الكتاب: شرح نجاة العباد
المؤلف: آخوند ملا أبو طالب الأراكي
الجزء: ١
الوفاة: ١٣٢٩
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: صفر المظفر ١٤٢٠
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
ردمك:
ملاحظات:

شرح نجاة العباد
للفقيه المحقق
آية الله العظمى الحاج آخوند ملا أبو طالب الأراكي قدس سره
المتوفى سنة 1329 ه‍. ق
الجزء الأول
- * * * -
مؤسسة النشر الإسلامي
التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
1

شرح نجاة العباد
(ج 1)
تأليف: آية الله العظمى الحاج آخوند ملا أبو طالب الأراكي قدس سره
الموضوع: فقه
تحقيق و نشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: الأولى
المطبوع: 500 نسخة
التاريخ: صفر المظفر 1421 ه‍.
مؤسسة النشر الإسلامي
التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
2

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على ما ألهم من معرفته، وهدى إليه من سبيل طاعته، وصلواته على
خيرته من بريته محمد سيد أنبيائه وصفوته، وعلى الأئمة الراشدين من عترته،
وسلم تسليما.
وبعد، فإن في الفقه الشيعي كنوزا ما زالت مهجورة وما زال الباحثون
والمحققون في غفلة عنها.
ومن تلكم الكنوز الفقهية المطمورة غير المنشورة هذا الكتاب الماثل بين
يديكم الصادر عن يراع أحد جهابذة العلم والفضل وعباقرة الورع والتقوى الذي
نقدم إليكم موجزا من ترجمته.
نبذة من حياة المؤلف:
عنونه السيد محسن الأمين في أعيان الشيعة بما يلي:
الحاج ملا أبو طالب العراقي الكزازي ابن الملا عبد الغفور ابن الملا شرف علي
ابن الملا أحمد الجرفادقاني، توفي سنة 1329، وقبره في مقبرة يقال لها: مقبرة
دروازه شهر گرد بسلطان آباد (أراك). كتب إلينا السيد شهاب الدين الحسيني
الفاضل النسابة ما لفظه: كان من فقهاء عصره ورؤساء بلده " سلطان آباد "
المشهورة في بلاد إيران. تلمذ في النجف على شيخنا المرتضى، ثم بعده حضر
بحث الميرزا السيد محمد حسن الشيرازي، ثم رجع إلى وطنه وصار مرجعا في
الشرعيات، يروي عن شيخيه بطرقهما وعن الحاج ميرزا حبيب الله الرشتي
3

الجيلاني، وعنه جماعة منهم: والدي العلامة النسابة السيد شمس الدين محمود
الحسيني المتوفى سنة 1338، وللمترجم تآليف منها: شرح كبير على " نجاة
العباد " لصاحب الجواهر في مجلدات، ورأيت المجلد الأول منه ببلدة قم المشرفة،
يظهر منه وفور تتبعه وتبحره في الفقه (1).
وعنونه العلامة الطهراني في نقباء البشر وقال:
من العلماء الفضلاء المصنفين، كان يعرف ب‍ " حاج آخوند " ولد ب‍ " الآستانة "
من قرى سلطان آباد العراق وتوفي 1329 كما وصفه وأرخه الشيخ صفر علي
العراقي، له حاشية " نجاة العباد " استدلاليا تامة في مجلدين بخطه كانت عند ولده
الشيخ صالح، وهي اليوم عند حفيده الشيخ يحيى بن صالح، المشتغل في قم (2).
وعنون تصنيفه القيم - الكتاب الماثل بين يديكم - في الذريعة وقال:
" شرح نجاة العباد " إلى الأواني، مجلد كبير للحاج المولى أبي طالب الكزازي
ابن المولى غفور الآستانة اي السلطان آبادي، من تلاميذ العلامة الأنصاري، ثم
سيدنا المجدد الشيرازي، وصارت له المرجعية في العراق أخيرا، وتوفي
سنة 1329; مجلد الطهارة منه أوله: " الحمد لله الواهب من غير منن، ومكمل
النفوس بالعقول بعد ركونها بالبدن... " يوجد عند بعض أحفاده. (3)
هذا ما وصل إلينا من حياته الطيبة المودعة في كتب التراجم.
وينطق أيضا عن مكانته العلمية والعملية ما كتبه العلمان الجليلان: السيد
الحسيب النسيب آية الله العظمى شهاب الدين المرعشي النجفي (قدس سره) في ظهر النسخة
المحفوظة في مكتبته، وما كتبه إلينا شيخ الفقهاء والمجتهدين آية الله العظمى الحاج
الشيخ محمد علي العراقي (قدس سره). وسنورد صورة ما خطته أناملهما الشريفة.
وأما نسخ الكتاب:
لم يصل إلينا نسخة مطبوعة من هذا الأثر النفيس، والظاهر أنه لم يطبع بعد.

(1) أعيان الشيعة 2: 367.
(2) نقباء البشر 1: 48.
(3) الذريعة 14: 101.
4

وإنما توفرت لدينا منه نسختان مخطوطتان:
الف - مصورة النسخة المحفوظة أصلها في خزانة مكتبة آية الله المرعشي
النجفي تحت الرقم 5062; وقد وقع الفراغ من كتابتها في 29 من شعبان المعظم
سنة 1325 قبل وفاة المؤلف رحمه الله حوالي أربع سنين.
تبتدئ هذه النسخة من أول كتاب الطهارة وتنتهي بآخره ولا يتلوه أي كتاب
من الفقه، اتخذناها أصلا في تحقيق الجزء الأول، للنقص الموجود في النسخة
الآتي تعريفها، ورمزنا إليها بحرف " ع ".
ب - نسخة مجهولة الناسخ والتاريخ، تفضل بها إلينا نجل بعض أحفاده
- حفظه الله - وكانت في بادئ النظر تبدو أنها بخط المؤلف (قدس سره) لكن عند التأمل
وإمعان النظر زعمنا أنها ليست بتلك.
وهذه تبتدئ بكتاب الطهارة وتنتهي إلى أقل من ثلث مباحث المياه، ولا
يوجد فيه معظم مباحث المياه وكل أحكام الخلوة ومباحث الوضوء، ثم تبتدئ
بالمقصد الثاني في الغسل وتنتهي إلى آخر أحكام الأواني.
ثم هذه النسخة حاوية لشرح قليل من أوائل كتاب الصلاة، وشرح عمدة
مباحث كتاب الصوم. ومشتملة أيضا على كتاب الزكاة مستقلا من دون أن يكون
شرحا لأي متن، وهذا أيضا ناقص غير تام.
ونحن - التزاما بالعهد الذي أخذناه على أنفسنا في إحياء تراث علمائنا
الأماجد - قررنا طبع الجزء الأول من هذا السفر المنيف ونشره، بعد مقابلته على
الأصل وإشباعه تصحيحا وتحقيقا وتدقيقا وتخريج آياته وأحاديثه; ولم نشر إلى
مواضع الأقوال المنقولة فيه حرصا على التسريع في إصداره، وبما نرى أخيرا أن
لا فائدة مهمة في هذا العمل في غير الكتب الدراسية والكتب التي صارت محورا
للمراجعات التحقيقية، ولعل القارئ الكريم يوافقنا في هذا الرأي.
ولله الحمد وله الشكر بما وفقنا لهذه الخدمة، إنه خير موفق ومسدد.
مؤسسة النشر الإسلامي
التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة
5

صورة ما كتبه آية الله العظمى السيد شهاب الدين المرعشي النجفي قدس سره
6

صورة ما كتبه آية الله العظمى الحاج الشيخ محمد علي الأراكي قدس سره
7

صورة الصفحة الأولى من نسخة (ب)
8

صورة الصفحة الأخيرة من نسخة (الف)
9

كتاب الطهارة
11

بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمد لله الواهب من غير منن، ومكمل النفوس بالعقول بعد ركوبها بالبدن،
وهادي عباده بإنهاج الشرائع لهم وبتأديبهم بالسنن، متما للنعمة عليهم بتتابع
الداعين إليه في كل عصر وزمن، بحيث لم يخل آن من الأوان عن ولي مؤتمن،
ونشهد أن لا إله إلا الله شهادة من أقر وأذعن، والصلاة والسلام على الهادين بعد
الهادين، الرسل المكرمين، الأولياء الصالحين، سيما من ختم به الولاية والرسالة
أفضل المصطفين من المقربين والمرسلين، وأكرم خلق الله أجمعين، محمد
المبعوث لتكميل الخصلتين، وخلفائه الراشدين، وأوصيائه المرضيين، علي
أمير المؤمنين، وأولاده الأنجبين الأطيبين، الهداة المهديين، الذين هم أعلام
الدين، ومنار المهتدين، وأسبق السابقين، صلاة متتابعة خالية عن حد وعد،
من الأزل إلى الأبد، اللهم اجعلني من شيعتهم، واحشرني في زمرتهم، بحقك
العظيم عليهم، آمين رب العالمين.
وبعد، لما كانت الرسالة التي كتبها - لذوي الحاجة من الأخيار - الغائص في
بحار الأخبار، وناثر الجواهر التي أفادها عند سيره في الآثار المأثورة من الأئمة
الأطهار، وتتبعه للقواعد المحكمة التي أسسها علماؤنا الأخيار، ذو الذوق السليم
والفهم المستقيم، المتسابق مع الأقدمين، والسابق على المتأخرين، أفضل
المتبحرين، وأكمل فقهائنا الراشدين، شيخنا ومولانا الشيخ محمد حسن النجفي،
13

من أحسن المتون الفقهية جمعا، وأعلاهم (1) متانة، سيما بعد تزيينها بحلية
الاحتياط، وتقليدها بقلادة الدرر المنثورات، من الأستاذين الماهرين، والسيدين
السندين، مهذبي مطالب الفقه والأصول، جامعي شتات المعقول والمنقول، كاشفي
رموز المسائل، وموضحي المعضلات بالبرهان والدلائل، ناقدي الخالص عن
الغش، ومميزي الثمين عن الغث، أسبقي المتقدمين، وأفضلي المتأخرين، وهما
شيخنا الأجل ومولانا الأفخم الشيخ مرتضى الأنصاري، وسيدنا الأكرم ومولانا
الأعظم المعظم السيد ميرزا حسن الشيرازي، جعلتها تبصرة لنفسي، وتزكية
لعملي، فراجعتها رجوع المستنبط، وغوصت في مطالبها غوص تدبير وتحقيق،
تصحيحا لعملي، واختبارا لمقدار وسعي.
وأنا أقل الأقلين وأحوج المحتاجين، أبو طالب الكزازي.
حسبنا الله ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير.

(1) كذا، والصحيح: أعلاها.
14

قوله (قدس سره):
(كتاب الطهارة)
الكتاب في اللغة: مصدر ثالث لكتب كنصر، بمعنى خط وجمع كما عن
القاموس والصحاح ومختار الصحاح، والمصدران الأولان الكتب والكتابة كما
عن الأولين، أو والكتبة بفتح الأول والآخر وكسر الوسط كما عن الأخير. ولعل
من عد الكتاب رابعا صحح أصالة مصدرية الكتابة والكتب معا، لا كما عن مختار
الصحاح من جعل الثاني بدلا عن الأول كما قد يتخيل.
أقول: الأقوى - مع تصحيح استعمال الكتبة مصدرا - جعلها رابع مصادر
الباب، لأنها أندرها قياسا واستعمالا، كما لعله إليه نظر الأولين في عد الكتاب
ثالثا، وإن كان الأحسن عده ثانيا، فإن الكتابة ليست غيره، بل هي هو بزيادة التاء
المصدرية، وهذا لا يوجب التغاير والاثنينية.
وكيف كان فهو هنا بمعنى المفعول أي المرسوم، أو المجموع من مسائل
الطهارة، فإنه يعبر عن مجموع مسائل متحدة بالجنس مختلفة بالنوع بالكتاب عند
أهل العلم، كما يعبرون - غالبا - عن المتحدات بالنوع المختلفات بالصنف بالباب
والمقصد والفصل، وعن المختلفات بالشخص، والمتحدات بالصنف بالمطلب.
والطهارة: مصدر طهر - بالضم والفتح - كالطهر - بالضم - على ما يظهر من
محكي القاموس والطراز.
15

ومعناها: النظافة والنزاهة عن الأقذار، كما عن الطراز طهر: أي نظف ونقي من
النجس والدنس، وهو المناسب لما استعيرت له من التمحيص من الذنوب وسوء
الخلق، والحيض، كما في الكتاب في آية تطهير أهل البيت: يريد الله أن يطهركم
ويذهب عنكم الرجس (1)، وفي قوله تعالى: " وأزواج مطهرة " (2)، وكذا غيرهما
من الآيات.
ولكنها في كلام الفقهاء أطلقت على خصوص الغسل والوضوء والتيمم، بل
يظهر من تعبير جمع بأنها اسم لهذه الثلاثة صيرورتها حقيقة شرعية في هذا المعنى،
وربما يومئ إلى مقبولية النقل عندهم تعريفهم إياها بما يشمل الثلاث، وإتعاب
أنفسهم في إخراج ما عداها، وما ذكروه في نقض التعريف وإبرامهم في تصحيحه،
ومسلمية النقل في ألسنة الفقهاء. قريبة من الصواب، بل غير بعيد دعوى النقل إليها
في العرف، كما يشهد له الآيات الشريفة من قوله تعالى: " إن كنتم جنبا
فاطهروا " (3)، وقوله تعالى: " فإذا تطهرن " (4)، وإن أمكن جعل إرادتها منها من باب
الانصراف وعدم ذكر القيد.
وعن شاذ: كونها علما للأعم منها ومن التطهير عن الخبث.
والأقوى خلافه، ولا أرى للخوض فيه كثير فائدة بعد مسلمية الظهور، إما من
باب النقل، أو من باب الانصراف.
قوله (قدس سره): (وفيه مقدمة، وثلاثة مقاصد، وخاتمة).
(أما المقدمة ففيها) (5) يذكر ما حقه أن يذكر فيها، ولذا جعل فيها بيان
أقسام المياه، وبيان أحكامها، وكيفية التخلي، فإنها من مبادئ الطهارات الثلاث.

(1) ذكر مضمون الآية، والآية هكذا: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت
ويطهركم تطهيرا) الأحزاب: 33.
(2) آل عمران: 15.
(3) المائدة: 6.
(4) البقرة: 222.
(5) عبارة المتن هكذا: أما المقدمة ففيها فصلان، الفصل الأول في المياه، وفيه مباحث،
المبحث الأول: الماء المطلق...
16

أما المقاصد الثلاثة، ففي بيان الطهارات الثلاث.
وأما الخاتمة ففيما يتعلق بختم المسائل من بيان النجاسات والمطهرات
وأحكامهما، وأحكام الأواني.
قوله (رحمه الله): (الماء المطلق: هو الذي تفضل الله به على الناس بجعله
بجميع أقسامه طاهرا مطهرا... الخ) اكتفى بذكر الأحكام واللوازم عن
التعريف، لكفاية هذا المقدار فيما الفقيه بصدده، ولأنه من أوضح المفاهيم العرفية
على ما اعترف به هو والشيخ الأستاذ - طاب ثراه - بل عنه في جواهره أنه لا لفظ
أوضح منه حتى يعرف به. وتعبير جماعة في مقام التعريف: الماء ما سمي ماء مطلقا،
كما في الدرة إشارة إلى هذا أيضا، أي وضوح هذا المفهوم عند العرف، هذا.
مع أنه لم يعلم منهم أنهم في صدد تعريفه، بل الظاهر أنهم في مقام تمييز ما هو
الموضوع المحمول عليه الأحكام المخصوصة المذكورة في الفقه، كما يومئ إليه
التقييد المشار إليه هنا، بأن ما لا يستحق إطلاق اسم الماء عليه على الإطلاق ليس
بمطهر مطلقا وإن قيل بالمطهرية في بعض أفراده، كما سيأتي، مع الحكم بنجاسة
كثيره كقليله بملاقاة النجس.
وبالجملة: مطهرية الماء المطلق لكل متنجس قابل للتطهير هو المستفاد من
الكتاب والسنة، وإفادة لفظة " الطهور " المطهرية هو الذي ادعي اتفاق أهل اللغة
عليه، وإن كان هو خلاف المفهوم من هذا الوزن مع صوغه من اللازم.
ولعله لذا بعضهم ادعى النقل إلى هذا المعنى، وهو غير محتاج إليه، لكفاية
إرادة المبالغة منها في إفادته، إذ معناه اللازمي غير قابل للازدياد إلا بإرادة سراية
الطهارة من الماء إلى غيره.
ويؤيده وروده في قوله تعالى: " وأنزلنا من السماء ماء طهورا " (1) مورد
الامتنان المتمم كما له بإرادة المطهرية منه، لأنه محل الحاجة كثيرا، بل قيل:

(1) الفرقان: 48.
17

يتوقف أصل الامتنان عليه، فإن نفس الطهارة لا امتنان فيه، وإن كانت هي أيضا
محل الحاجة، لكفاية أصالة الطهارة فيها، مضافا إلى عدم تعقل الزيادة فيها،
فلا يناسب التعبير عنها بتلك اللفظة، سيما في الكتاب العزيز، خصوصا مع وجود
اللفظة المفيدة لها وضعا، الشائع استعمالها فيها عرفا، وهو لفظة " طاهر ".
ويشهد لإرادة المطهرية منها قوله تعالى: " وينزل عليكم من السماء ماء
ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان " (1) الشريك معه في الورود مورد الامتنان.
وبالجملة: إفادة تلك اللفظة المطهرية مسلمة عند أهل اللغة، والعرف، وأئمة
التفسير، وهو المجمع عليه عند القوم أيضا، وعليه فلا ينبغي الإشكال في البناء
على حصول الطهر لكل ما استعمل فيه الماء من المتنجسات إلا ما خرج، والحكم
على المشكوك بقبوله التطهير لذلك لمسلمية العموم في المستعمل والمستعمل فيه
مطلقا، بل والكيفية، لأن المرجع فيها العرف كما صرح به الأستاذ في شرح
الإرشاد (2).
وحينئذ فما في الجواهر من: أنه لو سلمنا شموله للمطهرية، لكن لا يكفي ذلك
في بيان كيفية التطهير، ولا عموم يرجع إليه، فعمومها غير مفيد شيئا، انتهى. فيه ما
عرفت من محكمية العرف في بيان الكيفية، ولا حاجة إلى وصول بيان لها من
الشرع، فالعموم تام الإفادة.
وأعجب منه ما في شرح إرشاد الأستاذ من منعه العموم من غير جهة الكيفية
بملاحظة حصره منشأه في قوله (عليه السلام): " الماء يطهر ولا يطهر " (3) من باب حذف
المتعلق، ثم منعه لتلك الإفادة بلحاظ أن قوله: " يطهر " وقع في قبال السلب الكلي
الكافي في رفعه الإيجاب الجزئي، فمفاد الخبر أن المطهرية - بالكسر - ثابتة له في
الجملة، وليست مثل المطهرية - بالفتح - مسلوبة عنه كلية، وفيه كفاية استفادة

(1) الأنفال: 11.
(2) يعني به الشيخ الأنصاري (قدس سره) في كتاب طهارته.
(3) الوسائل 1: 99 و 100، الباب 1 من أبواب الماء المطلق ح 3 و 6 و 7.
18

العموم من لفظة " الطهور " الواقعة في الآية الشريفة، من باب حذف المتعلق أيضا،
سيما مع ملاحظة ورودها مورد الامتنان المنافي للإهمال، هذا.
مضافا إلى أن ما ذكره في الخبر الشريف أيضا غير تام في نظري القاصر، إذ
السلب إنما هو باعتبار غير الماء من المطهرات، لوضوح حصول الطهر له به
وبالمطر الذي هو أيضا فرد منه. فمفاد الخبر أنه يطهر غيره ولا يطهره غيره، ومن
الواضح إفادته للعموم حينئذ فلا تغفل ولا تتعسف.
فإذا الأقوى أن استعمال الماء بالشروط المفصلة - المبينة في محالها - مزيل
لكل قذارة حدثية وخبثية، إلا ما ثبت عدم قابليته للرفع بدليل خاص، بمعنى أن
المقتضي للرفع بملاحظة نفس استعمال الماء موجود ما لم يمنعه ثبوت عدم
القابلية في المحل، أو وجود مانع آخر ثمة، ولو بلحاظ خصوصية في الكيفية ثابتة
لمحل مخصوص.
هذا كله مضافا إلى الأخبار الخاصة الواردة في التطهير، فإنها تفيد عموم
مطهرية الماء بلا خفاء.
ثم إنه قال في الجواهر: " إنه لا ريب في أن حمل الطهور على المطهرية
بالمعنى الشرعي ليس معنى لغويا، بل هو إما أن يكون من باب النقل الشرعي، أو
المجاز " وقوى هو (قدس سره) النقل، ثم فرع عليه ممنوعية إرادة المطهر من الأحداث
والأخباث معا منه، لتصريح القوم بأن استعمال لفظ " الطهارة " في الثاني مجاز،
فيلزم استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، لعدم قرينة على إرادة عموم المجاز منه.
وأنت ترى ما فيه، لأن الحقيقة الشرعية - على فرض تسليمها - إنما قال به
من قال في خصوص لفظة " الطهارة " لا في هذه المادة بما اشتقت منها من
الهيئات، مضافا إلى منافاة ما ادعاه (قدس سره) في خصوص لفظة " الطهور " من أهل اللغة
وأئمة التفسير، فليس حينئذ إرادة المعنى الشرعي منه إلا من باب الانطباق على
المعنى اللغوي الكلي.
قوله (قدس سره): (وانه لا ينجسه شيء مما لاقاه - إلى قوله - أو كان راكدا دون
19

الكر) يظهر من عطفه الراكد القليل على المتنجس بالتغيير اثنينية أقسام الماء
عنده باعتبار هذا الحكم - وهو الاعتصام وعدمه - في الدافعية، والمصرح به في
كلمات القوم - ومنهم هو في جواهره - تثليث الأقسام: جار، وبئر، ومحقون.
والأظهر عندي بملاحظة العصمة دفعا ورفعا وعدمها كذلك والاختلاف فيهما
هو تربيع الأقسام، فالمعصوم من الجهتين هو: الجاري، وماء المطر حال نزوله،
والبئر على الأقوى. وغير المعصوم كذلك هو: الراكد دون الكر عند المشهور.
والمعصوم رفعا لا دفعا: النابع غير الجاري عند بعض، على تفصيل يأتي. وعكسه
الكر.
وكيف كان: الجاري هو السائل عن مادة نبعية، فلا يكفي مطلق السيلان
ولا مجرد النبع بدونه، لعدم مساعدة العرف الذي به يستكشف عن المعنى اللغوي
عليه، ولصحة السلب عن السائل عن كوز ونحوه، كعدم الصدق عرفا على نبع
لا جري له أبدا.
فما عن الشهيد الثاني من تعبيره عن الجاري بالنابع مطلقا، لا يرى له وجه
لو أراد بيان المسمى، وتصحيحه بالغلبة أو باصطلاح عرف جديد سقيم، لعدم
مدخلية الغلبة في التسمية، ولانتفاء الاصطلاح بما نشاهده من استقرار العرف
على خلافه وعدم إطلاقهم الجاري إلا على سائله.
وكذا لو أراد إلحاقه به في الحكم، لأنه يتم إذا كان اتحاد حكمهما مسلما عند
الكل، وليس كذلك، لما عن ظاهر المحقق من حكمه بعدم تطهير القليل منه بالنبع
من تحته، معللا بأن النابع ينجس بالملاقاة - وعن كاشف اللثام - جعله أوضح
الاحتمالين. وعن المقنعة - كما عن التهذيب - انفعال القليل من الغدير النابع
وتطهيره بالنزح وعدم انفعال الكثير منه، بل عن مفتاح الكرامة أنه حكى عن
المحقق البهبهاني (رحمه الله): أن النابع الراكد عند الفقهاء في حكم البئر.
وإن كان الأشبه بكلماتهم - كما سيأتي - أنه بحكم الجاري، كما صرح به
شيخنا الأستاذ، إلا أنه لا ينفع ذلك في إطلاق الجاري عليه من تلك الجهة،
20

مع ما عرفته من الاختلاف فيه، فالأظهر عدم دخوله في الجاري موضوعا
كخروج السائل لا عن نبع عنه قطعا، فما عن بعض المتأخرين من تعميمه إليه
- مستندا إلى صدق الجاري على الذائب السائل عن الثلج - اشتباه من الإطلاق
المجازي التشبيهي على الحقيقي، لما عرفته من صحة السلب عن بعض أفراده
بلا تأمل، فيكشف عن أن الإطلاق في المقام ليس إلا لتشبيهه به، لما فيه من
الاستمرار زمانا معتدا به، بل في بعض المقامات ليس إلا بمعنى الجري اللغوي،
الذي هو الانتقال من محل إلى آخر.
فتنقح أن المحكوم عليه بقوله: " وأنه لا ينجسه شيء مما لاقاه من نجس
العين إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه تغيرا حسيا " هو السائل عن نبع كما قواه في
جواهره، وقرره شيخنا الأستاذ - طاب ثراه - في طهارته، وقوى انفعال النابع غير
الجاري في حاشية النجاة.
قوله (قدس سره) في كيفية انفعال القليل الراكد: (سواء وردت النجاسة عليه،
أو ورد هو عليها، على الأصح) أشار بقوله: " على الأصح " إلى قول العماني
والكاشاني والمحدث الفتوني بعدم انفعاله مطلقا، وإلى ما نسب إلى ناصريات
السيد وابن إدريس في السرائر من الفرق بين الوارد والمورود باختصاص
الانفعال بالثاني، وإلى ما حكي عن الشيخ من عدم الانفعال بما لا يدركه الطرف
من الدم.
ولقد أطال في جواهره بذكر الأخبار الدالة على الانفعال، والأخبار التي
يمكن أن يستدل بها للعماني مع وجوه أخر له، لا أرى لتعرض الجميع والنقض
والإبرام في التصحيح والتزييف كثير فائدة، بعد وضوح المسألة بالإجماعات
المحكية، والأخبار المتواترة، بل قيل: إنها تبلغ ثلاثمائة.
ولقد أجاد شيخنا الأستاذ في شرح الإرشاد حيث اقتصر على اللباب بذكر
ما هو واضح الدلالة على وجه لا يحوم حول تأويله او لو الألباب. ومن طرف
العماني بذكر ما هو ظاهر الدلالة من غير المطلقات، لعدم الجدوى فيها وإن
21

وصلت آلافا، لكفاية مقيد واحد لرفعها على ما هو طريق الحق والصواب من
حمل المطلق على المقيد، وعدم التماس الترجيح بينهما كالمتباينين.
فمما يدل على انفعال القليل قول الصادق (عليه السلام) في صحيح محمد بن مسلم:
" قال: قلت: الغدير فيه ماء مجتمع، تبول فيه الدواب، وتلغ فيه الكلاب، ويغتسل
فيه الجنب؟ قال: إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شيء " (1)، كصحيح معاوية بن
عمار (2) الذي هو مثله، فإنهما دلا على أن العصمة في الراكد - الذي هو مورد
السؤال - منوطة ببلوغه كرا، فما لم يبلغه لا قابلية له للاعتصام عما يقع فيه مما
يقتضي الانفعال وهو ملاقاة القابل للتأثير، فمفهومهما حينئذ انفعال القليل من
الراكد، أو مطلقا بناء على أن خصوصية المورد لا تخصص عموم الجواب بكل
ما لاقاه مما من شأنه تنجيس ملاقيه، لا لأن مفهوم السالبة الكلية موجبة كلية
- ولو في خصوص المقام، باعتبار نفس القضية - لأن الحق في مفهومه - على
ما يساعده العرف - هو الايجاب الجزئي، بل لأنه أيضا يكفينا في المقام ردا على
العماني، إلا أن لي مقصدا في إثبات العموم أنا مهتم به، لما رأيته من سيد الرياض
في سالف الزمان أنه رد بعض فروع المسألة أو استشكل فيه، لنفيه وجود عموم
يدل على كلية الانفعال، ليكون المخرج منه أو المخالف له، مما يتوهم فرديته له
محتاجا إلى المخرج، بل جعل عدم انفعاله على وفق القاعدة، لنفيه دلالة مثل هذا
الصحيح على العموم، وقصره الدليل على الانفعال في الخصوصات التي حسب
اختصاصها بموردها من المياه والنجاسات وكيفية الملاقاة.
فمقصودي أن أتمم العموم من الجهات الثلاث لرفع تلك الغائلة، فأقول: إن
الخبر الشريف دال بمفهومه القوي على العموم من جهتي النجاسة والكيفية، بل من
الجهات الثلاث، بناء على إلقاء الخصوصية لا لما ذكر، بل لما أشرت إليه من دلالة
الخبر على وجود المقتضي للتنجيس، وأن الكرية مانعة عن الاقتضاء في خصوص

(1 و 2) الوسائل 1: 118، الباب 9 من أبواب الماء المطلق، ح 5. وص 117 ح 2.
22

الكر ما لم يتغير، لأن الحكم في المنطوق لم يحمل على العموم حتى يكون سلبا
كليا، فيكون مفهومه الإيجاب الجزئي، بل الحكم فيه محمول على خصوص
النجاسات المعهودة، فكل واحدة واحدة منها بالخصوص نفي تأثيره في الكر
لأجل كريته، فإذا كان الحكم في المنطوق على خصوص الآحاد من دون مدخلية
للاجتماع فيها يكون مفهومه - لا محالة - رفع ذلك الحكم، فيفيد ثبوت تأثير كل
فرد فرد منها في تنجيس الملاقي عند انتفاء الكرية منه، وهذا هو العموم من طرفي
الملاقي والملاقى، وعموم الكيفية يأتي من عدم التعرض لكيفية مخصوصة في
القضية منطوقا ومفهوما، فيكون محمولا على المتعارف في صدق الملاقاة.
فتلخص أن القضية الكلية إذا كان الحكم فيها محمولا على الأفراد يكون كلية
المفهوم فيها على القاعدة، وما نفيناه من عدم ظهورها في ذلك إنما هو بالنظر إلى
عدم ظهورها في حمل الحكم فيها على الأفراد، لا مطلقا. هذا كله مضافا إلى أن
ما تخيلوه من عدم العموم في المفهوم إنما هو لأجل نكارة لفظة " شيء " الواقعة في
المفهوم في حيز الإثبات، فيكون مفادها الجزئية فلا يعم، وهو غفلة عن أن تلك
اللفظة كناية عن النجاسات العشر المعهودة، فتفيد بالعموم البدلي الآتي من قبل
النكرة الغير المعهودة في فرد خاص أن ملاقاة كل واحدة منها مؤثرة في الانفعال،
كما هو قضية إلقاء الخصوصية في المقام، فتدبر.
ومما يشهد على صحة ما ادعيناه قوله (عليه السلام) في خبر معاوية بن شريح حين
سأله أبو عذافر عن سؤر السنور والشاة - وأمثالهما مما عده فيه - والسباع، يتوضأ
منه؟ فأجابه بنعم، ثم سأله عن الكلب، فقال: لا، فاعترض عليه أبو عذافر، أليس
هو سبع؟ قال (عليه السلام): " لا والله، إنه نجس " (1)، فعلم منه أن مناط نجاسة الماء ملاقاته
لما هو نجس في الشريعة لا النجاسة القائمة بالكلب.
كما يشهد له أيضا مركوزية انقسام الماء إلى ما ينفعل وما لا ينفعل في أذهان
الرواة، من غير خصوصية بنجس خاص.

(1) الوسائل 1: 163، الباب 1 من أبواب الأسئار، ح 6.
23

وصحيح إسماعيل بن جابر: عن الماء الذي لا ينجسه شيء، قال: " كر، قلت:
وما الكر؟... " الخبر (1).
وكذا مصححه: عن الماء الذي لا ينجسه شيء، قال (عليه السلام): " ذراعان عمقه
في ذراع وشبر سعته " (2).
ومثل خبر ابن شريح في الشهادة صحيح بقباق الوارد في سؤر الكلب،
قال (عليه السلام): " إنه رجس نجس لا يتوضأ بفضله، واصبب ذلك الماء واغسل الإناء
بالتراب أول مرة ثم بالماء " (3).
وصحيح ابن مسكان عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): " عن الرجل الجنب
يجعل الركوة أو التور فيدخل إصبعه فيه، قال (عليه السلام): إن كانت قذرة فأهرقه، وإن كان
لم يصبها قذر فليغتسل منه، هذا ما قال الله عز وجل: " ما جعل عليكم في الدين
من حرج " (4).
وما ورد في الإناءين المشتبهين من: " أنه يهريقهما ويتيمم " (5). وغير ذلك
مما يقف عليه المتتبع في أخبار الباب.
هذا مع دلالة ما ذكرناه من الأخبار شاهدة على ما ادعيناه من اقتضاء ملاقاة
النجاسة تنجيس الماء ما لم يحرز فيه عصمة مانعة بمنطوقها على عموم الحكم
لكل نجس، وفي بعضها لكل ماء غير عاصم، وفي بعضها بأي كيفية حصلت
الملاقاة، كدلالة الخصوصات أيضا بعد إلقاء خصوصياتها، إما بالقطع،
أو بالإجماع المركب وعدم القول بالفصل، أو بالقرائن الخارجية - على حسب
تفاوت الخصوصيات من الملاقي والملاقاة وكيفية الملاقاة - على أن الملاقاة الغير

(1) الوسائل 1: 118، الباب 9 من أبواب الماء المطلق، ح 7.
(2) الوسائل 1: 121، الباب 10 من أبواب الماء المطلق، ح 1.
(3) الوسائل 1; 163، الباب 1 من أبواب الأسئار، ح 4.
(4) الوسائل 1: 115، الباب 8 من أبواب الماء المطلق، ح 11.
(5) الوسائل 1: 113، الباب 8 من أبواب الماء المطلق، ح 2.
24

المغيرة في غير الكر أيضا موجبة للتنجيس كلية، كصحيح علي بن جعفر: " في
خنزير يشرب من إناء، قال: يغسل سبع مرات " (1). وصحيح محمد بن مسلم: " عن
الكلب يشرب من الإناء، قال: اغسل الإناء " (2). وصحيح البزنطي قال: " سألت أبا
الحسن عن الرجل يدخل يده في الإناء وهي قذرة، قال (عليه السلام): يكفي الإناء (3).
وعمومه لكل قذارة لا يقبل الإنكار، كما أن خصوصية الإنائية ملقاة قطعا، غاية
الأمر اختصاصه بالراكد القليل، وصحيح محمد بن مسلم - وما بمعناه - قد عرفت
عمومه من تلك الحيثية أيضا.
وبعد ثبوت هذا العموم قد ارتفعت الأقوال الثلاثة بعدم الانفعال مطلقا أو في
الجملة، ولا يهمنا ذكر ما ذكر لها من المستند ورده، لأن شيخنا الأستاذ (قدس سره) قد كفانا
مؤنة ذلك في شرح إرشاده بما لا مزيد عليه.
بقي الكلام في بيان كيفية النجاسة بالملاقاة من الوجوه الثلاثة التي ذكرها
شيخنا الأستاذ من السراية الحكمية، بمعنى الحكم بنجاسة الجزء الملاقي للملاقاة
مع النجس ونجاسة الجزء الملاصق له، لصدق ملاقاته مع ما حكم عليه بالنجاسة،
وهكذا إلى أن ينتهي الأجزاء المتلاصقة المتواصلة، لأن ملاقاتها بعضها مع بعض
ثابتة لها قبل الحكم وحينه.
والحكم بالنجاسة إذا أتى للجزء الأول - لملاقاته عين النجس - تأتي للأجزاء
الباقية، من جهة ملاقاتها لما حكم بنجاسته، وتمامية هذا موقوفة على القول
بتصحيح انقسام الشيء إلى جزء لا يتجزأ.
أما على القول ببطلانه فيرد عليه ما أورده الأستاذ من اختصاص الملاقاة
بأحد سطحي الجزء، فيختص الحكم بالتنجيس به، ولا يتعدى منه إلى السطح
الآخر، فيختص النجاسة حينئذ بالجزء الأول وأحد سطحي الجزء الثاني.

(1) الوسائل 1: 162، الباب 1 من أبواب الأسئار، ح 2.
(2) الوسائل 1: 162، الباب 1 من أبواب الأسئار ح 3.
(3) الوسائل 1: 114، الباب 8 من أبواب الماء المطلق، ح 7.
25

ودفعه بأن العرف لا يعرف للجزء سطحين رجوع عن هذا الوجه وإبطال له،
لأن الرجوع إلى العرف لو كان يجدي لا يبقى احتياج إلى تكلف هذا الوجه، لأنه
يحكم بنجاسة ما يراه ماء واحدا بمجرد ملاقاة النجاسة، بعد معرفة أن ملاقاتها
توجب الانفعال من دون التفاته واستشعاره إلى ما ذكر، والسراية الحقيقية التي
بطلانها غني عن البيان، والتعبد الشرعي الذي لا داعي إلى التزامه بعد محكمية
العرف، وحكمهم بالانفعال بمجرد الملاقاة، واستنادهم في حكمهم هذا إلى نفس
الملاقاة والاتصال، وعدم فرقهم في حكمهم هذا بين الوارد والمورود، والعالي
والسافل.
نعم قد استثني من الكلية المذكورة موارد:
موردان منها إجماعيان، وهما:
ماء الاستنجاء، وسيأتي إن شاء الله.
والجزء العالي الذي قال في بيان حكمه (قدس سره): (نعم العالي منه المتصل
بالوارد من الماء على النجاسة مع سيلانه طاهر قطعا) الذي علق عليه
الأستاذ بشرط أن يكون العلو تسنيما أو تسريحا يشبه التسنيم، لأنه المتيقن من
معقد الإجماع على الطهارة على ما ادعاه الطباطبائي في مصابيحه وبعض أفاضل
تلامذته في مقابيسه - على ما حكي - ولأنه الذي يقتضيه ما استند إليه سيد
الرياض من عدم معقولية سراية النجاسة من السافل إلى العالي، وإن كان فيه
ما لا يخفى، ولأن في التسريح الذي لا يشبه التسنيم يحكم بعصمة الجزء العالي
بالجزء السافل، للوحدة فيما إذا بلغ حد الكرية، فليكن في طرف الانفعال أيضا
كذلك، أي يحكم بأن نجاسة السافل مستلزمة لنجاسة العالي، لأن مستنده ثمة لم
يكن إلا صدق الوحدة، وهي هنا موجودة.
فإن قلت: الوحدة مع التسنيم والتسريح المشبه به أيضا مسلم، فلم لا يحكم
بتنجيس تمامه؟
قلت: سيأتي عدم مسلمية الوحدة، ومع تحققها سيأتي عن فاضل الكشف
26

أن القاهرية مانعة عن السراية. ولعل ما سمعته من سيد الرياض من عدم المعقولية
ناظرة إليه، والعمدة الإجماع كما بينا.
مضافا إلى أن العموم محكم مع صدق الوحدة ما لم يثبت المخرج، فالاستناد
إليه أوضح من تجشم هذه الامور، يعني ما ذكر من القياس، كما استند إليه الأستاذ
ونقله عن كاشف الغطاء.
وثلاثة منها خلافية:
منها: ماء الغسالة، وسيأتي التعرض له إن شاء الله.
ومنها: ما أشرنا إليه مما نسب إلى السيد من عدم انفعال الماء الوارد على
النجاسة.
ومنها: ما عن الشيخ من عدم الانفعال بما لا يدركه الطرف من الدم. ولعله
أراد ما يحتاج إبصاره إلى دقة النظر، كما يومئ إليه تعبيره المحكي عن مبسوطه
بقوله: " ما لا يمكن التحرز منه مثل رؤوس الإبر من الدم وغيره، فإنه معفو، لأنه
لا يمكن التحرز عنه ". وعدم تمامية التعليل بعدم تيسر الاحتراز واضح، لتيسره.
نعم مصحح علي بن جعفر الوارد في خصوص الدم (1) غير خال عن الدلالة،
ولكنه غير مقاوم للأخبار الماضية عموما وخصوصا، الدالة على عموم الحكم
كعموم معاقد الإجماعات، فلا يمكن رفع اليد عنها بهذا الخبر الغير الواضح الدلالة،
المحتمل لإرادة عدم العلم من عدم الاستبانة فيه، كما فهمه منه الأصحاب.
وأما كلام السيد فمحتمل لأن يكون في خصوص ماء الغسالة، كما يومئ إليه
تعليله في عبارته المحكية عنه في المقام، قال الناصر: " ولا فرق بين ورود الماء
على النجاسة، وورود النجاسة على الماء ". قال السيد: وهذه المسألة لا أعرف لها
نصا لأصحابنا ولا قولا صريحا، والشافعي يفرق بين ورود الماء عليها وورودها
عليه، فيعتبر القلتين في ورود النجاسة على الماء، ولا يعتبرهما في ورود الماء

(1) الوسائل 1: 112، الباب 8 من أبواب الماء المطلق، ح 1.
27

على النجاسة، وخالفه سائر الفقهاء في هذه المسألة. والذي يقوى في نفسي عاجلا
- إلى أن يقع التأمل فيه - صحة ما ذهب إليه الشافعي، والوجه فيه أنا لو حكمنا
بنجاسة الماء القليل الوارد على النجاسة لأدى ذلك إلى أن الثوب لا يطهر من
النجاسة إلا بإيراد كر من الماء عليه، وذلك يشق، فدل على أن الماء الوارد على
النجاسة لا يعتبر فيه القلة والكثرة، كما يعتبر في ما يرد عليه النجاسة، انتهى.
فإن قوله: " لأدى ذلك... الخ " يعطي أن مقصوده من الوارد خصوص ما
يستعمل في التطهير، ولذا نقل كلامه في التذكرة في باب الغسالة - على ما حكي -
بل حكي عن ظاهر الذكرى أن الشهيد قال: إن كلامه وكلام ابن إدريس كلاهما
في الغسالة. ويؤيده - أي الاختصاص - قوله: " لا أعرف لها نصا... الخ " والمحكي
عن ابن إدريس بعد نقل ما نقلناه عن السيد هو قوله: وما قوي في نفس السيد
هو الصحيح المستمر على أصل المذهب.
مع أن فتاوى الأصحاب - بعد ما عرفت من تكاثر الأخبار على انفعال مطلق
القليل بالملاقاة، وعموم معاقد الإجماعات - هو عموم الانفعال للوارد والمورود،
ولا أقل من معروفية القول بالعموم بين الرواة والمحدثين لما هو مسلم من أن
ديدنهم العمل بما في الأخبار، وقد عرفت ظهورها في العموم، فلا يجتمع هذا مع
قول السيد: " لا أعرف لها نصا لأصحابنا " فليس إلا مسألة الغسالة كما يشهد له
المحكي عن الشهيد بقوله: " والعجب خلو كلام أكثر القدماء عن حكم الغسالة مع
عموم البلوى بها ". فيعلم أن قول السيد (رحمه الله): " لا أعرف " إشارة إلى هذا.
كما أن إخراج كلام ابن إدريس عن الكذب لا يكون إلا بهذا، لأن طهارة ماء
الغسل شيء يمكن دعوى استمرار المذهب عليه، وكونه فتاوى الأصحاب،
لا عدم انفعال الوارد من الماء القليل الذي لا ذكر له في خبر ولا فتوى مفت.
ومما يؤيد اختصاص كلامهما بالغسالة ما حكي عنهما مما يستظهر منه قولهما
بالانفعال في الوارد أيضا أو صريح فيه، كقول السيد: " يجوز أن يجمع الإنسان
وضوءه من الحدث أو غسله من الجنابة في إناء نظيف ويتوضأ به ويغتسل به مرة
اخرى بعد أن لا يكون على بدنه شيء من النجاسة " انتهى.
28

فإن ظاهر تقييده الجواز بخلو البدن عن النجاسة، بل ولفظة: " في إناء نظيف "
هو نجاسة الماء الوارد على النجس، وخروجه عن قابلية الاستعمال ثانيا.
واحتمل الشيخ الأستاذ - طاب ثراه - كون المنع حينئذ لمنعه عن رافعية
الغسالة للحدث، مع قوله بطهارتها. فاشتراط الخلو لئلا يدخل الماء المجتمع في
عنوان " الغسالة " الغير الرافعة عنده، مع أنها أيضا طاهرة عنده. ولكن يبعده عدم
صدق الغسالة عليه إذا استعمل بقصد رفع الحدث وإن أزال الخبث أيضا تبعا.
وكذا قوله: " في إناء نظيف " الظاهر في نظافته عن النجاسة، لا عن الوسخ.
ونحوه قول ابن إدريس في أول السرائر: " والماء المستعمل في تطهير
الأعضاء والبدن الذي لا نجاسة عليه، إذا جمع في إناء نظيف كان طاهرا مطهرا،
سواء كان مستعملا في الطهارة الكبرى أو الصغرى على الصحيح من المذهب ".
ولا يحتمل في كلامه هذا ما احتمله الأستاذ في كلام السيد، من كون الشرط
لأجل عدم رافعية الغسالة، لأنه (قدس سره) صرح بأن ظاهره رافعية كل ماء طاهر ولو
الوارد على النجس على القول بطهارته. وأن مقصوده من كلامه هذا هو الرد على
الشيخ المانع من رافعية المستعمل في الحدث الأكبر. وكذا قوله في مسألة الاستنجاء
وماء الاغتسال من الجنابة: " إنه متى انفصل ووقع على نجاسة ثم رجع إليه وجب
إزالته ". ودعواه الإجماع على نجاسة غسالة الحمام، مع أنها غالبا من المياه
الواردة على النجاسة. ورده القول بتعدي النجاسة عن ملاقي الميت إلى ما يلاقيه
- كما هو المشهور - بأنه لو كان كذلك لزم نجاسة الماء الذي يستعمله ماس الميت
في غسل المس، مع أن المستعمل في رفع الحدث طاهر إجماعا. انتهى. حيث إنه
لو كان قائلا بطهارة مطلق الوارد لم يكن وجه لنقضه بالماء الذي يستعمله ماس
الميت، لوضوح أن استعماله إياه إنما هو بإيراده على بدنه لا العكس.
هذا كله مضافا إلى أنه لا دليل على التفصيل المنسوب إليهما، ولا مخرج
لخصوص الوارد عن تحت العموم المسلم عمومه، كما يشهد لتسليم هذا العموم
ذكرهم الموارد المذكورة من ماء الاستنجاء وغيره من مستثنيات تلك القاعدة،
29

كما عن الشهيد في الذكرى أنه استثنى الأصحاب من انفعال الماء القليل ثلاثة
مواضع. مع أنك عرفت أن لا شبهة في عموم الكيفية عند العرف ومأنوس إليه
أذهان المتشرعة بعد معرفة أن الملاقاة مع الرطوبة مؤثرة حتى في الجوامد
الرطبة، وأن مستندهم في ذلك ليس إلا مجرد الوصول، غير فارقين فيه بين أنحائه
وكيفياته. ومعلوم أن الخلاف في المسألة لا يوهن ما هو محكم عند العرف،
ولا يوجب رفع اليد عنه.
هذا كله مضافا إلى ما عرفت من قوة ما يدل على العموم من الصحاح
المستفيضة الدالة عليه بالمفهوم عموما، مثل قوله: " إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه
شيء " (1) بالتقريب الذي ذكرناه من أن المستفاد منه سببية ملاقاة النجاسة
للتنجيس، وأن العموم هو المحكم من مثله مما حمل الحكم في المنطوق على
أشخاص الأفراد.
ومن خصوص ما ورد منها في خصوص الوارد، كأخبار غسالة الحمام (2)
بتقريب ما بيناه في معقد إجماع الحلي فيها، والأخبار الدالة على اشتراط جريان
المطر في الحكم بطهارة مائه الوارد على النجس (3) وما دل على وجوب تطهير
إناء الخمر لأجل جعل الماء فيه (4)، مع أن المجعول فيه وارد. اللهم إلا أن يدعى
أنه لأجل الحكم بالطهارة بعد الاستقرار لا أول الورود، وهو كما ترى. ومثل
تعليل خبر الأحول في الحكم بعدم انفعال ماء الاستنجاء بأن الماء أكثر (5) مع أن
العلة على هذا القول ورود الماء لا كثرته.
ومثل الإجماع المدعى على انفعال خصوص الوارد، كالذي تقدم عن الحلي

(1) الوسائل 1: 117، الباب 9 من أبواب الماء المطلق، ح 1.
(2) الوسائل 1: 158، الباب 11 من أبواب الماء المضاف، ح 1 - 3.
(3) الوسائل 1: 108 - 109، الباب 6 من أبواب الماء المطلق، ح 1 - 3.
(4) الوسائل 2: 1074، الباب 51 من أبواب النجاسات، ح 1 - 2.
(5) الوسائل 1: 161، الباب 13 من أبواب الماء المضاف، ح 2.
30

في غسالة الحمام، وما حكي عن المحقق من الإجماع على نجاسة الماء الذي
يغتسل به الجنب - وغيره من ذوي الأحداث - إذا كان بدنه نجسا ولم يغسله قبل
الغسل، وما عن التحرير والمنتهى مثله بعينه، كعدم خلافهم في عدم مطهرية الماء
القليل الوارد على الماء النجس، فلولا انفعاله به لا معنى لبقاء المورود على
نجاسته.
والحال أن الوارد عليه طاهر بعد ملاقاته له، فتبين أن هذا التفصيل أضعف من
إطلاق ابن أبي عقيل، وأن الأقوى انفعال الماء القليل مطلقا.
قوله (قدس سره): (ولا عبرة بالتغيير بأوصاف المتنجس... الخ) قد ذكر أن
انفعال غير الراكد والراكد الكر إنما هو بتغير أحد أوصافه الثلاثة: الطعم والريح
واللون، فأراد أن يبين كيفية التغير الموجب للانفعال، وأنه بم يحصل؟
أقول: لا شك في أن التغير الموجب للانفعال لا بد وأن يكون بواسطة ملاقاة
الماء لعين النجاسة، وأن يكون في الأوصاف الثلاثة المذكورة، فتغييره بنفسه
لا يورث ذهاب الطهارة عنه قطعا، لعدم المقتضي له، واختصاص أدلة انفعاله
بالتغيير بما إذا حصل عن ملاقاة نجاسة كما هو صريحها. كما أنه بعد البناء على أن
التغيير لا بد وأن يكون مما من شأنه انفعال الماء به وهو النجاسات لا بد أن يقال
بلزوم استناده إلى ملاقاتها له بأي نحو حصلت، دون مطلق حصوله ولو بالمجاورة
ونحوها، نعم يكفي في تحقق استناد التغيير إلى الملاقاة صدق ملاقاتهما، سواء
لاقته بنفسها فغيرته، أم لاقته في ضمن شيء متغير بها فتغير الماء بهذا الشيء
المتغير بالنجس، على وجه يستند تغيره إلى تلك العين النجسة، ويقال بأن حصوله
فيه منها وإن لم يصدق ملاقاته لشخص عينها، كما لو لاقى الماء ماء منتنا بالجيفة
حين خلوه عن عين الجيفة وخروجها عنه فتغير الثاني بريح الجيفة التي
استصحبها الماء الملاقي لها، فإنه يصدق على هذا الماء المتغير بملاقاة المنتن أن
تغيره إنما هو من الجيفة، ويصدق عليه قوله في صحيح ابن بزيع (1): كلما غلب

