتعارفة صلابة ورخوة يجري، فإنه شك في شرط شرعي، وإلا فصدق

1 - تقدم في الصفحة 18 - 19.
379

المطر غير موقوف عليه قطعا، كما عرفت توضيحه سابقا.
وهكذا لو شك في شرطية جريانه من الميزاب، كما عن التهذيب
والمبسوط والوسيلة والجامع (1) ونسب الأول إلى ابن حمزة في
الوسيلة خاصا أيضا (2).
ومثلهما الشك في اعتبار كريته، كما نسب إلى العلامة (3)، أو
الشك في اعتبار كون الماء أكثر من النجاسة، كما قال به الأردبيلي (4)
والمعالم (5) فإنه لو تم العموم والاطلاق فالمرجع واضح، وإنما
الاشكال في تماميتهما، وذلك لعدم قيام دليل - كما مضى - على عصمة
المياه على الاطلاق (6).
نعم، النبوي الوارد في محله (7) تام الدلالة، غير ظاهر انجباره، وإن
اشتهر شهرة كافية جدا بين المخالف والمؤالف.
وتوهم إطلاق مآثير تغير الماء، مندفع بما مضى تفصيله (8)، فبقي

1 - تهذيب الأحكام 1: 411، ذيل الحديث 1296، المبسوط 1: 6، الوسيلة: 73، الجامع
للشرائع: 20.
2 - لاحظ مستمسك العروة الوثقى 1: 176، الوسيلة: 73.
3 - مفتاح الكرامة 1: 63، جواهر الكلام 6: 314.
4 - مجمع الفائدة والبرهان 1: 256.
5 - لاحظ مفتاح الكرامة 1: 63.
6 - تقدم في الصفحة 20 وما بعدها.
7 - المعتبر 1: 44، وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1،
الحديث 9.
8 - تقدم في الصفحة 131 - 132.
380

احتمال وجود الاطلاق في خصوص روايات المسألة، فلنشر إليها:
الاطلاقات النافية للشرطية
فمنها: ما رواه الكافي معلقا، عن أحمد بن محمد، عن علي بن
الحكم، عن الكاهلي، عن رجل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قلت: أمر في
الطريق، فيسيل علي الميزاب في أوقات أعلم أن الناس يتوضأون.
قال: قال: ليس به بأس، لا تسأل عنه.
قلت: ويسيل علي من ماء المطر، أرى فيه التغير، وأرى فيه آثار
القذر، فتقطر القطرات علي، وينتضح علي منه، والبيت يتوضأ على
سطحه، فيكف على ثيابنا.
قال: ما بذا بأس، ولا تغسله، كل شئ يراه ماء المطر فقد طهر (1).
وقد يقال: بانجبار الارسال بعمل الأصحاب (2)، وفيه ما لا يخفى.
وغاية ما يمكن أن يقال تقريبا للاستدلال: إن هذه الرواية مشتملة
على ثلاثة أسئلة:
اشتملت الفقرة الأولى إلى قوله (عليه السلام) مثلا لا تسأل عنه ومفادها
واضح، وظاهر قوله: فيسيل علي الميزاب وقوع ماء الميزاب عليه،
وظاهر قوله: في أوقات هو أنه ليس ماء المطر، لعدم تعارف التوضؤ

1 - الكافي 3: 13 / 3، وسائل الشيعة 1: 146، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 6، الحديث 5.
2 - جواهر الكلام 6: 316.
381

حين نزول المطر.
واشتملت الفقرة الثانية إلى قوله: وينتضح علي منه على
السؤال الآخر من غير جواب، وظاهر قوله: يسيل علي وقوعه على بدنه
وثيابه، ولكن قضية قوله: أرى فيه التغير، وأرى فيه آثار القذر أن
السيل كان على الطريق، حتى يمكن الرؤية المزبورة، وظاهر قوله:
فتقطر وقوع القطرات عليه، أي على بدنه وثيابه، ولكن قضية قوله:
وينتضح علي منه وقوع هذه القطرات إلى جانبه وطرفه، ومن تلك
القطرات ينتضح عليه، أي على بدنه وثيابه، كما هو المتعارف، فلا تهافت
بين الفقرات.
واشتملت الفقرة الثالثة على السؤال الثالث، وظاهر قوله:
يتوضأ على سطحه وقوله: ويكف - أي ويتقطر على الثياب - أنه كان
في أوقات لا ينزل المطر فيها.
فأجيب بجواب للمسألتين، فإن قوله (عليه السلام): كل شئ يراه ماء المطر
فقد طهر جواب للمسألة الثانية حقيقة، وجواب للثالثة أيضا، لأنه
بذلك يلزم الشك في كونه نجسا، لاحتمال زوال النجاسة بالمطر المطهر،
وتكون المسألة - حسب المتعارف - عن مجهولي التأريخ، فلا تغفل.
فعلم مما مر: أن ماء المطر لا يتنجس بملاقاة النجس، وإلا كان يجب
الاجتناب عن القطرات الناضحة على ثيابه، ويجب تغسيله، وهذا هو
المقصود من عصمة المطر ومطهريته.
382

توهم ظهور الرواية في عدم تنجس ماء المطر وسكوتها عن العصمة
إن قيل: ظاهرها عدم تنجس ماء المطر بالتغير، وهو ضروري
البطلان.
وأيضا: ظاهر قوله (عليه السلام): كل شئ... أن ماء المطر مطهر، وأما
عصمته فهو ساكت عنها.
قلنا: أولا: قد التزمنا في محله، قصور الأدلة عن إثبات تنجس الماء
المتغير (1).
وثانيا: ظاهر قوله: أرى فيه التغير وآثار القذارة عدم تغير الماء
حقيقة، بل فيه مرتبة من التغير بالنسبة إلى بعض قطعات الماء.
وثالثا: ظهور الذيل فيما أشير إليه مما لا يكاد ينكر، إلا أن تطبيقه
على المورد المسؤول عنه، شاهد على أن كل ماء إذا كان مطهرا لشئ، فهو
لا ينفعل بذلك الشئ، فتدل الرواية على طهارة غسالة كل المياه.
ومما ذكرناه يظهر تمامية الاستدلال، من غير فرق بين اشتمال الرواية
على قوله: ويسيل علي ماء المطر وعدم اشتمالها كما هو الظاهر،
واختلاف النسخ لا يضر بالمطلوب.
دعوى عدم إطلاق ذيل الرواية السابقة وجوابها
إن قلت: إطلاق الذيل ممنوع، لظهور الصدر في أن المراد من