(1) كذا، وليس في سند الرواية " ابن بزيع ".
31

الماء على ريح الجيفة فتوضأ واشرب، وإذا تغير الماء وتغير الطعم فلا تتوضأ
ولا تشرب (1).
وهذا هو المراد مما زاده الأستاذ في الحاشية من قوله: " أو ملاقاة الملاقي
لها " بعد قول المصنف (قدس سره): " على وجه يستند التغير في الماء إلى ملاقاتها " لأنه إما
أن لا يشمل العبارة تلك الصورة في متفاهم المحاورة، أو يخفى شمولها لها،
لظهورها في مثل ما لو تغير ماء بدم فاحمر، ثم لاقى ماء آخر فغيره مما فيه من
لون الدم.
مع أن الصورة السابقة أيضا مراده منها قطعا، كما يعطيه قوله في الجواهر
- في فرض المسألة -: " مع استناد التغير إلى تلك النجاسة " ولم يقل: " إلى ملاقاتها "
وعلله بدخوله تحت الأدلة، ووجهه ما أشرنا إليه من صدق أخبار الباب، لصدق
أن التغير في الماء إنما هو من ملاقاة الدم والجيفة - في المثالين - ولو بواسطة آخر
موصل إياها إليه، سيما مع إطلاق التغير في جملة منها، بحيث يتوهم الاكتفاء به
ولو حصل من المجاورة، وخصوصا أن الماء الواحد في العرف المنفعل بتغيره
بالنجس لا يعقل استناد التغير في جميع جوانبه وأجزائه إلى ملاقاة شخص عين
النجاسة، سيما في غير القابلة منها للانتشار كالجيفة مثلا، حيث إن في المنتشرة
أيضا - كالدم - لا يصدق على الأجزاء التي هي غير الجزء الذي لاقى الدم حين
وقوعه فيه أنها لاقت ذات الدم، وإنما لاقت الماء المتنجس المتغير بالدم كما
لا يخفى.
مع أن مورد الأخبار والواقع في الخارج من موارد تحقق التغير ليس إلا على
هذا النحو، فتنقح أنه يكفي في التغير أن يقال: إنه حصل من التلاقي ولو بواسطة
ملاقاة ملاقي النجس أيضا، ولا ينحصر فيما استند إلى ملاقاتها نفسها.
وإن شئت قل: إنه تغير بملاقاة الجيفة، لصدق أن هذا الحوض ملاقي لها،
ومتغير بصفة النجاسة، الحاصل ذلك التغير بالملاقاة بعد صيرورة ملاقي الجيفة

(1) الوسائل 1: 102، الباب 3 من أبواب الماء المطلق، ح 1.
32

جزءا منه متحدا معه، لما بيناه من عدم لزوم ملاقاة كل جزء جزء من أجزاء الماء
الواحد مع الجيفة، بل يكفي في صدق ملاقاته لها ملاقاتها مع جزء منه بعد غلبتها
على تمامه بريحها، وهو هنا حاصل بعد صيرورة المتنجس مع الحوض - مثلا -
واحدا، وعدم اعتبار حصول غلبة الوصفية حين الملاقاة كما هو واضح، بل يكفي
مطلقا. مضافا إلى أنه ليس لنا ماء واحد متغير محكوم بعضه بالطهارة وبعضه
بالنجاسة، ولا يلتزمه القائلون بعدم الانفعال كما لا يلتزمون، بل لا يسعهم الالتزام
بطهارة المتنجس مع بقاء تغيره، فلا تغفل.
نعم لا عبرة بالتغير الحاصل من أوصاف المتنجس لظهور الشيء في
قوله (صلى الله عليه وآله): " لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه " (1) في نجس العين، ولأن التنجيس
بالمتنجس إنما هو بواسطة ملاقاته لنجس العين، وقوله (عليه السلام) في صحيح ابن بزيع:
" ماء البئر واسع لا يفسده شيء إلا ما غير ريحه أو طعمه، فينزح حتى يذهب الريح
ويطيب الطعم " (2) فيه قرينة على أن المراد بالمغير هو نجس العين من قوله:
" يطيب الطعم " حيث إن المتنجس ليس فيه طعم غير طيب.
وبالجملة لا دليل على اعتبار صفات المتنجس فيبقى المتغير بها على طهارته
المتيقنة بلا ثبوت رافع لها، بل في الجواهر قال: " يمكن استنباط الإجماع على
الاختصاص بعد دعواه الجزم باختصاص الأخبار سؤالا وجوابا بنجس العين
عدا النبوي ".
ولم يذكروا مخالفا في عدم الانفعال بها إلا عبارة عن الشيخ في المبسوط في
باب تطهير المضاف المتنجس، لها ظهور ما في المخالفة على ما حكي، وهي هذه:
" إن اختلط بالكثير فإن سلبه الإطلاق وغير أحد أوصافه الثلاثة لا يجوز
استعماله، وإن لم يغير ولم يسلب جاز " وهي كما تحتمل تغيير الكثير المطلق بصفة
المضاف مع بقاء الإطلاق، فيكون من المسألة، كذلك تحتمل تغييره على وجه

(1) الوسائل 1: 135، الباب 1 من أبواب الماء المطلق، ح 9.
(2) الوسائل 1: 127، الباب 14 من أبواب الماء المطلق، ح 7.
33

يخرج عن الاطلاق إلى الإضافة، أو تغييره بصفاته التي اكتسبها من النجاسة،
فلا يكون من هذا الباب، مع أن مخالفته - على فرض تسليمها - غير ضائرة، لعدم
مساعدة دليل تام له، عدا إطلاق النبوي الذي لا جابر له في المقام.
فرع: لو خالط الماء المتغير المفروض ماء صافيا فغيره، ولم يعلم أن تغيره
من وصف النجاسة المختلطة للماء الأول، أو من وصف الماء الكائن فيه قبل
ملاقاة النجاسة المتحد مع وصفها أو منهما معا، فالعمل على عمومات الطهارة
وأصلها، لعدم استناد التغير إلى النجاسة الملاقية للماء الأول الذي هو مناط الحكم
بانفعال ملاقي المتنجس، لعدم المعلومية.
قوله (قدس سره): (وكذا لا عبرة بالتغيير التقديري لسلب الصفات) كالبول
الصافي (وغيره) كما في الهواء الصافي المعتدل في البرودة والحرارة، أو في
البرد غايته بحيث لو كان في الهواء الغير الصافي من بعض أهوية القيض لغير، كما
هو المنسوب إلى الأكثر والى المعظم، بل إلى المشهور، بل عن الذكرى والروض
نسبته إلى ظاهر المذهب. وعن ظاهر العلامة وبعض من تأخر عنه كالمحقق الثاني
وغيره اعتباره، والحكم بالانفعال لأجله.
والأول أقوى، لترتب الحكم في الأخبار على التغيير المنتفي في المقام،
ولانتفاء غلبة النجاسة على الماء وتأثره بها في نظر العرف الذي هو المرجع في
المقام. وجعل غلبة الصفة والتغيير الحسي أمارة وكاشفا عن الاستهلاك الواقعي
فهو المناط، وهو حاصل مع كثرة النجاسة وإن انتفى كاشفه، لا شاهد له من
الأخبار وإن وقع فيها لفظ " الغلبة والاستهلاك " لأن المرجع فيهما كغيرهما ما
يحكم بتحققه وثبوته في نظر العرف، فيرجعان إلى حصول التغيير والتأثر الفعلي
المحسوس الذي هو منشأ الاستقذار والتنفر المحتمل كونه مناطا في المقام.
نعم لو منع من ظهور التغيير وجود مانع في الماء كتلونه بالحمرة ذاتا أو عرضا
- مثلا - فلم يظهر فيه حمرة الدم الواقع فيه لذلك فلا يبعد اعتبار التقدير هناك، بل
الأظهر اعتباره كما أشار إليه بقوله: (بخلاف ما لو منع من ظهور التغيير مانع،
34

كموافقة النجاسة للماء في اللون مثلا لخلقة) كما في النفط والكبريت،
وأمثالهما على ما قيل (أو لعارض) كاحمراره بالمغر والحناء وأمثالهما من
الأجسام الطاهرة قبل ملاقاة النجاسة على وجه لم يصر مضافا، بل هو مع تلونه
باق على إطلاقه، كما عن جامع المقاصد دعوى القطع بوجوب التقدير هنا، معللا
بأن التغيير في المقام تحقيقي، غاية الأمر أنه مستور عن الحس. ومثله عن
المدارك والمعالم، وسبقهم إليه الشهيد في البيان، ومثلهم في دعوى القطع بالنجاسة
في الفرض ما حكي عن المصابيح، بل حكي عنه: أنه لا بد أن تؤثر فيه النجاسة
اشتدادا، يعني في صفته، وعن الحدائق: أنه قطع به متأخرو الأصحاب من غير
خلاف معروف بينهم في هذا الباب.
ومما بينا ظهر لك أن ليس المراد بالمانع في المتن مطلق المانع، حتى مثل
البرد المانع في الشتاء من عفونة الماء بالعذرة والجيفة، كيف! وعدم تأثر الماء بهما
واضح، بل هذا القسم داخل في قوله: " وغيره " في العبارة السابقة من قوله:
" لسلب الصفات وغيره " ووجهه واضح.
وأحسن الوجوه للزوم التقدير في مسألة المانع أن النجس الوارد على الماء
تام في سببيته للتغيير وتأثر الماء به، وعدم أثره فيه ليس إلا لامتناع حلول أثرين
متماثلين في محل واحد، وإلا فالسبب تام الفاعلية، والمحل قابل للانفعال، وليس
هناك إلا سبقه بقبول مثل هذا الأثر، فامتناع قبوله لأثر المؤثر اللاحق لشغله بمثله،
ومثله لا يمنع عن ترتب ما هو من أحكام تأثير هذا المؤثر اللاحق وترتب
أحكامه، كما في العلتين المتواردتين على محل واحد، حيث إنه يحكم بترتب ما
يختلفان فيه من الأحكام مع وحدة الأثر الحاصل منهما في المحل، لعدم قبوله إلا
لأثر واحد، كما في اجتماع أسباب القتل، واجتماع أسباب الخيار، واجتماع
أسباب الوجوب والتحريم، وهكذا أمثالها مما هو موجود في جميع أبواب الفقه
من الطهارة إلى الديات.
وبالجملة، ترى استقرار بناء العقلاء على ترتيب ما هو من أحكام العلة
35

اللاحقة، وأحكام تأثيره في المحل إذا كان المانع من فعلية تأثيره فيه، شغل المحل
بأثر مثل أثرها، بمعنى انحصار المانع منه في امتناع اجتماع المثلين، لا لنقص
في العلة أو نقص في قابلية المحل ولو باعتبار الموانع الخارجية، ولا يرفعون اليد
إلا عن خصوص الحكم بترتب هذا الأثر الممنوع دون الأحكام المتفرعة عليه،
ودون غيره مما هو من آثار تلك العلة، وهذا هو معنى قول الجماعة المذكورين
من حكمهم بأن التغيير في المقام تحقيقي.
وما ذكره الأستاذ - طاب ثراه - من: " إن زيد لبن على لبن لا يزيد على بياض
الأول " فيه: أنه ليس فيهما وصفان متماثلان، بل هما متحدا الوصف. وأما
الوصفان المتماثلان جنسا المتغايران نوعا أو صنفا فلا مناص عن التزام اشتداد
لمجمع هما الحاصل باجتماع معروضيهما واتحادهما مع قبولهما الشدة والضعف،
كما في مفروض البحث، بل نقول: إن التنفر والاستقذار الذي قال الأستاذ - طاب
ثراه -: " لا يبعد أن يكون هو المناط في النجاسة " هو متحقق في الفرض.
والحاصل أن بعد هذا التقريب يتم أغلب الوجوه التسعة التي ذكرها الأستاذ
في شرح الإرشاد للقول بالانفعال ولم يقبلها. فإذا الأقوى الحكم بالانفعال في
الفرض، تبعا للأساطين الذين مر ذكرهم، لما ذكرناه من تحقق التغير والتأثر في
المقام بالمعنى الذي ذكرناه، سيما لو عملنا بالأخبار المتضمنة للغلبة والاستهلاك
بالمعنى الذي قاله بعضهم من جعل المناط قاهرية النجاسة في نفس الأمر، وجعل
التغير أمارة عليه وكاشفا عنه. ولكنا في غنى عنه، لأن الاستهلاك والقهر في
الفرض متحقق فعلي، وليس كاشفه معدوما كانعدامه في مسلوب الصفة كالبول
الصافي الخالي عن الطعم والرائحة، بل هو موجود فيه متحقق معه فعلا، ولم يظهر
للأبصار، لاجتماعه مع مثله المانع عن ظهوره ورؤيته، كما هو شأن الأعراض
المتماثلة من انتفاء ظهور التعدد والتغاير عنها عند توارد اثنين على محل واحد
مجتمعين بل ومتعاقبين.
فتبين بهذا البيان أن ما ذكره الأستاذ - طاب ثراه - من تفريعه التقديري الذي
36

ذكروه للتغيير في المقام - بكلا قسميه: من كونه لأجل سلب الصفات، أو لأجل
توافق الصفات على جعل المناط تأثر الماء عن النجاسة بالقوة - غير مسلم،
بل التقدير في القسم الثاني - أعني متوافق الصفة - متفرع على مناطية فعلية
التأثر عرفا.
ولكنا ندعي أنهم يلحقون مثل هذا الذي لا يرى تأثيره بحس البصر، لأجل
توافق الصفتين بالمحسوس، وينزلونه منزلته في ترتب ما هو من آثاره عليه، كما
في غير المقام من مقامات اجتماع العلل التامة، كما هو غير خفي على من راجع
وتأمل، ولم يرمنا بسهم الخطأ والهزل، هذا.
مضافا إلى أن ما ذكره الأستاذ - طاب ثراه - من امتناع تأثر المثلين أحدهما
من الآخر، ومثل له باللبن المضاف إلى مثله في عدم تأثر أحدهما بلون الآخر، مع
الغض من عدم تماميته في مثل المقام من المتغيرات بالطوارئ المختلفة للزمه أن
يلتزم ببقاء النجس بحاله من النجاسة، لعدم مغلوبيته بالماء الممزوج به بهذا
البرهان، فمن أين له الحكم بطهارة الكل المستلزم لجواز استعماله مع القلة؟
واجراء أصالة الطهارة في الماء لا ينفع في طهارة هذا النجس.
إذ مع الغض من كونه من الأصل المثبت - وهو غير معتبر - لا يتأتى مع العلم
بخلافه، كما هو مقتضى البرهان، ومنه تعرف إجداء القضية المسلمة أنه ليس لنا
ماء واحد مختلفي (1) الحكم، إذ لا ترجيح لإجراء حكم الماء على النجس حينئذ،
بل العكس أولى بالإذعان، لما عرفته من وجود المرجح له.
قوله (قدس سره): (ولا بالتغيير بغير الملاقاة كالمجاورة ونحوها) كما ادعى عدم
الخلاف فيه، بل عليه الإجماع في الجواهر، ويكفي فيه الأصل وعدم دليل على
التنجيس سوى ما يتوهم من عموم الموصول في النبوي: " خلق الله الماء طهورا
لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه " (2) وعموم صحيحة ابن بزيع

(1) كذا في النسختين.
(2) الوسائل 1: 101، الباب 1 من أبواب الماء المطلق، ح 9.
37

من قوله: " إلا أن يتغير طعمه أو ريحه " (1).
وغير خفي تبادر الملاقاة من أمثال تلك الكلمات عرفا، وأنس ذهن
المتشرعة بأنه السبب في ما هو من أمثاله، كما لو قيل: ينجس الشيء الكذائي
الثوب أو البدن أو الماء، فإنه لا يفهم منه إلا أن ملاقاته يورث ذلك، كما ادعاه
غير واحد من الأعلام، منهم الأستاذ في شرح الإرشاد، قال (قدس سره): ولذا لم يحتمل
أحد في مفهوم " إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شيء " حصول الانفعال للقليل
بمجاورة النجاسة.
فرع: لو وقع في غدير من الماء جيفة - مثلا - من أحد جوانبه فتغير الغدير
كله بريحها، فهل يحكم بنجاسة الماء كله، أو يختص الحكم بها بالجانب الملاقي
لها ويحكم بطهارة الجوانب الأخر الخالية عنها، لأنها تغيرت بمجاورة الجيفة
لا بملاقاتها؟
الأقوى الحكم بالتنجيس مع صدق الوحدة في الماء بأن يقال عرفا: إن هذا
الماء وقعت فيه الجيفة فغيرته.
ومثله الكلام في السافل والعالي من أجزاء ماء واحد بعد اختصاص الملاقاة
بأحدهما، وتغيير صاحبه بتغييره.
ولعله لا خلاف لهم فيه، وما تقدم من اختصاص الانفعال في القليل بجزئه
السافل الملاقي دون جزئه العالي، إنما كان للإجماع كما تقدم، مع ما عرفت من
اختصاصه بحالة الجريان، ومفروض مسألتنا الواقف الساكن.
ومثلهما ما لو خرج بعض الجيفة من الماء، وحصل التغيير فيه بمجموع
الداخل والخارج، لصدق التغيير بملاقاة العين الذي هو مناط الحكم بالانفعال،
بخلاف ما لو استند إلى أحد الشقين بالخصوص، ولم يعلم أنه من الجزء الملاقي
أو الجزء الخارج، فإنه قد يحكم بالطهارة، للأصل.

(1) الوسائل 1: 127، الباب 14 من أبواب الماء المطلق، ح 7.
38

قوله (قدس سره): (ولا بغير الأوصاف الثلاثة كالغلط ونحوه) للإجماع الظاهر
كما ادعاه الأستاذ - طاب ثراه - المصرح به لغيره كما حكاه عن محكي الدلائل
وشرح المفاتيح، واستظهره عن كل من اقتصر في معقد إجماعه على الأوصاف
الثلاثة، مضيفا إليه الحصر المستفاد من الأخبار المتضمنة لبيان الثلاثة أو بعضها،
ومعه لا يعبأ بإطلاق التغيير في بعضها، خصوصا مع ورود التفسير لبعض تلك
المطلقات بإرادة اللون من التغيير المذكور فيه على نحو الإطلاق، كما في مصحح
شهاب بن عبد ربه المروي عن بصائر الدرجات: " قلت: فما التغيير؟ قال:
الصفرة " (1)، فيحكم في المتغير بغير الأوصاف الثلاثة بالطهارة، للأصل السليم،
ولما ذكر من الإجماع، وللحصر المستفاد من الأخبار.
قوله (قدس سره): (بل المعتبر كون التغيير مستندا إلى وصف النجاسة، فلا
يجزي مطلقه وإن كان هو الأحوط) إن أراد من استناد التغيير إلى وصف
النجاسة حصول فيه، ولو لم يصدق عليه أنه منه، كما إذا أثر كل من الماء والنجس
في الآخر فحصل التأثير والتأثر من كل منهما في الآخر، فاتصف الماء لأجل
تأثيره في النجس بإذهاب وصفه، ولتأثره منه بوصف غير وصف النجس،
كحصول الخضرة مثلا للماء من ملاقاة الدم الأحمر الشديد الحمرة الزائل منه
الاحمرار بعد الملاقاة بتبدلها بالخضرة (2) فحق، فإنه لا يجزي حصول وصف من
الأوصاف الثلاثة فيه بعد ملاقاة النجس من باب المقارنة الاتفاقية، أو بتسبيب
الامور الخارجية وإن أعانها عليه وقوع النجاسة فيه أيضا، لعدم استناد التغيير
الحاصل فيه حينئذ إلى ملاقاة تلك العين التي هي مناط الانفعال، كما عرفته من
الأخبار ومعاقد الإجماعات، إذ أثر ملاقاتها المؤثرة هو حصول وصفها فيه،
لا مطلق حصول تغيير له. ولعل الأستاذ الأعظم - أيضا - فهم منه هذا المعنى،

(1) بصائر الدرجات: باب في أن الأئمة يعرفون... ح 13 ص 258.
(2) في ب: وحصول خضرة في الماء.
39

فلم يعلق على العبارة شيئا، وعليه فوجه الاحتياط حينئذ مدخلية ملاقاة النجاسة
في هذا التغير ولو على وجه الإعداد.
وإن أراد من استناده إليه حصول نفس ذلك الوصف القاهر في الماء كما هو
المستفاد من جواهره (قدس سره) فيكون احتياطه حينئذ في حصول وصف في الماء
المتغير غير مماثل لوصف النجاسة القاهر من أجل اختلافهما شدة وضعفا، ويكون
فتواه اعتبار حصول نفس الوصف القاهر في التنجيس، فممنوع اعتباره، لنداء
الأخبار بأعلى صوتها على خلافه، كما في صحيح شهاب بن عبد ربه قال: " أتيت
أبا عبد الله (عليه السلام) أسأله فابتدأني فقال: إن شئت فاسأل يا شهاب وإن شئت أخبرناك
بما جئت له، قال: قلت: أخبرنا جعلت فداك - وساق السائل إلى أن قال -: جئت
تسألني عن الماء الراكد الغدير يكون فيه الجيفة، أتوضأ منه، أو لا؟ قلت: نعم،
قال (عليه السلام): توضأ من الجانب الآخر، إلا أن يغلب على الماء الريح فينتن. وجئت
تسأل عن الماء الراكد من البئر، قال: فما لم (1) يكن فيه تغير أو ريح غالبة، قلت:
فما التغير؟ قال: الصفرة، فتوضأ منه، وكل ما غلب عليه كثرة الماء فهو طاهر " (2).
فإن الصفرة ليست من ألوان الجيفة، وإنما هو لون حاصل من طول مكثها في
الماء بتأثيرها فيه، وكذا بمكثها أزيد من هذا المقدار يحصل فيه لون الشقرة، ولا
يزال ينكدر لونه بطول المكث حتى يضرب شقرته إلى الكدرة أو السواد.
ويقوى كفاية مطلق اللون الحاصل فيه إذا كان بتأثره من النجس، ويعد
الوصف الحاصل من أوصافه، للأخبار التي أطلق فيها التغير بمعونة فهم اللون منها،
كما ادعاه هو أيضا، وكذا الشيخ الأستاذ، وجعلوها ردا على من تأمل في كفاية
التغير باللون في الانفعال، لعدم عثوره على خبر فيه ذكر اللون. واستشهدوا
لحملهم هذا بذلك الصحيح المذكور، وإن اعتمد في رد هذا لمشكك الشيخ الأستاذ
- طاب ثراه - على الأخبار المذكورة فيه اللون صريحا، كخبر الدعائم الوارد في

(1) في الوسائل: عن الماء الراكد من الكر مما لم يكن...
(2) الوسائل 1: 119، باب 9 من أبواب الماء المطلق، ح 11.
40

الجاري يمر بالجيف والعذرة (1)، والذي عن الصادق (عليه السلام) في الماء الذي يمر به
الجنب وفيه الجيفة والميتة (2)، والذي عن الفقه الرضوي في غدير فيه من الماء
أكثر من كر (3)، وخبر العلاء بن الفضيل عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن الحياض يبال
فيها، قال: " لا بأس إذا غلب لون الماء لون البول " (4)، المذكور في الجميع. وخبر
أبي بصير في الماء النقيع الذي تبول فيه الدواب (5)، إلى غير ذلك من الأخبار، بعد
جبر سندها بالإجماع، وبعد حمل كلام ذلك المتأمل بعدم وجدان خبر فيه ذكر
اللون على الخبر الصحيح، لا كما فعله بعضهم بحمله على خصوص الجاري، فقال
- طاب ثراه -: إن غير الصحيح قد يبلغ بالجبر مرتبة الصحيح، بل قال (قدس سره): إن خبر
ابن فضيل معتمد عليه، إذ ليس فيه إلا " محمد بن سنان " الذي ذكر بعض
المتأخرين قرائن للاعتماد عليه، منها رواية الأجلاء عنه، خصوصا صفوان الذي
لا يروي إلا عن ثقة.
وكيف كان فتلك المطلقات التي فيها " التغير "، وتلك المتعرضة لتفسير
" التغيير " باللون - بعد معلومية أن ذات اللون بوقوعها في الماء غالبا يزول لونها
الأصلي ويتبدل بلون آخر، بل وكذا ذات الطعم، لأن الماء باعتبار العذوبة
والملوحة والمرية التي فيه قد يؤثر في تغيير طعم ذات الطعم، وتبديله إلى غيره،
ولذا قد تزول الصفة عنها بالمرة فيغلب الماء النجاسة ويقهرها - كافيتان في الحكم
بنجاسة ما حصل فيه وصف مستند إلى ملاقاته للنجس، وإن لم يكن الوصف
الحاصل مماثلا للوصف الموجود في النجس قبل الملاقاة. وعليه لا معنى لاعتبار
بقاء لونها وحصوله في الماء على نحو وجوده في النجاسة قبل.
فإن قلت: ليس المراد من حصول صفتها حصول الصفة التي كانت لما قبل

(1) دعائم الإسلام 1: 111.
(2) دعائم الإسلام 1: 112.
(3) فقه الرضا (باب المياه وشربها): 91.
(4) الوسائل 1: 104، الباب 3 من أبواب الماء المطلق، ح 7.
(5) الوسائل 1: 103، الباب 3 من أبواب الماء المطلق، ح 3.
41

الملاقاة، بل المراد منها الصفة التي كائنة فيها بعد تلاقيهما، بل وقوع التأثير والتأثر
من كل منهما في الآخر كالحناء مثلا فإنه قبل ملاقاته الماء يكون أخضر وبعد
ملاقاته يكون أحمر، وليس هذا من ذهاب اللون وتبدله بآخر، بل هذا هو لونه في
تلك الحال.
قلت: مع الغض عن أن ما تقول ليس بمسلم كلية، لصدق تبديل الصفة في
بعض النجاسات عرفا قطعا، وقلنا: إن الكلية مسلمة ولو بوجه من التأويل
والتسامح وساعدناك في إبائك من تغير وصف النجاسة بغير وصفها وفي إصرارك
على أنه صفتها التي تكون لها في تلك الحال، فنقول: ما معنى قوله (قدس سره) في الجواهر
تفريعا على عدم اعتبار خصوص صفة النجاسة: " وعليه فينجس لو حصل للماء
لون باجتماع نجاسات متعددة لا يطابق لون أحدها - ثم قوله -: ولعل الأول
- يعني اعتبار خصوص الوصف الخاص - هو الأقوى، استصحابا للطهارة مع
الاقتصار على المتيقن ". انتهى.
فعلم أن مراده هنا حصول خصوص صفة النجاسة في الماء التي كانت لها قبل
الملاقاة.
ولعمري أن هذا الاقتصار خلاف ما يفيده ظواهر الأخبار، أفترى أنه يمكن
أن يقال: إن ما مثل به من المثال من ملاقاة الماء لنجاسات مجتمعة كبول مخلوط
بعذرة فيها دم كثير مثلا، فتغير الماء بها بلون أصفر يضرب إلى الحمرة ليس
مشمولا لأخبار الباب، ولا يصدق عليه أنه تغير بالنجس الذي لاقاه، أو أن دم
الجيفة المخلوط بعذرتها وشئ من أحشائها العفنة النتنة إذا لاقى الماء فحصل
منها فيه ريح لا تشبه ريح الميتة ولا ريح العذرة إلا أنها في غاية العفونة والنتانة،
فهل يتأمل أحد في أنه من أظهر مصاديق الأخبار الواردة بانفعال الماء إذا تغير
بملاقاة النجس، أو أنه يشك في أنها قهرت الماء وغلبت عليه؟!
فإذن الأقوى كفاية استناد حصول الصفة الحاصلة للماء إلى ملاقاته لتلك
النجاسة والقناعة بأن يصدق عرفا - على وجه يعتني به عقلاؤهم - أن النجاسة
42

الكذائية التي وقعت في الماء قد غيرته وقهرته وغلبت عليه، سواء حصلت فيه
مثل صفتها، أم ما يقرب منها، أم ثالثة لا تشابهها، لتطابق الأخبار جميعها على
حصول الانفعال بمثل هذا، فراجعها وتأملها تجدها ناطقة بهذا.
ومن هنا يسع أن يقال: إن الماء المتغير الطاهر إذا وقع فيه نجاسة أزالت تغيره
بأن كان مالحا فصار عذبا، أو نتنا فذهب ريحه، أو ملونا فزال لونه وصفا لزم أن
يحكم بانفعاله بها، لصدق التغير بها، وغلبة صفتها على صفته وقهرها إياه، المنوط
بها الانفعال في أخبار الباب، وأن لا يصغى إلى ما عن بعض من أن المناط تغيير
صفة الماء الأصلية، لأنا لم نعرف ما المراد بالصفة الأصلية هل الملحوظ فيها
جنس الماء أو نوعه أو صنفه أو شخصه؟ وما المعيار في تمييز النوع والصنف؟
ولا ضابط لشيء منها.
بل عرفت أن المناط تحقق التغيير في الماء بسبب الملاقاة، وهو حاصل.
ولا يفرق فيه بين ما كان الوصف الزائل ذاتيا أو عرضيا، فلا ينبغي إطلاق القول
بعدم الانفعال، ولا التفصيل بين الصفات الذاتية كماء النفط والزاج والكبريت على
ما زعم، والعرضية كالملون بشيء أو المتعفن بالهواء وأمثالهما، لما عرفت.
ولكن لا يخفى أن مطلق إزالة الوصف غير كافية، إذ ربما يزال الوصف
فلا يصدق عرفا أن الماء تغير بملاقاة النجاسة، لاستناد التصفية وذهاب النتانة (1).
قوله (قدس سره): (والمراد بالراكد غير النابع) أي الراكد المحكوم بنجاسته بمجرد
الملاقاة الذي لم يخالف فيه إلا العماني هو غير النابع بأقسامه من الجاري والبئر
والعين، بل والخارج رشحا، وإن كان في بعضها يحكم بالانفعال على ما يأتي
مفصلا.
قوله (قدس سره): (جاريا كان النابع أو غير جار كالبئر على الأصح) ظاهر
قوله: " على الأصح إشارة " إلى الخلاف المعروف في البئر بقرينة قوله: " وإن

(1) هنا كلمات غير مقروءة.
43

استحب لها نزح المقدر ". والخلاف في البئر بالحكم بنجاسته مطلقا - ولو كان فيها
أكرار من الماء - بمجرد الملاقاة معروف من القدماء، والاجماعات المحكية عنهم
تبلغ فوق حد الاستفاضة كأخبار هم.
وربما نسب التفصيل بين كريه مائها وقلته إلى البصري، وعن المنتقى حكايته
عن جماعة، وجعله بعضهم لازم تفصيل العلامة في الجاري، وإن كان فيه ما فيه.
ولولا إعراض القوم عنه لكان هو أقرب إلى الاعتبار من الإطلاق بحسب المشي
مع الدليل، لأخصية دليله عن أدلة عدم الانفعال. ولكنه ساقط عن درجة الاعتبار
لذلك. فانحصر القول المعتبر حينئذ في الإطلاقين الطهارة مطلقا، والانفعال كذلك.
والأول هو الأقوى، لرجحان أخباره من وجوه عديدة، من صحة السند،
وكثرة العدد، وقوة الدلالة بالنصوصية، والظهور المعتمد، والمخالفة للعامة مع
موافقة طرف المقابل لهم، ومن الموافقة لعمومات طهارة الماء، هذا كله مع أنه لا
تعارض بينهما - لو أنصف - لكي نحتاج إلى المرجح، فإن أدلة القول بالانفعال غير
تامة في نفسها.
إذ الإجماع موهون بمخالفة من خالفهم من القدماء كما في الجواهر، وبإطباق
المتأخرين على خلافه كما حكي دعواه عن العلامة في أكثر كتبه، وكل من تأخر
عنه، وشيخه مفيد الدين محمد بن الجهم، والشيخ حسين بن عبد الله الغضائري،
والعماني، والشيخ في التهذيبين، وبتردد المحقق فيه في شرائعه، هذا مع عدم
تمامية مستندهم من أصله، لاعتمادهم في هذا الحكم على ما يظهر منهم على
أخبار النزح الغير الممكن استفادة الوجوب منها - لو اغمض عن التعبدية، لابتلاء
بعضها بمعارضة البعض الآخر منها، ولمخالفة ظواهر أكثرها للمجمع عليه من
التقدير، أو من وجوب النزح لما هو طاهر قطعا. فلا بد من حملها على
الاستحباب، فافهم (1).

(1) هناك عبارة غير مقروءة في الأصل.
44

فلم يبق في الحقيقة ما يمكن لهم الاعتماد عليه إلا صحيحة ابن بزيع: " قال:
كتبت إلى رجل أسأله أن يسأل أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن البئر يكون في المنزل
للوضوء فيقطر فيها قطرات من بول أو دم أو يسقط فيها شيء من عذرة كالبعرة
ونحوها ما الذي يطهرها حتى يحل الوضوء منها للصلاة؟ فكتب (عليه السلام) في كتابي:
ينزح منها دلاء " (1).
وصحيحة علي بن يقطين: " عن أبي الحسن (عليه السلام) عن البئر يقع فيها الحمامة أو
الدجاجة أو الفارة أو الكلب أو الهرة، فقال (عليه السلام): يجزيك أن ينزح منها دلاء، فإن
ذلك يطهره ان شاء الله " (2) فإن لفظة " التطهير " لها ظهور في كونها محتاجة إلى
التطهير، وليس إلا لانفعالها بتلك المسوولات من النجاسات الملاقية لها، فدلتا
على انفعالها بالملاقاة وموثقة عمار الواردة في وقوع الكلب والفارة والخنزير:
" قال (عليه السلام): ينزف كلها، فإن غلب الماء ينزف يوما إلى الليل وقد طهرت " (3).
وفيها ضعف ظهورها في أنفسها، لاحتمال الإرادة من الطهارة رفع القذارة
المتوهمة، أو النفرة الطبيعية، ولظهور الصحيحتين في انصبابهما مساق التقية، كما
يشهد له إجمال المطهر من الدلاء الغير المبينة المقدار ولا القابلة للتبيين، لوقوعها
فيهما مطهرة للمختلفات في مقدار النزح، فإن حملهما على مطهرية النزح لكل
نجاسة بمقدار ما قدر لها شرعا غير صحيح، إذ ليس ذلك من المعلومات في
الشريعة ليمكن الحوالة إلى محل النزح مضافا إلى وقوعه مقام البيان المنافي
للإجمال والحوالة، سيما وأن الأولى منهما لكونها مكتوبة يناسبها الإجمال المفيد
للاتقاء، كما يشهد له رواية هذا الراوي في عدم الانفعال ما هو أصرح من تلك
الرواية بمراتب.
نعم ذكر الشيخ الأستاذ - طاب ثراه - أن حسنة الفضلاء أظهر دلالة من تلك،

(1) الوسائل 1: 130، الباب 14 من أبواب الماء المطلق، ح 21.
(2) الوسائل 1: 134، الباب 17 من أبواب الماء المطلق، ح 2.
(3) الوسائل 1: 143، الباب 23 من أبواب الماء المطلق ج 1.
45

لظهورها في تنجيس البئر مع العلم بوصول البول إليها، حيث إن زرارة ومحمد بن
مسلم وأبا بصير قالوا: " قلنا له: بئر يتوضأ منها يجري البول قريبا منها أينجسها؟
فقال (عليه السلام): إن كان البئر في أعلى الوادي والوادي يجري فيه البول من تحتها وكان
بينهما قدر ثلاثة أذرع أو أربعة أذرع لم ينجس شيء من ذلك، وإن كان أقل من
ذلك نجسها، قال (عليه السلام): وإن كان البئر في أسفل الوادي ويمر الماء عليها وكان بينه
وبين البئر تسعة أذرع لم ينجس، وما كان أقل من ذلك فلا تتوضأ منه، فقلت
له (عليه السلام): فإن كان مجرى البول يلصقها وكان لا يلبث على الأرض، فقال (عليه السلام): ما لم
يكن له قرار فلا بأس، وإن استقر منه قليل فإنه لا يثقب الأرض ولا قعر له حتى
يبلغ البئر، وليس في البئر منه بأس، فتوضأ منه، إنما ذلك إذا استنقع كله " (1).
أقول: قد خفي علي وجه الأظهرية، لأنه بعد الإغماض عن ظاهرها الدال
على التنجيس بمجرد القرب. وحمله على صورة العلم بالوصول بجعله من أسباب
الوصول في العادة لا دلالة فيها على التنجيس بمجرد الملاقاة، لاحتمال أن يكون
الوجه فيه الملاقاة المغيرة، أو أن ماء البئر حينئذ ليس ماء وحده، بل هو ماء وبول
ممزوج معه مما ابتلعه البئر من الكنيف ونش على وجه غلب ماءها أو ساواه كما
هو المحسوس المشاهد في الأراضي الرخوة، فإنها تجذب مما يقربها، كنيفا كان
أو غيره.
فعليه لم يبق ماؤها بحاله مما كان ماء صافيا خالصا، بل صار ماؤها ماء
الكنيف الذي هو بقربها الذي جذبته منه، وهو بول لا يجوز التوضي منه، كما يشهد
عليه نفيه (عليه السلام) البأس عن مجرى البول الذي لا قرار له مع كمال قربه من البئر، حتى
عبر عنه باللصوق.
ويومئ اليه أيضا التعليل للحكم بقوله (عليه السلام): " فإنه لا يثقب " حيث إنه يعطي أن
مناط البأس هو ثقبه الأرض الموجب لجريانه بتمامه في البئر، كما أوضحه

(1) الوسائل 1: 144 الباب 24 من أبواب الماء المطلق، ح 1.
46

بقوله (عليه السلام): " إنما ذلك - أي البأس - إذا استنقع كله ". فيعلم منه أن استنقاع القليل
منه المستهلك في ضمن ماء البئر غير مضر، كما يشهد له قوله (عليه السلام): " وإن استقر
منه قليل ".
والحاصل أنا لم نر للحسنة ظهورا في الانفعال بمجرد الملاقاة، لقوة احتمال
كون المنع من جهة هذا الأمر المتعارف من انجذاب الأرض من الكنائف ثم نزها
مما جذبته أو التغيير.
ثم ذكر - طاب ثراه - أن نحوها في الظهور قوله (عليه السلام) في رواية ابن مسكان،
عن أبي بصير: " وكل شيء يقع في البئر ليس له دم مثل العقرب والخنافس وأشباه
ذلك فلا بأس، ولا بأس به " (1).
كما أنه ربما يقال: إن لفظ " الفساد " في صحيحة ابن أبي يعفور عن أبي
عبد الله (عليه السلام): " إذا أتيت البئر وأنت جنب فلم تجد دلوا ولا شيئا تغترف به فتيمم
بالصعيد، فإن رب الماء رب الصعيد، ولا تقع في البئر ولا تفسد على القوم
ماءهم " (2). وأيضا دال على الانفعال.
ولكنه عندي لا دلالة فيه، لعدم ظهورها في استناد الفساد إلى نجاسة البدن،
لاحتمال أن يكون فساد الماء عليهم، من جهة الوحلية، وإلا فالفساد الآتي من
قبل النجاسة لا تختص بهم، بل يلزم الغاسل أيضا، لأنه لو قلنا برفع حدثه كخبثه
بأول ملاقاة الماء لبدنه فلا محالة يتنجس بعد بملاقاته لماء البئر النجس، مع أن
رفع الحدث وإزالة الخبث بغسل واحد فيه ما ستعرف ان شاء الله في محله.
فالفساد الذي يلزمه أشد من فساد الماء على القوم، لأنه معالج بالنزح،
بخلاف ما يترتب عليه من بقاء حدثه وتلوث بدنه أزيد مما كان، أو التلوث وحده
بلا إمكان علاجه.
ويحتمل أن يكون مراده من الفساد من جهة ما يروه من انفعال البئر بنفس

(1) الوسائل 1: 136 الباب 17 من أبواب الماء المطلق ح 11.
(2) الوسائل 2: 965، الباب 3 من أبواب التيمم ح 2.
47

اغتسال الجنب فيه، ولو كان بدنه طاهرا كما يذكرونه في منزوحات البئر، ومعه
أيضا يلزم الغاسل فساد التلوث الذي لا يبعد أهمية إزالته من رفع الحدث عند
دوران الأمر بينهما، مع ممنوعية أصل المسألة حينئذ من رأسه.
وعليه فيكون مساق الخبر للتقية، لأن الانفعال بنفس الغسل هو مذهب العامة
فيكون النهي عن الوقوع حينئذ لمراعاتهم، لئلا يلزم منه إثارة الشحناء.
وبالجملة فالذي يسع دعوى ظهور هها في الانفعال تلك الأخبار الستة.
والانصاف أن أخبارنا الاثني عشر التي ستذكر، بل الأربعة عشر الدال على
الاعتصام أصرح منها، وأظهر في المطلوب. فلا بد من رفع اليد منها بها، لتقدم
النص والأظهر على الظاهر، فتلك لا تقاوم أخبارنا من جهة الدلالة حتى يلتمس
الترجيح بينهما، وعلى فرض التكافؤ فالترجيح لأخبارنا كما أشرنا إليه، مضافا
إلى استلزام العمل بأخبارهم لطرح أخبار كثيرة معتبرة في مقام التعارض في
مقدار التقدير.
ومع عدم الترجيح فلا ريب أن المرجع عمومات طهارة الماء وأدلة اعتصام
الكر بعد تتميمه بعدم القول بالفصل في غير الكر من الآبار، لما عرفته من إعراض
القوم عن التفصيل المذكور على تأمل في هذا، لإمكان القلب. والتفصيل باعتبار
الأصل لا ضير فيه. ومع الغض عن العمومات فليرجع إلى أصالة الطهارة.
هذا كله مع احتمال تلك الأخبار جملة للانفعال الحاصل بالتغيير بما فرض
فيها من النجاسة كما يقويه أخبارنا، فإن الأخبار بعضها مبين للبعض، ففي صحيحة
محمد بن إسماعيل بن بزيع: " ماء البئر واسع لا يفسده شيء، إلا أن يتغير فينزح
حتى يذهب اللون ويطيب الطعم " (1)، وفي صحيحته الاخرى تعليل الحكم بقوله:
" فإن له مادة " (2)، فإنها مع صراحتها في عدم الانفعال بشيء من النجاسات
استثنى انفعالها بسبب التغيير الذي هو أيضا سبب آخر للنصوصية، كسببية التعليل

(1) الوسائل 1: 126، الباب 14 من أبواب الماء المطلق ح 6. مع اختلاف يسير.
(2) الوسائل 1: 127، الباب 14 من أبواب الماء المطلق، ح 7.
48

لها أيضا، سواء أرجعته إلى الحكم الأول وهو الاعتصام، أو الثاني وهو حصول
الطهارة بزوال التغيير. وجعله من أسباب ذهاب الريح أو اللون وطيب الطعم نظير
لام العاقبة خلاف ظاهر الخبر، بل لا يناسب شأن الامام (عليه السلام) في مقام بيانه
للأحكام، للغويته حينئذ فيكون من قسم توضيح الواضح، سيما مع ملاحظة أن
مخاطبه أيضا عارف بذلك الترتب.
بل غير خفي على أحد أن ذوات المواد من المياه النابعة يزول تغييرها
وتطيب بالنزح منها. وكذا لا يصح جعل الغاية غاية لتطهيرها بالنزح المزيل
لتغييرها، فإنه لا يحتاج إلى أن يبين إمكانه هو (عليه السلام) بقوله: " فإن له مادة " لعدم
ارتباط التعليل به إلا من باب الترتب العادي المشار اليه، وقد عرفت ما فيه.
وفي صحيح معاوية بن عمار: " لا يغسل الثوب ولا يعاد الصلاة مما يقع في
البئر، إلا أن ينتن " (1) وصحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام): " في البئر يقع
فيها الميتة، فقال: إن كان لها ريح ينزح عشرون دلوا " (2). والتحديد بالعشرين
لإزالة التغيير به في المعتاد والغالب صريح في حصر الانفعال بصورة التغيير
وعدمه في غير تلك الصورة، كصراحة غيرها في الاعتصام وعدم الانفعال بنفس
الملاقاة مثل صحيح علي بن جعفر (عليه السلام) عن أخيه (عليه السلام): " في بئر وقع فيها زنبيل من
عذرة يابسة أو رطبة، فحكم (عليه السلام) بجواز الوضوء من مائها " (3). وصحيحة معاوية
بن عمار: " فيمن توضأ وغسل ثيابه بماء بئر كان قد وقع فيها فارة وهو لا يعلم به،
فحكم (عليه السلام) بأنه لا يغسل ثوبه ولا يعيد ما صلاه بذلك الثوب، وذلك الوضوء " (4).
وبمعناها موثقة أبان (5) ورواية جعفر بن بشير عن أبي عنبسة (6). وصحيحة

(1 و 4) الوسائل 1: 127، الباب 14 من أبواب الماء المطلق، ح 10.
(2) الوسائل 1: 142، الباب 22 من أبواب الماء المطلق ح 1.
(3) الوسائل 1: 140، الباب 20 من أبواب الماء المطلق، ح 6.
(5) الوسائل 1: 127، الباب 14 من أبواب الماء المطلق ح 11.
(6) الوسائل 1: 128، الباب 14 من أبواب الماء المطلق ح 13، وفيه عن أبي عيينة.
49

زرارة (1) النافية للبأس بالوضوء عن بئر حبله المستقى به معمول من شعر الخنزير،
الغير المنفك غالبا عن ملاقاة الماء حال الاستقاء كروايته (2) في نفي البأس عن
إعمال جلد الخنزير دلوا يستقى به، وهي وإن وردت في رخصة استعمال جلد
الخنزير، إلا أنها دالة على المطلوب باعتبار سكوته عن بيان أن البئر ينجس به
فيحتاج إلى التطهير للاستعمالات المتعقبة له، مع أنه محتاج إلى أن ينبه عليه، لئلا
يستعمل وهو نجس.
ومرسلة علي بن حديد عن بعض أصحابنا الذي قال: " كنت مع أبي
عبد الله (عليه السلام) في طريق مكة، فاستقى غلام أبي عبد الله (عليه السلام) دلوا، فخرج فيه فارتان
فقال (عليه السلام): أرقه، واستقى آخر. فخرج فيه فارة فقال (عليه السلام): أرقه، فاستقى الثالث فلم
يخرج فيه شيء، فقال: صبه في الإناء، فصبه " (3). فإنه صريح في طهارة البئر
وعدم انفعالها بملاقاة الميتة.
ورواية القاسم عن أبي الحسن (عليه السلام) الواردة: " في التوضي عن بئر بينها وبين
الكنيف خمسة أذرع، أو أقل أو أكثر قال (عليه السلام): ليس يكره من قريب ولا بعيد،
ويتوضأ منها، ويغتسل ما لم يتغير الماء " (4). وهي من شواهد ما حملنا عليه حسنة
الفضلاء ومرسل الصدوق، عن مسعدة، عن الصادق (عليه السلام) انه " كان في المدينة بئر
وسط مزبلة، وكانت الريح تهب وتلقي فيها العذرة، وكان النبي (صلى الله عليه وآله) يتوضأ منها (5).
وموثقة أبي بصير: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): بئر يستقى منها ويتوضأ به، وغسل به
الثياب، وعجن منه، ثم علم أنه كان فيها ميت، قال: لا بأس، لا يغسل منه الثوب،
ولا يعاد منه الصلاة " (6).

(1) الوسائل 1: 125، الباب 14 من أبواب الماء المطلق، ح 2.
(2) الوسائل 1: 129، الباب 14 من أبواب الماء المطلق، ح 16.
(3) الوسائل 1: 128، الباب 14 من أبواب الماء المطلق، ح 14.
(4) الوسائل 1: 126 الباب 14 من أبواب الماء المطلق، ح 4.
(5) من لا يحضره الفقيه: ج 1 ص 21 باب المياه وطهرها ونجاستها، ح 33.
(6) الوسائل 1: 126، الباب 14 من أبواب الماء المطلق، ح 5.
50

وموثقة أبي أسامة: " إذا وقع في البئر البط والدجاجة والفارة ينزح منها سبع
دلاء، قلنا: فما تقول في ثيابنا وصلاتنا ووضوئنا، وما أصاب ثيابنا؟ قال (عليه السلام):
لا بأس " (1)، و: " عن البئر يقع فيها زنبيل عذرة يابسة أو رطبة قال (عليه السلام): لا بأس
إذا كان فيها ماء كثير " (2) والتقييد بالكثرة المراد منها هنا المعنى العرفي الغير
المعتبر في طهارة البئر قطعا إنما هو للمحافظة على التغيير.
فتلك الأخبار المعتبرة سندا، الواضحة دلالة بالنصوصية والظهور، الآبية عن
الحمل على غير ظواهرها، المعتضدة بما ذكر، وبسماحة الشريعة وسهولتها،
وبلزوم الحرج في خلافها، وبغيرها من الاعتبارات كافية في إثبات المطلب لمن
أنصف، ووافية لقطع العذر عمن لم يتعسف.
هذا حكم البئر من حيث عدم الانفعال، وموضوعها أيضا مبين في العرف غير
محتاج إلى البيان، وليس منها قطعا ما يطلق عليه البئر مما حفر على وضعها لجريان
ماء القناة منه لمأخوذية عدم الجريان في موضوعها جزما، ولا تنافيه الجريان في
بعض الأحيان لغلبة الماء كما يتفق في بعض السنين واجراء حكم الجاري عليها
حينئذ غير مضايق عنه مع عدم خروجها عن البئر به، لعدم التنافي بين صدق
العنوانين، فهي حينئذ بئر جرى ماؤها كخروج النابع المحفور الواقف ماؤه عنها إذا
لم يسم في العرف بئرا، كبعض العيون. والمشكوك في أنه من أيهما مع عدم كرية
مائه محكوم بالانفعال بالملاقاة، لأنه في حكم العيون الواقفة لو قلنا في العيون
الواقفة بالانفعال بالملاقاة، كما هو الأقوى عندنا، تحكيما لعمومات انفعال القليل.
ولذا لم نستبعد التفصيل في البئر بحسب العمومات بعد تكافؤ أخبارها
الخاصة كما سبق. وأما حكمها باعتبار المطهر فيطهرها كل ما هو مطهر للماء
النجس، لعموم أدلة مطهرية ذلك المطهر من الكر والجاري وماء المطر، مع قابلية
المحل لقبول التطهير.