1 - تقدم في الصفحة 120.
383

المطر المطهر هو السائل الجاري، أو ظهوره في أن المراد من
ماء المطر هو السائل من الميزاب، أو ظهوره في أنه هو السائل على
وجه الأرض، لعدم وجود كلمة الميزاب في الفقرة الثانية.
قلت: قضية ما تحرر منا في محله، أن خصوصية السؤال إذا كانت
في الجواب ملغاة، تورث تأكيد الاطلاق، لأن ذلك يرجع إلى إعراض
المجيب عنها، بإعطاء القانون الكلي المفيد في كل مقام.
ومنها: ما رواه الفقيه في الصحيح، عن هشام بن سالم: أنه سأل
أبا عبد الله (عليه السلام) عن السطح يبال عليه، فتصيبه السماء، فيكف فيصيب
الثوب.
فقال: لا بأس به، ما أصابه من الماء أكثر منه (1).
وجه الاستدلال: أن ما أصابه غسالة المتنجس، وهي إذا كانت طاهرة
يكون المطر مطهرا ومعتصما.
نعم، يعلم منه لزوم إحاطة المطر بالمتنجس، وغلبته عليه،
ولا تكفي الأمطار القليلة جدا التي لا تحيط بالجسم، ولا تكون أكثر.
بل يستفاد من الجواب، أن كل ماء إذا كان أكثر من النجس وواردا
عليه، يكون مطهرا ومعتصما، فتكون الغسالة من كل المياه طاهرة.
وتوهم: أن الوكوف من الكنيف يلازم الجريان وكثرة معتنى بها،
فيورث الخلل في الاطلاق (2)، فاسد كما مر.

1 - الفقيه 1: 7 / 4، وسائل الشيعة 1: 144، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 6، الحديث 1.
2 - مستمسك العروة الوثقى 1: 175.
384

ثم إن المراد من الأكثرية هي الأكثرية في الإصابة، أي أن
السطح الذي أصابه البول، ما أصابه من المطر، أكثر مما أصابه من
البول، وهذا أمر فعلي لا يلاحظ فيه القوة، فما قد يتوهم من قصور دلالته (1)،
من قلة التدبر.
ويمكن دعوى: أن أكثرية الماء نوعية لا دائمية، وليس الشرط إلا
نوعيته، لظهور الجملة في كونه حكمة لجعل الماء مطهرا معتصما، لا
علة كما لا يخفى.
فبالجملة: إذا كان ما أصابه من الماء، أكثر مما أصابه من النجس فهو
الكافي. ويعلم الأكثرية بالوكوف، لأنه لا يمكن إلا بعد إصابة السطح، فما
أصاب السطح من البول، يصير أقل قهرا.
ومنها: معتبر علي بن جعفر في كتابه، عن أخيه موسى (عليه السلام) قال:
سألته عن الرجل يمر في ماء المطر، وقد صب فيه خمر فأصاب ثوبه، هل
يصلي فيه قبل أن يغسله؟
فقال: لا يغسل ثوبه ولا رجله، ويصلي فيه، ولا بأس به (2).
ودلالتها على أصل العصمة واضحة، ولكنها لا إطلاق لها بالنسبة
إلى مطلق المطر.
وفي نفسي أن المطر اصطلاحا في المآثير وفي المرتكز العرفي،

1 - ذخيرة المعاد: 121 / السطر 38.
2 - مسائل علي بن جعفر: 220 / 490، وسائل الشيعة 1: 145، كتاب الطهارة، أبواب
الماء المطلق، الباب 6، الحديث 2.
385

غير ماء المطر، فإنه هو الماء النازل حين نزوله وإصابته للأرض،
وأما إذا اجتمع في حفرة فهو ماء المطر وهذه الرواية ناظرة إليه كما
لا يخفى.
ومنها: معتبر هشام بن الحكم، عن أبي عبد الله (عليه السلام): في ميزابين سالا،
أحدهما بول، والآخر ماء المطر، فاختلطا، فأصاب ثوب رجل، لم يضره
ذلك (1).
وقد مر تفصيل البحث حولها في أوائل الكتاب (2)، ولا إطلاق لها، بل
هي تشهد - على حسب التعارف - أن ماء المطر بعد الانقطاع محكوم
بالعصمة، لأن لازم المفروض في السؤال ذلك، فليتدبر.
ومنها: ما رواه التهذيب بإسناده عن أحمد بن محمد - ولعله المردد
بين المعتبرين - عن جعفر بن بشير - الثقة الجليل (3) - عن عمر بن الوليد
- المهمل (4) - عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الكنيف يكون
خارجا، فتمطر السماء، فتقطر علي القطرة.
قال: ليس به بأس (5).
وظاهرها أن القطرة المصيبة هي النازلة على السطح، ثم أصابته،

1 - الكافي 3: 12 / 1، وسائل الشيعة 1: 145، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب
6، الحديث 4.
2 - تقدم في الصفحة 197.
3 - رجال النجاشي: 119 / 304، الفهرست، الشيخ الطوسي: 43، معجم رجال
الحديث 4: 55.
4 - تنقيح المقال 2: 348 / 9055، معجم رجال الحديث 13: 59.
5 - تهذيب الأحكام 1: 424 / 1348، وسائل الشيعة 1: 147، كتاب الطهارة، أبواب
الماء المطلق، الباب 6، الحديث 8.
386

فيكون طاهرا، والمطر معتصما، وظاهره خفة المطر، لا شدته كما توهم، ولا
أقل من الاطلاق السكوتي.
وأما سندها، فالظاهر جواز الاتكاء عليه، لأنه قد نص النجاشي في
ترجمة جعفر بن بشير بأنه روى عن الثقات، ورووا عنه (1) وقد مر حال
أبي بصير (2)، فالرواية قوية سندا ودلالة جدا، فليتدبر.
فتحصل: أن جميع الشروط المحتملة دخالتها في مطهرية المطر
وعصمته، مدفوعة بمثلها.
فما قد يقال: بأن قصور الأدلة المقيدة الآتية، لا يورث تمامية
المطلوب، للزوم الأخذ بالقدر المتيقن، في غير محله (3).
المآثير الدالة على اشتراط جريان ماء المطر
إن قلت: قضية طائفة من المآثير، اشتراط الجريان.
فمنها: معتبر علي بن جعفر، عن أخيه موسى (عليه السلام) قال: سألته عن

1 - جعفر بن بشير أبو محمد البجلي الوشاء من زهاد أصحابنا، وعبادهم ونساكهم، وكان
ثقة... كان أبو العباس بن نوح يقول: كان يلقب فقحة العلم، روى عن الثقات ورووا
عنه، رجال النجاشي: 119 / 304.
2 - تقدم في الصفحة 321.
3 - وفي أبواب النجاسات باب 27 روايتان تدلان على مطهرية المطر ولو كان
بالبل (أ) (منه قدس سره).
(أ) وسائل الشيعة 3: 445 - 446، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 27،
الحديث 3 و 6.
387

البيت يبال على ظهره ويغتسل من الجنابة، ثم يصيبه المطر، أيؤخذ
من مائه فيتوضأ به للصلاة؟
فقال: إذا جرى فلا بأس به (1).
ومنها: ما رواه قرب الإسناد عنه قال: وسألته عن الكنيف يكون
فوق البيت، فيصيبه المطر، فيكف فيصيب الثياب، أيصلى فيها قبل أن
تغسل؟
قال: إذا جرى من ماء المطر لا بأس (2).
ومنها: معتبر علي بن جعفر، عنه (عليه السلام) قال: سألته عن المطر يجري في
المكان فيه العذرة، فيصيب الثوب، أيصلى فيه قبل أن يغسل؟
قال: إذا جرى فيه المطر فلا بأس (3).
وتوهم إمكان حملها على الجريان التقديري، كما عن الأردبيلي (4).
أو إمكان إرادة الجريان، بمعنى تقاطره من السماء قبال وقوفه.
أو جريانه الفعلي الذي هو ملزوم غالبي لكونه حال التقاطر، كما

1 - مسائل علي بن جعفر: 204 / 433، وسائل الشيعة 1: 145، كتاب الطهارة، أبواب
الماء المطلق، الباب 6، الحديث 2.
2 - قرب الإسناد: 192 / 724، وسائل الشيعة 1: 145، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المطلق، الباب 6، الحديث 3.
3 - مسائل علي بن جعفر: 130 / 115، وسائل الشيعة 1: 148، كتاب الطهارة، أبواب
الماء المطلق، الباب 6، الحديث 9.
4 - مستمسك العروة الوثقى 1: 176، مجمع الفائدة والبرهان 1: 256.
388

عن الفقيه الهمداني (قدس سره) (1).
أو إمكان حملها على خصوصية المورد من النجاسة الخاصة، أو
كونه للصلاة (2).
أو إمكان حملها على القيد غير الاحترازي (3).
كلها غير صحيح، فيتعين قول الوسيلة (4).
ولعل إليه يرجع مقالة الشيخ، من اشتراط الجريان من
الميزاب (5)، وإن لم يساعده عبارته المحكية عن المبسوط (6) فتدبر.
قلت: قد عرفت أن مطهرية المطر واعتصامه، غير مشروطتين
بشئ (7)، ومطهرية ماء المطر - وهو المجتمع في المكان - واعتصامه،
مشروطتان - حسب هذه المآثير - بالجريان، فلو أصاب المطر، وكان هو
بحيث أحاط بالشئ المتنجس وغلب عليه - بأن يكف منه شئ من
القطرات، كما في صحيحة هشام (8) - فهو يطهر، وماء غسالته طاهر.
وإذا وقف ماء المطر في موقف، وكان راكدا، فإن تقاطر عليه من

1 - مصباح الفقيه: 646 / السطر 4، التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 261.
2 - التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 261.
3 - مهذب الأحكام 1: 204.
4 - الوسيلة: 73.
5 - تهذيب الأحكام 1: 411، ذيل الحديث 1296.
6 - المبسوط 1: 6.
7 - تقدم في الصفحة 379 - 380.
8 - الفقيه 1: 7 / 4، وسائل الشيعة 1: 144، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 6، الحديث 1.
389

السماء فهو لا يطهر شيئا، إلا إذا كان بحيث يجري، أو كان جاريا
بالفعل.
وعلى هذا، لا تهافت بين مفاد صحيحة هشام كما توهمه الأكثر (1)،
ومفاد روايات علي بن جعفر (عليهما السلام) لاختلاف مصبهما.
وأما إمكان الالتزام باشتراط الجريان حال التقاطر على المجتمع في
الأرض، فإن أريد منه الجريان الفعلي، فهو في غاية البعد، للزوم كون
الماء الراكد لمانع، نجسا ومنجسا ولو كان أكرارا، فتأمل، والجاري القليل
- لاقتضاء الأرض جريانه، كما في الأراضي (الاسفالتية) - طاهرا ومطهرا.
فيعلم منه: أن المراد هو الجريان الملازم لكثرته العرفية، التي
تجري نوعا لولا الموانع الموجودة غالبا.
وقد يشكل ذلك، لظهور معتبرة الأول في أن المقصود هو الجريان
الفعلي، لأن مفروض السائل هو الماء الموجود القابل لأن يؤخذ منه
للوضوء، فعليه يمكن دعوى أن هذه المآثير، بصدد اخراج هذا الماء من ماء
المطر، وإدراجه في الماء الجاري الذي له المادة، وهي السماء، وليس
هو ماء بئر، حتى يكفي مجرد الاتصال بالمادة، بل هو من قبيل الجاري،
فيعتبر فيه الجريان، وعند ذلك يلزم تهافتها مع صحيحة ابن بزيع (2)،
الظاهرة في أن مجرد الاتصال بالمادة، كاف.