(1) الوسائل 1: 128، الباب 14 من أبواب الماء المطلق، ح 12.
(2) الوسائل 1: 128، الباب 14 من أبواب الماء المطلق، ح 12.
51

وتوهم انحصار مطهرها بالنزح اشتباه، لعدم فهم الانحصار من أدلته. نعم هو
أيضا أحد المطهرات هنا، كما أن الأقوى عدم اختصاصه بها، بل يطهر به كل نابع
ذي مادة، لصحيحة ابن بزيع المتقدمة، أخذا بالمتيقن من رجوع التعليل فيها إلى
الفقرة الثانية، وإن كان لو رجع إلى الأولى أيضا يفيد المطلوب، إلا أنه له آثار
زائدة كعدم الانفعال بالملاقاة فلا يحكم بثبوتها للشك في رجوعها إليها لو لم يدع
ظهوره في خلافه.
وبهذا البيان تبين عدم وجوب النزح في البئر بعد البناء على عدم نجاستها
بالملاقاة، لأن التعبدية المحضة لا يكاد نتعقلها فيها مع عدم قيام أوامر النزح
بالوفاء عليها، لإشحانها بقرائن الاستحباب من تعارضها في التقدير الموجب
للسقوط لو بني على الوجوب، ومن اشتمالها على نزح دلاء للنجاسات المختلفة
في الحكم، ولندائها بأعلى صوتها على تسليم إفادة الوجوب منها على الشرطية.
والوجوب الشرطي لا معنى له في المقام إلا الالتزام بالنجاسة، وقد عرفت ما فيه.
فحينئذ لا بد من التأويل في كلام من يظهر منه الوجوب مع عدم معروفية
القول بالانفعال فيها منه كما نسب إلى الشيخ في التهذيب. وحكي تبعية العلامة له
في المنتهى، وإذ قد عرفت استحباب النزح فعدم الاشتغال بذكر خصوص
المقدرات لمثلي أحرى.
قوله (قدس سره): (والعين) عطف على قوله: " كالبئر " فيكون معناه أنه لا ينفعل
قليله بالملاقاة. والأقوى انفعاله بها كما جعله الشيخ الأستاذ أقوى وأحوط فيما
علقه هناك، لعدم دخوله في موضوع الجاري كما تقدم، ولم يدعه هو أيضا (قدس سره)،
وليس من أفراد البئر كما هو واضح فيدخل في عمومات انفعال القليل بمجرد
الملاقاة، لأنه منه وأن يفارقه في طهره بالمزج بما يخرج من مادته بالنزح أو بغيره
كما هو مفاد صحيحة ابن بزيع (1) وحكي الفتوى بها عن الشيخين في الغدير النابع.

(1) الوسائل 1: 127، الباب 14 من أبواب الماء المطلق ح 7.
52

قوله (قدس سره): (بل والخارج رشحا كالنز والثمد) عطف أيضا على ما عطف
عليه العين، والكلام فيهما كالكلام فيه. نعم يعتبر في طهره بما يخرج من المادة
قابلية المادة بحيث يدخل تحت النابع ذي المادة كما قيده هو (قدس سره) بقوله: (ما لم
يكن بحيث لا يدخل تحت اسم النابع الذي له مادة) هذا.
والأقوى ما قواه الماتن (قدس سره) من عدم انفعال العيون الواقفة ذات المادة القابلة
لصريح التعليل في الصحيحة الواردة في البئر وعدم الاعتناء بما احتمله الشيخ
الأستاذ - طاب ثراه - فيه من جعلها غاية للترتيب، لاستلزامه اللغوية من جهات،
من توضيح الواضح، ومن ذكره (عليه السلام) العلة الترتبية في مقام ذكر العلة الحقيقية على
ما اقتضاه بيان الحكم، فهو القاء للمخاطب في الخطأ والشبهة، وهو قبيح، ومن
اقتضائه تغيير أسلوب الكلام بتبديل لفظة " حتى " في قوله حتى يذهب الريح
ب‍ " الفاء " بل لغوية الإتيان بكلمة " حتى " كما لا يخفى.
وأما استدلاله - طاب ثراه - بأدلة انفعال الماء القليل وأن الجاري خرج
بالاجماع ففيه: أن العلة الصريحة لا تنقص عن الإجماع في تخصيص عمومات
انفعال القليل، سيما مع ما قدمناه من منع شمولها لغير المحقون، ففي العيون
عمومات طهارة الماء وقاعدة الطهارة محكمة.
وأما استفادته - طاب ثراه - اعتبار الكرية مطلقا من لفظة " المادة " في أخبار
الحمام فقد ذكرنا ما فيه، وملخصه: أن المادة ما يستمد منه، فلا بد فيها في المقام
من كونها معتصمة بنفسها، ففي الحمام لما لا عاصم سوى الكرية أريد منها ذلك،
وأما في الجاري والعيون لم يرد إلا القوة النبعية كما هو الظاهر، بل لا يسع أن يراد
بها الكر، لعدم الاطلاع على حصوله لو لم يدع الاطلاع على عدمه، بما يقال من أن
المياه النابعة حاصلة من البخار الكائن في الأرض.
قوله (قدس سره) (ولا تعتبر الكرية في عدم انفعال الجاري وما في حكمه
بالملاقاة على الأصح) أما حكم ما في حكم الجاري من البئر والعين والرشح
فقد عرفته، وأما الجاري فقوله: " على الأصح " إشارة إلى ما عن العلامة من اعتبار
53

الكرية فيه كغيره. ويدفعه الإجماع على عدم الفرق بين قليله وكثيره صريحا كما
حكي بتلك الصراحة عن الغنية، وعن شرح الجمل للقاضي.
وقريب منهما في الصراحة عن المعتبر، وظاهرا كما عن ظاهر الخلاف،
وحواشي التحرير للمحقق الثاني، ومصابيح العلامة الطباطبائي، وعن الذكرى:
" أني لم أقف فيه على مخالف ممن سبق " أي ممن تقدم على العلامة، وعن جامع
المقاصد نسبة رأي العلامة إلى مخالفة مذهب الأصحاب كما هو مقتضى العبارة
المحكية عن المعتبر حيث عبر بقوله: " وهو مذهب فقهائنا "، والاطمئنان حاصل
بتحققه كما يظهر للمتتبع في كلمات القوم الناظر فيها بعين التأمل والبصيرة.
وهو كاف في المقصود كما عليه اعتمد شيخنا الأستاذ على ما رأيناه في كتابه.
مع أنه يدل عليه أيضا ما استدل به مما دل على نفي البأس عن البول في الماء
الجاري.
ويدفع ما أورده عليه شيخنا من أنه ورد في حكم البول في الماء لا في حكم
الماء الذي يبال فيه بعدم وروده على رواية سماعة، كما قبله هو أيضا (قدس سره)، لأن
فيها: " عن الماء الجاري يبال فيه، قال (عليه السلام): لا بأس به " (1) وسنده كسند غيره من
الضعاف يجبر بالإجماعات المحكية بل المحصل، وبالشهرة المحققة وقد حفظ
عنه (قدس سره): أن الضعيف قد يبلغ مرتبة الصحيح بالجبر فيتم المطلوب بها لبلوغها حد
الحجية مع تماميتها في الدلالة ".
مضافا إلى أن قوله - طاب ثراه -: " والانصاف أن الظاهر من الماء الجاري
والراكد في هذه الأخبار ما لا ينفعل، وأن الحكم بالكراهة بعد فرض عدم
انفعالهما " فإن كلامه هذا أيضا دال على عدم ورود ما أورده على الخبر المستدل
به في الخلاف والتهذيب، فإن معرفة المعتصم حينئذ تكون حوالة على ما وصل
منهم إلينا، ولما علم منهم (عليهم السلام) أن المعتصم من الراكد مخصوص بالكر فينزل هذا
الإطلاق عليه، لأنه قرينة عليه باعتبار المعهودية.

(1) الوسائل 1: 107، الباب 5 من أبواب الماء المطلق، ح 4.
54

وأما الجاري، فلما لم يعهد انقسامه إلى القسمين فيحكم فيه بهذا الإطلاق بعد
ضم ما ذكره (قدس سره): " أن مطلقه معصوم " وصحيحة ابن مسلم الواردة في: " الثوب
الذي يصيبه البول من قوله (عليه السلام): وإن غسلته في ماء جار فمرة واحدة " أيضا دالة
على المدعى للإطلاق، بدعوى ظهورها في عدم الحاجة إلى تعدد الغسل مطلقا
حتى في القليل منه، فحكمه مخالف لحكم القليل بصريح الخبر، فلو كان في أصله
بحكم القليل الراكد لم يحسن جعلهما مناطا نحو الإطلاق، هذا.
مضافا إلى ظهورها في إيراد الثوب على الماء، والحال أن الغسل بما ينفعل
يعتبر وروده على النجس، ولا يحصل به التطهير بإيراد النجس عليه. ومعارضتها
مع عمومات انفعال القليل وإن كان بالعموم من وجه المحتاج تقديمها عليها إلى
المرجح، إلا أنه لا ضير فيها، لوجود المرجح لها، كما عرفته وتعرفه إن شاء الله.
وربما يستدل أيضا بما ورد " أن ماء الحمام بمنزلة الجاري " فإن الظاهر منه
أنه منزل منزلته من حيث الاعتصام.
وما ذكره الشيخ الأستاذ في تخريب الاستدلال من قوله: وأما صحيحة ابن
سرحان " أن ماء الحمام بمنزلة الجاري " فهي أدل على خلاف المطلوب بناء على
اشتراط بلوغ المادة المعتبرة في ماء الحمام ولو بضميمة ما في الحياض كرا.
ففيه: أن مقتضى التنزيل تساوي ماء الحمام للماء الجاري في الاعتصام،
والمفروض أنه ثابت لهما، وأما جهة ثبوته لهما فلا ريب في عدم اقتضاء التنزيل
تساويها فيها، ألا ترى أن قولك: " زيد بمنزلة الأسد " لا يقتضي إلا مشاركته له في
أنه يجدل الأبطال، مع معلومية اختلافهما في الجهة، فإن الأسد يجدلهم ببرثنه، أو
يكسرهم، ويمزيقهم بالقوة السبعية، وزيد الشجاع يجدلهم بسيفه وسنانه، وكمال
جلادته في المعركة، وقوة قلبه بعدم ادباره عن مبارزة الأبطال.
ولو فرض في بعض المقامات اشتراكهما في الجهة أيضا فيراد من التنزيل
إثبات الجهة الثابتة في المنزل عليه للمنزل لا العكس، فإني لم أتحققه، ولا يصدقه
ذوقي، ولم أجد له شاهدا.
55

فقوله - طاب ثراه -: " فالإنصاف حمل الرواية - بناء على اعتبار الكرية في
ماء الحمام - على تنزيله بمنزلة الجاري في تجدد الماء النظيف منه تدريجا،
فترتفع القذارة المتوهمة من ملاقاة بعضه للنجاسة... الخ " سيبين ما فيه.
والأولى تبديل قوله: " فترتفع " بقول: " فتدفع " أو ذكره معه. ومع ذلك فما
ذكره غير ضائر شيئا، لاقتضاء التنزيل في كل مقام مغايرة الشيئين في نظر العرف
والعقلاء، فعلم أن موضوع المشبه - وهو ماء الحمام - مغاير للمشبه به، وهو
الجاري، وعلى اعتبار الكرية فيهما لا شبهة في اتحادهما موضوعا، فالتغاير لا
يحصل إلا بتنزيل هذا القسم من الكر منزلة ما هو معتصم بنفسه كما يعطيه التعبير
بلفظة الجاري التي هي بمنزلة تعليق الحكم على الوصف المشعر بالعلية. فيستفاد
منه أن ماء الحمام معصوم كما أن الجاري بجريانه معصوم.
ولذا توهم بعضهم معصومية ماء الحمام مطلقا، وإن لم يبلغ هو مع مادته كرا،
بل كان ما في الحياض والمادة كلاهما أقل من الكر، وحسب خروج ماء الحمام
عن حكم القليل تعبدا لأخباره، كما هو أحد الأقوال الأربعة فيه مقابل القول
باعتبار الكرية في المادة مطلقا، أو في صورة عدم تساوي سطح ما في الحياض
مع ما في المادة، أو عدم كون الاختلاف بنحو الانحدار، فإن فيهما يكفي بلوغ
المجموع كرا، ومقابله القول بكفاية بلوغ مجموعهما كرا مطلقا.
وكيف كان، الإنصاف ظهور الصحيحة في اعتصام ماء الحمام ولو بملاحظة
تقويه بالمادة كاعتصام الماء الجاري بنفسه، أو بسبب تقويه بمادته النابعة،
ولا يلزم منه عدم الوقع للتنزيل بعد اعتبار الكرية هنا كما ذكره (قدس سره) من أنه بمنزلة
قولك: الكر بمنزلة الجاري، وهو لغو، إذ يكفي في ثبوت الوقع له عدم دخوله في
أذهان الناس مع هذا الاهتمام أو عدم تسلمهم إياه، مع ما تراه من دلالة الأخبار
العديدة الواردة فيه على عصمته ومع مسلمية معصومية الكر عندهم.
وقولهم: إنه كيف يكون هذا الماء القليل في هذا الحوض الصغير معصوما
بمحض اتصاله من ساقية بحوض آخر، سيما بعد علمهم بأن ما في المادة لا يبلغ
56

كرا، والكرية قائمة بالمجموع منهما؟
ومنه يعلم - خلافا لشيخنا الأستاذ - صحة الاستدلال بمرسلة ابن أبي يعفور
أيضا من قوله (عليه السلام): " ماء الحمام كماء النهر يطهر بعضه بعضا " (1) إذ لولا أن العصمة
القائمة به لا بنفسه بفعل البعض الملاقي لبعضه النجس به، وهكذا إلى أن ينتهي
فتطهير بعضه الغير المنفعل للمنفعل أو حفظ بعضه البعض عن الانفعال دليل على
عاصمية تمام الأبعاض، ولازم عاصميته دفع النجاسة الواردة عليه عن التأثير فيه،
وهو المطلوب.
وأما ما ذكره - طاب ثراه - في مقام عدم صحة الاستدلال بالمرسلة من قوله
- طاب ثراه -: " مع أن رفع النجاسة المتحققة في بعض النهر أو بعض ماء الحمام لا
يكون بأي بعض، وعلى أي وجه - على ما هو ظاهر عموم الرواية - بخلاف دفعها،
فإن كل بعض منه معتصم بالبعض الآخر " فحق بما نذكره من التفصيل والبيان:
أما منعه قيام الرافعية بكل بعض وعلى أي وجه فحق. وأما دعواه ظهور
الرواية في العموم من الجهتين فغير مسلمة، بل الظاهر أنها من حيث قيام الرافعية
بالأبعاض مهملة. وأما الكيفية فهي محمولة على ما هو المعهود من تطهير الماء
بالماء. وأما تنزيله الرواية على الدفع فغير ضائر لثبوت المطلوب به أيضا.
فقوله - مفرعا على ذلك -: " ومنه يظهر أن الرواية أدل على خلاف المطلوب،
حيث إن ظاهرها اعتصام ماء النهر بعضه ببعض لا بالمادة، فيدل على اعتبار كثرته
في اعتصامه " غير خفي أن الاستظهار المذكور في غاية الخفاء، إذ لا يلزم في
دلالة الرواية على اعتصام ماء النهر كونه قائما به لا بالمادة حتى يدعى ظهورها
في خلاف المطلوب، بل يكفي في دلالتها ظهورها في الاعتصام في الجملة، سواء
كان لنفسه أو لأجل المادة، بل لا يفهم من قيامه به بنفسه سلب قيامه بالمادة، إذ
لا يعقل الاثنينية والتفكيك هنا، لمدخلية المادة في تحقق الموضوع كما سبق

(1) الوسائل 1: 112 الباب 7 من أبواب الماء المطلق، ح 7.
57

تحقيقه من أنه السائل عن مادة نبعية، فقيامه به عين قيامه بالمادة، وليس هو مثل
ماء الحمام مغايرا للمادة - على ما هو الحق الواضح - من أن المراد به هو ما في
الحياض الصغار، وهو الذي سئل عنه في تلك الأخبار، هذا مع أن تشبيهه به بعد
اعتبار المادة في اعتصامه ربما يوجب ظهور كون اعتصام كل منهما قائما بالمادة.
هذا كله مضافا إلى أن دعوى استلزام قيام الاعتصام به بنفسه لاعتبار الكثرة
فيه، فيها أن الاستلزام ممنوع إلا على الوجه الذي ادعاه في الرواية السابقة من
أنه مقتضى التنزيل، وقد عرفت ما فيه، مع أن التنزيل إنما هو في الاعتصام، وهو
وجه الشبه المذكور في الخبر. وأما أن ثبوته في كل من المشبه والمشبه به من أي
جهة، فغير معلوم ولا مقصود، أو معلوم أنه من أجل وجود المادة كما سبق.
هذا كله مع أن ما ذكر بعيد إرادته هنا، حيث إنه - طاب ثراه - جعل مقتضى
التنزيل هنا أمرا آخر وقرينة على حدة وراء هذا الاستظهار من نفس الخبر لقوله:
" وأيضا فمقتضى المماثلة المساواة من الطرفين " مع أن فيه ما ترى، إذ المماثلة
والتشبيه لا تقتضي تساوي الموضوعين، أي المشبه والمشبه به في القيود
والكيفيات.
نعم غاية ما ذكروا فيه أن عدم ذكر وجه الشبه يقتضي عموما في الآثار
والأحكام لو لم يكن هناك ظاهر ينصرف التشبيه إليه.
وبالتأمل فيما ذكرناه إلى هنا تعرف أن قوله - طاب ثراه - أولا: " فالمراد
بالتطهير فيه إما رفع القذارة المتوهمة منه من الملاقاة، وإما رفع القذارة الشرعية
واعتصامه عن الانفعال... الخ " غير ضائر، بل نافع، إذ لم نقصد بالمرسلة إلا أن ماء
النهر عاصم بنفسه حافظ لطهارته عند ملاقاة ما يرد عليه من النجاسات، وأما ما
ذكره أخيرا من منع شمول النهر لما ماؤه دون الكر فهو أيضا واضح الدفع، لأنه لا
يفهم منه في المقام إلا تشبيه هذا الماء الراكد بالماء الجاري من حيث إنه ماء جار
بلا خصوصية لفرد منه، والتعبير بالنهر لأنه محله الغالبي حتى كأنه لا محل له
سواه; ولذا صح قولهم: جرى النهر.
58

ومنه تعرف أن لا وجه لمنع شموله للنابع، بل لم نعرف إلى الآن أن يراد من
مثل هذا الاستعمال الماء الغير النابع، وعلى فرض صحة الاستعمال فيه، فهو في
غاية الندرة، فلا ينصرف إليه إطلاق تلك اللفظة.
مع أنه تنافي هذه الدعوى منه - طاب ثراه - لما سبق منه ومن القوم من عدم
إطلاق الجاري إطلاقا حقيقيا على المياه الجارية من الثلوج، وإن صارت
شطوطا، وسبق نسبة دعوى كونها من الأفراد الحقيقية للجاري إلى النراقي في
مستنده مع تضعيفه.
وبالجملة فلا مجال لإنكار فهم العرف عن مثل تلك التنزيلات والتشبيهات
أن للماء الجاري خصوصية في الاعتصام، ولذا ترى أنه (عليه السلام) في كل مورد يريد أن
يبين لمخاطبه عصمة ماء مخصوص يشبهه بالجاري كماء المطر، فيعلم أن
معصوميته كانت مسلمة عند الرواة أيضا.
ويشهد له التعليل الوارد في صحيحة ابن بزيع التي تقدمت في البئر، ويدل
على المطلب أيضا المرسل المحكي عن نوادر الراوندي: " الماء الجاري لا ينجسه
شيء " (1). وما عن دعائم الإسلام، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال في الماء الجاري
يمر بالجيف والعذرة والدم: " يتوضأ ومنه يشرب، وليس ينجسه شيء ما لم يتغير
أوصافه طعمه ولونه وريحه (2). وعن الفقه الرضوي: " اعلموا رحمكم الله أن كل
ماء جار لا ينجسه شيء " (3)، بل تلك الروايات لمجبورية سندها بالإجماعات
والشهرة اللتين ذكرناهما البالغة به حد الحجية قطعا بمنزلة أصل يرجع اليه بعد
فرض تكافؤ الأخبار السالفة مع عمومات انفعال القليل، سيما مع اباء عموم
الرضوي المصرح فيه بالعموم عن التخصيص، فيتم به المطلوب وهو عاصميته
مطلقا، مع أن المرجح أكثر من أن يحصى.

(1) نوادر الراوندي: ص 39.
(2) دعائم الاسلام: كتاب الطهارة ج 1 ص 111.
(3) الفقه المنسوب إلى الامام الرضا (عليه السلام): 91.
59

ثم إن شيخنا الأستاذ عارض بين تلك المرسلة ورواية الدعائم والرضوي
وبين عموم مفهوم ما هو مثل قوله (عليه السلام): " الماء إذا كان قدر كر لم ينجسه شيء " (1)
وقال: " إن التقييد في إطلاقات الجاري إخراج للفرد النادر، لأن ما لا يبلغ مع ما
في المادة بل بنفسه كرا قليل، بخلاف تقييد الماء بغير الجاري في أدلة إناطة
الاعتصام بالكثرة فإنه إخراج للفرد المتعارف " وهذا أبعد من تقييد الجاري بما
يبلغ الكر كما لا يخفى على المنصف.
ونحن كلما تأملنا وأنصفنا لم يتبين لنا قرينة تقييد تلك المناطق وأبعدية
تقييد تلك المطلقات، إذ مناط رفع اليد عن الظواهر وإخراجها إلى غير ظاهرها
- مجازا كان أو غيره من - خلاف ظاهر ما هو مأنوس في طريق المحاورة،
ويساعده الأفهام المتعارفة من العرف بملاحظة خصوصية المقام. وليس كل فرد
نادر الوجود بعيد الإرادة من الاطلاق أو سهل الاخراج منه، ولا كل فرد كثير
الوجود قريب الإرادة منه أو صعب الإخراج منه، فربما يعكس الأمر للاستئناس
عرفا ولو في محاورة خاصة أو كلام مخصوص. وهذا هو وجه تقديم العام
والمطلق في بعض المقامات على الخاص والمقيد.
ومن المعلوم في خصوص المقام أن ظهور إطلاق المناطق المذكورة
خصوصا الرضوي الوارد بلفظ العموم في الشمول لجميع أفراد الجاري لو لم يكن
أوضح من شمول إطلاق أدلة إناطة الاعتصام بالكثرة للجاري لم يكن بأخفى منه،
فلا يسع ترجيح ظهور تلك المطلقات على ظهور تلك المناطق من باب تقديم
الأظهر على الظاهر الذي هو مناط الترجيح بحسب الدلالة بعد عدم النص لو لم
يكن الأمر بالعكس - كما هو المحقق - لما هو لائح لكل من يتأمل في إطلاقات
إناطة الاعتصام بالكثرة في ظهورها في نفسها في خصوص الراكد وعدم انصرافها
إلى الجاري وعدم انفهامه منها أبدا، فكيف دعوى أظهرية شمولها له من شمول

(1) الوسائل 1: 117 الباب 9 من أبواب الماء المطلق، ح 2.
60

أدلة إناطة الاعتصام بالجريان للقليل منه كما يوضحه عدم قابلية الجاري لأن
يتقدر بالكرية؟ ومقدار الملاقي منه مع النجس متصف بالقلة دائما، فلا يسع الحكم
بعدم انفعاله أبدا، فافهم.
والحاصل أن الماء الجاري بجميع أقسامه معتصم لا ينفعل إلا باستيلاء أثر
النجاسة عليه بتغير أحد أوصافه الثلاثة كما أفصح عنه رواية الدعائم.
فرع: لو انفعل الماء الجاري بالتغير فإما أن لا ينقطع عمود الماء بهذا المتغير
أو ينقطع. والمراد بالانقطاع عدم اتصال عالي الماء وسافله بغير واسطة هذا المتغير
من ماء غير متغير ولو من احدى حافتي المجرى وأحد جوانب المتغير، فإن لم
ينقطع فلا إشكال في طهارة الطرفين من العالي والسافل، كما لا إشكال في طهارتهما
مع كرية السافل، وإن انقطع العمود فالعالي المتصل بالمادة باق على طهارته قطعا
لاعتصامه بها، وإنما الإشكال في السافل المنقطع عنها بتوسيط هذا المتغير.
والأقوى انفعاله بهذا المتغير فإنه ماء قليل لاقى النجاسة، وصدق الجاري
عليه في هذا الحال غير مجد بعد معاملة الشرع مع هذا المتغير معاملة غير الجاري،
فكأنه شيء براني انفصل به أجزاء الماء بعضها من بعض فلا يشمله أدلة اعتصام
الجاري.
كما يفصح عنه مرسلة ابن أبي يعفور من قوله (عليه السلام): " يطهر بعضه بعضا " (1).
بناء على ما ذكره الشيخ الأستاذ - طاب ثراه - من أن معنى التطهير حفظ الطهارة
كما في آية التطهير (2) وآية تطهير مريم (عليها السلام) (3) فإن اتصال السافل بهذا المتغير غير
مجد له في حفظ طهارته، كما لا يجديه في رفع الانفعال الحاصل فيه لو فرض له
انفعال خلافا لذي المستند الحاكم بطهارته للأصل بعد تكافؤ الدليلين فيه في نظره
من الطرفين.
وفيه: أنه لا تكافؤ، إذ مشموليته لأدلة انفعال القليل مما لا تأمل فيه، وشمول

(1) الوسائل 1: 112، الباب 7 من أبواب الماء المطلق، ح 7.
(2) الأحزاب: 33.
(3) آل عمران: 42.
61

أدلة الجاري له لو لم يكن معلوم العدم فلا أقل في أنه مشكوك فيه، فيسلم الطرف
المقابل عن المعارض.
قوله (قدس سره): (وماء الغيث حال نزوله بحكم الجاري في عدم نجاسته وإن
قل إلا بالتغيير، أما ما انقطع وكان قليلا فإنه ينجس بالملاقاة، لأنه من
الراكد حينئذ) أما الحكم الأخير وهو نجاسة ما بقي عنه على وجه الأرض بعد
انقطاع المطر فلما ذكره (قدس سره) من أنه من أفراد الراكد المعتبر في اعتصامه الكرية.
ولا مجال للتأمل فيه، بل يمكن دعوى الإجماع المحصل عليه، ولم يوجد ما
يخالفه إلا ما في المستند من حكمه بعدم انفعال ما كان جاريا منه حينئذ تبعا لما
حكاه عن ظاهر المنتهى.
وعندي عدم دلالة العبارة المحكية عن المنتهى على مرامه، لأنه حكي أنه
قال: " أما إذا استقر على الأرض وانقطع التقاطر ثم لاقته نجاسة اعتبر فيه ما يعتبر
في الواقف، لانتفاء العلة التي هي الجريان " انتهى.
وأنت ترى ظهور قوله (رحمه الله): " إذا استقر على الأرض " في استقرار المطر عليها،
بمعنى وقوعه عليها وسكونه فيها وعدم بقاء شيء منها في الهواء نازلا، فهو كناية
عن قطع نزوله رأسا، ولذا عطف عليه مفسرا له قوله: " وانقطع التقاطر " الذي غير
خفي كونه عطفا تفسيريا للأول، وإلا لزم لغويته، لعدم ارتباطه باستقرار المياه
الحاصلة من المطر على الأرض بمعنى سكونها عن الحركة والجريان، لانفصال
كل منهما عن الآخر بزمان طويل.
ولا يتوهم أن قوله: " إذا استقر " أريد به بيان الفرد الغير الجاري من مائه أصلا
كالمستند، ليكون ماء المطر إذا انقطع تقاطره ونزوله ينظر، فما كان من مائه
الموجود على الأرض حينئذ مستقرا عليها أي ساكنا فيها غير جار عليها فهو
الذي حكمه حكم الواقف لا الذي لم يستقر وكان جاريا عليها.
فإنه مدفوع; بأنه ليس هذا معنى قوله: " إذا استقر " بل الظاهر أنه يريد أن يبين
حكم مطلق ماء المطر حال قطع المطر عن النزول، ويكون قوله لانتفاء العلة التي
62

هي الجريان - أي جريان المطر - إذ لو كان مقصوده ذلك التفصيل لعبر هكذا:
أما ما استقر منه وسكن فهو كذا، وما لم يستقر وجرى فكذا.
وبهذا البيان تعرف عدم دلالة قوله أخيرا: " لانتفاء العلة التي هي الجريان "
على ما رامه صاحب المستند أيضا، لأن ظاهر كونه تعليلا لحكم مطلق ماء المطر
المنقطع تقاطره، فهو إشارة إلى أن اعتصام ماء المطر إنما كان بواسطة جريانه
ونزوله من السماء، فإذا انقطع التقاطر انتفى الجريان الذي هو علة الاعتصام،
فينفعل حينئذ قليله بالملاقاة.
ولا يخفى أن حاصل صاحب المستند على هذا التفصيل ليس إلا تعميمه
الجاري لغير ذي المادة، فهو الأصل الذي أسسه من أن المرجع بعد تكافؤ الأدلة
هو أصالة الطهارة وأصالة طهارة الماء.
وقد عرفت ما فيه، وأن الأصل في خصوص الراكد إنما هو الانفعال مطلقا، لما
استظهرناه من عمومات القليل.
وأما الحكم الأول بشعبه فللصحاح الكثيرة الدالة على الاعتصام، مضافا إلى
ظهور الاتفاق عليه منهم، بل الإجماع عليه محصل بلا تأمل، ففي صحيحة علي بن
جعفر (عليه السلام): " عن البيت يبال على ظهره ويغتسل من الجنابة، ثم يصيبه المطر
أيؤخذ من مائه فيتوضأ به للصلاة؟ فقال: إذا جرى لا بأس " (1). ومن الواضح أن
قوله (عليه السلام): " إذا جرى " يراد به إذا جرى المطر بمعنى أنه إذا كان الأخذ حال
جريانه لا ما حمله عليه جمع من أن معناه إذا كثر المطر وزاد تقاطره إلى أن حصل
منه جريان، فجعلوها دليلا على اشتراط مطهرية المطر بجريان مائه بمعنى كونه
وابلا شديدا كثير التقاطر، فإن حمله عليه يوجب عدم ارتباط الجواب بالسؤال،
لأن المطر الذي لم يجر ماؤه كيف يعقل الأخذ من مائه حتى يحترز عنه (عليه السلام)
وينفي جواز استعماله بتلك الشرطية؟! سيما على القول بأن الجريان المعتبر هنا
هو اتصال القطرات في وجه الأرض بعضها ببعض.

(1) الوسائل 1: 108، الباب 6، من أبواب الماء المطلق، ح 2.
63

والحاصل: أن ظاهر قوله (عليه السلام): " إذا جرى " في الصحيحة بعد فرض أن
السؤال والجواب في بيان جواز استعمال الماء المأخوذ من المطر الواقع على
الأرض النجسة هو اعتبار جريان المطر بمعنى شرطية نزوله في هذا الحكم.
ومن هنا يتبين أيضا أن موضوع الحكم هو المطر الذي لم يبلغ حد الكثرة
الشرعية وهو الكر، إذ لو كان كرا لم يكن وقع للشرطية المذكورة.
وأيضا بهذا البيان تبين دلالة الصحيحة على الانفعال بعد قطع المطر وقلة الماء
أخذا بمفهوم الشرطية الذي لا تأمل في اعتباره، وعليه يحمل إطلاق صحيحة ابن
الحكم - لو سلم أن لها إطلاق - الواردة في ميزابين سالا أحدهما بول والآخر ماء
المطر، فأصاب ثوب رجل من قوله (عليه السلام): " لم يضره ذلك " (1) بناء على أن المصاب
من ممزوج هما، مع أنه يمكن دعوى ظهور سيلان الميزاب من ماء المطر فيما كان
سائلا حال نزول المطر، لأنه المصحح للانتساب.
وفي صحيحة ابن سالم عن السطح يبال عليه فيصيبه السماء فيكف فيصيب
الثوب، قال: " لا بأس، ما أصابه من الماء أكثر منه " (2) وتعليله بالأكثرية لعله
لحفظه عن التغيير والاستهلاك، فيدل على أن المطر معتصم في الجملة أي حال
نزوله كما هو مفاد نفي البأس عن إصابة ما لاقى منه المحل القذر.
وفي صحيحة اخرى لعلي بن جعفر (عليه السلام): " عن رجل يمر في ماء المطر وقد
صب فيه خمر فأصاب ثوبه هل يصلي فيه قبل أن يغسله؟ فقال (عليه السلام): لا يغسل
ثوبه ولا رجليه ويصلي فيه، ولا بأس " (3). فإن الظاهر أن قوله (عليه السلام): " لا بأس " إنما
هو لعصمة المطر عن الانفعال.
إلى غير ذلك من الروايات الواردة فيه الظاهرة في اعتصامه مع قلة مائه عن
الانفعال وطهارة المحل القذر الذي أصابه مع استيعابه إياه ولو كان ماء قليلا.

(1) الوسائل 1: 109، الباب 6 من أبواب الماء المطلق، ح 4.
(2) الوسائل 1: 108، الباب 6 من أبواب الماء المطلق، ح 1.
(3) الوسائل 1: 108، الباب 6 من أبواب الماء المطلق، ح 2.
64

ومنه يعلم اعتصام الماء القليل الذي أصابه المطر عن الانفعال حين نزول
المطر فيه إذا لاقى نجاسة في تلك الحال، خلافا لما في المستند من تفصيله في
هذا القليل الواقع عليه المطر بين كونه مجتمعا من مائه فلا ينفعل وبين كونه مجتمعا
من غيره فينفعل، أخذا في الأول بالعمومات أي عمومات طهارة ماء المطر
وطهارة مطلق الماء كما فسره في حاشية منه، وعملا في الثاني باستصحاب حكم
القليل الثابت له قبل اتصال المطر به، ثم أخذ في معارضة أدلة الطرفين والجرح
والتعليل بما لا فائدة لنا في ذكره.
وأنت خبير بما في هذا التفصيل من منافاته للسلوك مع الدليل، لعدم تفاوت
حكم ماء القليل في ظاهر الدليل بملاحظة أصله من كونه مأخوذا من كر أو جار
أو بئر أو مطر، أو أنه كان قليلا من أصله، مع أن استصحاب الحكم لا يتفاوت
الحال فيه بين القليل المأخوذ من المطر أو المأخوذ من غيره، بعد مسلمية أن
القليل الحاصل من المطر حكمه حكم سائر المياه القليلة كما بنى هو (قدس سره) أيضا عليه
في الواقف منه.
اللهم إلا أن يكون مراده - ولو بعيدا - من المجتمع من المطر - المجتمع حال
نزوله مما هو قليل بملاحظة نفسه مع قطع النظر عن كونه ماء مطر.
وفيه: أنه لا ينحصر طهارة هذا الماء المجتمع حال نزول المطر في
الاستصحاب، بل هو مصب جميع الأخبار الماضية الدالة على عصمة المطر.
وكيف كان فيكفي في تقوي هذا القليل بالمطر الواقع عليه اتحاده معه باتصاله
ومزجه به، كما أنه يتقوى بكل معتصم إذا اتحد معه بالاتصال به مع المزج من
الجاري والكر وغيرهما. ومناط الوحدة والاتصال في كل مورد بما يراه العرف
ويحكم بتحققه فيه.
ومنه يعلم عدم جريان استصحاب الحكم هنا. فإذا تبين أن ماء المطر
معتصم بنفسه يكون من حكمه لا محالة أنه لا ينفعل إلا بما يغير أحد أوصافه
الثلاثة كغيره من الجاري والكر والبئر من المعتصمات، وكلا الحكمين بحمد الله
واضح لاخفاء فيهما.
65

قوله (قدس سره): (والمراد بالكر ما بلغ ألفا ومائتي رطل بالعراقي وزنا،
أو ثلاثة وأربعين شبرا إلا ثمن شبر مساحة، ولو بالتكسير) أما كون الكر
الذي هو مناط عصمة الماء المحقون وعليه وجودا وعدما يدور عدم انفعاله
وانفعاله هو هذا المقدار من الوزن فهو المشهور بين الأصحاب، بل عن ظاهر
المنتهى والمعتبر وصريح غيرهما عدم الخلاف فيه، بل عن الغنية الإجماع عليه
كما في الجواهر دعوى محصله صريحا نحو ما في المستند، بل عن الصدوق في
أماليه أنه من دين الامامية.
ويدل عليه مرسل ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا الذي عن الحدائق أن عليه
الأصحاب وهو أن الكر من الماء الذي لا ينجسه شيء ألف ومائتا رطل، وإرساله
غير قادح، لأنه ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه، مضافا إلى شهادة
جماعة على أنه لا يرسل إلا عن ثقة على أنه مجبور بما عرفته من الإجماع
والشهرة المحققة.
وأما كون المقدار المذكور محمولا على العراقي فلقرائن تدل عليه أحسنها
صحيحة ابن مسلم: " إن الكر ستمائة رطل " (1) بعد الاتفاق ظاهر على عدم إرادة
المدني ولا العراقي منه فيها، فلا بد من حمل الرطل فيها على المكي الذي مسلم
كونه ضعف العراقي، فما عن الصدوق حينئذ من احتمال حمل الستمائة على
المدني لقاعدة حمل كلام المتكلم على مصطلحه فيكون تسعمائة بالعراقي، ويؤيده
خبر ثلاثة أشبار في المساحة، لتوافق الحدين حينئذ تقريبا، مع أنه خلاف الإجماع
- كما سمعت - ولا شاهد له أيضا، لعدم تمامية القاعدة كما أوضح في الأصول.
يرده رواية علي بن جعفر (عليه السلام) الواردة في جرة فيها ألف رطل من الماء، ووقع
فيها أوقية من الدم حيث حكم (عليه السلام) عليه بالنجاسة (2).
هذا مضافا إلى أن ابن مسلم طائفي، لأنه من بني ثقيف الساكنين بها وهي من

(1) الوسائل 1: 124، الباب 11 من أبواب الماء المطلق، ح 3.
(2) الوسائل 1: 116، الباب 8 من أبواب الماء المطلق، ح 16 مع اختلاف يسير.
66

توابع مكة، وحمل الخطاب على عرف المخاطب يعين حمله على المكي، كما هو
أيضا أحد قرائن حمل المرسل على العراقي بناء على استظهار أن أصحابه الذين
روى عنهم هم من أهل بلده الذي هو العراق.
مع أن الصحيحة بعد الحمل المذكور بنفسها دليل على المدعى، فتكفينا مؤنة
تتميم دلالة المرسل، فهما بعد اعتضادهما بالإجماع المظنون حصوله كافيان في
حمل الكر الخارج عن عمومات انفعال الراكد الدال اخراجه منه على سببيته
ملاقاته للنجس لانفعاله، إلا أن يمنعه هذا العاصم.
وأما بلوغه المقدار المساحي المذكور فهو أيضا مما ذهب اليه المشهور،
بل عن الغنية الإجماع عليه.
ويدل عليه رواية الحسن بن صالح الثوري عن أبي عبد الله (عليه السلام): " إذا كان
الماء في الركي كرا لم ينجسه شيء، قلت: وكم الكر؟ قال (عليه السلام): ثلاثة أشبار ونصف
عمقها في ثلاثة أشبار ونصف عرضها " (1). والظاهر أن المراد من عرضها هو
سطحه المشتمل على الطول والعرض، لأن أنقصية الطول من المقدار المذكور
لا يجتمع مع تسميته طولا وتسمية الأطول عرضا، واعتبار الأزيد من هذا المقدار
فيه ينافيه السكوت عنه في مقام البيان.
فيفهم منه أنه اريد منه تمام السطح نظير قوله تعالى: " عرضها كعرض السماء
والأرض " (2). واحتمال ارادة تمام محيط السطح منه وهو الدائرة المحيطة به وإن
كان قائما في نفسه إلا أنه خلاف الظاهر في خصوص المقام، لأن ظاهر ظرفية
العرض للثلاثة ونصف العمق ثبوت العرض بذلك المقدار، وتحققه بكماله في تمام
المقدار العمقي. ومن الواضح عدم صدق ذلك إلا مع ملاحظة العمق المزبور مع
تمام السطح لا الخط المحيط به، مضافا إلى أن ملاحظته توجب نقصان الكر عن
حده المساحي على جميع الأقوال، كما لا يخفى.

(1) الوسائل 1: 122، الباب 10 من أبواب الماء المطلق، ح 5.
(2) الحديد: 21.
67

ورواية أبي بصير عنه (عليه السلام): " إذا كان الماء ثلاثة أشبار ونصفا في مثله ثلاثة
أشبار ونصف في عمقه فذلك الكر " (1) بتقريب ما تقدم في الرواية السابقة، وعدم
ذكر العرض فيها لانسباق الذهن إليه في مقام المحاورة عند تحديد ما يكون له
سطح محسوس من الأجسام المشاهدة.
ومنه يعلم وقوع قوله (عليه السلام): " في عمقه " نعتا لقوله (عليه السلام): " ثلاثة أشبار ونصف "
فكأنه قال: ثلاثة أشبار ونصف إذا كان عرض الماء المرئي حاصلا في مثله من
العمق الغير المرئي فهو كر.
وعندي أن دلالتهما تامة في مقام المخاطبة وفي ظاهر المحاورة مضافا إلى
نصوصيتهما في زيادة النصف الغير المحتمل لوقوعه سهوا لتعددهما كما يحتمل
سقوطه عن رواية إسماعيل بن جابر، فتقدمان عليها لأجل ذلك.
وسندهما منجبر بالشهرة المحققة والإجماع المحكي، وهما مع ذلك
معتضدتان بعمومات الانفعال في الأقل فترجحان على غيرهما الدال على
أنقصيته من المقدار المذكور كرواية إسماعيل بن جابر (2) المحددة له بثلاثة أشبار
في ثلاثة أشبار، وكمرسلة الصدوق (3): " ثلاثة في ثلاثة في ثلاثة " والمحددة له
بالقلتين (4)، أو بأكثر من راوية (5)، أو بقوله (عليه السلام): " نحو حبي هذا " (6) لو لم تحمل
على ما يبلغ ماؤها مقدر الكر على أحد الحدين المعتبرين عندنا، أو بالذراعين
العمقي في الذراع والشبر السعي، مضافا إلى معارضة تلك بعضها ببعض.
ومضافا إلى معارضة رواية إسماعيل برواية علي بن جعفر (عليه السلام) عن

(1) الوسائل 1: 122، الباب 10، من أبواب الماء المطلق، ح 6.
(2) الوسائل 1: 118، الباب 9 من أبواب الماء المطلق، ح 7.
(3) امالي الصدوق: المجلس الثالث والتسعون ص 514.
(4) الوسائل 1: 123، الباب 10 من أبواب الماء المطلق، ح 8.
(5) الوسائل 1: 104، الباب 3 من أبواب الماء المطلق، ح 9.
(6) الوسائل 1: 122، الباب 10 من أبواب الماء المطلق، ح 7.
68

أخيه (عليه السلام): " في جرة فيها ألف رطل من الماء فوقع فيه اوقية من دم هل يصلح
شربه؟ فقال: لا " لأن ألف رطل على ما حدد بعضهم الشبر من الماء فوجده ألفين
وثلاثمائة وثلاثة وأربعين مثقالا يقرب من ثلاثين شبرا، ومع هذا حكم (عليه السلام) بانفعاله
فكيف يجتمع مع تحديد الكر بسبعة وعشرين شبرا كما اختاره القميون؟! ومضافا
إلى إعراض القوم عن المحددة بالذراعين التي يبلغ محصلها - على ما ذكروه - ستة
وثلاثين شبرا، وإن حكي عن المدارك أنه جعله أصح رواية وجدها في المقام.
ولذا عن الشيخ (قدس سره) أنه حملها على بيان الوزن، لما ذكره جمع من حصوله في
ستة وثلاثين شبرا، الذي هو محصل ضرب الذراعين في ذراع وشبر لتحديدهم
الذراع بشبرين.
فتنقح سلامة المحددتين بثلاثة أشبار ونصف من مرسلة ابن أبي عمير ورواية
أبي بصير عن المعارض المكافئ، فصح من أجلها قوة القول المذكور. فنهوضهما
لإثبات قول المشهور لأجل كمال قابليتهما للاعتماد خال عن وسمة الريب، مع أن
قول ابن الجنيد بتحديده بمائة شبر مساحة مع الغض عن عدم الدليل عليه، وعن
منافاته لما اختاره في تحديده الوزني من موافقة المشهور يمكن دعوى الإجماع
على بطلانه، لعدم موافقة أحد من القوم معه.
والأقوال الأخر يكفي في ردها عدم وفاء دليل تام عليها، فعمومات الانفعال
يرفعها مضافا إلى إمكان إرجاع قول الراوندي بتحديده بعشرة أشبار ونصف إلى
قول المشهور، وقول ابن طاووس بالتمييز بين الروايات فرع عدم المرجح،
وقد عرفت تحقق المرجح، لما دل على التحديد بما يبلغ مكسره ثلاثة وأربعين
شبرا إلا ثمن شبر.
بقي هنا الاشكال المعروف من زيادة التحديد المساحي على التحديد
الوزني، مع أن التحديدات الشرعية غير مبتنية على المسامحة كالمقادير العرفية،
بل محمولة على الحقيقة المنافية للزيادة والنقيصة بما يتسامح فيه، فكيف لو زاد
عن حد التسامح كما ادعي في المقام؟!
69

ويمكن دفعه بأنه (عليه السلام) لما لاحظ عمل أهل الأمصار في جميع الأقطار في
الأزمنة المتطاولة على هذا التحديد، وعلم بوجود بعض مياه خفيفة في بعض
الأصقاع بحيث لا يزيد حده المساحي عن حده الوزني بنفسه، أو مع ضم قصر
الأشبار في آخر الزمان لصغر أبدانهم، فحده (عليه السلام) لعلمه الكامل الكامن فيه بحسب
المساحة بما لا ينقص أبدا عن حده الوزني المعتبر فيه، الذي هو الأصل في
التقديرات، بل إما أن يوافقه، أو يزيد عليه، حيث إن الزيادة غير مضرة كما تضر
النقيصة، بل اللازم - على غير المشهور - من كل مقدر أن يفعل كذا، لأنه بعد أن
فرضنا أن المعتبر في نظره في عصمة الماء هو بلوغه المقدار المخصوص من الوزن
ورأى أن تحديده به وحده لا يترتب عليه غالبا الأثر المقصود منه فيفوت الغرض
الذي هو رفع احتياج الناس، لعدم إمكان وصولهم إليه غالبا لا بد أن يحدده بحد
يمكنهم الوصول إليه عند الحاجة لسهولة تحصيله، وهو هنا الحد المساحي.
فحينئذ لا علاج إلا من تحديد المساحة بما يوافق التحديد الوزني المعتبر في
نظره، وهذا المعنى - على وجه - لا يتخلف في مورد من الموارد لما لم يمكن
لاختلاف المياه ثقلا وخفة، واختلاف نوع أشخاص المحول إليهم أمر التقدير من
أهل الأصقاع وأهل الأزمنة المتطاولة في الخلقة بالعظم والصغر، فلم يكن له
مناص عن تحديده بما لا ينقص أبدا عن حده المعتبر الملحوظ في نظره في مورد
من الموارد، لأنه مخل بالمقصود من عمل المعتصم مع غير المعتصم، فإنه مما
يترتب عليه من المفاسد الكثيرة ما لا يترتب على عكسه.
وبهذا البيان ينفتح باب لتصحيح الأخبار المختلفة في تحديد المساحة نظرا
إلى علمهم (عليهم السلام) بخصوصيات أشخاص الموجودات.
قوله (قدس سره): (والرطل العراقي مائة وثلاثون درهما، ثلثا المدني) هذا هو
المشهور. والدليل عليه مكاتبة الهمداني عن أبي الحسن (عليه السلام): " إن الصاع ستة
أرطال بالمدني، تسعة أرطال بالعراقي، ووزنه ألف ومائة وسبعون وزنة " (1)

(1) الوسائل 1: 236، الباب 7، من أبواب زكاة الفطرة، ح 1.
70

أي درهما، لأنه أقل وزن في الحجاز يوزن به الموازين ويرجع إليه لمعرفتها
كالمثقال في غير الحجاز.
وتقريب الإفادة: أن المائة والثلاثين هو حاصل قسمة ألف ومائة وسبعين
على التسعة، لأنه أقل عدد إذا ضرب في التسعة يبلغ ألف ومائة وسبعين، الذي هو
المقسوم.
وبتلك المكاتبة تبين أيضا صحة ما ذكره - طاب ثراه - من النسبة بين الرطل
العراقي والمدني.
وعن التحرير تحديد الرطل بمائة وثمانية وعشرين درهما وأربعة أسباع
درهم، وهذا هو الذي في قبال المشهور، ونسبه في الجواهر إلى الغفلة، فلا يهمنا
تعقبه في التصحيح والتزييف.
قوله (قدس سره): (والدرهم نصف مثقال شرعي وخمسه، فكل عشرة دراهم
حينئذ سبعة مثاقيل، والمثقال الشرعي ثلاثة أرباع الصيرفي، فهو حينئذ
مثقال وثلث شرعي) لأن الدرهم يبلغ وزن اثني عشرة حمصة معتدلة وثلاثة
أخماس حمصة، فإذا جمعت عشرة دراهم بحساب الحمصة يحصل عندك مائة
وستة وعشرون، وإذا قسمت ذلك العدد المجتمع على سبعة يكون حاصل القسمة
ثمانية عشر، لأنه أقل عدد إذا ضرب في السبعة وافى المائة وستة وعشرين،
والثمان عشرة حمصة هو مقدار المثقال الشرعي، كما أن أربعة وعشرين مقدار
المثقال الصيرفي، ولذا يزيد هو على الشرعي بما هو ثلثه وربع نفسه.
قوله (قدس سره): (ولا فرق بين المحال ولا بين الأشكال، ولا بين استواء
السطوح واختلافها) ما ذكره (قدس سره) من عدم التفرقة حتى لو صدق الوحدة عرفا
على الماء الموجود في محل خاص أو بشكل مخصوص، أو مع علو جزء وهبوط
آخر باعتبار اختلاف الموقف علوا وهبوطا، تفاوت سطح الفوقاني للماء معه أم
لم يتفاوت، كما علقه عليه شيخنا الأستاذ - طاب ثراه - وأشار بقوله: " ولا فرق
بين " إلى ما حكاه في جواهره عن مقنعة المفيد ومراسم سلار من ذهابهما إلى
71