1 - مصباح الفقيه، الطهارة 646 / السطر 12، مستمسك العروة الوثقى 1: 177.
2 - الإستبصار 1: 33 / 87، وسائل الشيعة 1: 172، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 14، الحديث 6.
390

عود إلى أقسام الماء النازل من السماء
فتحصل: أن هنا ثلاثة مياه:
المطر، وهو حال نزوله، فإنه في هذه الحال إذا أصاب شيئا يطهر،
ويكون معتصما.
وماؤه الواقف في الأرض.
وماؤه الجاري على الأرض، وهذا أيضا مورد الاتفاق، وما هو مورد
الخلاف هو الثاني.
وتوهم الاختلاف في الأول أيضا، غير تام، لأن ظاهر الروايات المشار
إليها، اشتراط الجريان في الماء الواقف على الأرض، والمصيب للسطوح
النجسة، الداخلة فيها غسالتها، فالاطلاق الدال على مطهرية المطر
واعتصامه، محفوظ، وما يتراءى من كلمات القائلين بالشرطين كما مر (1)،
في غير محله.
نعم، الخروج عن هذه المآثير بوجه مقبول عرفي - بحيث يلزم منه
سقوط شرطية الجريان - مشكل.
فبالجملة: الاطلاقات المقتضية لاعتصام المطر في جميع الصور،
وإن كانت تشمل الفرض السابق، إلا أن قضية هذه الأخبار تقييدها بها في
صورة خاصة، وفيما عداها وفيما عدا هذا الشرط، يرجع إلى الاطلاق، فما

1 - تقدم في الصفحة 389.
391

قيل في المقام من بعض القيود في مطهريته وعصمته (1)، لا يرجع
إلى محصل.
الجهة الرابعة: في الشك في مطهرية بعض أقسام المطر
لو فرضنا قصور الطائفة الأولى عن المرجعية عند الشك سندا أو
دلالة، وسلمنا أن الطائفة الثانية قابلة للحمل على إحدى المحامل
المشار إليها، فهل يجب الأخذ بالقدر المتيقن، فيما إذا شك في مطهرية
ماء بعدما كانت واضحة عند العرف؟
أم يمكن التمسك بالسيرة العملية والبناء العقلائي، فإن العرف
بناؤه على ترتيب النظافة والطهارة على ما يغسل بالمطر من غير قيد
وشرط، وهذا مستمر من الآن إلى العصر الأول، وقضية الأصول العملية
طهارة غسالته؟
أو يمكن الرجوع إلى الأصول الرافعة للشرط الشرعي، كما قيل
به في غير مقام (2)؟
والانصاف: أن الثاني غير تام، والأول مقبول الأعلام، ولقد تعرضنا
لجريان البراءة الشرعية في مثل المسألة ملتزما حجية الأصل المثبت
بالأدلة اللفظية فيها، ولكن المسألة عندي بعد لا تخلو من نوع غموض،
فليتدبر.

1 - مهذب الأحكام 1: 208.
2 - كفاية الأصول: 110.
392

هذا، وتختلف الآراء حسب اختلافهم في حقيقة النجاسة والطهارة،
والمطهرات الشرعية والعرفية، فلا تغفل.
الجهة الخامسة: اعتصام ماء المطر الجاري بعد انقطاع التقاطر
المشهور بل هو المتفق عليه، اشتراط التقاطر الفعلي على ماء
المطر، في كونه مطهرا وعاصما (1).
وقضية ما سلف صدق ماء المطر على المجتمع في الأرض، فإذا
كان جاريا عليها ففي الشرط المذكور إشكال، لخلو المآثير عنه، وكونه
مفروغا عنه عند السائل والمجيب غير ظاهر، بل إطلاق معتبر ابن
جعفر (عليه السلام) يقتضي عدمه.
مع أن من المحتمل قويا، كون المراد من ماء المطر هو المجتمع
بعد انقطاعه، وأما إذا تقاطر عليه فهو مطر، لاختلاف المآثير في التعبير
المذكور (2)، فتأمل.
والتدبر التام في صحيحة ابن الحكم (3)، يعطي أن المفروض فيها
حال انقطاعه، لأن ميزاب البول حال التقاطر بعيد.
مع أنه لا يحتاج في الفرض إلى الميزاب الآخر، بل هو مختلط مع

1 - جواهر الكلام 6: 312، مهذب الأحكام 1: 207.
2 - وسائل الشيعة 1: 144 - 148، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6.
3 - الكافي 3: 12 / 1، وسائل الشيعة 1: 145، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 6، الحديث 4.
393

المطر المتقاطر عليه كما لا يخفى.
ويؤيد ما ذكرنا صدر مرسلة الكاهلي (1).
نعم، في كونه مسؤولا عن ماء المطر إشكال.
ولعل لذلك مال الجواهر إلى اسقاط شرطية التقاطر عليه، دون
أصل التقاطر (2).
وهذا التفصيل في غاية البعد، لأن المجتمع في الأرض، إن صدق
عليه ماء المطر فيترتب عليه حكمه، من غير لزوم التقاطر من السماء
على أمر آخر.
وإن لم يصدق عليه، فلا بد من التقاطر عليه، حتى يكون معتصما
لأمر آخر.
وما ذهب إليه الفضلاء: من أن صدق ماء المطر على المجتمع
في الأرض ممنوع، للزوم كون جميع المياه ماء المطر.
أو أن الصدق المزبور، يستلزم عدم انفعال الماء القليل، لأنه يصدق
عليه ماء بئر أو بحر أو مطر أو جار وأمثاله، وهذا يشهد على أن
الإضافة المذكورة بيانية (3).
غير قابل للتصديق، ضرورة أولا: أن اعتصام المجتمع في الأرض،
يكون عند الأصحاب لأجل صدق ماء المطر عليه، لا لأجل النصوص

1 - الكافي 3: 13 / 3، وسائل الشيعة 1: 146، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 6، الحديث 5.
2 - لاحظ جواهر الكلام 6: 323.
3 - مستمسك العروة الوثقى 1: 179، التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 263.
394