نجاسة ما في الحياض والأواني بالملاقاة وإن كان كثيرا، ومحتمل نهاية العلامة (قدس سره)
في الأول، لعموم النهي عن الاستعمال.
ويردهما بعد الغض عن عدم ظهور عبارة المقنعة في خلاف المشهور
بملاحظة أن الشيخ - الذي هو أعرف بمذهبه لأنه تلميذه - لم ينسب اليه في
التهذيب عند شرحه تلك العبارة هذا المذهب، بل ظاهره عند شرح عبارة المفيد:
" والمياه إذا كانت في آنية محصورة فوقع فيها نجاسة لم يتوضأ منها ووجب
اهراقها " أنه فهم منه القلة، لأنه علله بقوله: " يدل على ذلك ما قدمنا ذكره من أن
الماء متى نقص عن الكر فإنه ينجس بما يحله من النجاسات " انتهى.
إطلاق الأدلة التي أنيط فيها اعتصام الماء بالكرية لرجحانها على ما ينافيها
بالعموم من وجه لو فرض قابليته لمعارضتها مما ورد من النهي عن استعمال
الأواني عند ورود النجاسة عليها بسبب اعتضادها بالشهرة المحققة والإجماع
المدعى في المقام، مضافا إلى عموم معقد الإجماع في اعتصام أصل الكر،
وخصوص ما ورد في خصوص الحياض والأواني، كخبر الفضيل: " عن الحياض
يبال فيها، قال (عليه السلام): " لا بأس إذا غلب لون الماء لون البول " (1)، ومرسل إسماعيل
ابن مسلم، عن جعفر (عليه السلام)، عن أبيه (عليه السلام): إن النبي (صلى الله عليه وآله) أتى الماء، فأتاه أهل الماء
فقالوا: يا رسول الله إن حياضنا هذه تردها السباع والكلاب والبهائم، فقال (صلى الله عليه وآله):
لها ما أخذت ولكم سائر ذلك " (2).
وخبر زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " قلت له: راوية من ماء سقطت فيها فارة
أو جرذ أو صعوة، قال: إن تفسخ فيها فلا تشرب ماءها ولا تتوضأ وصبها،
وإن كان غير متفسخ فاشرب منه وتوضأ، واطرح الميتة إذا أخرجتها طرية ".
وكذلك الجرة وحب الماء والقربة، وأشباه ذلك من أوعية الماء (3). بعد حمل

(1) الوسائل 1: 104 الباب 3، من أبواب الماء المطلق، ح 7.
(2) الوسائل 1: 119 الباب 9 من أبواب الماء المطلق، ذيل ح 10.
(3) الوسائل 1: 104، الباب 3، من أبواب الماء المطلق، ح 8.
72

تلك الأوعية على ما يبلغ ماؤها كرا.
كما يشهد له التفصيل بين متفسخ تلك الميتات المراد به النتن الذي يتغير الماء
بريحه، وغير متفسخها الغير المنتنة، كما يفصح عنه لفظ " الطرية "، للإجماع - حتى
من العماني القائل بعدم الانفعال - على أن الماء القليل لا يتفاوت حاله عند ملاقاته
الميتة بين كونها متفسخة أو غير متفسخة، فلا بد من حمل مورد الخبر على الكر
كلزوم الكناية عن نتنها بتفسخها، ليخرج عن خلاف الإجماع، كما رد الخبر بعضهم
لذلك، وقوله (عليه السلام): " نحو حبي هذا " (1) في تحديد الكر، وقول أبي عبد الله (عليه السلام) لما
سئل عن الحياض التي بين مكة والمدينة أنها تردها الكلاب - إلى أن قال (عليه السلام) -:
" وكم قدر الماء؟ فقيل: إلى نصف الساق والى الركبة، فقال: توضأ منه " (2).
وقوله (عليه السلام): " لا تشرب من سؤر الكلب إلا أن يكون حوضا كبيرا يستقى منه " (3)،
بعد جبر سند غير الصحيح منها بالشهرة المحققة والإجماع المدعى، فالمسألة غير
قابلة للشك بحمد الله.
قوله (قدس سره): (ويطهر النابع بزوال التغيير ولو من قبل نفسه، لأن له مادة)
الأقوى عدم طهره بذلك وتوقفه على المزج بما يخرج من مادته بعد الانفعال كما
علقه شيخنا بقوله: " الأقوى أنه لا يطهر إلا بامتزاجه بما ينبع منه بعد الملاقاة " لما
قدمناه من أن من شرط التطهير ورفع القذارة عن المحل وصول المطهر إليه
وتأثيره فيه، ومع عدم المزج لا يصدق الملاقاة والإصابة والوصول، فلا يطهر
بمجرد الاتصال والاتحاد.
فإن قلت: فلم اكتفيتم بمجرد زوال التغيير في الجاري؟
قلت: ليس الوجه فيه مجرد الاتصال بالمادة أو صدق الاتحاد، بل إنما هو
لحصول المزج بالمعتصم، كما لا يخفى هذا، مع أن الاتصال هنا بالمادة في بعض

(1) الوسائل 1: 122، الباب 10، من أبواب الماء المطلق، ح 7.
(2) الوسائل 1: 119، الباب 9، من أبواب الماء المطلق، ح 12.
(3) الوسائل 1: 117، الباب 9، من أبواب الماء المطلق، ح 3.
73

فروضه ممنوع، وهو ما سكن عن فعلية النبع حين أزيل عنه التغيير.
مضافا إلى أن العلة بهذا المعنى غير كافية في موردها، وهو البئر إجماعا حتى
من الماتن، للزوم النزح ثمة، المستلزم للنبع الفعلي والمزج به.
ولعله لذا حكى الشيخ عن المفيد وجوب نزح سبعين دلوا في الغدير المتغير
المحمول على ما فيه مادة نابعة كما عن الشيخ - الذي هو أعرف بمذاقه، لأنه
تلميذه - حمله عليه، وإن كان هو أيضا غير لازم، إذ ثمة وجوب النزح أتى من قبل
زوال التغيير معجلا للحاجة الفعلية، فالنزح ثمة مقدمة لزوال التغيير، أو أنه فيها
شرط ثبت اعتباره بالنص تعبدا، وإلا فلا شك أن المطهر حينئذ هو زوال التغيير
والمزج ثمة والنزح موجب للمزج بالمادة، ومستلزم لذهاب التغيير، ولذا علل
طهرها وعدم انفعالها بمجرد الملاقاة بقوله (عليه السلام): " لأن له مادة " (1) فتأمل.
قوله (قدس سره): (وغيره) أي غير النابع (مع عدم تغيره بالنجاسة بإلقاء الكر
عليه دفعة ليمتزج به ولو بالتموج حتى يستوعبه لو كان كثيرا،
وبالعكس) أي بإلقائه في الكر.
تقييده الإلقاء بالدفعة هنا غير مناسب، لما سبق منه من عدم التفرقة في تحقق
الكر بين استواء سطوحه واختلافها، إذ اعتبار الدفعة منتسب إلى معتبري استواء
السطح في تحقق موضوع الكر، وإن علل هو (قدس سره) اعتبار الدفعة هنا بما يميزه عن
هذا القول من قوله: " لميتزج به ".
والذي هو معتبر عندنا في تطهير المياه - كما أشرنا إليه وسنبينه أيضا - عدم
اعتبار الدفعة ولا الاستواء، بل المعتبر هو وحدتهما الحاصلة بالمزج، فتدبر.
وبالجملة نرى في كلماتهم اختلافا عظيما في اعتصام الكر دفعا ورفعا حكما
وموضوعا.
أما الاختلاف من حيث المحل فقد عرفته مع عدم تبين أن مخالفة المفيد

(1) الوسائل 1: 127، الباب 14 من أبواب الماء المطلق، ح 7.
74

وسلار فيه موضوعي أو حكمي، وإن أجبنا عنه نحن برفع كلتا الحيثيتين، وأما
الخلاف في الشكل فقد يمكن نسبته إلى صاحب المعالم (قدس سره) فإنه قال: " لأن ظاهر
أكثر الأخبار المتضمنة لاشتراط الكر والكمية اعتبار الاجتماع في الماء وصدق
الواحد والكثير عليه، وفي تحقق ذلك مع عدم المساواة في كثير من الصور نظر ".
انتهى محل الحاجة منه.
إذ لا ينكر دلالة لفظة " الاجتماع " ولفظتي " الواحد والكثير " في كلامه على
مدخلية خصوصية شكل خاص في هذا الصدق والتحقق. والتأمل منه في تحقق
المعاني الثلاثة مع عدم المساواة لا ينافي تأمله في بعض صور المساواة أيضا كما
نرجو أن سيتضح لك إن شاء الله ذلك، كما أنه لا يبعد استفادة هذا المطلب وهو
اعتبار الشكل المخصوص من كلام غيره من بعض معتبري المساواة أيضا.
وأما الخلاف في تساوي السطح بمعنى اعتباره في تحقق موضوع الكر فقد
نسبه شيخنا الأستاذ - طاب ثراه - إلى جماعة باستفادته اياه من كلماتهم.
وقبل الخوض في المطلب وذكر الكلمات يناسب تقديم ما بالتأمل فيه لعله
يسهل الخطب، وهو أن موضوعنا هذا - وهو الكر - له نوع ارتباط بالشارع من
باب بيان مقداره، وقد تبين بحمد الله كما تقدم. وله ارتباط بالعرف بعد معرفتهم
المقدار المخصوص في تطبيقه على الموجودات الخارجية، والحكم بكون
الشخص الخارجي مصداقا له، ووجه الاحتياج إليهم أنا قد استفدنا من الأدلة أن
الكرية التي هي مناط الاعتصام لا بد من قيامه بموضوع يحكم العرف بوحدته
لخروج المحكوم منه عندهم بالتعدد عن مورد الأدلة قطعا.
إذا عرفت هذا علمت أن وجه اعتبارهم تلك المعاني التي اعتبروها في تحققه
ليس إلا ما هو مسلم من أن المفاهيم العرفية لم يتفق أن يتضح مصاديقها بتمامها
في مورد أبدا، بل يبقى لها مصاديق خفية الصدق ومصاديق مشكوكة، وإلا فلا
أظن أن أحدا بعد صدق الوحدة يعتبر شيئا آخر، وبعد تسليم صدق التعدد يحكم
بالاعتصام في ما عدا ماء الحمام لشبهة أن له خصوصية تفيدها أخباره، ولعلنا
75

نتعرض له، فالشأن حينئذ في تنقيح هذا المفهوم وتحصيل حكم العرف بصدق
الوحدة في الموارد المختلف فيها من الأمثلة المذكورة لمختلف السطح أو الشكل.
فنقول: إنه لا شك أنه ليس مناط الوحدة هنا صدقها باعتبار نوع المياه
وصنفها كما يحكم بوحدة المياه المأخوذة من بئر مخصوصة أو عين خاص أو نهر
فلان مثلا، وإن تباعد كل من تلك المأخوذات عن الآخر واحرز في إناء مخصوص.
كما أنه ليس مناط صدقها وحدة محله وعدم تعددها بوجه ليحكم من أجله
بتعدد ماء الحوض الذي قد قطعه نصفين البناء الذي بني في وسطه لحاجة، كما هو
المعمول في المشهد الغروي على مشرفه سلام الملك العلي، وبعدم وحدته مع
اتصال ما في طرفي البناء من الماء بالآخر من فوق البناء أو من ثقب في وسطه أو
في أسفله، بل مناط الوحدة أن يشار عرفا إلى الماء الموجود الخارجي الحال في
المكان الخاص أن هذا الماء كثير أو قليل فمدخول هذا، والمشار إليه بتلك الكلمة
هو الذي يصدق عليه الوحدة عرفا، ولا يبعد صدقها على طرفي الماء النازل من
علو تسنيما أو تسريحا يشبهه ولو مع كمال البعد بينهما، كما أن طرفي الجاري في
السطوح المستوية لا عن مادة نبعية كذلك، ولو مع البعد المفرط بينهما كالفرسخ
ونحوه - مثلا - حال اتصال بعض الأجزاء ببعض فكيف في غيرهمامما يوضح
الحكم بالوحدة فيه اتصاله وعدم ما يقتضي تغايره الموجب لتعدده؟! لأن مناط
صدق الوحدة هنا هو اتصال أجزاء الماء بعضها ببعض في الجملة تساوت
سطوحها أم اختلفت، ساكنا كان الماء أم جاريا، على وجه التسنيم أو الانحدار.
وكلماتهم في الأقسام المذكورة مختلفة غاية الاختلاف.
أما في متساوي السطوح فقد عرفت أن ظاهر المعالم التأمل فيما لم يكن منه
مجتمعا متقارب الأجزاء بدعوى انصراف اطلاق أدلة الكر إلى المجتمع المتقارب،
وهذه الدعوى منه مناف لما هو ظاهر في ماء الحمام من اكتفائه بمجرد وجود
المادة البالغة وإن لم يتساوى السطحان، ولم يصدق الاجتماع حيث ادعى شمول
الاخبار له بعد اعتباره كرية المادة كما صرح به شيخنا - طاب ثراه - لما حكاه
76

عن جامع المقاصد أنه قيد إطلاق القواعد اعتبار الكرية في مادة الحمام بما إذا لم
يتساوى السطحان قال: " وإلا كفى بلوغ المجموع كرا كالغديرين المتواصلين
بساقية " وهو كذلك لصدق الاتحاد فيهما عرفا بلا شك فيه كما يشهد له ما ذكره
شيخنا - طاب ثراه - من صدق الوحدة على إناء بهذا الشكل وصدق الوحدة على
الماء المحرز فيه.
ومنه يعلم حكم اختلاف السطوح مع سكون الماء كالماء المحرز في
الآنية المذكورة بعد صياغة أحد طرفيها عاليا والطرف الآخر نازلا كهذا
الشكل مثلا. ولذا نحكم بنجاسة العالي عند ملاقاة السافل للنجاسة لو كان
قليلا أو غير ماء، لأن عدم السراية من السافل إلى العالي إنما هو في صورة
الجريان الذي له دفع وقاهرية لا السكون.
وأما في مختلف السطحين مع الجريان على وجه التسنيم وعدم كرية أحدهما
فعن صريح جميع كلمات المحقق الثاني وظاهر بعض كلمات العلامة (رحمه الله)
والشهيد (قدس سره) عدم تقوي أحدهما بالآخر، وهذا لا يجتمع مع تسليم صدق الوحدة
على العالي والسافل المتصل بعضه ببعض إلا أن يدعي أحد انصراف الإطلاق عنه
كما ادعاه صاحب المعالم في الصورة الاولى.
أما منع صدق الاتحاد عليه فلا يصغى إليه، لعدم المجال لإنكار حكم العرف
بالوحدة ولا أقل في بعض صوره.
وأما دعوى انصراف الإطلاق وعدم شموله لمثله فأبعد بعد تسليم صدق
الوحدة.
وعن صريح الشهيد الثاني في الروض وسبطه صاحب المدارك، وعن بعض
عبائر الدروس والموجز وشرحه وظاهر بعض كلمات العلامة والمحقق على
تقدير شمول الغديرين المتواصلين لما نحن فيه تقوي كل منهما بالآخر، وارتضاه
شيخنا - طاب ثراه - لتحقق الاتحاد عرفا فتشمله الأدلة، وعن التذكرة وبعض
كلمات الشهيد والموجز وشرحه تقوي الأسفل بالأعلى دون العكس، قال في
77

التذكرة - على ما حكاه الأستاذ - طاب ثراه -: " لو وصل بين الغديرين بساقية
اتحدا إن اعتدل الماء، وإلا ففي حق السافل فلو نقص الأعلى عن كر نجس
بالملاقاة، ولو كان أحدهما نجسا فالأقرب بقاؤه على حكمه مع الاتصال وانتقاله
إلى الطهارة مع الامتزاج ". وحمل الاتحاد في كلامه الشيخ الأستاذ - طاب ثراه -
على الاتحاد في الحكم، لعدم تصور تحقق الاتحاد الموضوعي من أحد الطرفين
دون الآخر كما هو صريح كلامه من ثبوته للسافل دون العالي.
أقول: بل يمكن دعوى صراحته في الاتحاد الحكمي من قوله: " ولو كان
أحدهما نجسا فالأقرب بقاؤه على حكمه مع الاتصال وانتقاله إلى الطهارة مع
الامتزاج " حيث إنه صرح بالتعدد من أول كلامه إلى آخره غير مرة. ولا يخفى
على البصير عدم صحه شيء من الحكمين المذكورين بعد قبول الاثنينية، إذ لا
يعقل الحكم بنجاسة أحد المتصلين مع علوه وطهارة الآخر النازل، مع تسليم عدم
وحدتهما وكونهما متعددين متغايرين، وكون كل منهما أقل من الكر، إذ القليل
الملاقي للنجس ينفعل بالملاقاة، وقد حكم هو بطهارة غير المتنجس ولو السافل
وحكم بتطهيره بعد الامتزاج مع صاحبه، مع أن التطهير بالقليل أيضا غير معقول
إلا بناء على تتميم النجس كرا.
ويمكن أن يوجه التفصيل حينئذ بأن العالي لقاهريته على السافل لا يمكن أن
يستمد منه بخلاف السافل، فإنه يحصل له المدد من العالي القاهر عليه إلا أنه
لا يجتمع هذا مع الحكم بطهارة السافل بعد الحكم بنجاسة العالي، لانفعاله
- حينئذ - من جهة الاتصال بما حكم بنجاسته، سيما مع قاهرية التنجس على
القليل المتصل به ولو لم يصدق اتحادهما، لأن الحكم بانفعال الماء القليل الملاقي
لنجس لا يختص بصورة اتحاده معه، بل يأتيه من قبل الملاقاة الحاصلة من
الاتصال، غاية الأمر ترتب الحكم بانفعال السافل على الحكم بنجاسة العالي،
ولا ضير فيه.
فلا يتوقف الاعتراض على المفصل بما حكاه شيخنا - طاب ثراه - من أنه
78

إن ثبت اتحاد الماءين المختلفين وجب الحكم بتقوي كل منهما، وإلا لم يحكم به
أصلا، سيما بعد ما عرفته مما وجهنا به التفصيل مما لا يلزم معه الحكم بتقوي كل
منهما من مجرد قبول الاتحاد.
ولكن الأقوى التقوي من الطرفين، لعدم إمكان تصحيح التفصيل لما أوردناه
عليه، ولضعف القول بعدم التقوي بعد قبول تحقق الاتحاد وإن كان في النفس منه
شيء خصوصا في الجاري منه، أي المتحرك بالسيلان.
ولو دفع ما أوردناه بأن عدم الحكم بنجاسة السافل بعد الحكم بنجاسة العالي
إنما هو لأنه جزء من ماء محكوم بالكرية. وتنجس بعض أجزاء الكر لا يستلزم
الحكم بنجاسة غير ذلك الجزء كالكر المتغير بعضه بالنجاسة، حيث إن الحكم
بالانفعال مخصوص بالمتغير ولا يتسرى منه إلى غيره من الأجزاء الملاصقة به
الغير المتغيرة.
نقول: إنه ممنوع في المقيس عليه فيما لم يكن غير المتغير بمقدار الكر وكذا
في المتحد بالعرض بعد عدم التمايز، ومع ذلك فهو رجوع إلى القول بالتقوي
مطلقا، لأنه بعد تسليم قيام الكرية بمجموع السافل والعالي لا مناص عن التزام
تقوي كل جزء يفرض منه بالباقي واعتصامه به، لأنه هو حكم الكر بعد تحققه في
الخارج بمقتضى ما دل على أنه لا ينجسه شيء مما لاقاه إلا ما غيره، من حيث إنه
قصر انفعاله بالتغيير وحكم في غير تلك الصورة بالاعتصام. وقياس المورد
بصورة التغير قياس باطل، والتمسك فيه بأمر اعتباري لا اعتبار به في الفقه ما لم
يعتضد بشاهد عليه من الأخبار، لعدم جواز الاعتماد على الاعتبارات الصرفة
التي لا شاهد لها من الأدلة إلا في مقام الاعتضاد.
ومثل تلك الصورة بعينها صورة الجريان الانحداري حكما وقولا، فإنه نسب
هنا إلى القائلين هناك ما اختاروه فيها أخذا باطلاق لفظ الجريان وما شابهه في
كلماتهم لمفهوم كلمة " إن اعتدل " في كلام العلامة، حيث إن عدم الاعتدال يشمل
صورة الانحدار مطلقا والمختار فيها المختار هناك، والدليل الدليل مع أوضحية
79

الحكم بالاتحاد هنا، وأصعبية دعوى انصراف إطلاق الأدلة عنها. ومن قوة القول
بالتقوي مطلقا هنا يعلم أقوائية القول به في سابقتها من صورة الجريان التسنيمي
مع فرض بلوغ العالي وحده كرا، بل ربما ادعى بعض وحكي عن شارح الدروس
أيضا الاتفاق على تقوي الأسفل بالأعلى الكر.
ولكن الأستاذ - طاب ثراه - استشكل في ثبوت هذا الاتفاق فإنه نقل عن
المنتهى والتذكرة التردد في ثبوت الحكم لغير الحمام مما هو مثله في العلو
والتسنيم بعد اعتباره الكرية في مادته، وإن احتمل - طاب ثراه - أن يكون مراد
العلامة من التردد في الالحاق ملاحظة اعتبار الدفعة في مقام التطهير به.
ونقل عن الشهيد في الدروس والذكرى، وعن جامع المقاصد بعد حكمهما
بطهر البئر بالامتزاج مع الكثير والجاري أنهما منعا طهرها لو تسنم الجاري
والكثير عليها من فوق، معللا بعدم الاتحاد في التسنم. ونقل عن شارح الروضة
أنه وجه حكم العلامة باعتبار الدفعة في الكثير الملقى على الماء النجس بأنه
لولاها لزم اختلاف سطوح الكثير عند القائه فينفعل ما ينزل منه بملاقاة النجس.
ونقل عن صاحب المعالم أنه قال: " ان اللازم على القول باعتبار تساوي
السطوح في الكر اعتبار الدفعة في التطهير لئلا يختلف سطوح الماء الملقى، ومن
المعلوم أن اعتبار الدفعة عند معتبره لا يختص بما إذا لم يزد المطهر عن الكر ".
وأيضا لازم ما نقلناه عن صاحب المعالم من دعوى الانصراف إلى المجتمع
المتقارب عدم تقوي السافل بالكر العالي عليه، وكذا مقتضى ما عن جامع
المقاصد من استدلاله على عدم تقوي العالي المتمم بالسافل بأن العالي لا ينجس
بنجاسته فلا يطهر بطهارته عدم اعتصام السافل هنا بالكر العالي عليه، هذا.
ولكن عندي عدم استفادة المخالفة منهم هنا من كلماتهم.
ومنع صاحب المعالم وجامع المقاصد عن اعتصام كل من السافل والعالي
بالآخر، أو عن اعتصام أحدهما بالآخر عند تحقق الكرية بهما غير ملازم للمنع
عن اعتصام السافل بالكر المسلم الكرية القاهر عليه، لعلوه مع الاتصال الذي
80

هو مناط عصمة القليل عند اتصاله بأحد المعتصمات، فليس حال هذا السافل
المتصل بالكر من فوقه بأدون من القليل الذي حصل له الاتصال بالكر قبل ملاقاته
النجاسة وطرأ عليه الملاقاة بعد الاتصال في أنه لا ينفعل.
وكيف كان فلا أرى أحدا يتأمل في اعتصام السافل بالكر الفائق عليه وإن
ذكر الشيخ الأستاذ أنه لا يوجد دليل على الاعتصام لمن يعترف بعدم الوحدة في
صورة الجريان. وعدم كرية أحد من العالي والسافل - لكفاية اتصال الكرية من
فوق الذي هو أقوى من الاتصال أجنبي من إناطة الاعتصام به.
كما يشهد له أخبار الحمام بناء على اعتبار الكرية في مادته لينطبق على
القاعدة حتى عند من يعتبر في الكر تساوي السطوح، لأنه حينئذ لا يبقى له
خصوصية إلا من حيث التطهير بها من حيث عدم اعتبار الدفعة فيه. فالخصوصية
في أخبار الحمام أحد شيئين.
أحدهما: عدم اعتبار استواء السطوح في الحمام بناء على اعتباره في غيره
فيما إذا لم يبلغ المادة كرا.
الثانية: عدم اعتبار الدفعة في التطهير بالمادة البالغة كرا بناء على اعتبار
الكرية فيها.
وأما اعتصام ماء الحمام بمادته الكر فلا خصوصية تلحقه من تلك الجهة،
إذ لم يعرف من أحد أن يصرح بالخصوصية من هذه الحيثية، ولا رأيناها في
كلماتهم المنقولة.
مضافا إلى ما حكي عن شارح الدروس من دعوى الاتفاق على اعتصام
القليل بالعالي الكثير مطلقا كما تقدم، هذا.
مع إمكان تصحيح علة عامة من اعتبار المادة البالغة كرا في ماء الحمام،
فيتعدى منه إلى كل ماء قليل له مادة متسنمة عليه تبلغ كرا، لأن المادة - لغة وعرفا -
ما يستمد منه.
وكيف كان فلا فائدة في تعقب المخالف هنا بعدما قويناه من عدم اعتبار
81

تساوي السطوح في أصل تحقق الكر وفي حصول الاعتصام لمجموع ما حصل
كريته من مختلف السطوح، فكيف في اعتصام جزء من مختلف السطوح بكر
مسلم الكرية؟ حيث يظهر مسلميته عندهم كما يعطيه العبارة المحكية عن الذكرى
من قوله: " والأظهر اشتراط الكرية في المادة - يعني مادة الحمام - حملا للمطلق
على المقيد، ثم قال: وعلى القول باشتراط الكرية يتساوى الحمام وغيره، لحصول
الكرية الدافعة " انتهى.
فإن تعليله يفيد مسلمية حكم الدفع عندهم. ومثلها عن جامع المقاصد في
شرح ما عن القواعد من قول المصنف: " ماء الحمام كالجاري إذا كانت له مادة هي
كر فصاعدا " فإنه قال: " اشتراط الكرية في المادة إنما هو مع عدم استواء السطوح
بأن يكون المادة أعلى أو أسفل مع اشتراطه القاهرية بفوران ونحوه في هذا
القسم " يعني أسفلية المادة. فيعلم منه أن مع كرية المادة حينئذ لا مخالفة فيه
للقاعدة ولا لكلام الأصحاب بوجه كمتساوي السطوح، هذا.
مضافا إلى ما عن الشهيد الثاني في الروض من قوله: " إن النصوص الدالة
على اعتبار الكثرة مثل قوله (عليه السلام): إذا كان الماء قدر كر وكلام أكثر الأصحاب ليس
فيه تقييد الكر المجتمع بكون سطوحه مستوية، بل هو أعم منه ومن المختلفة كيف
اتفق " قال الأستاذ: " وله كلام أصرح من ذلك في التعميم، وتبعه عليه سبطه في
المدارك ".
أقول: فعدم اعتبار تسوية السطح في اعتصام غير الكرية أوضح على أن
الاتحاد في المقام عرفا لا يكاد أن يخفى، ولا يقبل أن ينكر.
إذا عرفت حقيقة الحال، وتبين لك من مطاوي الكلمات أن القول باعتبار
الدفعة في إلقاء الكر للتطهير لازم قول معتبري استواء السطح في تحقق الكر أو في
اعتصامه يبقى أنه ما معنى اعتبار مصنفنا اياها في الإلقاء للتطهير مع عدم قوله
بتلك المقالة، لما سمعت من تعميمه وعدم تفرقته بين المحال والأشكال
والاختلاف والاستواء؟! وكون اعتباره الدفعة هنا من جهة حصول الامتزاج
82

كما ربما يعطيه قوله: " ليمتزج " غير معتمد عليه، لعدم استلزام الدفعة الممازجة،
ولعدم توقف الممازجة على الإلقاء الدفعي لحصولها بدونها أيضا، فلا بد حينئذ من
التأمل في لزوم اعتبارها، وأنه من أين ثبت؟ وما المراد منها؟
فأقول: أما المراد منها فيحتمل أن يراد بها ما يقابل المرات كأن يلقى الكر في
المطهر - بالفتح - أبعاضا كل مرة بعضا منه، ويحتمل أن يراد بها معناها المتعارف
المقابل للتدريج، ويحتمل - بعيدا - أن يراد منها وقوع الكر تماما دفعة واحدة
بمعنى أن لا يقطع الملقى للتطهير في أثنائه، ويكتفى بالبعض الواقع منه بعد استقرار
ذلك البعض في المطهر - بالفتح -.
أما المعنى الأول: فلا شبهة في اعتباره، لأن أبعاض الكر - بعد انقطاعها منه -
ماء قليل ينفعل بالملاقاة، وعلى القول بعدمه أيضا لا يفيد طهارة في المحل، لأن
مطهر الماء بل مطلق المائع لم يجعل الماء القليل، فاعتبار الكرية في المطهر يغني
عن اعتبار الدفعة بهذا المعنى، وكونه مأخوذا من الكر لا يصيره فردا ومصداقا منه
كالمأخوذ من غيره.
وأما المعنى الثاني: فقد حكي عن جماعة اعتبارها من دون تصريح منهم
لوجه الاعتبار. ويحتمل أن يكون وجهه لزوم الممازجة - كما هو ظاهر المتن -
لترتبها عليها غالبا. وعليه فلا شك في اعتبارها لما تعرفه ان شاء الله من لزوم
المزج، إلا أن فيه حينئذ ما أشرنا إليه من عدم توقف حصول المزج عليها،
وحصوله مع التدريج أيضا.
مضافا إلى ما حكي عن جامع المقاصد من قوله بالدفعة مع عدم اعتباره
الممازجة وإن حكي عن جماعة من معتبري المزج كالمحقق في الشرائع والعلامة
في التذكرة والشهيد في الدروس قناعتهم بها، بل عن جمال المحققين في حاشية
الروضة أن في صورة إلقاء الكر دفعة يتحقق الممازجة، وإنما الخلاف في اشتراط
الممازجة فيما لم يلق دفعة، هذا.
ولكنك ترى أن في اقتصارهم على الدفعة عن الممازجة التي هي معتبرة
83

عندهم لأجل حصولها بها لا يلزم اعتبارهم اياها بنفسها بعد أن لم ينحصر تحققها
بها، بل يتحقق بغيرها أيضا كما عرفت.
ويحتمل أن يكون وجهه ما يختص بصورة إلقاء الكر من أنه لولاها لزم
اختلاف السطوح، الذي قد عرفت منع جماعة معه تقوي السافل بالعالي، فينفعل
الجزء الوارد على النجس - حينئذ - والباقي ناقص عن الكر فلا يطهر النجس به،
وهذا المحذور غير لازم في غير صورة الالقاء من الوصل ونحوه.
ويشهد له ما عن جامع المقاصد - بعد قول الشهيد بأن القليل يطهر بإلقاء كر
متصل عليه من قوله -: " إن لم يشترط الدفعة، وفيه تسامح، لأن وصول أول جزء
منه إلى النجس يقتضي نقصانه عن الكر فلا يطهر "، انتهى. حيث إنه لا يتم ما ذكره
من الملازمة إلا بعدم تقوي السافل بالعالي، كما لا يخفى.
ويشهد له أيضا ما حكي عن شارح اللمعتين من تعجبه عمن جمع بين القول
بالدفعة، والقول بالممازجة كالفاضل في التذكرة بلحاظ أن اعتبار الدفعة إنما
هو لئلا يزول وحدة الماء بسبب اختلاف سطوحه، والحال أن الممازجة يلزمها
اختلاف السطوح، ولا يفرق العقل بين الاختلاف الحاصل بالماء والحاصل
بالهواء، انتهى.
ويمكن أن يستكشف من جملة من الكلمات السابقة أن اعتبار الدفعة تعبد،
لورود النص وتصريح الأصحاب بها، ويمكن أن يكون لزوم الاحتياط في إزالتها
- أي النجاسة - كما حكي اعتماد جمال الدين عليه في حاشية الروضة.
والكل كما ترى غير قابل لأن يعتمد عليه في الحكم، لما عرفت أن الأول
مدفوع بحصول الممازجة مع التدريج أيضا، والثاني مدفوع بما بيناه في المسألة
السابقة من عدم اعتبار استواء السطوح في تحقق الكر ولا في اعتصامه.
ودعوى أن التطهير به حينئذ مشكوك فيستصحب النجاسة في المتنجس مع
أنها مبنية على تعقل اتصاف الماء المحكوم بالوحدة بحكمين مختلفين وستعرف
ما فيه أن الاستصحاب ممنوع لتغاير الموضوع مضافا إلى أنه معارض
84

باستصحاب بقاء الكر على طهارته، فيأتي من قبله جواز جميع الانتفاعات،
إذ الكر الممزوج بنجس لم يغيره لا مانع من الانتفاع به مطلقا.
والثالث - مع أنه غير متعقل في المقام لرجوعه بالآخرة إلى الشرطية - فيه أنه
اعترف غير واحد بعدم العثور عليه ولا على من ادعاه، والأصحاب أيضا لم
يصرح به منهم أحد إلا المحقق والعلامة والشهيد في الشرائع والتذكرة والدروس،
ونقضه في المدارك بتصريح العلامة في المنتهى والتحرير بطهارة النجس من
الغديرين باتصاله بالطاهر الكثير منهما على نقل الأستاذ.
والرابع فيه أنه لا يبقى شك بعد قبول الاتحاد وتسليم عدم تبعض الماء
الواحد في الحكم لكي نلتجئ إلى الاحتياط مضافا إلى عموم أدلة مطهرية الماء،
والماء الكثير بعد بقائه على قابليته - كما هو المفروض - وقابلية المحل للتطهير
أيضا وعدم مانع منه مع حصول شرطه الذي هو الامتزاج، فلا يبقى شك حتى
يتمسك معه بالاستصحاب.
وأما المعنى الثالث: فإن اريد اعتبارها في التطهير مطلقا فلا وجه له أبدا
لا على القول باعتبار الممازجة ولا على القول بكفاية مجرد الاتصال، إذ بعد أن
حصل الطهارة إما بالاتصال على القول بكفايته، وإما بمزج النجس بتمامه لو كان
قليلا مع الجزء الوارد من الكر عليه المحصل للطهارة لاعتصامه بالباقي لا داعي
لالقاء الباقي فيه لصدق التطهير بالكر سيما لو بلغ مجموع المحصل منه ومن بعض
الكر الممتزج معه كرا، فلا مانع حينئذ من قطع الكر المطهر له، لعدم الاحتياج بعد
حصول الطهر إلى بقاء الاتصال بينه وبين الكر أو ورود بقية أجزاء الكر عليه.
وتوهم عدم حصول الطهر إلا بملاقاة كر تام كما حكي عن كاشف اللثام في
غير محله، لأن شرط التطهير امتزاج النجس بماء معتصم، وقد حصل، ولذا فرع
صاحب المعالم (قدس سره) على القول باهمال اعتبار استواء السطوح كفاية حصول المزج
والاستهلاك عند معتبري الممازجة حتى لو فرض حصوله قبل القاء تمام الكر،
وأنه لا يحتاج إلى الباقي على ما نقله عنه شيخنا - طاب ثراه -.
85

فإذا الأقوى كفاية ايراد الكر على النجس على التدريج أيضا، وإن كان
لا ينبغي ترك الاحتياط بإلقائه على وجه يصدق معه الدفعة العرفية في صورة
الالقاء، لما في استلزام تركها حينئذ من اختلاف السطح الذي هو معركة الآراء في
الاعتصام فكيف في حصول الطهر به الذي عدمه مجرى الاستصحاب قطعا عند
حصول الشك فيه؟!
وتعجب شارح اللمعتين وما أورده من لزوم الاختلاف بالمزج مدفوع بأن
الطهر معه إجماعي فلا يقدح فيه اختلاف السطح لو فرض حصوله والعلم به، مع أن
كليهما ممنوعان، فإلقاء الكر دفعة على النجس مع مزجه به مطهر له إجماعا،
كعكسه وهو القاؤه في الكر كما تقدم عن المتن، بل هو أيضا إجماعي مع الممازجة.
وأما مع عدمها والقول بكفاية مجرد الاتصال فيشكل، لأن لازم من قال بعدم
عصمة العالي بالسافل دفعا عدم حصول الطهر للنجس العالي لأصعبية الرفع، فعدم
الاعتصام فيه أولى بخلاف علو الكر، فإن القائلين بعدم تقوي الطرفين مطلقا
كالمحقق الثاني ومن تبعه اكتفوا هنا في رفع محذور اختلاف السطح باعتبار
الدفعة في الالقاء.
قوله (قدس سره): (وبممازجته له بوصل) ظاهر العبارة باعتبار اطلاق لفظ الوصل
فيها يعطي كفاية ذلك ولو بالنبع من تحت، فهي متضمنة لأمرين:
أحدهما بالصراحة وهو لزوم المزج وعدم كفاية مطلق الاتصال، والثاني
بالإطلاق وهو كفاية الاتصال على نحو المزج ولو بالنبع من تحت. أما الأول
فالأقوى اعتباره، كما عن جماعة التصريح به كما في العبارة المحكية عن التذكرة
المتقدمة في مسألة تحقق الكر المفصلة بين العالي والسافل في التقوي والاعتصام
من قوله: " وانتقاله إلى الطهارة مع الامتزاج ".
وعن الذكرى: " ويطهر القليل بمطهر الكثير ممازجا فلو وصل بكر يماسه لم
يطهر " وقال أيضا: " لو نبع الكثير من تحته كالفوارة فامتزج طهره " وقريب منهما
في الصراحة ما عن المحقق في المعتبر عند استدلاله على طهارة القليل الوارد
86

عليه الكر من قوله: بأن الوارد لا يقبل النجاسة والنجس مستهلك، انتهى. فإنه
كالصريح في اعتبار الامتزاج.
ومثله قوله: " لأنه ممتاز عن الطاهر في مقام التعليل لأشبهية بقاء الغدير
النجس الناقص عن الكر على نجاسة عند وصله بغدير كر طاهر ".
ونسب إلى خلاف الشيخ (قدس سره)، بل استظهر من كل من ذكر في الجاري المتغير
أنه يطهر بتدافع الماء من المادة وتكاثرها حتى يزول التغيير كما في المقنعة
والمبسوط والتحرير والوسيلة بتقريب: أنه لولا قولهم باعتبار الممازجة لكانوا
يقنعون بمجرد زوال التغيير كما عن اللمعة والجعفرية، لتحقق الاتصال بالمادة
العاصمة، ولذا جعل جامع المقاصد لازم تعبير القواعد بمثل تلك العبارة المذكورة
آنفا القول باعتبار الممازجة وابتنائه عليه.
وكيف كان فيدل عليه الأصل بعد ضعف ما تمسك به الخصم مما أقامه على
كفاية مجرد الوصل - كما ستعرف - مضافا إلى أن شرط طهارة غير الماء من
المتنجسات وصول الماء المطهر إلى كل جزء من أجزاء النجس، وإلا فيختص
الطهارة بالجزء الملاقي للماء.
ولا يقال بطهارة الجزء الغير الملاقي بملاحظة اتصاله بالملاقي، ولا مخصص
للماء يخرجه عن تلك القاعدة مع عدم معقولية إزالة النجاسة عن متنجس بلا
ملاقاته للماء مستندا في تلك الإزالة إلى الأدلة الدالة على أن ملاقاة الماء مطهرة.
ومن هنا تعرف عدم إمكان قياس الطهارة على النجاسة في السراية، لأنه مع
الفارق، لما أشرنا إليه سابقا أن السراية في النجاسة حكمي وتعبد مأخوذ من ظاهر
الأدلة المانعة عن استعمال الماء القليل الملاقي للنجس الكافي في صدق ملاقاته
لها عند تحقق وحدته عرفا، وحصول الملاصقة بينهما ولو ببعض من كل منهما، ولا
ظاهر لنا في المقام مثلها نستفيد منه ذلك، فلا بد فيه من العمل بما تقتضيه قاعدة
التطهير بالماء في غيره.
وأما حصول الطهارة بعد المزج فاجماعي، مضافا إلى أنه ليس لنا ماء واحد
87

حقيقي يحكم على أجزائه الغير المرئية بنجاسة بعض وطهارة بعض مع كمال
مخالطة النجس بالطاهر وعدم وجود تغيير فيه، ولا اتصافه بصفة تميزه، بل ولا
تمييز له في الواقع ونفس الأمر، ولا يمكن الحكم بانفعال الكر الممتزج حينئذ
للإجماع على بقائه على طهارته ولا الحكم بنفي ترتب آثار الطاهر عليه من
جواز الشرب والوضوء وأمثالهما، لأنه في معنى الانفعال، إذ لا معنى للنجاسة إلا
المنع عن ترتب تلك الآثار عليه.
مع أنه يدل على حصول الطهر - حينئذ - ما دل على نفي البأس عن استعمال
كر لاقاه نجاسة غلب عليها الماء، فإنه لا شك في غلبته بالمزج فلم يبق بعد مانع
عن جواز استعماله شرعا، هذا.
مع أولوية أن عين النجس إذا امتزج بالكثير المطلق ولم تغيره يحكم بطهارته،
فالماء المتنجس أولى بأن يحكم عليه بالطهارة مع المزج.
وبالجملة فحصول الطهارة مع المزج مما لا إشكال فيه، ولا يعتبر فيه كونه
على حد الغلبة والاستهلاك وإن كان ربما يعطيه بعض الكلمات إلا أنه غير مقصود
لمتكلمه، لما تراه منهم من الاكتفاء لتطهير كر بمثله، بل حكموا بأن الكر يطهر
اكرارا من الماء النجس، وكلماتهم مشحونة بأمثاله مما لا يعقل فيه غلبة المطهر
على المطهر واستهلاكه له، فليس إلا أنهم أرادوا به الامتزاج التام.
فلنعد إلى ذكر ما حسبوا دلالته على كفاية مجرد الاتصال وبيان ما فيه لكي
نستريح إلى ما اخترناه من لزوم الممازجة:
أحدها: الأصل، حكي عن بعض الأفاضل. وغير خفي أن الأصل في المقام
هو بقاء النجاسة.
الثاني: عمومات مطهرية الماء مطلقا، أو خصوص المعتصم منه. ومن
الواضح: اهمال كيفية التطهير فيها وكونها محولة إلى العرف كما سبق الإشارة إليه،
فلا عموم فيها من تلك الجهة زيادة على ما يحكم به العرف، سيما قوله (عليه السلام):
88

" الماء يطهر ولا يطهر " (1) في رواية السكوني فإنه مسوق لبيان أنه لا يطهر بغيره
كما هو مطهر لغيره، فلا دلالة فيه على مطلوبهم أبدا، بل قيل: إنه على خلاف
المطلق أدل كما استدل به بعضهم على اعتبار الاستهلاك أي لا يطهر مع بقائه على
حاله، فطهره متوقف على أن يغلب عليه المطهر فيخرجه عما هو عليه، ولا يصدق
عليه أنه باق على ما كان، لعدم إمكان حمله على السلب الكلي من عدم قبوله
للتطهير أبدا، لكونه خلاف الإجماع فليحمل على عدم القبول مع بقائه بحاله وعدم
استهلاكه في المطهر وإن كان فيه ما فيه.
ومثله قوله (عليه السلام) في ماء الحمام: " إنه يطهر بعضه بعضا " (2) وقد سبق منا الكلام
فيه في مسألة الجاري.
وأما قوله (عليه السلام) في مرسلة الكاهلي: " كل شيء يراه المطر فقد طهر " (3)، ففيه أن
الرؤية فيها كناية عن ملاقاته على وجه معتبر في التطهير به، ونحن نسلم أن كل
متنجس لاقاه المطر فقد طهر، وإنما الكلام في أن ملاقاة البعض لا تكفي في
الحكم بطهارة الكل.
ودعوى الكفاية بتقريب أن الحوض الذي لاقى المطر سطحه الفوقاني صادق
عليه عرفا أنه لاقاه المطر. فيها - مع الغض عن كون الإطلاق في المقام من باب
التسامح المتعارف عند العرف - أنه يصدق حقيقة على غير السطح المرئي أنه
لم يره المطر فلم يطهر، قضية لحكم المفهوم المعتبر، لكونه من مفهوم الشرط من
حيث تضمن المبتدأ لمعنى الشرط، فيقع التعارض بين المفهوم والمنطوق، والأول
أظهر لكشفه عن التسامح في الإطلاق الذي ادعوه من صدق الملاقاة، وإلا لكان
مانعا عن صدق عدم الملاقاة في غير السطح، لامتناع اجتماع النقيضين، وهذا
معنى قول شيخنا الأستاذ - طاب ثراه - في دعواه عدم الرؤية في البقية مع تسليمه

(1) الوسائل 1: 100، الباب 1 من أبواب الماء المطلق، ح 6.
(2) الوسائل 1: 112، الباب 7 من أبواب الماء المطلق، ح 7.
(3) الوسائل 1: 109، الباب 6 من أبواب الماء المطلق، ح 5.
89

صدق الرؤية حقيقة في الكل، فإنه يعلم أنه كان من باب المماشاة ليورد عليهم
نقض التعارض، وإلا فلا معنى لصدق الرؤية وعدم الرؤية في الشيء الواحد في
آن واحد حقيقة، مع أن صدق عدم الرؤية على غير السطح حقيقة مما لا يقبل
الانكار، فيعلم منه أن حكمهم بالرؤية فيه كان مبنيا على المسامحة.
وبهذا البيان تعرف ما في مرسل المختلف عن أبي جعفر (عليه السلام) مشيرا إلى غدير
من الماء: " أن هذا لا يصيب شيئا إلا طهره " (1) فإنه لا يرتاب في كونه مسوقا لبيان
الاعتصام، ومهملا من حيث كيفية الإصابة، مع أن الإصابة منتفية عن غير الجزء
الملاقي حقيقة.
وأما صحيح ابن بزيع (2) الوارد في البئر فعلى خلاف المطلق أدل، إذ لو كفى
ملاقاة المادة لما كان يحتاج إلى النزح، مع أن النزح المتعقب لزوال التغيير
لا نعرف فيه عدم حصول المزج معه، إذ لا ريب في استلزام النزح من ذي المادة
امتزاج ما فيه مع ما يخرج من مادته وهو المطهر له لا اتصاله بالمادة الغير
الخارجة، فلا ربط له برجوع التعليل إلى الفقرة الاولى أو الثانية، أو أنه لبيان ترتب
زوال التغيير على النزح من ذي المادة.
الثالث: اقتضاء الاتصال الاتحاد، والماء الواحد لا يختلف حكمه بالطهارة
والنجاسة بدون التغيير. وفيه منع الاتحاد المقتضي لاتحاد الحكم، لتمايز كل من
النجس والطاهر على وجه يشار اليهما مستقلا، ومجرد الاتحاد في السطح غير
مقتض لاتحادهما حقيقة سيما في الحكم.
الرابع: أن الاتصال يوجب اختلاط بعض أجزاء الكر مع بعض أجزاء النجس،
فإما أن يطهر أو يتنجس ذلك البعض من الكر، والثاني مخالف لأدلة عدم انفعال
الكر، فتعين الأول، فإذا طهر الجزء طهر الجميع، لعين ما ذكر.

(1) مختلف الشيعة: كتاب الطهارة ج 1 ص 178.
(2) الوسائل 1: 127، الباب 14 من أبواب الماء المطلق، ح 7.
90

وفيه وضوح طرو المنع للملازمة الأخيرة، لعدم التنافي بين الحكم بطهر الجزء
المختلط وعدم طهر غيره مما لم يلقه المطهر، ولذا لو اريد من الاختلاط مطلق
الاتصال يكون مصادرة، لأن كفايته عين النزاع، ولأجله نعتبر في الكثير الذي
تغير بعضه بالنجاسة ثم زال تغيره بنفسه امتزاجه بالباقي البالغ كرا، ولا نكتفي في
طهره بمجرد الاتصال الحاصل بينه وبين الباقي.
هذا خلاصة ما حكى عنهم دليلا على كفاية مجرد الاتصال، وقد عرفت عدم
تمامية شيء منها بحيث يكون دليلا وافيا على المدعى.
وحكي عنهم امور لإبطال اعتبار الامتزاج لا بد أيضا من دفعها ليسلم القول
به عن المناقشة، ومنشؤه ما عن المنتهى عند تردده في الغديرين المتواصلين من
أن في بقاء النجس على نجاسته نظرا، للاتفاق على طهارة النجس بإلقاء كر،
والمداخلة ممتنعة والاتصال موجود هنا، وقد شرحه بعض الأفاضل وجعله
وجوها، وقد كفانا شيخنا - طاب ثراه - مؤنة ردها، فلا نرى لتعرضها وذكر ما فيها
كثير فائدة.
وامتناع المداخلة - الذي ادعاه العلامة - إن أراد بها الحكمي فهو بمعزل عن
الفقه، وإن أراد بها العرفي ولو على وجه الحقيقة فهو ممكن كالعلم به، كما يكشف
عنه زوال صفة ذي الصفة عند الممازجة، والمعتبر من الممازجة هو امتزاج جميع
النجس ولو ببعض المعتصم حين عدم انقطاع ذلك البعض عما به اعتصامه كما
أشرنا إليه من عدم اعتبار إلقاء تمام الكر في مقام التطهير، بل يجوز قطعه بعد
حصول الطهر به. هذا تمام الكلام في الأول، وهو اعتبار الامتزاج.
وأما الثاني وهو كفاية النبع من تحت فهو في الجملة محل اتفاق كما ادعى
الإجماع عليه شيخنا الأستاذ، بل في الجواهر أن اشتراط العلو أو المساواة لم
يوجد إلا في بعض عبارات بعض المتأخرين، وهو خال عن السند، وهو كذلك لما
ذكره الأستاذ - طاب ثراه - من أنه لا محصل لهذا الشرط عند المكتفي بمجرد
الاتصال كما هو ظاهر بعض غير معتبري الامتزاج، وعند الملتزم بصدق الوحدة
91

في الفرض وعند القائلين بلزوم الامتزاج لوجود سبب الطهر من الاتصال أو
صدق الوحدة أو الامتزاج بالمعتصم عند هؤلاء.
نعم المعتبر لصدق الوحدة النافي له في الفرض - كما عرفته في باب تحقق
الكر المقتنع في التطهير بالاتصال الآني معه صدق الوحدة - له أن يمنع عن التطهير
ببعض أقسام النبع من تحت، وهو ما ليس منه مثل الفوارة التي يلاقي الكر النجس
من فوق عند نزوله، لأن العالي الغير المتحد مع السافل لم يعتصم به عنده دفعا
فكيف يسعه أن يقول برفع نجاسته به؟!
وبالجملة يظهر للمتأمل في كلماتهم عدم تأملهم في الطهارة بمجرد تحتية
الكر، كما يشهد لما ذكرناه أن جامع المقاصد - الذي نقلنا عنه في مسألة الكر عدم
تقوي كل من العالي والسافل بالآخر - حكم بحصول الطهر بالمادة السافلة إذا كان
لها قاهرية بفوران ونحوه، كما عرفته عند شرح عبارة القواعد المعتبرة للكرية في
مادة الحمام، فكيف القائلون بالتقوي أو المكتفون في الطهر بمجرد التلاقي كما
حكي عن الشهيد الثاني؟!
وما عن العلامة في رد الشيخ - الذي لم يفصل في مقام التطهير بين النبع من
تحت وغيره - صريح في عدم مخالفته في تلك المسألة، حيث إنه قال: إن أراد
النبع من الأرض ففيه إشكال، وإن أراد به ما يوصل إليه من تحت لو كان على
التدريج لم يطهره، وإلا طهره، خلاف منه في اعتبار الدفعة لا في المسألة.
وكيف كان فلا أرى وجها للتأمل في عدم اشتراط العلو أو المساواة، وفي
حصول الطهر بكر ينبع من تحت بعد حصول الامتزاج التام لبقاء الكر على
اعتصامه، ولازمها طهر ما مازجه من النجس، للوجوه التي ذكرناها في الممازج
بالعالي المتساوي، على أن إلقاء القليل النجس في الكثير من أفراد الملاقاة للكر
من تحت، ولا أظنهم يتأملون في طهره، فما يوجهون به عدم اعتبار العلو
والمساواة فيه نرده عليهم في عدم اعتبارهما في غيره حرفا بحرف، نعم في بعض
أنحاء النبع وهو ما كان رشحا تأمل، ولا يختص الاشكال معه بالتحتية، بل ينبغي
92

التأمل في المتساويين أيضا لو لم يتأمل في العالي، فتأمل.
قوله (قدس سره): (ولو فرض انقطاعه كفى تموج مقدار كر ممتزج - من
المطهر والمطهر - في تطهير الباقي - لو كان - حتى يستوعبه) تلك المسألة
قد عرفتها وعرف وجهها مما سبق، وملخصه عدم اعتبار اتمام الكر بعد حصول
الطهر به.
فحينئذ يلاحظ فإن لم يبق من المطهر شيء غير ممتزج بالكر فقد طهر كله،
وإن بقي منه شيء كذلك، فإن لم يبلغ المطهر بالمزج بضم ما مزج إليه من الكر كرا
ينفعل بعد انقطاع الكر عنه، لأنه من القليل الملاقي للنجس، وإن بلغ المجموع
منهما كرا فقد حصل هنا ماء معتصم يكتفى به في تطهير الباقي الغير الممتزج
بمزجه معه، كما كان يكتفى في تطهير الكر المتغير بعضه بمزجه مع بعضه الغير
المتغير البالغ كرا المزيل لتغير المتغير.
قوله (قدس سره): (وبوقوع ماء المطر عليه ولو من ثقب ونحوه) بلا خلاف فيه
بعد مزجه به حال نزوله، لعموم قوله (عليه السلام): " كل شيء يراه المطر فقد طهر " في
مرسلة الكاهلي (1) بعد ما نزلناه عليه من عدم صدق الرؤية على التمام إلا
بالتمازج حال النزول، وخصوص صحيح ابن الحكم (2) وعلي بن جعفر (3)
الواردتين في طهر السطح الذي يبال فيه بالمطر للقطع بعدم خصوصية للسطح،
وإنما هو لإصابة المطهر المعتصم إياه، كما يومئ اليه ما تضمن تشبيهه بالجاري،
وخصوص صحيحة علي بن جعفر النافية للبأس عن ماء مطر صب فيه خمر،
كصحيحة ابن سالم (4) النافية للبأس عن وكوف سطح يبال فيه بوقوع المطر عليه،
فإنه لولا اعتصامه وطهر السطح به لكان ما وكف منه نجسا، لكونه ماء قليلا لاقى

(1) تقدمت في ص 87.
(2) الوسائل 1: 109، الباب 6 من أبواب الماء المطلق، ح 4.
(3) الوسائل 1: 108، الباب 6 من أبواب الماء المطلق، ح 2.
(4) الوسائل 1: 108، الباب 6 من أبواب الماء المطلق، ح 1.
93

نجسا، فبقاؤه على الاعتصام بعد مزجه بالماء النجس حال تقاطره عليه - كما هو
المجمع عليه في غير القطرة الواحدة منه - دليل على طهر الممتزج به، لقاعدة
مطهرية ما لاقاه المطهر بالشرائط المعتبرة في التطهير الموجودة في المقام التي
منها: احراز قابلية المحل للتطهير، ومنها: وقوع المزج حال التقاطر، لعدم معقولية
الحكم بتطهير ما لم يصل المطهر إليه ولم يصبه، ولأصالة عدم حصول الطهر قبل
المزج، واستصحاب النجاسة بسبب الشك في حصول الطهر بدونه.
وما ذكرناه مأخوذ من أن شرط التطهير وصول المطهر إلى جميع أجزاء
المطهر، وأنه لا يزيد على الجاري المعتبر ذلك في الطهر به في الأقوى.
ومنه يعلم عدم كفاية القطرة، بل القطرات ما لم يحصل مزج الجميع به حال
التقاطر أو مزج ما يكفي في تطهير الباقي بعد قطع المطر، وهو مقدار الكر منه، كما
لا ينافي ما ذكرناه مطهرية كل قطرة قطرة من المطر مالاقته من النجس الغيث
المتصل به الملاقي معه، فإن مطهرية القطرة غير مستلزمة لحصول الطهارة لجميع
النجس الواقع فيه القطرة بعد ما عرفته من منع سراية الطهارة، وعدم استلزام طهارة
جزء لصدق ملاقاته مع المطهر طهارة جزء آخر فاقد لذلك الصدق، سيما مع
تباعدهما عن الآخر بعد ما عرفته من توقف الطهر على الملاقاة المنتفية في المقام.
وبهذا البيان تبين أن إطلاق المتن في غير محله، ولذا علق عليه شيخنا - طاب
ثراه - قوله: " مع امتزاجه به قبل انقطاع المطر ".
قوله (قدس سره): (وباتصال الجاري به على وجه يتحد معه) بالامتزاج كما
علقه عليه شيخنا، للأصل والقاعدة التي بيناها.
ويؤيد اعتباره هنا ما نسبه الأستاذ - طاب ثراه - إلى بعض المكتفين بمجرد
الاتصال في التطهير بالكر من اعتبارهم الامتزاج هنا وفي ماء المطر كظاهر
المنتهى والنهاية والتحرير والموجز وشرحه استفادة منهم اياه من تعبيرهم هنا
بالتدافع والتكاثر، وإن كان بعضهم ربما عكس الأمر، فاعتبره في الكر دونها،
لإطلاق صحيح ابن بزيع ومرسلة الكاهلي، وقوله في ماء الحمام: " انه بمنزلة النهر
94

يطهر بعضه بعضا " التي عرفت الكلام فيها وضعف دلالتها على مطلوبهم، فالأقوى
فيه أيضا اعتبار الممازجة، للأصل والقاعدة المذكورة وعدم ما ينافيها من الأدلة،
بل منها استفيدت القاعدة لما ذكرناه من حوالة الكيفية من باب السكوت عنها
وعدم ذكر لها فيها بالمرة، مع كمال الاحتياج إلى بيانها إلى ما هو المركوز في
الأذهان. ولا ريب في عدم مساعدته على الحكم بطهر طرفي شيء متباعدين
بمجرد ملاقاة المطهر لأحدهما.
ومن هذا البيان تعرف حال الإطلاق في الخبرين وأنه وارد مورد بيان
حكم آخر.
قوله (قدس سره): (وكذا مع التغيير إذا فرض زواله بذلك على وجه لا يتغير
المطهر ويبقى معتصما بعضه ببعض) لعدم الفرق في التطهير بين المتغير وغيره
إلا في الاحتياج هنا إلى زوال تغييره بالمطهر أو قبله، ولا يكفي زواله بعد ملاقاته
إلا إذا فرض بقاء المعتصم بحاله وامتزج به النجس بعد زوال تغييره، كما كان
يكفي لو بلغ الباقي الغير المتغير مما تغير بعضه كرا وامتزج به المتغير بعد زوال
تغييره، أو زوال تغييره بنفس الامتزاج.
والوجه في توقف التطهير على ما ذكرناه أن الكر الملقى إذا تغير بالمتغير
تنجس، فلا يعقل الحكم بالطهارة - حينئذ - إلا على كفاية زوال التغيير بنفسه
وستعرفه، وإن لم يتغير وبقي بحاله من الاعتصام فالحكم بالطهر بزوال التغيير
بعد ذلك مبني على القول بكفاية الاتصال، وقد عرفت اعتبار الامتزاج.
وتوهم حصوله مطلقا لا يجتمع مع بقاء كل منهما بحاله، إذ بقاء كل على
ما كان ملازم لعدم المزج، وهو غير كاف حتى عند القائلين بكفاية الوصل في غير
المقام ومع المزج التام وبقاء التغيير بتغير الكر فينفعل.
قوله (قدس سره): (ولا يطهر بزوال التغيير لنفسه لعدم المادة) للاستصحاب حتى
من المنكرين له لتوهمهم أن ثبوت الحكم هنا لعموم الدليل، ولم ينقل الخلاف فيه
إلا عن يحيى بن سعيد.
95

وضعفه واضح، لابتنائه إما على طهارة النجس المتمم كرا، وستعرف حاله مع
عدم استلزامه الطهارة فيما نحن فيه، وإما على اطلاقات طهارة الماء بعد منع
الاستصحاب، وهو كسابقه، لأن موضوع المستصحب محرز بالعرف، فلا يصغى
إلى أنه مرتفع أو محتمل الارتفاع، لاحتمال كونه المتغير بالفعل أو الأعم منه ومما
حدث فيه التغيير.
بل ذو المادة أيضا كذلك، لما بيناه من توقف طهره بالمزج وسكوت الأستاذ
- طاب ثراه - هنا، وعدم تعليقه عليه شيئا يمكن أن يكون حوالة على ما سبق،
أو لتلازم زوال التغيير في الجاري غالبا، بل دائما، لحصول المزج - كما هو كذلك -
في البئر من تحرك مائه بالنزح والنبع وفي النابع الواقف قد صرح - طاب ثراه -
بلزوم المزج في صورة عدم التغيير، فمع التغيير لزومه أوضح فلا يحتاج إلى البيان.
قوله (قدس سره): (ولا بالاتمام كرا لو كان قليلا) عدم كفاية الاتمام في الطهر
هو المنسوب إلى المتأخرين أو إلى مشهورهم، بل عن الأستاذ نسبته إلى الشهرة
المطلقة، ويكفي فيه الاستصحاب وعمومات انفعال القليل بالنسبة إلى جزئه
الطاهر، لأنه معلول الملاقاة بلا واسطة وعدمه مترتب على الكرية المانعة عن
الانفعال، وليس الكرية معلولة لنفس الملاقاة كما تخيله بعض فيأتي سؤال أنه ما
وجه تقديم أحد المعلولين على الآخر بل الكرية التي هي مانعة عنه - حاصلة بعد
الاجتماع المؤخر عن الملاقاة، وبعد تحقق الممنوع وهو الانفعال لسبق علة
وجوده - وهي الملاقاة - على تحقق المانع لا مسرح للعمل بالمانع، فلا بد من رفع
اليد عن مانعيته في المقام.
ومنه يتبين عدم مجرى لاستصحاب الطهارة في الجزء الطاهر حتى يأتي من
قبل تعارضه مع استصحاب النجاسة تعين القول بالطهارة للاعتضاد بقاعدتها،
أو لكونها مرجعا عند تساقطهما، مضافا إلى ما عرفته من أن المرجع والمعتضد
- حينئذ - هو عمومات الانفعال، لأنها معلومة الارتفاع، ونسب إلى السيد ويحيى
ابن سعيد وسلار وابن البراج وابن إدريس القول بالطهر، بل عن المحقق الثاني
96

نسبته إلى أكثر المحققين كما عن ابن إدريس نسبته إليهم بلا لفظ " أكثر "، وعن
مبسوط الشيخ التردد فيه، وإن نسب إليه في الخلاف عدم الكفاية، كأكثر كتب
العلامة والذكرى.
واستند للقول بالكفاية إلى وجوه ضعيفة أحسنها المرسل الذي ادعى ابن
إدريس كونه مجمعا عليه بين المؤالف والمخالف: " الماء إذا بلغ قدر كر لم يحمل
خبثا (1) والإجماع الذي ادعاه السيد على طهارة كر رأى فيه نجاسة لم يعلم بسبقها
على الكرية أو لحوقها لها، فلولا طهارة النجس باتمامه كرا لم يكن لذلك وجه.
أما الرواية ففيها:
أولا: عدم بلوغها حد الحجية لما عن المحقق (قدس سره) من أنه لم يذكرها من الخاصة
إلا جماعة مرسلين لها، ولم يعمل بها من المخالفين إلا ابن حي، وعن التذكرة أن
هذا الخبر لم يثبت عندنا، وعن الذكرى أنه عامي، ولم يعمل به غير ابن حي.
ومن هذه الكلمات يعلم عدم جابرية الإجماع الذي ادعاه ابن إدريس
لسندها، إذ لم يعرف القول بها ممن قبل السيد ولاممن بعده إلا للاشخاص المشار
إليهم مع احتمال أن يكون دعوى ابن إدريس الإجماع على العمل بها، بحسبان أن
العمل بالمشهورة: " الماء إذا كان قدر كر لم ينجسه شيء " (2) المجمع عليه بين
الخاصة عمل بها كما احتمله في الجواهر وإن كان نفس عمل هؤلاء المنكرين
للعمل بالخبر الواحد بها ربما يجبر به سندها، لكنه لم تبلغ به مرتبة يعتمد عليها في
رفع اليد عن عمومات الانفعال.
وثانيا: - وهو العمدة - عدم تمامية دلالتها فإن ظاهر " لم يحمل خبثا " أنه
لم يقبله بعد تحققه في الخارج، ولا دلالة له أبدا بزوال ما تحمله سابقا كما يعرف
ذلك بالتأمل في نظائره من العرفيات، كقولك: العالم الفلاني إذا بلغ بتلك المرتبة
من الوقع في القلوب فلا يضره ما يقال فيه، هذا.

(1) عوالي اللآلي: ج 1، ص 76، ح 156.
(2) الوسائل 1: 117، الباب 9 من أبواب الماء المطلق، ح 1.
97

مضافا إلى ما ذكره الأستاذ من ظهور قوله: " لم يحمل " بمقتضى كونه جملة
فعلية دالة على التجدد والحدوث في أنه لم يحدث فيه حمل الخبث لا أنه ينتفي
عنه صفة الحاملية الموجودة فيه سابقا، واستشهد له بتعبير الخلاف في موضع من
التهذيب والاستبصار عن قوله (عليه السلام): " إذا كان أكثر من راوية لم ينجسه شيء "
بقوله: " لم يحمل خبثا " كتعبيره بذلك أيضا في مقام الاستدلال على عدم انفعال
الماء الجاري بما دل على جواز البول فيه.
على أنه - لو سلم لها ظهور فيما يدعونه - تقع المعارضة بينها وبين ما دل على
تنجس الماء القليل بالملاقاة الشامل لمتمم هذا الكر، وتخصيص عمومات
الانفعال ليس بأولى من اطراح هذه الرواية عن العموم إما بحمل " لم يحمل " فيها
على الحدوث وكما عرفت، أو بتقييد لفظ الماء فيها بالطاهر، بل يتعين التصرف
فيها بملاحظة ما سبق اليه الإشارة من أن المستفاد من أخبار استثناء الكر أن
الملاقاة مقتضية للتنجس، والكرية مانعة عنه، أو عدمه شرط في المقتضي.
وأياما كان يجب العمل بمقتضى عمومات الانفعال، لسبق الملاقاة في المقام
على حصول الكرية، فالشرط محرز والمانع مفقود، مع أنها بتلك الملاحظة تكون
أظهر من الرواية فتقدم عليها تقديما للأظهر على الظاهر، وتسليمهم الانفعال في
المقام، ثم رفعه بنفس البلوغ كرا ربما يقال: إنه يعم كون ذلك من تعميمهم المتمم
للمتنجس، بل نجسا أيضا كما استظهره منهم في الجواهر، من جهة عدم ذكر أحد
منهم خصوص الطاهر.
وعليه يتوجه عليهم - حينئذ - أنه قول بحصول الطهر للماء النجس بأمر
اعتباري انتزاعي، وستعرف ما فيه، ويتوجه عليهم أيضا أنه يعارضه ما دل على
نجاسة ما يجتمع في الحمام من غسالة اليهود والنصارى وأولاد الزنا ومن هو شر
منهم، المعتضد بسيرة المسلمين على الاجتناب عما اجتمع من المياه النجسة بالغا
ما بلغت، فكيف لو عمم المتمم للأعيان النجسة المائعة؟!
98

ويعارضه عموم قوله (عليه السلام): " الماء يطهر ولا يطهر " (1) المخرج منه تطهيره بماء
معتصم يتصل به أو يمتزج معه، وقوله (عليه السلام): " سبحان الله كيف يطهر من غير
ماء؟ " (2) بل يمكن دعوى الإجماع على أن المطهر للنجس لا بد وأن يكون شيئا
آخر خارجا منه حقيقة، ولا يكون هو مطهر نفسه بصرف أمر اعتباري انتزاعي
حاصل من اجتماع مياه قليلة، لأنه في الحقيقة قول بطهر الماء الواقف بنفسه
لا بمطهر من خارج، ولا يقول به أحد.
ولذا لم يكتفوا في طهر الراكد المتغير بزوال تغيره واعتبروا القاء الكر فيه،
حتى أن بعض هؤلاء القائلين بتلك المسألة لم ير الاكتفاء بمطلق التتميم كما حكي
عن ابن إدريس، حيث إنه استظهر من الرواية كون المتمم كرا من ماء آخر غير
متغير، فالرواية - بعد تسليم سندها ودلالتها - أيضا غير قابلة لأن يعتمد عليها في
مثل تلك الدعوى، لأنها حينئذ من الآحاد الغير المعول عليه عند الفرقة المحقة
لمطروحيتها عندهم بهذا المعنى.
وأما الإجماع الذي ادعاه السيد ففيه - ملخصا - أن منشأ الحكم بالطهارة
في الفرض عدم إحراز مقتضى الانفعال، وهو ملاقاة القليل للنجس، لأنها كالكرية
أمر حادث فلنا في المقام حادثان لم يعلم بسبق أحدهما على الآخر، لجهالة
تاريخهما، فإما أن نقول بجريان أصالة عدم التأخر في كل منهما فيثبت به التقارن
كما هو مذاق بعض، فالحكم بالطهارة يأتي من تلك الجهة. وإما أن نقول بأن
الواجب - حينئذ - الرجوع إلى ما ورائهما من الاصول الجارية في المقام كما
هو الحق، فلا بد أن يعمل بأصالة الطهارة وقاعدتها وأصالة طهارة الماء كما ذكر
الأستاذ أن المقام حقيق به، أو يرجح استصحاب الطهارة وأصالة تأخر النجاسة
عن الكرية بقاعدة الطهارة كما هو مذهب بعضهم كسيد الرياض وأشباهه.
والكل كما ترى، إذ تقدم زمان ملاقاة غير الجزء الأخير المتحقق معه الكرية

(1) الوسائل 1: 99، الباب 1 من أبواب الماء المطلق، ح 3 و 6 و 7.
(2) الوسائل 2: 1043 الباب 29 من أبواب النجاسات، ح 7، مع اختلاف يسير.
99

عن الكرية واضح، وسببية الملاقاة السابقة للانفعال لخلوها عن المانع - وهو
الكرية - مسلمة عند غير العماني وغير السيد وأتباعه ممن اعتبروا في انفعال
القليل عدم كونه واردا. وقد عرفت في محله حقية التعميم، وأما الجزء الأخير
فالملاقاة علة تامة لانفعاله، والكرية أيضا حاصلة معها لا أنها معلولة لها، فالمقام
- حينئذ - بعد تسليم كونهما معلولين للملاقاة من موارد الحكم بحصول الانفعال،
لأن معلوليته مسلمة محرزة، والمعلول الآخر - وهو الكرية - مانعة عن ترتب ذاك
المعلول المترتب على علته التامة، وهو غير صالح للمانعية في مثل الفرض، إذ
المستفاد من الأدلة المفيدة لمانعيته عن اقتضاء الملاقاة للانفعال هو ما كان سابقا
في وجوده وتحققه على الملاقاة لا ما يحصل بها، هذا.
مع أنه على فرض تسليم مانعية ما كان مقارنا للملاقاة، بل حاصلة منها هو
عدم الحكم بانفعال الجزء الأخير من المتمم الطاهر، وأما المنفعلات السابقة فلا
مطهر لها عدا ما ادعي من الإجماع على اتحاد أجزاء الماء الواحد طهارة
ونجاسة، وهو مع أنه مخصوص بالمختلط التام لا يقتضي الحكم بالطهارة، بل
العكس أولى كما لا يخفى.
قوله (قدس سره) في
(المبحث الثاني)
من مباحث الفصل الأول من فصلي المقدمة:
(الماء المستعمل في رفع الحدث الأصغر طاهر ومطهر من الحدث
والخبث) للإجماع، بل بالضرورة من المذهب في خصوص طهارته كما ادعاه
شيخنا الأستاذ ونسب نجاسته بنجاسة مغلظة إلى أبي حنيفة، وبنجاسة مخففة إلى
أبي يوسف، وفي الجواهر أن الأولى بهما الأول، وحكى عن المقنعة أن الأفضل
تحري المياه الطاهرة التي لم تستعمل في أداء فريضة ولا سنة. انتهى.
وبحكم المستعمل في الوضوء المستعمل في الأغسال المسنونة، كما أنه
100

لا فرق في الوضوء بين المسبب عن حدث أصغر أو أكبر كما صرح بكلا التعميمين
شيخنا الأستاذ وأرسله إرسال المسلمات.
قوله (قدس سره): (وفي رفع الأكبر طاهر قطعا) للإجماع والأخبار المستفيضة،
والمستعمل في الأكبر وإن كان يشمل المستعمل في الوضوء الواجب مع الأغسال
المتمم لرافعيتها، إلا أنه ليس بمراد قطعا كما يظهر من ملاحظة كلماتهم وأدلتهم
الحاصرة له في ماء الغسل.
قوله (قدس سره): (ومطهر منهما على الأصح) خلافا لكثير من الأصحاب كما عن
صريح المقنعة والمبسوط والوسيلة، والقول بالمنع هو المحكي أيضا عن
الصدوقين والقاضي، ولكن الأكثر على الجواز، بل عن بعضهم دعوى الإجماع
وعدم الخلاف في خصوص الخبث.
وعندي عدم نهوض أخبار المنع لإثباته، لأن ظاهرها سؤالا وجوابا وتقريرا
كون المنع من جهة نجاسة المستعمل في الغسل لا لنفس استعماله فيه كما يومئ
إليه جملة من أسئلة أخبار الباب حيث إن ظاهرها مسلمية المنع من تلك الجهة
عند الرواة وإنما كانوا يتفحصون عن علاجه.
كما يشهد له ضمه إلى النجاسات في أكثر تلك الأخبار والسؤال عن مياه
لا يصدق عليها المستعمل عرفا قطعا، والسؤال عن القطرات الواقعة في الماء الذي
يغتسل منه حين الغسل، مع أنه لا يصير بهذا مستعملا كما اعترف به أصحاب
هذا القول.
والسؤال عن حد الماء الذي لا يجوز التوضؤ به بعد غسل الجنب فيه أو ورود
النجاسات المذكورة مع الغسل عليه، وسؤال الامام (عليه السلام) عن قدر الماء الذي ترده
السباع والكلاب ويغتسل فيه الجنب، ونفيه (عليه السلام) البأس عما بلغ منه كرا (1)،
وبيانه (عليه السلام) أن غسل رجله بعد الغسل كان من أجل ما لزق به لا لنجاسة الماء الذي

(1) الوسائل 1: 117، الباب 9 من أبواب الماء المطلق، ح 1.
101

اغتسل فيه (1)، الظاهر في أن مورد التوهم من المنع لم يكن إلا النجاسة وأمثالها
من القرائن التي تظهر للمتتبع، وتفيد القطع بما ادعيناه، أو يشرف المستأنس بكيفية
المحاورة على القطع بأنه لم يكن المنع منه تعبديا كما هو ظاهر مشايخنا - رضوان
الله عليهم - فإنه يستفاد منهم أن منعهم عنه للتعبد، ونحن قد أوضحنا لك خلافه،
من دعواهم القطع بعدم النجاسة، ومن نزاعهم في أن الممنوع هل هو مخصوص
بخصوص المستعمل في الجنابة أو يعمه وسائر الأغسال الواجبة؟
بل ضعف التعميم أكثر محققيهم غاية التضعيف، بل صريحهم فإنه يستفاد منهم
أن منعهم عنه للتعبد، ونحن قد أوضحنا لك خلافه، وأنه كان من حيث النجاسة كما
ظهر من تلك القرائن غاية الظهور.
وعليه يبقى القول بالمنع التعبدي خاليا عن الدليل، لعدم وفاء الأخبار
بإفادته، والنجاسة المستفادة منها مجمع عليه خلافها، وإن كان مقتضى ما رأيته في
سالف الزمان في الروضة من حكمه بتلوث بدن من اغتسل في البئر بعد رفع حدثه
- على مذهب من يقول فيها بالانفعال - وجود القول بالنجاسة فيه من الأصحاب،
ولكن نرى مشايخنا كالأستاذ - طاب ثراه - وشيخ الجواهر وصاحب المستند
قاطعين بعدم قائل بنجاسته من الأصحاب، وإنما نسب بعضهم القول بها إلى العامة،
بل إلى خصوص من قال منهم بنجاسة ماء الوضوء.
فحينئذ لا بد من تأويلها وحملها على ما لا ينافي المذاهب، ولا علاج إلا
بحملها على تنجس الماء المستعمل بما في بدن المغتسل من النجاسة بإرادة الماء
المستعمل في المقدمات القريبة للغسل التي منها إزالة النجاسة التي تقارنه، كما
كان متداولا في سالف الزمان، وينادي به أكثر الأخبار.
أو بحملها على التقية، لكون نجاسته مذهب أعظم أئمتهم لو لم يكن مسلما
عند كلهم، كما نرى استقرار ديدنهم على عدم الاغتسال في المياه الراكدة ولو كان
بحرا لحسبانهم انفعاله به.

(1) الوسائل 1: 111، الباب 7 من أبواب الماء المطلق، ح 2.
102

أو الحمل على التنزه لو لم تقبل شيئا من الحملين.
أو الطرح لو فرض وجود ما لا يقبل شيئا من المحامل الثلاثة، لأ ني ما فهمت
بمقتضى وسعي من سيري في الأخبار المنقولة في المقام ما يسع للفقيه التعويل
عليه في استفادة المنع من هذا الماء المستعمل تعبدا، فالجواز هو الأقوى.
قوله (قدس سره): (والمستعمل في رفع الخبث على وجه يفيد تطهيره) احترز
به عن المستعمل لغرض آخر غير تطهيره كصفاء الجسم، أو عذوبة الطعم، أو طيب
الشم، وأمثال ذلك مما ينافيها وجود النجاسة لتلازمها غالبا للصفة المخالفة
للمذكورات المنافية للانتفاع بما حلت فيه من جهة منافرة الطبع أو غيرها.
وبالجملة المراد إخراج صورة اريد به إزالة عين النجاسة لاطهارة المحل،
فاستعمل الماء فيه غير ملاحظ فيه ما يعتبر في التطهير به كايراد الماء على
المتنجس مثلا وكاستعمال الماء في الولوغ مع ترك التعفير أو اريد به التطهير،
ولكنه لم يفده لخروجه عن قابلية المطهرية بالتغيير مثلا (من حيث استعماله)
وذلك (1) قيد للحكم وهو عدم رفعه الحدث أي غير رافع له من حيث كونه مستعملا
في رفع الخبث، وإن قلنا بطهارته لما يأتي من الأدلة.
ويحتمل بعيدا أن يكون قيدا للموضوع فيكون قد احترز به عن المستعمل فيه
المفيد تطهيره، لا من حيث استعماله فيه، بل من حيث استعماله لأمر آخر غير
تطهير الخبث، كما لو استعمل الماء لرفع حدثه وازيل به الخبث الكائن في موضع
الغسل الحدثي وقلنا بكفايته كما يراه جماعة، وهو صريح المنقول عن الخلاف
فيمن ترك إزالة النجاسة عن بدنه واغتسل حيث حكم بحصول الطهر منها لو زالت
بالغسل، ووجوب إزالتها بعده لو لم تزل به مصححا للغسل في الصورتين، بحسبان
أن هذا الماء لا يصدق عليه المستعمل في الخبث، لكونه محسوبا من المستعمل
في الحدث.
وفيه تأمل، لعدم تمانعه عن صدق غيره، بل الفرض مجمع لهما معا كما يشهد

(1) كذا، ولعله في الأصل " في ذلك " كما في نجاة العباد، فليجعل في المتن.
103

له ملاحظة سائر ما نقل عن الخلاف في المقام أو كالمستعمل للتبريد أو النظافة،
وترتب عليه طهر المحل مع غفلته عن نجاسته، إذ لا يعتبر في تطهير الخبث القصد.
وفيه أنه لا يرى فرق بينه وبين ما قصد به التطهير، ولا أراهم يفرقون بينهما.
ويحتمل أن يكون مقصوده من مجموع العبارتين الاحتراز عما يزال به العين كما
صرح به في الجواهر عند دفعه ما أورده على نفسه من قوله:
وما يقال: إن النجاسة إن كانت عينية ثم غسلتها مرة واحدة فإن الظاهر
الطهارة، مع أن مقتضى التقييد السابق العدم - وأراد بالتقييد السابق قوله قبيل ذلك:
" نعم يشترط أن لا يكون الغسلة التي فيها زوال عين النجاسة بناء على عدم
مدخليتها بالتطهير حتى يلتزم بطهارتها... الخ - " بقوله:
" يدفعه إمكان دعوى عدم حصول الطهارة حتى تزال العين، ويتعقبه غسل
ولو بالاستمرار، فحينئذ المطهر الغسل المتعقب لزوال العين، وذاك الذي نلتزم
بطهارته " انتهى. ثم أيده بما نقله عن المنتهى.
وغير خفي التدافع حينئذ بين ما التزمه بمقتضى هذه المقالة وبين ما التزمه في
الجواهر في المسألة من طهارة ما استصحب أجزاء النجس حال كونه في المحل
أو في الهواء ونحوه بعد انفصاله منه ما لم يستقر في محل، وإن لم يكن هذا بأعجب
من قوله بطهارته في الحالتين وبنجاسته بعد حصول الاستقرار له مستصحب
الأجزاء.
وكذا بينه وبين ما سيأتي منه في الرسالة من اكتفائه بالغسلتين في حصول
الطهر فيما يعتبر فيه التعدد، وإن حصلت بهما الإزالة.
وكيف كان، فلا أعرف وجها لما ذكره هنا من القيود الموجب للتطويل والغلق،
والأحسن الاقتصار في تعريف موضوع البحث في المقام بأنه الماء القليل الذي
ازيل به الخبث وترتب على إصابته الخبث الحكم بطهر المحل ولو في الجملة،
بمعنى كونه جزءا من المطهر، فإنه هو الذي يحكم عليه بجميع أفراده أنه
(غير مطهر من الحدث قطعا) كما صرح به أكثر الأصحاب على ما حكي.
104

وعن المعتبر والمنتهى الإجماع عليه، وعن المعالم الإجماع على عدم ارتفاع
الحدث بماء الاستنجاء، فغيره أولى، وفي الدرة:
وكل ما استعمل في رفع الخبث * فباتفاق ليس يرفع الحدث
وربما يدل عليه رواية عبد الله بن سنان: " الماء الذي يغسل به الثوب أو
يغتسل به من الجنابة لا يتوضأ منه، وأشباهه " (1) وذكر الأستاذ - طاب ثراه - قرائن
للاعتماد على الرواية بحيث ألحقها بالصحيح، وأنه لا يضرها كون أحمد بن هلال
اللا مذهب - باعتبار انتسابه إلى مذهبين متباعدين من النصب والغلو - في سندها،
كما لا يضرها اشتمالها على المنع من غسالة غسل الجنب التي لا نقول بممنوعيتها،
لاحتمال كون المنع من جهة تلوث بدنه كما أشرنا اليه في المسألة السابقة، أو
أنه (عليه السلام) ضمها إلى الممنوع الحقيقي، لحصول كمال الاخفاء المطلق في الاتقاء، كما
هو أحد محتملاتها، هذا.
ولكن الرواية لا دلالة فيها على المطلق، لقوة احتمال أن يكون المنع عنه
لنجاسته، كما يؤيده أنه لو كان المانع مجرد كونه مستعملا في رفع الخبث لناسب
أن يذكر (عليه السلام) بدله ماء الاستنجاء الذي لاخفاء في طهارته في الجملة.
فإذن انحصر وجه المنع في الإجماع، وتحققه غير معلوم، لذهاب شيخ
الكاشف إلى جواز رفع الحدث بما ازيل به الخبث لو كان طاهرا كماء الاستنجاء
قائلا: " إن الاجماع على العدم في محل المنع ". واستظهر الجواز أيضا عن
الأردبيلي، وعن نهاية الاحكام: " أنه لا يرفع عند القائلين بنجاسته " وظاهره
رافعيته عند غيرهم.
وظاهر الرفع هو رفع الحدث، وعن الذكرى عن ابن حمزة والبصروي أنهما
سويا بين رافع الأكبر ومزيل الخبث ولم يعهد منهما منع رافعية رافع الأكبر كما عن
الدروس حكاية القول بأن المستعمل في الإزالة كرافع الأكبر، وإن احتمل كون
التشبيه من حيث الممنوعية ولو مع الطهارة.

(1) الوسائل 1: 155، الباب 9 من أبواب الماء المضاف، ح 13.
105

وبالجملة فتحصيل الإجماع على المنع مع طهارة المستعمل مشكل، لقوة
احتمال منع الأكثر عنه لقولهم بالنجاسة في غير ماء الاستنجاء، وإن كان التخطي
عن مقالة القوم أيضا أشكل، فلا ينبغي ترك الاحتياط بما يقتضيه كل مقام، فلا تغفل.
قوله (قدس سره): (أما تطهيره من الخبث ففيه قولان مبنيان على طهارته
ونجاسته، وأولهما أقواهما) للأصل براءة وطهارة، وللقاعدة المسلمة أن
النجس لا يطهر، فلو قيل بنجاسة المستعمل في رفع الخبث لزم منه عدم طهر
المحل، وهو باطل، ولأن الباقي منه في المحل طاهر قطعا فليكن المنفصل مثله،
لبطلان التفكيك في أبعاض الواحد القليل طهارة ونجاسة، وعدم ما يقتضي نجاسة
المنفصل بعد انفصاله، وللأخبار الدالة على طهارة ماء الاستنجاء (1)، مع أنه
لا خصوصية له تقتضيها.
مضافا إلى اشتمال بعضها على ضم الجنابة أيضا الظاهر في نفي البأس عن
المستعمل لإزالة المني أيضا، واشتمال جملة منها على بيان علة عدم الانفعال
- وهو أكثرية الماء عن القذر - السارية في غير الاستنجاء أيضا، ولرواية الذنوب
الملقى لتطهير أرض المسجد (2)، ولإطلاق رواية المركن (3)، ولرواية كفاية الصب
في بول الصبي (4).
مؤيدا جميع ذلك بعدم ذكر نجاسة الغسالة في الأخبار مع كمال الاحتياج إلى
بيانه، وبأن قاعدة أن النجس منجس استنباطية ومنخرمة في ماء الاستنجاء
والقليل من الجاري والمطر وأمثالهما، وقاعدة أن النجس لا يطهر غير منخرمة،
وهي مسلمة فهي أولى بالأخذ، سيما وأن الاولى منخرمة في خصوص المورد،
لعدم سراية نجاسة الغسالة إلى المحل المغسول قطعا، وباستلزام النجاسة العسر

(1) الوسائل 1: 160، الباب 13 من أبواب الماء المضاف.
(2) سنن البيهقي: كتاب الصلاة ج 2 ص 428.
(3) الوسائل 2: 1002، الباب 2 من أبواب النجاسات، ح 1.
(4) الوسائل 2: 1002، الباب 3 من أبواب النجاسات ح 1.
106

المنفي، واستلزامها أيضا إزالة نجاسة المحل بلا رافع لها، التي لا يسع في العقول
تعقلها. وغير ذلك مما أوردوها على القائلين بنجاستها.
ومع ذلك الأقوى القول بالنجاسة مطلقا وفاقا للأساطين من الذين حكى
عنهم الأستاذ - طاب ثراه - القول بها كالشيخ بمقتضى صريح عباراته المحكية
عنه، وإن ذكر الأستاذ أن له عبارات أيضا ظاهرة في القول بالطهارة، والفاضلين،
وأكثر من تأخر عنهما، وحكي عن الاصباح وظاهر المقنع أيضا، وفي الذكرى عن
ابن بابويه وكثير من الأصحاب عدم جواز استعمال الغسالة وظاهرهم الاطلاق،
وهو يقتضي كون سبب المنع هو النجاسة، وعن التحرير والمعتبر في باب غسل
المس الإجماع على نجاسة المستعمل في الغسل إذا كان على البدن نجاسة، وهو
يقتضي نجاسة الماء مطلقا ازيلت به النجاسة أم بقيت.
والصورة الاولى عين المسألة، لصدق الغسالة عليه بلا خفاء، ولعمومات
انفعال القليل الشامل لمثل المقام جزما.
وما أورد على عدم العموم في مفهوم قوله: " الماء إذا بلغ قدر كر لا ينجسه
شيء " مع ما فيه غير ضائر لكفاية الجزئية في خصوص المقام، لأن العموم الذي
ينفعنا هنا هو عموم الأحوال، وهو مسلم لا ينكره إلا من لا تأمل له ولا يضرنا
إنكار كلية المفهوم باعتبار لفظة الماء، والشيء الذي مرجعه إلى انكار العموم
الافرادي للماء والنجاسة، إذ الجزئية وهو انفعال ماء خاص بنجاسة مخصوصة
كافية، لأن لها - كالكلية - عموما أحواليا مستفادا من الخطاب بسبب عدم التعرض
فيه لحالة مخصوصة.
ولذا عدوا ما تقدم من السيد من التفصيل بين الوارد والمورود من مستثنيات
القاعدة، حيث إنها لكونها مأخوذة من العموم اللفظي قابلة للتخصيص كما عن
الذكرى أنه جعل ماء الغسالة أيضا - على القول بطهارته - من المستثنيات.
ويشهد على العموم الذي ادعيناه مبادرة المتشرعة إلى الطعن على من شك
في انفعال ماء قليل ملاق لنجس، أو تردد في أنه هل يعم ملاقاته له من فوق أو من
107

تحت أو من الجانبين؟ وكذا لو شك في عمومه لجميع الأغراض والدواعي التي
منها كون الملاقاة لغرض الإزالة أو لغيرها من الأغراض الاخر.
وبالجملة فهذا العموم مما لا مجال لانكاره، وهو النافع في المقام ومتمم
لمسألتنا هذه، ولرواية عيص بن القاسم التي اعتمد عليها الأستاذ - طاب ثراه -،
لما ذكره أن طريق الشيخ إلى كتاب العيص حسن، والظاهر أن الشيخ رواها من
كتابه، فلا ينبغي رميها بالإرسال، كما لا يضرها الإضمار مع الاطمئنان بأن
المسؤول عنه هو الإمام (عليه السلام).
ولذا عن الذكرى أنه حملها على صورة تغيير الماء ولم يردها بضعف السند،
وهي هذه: " قال: سألته عن رجل أصابه قطرة من طشت فيه وضوء، فقال (عليه السلام): إن
كان من بول أو قذر فيغسل ثوبه، وإن كان من وضوء للصلاة فلا بأس " (1).
مؤيدة تلك الجملة برواية عبد الله بن سنان المتقدمة الظاهرة في أن سبب المنع
عن التوضي بغسالة الثوب إنما هو نجاستها سيما بعد ملاحظة القاعدة المستفاد من
العمومات الدالة على جواز رفع الحدث بالماء الطاهر الدالة بعكس النقيض على
نجاسة الغسالة، وهو أن كل ماء لا يرفع به الحدث ليس بطاهر، وخروج ما خرج
بالدليل كماء الاستنجاء أو المستعمل في الحدث الأكبر - على القول به - غير قادح
في التعويل عليها لكونها مستفادة من العمومات اللفظية القابلة للتخصيص.
وبموثقة عمار الآمرة بإفراغ الإناء عن الماء المغتسل به (2)، بدعوى
الاستظهار من صبه، سيما في المرتبة الثالثة أنه لكونه نجسا فيلزم الاحتراز منه
فأمر (عليه السلام) بصبه، مضافا إلى ظهور الأمر في مثل المقام في النجاسة كما في الأمر
بالإهراق في المشتبه بالنجس.
وبرواية الدعائم الواردة في ثوب أصابه مني لم يعرف مكان الإصابة منه

(1) الوسائل 1: 156، الباب 9 من أبواب الماء المضاف، ح 14.
(2) الوسائل 2: 1076، الباب 53 من أبواب النجاسات، ح 1.
108

أنه يغسله كله ثلاث مرات يفرق في كل مرة ويغسل ويعصر (1).
هذا كله مضافا إلى عدم دليل تام على الطهارة، لضعف ما ذكر لها عن النهوض
باثباتها سندا ودلالة وابتلاء بالمعارض الأقوى الواجب معه في صورة مكافأة
الدليلين الرجوع إلى عمومات الانفعال التي قلنا: إنها الأصل المرجوع إليها في
الموارد المشكوكة من الماء القليل المتكافئ فيه دليلا الطهارة والنجاسة.
ومنه يعلم أنه لا مجرى للأصلين بالطهارة اللذين ذكرا من البراءة والطهارة
سيما الأول، فإن الوجوب الشرطي مجرى للاحتياط لا البراءة، ولذا علق الأستاذ
- طاب ثراه - بقوله: " وهو الأقوى " على قول الماتن: (لكن الاحتياط وعملي
على التجنب).
ويضعف تمسكهم بقاعدة أن النجس لا يطهر بعدم دلالتها على مطلوبهم أبدا،
إذ لا يستلزم نجاسة الغسالة عدم طهر المحل، فإنه كطهر المحل معلولان للورود
والإصابة والملاقاة، فإن ايراد الماء على المحل النجس هو المطهر له وهو
المنجس للماء، ولزوم إخراج الماء عنه - حينئذ - إما لأنه معتبر في مفهوم الغسل
كما لا يبعد، فهو جزء لعلة الطهر، وهي إصابة الماء، أو لأنه محتمل لقذارة المحل
فيجب إخراجه منه ليتخلص عن القذر، ولم يقل أحد بأن المطهر له هو الماء
المتنجس المستقر فيه.
فالطهر في المقام لم يحصل عند القائلين بنجاسة الغسالة إلا بالماء الطاهر
الذي أصاب المحل إصابة صدق معها الغسل الذي عليه في الأخبار ومعقد
الإجماع رتب طهر المحل المغسول، فما انخرمت حينئذ قاعدة أن النجس
لا يطهر، كما لم تنخرم قاعدة أن النجس منجس، وفي خصوص المقام على ما
زعموا انخرامها - على القول بنجاسة الغسالة بملاحظة عدم تأثيرها في المحل -
نجاسته. ووجه عدم الانخرام أن المحل بعد لم يطهر، حيث إن طهره موقوف
بخروج الغسالة وانفصالها عنه لاحدى الجهتين اللتين ذكرناهما.