الخاصة، أو لكونه واردا في الماء ذي المادة.
وثانيا: لو كانت الإضافة بيانية، يلزم صدق المطر على الموجود
المجتمع، مع أنه واضح المنع.
والالتزام بأن ماء المطر يصدق - حقيقة ولغة - حال التقاطر فقط،
سواء كان التقاطر عليه، كما هو مختار الأكثر، أو كان على الأرض الأخرى،
كما عليه الجواهر (رحمه الله)، في غاية الوهن، لعدم الشاهد عليه.
التفصيل في ماء المطر المنقطع عنه التقاطر
نعم، يمكن دعوى: أن مجرد الصدق المذكور، غير كاف لاثبات
المطهرية والعصمة، لأقوائية أدلة انفعال الماء القليل، بل ويكون بعض
رواياته، واردة في الحياض والغدران الموجودة في الصحاري التي
ليست إلا من الغيث (1).
ولكنها تتم لو سلمنا عدم ظهور بعض روايات المسألة في خصوص
حال انقطاع المطر.
فعليه، يمكن التفصيل بين ماء المطر الذي مر عليه الزمان
الطويل، وبين ما لم يكن كذلك، فإن العرف ربما يجد الفرق بين الصورتين
في الصدق وعدمه، كما يجد الفرق بين ما إذا كان الماء المجتمع متصلا
بالماء المتقاطر عليه، وبين ما لم يكن متصلا، ضرورة أن العرف يجد
عصمة الأول لأجل كونه ماء المطر، وليس هذا إلا لقرب عهده بالمطر، فتدبر.

1 - مستمسك العروة الوثقى 1: 179.
395

مقتضى الأصول العملية عند الشك في اعتصام ماء المطر
هذا، وقضية الأصول العملية لدى الشك، أيضا اعتصامه بعد
الانقطاع، لأن العصمة والمطهرية من الأحكام المجعولة التنجيزية،
والشك في بقاء نجاسة الملاقي، مسبب عن الشك في مطهريته وعصمته.
ولو قيل: بأن الأصل الجاري هو التعليقي، مع تعارضه باستصحاب
النجاسة (1)، فهو لا يخلو من تأسف، مع أن الأصل التعليقي، جار وحاكم على
استصحاب النجاسة في الملاقي، ولا ينبغي الخلط بين الاستصحاب
التعليقي، وبين استصحاب أمر مفهومه المعلق، كاستصحاب ضمان زيد،
فإنه إذا كان ضامنا، ثم شك في ضمانه، فالاستصحاب يورث فعلية ضمانه،
ومعنى الضمان هو أنه إذا تلف المال مثلا عنده، فعليه مثله أو قيمته،
والعصمة والمطهرية وإن كان معناهما معلقا، ولكنها قابلة للجعل المنجز،
وليس استصحابه من الاستصحاب التعليقي، فليتدبر، واغتنم.
الجهة السادسة: في طهارة الأشياء بمجرد رؤية المطر لها
قضية ما ورد في خصوص المطر، أن الأشياء المتنجسة
تطهر به، من غير اشتراط عنوان الغسل والتعدد وعنوان
العصر والتعفير بل الحكم أنيط بالرؤية والإصابة في
المرسلة (2)

1 - مستمسك العروة الوثقى 1: 179 - 180.
2 - الكافي 3: 13 / 3، وسائل الشيعة 1: 146، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 6، الحديث 5.
396

والصحيحة (1).
ومقتضى هذه الاطلاقات، عدم الفرق بين الجوامد والمائعات، فلو
أصاب ماء متنجسا فقد طهر، من غير اشتراط الامتزاج والاستهلاك، وإن قلنا:
باعتبار هذه الأمور في التطهير بالمياه الآخر.
وظاهر أصحابنا الاتكاء عليها إلا في مسألة التعفير، حيث استشكل
الأمر هناك، وإن احتمله السيد اليزدي (قدس سره) (2).
تعارض إطلاقات المطر مع إطلاقات التعفير ونحوه
وربما يخطر بالبال: أنه لو فرضنا الاطلاق هنا، فلتلك العناوين
الآخر أيضا إطلاقات، وتكون النسبة عموما من وجه.
وما اشتهر بين أبناء العصر: من تقديم أدلة المسألة على تلك
الاطلاقات، معللين بأن من وجوه تقديم أحد العامين من وجه على الآخر،
لزوم لغوية أحدهما على فرض تقديم الآخر، ولا عكس، والأمر فيما نحن
فيه كذلك، لأن المفروض في الأدلة خصوصيته للمطر، ولو كان لتلك
الأدلة تقديم عليها، يلزم سقوط تلك الخصوصية، واشتراكه مع سائر
المياه (3).

1 - الفقيه 1: 7 / 4، وسائل الشيعة 1: 144، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6،
الحديث 1.
2 - العروة الوثقى 1: 41، فصل في المياه، ماء المطر، المسألة 11.
3 - دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلد الأول: 224.
397

لا يخلو من تأسف، ضرورة أن تقديم أحد الدليلين على الآخر، ليس
من الواجبات الشرعية، ولا العرفية، حتى يقال بما قيل، بل الجمع بين
الدليلين لا بد وأن يكون عرفيا، ومجرد الامكان لا يصحح ذلك، فعليه تبقى
المعارضة بين الأدلة باقية.
ولك منع اللغوية، لأن من آثاره عدم الاحتياج إلى التعدد والعصر.
اللهم إلا أن يقال: بأن نسبة جميع تلك الأدلة معها، عموم من وجه، كما
أشرنا إليه. مع أن تقديم روايات هذه المسألة على تلك الأدلة - بعد
الالتزام بعدم اعتبار العصر والتعدد في مطلق المياه المعتصمة - يستلزم
التخصيص المستهجن، ويلزم التعارض - بالعرض - بين أخبار المسألة،
وأخبار المياه الأخر التي تكون عاصمة، كما لا يخفى.
نعم، إذا كان الأمر كما أشير إليه آنفا، فالظاهر الذي عليه بنينا في
محله، هو سقوط المطلقات، ويكشف من التخصيصات المنفصلة
الكثيرة، وجود قيد في تلك المطلقات غير واصل إلينا، كما اشتهر ذلك في
أخبار القرعة (1)، وعند ذلك يتعين الأخذ بإطلاقات المسألة في خصوص
التعدد والعصر، لو لم نقل: بأن اعتبار العصر ناشئ من اعتبار الغسل.
وأما شرطية الغسل، فلا دليل يقتضي لزوم ذلك على الاطلاق.
وأما شرطية التعفير، فهي مشكوكة السقوط، وقضية الاستصحاب
اعتباره. وهكذا في المائعات النجسة، بناء على اعتبار الامتزاج أو الاستهلاك.
هذا، وفي خصوص أخبار المسألة، شهادة على عدم اعتبار التعدد

1 - الاستصحاب، الإمام الخميني (قدس سره): 384.
398

فيما يعتبر فيه التعدد، وهي النجاسة البولية والخمرية، فلا تغفل.
وجه لعلاج التعارض بين المطلقات وجوابه
وقد يقال: بأن إطلاقات المسألة، ظاهرة في قيام المطر مقام الغسل
بغيره من المياه، وأما التطهير بالتراب فهو أجنبي عنها (1)، وما فيه لا يحتاج
إلى الإبانة، لعدم ظهور فيها للنيابة والقيام، وإطلاق قوله محكم.
ولنا السؤال عنه وعن أخيه الذي أخذه منه أنه لا يجوز التمسك
بها، إذ الشك في اعتبار التعفير بالتراب، شبهة حكمية في أصل تلك
المسألة، أم يرجع إلى استصحاب النجاسة؟ ولا أظن من الالتزام بذلك،
كما هو الظاهر.
ولو كانت المياه الأخر، نائبة عن ماء المطر في المطهرية، كان هو
الأولى، مع أنهم مصرون على أن جميع المياه من المطر، اتكالا على بعض
الظواهر المخفي معناها على هؤلاء الفضلاء المبتدئين في العلوم،
فلا تخلط.
توهم آخر لتقديم عمومات المطر على مطلقات التعفير وجوابه
وربما يقال: بأن قضية تعارض العموم في المسألة مع إطلاقات
مسألة التعفير، تقديمه عليها، لأن ظهور الاطلاق تعليقي، وظهور العموم

1 - دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلد الأول: 233.
399

تنجيزي (1).
وبعبارة أخرى: يمكن أن يكون العام بيانا للمطلق.
وهذا غير مبرهن عندي، لأن من القوي احتياج العمومات إلى
مقدمات الاطلاق، مع أن مقدمات الاطلاق، توجب ظهور فعل المتكلم
المختار في أن ما أخذه موضوعا للحكم، تمام الموضوع، وهذا ظهور
تنجيزي، وإلا يلزم عدم جواز التمسك بالمطلقات في كلمات الأولين، بعد
بنائهم على ذكر القيود والقرائن في كلمات الآخرين، لعدم استقرار الظهور
قبله، والالتزام بذلك غير مقبول لدى أبناء التحقيق، فلا تخلط.
وأما تمسكهم باستصحاب النجاسة بعد سقوط الاطلاقين (2)، فهو
لا يخلو من غرابة، للزوم التمسك به في جميع الشبهات الحكمية.
مثلا: لو شك في احتياج ولوغ الخنزير أو الكلب البحري - وهكذا
كل حيوان - إلى التعفير، فقضية استصحاب النجاسة لزومه، وهذا
ضروري البطلان، لحكومة إطلاقات مطهرية الماء عليه، فليتدبر.
الوجه في رفع التعارض بين عمومات المطر والتعفير
ومن الممكن دعوى: أن التشديد في حكم النجاسة، كاشف عن
شدتها، فإذا شك في حكم - كالتعدد، والتعفير - يرجع إلى الشك في
شدتها، وهي محكومة بالعدم إذا كانت جعلية، فتأمل.

1 - دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلد الأول: 224.
2 - مستمسك العروة الوثقى 1: 185.
400

وحيث إن ظاهرهم في محله إرسالهم المسألة، وأن التعفير لازم،
يعلم أن المتفاهم العرفي تقدم تلك الأدلة على أدلة المسألة، بل يظهر قوة
احتمال لزوم التعدد فيما يحتاج إليه أيضا، وذلك لأن إطلاقات المسألة
ناظرة إلى أصل حصول الطهارة بالمطر، في مقابل توهم عدم تطهر النجس
به، أو اشتراط الأمر الآخر زائدا على المطرية، وأما التعدد والتعفير فهما
لا ينافيان الاطلاق المزبور.
أو يقال بأن العموم في المرسلة غير حجة سندا، وذيل صحيحة
هشام غير تامة دلالة، لأنه ظاهر في ذكر الحكم بالنسبة إلى المورد
فلا حجة في المسألة تقاوم أدلة اعتبار التعفير والتعدد.
والمسألة بعد تحتاج إلى مزيد تدبر في أخبار تلك المسألة،
وسيوافيك تفصيلها في محله إن شاء الله تعالى (1).
تنافي مفهوم الإصابة مع مفهوم الغسل
ثم إنه غير خفي تعارض أخبار المسألة مع قوله (عليه السلام): اغسل ثوبك
من أبوال ما لا يؤكل لحمه (2) فإن الظاهر لزوم الغسل من غير فرق بين
المياه، فتكون النتيجة هي التعارض بالعموم من وجه، على وجه عرفت

1 - يأتي في الصفحة 406 - 407.
2 - الكافي 3: 57 / 3، وسائل الشيعة 3: 405، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات،
الباب 8، الحديث 2.
401