(1) دعائم الاسلام: كتاب الطهارة ج 1 ص 117.
109

هذا مع عدم معقولية تأثير شيء في غيره ما أثره الغير فيه في الحال التي تأثر
هو من الغير، فلا معنى لتأثيره فيه ما أخذه منه وهو في حال الأخذ، على أن
القاعدة المذكورة بهذا العموم ممنوعة، لعدم استنادها إلى الضروريات العقلية
ولاقامت بها الأدلة اللفظية، ولا استفيدت من علة منصوصة أو قطعية، بل هي
مضمون ما اخذ من الإجماع، ولا اجماع على أن هذا النجس - على تسليم
نجاسته - لا يطهر، بل الإجماع قائم على مطهريته على فرض كونه متنجسا
بالنجاسة المخصوصة كما في نظائره من أحجار الاستنجاء وتراب التعفير
والأرض المطهرة لباطن القدم.
ومنه يعلم عدم إمكان أخذها من الاستقراء أيضا كما يضعف تعويلهم في
الطهارة أيضا على أن الماء الواحد كيف يعقل التفكيك بين أبعاضه؟ فإن هذا الأمر
الغير المعقول قد التزموه في الغسالة المنفصلة كما حكيناه عن جواهر الماتن فإنه
ذكر فيه أن الغسالة المصاحبة للأجزاء النجسة المنفصلة عن المحل المغسول لا
تتنجس بما معها من أجزاء النجس حال كونها في الهواء وتتنجس بها بعد
استقرارها في الأرض، فالقطرات المنفصلة منها في الهواء الخالية عن عين النجس
طاهرة كالمصاحبة للنجس، فإذا لاقاها شيء حينئذ لا يتنجس بها لكونها من
الغسالة وهي طاهرة بخلاف ما استقر في محل، فإنه من الماءالقليل الذي يتنجس
بما فيه من أجزاء النجس.
وأنت ترى ما فيه، فإن قلته أو مصاحبته للنجس لا تتفاوت في الحالين، وهما
كونه في الهواء أو استقراره في أرض أو في إناء، وكذا جزؤه الخالي عن عين
النجس هل يمكن سلب بعضيته من هذا الماء المزال به هذا النجس؟ فكيف حكم
بطهارته ولو بعد الاستقرار، وحكم بنجاسة البعض المصاحب، وكذا بنجاسته هو لو
استقر مع المصاحب في محل؟ وهل هذا إلا التفكيك الذي ادعي كونه غير معقول؟!
ويقال: إنه تفكيك بلا دليل، وينبغي أن يستل منه هل هذا التفكيك غير معقول،
أو التفكيك الذي يأتي من قبل نجاسة الغسالة التي اقتضاها ملاقاة ما يقبل الانفعال
110

وهو الماء القليل للنجس بضميمة الإجماع القائم على طهر المغسول بعد تمام
غسله بانفصال الغسالة منه الذي لازمه أيضا طهارة البلل الباقي فيه للتبعية، وأي
تبعية من تبعياتهم التي التزموها وحكموا بمقتضاها أشد من التبعية الحاصلة هنا
مع ما فيه من كمال التلازم، ومع ما فيه من عدم إمكان الغسل بالماء بلا بقاء جزء
منه في المحل، فالحكم بطهر البقية إنما جاء من تلك التبعية وتلك الملازمة
المسلمة ولا غرو فيه.
بل هو (قدس سره) قد التزم بمقتضى تلك التبعية فيما هو أدون من ذلك في اللزوم
بمراتب، بل لا لزوم فيه أبدا كطهر الباقي في الرجل عند تطهيرها بالأرض من
ترابها النجسة بالمشي عليها أو بتماسها، مع أنه يمكن إزالتها عن الرجل بسهولة.
وبالجملة بعد قيام الدليل المتين على طهر المحل بالغسل الذي لازمه تخلف
شيء من الماء فيه، وعدم اجتماع بقائه - أي المتخلف - على النجاسة مع طهر ما
تخلف فيه لا يبقى مجال لاستبعاد التبعيض الذي هم ملتزمون به في موارد كثيرة،
مع أنه معترفون بعدم سبيل لتلك الاستبعادات في الأحكام الفقهية، وأنها تتبع
الأدلة المحكمة القوية. وقد عرفت اقتضاء العمومات انفعال هذا الماء، فلا مجال
للتأمل فيه بعد ذلك.
وأما أخبار الاستنجاء فلا دلالة فيها على مدعاهم لو لم تدل على خلافه كما
يظهر منها مسلمية نجاسة الغسالة سؤالا وجوابا وتعليلا من أجل تعبيره (عليه السلام) فيها
ب‍ (صار) الدال على انتقال هذا الماء الخاص من حكمه الأصلي الذي كان ينبغي أن
يكون عليه إلى غيره، ومن تعليله (عليه السلام) الحكم بما لا يتم علية له في نظرنا، ولا
يلتزم الخصم بدوران الحكم مداره من تعليله طهره بأكثرية الماء، فالواجب لأجله
- حينئذ - حمله على أنه أتى به لتقريب الحكم إلى ذهن السامع، وهو أيضا من
شواهد مسلمية نجاسة الغسالة على وجه يستبعدون طهر هذا الفرد الخاص منها.
وبالجملة عدم دلالة تلك الأخبار على مدعاهم واضح، لعدم استلزام خروج
فرد عن الكلية خروج غيره عنها، سيما مع ملاحظة حسن التخفيف والمسامحة فيه
111

بما لا ينجس في غيره لابتلاء أغلب الناس بالاستنجاء في مكان لا يسعهم
الاحتراز عن ترشحه بخلاف تطهير سائر الأخباث، فإنه بعكس ذلك وهذه
الخصوصية هي التي أوجبت سهولة الأمر فيه.
وأما رواية الذنوب فهي رواية أبي هريرة المردود الرواية عند العامة فكيف
عند غيرهم؟! وعن المعتبر أن الشيخ بعد حكايتها قال: " إنها عندنا ضعيفة الطريق
ومنافية للاصول، لأ نا بينا أن الماء المنفصل عن محل النجاسة نجس تغير أم لم
يتغير، لأنه ماء قليل لاقى نجسا "، انتهى.
واما رواية المركن فعندي أنها مسوقة لبيان لزوم التعدد في الماء القليل،
فالغسل في المركن كناية عن الغسل به كما يفصح عنه تقابله بقوله: وإن غسلته في
ماء جاري فمرة، وحينئذ فإما أن نقول بنجاسة المركن والماء الباقي فيه، وإما أن
نقول بطهره بعد الفراغ تبعا لطهر ما غسل فيه كساجة الميت ويد الغاسل، فهي غير
منافية لنجاسة الغسالة، ولذا حكي عن العلامة أنه عمل بها.
وأما رواية الصب في بول الرضيع فمبنية على التخفيف، لخفة نجاسته، فهي
خارجة عن تلك القاعدة كما هي خارجة عن قاعدة لزوم انفصال الماء عن
المحل، كما يشهد عليه خصوصياته المأخوذة فيه، فعدم لزوم انفصاله دليل على
طهارته، إذ كل ماء غسل به نجس ولا يجب انفصاله، وكذا لا يجب اجتنابه فهو
طاهر، فهي أيضا لكونها معمولا بها عند الأصحاب خارجة عن القاعدة كماء
الاستنجاء وكالمتخلف في مطلق المغسول.
وأما التأييدات فحالها أوضح من أن يبين بعد معرفة تلك الجملة، وهي أيضا
من طرف القول بالنجاسة كثيرة، فلا ينبغي إطالة الكلام فيها.
ولا يخفى أن عمدة أدلة الطهارة التي هي معتمد عليها عند جميع أصحاب هذا
القول تعطي القول بالتفصيل بين الغسلتين في متعدد الغسل وتخص الطهارة
بالثانية التي بها تطهير المحل. ولذا أن الأستاذ - طاب ثراه - قال: " إن القول
بالطهارة مطلقا لم يحك صريحا عن أحد منا، وعلله بأن الشيخ في المبسوط نسبه
112

إلى بعض الناس الظاهر في أنه من العامة "، وعن المحقق أنه لم يذكر في قبال
القول بالنجاسة إلا قول الشيخ بطهارة الغسلة الثانية، هذا.
ولكني أقول: يمكن استظهاره من جماعة، وفي المسألة أقوال متشتة
بالاستظهار من كلماتهم المختلفة ربما انتهت إلى سبعة، بل وزيادة لا فائدة مهمة
في تعرضها بعد وضوح الأمر.
فلينبه على امور ينبغي التنبيه عليها
منها: أن نجاسة الغسالة غير مخصوصة بالمنفصلة، بل الملاقي لها وهي في
المحل أيضا ينفعل، لأن مناط نجاستها أنه ماء قليل انفعل بملاقاة النجس، فلا
يتفاوت الحال فيها - حينئذ - بين الانفصال وعدمه. ومنه يعلم أنه ينجس أيضا ما
اتصل بمحله مما لا يتعارف إصابة الماء اليه عند غسل هذا المحل، فالتعارف
طريق لتشخيص المحل المغسول وتوابعه عن غيره ليحكم بالمتعدي عنه إلى الغير
أنه انفصل عن محله.
فما في الجواهر من أن جعل مدار ذلك على العرف لا أثر له في الأدلة
الشرعية لا أثر له في الايراد على الأساطين، لعدم خفاء أن تعين المحل المغسول
وتوابعه عن غيره منوط بنظر العرف، ولا يرجع فيه إلى الشرع ولا بالاستفادة من
الأدلة قطعا كتعين الرجوع إلى المتعارف في معرفة مقدار المنفصل ومقدار المتخلف.
ومنها: عدم ابتناء المنع عن استعماله في تطهير الخبث على نجاسته لتصريح
ابن حمزة فيه بالمنع مع استظهار القول بالطهارة منه (قدس سره)، فإنه قال - في المحكي
عنه -: " بحد جعل الماء عشرة أقسام وعد النجس قسما منها والمستعمل قسما
آخر أن المستعمل: ثلاثة أقسام: المستعمل في الوضوء، والمستعمل في غسل
الجنابة والحيض، ونحوهما، والمستعمل في إزالة النجاسة، وقال: إن الأول يجوز
استعماله ثانيا في رفع الحدث وإزالة الخبث، والآخران لا يجوز ذلك فيهما إلا أن
يبلغا كرا فصاعدا "، انتهى.
113

ولا يخفى على أحد ظهور هذا الكلام، بل صراحته في طهارته وممنوعية
استعماله في تطهير الخبث سيما مع جعله في قبال ما ذكره في حكم الماء النجس
من قوله: " إنه لا يجوز استعماله بحال إلا حال الضرورة للشرب " فيفهم من
اقتصاره في المستعمل على عدم جواز التطهير به، ومن تعميمه حرمة استعمال
النجس باستثناء الشرب منه للضرورة أنه قائل بطهارته، ومع هذا منع عن إزالة
الخبث به.
ولذا نسب الأستاذ القول بالمنع من إزالة الخبث به من بين القائلين بالطهارة
إلى صريح الوسيلة وظاهر المبسوط حيث حكي عنه أيضا بأنه قال: ولا يجوز
إزالة النجاسة إلا بما يرفع به الحدث، بل قال - طاب ثراه -: " إنه ربما حكي عن
بعض أن المنع من رفع الحدث دون الخبث خرق للإجماع " هذا.
ولكن الأقوى - كما قواه هو طاب ثراه - عدم المنع لاطلاقات أدلة الغسل
بالماء. ودعوى انصرافها إلى غير هذا الفرد مجازفة والاستصحاب لا يقابل
الاطلاقات، ولولا الأدلة الخاصة المحكمة لقلنا بجواز رفع الحدث به أيضا
للاطلاقات.
ومنها: أن حكم المستعمل في الخبث - على القول بنجاسته - حكم النجاسة
الغير الواردة فيها نص بلزوم التعدد أو بكفاية المرة في إزالتها، فمطهر المحل
المتنجس به مثل مطهر غيره، فإن قلت بالتعدد في ما لا نص فيه نقول به فيه أيضا،
وإن اكتفينا فيه بالواحدة نكتفي بها فيه، واحتمل الأستاذ الاكتفاء بالواحدة في
مزيل المنفصل عن الغسلة الأخيرة وإن قلنا فيما لا نص فيه بالتعدد، لأن نجاسته
لا تكون أشد من المحل قبله. وفيه ما ذكره هو - طاب ثراه - من أنه لا يعتنى بمثل
هذا الاعتبار في الأحكام الشرعية.
نعم ذكر - طاب ثراه - أنه لو انفصل مما نص على كفاية الوحدة فيه نقول
بكفاية المرة في المنفصل أيضا، لفحوى دليل أصله، وهو كذلك لو احرز أن
الاكتفاء بالوحدة في الأصل لخصوصية النجاسة، وملاحظة خفتها في نفسها لعدم
114

معقولية أشدية نجاسة غسالتها حينئذ عنها، وأما إذا احتمل أن الاكتفاء بالوحدة
إنما نشأ من رفع الحرج وملاحظة التسهيل على المكلف فلا، كما في نظائره من
المعفوات كما تنبه عليه هو - طاب ثراه -، وليس هذا الاعتبار كالاعتبار السابق،
لأنه لم يحرز فيه أن مناط الاكتفاء في المحل بالغسلة الباقية حصول الخفة
لنجاسته، لاحتمال أن يكون الوجه فيه التعبد أو الاحتراز عن لزوم التسلسل
واستحالة التطهير.
قوله (قدس سره): (ولو تغير المستعمل في التطهير باستعماله كان نجسا)
بالإجماع حتى من القائلين بطهارة الغسالة، وحتى عند العماني ومن مثله في عدم
انفعال القليل أو خصوص الوارد منه، والظاهر أن مراده بالتغيير هو التغيير
بالنجاسة لتعليله الحكم في الجواهر في نجاسة ماء الاستنجاء إذا تغير بأنه ليس لنا
ما لا يفسده التغير، ولاستظهاره هو في نفس المسألة من ماتنه إرادة التغيير بعين
النجس.
قوله (قدس سره): (ولم يفد المحل طهارة) إن خرج بالتغيير عن الإطلاق إلى
الإضافة قطعا، لما نراه من اعتبار الإطلاق في المطهر أو كان تغيره بالنجاسة، وإن
لم يخرج عن الإطلاق لكشف التغيير عن عدم زوال العين المعتبر زوالها في طهر
المحل، وأما التغيير بصفات المحل بما لا يوجب سلب الإطلاق فغير مضر في
حصول الطهر، كما سيأتي تفصيله في كيفية المصبوغ بنجس أو متنجس.
قوله (قدس سره): (أما إذا استصحب أجزاء ولم يتغير، ولم يبق في المحل من
عين النجاسة ففي كونه كذلك، أو أنه لا ينجس بها ويعقب المحل طهارة
حينئذ وجهان، أقواهما الثاني) وسيأتي في كيفية التطهير تعويله عليه حيث
يقول: بل يكفيان - أي الغسلتان - في التطهير وإن حصلت الإزالة بأحدهما أو بهما.
ولكن في جواهره يظهر منه عدم الاكتفاء به كما هو صريح قوله بعدم حصول
الطهارة حتى تزال العين ويتعقبه غسل ولو بالاستمرار في العبارة التي نقلناها عنه
في أول مسألة المستعمل في رفع الخبث.
115

وقال أيضا بعد العبارة المذكورة بقليل: " فحاصل الكلام بناء على ذلك أن
الغسل الذي يفيد المحل طهارة إنما هو المتأخر عن إزالة النجاسة ولو بالاستمرار،
ثم ذكر أنه الذي نلتزم بطهارته أي المتأخر. وعلله بأن التطهير إنما حصل به دون
الغسل الذي أزال العين فإنه لا مدخلية له فيه، وهما صريحان في أن المستصحب
للأجزاء لا يفيد المحل طهارة، وأن ما حصلت به الإزالة غير كافية في التطهير كما
هو (قدس سره) شبهه بالإزالة بالبصاق ونحوه - إلى أن قال -: فلو فرض حينئذ غسل
استصحب إجزاء عند إجزاء المرة من غير تعقب لآخر لا بالاستمرار ولا بغيره
وكانت النجاسة عينية، فالظاهر إنا لا نلتزم بطهارة المحل، بل نقول ببقاء النجاسة
إلى حصول غسل آخر ولو باستمرار الصب.
ثم ذكر أنه لو قلنا بالاجتزاء - يعني بمثل هذا الغسل المزيل للعين - نلتزم
بطهارة غسالته إذا فرض استهلاك العين، بل وإن لم يستهلك نحو ماء الاستنجاء.
ثم أورد على نفسه بأن التزام الطهارة في غير المستهلك مستلزم لالتزام
طهارة الغسالة إذا تغيرت بلون النجاسة لتحقق صدق الغسل به، مع أن القول
بطهارة مثل هذا المتغير خرق للإجماع، فطهر المحل - حينئذ - مع نجاسة غسالته
لا يجامع مع ما بنينا عليه من طهارة الغسالة.
ثم أجاب عنه بأنا نمنع حصول طهارة المحل بذلك، بل لا بد من تحقق غسل
آخر بعده بغير التغير ولو بالاستمرار، انتهى محل الحاجة.
ولا يخفى عليك ما فيها من التدافع لما بني عليه هنا وفي كيفية التطهير، إلا أن
يحمل كلامه في النجاة بما يجتمع مع ما في الجواهر بأن يريد من الاستصحاب
لأجزاء النجس هنا، وكفاية مزيل العين في مسألة كيفية التطهير خصوص ما استمر
الصب بعد إزالة العين - حينئذ - لا ما يعمه من مقارنة الصب للإزالة، بمعنى انتهاء
الصب بتمامية الإزالة.
ويريد مما في الجواهر خصوص المزيل بلا زيادة كما هو صريحه فيه، فإن
ما في الجواهر نص في العدم فيرفع اليد - حينئذ - عن الظاهر بالنص لو بنى على
116

جميع مختلفات كلمات العلماء، سيما ما كان الاختلاف فيها باعتبار تعدد المحل
من تعدد الكتاب أو تباين المسألتين.
وحينئذ يبقى عليه سؤال وجه عدم كفاية مثل هذا الغسل، ولا أظن أحدا يتفوه
بعدم كفايته، لظهور اتفاقهم على الاكتفاء به كما ينادي به تلك الكلمات المنقولة
عنه، وما نقلناه عنه سابقا من قوله بطهارة المنفصل المستصحب للأجزاء وحال
كونه في الهواء، ولكونه مشمولا لإطلاقات الغسل المقتضية للالتزام بكفايته، لعدم
انصرافها عنه قطعا لو ادعي لها انصراف عن المتغير ومزيل العين، لاختصاص
الانصراف - على فرض تسليمه - بالمتغير الموجب للإضافة عند عدم تعقبه بآخر،
وبالمزيل الذي لا يتعقبه غيره ولو على وجه الاستمرار، هذا مع ممنوعية
الانصراف من أصله، لأنه صرف بلا صارف سيما في المتغير والمزيل الباقيين
على اطلاقهما.
فالأقوى بمقتضى إطلاقات الغسل كفاية المزيل المستصحب لأجزاء النجس،
بل المتغير المتحقق معه الغسل لبقاء إطلاقه وصدق وقوع الغسل بالماء المطلق، إلا
أن يتحقق إجماع على عدم الكفاية كما ادعوه في المتغير.
ولكن الظاهر عدم تحققه، لأن ظاهر كلام من لم يكتف بغسل تغير فيه الماء
بالنجس هو صورة خروج الماء عن الإطلاق قبل تحقق الغسل به لا مطلق التغير
الباقي معه صدق الغسل بالماء المطلق. وظاهر كلمات غيره إنما هو في نجاسة
الغسالة بالتغيير لا في عدم حصول الطهر بالمتغير. وقد عرفت أنه مسلم متفق عليه
فيما إذا تغير بعين النجس.
وأظن أن الذي دعى شيخ الجواهر (قدس سره) إلى التزام عدم الطهر بالمزيل والمتغير
ذهابه إلى طهارة الغسالة مع ما سمعته منه من أن النجس لا يطهر، فلما رأى أنه لا
يقدر أن يحكم بطهارة المنفصل في الموردين ورأى أن التزامه بالنجاسة فيهما لا
يجامع تسليمه طهر المحل لاستلزامه انخرام قاعدته التي ادعى أنها غير منخرمة
فالتجأ إلى أن ينفي حصول الطهر بهما.
117

وقد عرفت أن ما قواه في النجاة هو الأقوى بعد صدق الغسل بالماء المطلق
لاطلاقات أدلة الغسل، وعدم مضرة حصول الانفعال بالملاقاة التي بها يتحقق
الغسل وإن قلنا بعدم تماميته إلا بالفصل، سيما مع تصريحهم في باب الاستنجاء
بعدم ضرر بقاء ريح النجس في اليد وفي المحل وفي الماء، بل بعدم ضرر بقاء
اللون في المحل فليراجع.
وإن كان لا ينبغي ترك الاحتياط بتعقب هذا الغسل بغيره ولو على وجه
الاستمرار، لشبهة الإجماع على عدم الكفاية، سيما مع ما أشرنا إليه في المتغير من
كشف التغير عن عدم زوال العين بتمامها عن المحل ولا ريب في بقاء المحل على
نجاسته بعد فرض بقاء شيء من عين النجس فيه وعدم ذهابها عنه بالغسل بالمرة،
فاحتياجه حينئذ إلى غسل آخر غير المتغير ولو بنحو الاستمرار ليحصل الطهر به
مما لا تأمل فيه، وإنما الكلام فيما علم عدم بقاء شيء في المحل.
قوله (قدس سره): (كماء الاستنجاء وإن لم يعتبر في طهارته زوال العين عن
المحل) الأقوى اختصاص الكلية التي ذكرها من طهارة المستعمل في رفع
الخبث وإن استصحب أجزاء بالمثال المذكور كما علقه عليه الأستاذ - طاب ثراه -
من قوله: " هذا مختص بماء الاستنجاء... الخ " مع ما نعتبره فيه من الشروط، لما
عرفت من نجاسة غسالة غير الاستنجاء.
ويدل على طهارة ماء الاستنجاء بعد الإجماع كما حكاه الأستاذ صريحا عن
غير واحد، وكما عن جامع المقاصد من قوله، استثنى الأصحاب من نجاسة
الغسالة ماء الاستنجاء واتفقوا على عدم تنجسه. وكما في الجواهر أنه طاهر لا
ينجس ما يلاقيه إجماعا تحصيلا ومنقولا نصا وظاهرا على لسان جملة من
علمائنا، وكما عن مصباح السيد وسرائر ابن إدريس الإجماع على عدم البأس به،
أو عدم الخلاف فيه كما عن السرائر أيضا.
وكما عن محكي جماعة الاتفاق على عدم تنجس الثوب به الأخبار المعتبرة
كحسنة الأحول: " أخرج من الخلاء فأستنجي بالماء فيقع ثوبي في الماء الذي
118

استنجيت به، قال: " لا بأس " (1) وعن العلل أنه رواها بزيادة قوله (عليه السلام): " أتدري لم
صار لا بأس به؟ قلت: لا والله، قال: لأن الماء أكثر من القذر " (2) وخبر محمد بن
النعمان عن أبي عبد الله (عليه السلام): " قلت له: استنجي ثم يقع ثوبي به وأنا جنب، فقال:
لا بأس " (3)، ورواية عبد الكريم بن عتبة الهاشمي قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن
الرجل يقع ثوبه على الماء الذي يستنجي به أينجس ذلك ثوبه؟ قال: " لا " (4).
وظهورها في طهارة الماء لا ينكر، لما هو المركوز في أذهان المتشرعة من
أن التنجيس في الجملة من لوازم مهية النجس، فإذا سمعوا أنه (عليه السلام) نفى التنجيس
عما كانوا يحسبون نجاسته عند ملاقاته بغيره لم يسبق إلى أذهانهم شيء سوى
طهارته، وأنه لم يكن الأمر كما هم حسبوه، كما أنهم لم يفهموا طهارة شيء
ونجاسته في الغالب إلا من الجواب بأنه لا يجب غسل ملاقيه أو يجب، أو يجوز
شربه ويتوضأ منه، أو لا بأس به، الراجع إلى نفي وجوب الاجتناب منه، أولا يجوز
شربه ولا يتوضأ منه، أو بتقرير البأس به بقوله: " نعم ".
ومنه يظهر أن الجمع بينها وبين عمومات الانفعال بالعفوية ليس عملا بها، بل
المتعين تخصيص العمومات وخصوص رواية العيص المتقدمة بها، والتزام أن
الماء القليل الذي ينفعل بالملاقاة خارج منه المقام، ولا غرو فيه، لأن الطهارة
والنجاسة من الامور المتوقفة على بيان الشارع، لأنهما إما أحكام صرفة من
وجوب الاجتناب وعدم وجوبه وجواز الشرب والتوضي وعدمه، أو صفتان
منتزعتان من الأحكام أو صفات معنوية حقيقية كشف عنها الشارع.
وأياما كان فإذا حكم الشارع بأنه لا بأس بالثوب الواقع في ماء الاستنجاء
فهو كالتصريح بجواز الصلاة معه، فإذا لم يجب الاجتناب عنه في الصلاة لم يكن

(1) الوسائل 1: 161، الباب 13 من أبواب الماء المضاف، ح 2.
(2) علل الشرائع: ج 1 ص 287 الباب 207 ح 1.
(3) الوسائل 1: 160، الباب 13 من أبواب الماء المضاف، ح 1.
(4) الوسائل 1: 161، الباب 13 من أبواب الماء المضاف، ح 5.
119

نجسا، والأحكام الاخر من حرمة شربه وإدخاله المسجد ونحوهما متفرعة على
وجوب الاجتناب المنفي في المقام بقوله (عليه السلام): " لا بأس " كما عرفته ويفصح عنه
تعليله (عليه السلام) بأن الماء أكثر من القذر الظاهر في أنه بيان لوجه الطهارة في ماء
الاستنجاء كما تقدم مثله في أخبار المطر من قوله (عليه السلام): " ما أصابه من الماء أكثر "
في مقام التعليل، لعدم نجاسة الثوب بالمطر الوارد عليه الواقع على النجاسة
بالتقريب الذي قدمناه من أنه يقرب إلى ذهن السامع ما حكم به من الطهارة بما
مفاده أن الماء لكونه أكثر لم يتأثر من القذر، بل غلب عليه واستهلكه، وحينئذ لا
مجال للتأمل في تخصيص أدلة الانفعال بها لسقوط قاعدة تعدي النجاسة من
المتنجس إلى غيره في المقام عن الاعتبار بالمرة، لأنها مخصصة بالإجماع
والأخبار المذكورة الدالين على طهارة ماء الاستنجاء.
وقد عرفت حالهما، وخدشة الأستاذ - طاب ثراه - في الإجماع - بأن جملة
من المجمعين من أصحاب القول بطهارة الغسالة ومن أصحاب القول بعدم انفعال
القليل الوارد، فلا يجدي اتفاقهم في تحقق الإجماع في خصوص المسألة، والحال
هذه - سيما مع خلو كلامهم عن التصريح بالطهارة، وخصوصا مع تصريح بعض
حين دعوى الإجماع بالعفوية كما عن المنتهى وغيره، بل لا يورث اتفاقهم حينئذ
ظنا فضلا عن الحدس القطعي الذي هو المناط في تحقق الإجماع عند المتأخرين
- مبينة على كمال التدقيق، وإلا فغير خفي ظهور كلمات من ذكرهم من السيد في
المصباح والمفيد في المقنعة والشيخ في المبسوط والحلي في السرائر في الطهارة،
كما هو ظاهر كلمة " لا بأس " أينما وقعت على الإطلاق، ولظهور دعواهم
الإجماع على المطلب في عدم ابتنائه على مختارهم في الماء القليل، بل إنما هو
لخصوصية طارئة على خصوص المجمع عليه.
هذا مع عدم ظهور العفو أيضا في خلاف الطهارة، لاحتمال أن يراد به بيان
حكمة الحكم كما حكي عن بعض.
ويؤيده أيضا ما وقع من بعضهم من التمسك في المقام بالحرج أو العفوية
120

المطلقة الراجعة إلى الطهارة بالأخرة كما عن المحقق الثاني أنه استظهرها من
النص وكلمات الأصحاب، لأن العفو عنه في جميع الأحكام ملازم لعدم نجاسته،
بناء على أن النجاسة حكم شرعي أو صفة منتزعة منه، بل وبناء على أنها من
الامور الواقعية، وليس بظاهر في المقام في خصوص العفو عن هذا النجس كدم
القروح والدم الأقل من الدرهم ونحوهما، وأنه لا يسري نجاسته إلى الغير.
وكيف كان، فالأقوى طهارته ورافعيته للخبث دون الحدث، لما تقدم، لكن
بالشروط الآتية.
قوله (قدس سره) في
(المبحث الثالث)
من مباحث الفصل الأول:
(الماء الطاهر المشتبه بالنجس مع الانحصار لا يرفع حدثا ولا يزيل
خبثا) اما عدم رفعه الحدث حينئذ فلا إشكال فيه، للإجماع كما ادعاه الأستاذ
- طاب ثراه - وشيخ الجواهر، وحكاه فيه عن الخلاف والمعتبر والغنية والتذكرة
ونهاية الإحكام، وحكى عدم الخلاف فيه عن السرائر، ولموثقتي سماعة وعمار
عن الصادق (عليه السلام): " في رجل معه إناءان وقع في أحدهما قذر ولا يدري أيهما هو
وليس يقدر على ماء غيرهما قال (عليه السلام): يهريقهما ويتيمم " (1) وعن المعتبر والمنتهى
حكاية عمل الأصحاب بهما وقبولهم لهما فلا يبقى بعد ذلك مجال للتأمل في
ممنوعية رفع الحدث بهما.
نعم ينبغي التأمل في أن هذا المنع هل على وفق القاعدة أو لخصوص النص؟
وسيبين. وأما إزالتهما للخبث فالمشهور أيضا ممنوعيتها، ونسب إلى جماعة
اختيار جوازها بهما منهم الطباطبائي في المنظومة لقوله:
ولو تواردا على رفع الحدث * لم يرتفع وليس هكذا الخبث

(1) الوسائل 1: 113، الباب 8 من أبواب الماء المطلق، ح 2 و 14.
121

وتحقيق الحق فيه موقوف على بيان امور بها يتضح المنع والجواز، وأنه أيهما
على وفق القاعدة.
الأول: أن الإراقة في المقام تعبدي كما هو ظاهر الأمر بعد ملاحظة أن
النجس المعلوم تفصيلا غير لازم الإراقة، أو أنها لحصول شرط التيمم وهو عدم
الماء، أو أنها كناية عن وجوب اجتنابهما وعدم جواز الانتفاع بهما.
الأظهر بل المتعين هو الثالث بعد ما نوضحه لك من بطلان الاحتمالين، إذ
التعبدية لا نعقلها، لوضوح عدم وجوب إراقة النجس نفسا، فكيف المتنجس؟!
وأما وجوب الإراقة مقدمة لمسوغية التيمم فأوضح فسادا من الأول، إذ المنع
الشرعي كالعقلي، فوجود ماء ممنوع الاستعمال شرعا بمنزلة العدم، فلا احتياج
في مسوغية التيمم معه إلى إعدامه، لعدم حصر أسباب تسويغ التيمم بعدم الماء،
بل عدم التمكن من الاستعمال أيضا من الأسباب.
الثاني: أن عدم جواز الانتفاع بهما هل تعبد شرعي للموثقين فيخص
موردهما، أو أن وجوب الاجتناب عنهما إنما هو لكونه مقدمة لوجوب الاجتناب
عن النجس الواقعي الموجود بينهما؟
الأقوى هو الثاني، لما بين في الاصول من تنجز التكليف بالعلم الإجمالي
لحكم العقل بقبح مخالفة المعلوم إجمالا كقبح المخالفة المعلومة تفصيلا، إذ لا يأمن
المقدم على الارتكاب من الوقوع في المفسدة والعقاب ودفع الضرر المحتمل إذا
كان عقابا لازم عقلا، لما بيناه من حكمه بالتسوية في القبح الحاصل من مخالفة
الشارع بين المخالفتين المعلومة تفصيلا والمعلومة إجمالا، وبعد تنجز الخطاب لا
معنى للاكتفاء بالموافقة الاحتمالية، لاقتضاء ما تنجز التكليف به في المقام وجوب
امتثاله وحرمة مخالفته بحكم العقل، لما سمعته من عدم الأمن، ولوجوب الخروج
عن عهدة ذلك التكليف إجمالا ليأمن عن ترتب مفسدة مخالفته، وهو الوقوع في
عقابه المتوقف ذلك على الاحتراز عن طرفي الشبهة، لفقد العلم بالأمن بدونه فيما
لم يصل فيه مؤمن من الشارع بجعل أحدهما بدلا عنه في مرحلة الظاهر، حيث إن
122

له أن يقنع بالموافقة الاحتمالية في مثل هذا التكليف تسهيلا على المكلف، ولكن
لا يكفي الاصول الجارية في الطرفين بلحاظ كونهما مشتبهين لحصول تلك
الامنية، لمعارضة الأصل في كل منهما به في الآخر بعد تنجز التكليف بالواقع
المعلوم إجمالا المحكوم عقلا بقبح المخالفة.
فتبين أنه بعد تنجز الواقع لإمكان الخروج عن عهدة امتثاله وعدم قصور في
شمول خطابه للمقام لما بين في محله أن متعلق الخطاب هو نفس الواقع بلا
مدخلية للعلم والجهل فيه لا مناص عن وجوب التحرز عنهما.
نعم لا بد في تنجزه من العلم بتحققه وإمكان امتثاله وهما في المقام حاصلان
ولا يقنع العقل بالموافقة الاحتمالية فيما لم يصل فيه مؤمن شرعي، ولا يحصل
الأمن بالاصول لسقوط أصالتي حل ما لم يعلم حرمته وطهارة ما لم يعلم نجاسته
عن قابلية التعويل عليهما، لعدم الدليل عليهما في المقام، لأن جريان الأصل في
أحد الطرفين معينا ترجيح بلا مرجح، وفي أحدهما مخيرا خارج عن مدلول أدلة
الاصول وغير مستفاد منها، وفيهما معا موجب للمخالفة القطعية للخطاب المعلوم
المنجز وهي غير جائزة فيتساقطان للمعارضة.
مضافا إلى تحقق الغاية وهو العلم بالحرمة والنجاسة، فليس من مجرى
الأصل، لزوال الشك بالعلم، فيجب العمل حينئذ بما يحصل معه الموافقة القطعية،
وهي لا تحصل إلا بتركهما معا، فالاجتناب عن كل منهما واجب مقدمة لامتثال
هذا التكليف اللازم الامتثال.
الثالث: هل حرمة استعمال النجس المعلوم وجوده في المقام ذاتية فيترتب
عليها آثارها مع المصادفة، أو تشريعية منوطة بالمخالفة القصدية؟
الأقوى هو الأول، بمعنى عدم اختصاصها بالثانية كما اختاره الشيخ الأستاذ
- طاب ثراه -، وجه القوة ما قدمناه في الأمرين المتقدمين مع ما سيأتي.
ووجه قصر الشيخ الأستاذ - طاب ثراه - الحرمة في التشريعية هو عدم ثبوت
حرمة الوضوء بالنجس ذاتا عنده، وكذا عدم ثبوت حرمة مطلق استعماله كما
123

سيأتي تفصيله، وعدم حرمة تنجس الثوب والبدن به لذاته عندنا أيضا، وإنما يحرم
في مقام يفوت به شرط من شروط ما اشترط فيه الطهارة من الصلاة والطواف
والاستعمال في الأكل والشرب على وجه يوجب تنجس المأكول والمشروب
وأمثالها.
وحينئذ فلو فرض إمكان التخلص عن حصول العلم بالتنجس ولو بمعونة
إجراء الأصل يجوز الاستعمال من حيث هو استعمال، وإن لم يحصل ما طلب فيه
حصول الطهارة من الوضوء والغسل في بعض الصور، لكنه يحصل في بعضها
الآخر - كمفروض المتن - فليجوز الاحتياط. نعم مسألة النجاسة غير معلومة
التحقق في بعض الصور وغير معلومة الارتفاع مع تحققها قطعا في بعضها الآخر.
فرع: لو حصل الاشتباه بعد صب أحد الإناءين على وجه لا يتعلق التكليف
بالاجتناب عن المهراق لو فرض كونه نجسا معلوما مفصلا كما لو صب في بالوعة
نجسة أو في ماء معتصم أو على أرض جففته الشمس بعد الصب مثلا، أو على وجه
لا يتنجز التكليف به، لعدم الابتلاء به عرفا كما لو صب على شخص عابر سبيل
- مثلا - لا ابتلاء للمكلف به فعلا ولا يصح أن يؤمر بالاجتناب عنه إلا مشروطا
بالابتلاء يجوز استعمال الباقي - حينئذ - قطعا، لسلامة الأصل فيه - حينئذ - عن
المعارض، لعدم جريانه في المنصب الغير المتعلق به، التكليف، أو الغير المنجز فيه
التكليف، لعدم ترتب الأثر عليه الذي هو المناط في إجراء الاصول، لأن الحق
عندنا عدم جريان ما لا يترتب عليه الأثر منها.
فيصح استعمال الباقي - حينئذ - في رفع الحدث وإزالة الخبث لكونه طاهرا
في ظاهر الشرع بحكم الأصل السليم عن المعارض، إذ لا أمر بالاجتناب يعارض
أمر الوضوء. ولا يضر مصادفته لاستعمال النجس في نفس الأمر، لعدم حرمة
استعماله فعلا لا نفسا، لعدم العلم بكونه هو النجس، ولا مقدمة لعدم تنجز التكليف
بالاجتناب عن النجس المعلوم المردد بين هذا الموجود والآخر المفقود.
وبهذا الوجه ينطبق صحيحة علي بن جعفر الواردة في رجل رعف فامتخط
124

فصار الدم قطعا صغارا فأصاب إناءه، فقال (عليه السلام): " إن لم يكن شيء يستبين في
الماء فلا بأس، وإن كان شيئا بينا فلا (1) "، التي حملها المشهور في مقابل الخلاف
على ما إذا تحقق إصابة الدم للإناء، ولم يتحقق إصابته للماء فإن في عدم
جعله (عليه السلام) إياه من الشبهة المحصورة اللازمة الاجتناب إشارة إلى ما ذكرناه، إذ لو
فرض العلم تفصيلا بوقوعه في ظهر الاناء لا يصح أن يكلف باجتنابه إلا مشروطا
بالابتلاء، لأن قاصد التوضي من مائه غير مبتل في العرف والعادة بظهره فلا يتنجز
التكليف بالاجتناب عنه، فيسلم الأصل في مائه عن المعارض.
ومثله في سلامة الأصل ملاقي أحد طرفي الشبهة، إذ لا أصل في قباله
يعارضه، والأصل في مصاحب ملاقيه مبتل بمثله من أصل صاحبه، فلا يعارض به
هذا الأصل، ولا مجال لعده من أحد أطراف الشبهة، لأنه في طول الطرفين لا في
عرضهما. وهذا معنى ما تقرر في محله من كونه مرجعا يرجع اليه عند سقوط
الأصل السابق عليه عن الاعتبار بسبب عدم الجريان أو بسبب الابتلاء بالمعارض.
نعم لو حصل في قباله ملاق للطرف الآخر يسقط أصله عن الاعتبار حينئذ،
لمعارضته بالأصل الجاري في ذلك الملاقي الآخر، فمناط الجواز والمنع سلامة
الأصل وجريانه في ما يراد استعماله.
ومنه يعلم أنه لو صب أحد الإناءين بعد تنجز التكليف بهما بسبق العلم على
الصب لا يجوز استعمال الباقي بتوهم سلامة أصله حينئذ عن المعارض، لأن
الباقي لا يرفع عنه عنوان مقدميته الثابتة له قبل الصب لامتثال ذلك التكليف
المنجز، فما دام ذلك التكليف لم يعلم رفعه يجب الخروج عن عهدته واجتناب هذا
الباقي مقدمة للامتثال، فيجب من تلك الجهة، بل لو صب أحدهما بعد العلم وبقي
ملاقي المصبوب مع الآخر كان أصلاهما من المتعارضين كنفس المشتبهين، لأن
الملاقي من مراتب وجود الملاقى المصبوب، فكأنه لم يصب بتمامه.

(1) الوسائل 1: 112، الباب 8 من أبواب الماء المطلق ح 1.
125

ويظهر من الشيخ الأستاذ في طهارته سلامة الأصل في الملاقي - حينئذ - كما
كان سالما قبل الصب، ولعله نظر إلى أن الملاقي ليس في عرض الطرف الآخر، بل
هو في طوله كما هو حاله بالنسبة إلى المنصب، أو أن أصله كان سليما قبل الصب
فكذا بعده، لأن الصب لم يصيره طرفا ولم يتعلق به - أيضا - علم كما في صورة
وجود ملاق للطرف الآخر الذي هو في عرضه.
وعندي عدم تماميتهما لانقلاب صفة الطولية بالعرضية بعد الانصباب، لما
عرفت من أنه من مراتب وجود المنصب حينئذ، ولكونه من طرف متعلق العلم
الإجمالي - حينئذ - لا قبله، لأنه قبل الصب لم يكن ثالث الأطراف كما توهمه
بعض ولو نفس أحد الطرفين لوجودهما بأنفسهما بصفة الغيرية له، بخلافه بعد
الصب فإنه يحلف القاطع أن النجس الذي أعلمه في البين في أحد هذين، فهو نظير
ما لو كان هنا شيء مشكوك النجاسة، ثم بعد وجود آخر في مقابله حصل القطع
بأن النجاسة موجودة قائمة بأحدهما، فالأصل في الأول قبل وجود الثاني كان
سليما، وبعد وجوده صار متعارضا لصيروته حينئذ طرفا للعلم.
إذا عرفت تلك الامور تبين لك أن استعمال كلا المشتبهين في رفع الحدث مع
التنبه محرم، لكونه مأمورا بالاجتناب عنهما مقدمة للاجتناب عن النجس المعلوم
إجمالا، ولا يجتمع الأمر بالاجتناب مع الأمر بالاستعمال.
وهذا معنى قول الماتن (قدس سره): (بل لو تعاقبا على رفع الحدث لم يرتفع،
ولو بأن توضأ من أحدهما، ثم غسل بالثاني، ثم توضأ منه مع التنبه) ولذا
لو غفل عن الأمر بالاجتناب وتوضأ بهما على التعاقب مع تطهير المحل بالماء
الثاني صح وضؤوه، لارتفاع النهي عنه بالغفلة ووقوع وضوئه بماء طاهر بقصد
القربة، بل مع التنبه أيضا يمكن أن يقال بوجوب الوضوء المذكور مع ضم التيمم،
بل هو الأحوط، لما سبق من أن النهي عن الاستعمال تشريعي، وهو مرتفع
بالاحتياط.
وليس هناك مانع - حينئذ - سوى ما يتخيل من نجاسة بدنه بالنجس الواقعي
126

يقينا، ولا يقين بارتفاعها بتلك الغسلة فيستصحب، ويمكن علاجه بأن نجاسة بدنه
- بعد العمل على النهج المسطور - مشكوكة، وكان قبل إعمال الماءين طاهرا قطعا
فيستصحب طهارته.
لا يقال: إن طهارته المستصحبة مرتفعة قطعا بورود الماء النجس عليه، ورفع
هذا الوارد مشكوك فيستصحب.
لأ نا نقول: استصحاب الطهارة في المقام من قبيل استصحاب الكلي، وهو في
المقام وإن كان من قسمه الردي لتردده بين فردين أحدهما يقيني الارتفاع
والآخر مشكوك الحدوث، إلا أنا قد رجحنا في الاصول صحة استصحابه إذا كان
في نظر العرف أمرا واحدا قابلا للبقاء والاستمرار، وهو في المقام كذلك، لأن
العرف لا يرى لطهارة البدن فردين أحدهما زائلة والاخرى مشكوكة، بل يعدون
طهارته أمرا واحدا ثابتا له يقيني الثبوت في الآن السابق أي قبل استعمال
الماءين، مشكوك الارتفاع في الآن اللاحق أي بعد الاعمال.
فإن قلت: إن تنجسه - أيضا - بملاقاة الماء النجس يقيني وزواله مشكوك.
قلت: نعم، ولكن زمان يقين النجاسة مردد هنا غير معين إلا أن نعتبر في
التطهير التعدد، فإنه عند أول الملاقاة مع الماء الثاني يقطع بنجاسة البدن ويشك في
زوالها وإن غسل بهذا الماء ألف مرة، وأما على القول بحصول الطهر بأول الملاقاة
فيكون نجاسته مرددة بين حصولها بالماء الأول أو بالثاني، وكل يقين مبهم الزمان
لا يستصحب، وسره عدم تحقق يقين سابق وشك لاحق، إذ لا آن يعلم فيه بنجاسة
البدن كما لا يخفى، مع أنه على فرض جريانه يتعارض الاستصحابان فيرجع إلى
قاعدة الطهارة كما بمثله سلك الشيخ الأستاذ - طاب ثراه - في الثوب النجس
المغسول بالماءين معا.
فتنقح من جميع ذلك أن الوجه في تقييد عدم جواز الاستعمال في المتن
بالتنبه إنما هو ليتحقق النهي، فيبطل العبادة لذلك لا لما ذكره الشيخ الأستاذ - طاب
ثراه - من أن البطلان لأجل التشريع وهو مفقود مع الغفلة، لأ نا لم نصدق قوله
127

- طاب ثراه - بعدم تأتي التشريع مع الغفلة، إذ منشؤه عدم الأمر، وهو لا يتفاوت
مع الغفلة والتنبه.
هذا مع أن التشريع يمكن التخلص عنه بالاتيان بالفعل من باب الاحتياط كما
سبق الإشارة اليه، وبه قال السيد الأستاذ أيضا ووجه ذهاب الشيخ الأستاذ إلى
كون المنع تشريعيا في المقام هو أنه - طاب ثراه - جعل النواهي المتعلقة باستعمال
النجس من النهي الوارد عقيب الأمر أيضا المفيد لرفع الرخصة الحاصلة من أمر
الوضوء والغسل ونحوهما، فلا تفيد الحرمة الذاتية في متعلقها، بل هي نظير الأوامر
والنواهي المتعلقة بالأجزاء والشرائط والموانع المفيدة للحكم الوضعي من
الجزئية والشرطية والمانعية، دون الوجوب والحرمة.
فأثبت - طاب ثراه - الحرمة المجمع عليها في النجس المعلوم المفصل عند
الاغتسال أو التوضي به للتشريع لا بالذات ببيان أن أوامرهما لولا تلك النواهي
الواردة في الأخبار عن استعمال النجس تشمل بإطلاقها الوضوء والغسل
بالنجس، فتلك النواهي خصصتها بغير النجس، لأنها رفعت الرخصة المستفادة من
الأوامر، فبقي استعمال النجس فيهما وفي أمثالهما خاليا عن الرخصة، فاستعماله
فيهما بانيا على ترتب أثرهما عليهما غير مرخص فيه شرعا، فيكون تشريعا
محرما، لأنه ادخال ما ليس من الدين في الدين، لأن الشارع رفع أثر الوضوء عن
التوضي به بالنجس، والمستعمل يريد أن يرتبه عليه قال - طاب ثراه -: ولهذا لو
استعمله لغوا لا بقصد ترتب الأثر عليه لم يكن حراما، بل ليس استعمالا له،
واستشهد بما ذكره عن فاضل الكشف من قوله: " إن استعماله في صورة الطهارة
والإزالة مع اعتقاد عدم حصولهما لا إثم فيه وليس استعمالا له فيهما " انتهى.
وذكر - طاب ثراه - أنه لا يمكن إثبات الحرمة التشريعية بتلك النواهي، لأنها
محققة ومحصلة لموضوع التشريع، فلا يصح أن يكون منهيا عنه بها، وهو كما يقول
وجعل - طاب ثراه - وجه اتفاق العلماء على عدم جواز الاستعمال هو ذلك،
وحمل اجماعهم بحرمته على الحرمة التشريعية دون الذاتية، ثم حول - طاب
128

ثراه - المطلب على المكاسب وقال: " المسألة مبتنية على أن الأصل حرمة
الانتفاع بالنجس إلا ما خرج بالدليل، أو أن الأصل جواز الانتفاع إلا ما خرج ".
ثم في مكاسبه رجح الثاني بتنزيل أخباره - مثل خبر تحف العقول ونحوه -
على النجاسات العينية دون المتنجسات الغير القابلة للتطهير، وبتنزيل الاجماعات
التي لا تحصى كثرة على ما يقابل الخلاف المذكور في المسألة دون العموم وجعل
العموم مورد فتوى مدعي الإجماع لا معقد الإجماع.
وهو - طاب ثراه - مع هذا الجهد الأكيد والسعي البليغ - شكر الله سعيه - لم أره
- بنظري القاصر - وافيا لحق المسألة، لأن من راجع كتاب المكاسب من أوله إلى
آخره وكذا ما كتبه علماؤنا الأخيار في مسألة المتنجس الذي لا يقبل التطهير يرى
أن أصالة عدم الانتفاع به - إلا ما خرج - متسالم عليها عندهم. وبعض الانتفاعات
التي ذكرها هو - طاب ثراه - في مكاسبه وفرض تجويزهم إياها يمكن أن يدعى
أنه لعدم الاعتداد به عرفا ولعدم عدهم اياه استعمالا له بحيث تنصرف أدلة المنع
عن استعمال النجس اليه، لأنه لندوره وعدم الاعتناء بشأنه بحكم العدم، ومن هذا
القبيل ما ذكره - طاب ثراه - من التوضي بالنجس لاغيا لا بقصد ترتب الأثر،
لا أنهم يجوزون بعض الاستعمالات، هذا.
مع ما ترى من أن مسألتنا هذه غير مبتنية على عموم المنع ثمة، لأن عمومه
لتلك الانتفاعات التي سلمها في المكاسب كاف فيما نحن بصدده، لأنه - طاب
ثراه - عد من أوضح موارد المنع الوضوء والغسل والغسل والأكل والشرب
ونحوها من الانتفاعات المتعارفة المعتد بها عند العرف، حتى أنه - طاب ثراه -
اعتذر عن الخبر المجوز لبيع المذكى المشتبه بالميتة بمستحلي الميتة بأنه يقصد
بيع خصوص المذكى، أو هو مع ما لا تحله الحياة من الميتة، أو أنه ليس بيعا
حقيقيا، بل إنما هو استنقاذ لما في يد الكافر، لكونه فيئا للمسلمين وتراهم في
كتاب الأطعمة لا يجوزون أن يمكن الولي الصبي غير المميز من أكل النجس،
وأمثاله في الفقه كثير كما هو غير خفي على الفقيه المتتبع.
129

والمقصود من جميع ذلك أنه لا ينفع جعل الأصل في النجس عموم المنع
أو عموم الجواز إلا ما خرج، لأن حرمة تلك الانتفاعات مسلمة.
نعم يبقى ما ذكره - طاب ثراه - في كتاب الطهارة من جعل الحرمة تشريعية
بالبيان الذي تقدم، وأنت ترى أنه لا يتم ما ذكره - طاب ثراه - من جعل النواهي
لرفع الرخصة، لكونها واردة في مظان الأمر بالأكل والشرب وما ضاهاهما مما
ليس له أثر شرعي، ولم يتعلق به حكم تكليفي سوى الإباحة ليكون نهيه واردا
عقيب الأمر، ومن الواضح البين إفادة النهي المتعلق بأمثالها للحرمة، كما أنه من
البين عدم تحقق التشريع في إتيان مباح عند عدم قصد الفاعل ايجاده بتبعية
الشارع، إذ لا يعتبر في اتيان المباحات وشرعيتها قصد التبعية حتى يكون فاقده
وقاصد غيرها مشرعا فإن الآكل يأكل لسد رمقه ورفع جوعه، أو عطشه كالعاطش
الشارب لري كبده واطفاء كظ عطشه كمستعمله في إزالة وسخه.
ولا ريب في دخول ذلك في عموم الأخبار ومعاقد الإجماعات ولا نهي لنا
في خصوص الوضوء والغسل وإزالة الخبث ليسع لنا حمله على ما ذكره - طاب
ثراه - واجماعاتهم ترى تشمل الجميع بنسق واحد، كما سلمه هو - طاب ثراه - في
المكاسب أيضا حيث حملها على تلك الامور فرارا عن شمولها لعموم الانتفاع،
فهي كالأخبار تفيد الحرمة الذاتية، لما عرفت من عدم تعقل الحرمة التشريعية في
تلك الامور، هذا. مع أن نفي الرخصة المستفاد من النهي مساوق للحرمة كما أن
الرخصة المستفادة من الأمر مساوقة للإباحة، فافهم.
وبعد قبول الحرمة الذاتية فيها لا بد من قبولها في الوضوء، والغسل وأمثالهما
لوحدة الدليل المانع عن الكل، فلم يبق له ما يوجب صرف تلك النواهي وتلك
الاجماعات عن ظواهرها من إفادتها الحرمة الذاتية لتلك الاستعمالات وتلك
الانتفاعات إلى التشريع.
ومنه يظهر كون الموثقين الواردين في الماءين المشتبهين الآمرين بإهراقهما
والتيمم على القاعدة، لأن مقتضى العلم الإجمالي في الشبهة المحصورة مع فعلية
130

الابتلاء بطرفي الشبهة هو تنجز الواقع المعلوم إجمالا الموجب للزوم الاحتراز
عن الطرفين مقدمة لتحصيل الواقع.
والعجب أن الشيخ الأستاذ - طاب ثراه - بعد ما جعلهما مخالفين للقاعدة
وجعل جواز الاحتياط مع التنبه شاهدا على ذلك حملهما على التعبد، وهو مناف
لحمله الإجماع الذي سلمه على العمل بهما على الإجماع على الحرمة التشريعية.
ولا يكاد يظفر انسان بوجه يأتلف به بين كلماته في ذلك المقام، فإن معنى تعبدية
ما تضمنه الموثقان هو كونه تكليفيا بحتا، ولا يجتمع هذا مع حمل عمل المجمعين
على العمل عليهما على الحرمة التشريعية، ثم لا يجتمع حملهما على التعبد مع رده
- طاب ثراه - لقول حامل وجوب الإهراق على التعبد ومنعه.
بل دعوى البداهة على عدمه كما لا يجتمع التعبدية مع جعل الإهراق من باب
مقدمة أن يتحقق عدم الماء فيصح التيمم، مع أن هذا المعنى في نفسه غير معقول، إذ
لا يسع لأحد أن يأمر بإعدام الماء المجوز معه الوضوء مقدمة لتصحيح التكليف
بالتيمم، فكيف إذا كان الآمر هو الامام؟! فلا يتعقل وجه لقوله - طاب ثراه - في
الموثقين بالتعبدية، كما لا يعقل كون وجوب الاهراق من باب المقدمة.
هذا كله مع أن حمله النواهي لرفع الرخصة الحاصلة من الأوامر معناه
تخصيص الأمر بغير مورد النهي فمورد النهي لا أمر فيه بالوضوء والغسل وإزالة
الخبث، فلا يحتاج بطلانهما إلى تحقق التشريع المتوقف على القصد، بل بطلانها
إنما هو لعدم الأمر، ولا يتفاوت الحال فيه بين حالتي التنبه والغفلة، فلا أرى وجها
لحكمه - طاب ثراه - بالصحة في صورة الغفلة، فافهم ولا تغفل.
وتخيل أن المراد بالتعبد كون الوضوء بالماءين ممنوعا لا لعلة معقولة غير
معقول بعد القول بعدم ممنوعية الوضوء بنفس النجس المعلوم، إذ لا يزيد المعلوم
الإجمالي على المعلوم التفصيلي.
وحسبان أنه يمنعه هنا لكونه مستلزما لنجاسة البدن وهو محرم، وكل مورد
يلزم من الإطاعة المعلومة المخالفة العلمية يرفع اليد عن الإطاعة ويقنع
131

بالاحتمالي منها لئلا يلزم المخالفة القطعية، سيما في ما له بدل شرعا كما في المقام
هذا، مع ما يشاهد منهم من اهتمامهم في باب الصلاة بإزالة الخبث وتقديمهم إياها
على تحصيل الطهارة المائية لقيام التراب مقام الماء في الحدث دون الخبث،
ويشهد على هذا أنه - طاب ثراه - في باب التيمم أجاز استعمال التراب النجس
المعلوم إجمالا، وجعل الشبهة فيه من حيث النجاسة نظير الشبهة فيه من حيث
المضافية ملزما فيه التيمم بالترابين لعدم نجاسة البدن باستعمال التراب النجس.
مردود بعدم القطع بنجاسة البدن في المقام فيستصحب طهارته، فكيف يظن به
أنه منع عن أطراف الشبهة لذلك؟!
فظهر من جميع ما ذكر أن الحكم في الماءين لزوم اجتنابهما وعدم جواز
التوضي بهما، وكون النص الوارد فيهما على القاعدة والإهراق كناية عن لزوم
الاحتراز مقدمة للاجتناب عن النجس المعلوم إجمالا.
نعم يمكن تصحيح كلمة شيخنا الأستاذ - طاب ثراه - بالحرمة التشريعية في
المقام بأن التطهير بالماءين له عنوانان.
أحدهما: كونه استعمالا للنجس وانتفاعا به، بناء على اعطاء حكم الواقع
المعلوم إجمالا لجميع أطراف الشبهة، وهذا محرم ذاتي لا شبهة فيه، وبه يتحقق
موضوع التشريع.
والثاني: قصد الامتثال بهذه الطهارة لأوامر الطهارة، وبعد ممنوعية التطهير في
المقام شرعا يكون الفاعل بقصده ترتب الأثر على هذا الفعل الممنوع الغير الموثر
شرعا في الطهارة مشرعا لا محالة، لأنه قد قصد حصول الطهارة بما ليس بموجد
اياها في نظر الشارع، وأي تشريع أعظم من هذا; ومعه يجي التفاوت بين حالة
الغفلة والتنبه مع استعمالهما على الكيفية المذكورة لو قلنا بحصول الطهر في الإزالة
بمجرد الإصابة إما مطلقا كما هو لازم مقالة القائلين بطهارة الغسالة في غير صورة
لزوم تعدد الغسل، وأما في الكثير والجاري - لو كانا منهما - فإنه يطهر محل
طهارته بمجرد إصابة الثاني لو فرض تنجيسه بالاول فيصح وضوؤه - حينئذ -
132

لعدم المانع عن توجه الأمر بالتوضي اليه حينئذ، لأن مزاحمه - وهو الأمر بالاجتناب
- مرتفع بالغفلة، وممنوعيته بتنجس البدن المقدم حفظ طهارته على الطهارة
الحدثية عند الدوران مرتفعة بعدم حصول العلم بنجاسته بعد العمل بتلك الكيفية.
ومنه ينقدح أنه لولا النص والاتفاق على وجوب التيمم وعدم جواز التوضي
في المقام كان مقتضى القاعدة عند الأستاذ - طاب ثراه - جواز التوضي بهما
بالكيفية المذكورة، لما ذكرناه من قبله من أن وجوب الاجتناب عنهما الناشئ عن
وجوب اجتناب النجس تشريعي، أو ملاحظ فيه حفظ الطهارة عن الخبث لأجل
المشروط بها كالصلاة مثلا، وقد بينا محفوظيتها شرعا لجريان أصالة الطهارة في
البدن مع الشك في النجاسة، ولا يلزم تشريع أيضا، لكونه آتيا به من باب الاحتياط.
ولذا علق السيد الأستاذ جناب الميرزا - دام بقاه - على العبارة بقوله: إن
الأحوط مع عدم وجدان غيرهما وكفاية ملاقاة الماء في حصول الطهر - كما لو
كانا كرين مثلا - الجمع بين هذا الوضوء والتيمم والتقييد بكفاية مجرد الملاقاة في
التطهير، لأن مع فرض عدم الكفاية كما في مقام الاحتياج إلى تعدد الغسل مثلا
يحصل بملاقاة الماء الثاني في الغسلة الاولى منه العلم التفصيلي بالنجاسة، ويشك
في رفعها، ومقتضى الأصل بقاؤها بعكس صورة الكفاية فإن طهارته مقتضى
الأصل، لأن تعقب النجس مشكوك وتقدمه موجب لليقين بارتفاعه، فليس هناك
زمان يقطع بنجاسته حتى يستصحب، لكونه مشكوك التنجس دائما من حين
الملاقاة للأول إلى حين الفراغ.
ولذا يمكن استفادة نجاسة الغسالة من هذين الموثقين أيضا، لأن مع انفعال
الماء القليل بمجرد الملاقاة لا يعالج نجاسة البدن لحصول العلم التفصيلي بها بأول
آن في الملاقاة للماء الثاني فيحصل في المقام نجاسة متيقنة مشكوك الارتفاع،
ولذا لا يجوز التوضؤ بهما عندنا، وإن غفل عن الأمر بالاجتناب، لأن الطهارة
عن الخبث أهم من تحصيل الطهارة عن الحدث عند دوران الأمر بينهما، لأن
الثانية لها بدل - وهو التيمم - دون الاولى.
133

وبفحوى الموثقين بعد فهم أن جهة المنع من الوضوء ووجوب التيمم ليست
منحصرة في الوضوء بالنجس ذاتا، حتى يرتفع بالغفلة وإنما هو بملاحظة أن لا يقع
صلاته مع الخبث، ولما يأتي أن من كان على بدنه نجاسة غير معفوة وكان عنده من
الماء ما لا يكفي إلا لإزالتها أو لرفع حدثه أنه يستعمله في إزالة الخبث ويتيمم.
وقد عرفت أن استعمالهما معا في الوضوء موجب للقطع بنجاسة البدن بلا
رافع معلوم لها، وهو غير جائز، لأن للنجاسة المستصحبة حكم النجاسة المعلومة
في عدم صحة الصلاة معها، والتوضؤ بأحدهما وإن لم يترتب عليه هذا المحذور،
لما ذكرناه من أن أصالة طهارة الملاقي - وهو البدن - محكمة، إلا أنه غير رافع
للحدث، لأن من شرائط رفعه إحراز طهارة الماء، وهي في المقام غير محرزة،
ولذا أمر (عليه السلام) باهراقهما الذي هو كناية عن أنه لا ينتفع بهما في رفع الحدث الذي
هو محل حاجة السائل، هذا.
ولكن لا يخفى عدم تمامية المنع لو كان هو نجاسة البدن (1)، إذ استصحاب
طهارته - بناء على صحة استصحاب الكلي في مثله كما مر - يعارض استصحاب
النجاسة، وبعد تعارضهما يكون قاعدة الطهارة هي المعول عليها، فلا مانع عن
الوضوء بهما بالكيفية المذكورة مع التنبه أيضا لو قيل بانحصار المانع فيها،
فالأحسن أن يضيف إلى الحرمة المذكورة أن التوضي بالنجس لما كان حراما ذاتا
وتشريعا وتنقح ايضا أن المعلوم بالإجمال حكمه حكم المعلوم التفصيلي فلا
يصح التطهير بهما في الفرض مطلقا.
قوله (قدس سره): (ولكن إذا أصاب طاهرا لا ينجسه) يعني أحدهما، لما ذكرناه
من سلامة الأصل فيما أصابه أحد المشتبهين.
قوله (قدس سره): - بعد منعه رفع الحدث بهما -: (بل الأحوط ذلك أيضا في رفع
الخبث، وإن كان هو الأقوى فيجب تطهير الثوب والبدن به) يعني بالمشتبه

(1) هنا كلمة غير واضحة، يمكن أن تقرأ: وحده.
134

المراد به هما معا على التعاقب للصلاة مع الانحصار قد علم وجهه من مطاوي
ما تقدم.
أما وجه الاحتياط فلحرمة الانتفاع بالنجس ذاتا كما يسع أن يقال ببقاء الأمر
بالتطهير معها بعد إعطاء حكم المعلوم التفصيلي للمعلوم بالإجمال، أو للتعبد
المستفاد من النص كما استظهر من المقنعة.
وأما وجه التقوية فلأن باستعمالهما معا متعاقبا يقطع بإزالة ما على المغسول
من النجاسة، وتنجسه بالنجاسة الثابتة في المشتبهين مشكوك بناء على كفاية
مجرد الملاقاة في التطهير، كما هو مذهب الماتن، والجهة الاولى - أي الحرمة - لا
تمنع من حصول الطهارة.
وربما يقال بعدم الكفاية ولو على هذا القول أيضا، لأن الاستصحاب محكم
بعد الشك في الطهارة.
ولكنه وهم، لأن نجاسته السابقة متيقنة الارتفاع ولحوق النجاسة له بعدها
مشكوك، فالمقام مقام استصحاب الطهارة المتيقنة للمحل بزوال الاولى عنه قطعا،
لأن طهره في الجملة بالغسلة الاولى أو الثانية معلوم ورفعه عنه بطرو النجاسة عليه
مشكوك لتوقف نجاسته ثانيا على تعقب استعمال النجس من المشتبهين
لطاهرهما، وهو غير معلوم، هذا.
ولكن الأستاذ - طاب ثراه - جعل المقام من مقام العلم بطرو نجاسة وطهارة
مشكوكتي السبق واللحوق كما في نظيره من الطهارة والحدث المعلومي الصدور
المشكوكي التقدم والتأخر، وقال (قدس سره): " والفرق بينهما جريان الأصل في المقام
دون مسألة الطهارة والحدث " ثم قال: " والمقام يحتاج إلى تأمل تام " هذا.
والأقوى على ما بيناه في الحدث عدم رفع الخبث بهما، لما عرفت أن
التنجيس بنفس المشتبهين على المختار من انفعال القليل المستعمل في رفع
الخبث أيضا معلوم تفصيلا في أول آن ملاقاة الماء الثاني للمغسول، وزوال هذه
النجاسة المتيقن الحصول مشكوك فتستصحب. نعم لو كان المشتبهان مما يكفي
135

ملاقاتهما في التطهير كان ما قواه الماتن قويا، لما عرفت.
وعليه فلو فقد أحد المشتبهين كان مقتضى الاحتياط الغسل بالباقي لخروج
النجاسة به عن التيقن إلى الشك، وهو نوع تخفيف لها، وهو مطلوب وإن حكم
بمقتضى الاستصحاب ببقائها، ولذا لا يجب الغسل هنا لعدم ترتب فائدة الطهر عليه.
تنبيه: لو اشتبه أحد المشتبهين بثالث جرى عليه حكمهما من ممنوعية
استعماله في الوضوء، لصيرورته بذلك من أطراف الشبهة، وقد عرفت أن وجوب
التحرز عنه هو مقتضى القاعدة من كون المقام مجرى الاحتياط، كما يظهر من
المحكي عن المحقق التسالم عليه.
ويدل عليه أيضا فحوى أدلة المقام من النص والاتفاق، بناء على ما استفدناه
منهما من أن وجه المنع هو تنجز التكليف باجتناب النجس المعلوم وجوده بين
المشتبهين، وتوقف الخروج عن عهدة امتثاله على اجتناب جميع أطراف الشبهة،
وعن كل ما يحتمل انطباق النجس الواقعي عليه. ولا ريب أن الثالث - حينئذ - من
الأطراف، ومما يحتمل كونه هو النجس المعلوم ثبوته هنا.
قوله (قدس سره): (ولو كان الاشتباه في الإطلاق والإضافة جاز رفع الحدث
والخبث به مع تكرير العمل بكل منهما) لأن المنع عن استعمال المضاف
وحرمة التوضي أو الإزالة به ليس ذاتيا حتى يقال بتقدم مراعاة الحرام - المعلوم
هنا بين المشتبهين - على الواجب الذي هو الوضوء والإزالة كما اخترناه في
المسألة السابقة، بل هو منع تشريعي من جهة عدم الأمر بهما مع انحصار الرافع في
المضاف.
ولا ريب في عدم مزاحمة المنع التشريعي للأمر الأصلي، فإن مع تحقق الماء
المطلق هو مأمور برفع الحدث وإزالة الخبث، ولا ينافيه إعمال المضاف الموجود
في البين لوقوعه لغوا بعد حصول المطلوب بالماء المطلق، وتشريعيته مرتفعة
بالاحتياط، فيجب عليه إعمالهما معا في حدثه وخبثه ليحصل العلم بالخروج عن
عهدة تكليفه وامتثال أمره، ومنعنا في المسألة السابقة إنما هو للتشريع من جهة
136

المنع عن استعمال القذر فلا أمر بالوضوء، ومع عدم الأمر بكون الإتيان بالوضوء
تشريعا أو لأجل ما ذكرناه من تقديم مراعاة الطهارة الخبثية في الصلاة على
الطهارة الحدثية، أو لقيام الأدلة الخاصة من النص والإجماع على المنع في
المسألة السابقة عن استعمال المشتبه بالخصوص كما تقدم، ولا شيء منها في
المقام يقتضي المنع لو لم يدع قيام الإجماع هنا على الوجوب.
قوله (قدس سره): (أما بين الغصب وغيره فلا يجزي التكرار في الوضوء
والغسل) لأن المغصوب ممنوع التصرف ذاتا، فلا يبقى معه أمر، لما تقرر في
محله من عدم اجتماع الأمر والنهي، وأن الأمر مرتفع بالنهي، والمعلوم بالإجمال
كالمعلوم بالتفصيل بعدما أصلناه من كفاية العلم الإجمالي في التنجز، فيكون
الواجب المؤدى مع النهي فاسدا، لاقتضاء النهي في العبادة الفساد، إذ لا يرضى
الشارع (عليه السلام) بأن يطاع في ضمن المعصية.
ومنه يعلم صحة الطهارة الحدثية في المقام فضلا عن الخبثية لو ارتفع عنه
فعلية النهي بأحد الأعذار المرتفعة معه تنجز التكليف، فافهم.
قوله (قدس سره): (ولا يجوز استعمال أحدهما في إزالة الخبث، لكن لو فعل
تحصل الطهارة) وجه عدم الجواز ما عرفته من أن الاحتراز عن كل من أطراف
الشبهة مقدمة للخروج عن عهدة التكليف المنجز بالعلم الإجمالي لازم، وهو لا
يجتمع مع الأمر بالأدلة، لما عرفت.
وأما وجه حصول الطهارة به بعد الارتكاب فلأن من شأن الماء المطلق إزالة
الخبث به عند استعماله فيها ولا يضر حرمة الاستعمال كما لو استعمل نفس
المغصوب، لعدم اقتضاء النهي في المعاملة الفساد، سيما النهي المقدمي ما لم يتعلق
بأركانها وما به قوامها، كما في المقام فإنه متعلق بأمر خارج منها مجتمع معها في
الوجود الخارجي، إذ النهي تعلق بالغصب واجتماعه مع المأمور به وهو الغسل من
اجتماع الأمر والنهي بعكس استعمال النجس في التطهير فإنه محظور في الشرع
ذاتا بالإجماع والأخبار كما بين في المقام وفي باب المكاسب.
137

قوله (قدس سره) في
(المبحث الرابع)
من مباحث الفصل الأول، وهو آخرها:
(الماء المضاف كماء الورد ونحوه ينجس القليل والكثير منه بالملاقاة
لا العالي المتصل بالوارد على النجس حال التدافع) بشرط أن يكون تسنيما
أو تسريحا يشبه التسنيم، كما علق عليه الأستاذ - طاب ثراه - لما عرفته في القليل
من عدم الفرق في انفعال غير المعتصم بين ورود النجس عليه أو وروده على
النجس، ولا بين عاليه وسافله مع صدق الوحدة الحاصلة بالاتصال، خرج منه ما
قام الإجماع عليه من عدم انفعال هذا الجزء وهو ماله علو معتبر، وهو في حال
التدافع فيعمل في غيره بمقتضى القاعدة لفقد الدليل المخرج.
والمضاف من أقسام المياه هو ما لا يستحق إطلاق اسم الماء عليه بلا قيد،
ويصح سلب غير مقيده عنه بعكس الماء المطلق.
والمشتبه الغير الممكن تمييزه كما هو شأن الأفراد الخفية للمفاهيم المرجوع
فيها إلى تشخيص العرف محكوم بحكم المضاف، لأن الأصل في ملاقي النجس
كما عن الغنية الاستدلال على نجاسة الماء القليل بالملاقاة بقوله تعالى: " والرجز
فاهجر " (1) فإن المركوز في أذهان المتشرعة اقتضاء النجاسة في ذاتها للسراية
كما أسسه الأستاذ.
ويظهر ذلك من التتبع في الأخبار أيضا مثل قوله (عليه السلام) - في الرد على من قال:
لا أدع طعامي من أجل فارة ماتت فيه -: " إنما استخففت بدينك حيث إن الله حرم
الميتة من كل شيء " (2) فإن من الواضح أن أكل الطعام المذكور ليس استخفافا
بحرمة الميتة ليأتي منه الاستخفاف بالدين إلا من أجل ما هو مركوز في الأذهان

(1) المدثر: 5.
(2) الوسائل 1: 149، الباب 5 من أبواب الماء المضاف، ح 2.
138

من استلزام نجاسة الشيء لنجاسة ما يلاقيه.
ويدل عليه أيضا ما قدمناه من أن المستفاد من أدلة اعتصام الكر اقتضاء
الملاقاة للانفعال، فكما أن مشكوك الكرية الغير المسبوق بها محكوم بانفعاله
بالملاقاة فكذلك المشكوك إضافته وإطلاقه الغير المسبوق بالإطلاق محكوم
بانفعاله بها، للشك في تحقق ما هو مانع عن الاقتضاء، وهو الكرية والإطلاق
فيؤثر المقتضي أثره.
ومنه يعلم إجراء حكم المضاف على الممتزج من مضاف ومطلق على وجه
يعلم عدم صدق الإسمين عليه، لكفاية سلب الماء عنه في عدم ترتب آثاره عليه،
لإناطة ترتب أحكام الماء على ما يصدق عليه الماء عرفا، والمفروض انتفاؤه
في المقام.
وليس كذلك لو امتزج بمائع غير المضاف أو بجامد بحيث لم يحرز فيه عدم
صدق الماء، بل شك في صدق الماء المضاف عليه محكوم بالطهارة، لجريان
الاستصحاب فيه فيحرز إطلاقه بالأصل.
وتوهم تغير الموضوع المانع من جريان الاستصحاب مدفوع، لصدق بقائه
والرجوع في إحرازه يعرف كما حكمناه في استصحاب الكرية.
ويدل على انفعال المضاف بملاقاة النجس - مضافا إلى ما مر - خصوص
ما ورد في وجوب إراقة المرق الذي وجد فيه فارة (1)، وما دل على نجاسة السمن
والزيت الذي ماتت فيه فارة (2) إذا كان ذاتيا، بتقريب أن النجاسة أتته من قبل
الميعان، فيكشف عن وجود مقتضي الانفعال في المائع ما لم يعتصم بمعتصم، وما
دل على نجاسة سؤر اليهودي والنصراني (3) الشامل للمضاف أيضا.
ثم إن تنجس المائع بالنجس يستلزم تنجس الجامد به لو كان عليه رطوبة

(1) الوسائل 1: 150، الباب 5 من أبواب الماء المضاف، ح 3.
(2) الوسائل 1: 149، الباب 5 من أبواب الماء المضاف، ح 1.
(3) الوسائل 1: 165، الباب 3 من أبواب الماء المضاف، ح 1.
139

مسرية، وادعى الشيخ الأستاذ - طاب ثراه - كونه إجماعيا، بل ضروريا عند
المتشرعة وإن حكي عن بعض المتأخرين شكه في تنجس الشيء بملاقاة
المتنجس الذي ليس معه نجاسة عينية، بل تقويته عدمه.
كما أن عدم السراية من السافل إلى العالي جعله مذهب الكل عدا سيد
مشايخه في المناهل، وحكى الإجماع عليه عن ظاهر مصابيح الطباطبائي
ومنظومته من قوله (قدس سره):
وينجس القليل والكثير * منه ولا يشترط التغيير
إن نجسا لاقى عدا ما قد علا * على الملاقي باتفاق من خلا
وعن المدارك القطع بعدم السراية، كما عن الرياض دعوى عدم معقوليتها،
وبعد ذا كله لا يوجب مخالفة سيد المناهل شكا ولا تزلزلا.
قوله (قدس سره): (ولا يزيل حدثا ولا خبثا) أما أنه لا يرفع الحدث مطلقا
فبالإجماع كما في الجواهر والمستند وطهارة الأستاذ، وعن صريح جماعة كالغنية
والمبسوط والاستبصار والتهذيب والسرائر والشرائع والتذكرة والنهاية والتحرير.
ولكن عن المعتبر عن الخلاف حكاية جواز الوضوء بماء الورد عن بعض
أصحاب الحديث، ولعله الصدوق، لأنه حكى عن كتابه أنه قال: لا بأس بالوضوء
والغسل من الجنابة والاستياك بماء الورد.
وحكي عن العماني أنه قال: ما سقط في الماء مما ليس بنجس ولا محرم فغير
لونه أو طعمه أو رائحته حتى اضيف اليه مثل ماء الورد وماء الزعفران وماء
الخلوق وماء الحمص وماء العصفر فلا يجوز استعماله عند وجود غيره، وجاز في
حال الضرورة عند عدم غيره.
واستدل الصدوق برواية سهل بن زياد عن محمد بن عيسى عن يونس عن
أبي الحسن (عليه السلام): " عن الرجل يغتسل بماء الورد ويتوضأ به للصلاة قال (عليه السلام):
لا بأس به " (1).

(1) من لا يحضره الفقيه: في باب المياه وطهرها ج 1 ص 6، إلا أنه أفتى به ولم يأت بالرواية.
140

ويكفي في ردها ما حكاه الأستاذ عن التهذيب من أنه قال: " إنها شاذة
أجمعت العصابة على ترك العمل بها، ويؤيد دعوى التهذيب ما عن السرائر من
نفيه الخلاف في عدم رافعيته بين المحصلين، وما عن الذكرى من أن قول الصدوق
يدفعه سبق الإجماع وتأخره، وأسوأ حالا منه قول ابن أبي عقيل مع عدم ظهور ما
نقل عنه في المخالفة ظهورا تاما لعدم وجدانهم سندا له سوى الرواية بحملها على
حال الضرورة مع ما فيه حينئذ من الأخصية من المدعي للاستظهار من كلامه
جواز مطلق الطهارة بمطلق المضاف، ولأن الآية: " فلم تجدوا ماء " (1) تنفيه، فإن
وجوب التيمم فيها علق على عدم الماء، والمضاف ليس بماء كما هو محقق.
ودعوى صدق الماء المطلق على ماء الورد كما حكي عن بعض المتأخرين -
ولعله صاحب المفاتيح - يكذبها العرف كما حققناه.
وكذا ينفيه صريح المستفيضة كخبر عبد الله بن مغيرة، ولعله الذي جعله في
المستند صحيحة ابن المغيرة عن بعض الصادقين: " إذا كان الرجل لا يقدر على
الماء وهو يقدر على اللبن فلا يتوضأ باللبن إنما هو الماء والتيمم (2) " وخبر أبي
بصير: " عن الصادق (عليه السلام) بعد أن سأله عن الوضوء باللبن قال (عليه السلام): إنما هو الماء
والصعيد " (3).
فإن في حصره (عليه السلام) الطهور بالماء والصعيد دلالة وافية على عدم رافعية
غيرهما كائنا ما كان، خصوصا بعد تعقب الحصر عن نفيه (عليه السلام) جواز الوضوء باللبن
الذي هو أحسن المضافات وأقربها إلى الماء لكثرة ما فيه من الماء فمنعه عليه
السلام من أن يتوضأ به - وهو أحسنها - يدل على المنع عن غيره بالفحوى. واللبن
هو المخيض الذي يسمى بالفارسية بالدوغ. فالمسألة بحمد الله خالية عن الإشكال.
وأما عدم جواز إزالة الخبث به فهو المشهور كما في شرح الأستاذ، لانصراف

(1) النساء: 43.
(2) الوسائل 1: 146، الباب 2 من أبواب الماء المضاف، ح 2.
(3) الوسائل 1: 146، الباب 2 من أبواب الماء المضاف، ح 1.
141

إطلاقات الغسل إلى ما يكون بالماء، بل عن المنتهى والذكرى أنه معتبر في وضعه
بمعنى أن الغسل وضع لما يكون بالماء. ولا ريب أن هذا المقدار كاف في الظهور
اللفظي، إذ لو لم يكن ظاهر الغسل في العرف هو ما يقع بالماء ولم يتبادر منه ذلك،
ولم يكن مسلما عندهم بمقتضى فهمهم من الأدلة عدم كفاية غيره لم يسمع لهذين
الجليلين أن يدعيا اعتباره في الموضوع له، ولقوله (عليه السلام): " كيف يطهر من غير
ماء؟ " (1) وقوله (عليه السلام) في حديث: " كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم قطرة من
البول قرضوا لحومهم بالمقاريض، وقد وسع الله عليكم بأوسع ما بين السماء
والأرض وجعل لكم الماء طهورا " (2)، بدعوى ظهوره كما عن الأستاذ - طاب
ثراه - في قصر الحكم على الماء في مقام الامتنان وفي حصر المطهر فيه.
ويؤيده ما في المستند من قوله (عليه السلام): " لا يجزي في البول غير الماء " (3) وما
مر من قوله (عليه السلام): " كيف يطهر من غير ماء "؟
ولما ورد في الصحيح: " عن رجل " أجنب في ثوبه وليس معه غيره قال (عليه السلام):
" يصلي فيه " (4) الظاهر في أنه لا مطهر له غير الماء، وإلا لبينة (عليه السلام)، ولقوله (صلى الله عليه وآله):
" طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسل ثلاثا أولهن بالتراب " (5) الظاهر في
حصر الطهور بالمذكور فيه.
ولما ورد في وجوب صرف الماء الكافي لرفع الحدث في إزالة الخبث
والتيمم من غير استفصال بين وجود المضاف المزيل للنجاسة وعدمه.
ولما ورد في بيان كيفية تطهير الإناء وغيره مما ظاهره تعيين الماء للإزالة،
وأمثالها كثيرة متفرقة في أبواب النجاسات. ولا ريب في كفاية تلك الظواهر

(1) الوسائل 2: 1043، الباب 29 من أبواب النجاسات، ح 7.
(2) الوسائل 1: 100، الباب 1 من أبواب الماء المطلق، ح 4.
(3) الوسائل 1: 223، الباب 9 من أبواب أحكام الخلوة، ح 6.
(4) الوسائل 1: 1066، الباب 45 من أبواب النجاسات، ح 1.
(5) سنن البيهقي: ج 1 ص 240، وفيه: سبع مرات.
142

الخاصة لتقييد مطلقات الغسل لو منع ظهورها فيما ادعيناه من اعتبار الماء وادعي
شمولها لكل مزيل للعين كما صدر عن بعض.
هذا كله مع أن الأصل مقتضاه ذلك بعد ما تعرفه من عدم تمامية دليل المقابل
وإن أغضينا النظر عن تلك الظواهر، وحكي عن المعتبر نسبة القول بكفاية المضاف
في تطهير الأخباث إلى المفيد والسيد (قدس سرهما)، لأنه نقل عن السيد أنه قال: " يجوز
عندنا إزالة النجاسة بالمائع الطاهر غير الماء ". وبمثله قال المفيد، وعن بعض
رسائل المحقق أن السيد (رضي الله عنه) أضاف ذلك إلى مذهبنا، وظاهره دعوى الإجماع.
وعن المعتبر الاحتجاج له باطلاقات الغسل، وبأن الأصل جواز الإزالة بكل
مزيل للعين، فيجب عند الأمر المطلق جوازه تمسكا بالأصل، وبأن الغرض إزالة
عين النجاسة كما يشهد لذلك ما رواه حكم بن حكيم الصيرفي قال: " قلت
للصادق (عليه السلام): لا اصيب الماء وقد أصاب يدي البول فأمسحه بالحائط والتراب،
ثم تعرق يدي فأمسح وجهي أو بعض جسدي أو يصيب ثوبي، قال (عليه السلام): لا
بأس " (1). وعن غياث بن إبراهيم عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن علي صلوات الله عليه
قال (عليه السلام): " لا بأس بأن تغسل الدم بالبصاق " (2).
لا يخفى عليك أن الأصل الموضوعي لو سلم جريانه يقدم على الأصل
الحكمي، والمقام من هذا القبيل، وإن قلنا بأن أصل البراءة في نفسه لا يقدم على
الاشتغال، بل هو مقدم عليه فالأولى منع أصالة الجواز، لأنه إن اريد بها البراءة في
مقام العمل لنفي حرمة الفعل، فهو لا ينفع في ترتيب آثار حصول الطهر لهذا
النجس الممنوع الصلاة معه المزال بالبصاق.
ثم أجاب عنه بمعارضة الأصل بأصالة المنع عن الدخول في الصلاة،
وبانصراف الإطلاق إلى المتعارف كما في قول القائل: " اسقني، وبأن زوال النجاسة
بالتراب يقول به الخصم، وخبر غياث متروك أو محمول على جواز الاستعانة في

(1) الوسائل 2: 1005، الباب 6 من أبواب النجاسات ح 1.
(2) الوسائل 1: 149، الباب 4 من أبواب الماء المضاف ح 2.
143

غسله بالبصاق. واستجوده الأستاذ - طاب ثراه - بعد الحكاية، وهو جيد لا ضير
فيه إلا معارضة الأصل، فقال - طاب ثراه -: " إنه محل نظر " ولم يبين وجهه.
والظاهر أن وجهه أنه إذا سلم تصحيح إطلاق أوامر الغسل بالأصل لا يبقى
مجال لجريان أصالة المنع، لأن الأصل يرفع بالإطلاق، ولأن الأصل الذي اجري
في نفي تقييد المطلق وسلم أن مفاد جريانه تصحيح الإطلاق ولو كان هو البراءة
هو حاكم على غيره من الاصول، وإن كان ذلك الغير حاكما عليه بلحاظ أنفسهما،
فالأحرى منع الأصل الذي به يحرز إطلاق أمر الغسل، لأنه ليس أصالة عدم القيد
عند الشك فيه، لأنه منوط بإحراز الإطلاق أولا ثم الشك في تقيده بمقيد خارجي.
وقد عرفت أن مطلقات الغسل إما ظاهرة في الغسل بخصوص الماء وإما مهملة
لا ظهور لها في شمول غيره، لأنها واردة حينئذ في مقام إزالة النجاسة وممنوعية
الصلاة معها، وأما كيفية الإزالة وأنها بما يزال؟ فهي حينئذ ساكتة عنها، فالظاهر أن
الأصل الذي حاولوا به تصحيح الإطلاق هو أصالة البراءة عن الكلفة الزائدة كما
يعطيه قوله: " فيجب عند الأمر المطلق جوازه " فإن ظاهره أن غاية ما يسلم ثبوته
من الأوامر التكليف بالإزالة مطلقا، وأما كونها على وجه خاص أو بشيء
مخصوص فهو تكليف زائد لا يفيده إطلاق، فالأصل البراءة منه فيسلم الإطلاق.
وغير خفي عليك ما فيه، لأن اجراء البراءة متوقف على خلو المورد عن دليل
واف ولو موافق لها بالمرة.
وبعد تسليم إجمال الأدلة وعدم وصول البيان - الذي هو محقق مجرى البراءة -
لا شك أن المورد وهو ما ازيل عنه النجاسة بغير الماء وشك في حصول الطهر له
الذي يريد الخصم أن يقنع فيه بما استعمل فيه بسبب البراءة من مجرى الاستصحاب،
وبعد ثبوت بقاء النجاسة ولو بالأصل يتوجه الأمر الأول المتعلق بإزالتها، فليس
هناك تكليف زائد يرفع بالأصل، بل الباقي حينئذ هو التكليف المجمل الثابت
بأوامر الغسل المجملة بالفرض المشكوك الارتفاع بهذه الكيفية من الأداء.
ولا ريب في جريان أصالة المنع حينئذ لعدم المعارض لها، وأما الإجماع
144

الذي يظهر من كلام السيد فقد حكى الأستاذ عن المحقق أنه وجهه بأن من مذهبنا
العمل بالبراءة الأصلية ما لم يثبت لناقل، وهنا لم يثبت. وعليه فعدم الاعتداد به
واضح لا يحتاج إلى تكلف.
ولذا قال الأستاذ: ولولا هذا التوجيه لظننا موافقة بعض من تقدم عليهما لنا في
هذه المسألة، واستظهار الإجماع على عدم الكفاية كما ادعاه صريحا في الجواهر
معللا بمعلومية نسب المخالف وانقراض خلافهما. لا يخفى عليك أنه في غير محله.
ثم إنه حكى الأستاذ عن السيد في دفع ما اعترضه على نفسه من دعوى
انصراف المطلقات إلى المعتاد وهو الغسل بالماء وجهان:
أولهما: أن تطهير الثوب ليس إلا إزالة النجاسة عنه، وقد زالت بغير الماء
مشاهدة وبالعيان، والثوب لا يلحقه عبادة.
ثانيهما: استلزام تسليم الانصراف عدم جواز الإزالة بماء النفط والكبريت
وقد جازت إجماعا، وسلم منه الأستاذ الانصراف فيهما وأجابه بالفرق بين
الانصرافين وبأن شمول المطلق أو حكمه لبعض الأفراد النادرة لا يوجب التعدي
إلى غيره منها.
وعندي أن الانصراف غير مسلم حتى البدوي منه الذي هو مرجع فرق
الأستاذ بينهما، لأن ماء النفط عبارة عن المياه التي فيها معدن النفط والعين التي
ينبع النفط منها من البحار والأنهار ومائهما من أفراد المطلق، بل من أوضحها
وأشيعها وينتفع به جميع أقسام الانتفاع من الماء المطلق، وكذلك ماء الكبريت
فإنها عبارة عن الماء الذي يوجد في بعض البلاد من العيون الحارة التي ينفع
دخولها لدفع بعض الأمراض الصعبة المزمنة، ولا فرق بينها وبين سائر المياه
المطلقة إلا في الحرارة وترتب تلك الخاصية عليها.
ولا ريب في عدم ايجابهما الانصراف قطعا، لما تشاهده أن أهل العرف لا
يفرقون بينهما في سائر الآثار المرتبة على الماء المطلق بخلاف انصراف مطلقات
الغسل والإزالة إلى كونها بالماء دون سائر المزيلات، لعدم الشبهة في كون غير
145

الماء من الأفراد النادرة، بل الأندرة التي لا ينصرف إليها الذهن من لفظة الغسل
أبدا لو لم نقل أن كونه بالماء مأخوذ في وضعه لغة كما يشهد له تبادره منه عرفا.
وأما دعوى كفاية إزالة العين في التطهير كما عليه احتمل الفيض الكاشاني
على ما حكي عنه، لأنه قال - بعد النقل عن السيد (رضي الله عنه) جواز تطهير الأجسام
الصقيلة بالمسح بحيث يزول العين عنها -: " وهو لا يخلو عن قوة، إذ غاية ما
يستفاد من الشرع وجوب اجتناب أعيان النجاسات، أما وجوب غسلها بالماء من
كل جسم فلا " انتهى.
فلا يخفى ما فيها لمخالفتها للفتاوى والنصوص الكثيرة، وللاتفاق على
استصحاب حكم النجاسة من الكل حتى الأخباريين، بل عد مثله الأمين
الأسترآبادي من ضروريات الدين على ما حكاه الأستاذ. فتبين أن المسألة بحمد
الله خالية عن الاشكال، هذا.
مضافا إلى أن ما ذكراه من إناطة الحكم بزوال العين لا شاهد لهما عليه،
بل لا أظن أنهم يلتزمون به لاستلزامه الحكم بعدم الحاجة إلى الغسل في مثل
البول الصافي إذا جف، وفي ملاقاة الكافر وأخويه الكلب والخنزير، وأشباهها من
الموارد المحكومة بنجاستها مع الخلو عما يدرك بالمشاهدة، هذا.
مع أن المناط هو مشاهدة من بصره حديد، وقد أخبر بوجود العين كما سبق
في حكاية الاستخفاف بالدين في الفارة الميتة، مع أن السائل سأل عن الحكم بعد
إخراج عينها.
وأما مسألة تمسكهم بأصالة جواز الاستعمال في ما لم يرد فيه منع ففيه: أن
مسألة الحظر والإباحة موردها فعل المكلف، ولا ربط له بحصول الطهر في الثوب
النجس المغسول بالمضاف وعدم حصوله فيه، فافهم واستقم.
قوله (قدس سره): (وتطهيره كتطهير الماء بعد أن يخرج عن الإضافة إلى
الإطلاق) قد يتراءى من العبارة أنه يعتبر في تطهيره تعقب ايجاد المطهر فيه
لقوله بعد خروجه عن الإضافة إلى الإطلاق، وعليه فلا يكفي تقارنهما وليس
146

بمراد لتصريحه في الجواهر بكفاية المقارنة، فالمراد من قوله: " بعد أن يخرج...
الخ " للاحتراز عن أنه لا يكفي فيه مجرد إلقاء الكر عليه مثلا مع بقاء مضافيته، كما
كان يكفي ذلك في تطهير الماء لخروج المطهر حينئذ عن الطهارة، لصيرورته
مضافا ملاقيا للنجس فينجس، فلا قابلية له للتطهير.
فتحصل أنه يطهر بامتزاجه بماء معتصم على وجه يخرج به عن الإضافة إلى
الإطلاق، وقابلية المضاف للتطهير بهذا لا لنحو مانع منه، وعليه الأصحاب، إذ لم
ينسب الخلاف فيه إلى أحد، بل كل من تعرض له تلقاه بالقبول.
وعليه فيكفي في طهره خروجه عن الإضافة وبقاء المطهر بما عليه من صدق
المطلق عليه. وبه صرح الأستاذ وشيخ الجواهر بل لم ينسبوا الخلاف فيه إلا إلى
المبسوط من قوله: " لا يطهر - يعني المضاف - إلا بأن يختلط بما زاد عن الكر
الطاهر المطلق، ولم يسلبه الإطلاق، ولا غير أحد أوصافه، فإن سلبه أو غير أحد
أوصافه لم يجز استعماله، وإن لم يغيره ولم يسلبه جاز استعماله في ما يستعمل فيه
المياه الطاهرة " انتهى.
وليس في المحكية في الجواهر ثم نظر فيه قال: بل عطف " لم يسلبه " على
سابقه بالواو، وذكر الأستاذ أن في النسخة التي عندنا عطف " غير " بالواو لا ب‍ " أو "
فعليه فيه ظهور لكونه عطفا تفسيريا، وعلى نسخة " أو " فظاهره أنه يعتبر زيادة
على سلب الاسم عدم تغير المطلق بصفات المضاف، وهذا ما نسب اليه سابقا من
حكمه بتنجس الكر بتغييره بأوصاف المتنجس. وقد مضى الكلام فيه مستوفى،
وأن المعتبر في انفعاله تغيره بالنجس أو بصفات المتنجس الحاصلة له من عين
النجاسة وملاقاتها له.
وعن التحرير: " ويطهر - يعني المضاف - بالقاء كر عليه فما زاد دفعة بشرط
أن لا يسلبه الإطلاق ولا يغير أحد أوصافه " انتهى. وظاهره موافقته للشيخ، ولكن
عن بعض نسخ التحرير: " وإن غير أحد أوصافه " وعليه فهو كباقي كتبه كما حكي
عن المعتبر.
147

وكيف كان فالأقوى طهره بالماء المعتصم وأنه لايضره التغيير مع بقاء صدق
المطلق على المجموع بعد الامتزاج لوجوه لعل مرجع اثنين منها إلى واحد.
الأول: القطع بعدم اختلاف الماءين الممتزجين غاية الامتزاج بحيث اتحدا
وارتفع عنهما الاثنينية، إذ لو لم يطهر لزم إما التزام اجتماع حكمين مختلفين في
ماء واحد، أو التزام نجاسة المعتصم وهو مخالف لأدلة اعتصامه.
الثاني: أن المضاف النجس يصير ماء مطلقا فيطهر بامتزاجه بالكثير المطلق
اجماعا، كما تقدم في تطهير القليل المنفعل.
ودعوى اعتبار كون الامتزاج بالكثير بعد صدق كونه ماء مطلقا، والمفروض
أن اطلاقه بالامتزاج فلا مطهر له بعد صيرورته مطلقا مدفوعة، بأن المقصود من
الامتزاج تلاشي الأجزاء ولو قبل صيرورته ماء مطلقا، إذ المفروض انعقاد
الإجماع على أن الماء المطلق المتلاشي في أجزاء الكثير لا يقبل النجاسة
العارضة لاتحاده مع الكثير، ولا يتحمل النجاسة السابقة الكائنة فيه لتعاند التحمل
مع وحدته للكثير الغير المتحمل لها بوجه، كما هو المفروض بسبب مخالفته لأدلة
اعتصامه. وهذا وجه ارجاع هذا الوجه إلى سابقه.
الثالث: استفادة ذلك مما دل على عدم انفعال الماء الكثير بوقوع الأبوال
النجسة والدم والعذرة فيه، إذ من المعلوم أن هذه النجاسات توجب صيرورة
أجزاء يسيرة من الماء مجاورة لها مضافة بملاقاتها، بل صيرورتها هي بنفسها
مضافة بسبب خلطها مع الماء. وقد حكم الشارع بطهر الجميع، وهو لا يكون إلا
بالاستهلاك، فعلم منه أن استهلاك المضاف النجس بالكثير المطلق مطهر له.
ومن ذلك كله تبين أنه لا يضر تغيير الماء بصفة المتنجس ما لم تكن حاصلة
من النجاسة عند بقاء صدق الإطلاق في الماء، وكون المطلق معتصما لكثرته.
ومنه يتبين أنه لو خرج بعض الكر الملقى عن الإطلاق لا ينفع بقاء الاطلاق
للباقي في التطهير، لأن المطلق القليل غير معتصم والمضاف باق بنجاسته عند
ملاقاته، فينفعل البقية بملاقاة النجس. ولعل هذا هو وجه اعتبار الشيخ القاء
148

الزيادة عن الكر في تطهير المضاف.
ومنه يجي اعتبار الدفعة هنا، وإن اكتفينا بالتدريج في تطهير القليل، لأن عدم
انفعال الكر بملاقاة النجس واعتصام بعضه بالبعض إنما هو للاتصال الصادق به
الوحدة مع صدق المطلق عليه بتمامه، فإذا خرج بعد عن الإطلاق وصار مضافا
يسقط عن قابلية الاعتصام، إذ لا عاصمية للمضاف، وما بقي مطلقا قليل ينفعل
بملاقاة النجس، لعدم تقوي الأجزاء الاخر بهذا الجزء المسلوب عنه الإطلاق، بل
ذكرنا في الجاري المتغير أن التغير مانع عن تقوي المتفاصلين بعضهما ببعض، ففي
المضاف أولى، فعليه لو تفاصل أجزاء الكر في المضاف بعضها عن بعض وفصل
بينها اجزاء المضاف على وجه قطع اتصالها بالمرة وقام اتصالها بعضها ببعض على
اتصالها بالمضاف تنجس جميعه ولو كان أكثر من كر ما لم يبلغ المجتمع منه
بالوصل بأنفسها كرا.
ومنه يتبين عدم كفاية الخروج عن الإضافة إلى الإطلاق بعد الملاقاة والإلقاء،
بل لا بد من السبق أو المقارنة حتى لا ينفعل الكر بالمضاف، ومنه يتبين عدم صحة
ما عن العلامة من قوله بكفاية امتزاجه مع الكر، وإن بقي الإضافة، لما عرفته من
خروج الكر عن الاعتصام والمطهرية حينئذ، فإن شرط مطهريته إطلاقه وتقوي
أجزائه بعضه ببعض، وقد ذهبا عنه بغلبة المضاف عليه وصيرورته مضافا عرفا.
نعم يكفي التدريج هنا أيضا ما لم يترتب عليه ما ذكرناه من المفسدة وهو
صيرورة بعضه مضافا بأول الملاقاة بأن فرض أن كل جزء منه وارد على جزء من
المضاف يغلب عليه ويخرجه عن الإضافة إلى الإطلاق. فحينئذ لا يضر التدريج،
لما قدمناه من اعتصام أجزاء الكر بعضها ببعض مع الاتصال الآتي معه صدق
الوحدة، فالمناط انقلاب المضاف مطلقا بمزجه بالمطلق المعتصم لا بغيره ولا بغير
المعتصم منه.
الرابع: الإجماع على قبول المضاف للتطهير، لاتفاقهم على قبوله له على
اختلاف أقوالهم الثلاثة في كيفيته وملاقاته للكر مع فرض بقائه على اعتصامه من
149

إطلاقه وتقوي أجزائه بعضه ببعض، لصدق وحدته مع ما هو من جنسه حينئذ،
لفرض صيرورة المضاف ماء مطلقا، فلا يضر تلاشي أجزائه فيما لا يسلبه
الإطلاق ولا يزاحم اعتصامه، ومع بقاء الوصفين فهو مطهر لما لاقاه إجماعا كما
تقدم في تطهير الماء النجس.
قوله (قدس سره): (وحكم المائع غير المضاف حكم المضاف فيما عرفت)
لعدم الفرق بينهما في الأحكام المذكورة بحسب الأدلة.
فرعان:
الأول: لو صدق الإطلاق على هذا المتنجس الملقى عليه الكر من المضاف
وغيره في أول آن إلقاء الكر عليه ثم غلب على الماء وأخرجه عن الإطلاق، وإن
لم يصدق عليه المضاف أيضا يحكم بطهارته وعدم جواز التطهير به ثانيا.
أما الأول: فلصدق استهلاك المتنجس في الماء المعتصم الذي هو مناط
حصول الطهر له.
وأما الثاني: فلأن من شرط إزالة الخبث أن تكون بالماء المطلق، والمفروض
سلب الإطلاق عن الماء المذكور، ولعله اليه يرجع ما عن القواعد: " لو نجس
المضاف، ثم امتزج بالكثير المطلق فغير أحد أوصافه فالمطلق على طهارته، فإن
سلبه الاطلاق خرج عن كونه مطهرا لا طاهرا " انتهى.
ومثله أو قريب منه ما عن المنتهى وأشار بقوله: " فالمطلق على طهارته " إلى
خلاف الشيخ من حكمه بالتنجيس بالتغير الحاصل من صفات المتنجس، وقد
تقدم، إذ لو أراد سلب الإطلاق في أول آن الملاقاة وعدم مطهريته لما القي فيه من
المضاف لا معنى - حينئذ - لعدم خروجه عن الطهارة، لأنه - حينئذ - مضاف ملاق
للنجس فينجس، وتقارن خروجه عن الإطلاق لخروج المضاف عن الإضافة، مع
أنه غير متعقل غير مثمر، لأنه لا يكفي في طهر المضاف مجرد خروجه عن
الإضافة، بل المعتبر فيه صدق صيرورته مطلقا، مضافا إلى أنه لو اكتفى في طهره
بخروجه عن الإضافة - أيضا - فلا يلزمه بقاء الماء المسلوب عنه الإطلاق
150

بطهارته بتخيل أنه لا منجس له - حينئذ - لصيرورة المضاف طاهر، لأنه يكفي في
انفعالهما معا بقاء محله على النجاسة كما عن كاشف اللثام تبعا لجامع المقاصد
التنبيه عليه. ومنه يتبين أن في صورة الشك وتساقط الأصلين أي الاستصحاب
فيهما لا ينفع الرجوع إلى أصالة الطهارة.
الثاني: لو كان عند المكلف برفع الحدث - مثلا - من الماء ما لا يكفيه لطهارته
وعنده مضاف لو خلط منه بالماء ما لا يسلبه الإطلاق ويقضي به وطره لا يبعد
القول بوجوب الخلط، لأن جواز التيمم مشروط بعدم التمكن من الماء لا بعدم
الماء، ومثل هذا الشخص لا يصدق عليه أنه غير متمكن.
قوله (قدس سره): (ولا نجاسة في شيء من الأسئار إلا الكافر وأخويه الكلب
والخنزير) المقصود من الاستثناء هو نجس العين كلية وذكر الثلاثة لعدم تحقق
مصداق خارجي لها في الحيوان غيرها، والكافر يشمل من حكم بكفرهم من
الفرق المنتحلة للاسلام. والتلازم بين جسم الحيوان وسؤره هو المشهور في
الطهارة والنجاسة وهو مقتضي الأدلة أيضا، إلا أنه عن ظاهر السرائر نجاسة سؤر
ما يمكن التحرز منه من حيوان الحضر غير الطير والمأكول اللحم، وربما ينسب
هذا أو ما يقرب منه إلى التهذيب والاستبصار والمبسوط من استفادة النجاسة من
حكمه بالمنع فيه.
ويرد هذا القول عدم الدليل عليه، وأن مقتضى الأصل والتلازم المذكور
المحكي عليه الإجماع هو الطهارة، بل يمكن دعوى الإجماع المحصل على
الطهارة سيما مع عدم تعقل كون الملاقي طاهرا وملاقاته موجبا لنجاسة الملاقي،
هذا مضافا إلى حكاية الإجماع على خصوص الطهارة التي هي محل الكلام من
جماعة كالغنية والخلاف وظاهر الناصريات وأطعمة السرائر من قوله في تقسيم
الحيوان المحرم إلى الطاهر والنجس، وحصر الثاني في الكلب والخنزير، وتعميم
الأول لما عداهما بدلالة إجماع أصحابنا على أنهم أجازوا شرب سؤرها في حال
الضرورة والوضوء منه، ولم يجوزوا ذلك في الكلب والخنزير، انتهى.
151

مضافا إلى نفي البأس عنه في أخبار كثيرة، وبها يرد ما استدل به للمنع لو سلم
سنده ودلالته مثل قوله (عليه السلام): " كل ما اكل لحمه فلا بأس بأن يتوضأ من سؤره
ويشرب " (1) هذا مضافا إلى عدم مقاومته لها سندا ودلالة مع استلزام قبول مفهومه
في الدلالة على المنع التخصيص بالأكثر، للزوم تخصيصه بما دل على طهارة بعض
الأسئار كسؤر الهرة مثلا، معللا بطهارة الحيوان، وبما دل على جواز استعمال سؤر
غير الكلب، والخنزير كلب، وهو كثير فاللازم حمل البأس فيه على الكراهة،
فيكون البأس المنفي أعم من الحرمة والكراهة.
قوله (قدس سره): (نعم يكره سؤر غير مأكول اللحم عدا المؤمن) في كلية
المستثنى، وقصر المستثنى منه على غير المأكول إشكال يظهر بالتتبع في الكتب
المفصلة.
والسؤر المتكلم فيه في الفقه هو مطلق ما باشره جسم حيوان أو خصوص
الماء المباشر له، وإن اختص في اللغة - على ما حكي - بخصوص البقية مطلقا، أو
من المأكول والمشروب، أو خصوص الثاني، أو خصوص الماء، أو مقيدا أيضا
- على احتمال - بما باشر آنيته الفم مع اعتبار القلة فيها.
[الفصل الثاني في أحكام الخلوة وفيه مباحث] (2)
قوله (قدس سره):
(المبحث الأول: في كيفية التخلي)
يعني من الفصل الثاني من فصلي المقدمة في بيان أحكام الخلوة، وجعل فيه
مباحث خمسة.
قوله (قدس سره): (يجب فيه) يعني في حال التخلي (كغيره من الأحوال ستر
بشرة العورة وهي القبل والدبر والبيضتان، دون الحجم، ودون الإليين،

(1) الاستبصار: ب 12 في سؤر ما يؤكل لحمه... ح 1 ج 1 ص 25.
(2) أضفناه من نجاة العباد.
152

ودون الشعر النابت حول العورة عن كل ناظر محترم، دون غيره كالزوج
والزوجة وما شابههما كالمولى بالنسبة إلى مملوكته، وإن لم يكن مسلما
ولا مكلفا كالمجنون والصبي المميز بما يحصل به مسماه، من غير فرق
بين التستر باليد وغيره).
أما وجوب الستر في جميع الأحوال فلقوله تعالى: " قل للمؤمنين يغضوا من
أبصارهم ويحفظوا فروجهم " (1) فإن من أنحاء الحفظ أن يحفظه من أن يطلع عليه
بمعونة تفسيره بذلك في ما أرسله الصدوق عن الصادق (عليه السلام) حيث إنه: " سئل عن
قوله تعالى: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم) قال (عليه السلام): كل
ما كان في كتاب الله تعالى من حفظ الفرج فهو من الزنا إلا في هذا الموضع فإنه
للحفظ من أن ينظر اليه " (2).
وما عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في تفسير الآية: " لا ينظر أحدكم إلى فرج أخيه
المؤمن أو يمكنه من النظر إلى فرجه - ثم قال (عليه السلام) -: (قل للمؤمنات يغضضن
من أبصارهن ويحفظن فروجهن) أي ممن يلحقهن بالنظر " (3)، ولما عن الصدوق
في باب جملة من مناهي الرسول (صلى الله عليه وآله) قال صلوات الله عليه: " إذا اغتسل أحدكم
في فضاء من الأرض فليحاذر على عورته " (4)، وما روي أنه (صلى الله عليه وآله) قال: " يا علي
إياك ودخول الحمام بغير مئزر، ملعون ملعون الناظر والمنظور اليه " (5)، وقال
صلوات الله عليه: " لا يدخلن أحدكم الحمام إلا بمئزر " (6)، ولصحيحة حريز:
" لا ينظر الرجل إلى عورة أخيه " (7). بتقريب أن الكشف إعانة على الحرام،