تفصيله (1).
فما قيل: بأن الموضوع هنا هو الإصابة والرؤية، وفي غير ما نحن
فيه هو الغسل (2) خال عن التحصيل، كما لا يخفى.
وإذا كان مفهوم الغسل متقوما بالعصر، فيلزم - حسب إطلاق هذه
الرواية - عصر الثوب المغسول بالمطر، وحيث يشكل كون أخبار
المسألة الواردة في الثوب المتنجس (3)، مرتبطة بتلك المسألة،
فلا يستفاد منها ما يضادها.
وبعبارة أخرى: ما ورد في الغسل والتعدد، راجع إلى الثوب
المبتلى بالبول، وما ورد في هذه المسألة، راجع إلى الثوب المبتلى
بالماء المتنجس بالبول، أو السطح المتنجس بالبول، فيمكن عدم
الحاجة حينئذ إلى العصر والتعدد، كما قيل به في محله، فما يظهر من
الأعلام المعاصرين شراح العروة الوثقى في هذه المسألة، صدرا وذيلا،
فقها وأصولا (4)، كله المطعون، عصمنا الله تعالى من الزلل، ونرجو منه
العفو والتجاوز عن الخطأ.
وربما يخطر بالبال: أن الأمر بالتعفير، كاشف عرفي عن وجود العين
النجسة في الإناء، ولا معنى لكون الماء مطهرا لها إلا بعد زوالها، فعليه

1 - تقدم في الصفحة 397.
2 - دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلد الأول: 223 - 224.
3 - وسائل الشيعة 3: 395 - 400، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 1 و 2 و 3 و 4.
4 - مستمسك العروة الوثقى 1: 180، دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلد
الأول: 223.
402

يمكن اختصاص التزامهم بالتعفير ولو كان في الغسل بالمطر،
ولا يلتزمون بالعصر والتعدد. هذا تمام الكلام في سقوط الغسل والتعدد
والتعفير.
كفاية إصابة المطر عن الامتزاج والاستهلاك
وأما سقوط الامتزاج والاستهلاك، فهو غير بعيد بدوا، لعدم الدليل
عليهما إلا الأدلة التي لها الاهمال، فلا بد من المراجعة إلى إطلاقات
المسألة (1).
اللهم إلا أن يقال: بأن المائع المتنجس كالجامد المتنجس، فكما
لا يكفي إصابة المطر في جانب عن جانب آخر في الجوامد، فكذلك في
المياه، والصدق العرفي مشترك بينهما، فإذا طهر سطح الماء المتنجس
بغلبة المطر عليه، فهو ينجس بملاقاة بقية الماء بعد انقطاع المطر، فيكون
تطهيره باستهلاكه فيه، أو امتزاجه معه (2)، على ما مر في محله (3).
وربما يتخيل سقوط الامتزاج هنا وإن كان شرطا في غيره، لتلك
الاطلاقات (4) وقد عرفت وجه منعه.
ولأجل أن ظاهر الأصحاب في التطهير بالكر، اعتبار إلقائه دفعة -
للزوم انفعال القليل الوارد عليه - فعليه لا يعقل تطهير المياه المتنجسة

1 - وسائل الشيعة 1: 144 - 148، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6.
2 - دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلد الأول: 225 - 226.
3 - تقدم في الصفحة 173 - 174.
4 - دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلد الأول: 227.
403

بالمطر، لانقطاع القطرات، وتصير منفعلة في الرتبة المتقدمة،
فيدور الأمر بين إنكار تطهيره به، وهو خلاف الاطلاقات الماضية، وبين
القول بكفاية الاتصال وهو المتعين.
مع أن التفكيك بين السطح والباطن في الماء الواحد، خلاف
الاجماع المدعى على وحدة حكم الماء الواحد (1).
ويؤيد ذلك الاجماعات المستفيضة المحكية، على أنه
كالجاري (2)، وقد تقرر في محله كفاية الاتصال به (3).
وأما التمسك بروايتي الميزابين - صحيحة ابن الحكم (4)، وخبر ابن
مروان (5) - لكفاية الاتصال (6)، فهو من الغفلة عن ظاهرهما، لأن المصيب
هي القطرة من الماء المختلط من البول والمطر، والاختلاط إما هو
الامتزاج، أو هو الاستهلاك، فلا تكون هي إلا دالة على خلاف المقصود، لتقرير
الإمام (عليه السلام) أن الحكم دائر مدار الاختلاط، وبإلغاء الخصوصية عن البول،
يسري الحكم إلى المائعات المتنجسة، لأنها بعد التنجس تصير كالعين
النجسة، على ما تقرر منا في محله، فلا تخلط.

1 - نفس المصدر.
2 - مجمع الفائدة والبرهان 1: 255، مستند الشيعة 1: 26.
3 - العروة الوثقى 1: 43، فصل في المياه، ماء البئر، المسألة 2.
4 - وسائل الشيعة 1: 145، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 4.
5 - تقدم في الصفحة 239.
6 - دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلد الأول: 227.
404

تفصيل الجواهر بين إصابة المطر للجامد والمانع
ثم إن ظاهر الجواهر (1) وغيره (2)، دعوى أن العرف يساعد على
التفرقة بين الجامد والمائع، فإن الجوامد لا تطهر بمجرد إحاطة المطر
بجانب منها، بخلاف المائعات.
وهي غير مسموعة، مع انتقاضها بالماء المضاف الذي لا يمكن
الالتزام بطهارته بمجرد الاتصال، ولا يساعده العرف، فليتأمل جيدا.
أقول: هذا غاية ما يمكن أن يستند إليه في المسألة، وأنت خبير بما
فيه صدرا وذيلا، وذلك لأن صحيحة ابن بزيع الواردة في طهارة الماء
المتنجس بالمادة (3)، صريحة أو ظاهرة في أن المناط في التطهير، كون
الماء الوارد ذا مادة، وليست المادة هي المياه الكثيرة، بل هي تختلف
حسب اختلاف الآبار، ومن الآبار ما يتقاطر من جدارها على الماء الموجود
فيها، وهي كثيرة، أو تكون تلك القطرات جوف الماء الموجود، فلو كان ذلك
مورثا لنجاسة تلك القطرات، يلزم امتناع تطهيره بها، للزوم تكثر الماء
المتنجس دائما، ولا يمكن تقليله، فضلا عن تحصيل طهارته.
هذا مع أن ظاهر أخبار المطر، أن القطرات معتصمة (4)، وإذا كثرت

1 - جواهر الكلام 6: 319.
2 - مهذب الأحكام 1: 210.
3 - الإستبصار 1: 33 / 87، وسائل الشيعة 1: 172، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 14، الحديث 6.
4 - وسائل الشيعة 1: 144 - 148، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6.
405

وامتزجت يطهر القليل بها، فالقول باعتبار الدفعة في الكر،
لا يستلزم ذلك في غيره.
فالمناط في المسألة مختلف، ومنه وقوع المياه الطاهرة في
المتنجس تدريجا، إلى أن يصير أكثر منه، وغالبا عليه، كما في صحيحة
هشام بن سا لم (1)، فما ظنه أصحاب القول بكفاية الاتصال ناشئ عن سوء
الحال.
وإذا تبين فساد ذلك، فسائر الوجوه التي أشير إليها في أثناء
الصفحات الماضية كلها ساقطة، لأنها من متفرعات هذا الوجه الظاهر
فساده.
هذا، وقد مر منا: أن المياه النجسة، كالمضاف في عدم قبوله
الطهارة، إلا بانعدام موضوعه وهو الاستهلاك (2)، لما تقرر في محله أن معنى
تطهير الشئ، ليس إلا إزالة النجاسة عنه بالماء، وهو لا يتصور في
المائعات (3)، فالعمومات والاطلاقات منصرفة عنها، ولا نص على أن
المائعات بخصوصها، تطهر بالاتصال أو الامتزاج.
وأما خبر الميزابين (4)، فإما يراد من الاختلاط المفروض فيه بين
البول والماء، الامتزاج، أو الاستهلاك:

1 - الفقيه 1: 7 / 4، وسائل الشيعة 1: 144، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 6، الحديث 1.
2 - تقدم في الصفحة 108.
3 - نفس المصدر.
4 - تقدم في الصفحة 404.
406

فإن أريد الأول، فلا دليل على أن نفي البأس لأجل طهارة البول
بالامتزاج، بل ربما كان لاحتمال إصابة الماء المعتصم.
وإن أريد الثاني - كما حمله عليه بعض الأفاضل (1) - فهو لا يدل على
شئ، فلا تخلط.
وأما مرسلة الكاهلي (2) على نسخة الوافي (3) التي صدقها شيخ
الشريعة الأصفهاني (رحمه الله) (4)، وهو تعويض قوله: ويسيل علي ماء المطر
بقوله: ويسيل على الماء المطر بأن يكون المطر فاعله، فإنه وإن
لا موجب لتعينها إلا بعض ما لا يصغى إليه، ولكنه لو سلمنا ذلك، فلا دلالة
لها على أن الماء المرئي فيه التغير والقذارة، كان متغيرا بالنجس، حتى
يقال: بأن مجرد تقاطر المطر عليه يورث طهارته، كما في المرسلة.
مع أن إرسالها غير ظاهر انجباره، لوجود الصحاح الكثيرة في
المسألة.
وأما إجماع الشهيد (رحمه الله) في الروضة (5) فهو كالاجماعات الكثيرة
التي تكون مؤيدة للمسائل الشرعية، وليست دليلا لها.

1 - دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلد الأول: 226.
2 - الكافي 3: 13 / 3، وسائل الشيعة 1: 146، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 6، الحديث 5.
3 - الوافي 6: 46 / 3.
4 - لاحظ مستمسك العروة الوثقى 1: 182.
5 - روض الجنان: 139 / السطر 11.
407

وأما صحيحة ابن بزيع، فقد فرغنا عنها في محلها (1)، وأنها تدل على أن
زوال التغير من المطهرات، من غير الحاجة فيه إلى الاتصال أو الامتزاج.
ولو تنزلنا عنه، فلا دلالة لها على كفاية الاتصال أو الامتزاج، فلاحظ وتدبر
جيدا.
وأما الاجماع على وحدة الماء الواحد حكما، فهو - مضافا إلى عدم
إطلاق لمعقده - مثل ما مر في عدم تمامية شرائط اعتباره.
فتحصل: أن تطهير المائعات النجسة ومنها المياه المتنجسة
بالمطر، غير ممكن، وما هو المطهر لها هو الاستهلاك فقط.
تذنيب: في الآثار المترتبة على كفاية إصابة ماء المطر
قضية ما تحرر منا في أثناء البحث: أن المطر غير ماء المطر، فإنه
هو الماء النازل المتقاطر المنفصل بعضه من بعض، والثاني هو الجاري
والموجود على الأرض، المجتمع والمتصل بعضه ببعض.
وكما أن ذاك مطهر وعاصم لكل شئ بشرط الغلبة - فإنه بدونها
مشكل مطهريته، لأن شرطية الجريان في الثاني، يستلزم ذلك عرفا في
الأول - كذلك ماء المطر مطهر للأراضي والسطوح، بشرط الجريان عليها.
وهذا من غير فرق بين كونه مصيبا لها بلا واسطة، أو مع الواسطة،
لأن صدق المطر غير لازم، وصدق إصابة ماء المطر قطعي.

1 - تقدم في الصفحة 159 - 161.
408

وتوهم: أن اعتبار الغلبة والأكثرية، غير قابل للجمع (1)، في غير
محله، لأن الماء إذا كان أكثر، فقهرا يجري، وأما جريانه من الميزاب، فهو
غير قابل للتصديق.
فما اشتهر بين المتأخرين في الفروع الكثيرة - كما في العروة
الوثقى (2) من الاشكال في كفاية وصول ماء المطر إلى النجس في
التطهير به - غير مرضي، لأن إصابة المطر ليست شرطا، بل إصابة ماء
المطر ورؤية ماء المطر لازمة، وهو واضح حتى بالنسبة إلى
المتنجسات تحت السقوف، كما لا يخفى.
تنبيه: في حكم الأراضي النجسة التي لا يصيبها المطر
لا شبهة في أن اعتبار المطهرية لماء المطر والمطر، تسهيلا على
الناس، وإذا كان جميع أراضي البلد - كما هو المتعارف - غير واصل إليه
المطر للموانع، فيلزم تكثير النجاسة برطوبته كما نشاهدها، خصوصا في
مثل العراق التي هي مرحاض الشرق، فعليه هل يمكن الالتزام بطهارة تلك
الأراضي تبعا، أم لا؟ وجهان.

1 - مستمسك العروة الوثقى 1: 177.
2 - العروة الوثقى 1: 39، فصل في المياه، المسألة 3 و 5.
409