(1) النور: 30.
(2) من لا يحضره الفقيه: في آداب الحمام ح 235 ج 1 ص 114.
(3) الوسائل 1: 212، الباب 1 من أبواب أحكام الخلوة ح 5 ج 1 ص 212.
(4) من لا يحضره الفقيه: باب مناهي النبي (صلى الله عليه وآله) ج 4 ص 4.
(5) الوسائل 1: 364، الباب 3 من أبواب آداب الحمام، ح 5.
(6) الوسائل 1: 369، الباب 9 من أبواب آداب الحمام، ح 9.
(7) الوسائل 1: 211، الباب 1 من أبواب أحكام الخلوة، ح 1.
153

وإن لا يخلو هو عن كلام.
وللنبوي المروي بطريق كالصحيح (1)، وفي مرسل علي بن الحكم: " لا تدخل
الحمام إلا بمئزر، وغض بصرك " (2)، ونحوه رواية حمزة بن الحذاء: " من كان
يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بمئزر " (3) ونحوه عن أبي
جعفر (عليه السلام) (4).
ولموثقة حنان قال: " دخلت أنا وأبي وعمي وجدي حماما بالمدينة، فإذا
رجل دخل بيت المسلخ فقال: ممن القوم؟ فقلنا: من أهل العراق، قال: وأي
العراق! قلنا: كوفيون، قال: مرحبا بكم يا أهل الكوفة، أنتم الشعار دون الدثار، ثم
قال: ما يمنعكم من الازر؟ فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: عورة المؤمن على المؤمن
حرام. إلى أن قال: - فسألنا عن الرجل فإذا هو علي بن الحسين (عليهما السلام) (5) ".
وباستشهاده (عليه السلام) تم الاستدلال بقوله (صلى الله عليه وآله): " عورة المؤمن على المؤمن حرام ".
ولا ينافيه ما في صحيحة ابن سنان: " عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن
عورة المؤمن على المؤمن حرام، قال (عليه السلام): نعم، قلت: عن سفله؟ قال (عليه السلام) ليس
هذا حيث تذهب إنما هو إذاعة سره " (6). كرواية حذيفة بن منصور: عنه (عليه السلام)
بعد قوله: " يقول الناس: عورة المؤمن... " الحديث. وفيها أيضا: " ليس حيث
يذهبون إنما عورة المؤمن أن يزل زلة أو يتكلم بشيء يعاب عليه فيحفظ عليه
ليعيره به يوما ما " (7) قيل: ونحوهما رواية زيد الشحام (8) في معنى الحديث

(1) الوسائل 1: 211، الباب 1 من أبواب أحكام الخلوة، ح 2.
(2) الوسائل 1: 369، الباب 9 من أبواب آداب الحمام، ح 7.
(3) الوسائل 1: 368، الباب 9 من أبواب آداب الحمام، ح 5 وفيه: عن رفاعة بن موسى.
(4) الوسائل 1: 368، الباب 9 من أبواب آداب الحمام، ح 6.
(5) الوسائل 1: 368، الباب 9 من أبواب آداب الحمام، ح 4.
(6) الوسائل 1: 367، الباب 8 من أبواب آداب الحمام، ح 2.
(7) الوسائل 1: 366، الباب 8 من أبواب آداب الحمام، ح 1.
(8) الوسائل 1: 367، الباب 8 من أبواب آداب الحمام، ح 3.
154

- باعتبار حصرهما العورة في كشف العائبة وإذاعة السر - لأنه إنما وقع بملاحظة
كمال العناية لبيان ما هو المهم المعتنى به في الشريعة، فكأنه لعظم شأنه وحقارة
المعنى الآخر في مقابله ليس المعنى إلا هو، سيما إذا اريد ردع من يهتم بحفظ هذا
الحقير ولا يبالي بكشف ما شأنه خطير وضرر إضاعته كبير، فتدبر.
كما لا ينافي تلك الجملة ما ورد بلفظ الكراهة الظاهرة عند بعض في الكراهة
كالمحكي عن الفقيه عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه كره دخول الحمام إلا بمئزر (1) ونحوه نبوي
آخر، وكموثقة ابن أبي يعفور قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) أيجرد الرجل عند صب
الماء يري عورته أو يصب عليه الماء ويرى عورة الناس؟ فقال (عليه السلام): كان أبي (عليه السلام)
يكره ذلك من كل أحد " (2).
وكالمروي في الفقيه عنه (عليه السلام) أيضا أنه قال: " أنا أكره النظر إلى عورة المسلم
فأما النظر إلى عورة من ليس بمسلم مثل النظر إلى عورة الحمار " (3) لظهور لفظ
الكراهة عندنا في الأخبار في الحرمة، ولا أقل من احتمالها لها قويا المنافي
لاستظهار الكراهة منها.
فما عن بعض المتأخرين أنه لولا مخافة خلاف الإجماع لأمكن القول
بكراهة النظر دون التحريم جمعا في غاية الضعف سيما مع اقتران الموثقة بقرائن
كثيرة دالة على إرادة التحريم من الكراهة وعدم مقاومتها مع ما سبق مما استفيد
منها الحرمة على فرض تسليم الظهور هنا، لأن الدال على الحرمة أظهر، فبقاعدة
تقديم الأظهر على الظاهر يرفع اليد به عنها، هذا. مع أن المسألة ليست محل
الكلام، لأنها إجماعية، بل في الجواهر إنها كحرمة النظر ضرورية.
وأما أن العورة هي الثلاثة المذكورة لا غيرها فهو المشهور، للأصل، ولمرسلة
أبي يحيى الواسطي: " العورة عورتان القبل والدبر، الدبر مستور بالإليتين، فإذا

(1) من لا يحضره الفقيه: باب 22 من أبواب الطهارة ح 226 ج 1 ص 110.
(2) الوسائل 1: 364، الباب 3 من أبواب آداب الحمام، ح 3.
(3) من لا يحضره الفقيه: باب غسل يوم الجمعة ودخول الحمام ح 236 ج 1 ص 114.
155

سترت القضيب والبيضتين فقد سترت العورة " (1)، ولرواية محمد بن حكم أن
الفخذ ليس من العورة (2) ولما عن الفقيه حكاية عن الصادق (عليه السلام): أنه كان يطلي
عانته وما يليها ثم يلف إزاره على طرف إحليله ويدعو قيم الحمام، فيطلي
سائر بدنه (3).
ولكن عن القاضي أنها من السرة إلى الركبة، وعن الحلبي أنه لا يتم إلا بستر
نصف الساق، ولم يذكر لهما الأستاذ مستندا إلا أنه قال: " يمكن استناد القاضي إلى
عمومات النهي عن دخول الحمام بلا مئزر (4)، والى رواية قرب الاسناد: إذا زوج
الرجل أمته فلا ينظر إلى عورتها، والعورة ما بين السرة والركبة (5) وفي خبر
الأربعمائة عن الخصال أنه: " ليس للرجل أن يكشف ثيابه عن فخذه، ويجلس
بين القوم " (6).
وفيها - بعد الغض عن عدم مقاومتها لما مر، لأظهريته في الدلالة وأرجحيته
على فرض التكافؤ في الدلالة بالشهرة التي بها تم سنده - عدم دلالتها على
وجوب ستر ما عدا الثلاثة وعدم إفادتها عورية ما سواها.
أما عمومات المئزر فإنها إرجاع في ستر ما يجب ستره - وهو الثلاثة - إلى
ما هو المتعارف في سترها، مضافا إلى محبوبية ستر هذا المقدار بلا شبهة، فلا دلالة
فيها على أن جميع ما أحاطه المئزر واجب الستر.
وأما رواية قرب الاسناد فلقوة احتمال أن يكون النهي عن النظر كناية عن
عدم استمتاع المالك من أمته المزوجة بما هو محل استمتاع الزوج، وتعيين هذا
المحل منها، لأنه محل الاستمتاع غالبا من الإناث.

(1) الوسائل 1: 365، الباب 4 من أبواب آداب الحمام، ح 2.
(2) الوسائل 1: 364، الباب 4 من أبواب آداب الحمام، ح 1.
(3) من لا يحضره الفقيه: في آداب الحمام ح 250 ج 1 ص 117.
(4) الوسائل 1: 367 - 370، الباب 9 و 10 من أبواب آداب الحمام.
(5) قرب الإسناد: ح 345 ص 103.
(6) الخصال: حديث الأربعمائة ص 630.
156

وأما رواية الخصال فظاهرها بقرينة تقييد الكشف بحال الجلوس بين القوم
أنه (عليه السلام) حاول بيان ما هو من الآداب الشرعية المرغوبة لا بيان المنع الحتمي الذي
يكون ارتكابه كبيرة موبقة، هذا.
مضافا إلى ضعفهما سندا ولا جابر لهما.
وأما عدم وجوب اخفاء الحجم فلانصراف أدلة ستر الشيء عن النظر إلى
اخفاء لونه الذي هو حاكي جسمية الشيء ومشخصها في حس البصر، ولأن معنى
كشفه كونه على حالة يتميز معها بحس المدرك كيفية جسميته، فأمر بستره ليخفى
في الرؤية ما هو مظنة الفساد لا أن يخفى تحققه ووجوده بالمرة.
ويؤيد ما ذكرناه ملاحظة حكمة الحكم من استلزام النظر غالبا بالعورة
المكشوفة تهيج الشهوة التي هي رأس كل فساد، ولصدق قوله (عليه السلام): " إذا سترت
القضيب والانثيين فقد سترت " (1) فإن في سترهما بخرقة بلا ضميمة شيء معهما
يخفى اللون والشكل ويرى الحجم.
ويمكن استفادة كفاية هذا المقدار من الستر من رواية عبد الله المرافقي
المتقدمة عن الفقيه في حكاية اطلاء أبي عبد الله (عليه السلام)، وفيها: " فقال قيم الحمام
يوما من الأيام: ان الذي تكره أن أراه فقد رأيته، فقال (عليه السلام): إن النورة سترته " (2)،
فإن الذي ادعى القيم رؤيته ونفاها الامام (عليه السلام) معللا بساترية النورة ليس إلا حجم
الانثيين، لأن القضيب كان محلولا بالمئزر ولم يكن مطليا قطعا، والعانة بعد
الاطلاء بالنورة غير مرئية شكلا، فلم يبق من العورة ما يسع للقيم دعوى رؤيته
إلا الانثيين، وهو الذي نفى (عليه السلام) رؤيته له معللا بأن النورة سترته ومعلوم أن النورة
لا تخفي حجم الانثيين وإنما تستر لونهما وتخفي شكلهما الذي هو عبارة عن
الجسمية المرئية، وقد اكتفى به (عليه السلام) في الستر الواجب عليه.
وعلى هذا المعنى يحمل مرسل جعدة بن عمر: " عن بعض أصحابنا في اطلاء

(1) الوسائل 1: 365، الباب 4 من أبواب آداب الحمام، ح 2.
(2) من لا يحضره الفقيه: في آداب الحمام ح 250 ج 1 ص 117.
157

أبي جعفر (عليه السلام) المتضمن لالقائه (عليه السلام) المئزر بعد الاطلاء، وأن مولاه نقض عليه
بأنك توصي بالمئزر ولزومه وأنت تلقيه، فإنه (عليه السلام) أجابه بأن النورة أطبقت على
البدن " (1) فإن من المعلوم أن القضيب لا يطلى، فعلم أنه لفه بالمئزر وأراد من
العورة المستورة بالنورة الانثيين، ومن الواضح أنها تخفي شكلهما لا حجمهما،
فهو ورواية الفقيه سواء، هذا.
وحكي عن المحقق الثاني وغيره وجوب ستر الحجم فإن أراد الإخفاء على
وجه لا يرى هيئة العورة أبدا فلا أجد له ما يوفي لإثباته، وإن أراد ستره على وجه
لا يرى شكله ولونه كما لو ستره بثوب خفيف ونحوه بحيث يرى معه الجسم
فحاول من وجوب اخفاء الحجم هذا المعنى فهو حق، لعدم صدق الستر عليه، لعدم
توقف رؤية الجسم على الكشف التام، بل يتحقق رؤيته بما يحكيه الأثواب
الرقاق الحاكية، فالحجم بهذا المعنى لازم الستر قطعا، والحجم بمعنى الهيئة
الحاصلة من لف الجسم بخرقة غليظة أو بنورة كذلك بحيث يرى كالكومة لا دليل
على لزوم ستره، ولا يمكن منع الانصراف فيه، ولا منع عدم صدق الستر بهذا
المقدار من اللف.
وأما أنه لا يعتبر في الناظر التكليف في لزوم الستر عنه فيجب الستر عن
الصبي المميز والمجنون أيضا، فلإطلاق آية الحفظ (2) ورواية لعن المنظور اليه (3)،
ولمرفوعة سهل بن زياد لا يدخل الرجل مع ابنه الحمام فينظر إلى عورته (4)،
ولمرسلة محمد بن جعفر عن بعض رجاله عن أبي عبد الله (عليه السلام): قال: " قال رسول
الله صلوات الله عليه: لا يدخل الرجل مع ابنه الحمام فينظر إلى عورته، وقال:
ليس للوالدين أن ينظرا إلى عورة الولد، وليس للولد أن ينظر إلى عورة الوالد،

(1) الوسائل 1: 378، الباب 18 من أبواب آداب الحمام، ح 2، وفيه: عن محمد بن عمر.
(2) النور: 30، 31.
(3) الوسائل 1: 364، الباب 3 من أبواب آداب الحمام، ح 5.
(4) الوسائل 1: 380، الباب 21 من أبواب آداب الحمام، ح 2.
158

وقال: لعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) الناظر والمنظور اليه في الحمام بلا مئزر (1).
وشمول تلك الأدلة للمميز غير خفي، وأما غير المميز فلو لم يدع انصرافها
عنه فلا شبهة في مشكوكية شمولها له، فالأصل يقضي بعدم وجوبه سيما بعد
ملاحظة أن نظره غير مقصود للناظر، فالحكمة الباعثة على الحكم منتفية عنه، وقد
يستأنس للحكم بأن غير المميز بمنزلة البهائم، فنظره والنظر اليه كنظرها والنظر
إليها في أنه لا يترتب عليه سوى الإبصار بلا تمييز موجب لتحريك الشهوة كما هو
المناط في خروج البهائم، بل قد يفيده ما يأتي من جواز تغسيل الرجل بنت ثلاث
سنين مجردة والمرأة ابن ثلاث سنين مجردا، فإنه يظهر منه أن معيار حرمة النظر
التميز المهيج للشهوة المتلذذ به قابلية. ومن المعلوم أن معيار الحكم في المنظور
اليه والناظر سواء.
ومنه يعلم أنه ليس المجنون والسكران كغير المميز، كما منه يعلم وضوح
شمول هذا الحكم لغير المسلم وأن إلحاق بعض الكافرة بالأمة المملوكة لا وجه له
وما دل على أنها بحكمها لا يشمل هذا الحكم كما لم ينسب إلى أحد من
الأصحاب، ثم الواجب من الحفظ أن لا يعرض العورة للنظر بكشفها في موضع
لا يأمن عن وجود ناظر فيه ولو تجددا.
قوله (قدس سره): (كما أنه يحرم النظر على كل مكلف لعورة غيره عدا ما
عرفت) من الزوجين والمملوكة (وإن لم يكن مكلفا بالتستر لجنون
ونحوه)، لما عرفته من الإجماع، بل الضرورة كما في الجواهر، واتحاد معيار
الاحترام في الناظر والمنظور اليه، وهو بلوغ الانسان حدا يستنكف بجبلته عن أن
ينظر إلى سوأته، ومن عموم آية الغض وعموم الأخبار المستفيضة كقوله - أي
الصادق (عليه السلام) - في حديث مناهي الرسول (صلى الله عليه وآله): " نهى أن ينظر الرجل إلى عورة
أخيه المسلم وقال من تأمل عورة أخيه المسلم لعنه سبعون ألف ملك " ونهى

(1) الوسائل 1: 380، الباب 21 من أبواب آداب الحمام، ح 1.
159

أن تنظر المرأة إلى عورة المرأة وقال: " من نظر عورة أخيه المسلم أو عورة غير
أهله أدخله الله مع المنافقين الذين كانوا يبحثون عن عورات الناس، ولم يخرج
من الدنيا حتى يفضحه الله " (1).
وعموم غير الأهل كعموم الآية ومعقد الإجماع للكفار والمميز من الأطفال
مما لا ينكر، ولا ينافيه حمل الحكم في أكثر الأخبار على الأخ المسلم أو المؤمن
الغير الشامل للكافر بعد تلك العمومات وبعد ما عرفته من تحقق ما هو المعيار
لحرمة النظر وعدم المفهوم لهذا القيد، لأنه من اللقب. مضافا إلى أن الأخذ بمفهومه
يستلزم ما لا يقول أحد به من عدم وجوب الستر عن الكافر.
وأما ما تقدم من الفقيه كحسنته الاخرى من قوله (عليه السلام): " إن النظر إلى عورة من
ليس بمسلم مثل النظر إلى عورة الحمار " (2) فغير قابل للاعتماد عليه في تخصيص
ما مر، لتأيد العموم بالشهرة المحققة لو اغضي النظر عن كونه إجماعيا كما ادعاه
شيخ الجواهر، ويؤيده عدم نقل الخلاف فيه إلا عن المحدث العاملي من كتاب
بدايته جازما بالاختصاص بالمسلم، لاختصاص الروايات به على ما في شرح
الأستاذ.
فإذن الأحوط والأقوى العموم وإن كان لولا تقوية العموم بما ذكر لكان العمل
بمضمون الخبرين قويا.
وهذا هو وجه قوله (قدس سره): (بل الأحوط والأقوى ذلك أيضا في الصبي
المميز فيحرم [على كل مكلف] (3) النظر إلى عورته أيضا) لهذا العموم
(بخلاف غير المميز) لما عرفت وجهه من عدم حرمة نظره وأنه كالبهائم.
قوله (قدس سره): (ويحرم على المتخلي استقبال القبلة واستدبارها في حال
تخليه) مطلقا قائما أو قاعدا مستلقيا أو مضطجعا بمقاديم بدنه. والاستقبال

(1) من لا يحضره الفقيه: حديث المناهي ج 4 ص 13.
(2) من لا يحضره الفقيه: في آداب الحمام ح 236 ج 1 ص 114.
(3) أضفناه من نجاة العباد.
160

والاستدبار في كل بحسبه كما في غيره مما يراعى فيه صدق استقبال القبلة
أو استدبارها، أو عدم تحقق الصدق كما هو المشهور، بل عن الغنية والخلاف
الإجماع عليه، للمستفيضة - المجبور السند فيما فيه ضعف بالشهرة المحققة -
والإجماع المنقول الذي كالمحقق لدعوى شيخ الجواهر انقطاع الخلاف حينئذ
وانحصاره على فرض تحققه في ما نسب إلى المفيد وابن الجنيد وسلار الظاهرة
الدلالة كقول النبي (صلى الله عليه وآله) في رواية حسين بن يزيد عن الصادق (عليه السلام) في حديث
المناهي: " إذا دخلتم الغائط فتجنبوا القبلة " (1)، وعن الفقيه أنه: " نهى النبي (صلى الله عليه وآله)
عن استقبال القبلة ببول أو غائط " (2) ونوادر الراوندي: " نهى أن يبول الرجل
وفرجه باد للقبلة " (3)، أي ظاهر لها مواجه اياها، وخبر الدعائم: " نهى عن استقبال
القبلة واستدبارها في حال الحدث والبول " (4) وفي العلل: " إذا أراد البول أو
الغائط فلا يجوز له أن يستقبل القبلة بقبل ولا دبر ".
ولا يضرها بعد ذلك اشتمال طائفة منها على ذكر ما هو من الآداب والسنن
كخبر عيسى بن عبد الله الهاشمي (5)، ومرسلة عبد الحميد (6)، وعلي بن إبراهيم (7)،
لجواز استعمال النهي في ما يعم الحرمة والكراهة، مع أن في بعضها كلمة النهي
مكررة لا مانع من إرادة خصوص الحرمة منها إلا استبعاد التفكيك بين المعطوف
والمعطوف عليه، الذي هو لكثرته في الأخبار لا يوجب صرف الظاهر عما هو
ظاهر فيه ما لم يعاضد بشيء فخلاف من حكي عنهم الخلاف وتضعيفهم الأخبار

(1) الوسائل 1: 213، الباب 2 من أبواب أحكام الخلوة، ح 3.
(2) من لا يحضره الفقيه: في باب القبلة ج 1 ص 277.
(3) نوادر الراوندي: ص 54.
(4) دعائم الاسلام: في ذكر آداب الوضوء ج 1 ص 104.
(5) الوسائل 1: 213، الباب 2 من أبواب أحكام الخلوة، ح 5.
(6) الوسائل 1: 213، الباب 2 من أبواب أحكام الخلوة، ح 6.
(7) الوسائل 1: 212، الباب 2 من أبواب أحكام الخلوة، ح 1.
161

سندا ودلالة وحملهم إياها على الكراهة على فرض تحققه غير معول عليه، إذ لم
يتحقق مخالفتهم للقوم كما يومئ اليه تأويل القوم كلامهم لقرائن اطلعوا عليها.
كما أن توهم اختصاص الحكم بالغائط أيضا فاسد للتصريح بالبول في جملة
منها والعموم في الاخرى، فلا ينافيه الاقتصار على الغائط في بعضها سيما مع
ثبوت التلازم الغالي.
وأضعف من الخلاف المذكور ما حكي عن التنقيح من كفاية ميل الذكر عن
القبلة مع حصول الاستقبال التام بالبدن، بل ربما يستظهر هذا من كل من عبر
بحرمة الاستقبال ببول أو غائط كبعض الأخبار الذي بهذا المضمون، حيث إنه ربما
يقال: إنه يستفاد منها كفاية ميل رأس الذكر بدعوى أن مع هذا الميل لا يصدق أنه
استقبل بفرجه وببوله إلى القبلة.
وجه الأضعفية أن ظاهر جملة من الأخبار نسبة الاستقبال إلى المتخلي لا إلى
خصوص الفرج أو الأخبثين، مع أن ما فيه نسبته اليهما أيضا ظاهره ذلك لفهم
العرف منه حرمة الاستقبال في تلك الحال سيما بقرينة ذكر الاستدبار مع الاستقبال
بالقبل في بعضها، إذ لا يمكن إنكار ظهور أن المراد من الاستدبار استدبار
الشخص في تلك الحال، لأنه الهاتك للحرمة والمنافي للتعظيم، إذ لا مدخلية
للعورة في الهتك وترك التعظيم فيمن استدبر وتوجه بفرجه ظهر القبلة، فعلم أن
المبغوض القعود في تلك الحالة الدنية بما ينافي احترام القبلة من إقبالها وإدبارها،
ولذا نسب ذلك العمل الصيمري في شرح الموجز إلى الجهال معللا بأن المطلق
ترك الاستقبال بالفرج لا بالبول، وهو غير متحقق بالميل، لأن عمدة الفرج مستقبلة.
ويفصح عن أن المناط قعود الشخص بتلك الكيفية الصادقة معها الاستقبال
والاستدبار قول أبي الحسن (عليه السلام) في صحيحة ابن بزيع: " من بال حذاء القبلة ثم
ذكر فانحرف عنها إجلالا للقبلة وتعظيما لها لم يقم من مقعده ذلك حتى يغفر له " (1)

(1) الوسائل 1: 213، الباب 2 من أبواب أحكام الخلوة، ح 7.
162

فإنه جعل مناط التعظيم انحراف الشخص بنفسه، ومناط عدمه عدمه، فالتعبير بهما
إنما هو بملاحظة أن المتعارف إيقاع الحدث في الجهة التي استقبلها ببدنه، ولم
يعهد عن المعقولين هذا الذي يشنع عليه كل أحد من ميل الذكر إلى غير الجهة التي
استقبلها، فلذا جعل ترك الاستقبال بالبول كناية عن ترك استقبال الشخص في
حال البول، وهذا واضح كما يوضحه عدم تصور الاستدبار بالفرج وهو الدبر لمن
جلس على الحدث على النحو المتعارف، فإن دبره مستقبل للأرض لا للقبلة، ففي
غير البول لا استقبال ولا استدبار.
قوله (قدس سره): (دون الاستنجاء بل والاستبراء) الحاق الحالتين بحالة التخلية
لا يخلو عن قوة كما قواه الأستاذ فيما علقه عليه لموثقة عمار: " قال: سألته عن
الرجل يريد أن يستنجي كيف يقعد؟ قال (عليه السلام): كما يقعد للغائط " (1) ودلالتها لا
شيء فيها، كما أن سندها بعد كونها موثقة بالغ حد الحجية، فلاغرو بالخروج بها
عن الأصل سيما بعد إمكان استفادة مطلوبية ما هو مطلقا في حال التخلي إلى أن
يحصل الفراغ بالمرة من الأخبار المتقدمة أيضا خصوصا حال الاستبراء التي هي
من أحوال البول جزما.
قوله (قدس سره): (من غير فرق بين الصحاري والأبنية في ذلك) لعموم الأدلة
كما عرفت، بل ظهور بعضها في خصوص الأبنية، والفرق بينهما بعدم ثبوت الحكم
للأبنية منسوب إلى الديلمي، ولعله أخذه من صحيحة ابن بزيع المذكورة، فإن في
صدرها قال: " دخلت على أبي الحسن (عليه السلام) وفي منزله كنيف مستقبل للقبلة " (2)
ولا يخفى ضعفه لضعف مبناه، من جهة عدم الدلالة على مدعاه، إذ لا يستلزم
استقبال البنيان استقبال القاعد فيه، لإمكان الانحراف، مضافا إلى أنه لا يجتمع
مسلمية كراهته نسبة استدامته (عليه السلام) اليه، فليحمل على كون بناء بيت الخلاء على
القبلة دون بناء أصل الكنيف.

(1) الوسائل 1: 253، الباب 37 من أبواب أحكام الخلوة، ح 2.
(2) الوسائل 1: 213، الباب 2 من أبواب أحكام الخلوة، ح 7.
163

قوله (قدس سره): (ولو دار الأمر - إلى قوله: - لكونه أهم) (1)، حكم الدوران كما
ذكره للعلتين المذكورتين المتسلمتين بالقبول من الأعلام.
قوله (قدس سره): (ولو اشتبه عليه القبلة وجب عليه تعرفها) لئلا يقع بتركه في
الحرام المتحتم عليه بإطلاق الأدلة المتوقف اجتنابه في المقام على الفحص.
قوله (قدس سره): (ولو حصرها في جهة وجب عليه اجتناب تلك الجهة)، لأنه
مقتضى علمه بكونها في أحد أجزائها فيجتنب الجميع، لأن كل جزء منها من
أطراف الشبهة المحصورة.
قوله (قدس سره): (ولا يبعد قيام الاجتهاد مقام اليقين في ذلك كالصلاة) وهو
قوي لحكم العقل بقيام الظن مقام العلم فيما تعذر فيه تحصيل العلم.
وتوهم رفع التكليف - حينئذ - بدعوى اختصاصه بصورة التمكن المفقود مع
عدم العلم مدفوع، بالإطلاقات، وبعد ثبوت التكليف لا مناص عن العمل
بالاجتهاد المفيد للظن، لعدم حكم العقل بالتخيير بين الجهات في مثله من صورة
إمكان تحصيل الظن.
قوله (قدس سره): (ويستحب ستر الشخص نفسه عند إرادة البول أو الغايط
ولو بأن يبعد بحيث لا يراه أحد)، لما روي " أنه (صلى الله عليه وآله) لم يرقط على بول
ولا غائط " (2) ولما ورد في مدح لقمان بعدم رؤيته أبدا على بول ولا غائط (3) وأنه
كان يوصي ابنه بالاستتار في المذهب، يعني في قضاء الحاجة (4) وهكذا كان
الأئمة، بل ورد أنه (عليه السلام) أمر ببناء المخرج في الدار في أستر موضع منها، معللا
بأن الله خلق مخرج الإنسان في أستر موضع منه فليبن المخرج في أستر موضع

(1) في نجاة العباد: ولو اضطر إلى أحدهما فالأحوط اختيار الاستقبال في الاجتناب لكونه
أعظم، كما أنه لو اضطر إلى مخالفة مراعاة القبلة أو التستر ودار الأمر بينهما قدم مراعاة
التستر لكونه أهم.
(2) الوسائل 1: 215، الباب 4 من أبواب أحكام الخلوة، ح 3.
(3) الوسائل 1: 215، الباب 4 من أبواب أحكام الخلوة، ح 2.
(4) الوسائل 1: 215، الباب 4 من أبواب أحكام الخلوة، ح 1.
164

من الدار (1) والمقصود ستر الشخص بحيث لا يرى لا الستر بعباءة ونحوها،
كما يفصح عنه فعل مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) على ما عن كشف الغمة لعلي بن
عيسى الأربلي، نقلا عن جندب بن عبد الله الأزدي في حديث قال: " نزلنا
النهروان فبرزت عن الصفوف وركزت رمحي ووضعت ترسي عليه واستترت من
الشمس، فإذا أنا جالس إذ ورد علي أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: يا أخا الأزد معك
طهور؟ قلت: نعم، فناولته الأداوة فمضى حتى لم أره، وأقبل وقد تطهر فجلس
في ظل الترس " (2).
قوله (قدس سره):
(المبحث الثاني في الاستنجاء)
الاستنجاء استفعال من النجو، وهو ما يخرج من البطن، أو خصوص الغائط
كما عن الصحاح، وعنه أيضا: " استنجى أي مسح موضع النجو أو غسله " وعن
الأصمعي: " استنجيت النخلة إذا التقطت رطبها، واستنجيت الشجرة قطعته من
أصله " ويحتمل كون المسح مأخوذا من استنجاء، النخلة، وكون الغسل مأخوذا
من استنجاء الشجرة كما هو المحكي عن الفيومي في المصباح، وعن الذكرى:
" أنه شرعا إزالة البول والغائط الناقضين عن مخرجهما " وكأنه حاول بيان المعنى
العرفي على وجه يتبين به بعض الأفراد الخفية، إذ ليس هو من الحقائق الشرعية
ولا المتشرعية، ووجوبه لأجل ما يشترط فيه إزالة النجاسة عن البدن لا شبهة فيه،
لأنه منها فيجب لعموم أدلة الإزالة (3)، وخصوص ما ورد فيه حتى أنه ورد إعادة
الوضوء بنسيانه عن البول (4)، وحكي عن الصدوق الفتوى به وإن كان هو ضعيفا
في الغاية.

(1) الوسائل 1: 249، الباب 4 من أبواب أحكام الخلوة، ح 5.
(2) الوسائل 1: 215، الباب 4 من أبواب أحكام الخلوة، ح 5.
(3) الوسائل 1: 222، الباب 9 من أبواب أحكام الخلوة.
(4) الوسائل 1: 209، الباب 18 من أبواب أحكام الخلوة، ح 8.
165

قوله (قدس سره): (يجب غسل موضع البول) بالإجماع، بل بضرورة المذهب
كما في الجواهر (بالماء (1) ولا يجزى غيره في الطهارة) إجماعا، للأخبار
العامة والخاصة المدعى تواترها، الواردة كما في الجواهر في عدم كفاية غيره،
ففي صحيح زرارة: " ويجزيك من الاستنجاء ثلاثة أحجار، وأما البول فلا بد من
غسله بالماء " (2) وفي رواية بريد بن معاوية: " ولا يجزي من البول إلا الماء " (3).
قوله (قدس سره): (وتجزي المرة إذا لم يتجاوز المحل عادة). اشتراط عدم
المجاوزة إنما وقع منه (قدس سره) للاكتفاء بالمرة الواحدة لما يراه من المرتين في غسل
البول في غير الاستنجاء، أو لأنه حاول بيان طهارة غسالته مطلقا (4) وإلا فلا معنى
لاشتراطه هنا طهارته بعدم التعدية مع قوله بطهارة الغسالة.
ثم ليعلم أن مراده من التعدي عن المحل المعتاد ما يوجب خروجه عن اسم
الاستنجاء، وليس كذلك على القول بشرطيته في طهارة ماء الاستنجاء لإمكان أن
يقال باشتراطه بعدم التعدي عما كان متعارف هذا الشخص بطبيعته المتعارفة، وإن
صدق على المتعدي أيضا أنه استنجاء، لأن المجمع على خروجه من نجاسة
الغسالة هو ماء الاستنجاء الذي كان على المتعارف والفرد الغير المتعارف منه
لا إجماع على طهارته فيعمل فيه بمقتضى أدلة الغسالة، اللهم إلا أن يتمسك في
طهارته بإطلاق ما تقدم من الأخبار كما هو غير خال عن القوة، فلا بد من حمل
التعدي - حينئذ - على ما يوجب عدم صدق الاستنجاء عليه، لأن الأخبار قائمة
بطهارة ماء الاستنجاء بجميع مصاديقه.
قوله (قدس سره): (لكن الأحوط عدم نقصان مائها عن مثلي ما على الحشفة،
بل الأحوط الغسل مرتين، بل الأولى الثلاث) أما عدم نقصان الماء عن مثلي

(1) في أصل نجاة العباد: خاصة.
(2) الوسائل 1: 222، الباب 9 من أبواب أحكام الخلوة، ح 1.
(3) الوسائل 1: 223، الباب 9 من أبواب أحكام الخلوة، ح 6.
(4) قوله: (مطلقا) يعني عند الكل (منه قدس سره).
166

ما على الحشفة فلعدم حصول الإزالة في العادة بأقل منه، أو لمراعاة حصول الغلبة
والاستهلاك ليحسن من أجله الحكم بطهارة مائه، وعليهما يحمل خبر نشيط بن
صالح المحكوم باعتبار سنده كما صرح به الأستاذ - طاب ثراه - الذي هو الأصل
لاعتبار المثلين، لأنه قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) كم يجزي من الماء في
الاستنجاء من البول؟ فقال (عليه السلام): مثلا ما على الحشفة من البلل " (1) بعد عدم حمله
على التعبد، لعدم استقامته في المقام، لعدم تعقله ولظهور الخبر في أن المجزي
لإزالة نجاسته من حيث إنه يجب إزالته كسائر النجاسات ماذا؟ لتوهم كفاية النقاء
فيه كما في الغائط ولو حصل بدون المثل، مضافا إلى أنهم لم يفهموا منه التعبدية
كما عن كثير حمله على إرادة التعدد في الغسل كما قواه الأستاذ - طاب ثراه -
بدعوى حصول كفاية المثل في حصول الإزالة بعد حمل البلل فيه على القطرة
لا مجرد البلل، للقطع بعدم تحقق الغسل المعتبر إجماعا بمثليه ولا أربعة أمثاله،
والقطع بحصول الغسل والجريان بمثل القطرة والقطع بعدم التعبد بوجوب الزائد
عما يتحقق به الغسل في غسلة واحدة فلا بد من حمله على إرادة الغسلتين
كما فهمه الأساطين.
ولا يخفى عليك أنه لا يرفع اليد عن الظهور في الألفاظ بالاعتبارات العقلية
والعادية ما لم تصل إلى حد القرينية والصارفية في نظر العرف، أو يمتنع حمله
على ظاهره، وإن لم يوجب الصرف في نظرهم، وكلاهما في المقام مفقودان بعدما
ذكرناه من الاعتبارين سيما بعد امتناع القناعة بالمثل في العادة في مقام صب
الماء، فيحتمل قويا أن يكون القدر المذكور كناية عن أقل ما يعمل عادة لإزالة ما
بقي من البول في المخرج فكأنه قال: يكفي أقل ما يسعك مما يستعمل في العادة
لإزالة هذا المقدار من النجاسة المائية السريعة الزوال، ولهذا يكون الخبر ساكتا
عن كفاية المرة ولزوم التعدد، وإنما هو في صدد بيان المجزي من الماء من حيث

(1) الوسائل 1: 242، الباب 26 من أبواب أحكام الخلوة، ح 5.
167

الكمية فبين أن المقدار المعتبر لإزالة مثل هذه النجاسة هو هذا، لأنه أقل مقدار
يمكن في العادة إعماله لإزالة مثل هذا النجس.
وبالجملة فالخبر بعد قبوله للاحتمالات الثلاثة التي ذكرناها عرفا الغير
المنافية لما هو ظاهر فيه من إعطائه بيان قدر ما يجزي من الماء المستعمل في
المقام لا يبقى مجال لفهم كفاية المرة منه باعتبار إطلاقه كما في الجواهر، وحكاه
عن كثير من الأصحاب لعدم سوقه لبيان العدد حتى يؤخذ بإطلاقه، لوروده مورد
حكم آخر كما بيناه أو محتمل له قويا، فلم يحرز فيه شرط الإطلاق وهو وروده
في مقام بيان حكم نفسه.
كما لا يبقى مجال لفهم التعدد منه بالتقريب الذي ذكره الأستاذ تبعا
للأساطين، فكيف حمله على التعبد بعد ذلك، وبعد ما عرفت من أنه مقطوع العدم؟
كما لم يستبعده الأستاذ - طاب ثراه -، فاحتياط عدم النقصان عن المثلين يحسن
أن يكون لعدم الاطمئنان عادة في حصول الإزالة بالأقل، وأن الاطمئنان به كأنه
خارج عن المتعارف، فالأحوط عدم الاعتناء به لو حصل في مقام، لأنه مناف
لاستصحاب حكم النجاسة مع كونها مشكوكة الإزالة في المتعارف والعادة فهو
وجه الاحتياط لا ما يظن بالماتن من أنه لمراعاة لزوم المثلين تعبدا.
وأما احتياطه في التعدد فالأقوى أن التعدد معتبر فيه كما في غيره من أجزاء
البدن عند تلوثه بالبول كما قواه الأستاذ - طاب ثراه - فيما علقه عليه، للأصل
باعتبار عدم ما يفي بكفاية المرة هنا، بل يمكن استفادته من صحيح البزنطي قال:
" سألته عن البول يصيب الجسد، قال (عليه السلام): صب عليه الماء مرتين فإنما هو
ماء " (1)، بتقريب ظهور جوابه (عليه السلام) في كون التعدد مفروغا عنه عنده، فكأنه لم يكن
محتاجا إلى السؤال والبيان حيث إنه (عليه السلام) تصدى لتصحيح ما حكم به - وهو
الصب - بذكر علته من أنه ماء غير محتاج إلى الدلك، وأعرض عن بيان ذكر الوجه
للمرتين.

(1) الوسائل 1: 243، الباب 26 من أبواب احكام الخلوة، ح 9.
168

فيفهم منه أن محل الحاجة الداعية إلى السؤال لم يكن إلا توهم الاحتياج إلى
الدلك، فلذا أجابه (عليه السلام) بأنه يكفي الصب ولا يحتاج إلى الدلك، لأنه ماء يزول
بالماء بنفسه كما ينبئ عنه مرسلة الكليني أنه ماء وليس بوسخ (1).
أو بتقريب أن يجعل العلة علة لمجموع الحكم وهو لزوم الصب مرتين، يعني
أن اللازم هنا لكونه ماء هو الغسل مرتين بنحو الصب، بخلاف غيره مما ليس بماء،
وإنما هو شيء متوقف إزالته على الدلك، فاللازم فيه الغسل مرتين بغير وجه
الصب، بل بوجه يحصل معه الإزالة المتوقفة على الدلك ونحوه، فيستفاد منه لزوم
المرتين في مطلق إزالة النجاسة، وإنما الزيادة هنا أنه لم يحتج بأزيد من الصب،
لعدم توقف زواله على الدلك ونحوه المنافي لكفاية الصب.
وقد يستأنس لاعتبار المرتين بعدم مدخلية لأجزاء البدن في اختلاف حكم
البول من حيث الإزالة، بل الاعتبار يقضي بأولوية اعتبار التعدد في الاستنجاء منه
بعد مسلمية اعتباره فيه في غير الاستنجاء نصا وفتوى، لأن ماءه طاهر وغسالة
غير الاستنجاء نجسة، فاعتبار التعدد فيما لا ينتفع به يقضي بأولوية اعتباره فيما
ينتفع به.
ولكن العمدة هو الأصل بعد ضعف ما تمسك به لكفاية المرة سندا ودلالة،
لانحصار مستندهم في خبر نشيط - الذي عرفت حاله - ومرسله الآخر الغير البالغ
حد الحجية الذي فيه كفاية مثل ما على الحشفة الذي احتمل شيخ الجواهر وقوع
الغلط فيه من النساخ، وأن تكون كلمة (بمثله) فيه بمثليه - بالياء - فيكون كخبره
الأول.
وفي إطلاق موثقة يونس بن يعقوب أو صحيحته: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام):
الوضوء الذي افترضه الله على العباد لمن جاء من الغائط أو بال، قال: يغسل ذكره
ويذهب الغائط ثم يتوضأ مرتين مرتين " (2). وعدم دلالتها على كفاية المرة

(1) الكافي: باب الاستبراء من البول... ذيل الحديث 7 ج 3 ص 21.
(2) الوسائل 1: 223، الباب 9 من أبواب أحكام الخلوة، ح 5.
169

واضحة لورودها في بيان أن الوضوء الواجب هو إزالة الخبث ورفع الحدث وعلى
فرض ورودها لبيان الوضوء المفترض والغض عن أنه لا يجتمع المفترضية مع
قوله: " ثم يتوضأ مرتين مرتين " لا دلالة فيها على أنه في مقام بيان تمام كيفية
الاستنجاء، بل الظاهر أنه أراد أن يبين أن الجائي من الغائط عليه غسل مخرج
البول وتطهير مخرج الغائط بإذهاب ما فيه وانقائه منه، فكأنهما مقدمتان للوضوء،
لأن الواجب إزالة النجاسة لما يتوضأ له، وقد جرى العادة بتقديم تلك الإزالة على
الوضوء فكان محلها قبله، كما يومئ إلى عدم ورودها لبيان تمام كيفية الاستنجاء
عدم تعرضها لكثير من واجباتها، فورودها لبيان أصل لزوم إزالة الخبث هو الأظهر.
وهنا وجه آخر لعدم وروده مورد البيان وهو قوة احتمال وروده لبيان لزوم
الغسل في البول وعدم كفاية غيره، كما يشهد له ذكره للغائط في مقابله وأن اللازم
فيه اذهابه بأي نحو كان، وهكذا سائر ما ادعي إطلاقه في المقام، على أنه على
فرض تسليم الاطلاق يجب رفع اليد عنه بما ورد في أن البدن يغسل من البول
مرتين، فإن موضع الاستنجاء أيضا من البدن، ومع الغض عن المقيد فالأولى
والأحوط هو الرجوع إلى الاستصحاب.
ومنه يعلم أن الأحوط، بل الأقوى في المسألة الاولى عدم القناعة بالمثلين،
بل يراعى استيلاء الماء عليه على وجه يكون ما في المخرج من البول مستهلكا
فيه كما قواه الأستاذ - طاب ثراه - فيما علقه عليه.
قوله (قدس سره): (والظاهر عدم الفرق في ذلك بين الذكر والانثى والخنثى
وغيرها مما يخرج من ثقب ونحوه، أصليا كان أو عارضيا معتادا) لشمول
أدلة الاستنجاء عن البول للجميع.
وتوهم الاختصاص بذي الحشفة كما احتمله في الجواهر لا وقع له أصلا، لأن
ذكرها الوارد في الأخبار إنما خرج مخرج الغالب في الذكور، ولأن العادة جرت
في المشتركات بين الذكور والإناث ما لم يحتمل خصوصية لأحدهما في السؤال
والجواب بذكر الذكور، وإجراء الحكم في الإناث بقاعدة الشركة والتغليب.
170

قوله (قدس سره): (بل لا يبعد جريان الحكم على الأغلف وإن تمكن من
إخراج حشفته فيجزيه - حينئذ - غسل غلفته مرة) لما قواه من كفاية المرة
في استنجاء البول، وقد عرفت أن الأقوى عدم الكفاية ولزوم المرتين كما علقه
عليه الأستاذ - طاب ثراه -، واحتمال عدم جريان الحكم على الأغلف مما قواه
في جواهره وحكم بلزوم غسل الغلفة مرتين، لأنه من البدن وقد أصابه البول،
والأقوى ما هنا، لأن معيار هذا الحكم ما يعد في العرف والعادة مخرجا للبول من
غير فرق بين الأصلي والعارضي بعد الاعتياد، ولا بين ما يوافق الخلقة المتعارفة
وما يخالفها، ولا بين بقائه على الخلقة الأصلية أو خروجها عنها، لأن المورد غير
مخصص بعد خروجه مخرج الغالب سيما بعد وجود ما يستفاد منه العموم كلفظ
الذكر في الصحيحة الماضية الشامل لذي الغلفة وغيرها.
قوله (قدس سره): (ويتخير في غسل مخرج الغائط بين الماء والاستجمار إذا لم
يتعد إلى غير المعتاد وإن كان الأول أفضل) لاخلاف في التخيير في الصورة
المذكورة نصا وفتوى، لصحيح زرارة: " ويجزيك من الاستنجاء ثلاثة أحجار " (1)
وصحيحته الاخرى: " جرت السنة في أثر الغائط بثلاثة أحجار أن يمسح العجان،
ولا يغسله " (2).
وأما أفضلية الماء فلصحيحة جميل: " كان الناس يستنجون بالكرسف
والأحجار، ثم أحدث الوضوء وهو خلق كريم فأمر به رسول الله (صلى الله عليه وآله) وصنعه،
وأنزله الله في كتابه بقوله: (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) (3)،
ولقوله (صلى الله عليه وآله) لعائشة: " مري نساء المدينة أن يستنجين بالماء ويبالغن، فإنه مطهرة
للحواشي ومذهبة للبواسير " (4) وقوله (صلى الله عليه وآله): " يا معشر الأنصار إن الله قد أحسن

(1) الوسائل 1: 222، الباب 9 من أبواب أحكام الخلوة، ح 1.
(2) الوسائل 1: 246، الباب 30 من أبواب أحكام الخلوة، ح 3.
(3) الوسائل 1: 250، الباب 34 من أبواب أحكام الخلوة، ح 4.
(4) الوسائل 1: 222، الباب 9 من أبواب أحكام الخلوة، ح 3.
171

الثناء عليكم فماذا تصنعون؟ قالوا: نستنجي بالماء " (1). إلى غير ذلك من الاخبار.
ولا ينافيه قوله: " ولا يغسله " في صحيحة زرارة، لأنه بيان لما جرت به السنة أول
الأمر، فإنهم كانوا في بدو الأمر يمسحون ولا يغسلون مكتفيا به، كما لا ينافيه
صحيحته الاخرى: " كان علي بن الحسين (عليه السلام) يتمسح بالكرسف ولا يغسل " (2)
لإمكان مانع عن استعماله (عليه السلام) الماء، أو أمر آخر لا نعلمه، لأ نا ننزههم (عليهم السلام) عن
المداومة بترك ما هو خلق كريم، وما أنزل الله فيه تكريما لعامليه " إن الله يحب
التوابين ويحب المتطهرين " مع أن المناسب له (عليه السلام) الجمع لأنه أكمل، فكيف يترك
ما هو الأفضل؟
وجه الأكملية مرسلة ابن عيسى: " جرت السنة في الاستنجاء بثلاثة أحجار
ويتبع بالماء " (3) وما ورد: " أن الآية نزلت في أنصاري أكل طعاما فلانت بطنه (4)
فاستنجى بالماء " (5) إذ من المعلوم أنه لم يستحق هذا الثناء الجميل من الله تعالى
إلا إذا كان آتيا بتكليفه وهو الاستجمار، فإنه حين إعماله الماء لم يكن عالما
بإجزائه أو شرعيته لو لم يدع أنه كان عليهم إذهاب العين بكل ما يصلح له كما هو
الأقوى، إذ أحكام شرعه (عليه السلام) ثابتة له (عليه السلام) من أول الأمر، فهو (عليه السلام) كان مستعملا له
دائما وأصحابه أيضا لم يكونوا ممنوعين من إعماله فيه، بل يمكن دعوى أحسنية
أعماله عند جميع الناس بالبداهة، فهم كانوا يقنعون بغيره تسهيلا وترخيصا كما
يشاهد من جميع الناس، فعليه يكون مدح الأنصاري المستعمل للماء من حيث إنه
استعمله على وجه التعيين ولم يكتف بالاستجمار في التعدي، فكأنه رأى عند نفسه
تعين الماء في تلك الحال، فمدحه الله لإصابته لما هو حكم الله في الواقع، فتأمل.

(1) الوسائل 1: 250، الباب 34 من أبواب أحكام الخلوة، ح 1.
(2) الوسائل 1: 252، الباب 35 من أبواب أحكام الخلوة، ح 3.
(3) الوسائل 1: 246، الباب 30 من أبواب أحكام الخلوة، ح 4.
(4) في الأصل قلبه وما أثبتناه موافق لما ورد في الرواية.
(5) الوسائل 1: 250، الباب 34 من أبواب أحكام الخلوة، ح 3.
172

هذا كله مضافا إلى نقل الإجماع على أفضلية الماء عن كشف اللثام مع إمكان
استفادتها من التعبير بالإجزاء في أخبار الاستجمار، فعلم إجزاء كلا الفردين مع
أفضلية أحدهما وأكملية جمعهما كما هو واضح، فإنه جمع بين كلا فردي المجزي.
قوله (قدس سره): (وإلا تعين الماء لخصوص المتعدي، بل الأحوط الماء
للجميع حينئذ) تعين الماء مع التعدية لا خلاف فيه كما عن الانتصار، وعليه
الاجماع، عنه، وعن التذكرة والغنية والذكرى والحدائق واللوامع كما في المستند،
بل عن المعتبر أنه مذهب أهل العلم للنبويين العاميين المنجبرين بعمل الأصحاب،
الكافي في انتظامهما في سلك أخبارنا، مضافا إلى ما عن عدة الشيخ عن
الصادق (عليه السلام): " إذا نزلت بكم حادثه لا تجدون حكمها فيما يروى عنا فانظروا إلى
ما رووه عن علي (عليه السلام) " (1) المرويين في المعتبر (2) والمنتهى (3) عن الجمهور عن
علي (عليه السلام): إنكم كنتم تبعرون بعرا واليوم تثلطون ثلطا فأتبعوا الماء الأحجار،
وقوله (عليه السلام): يكفي أحدكم ثلاثة أحجار إذا لم يتجاوز محل العادة.
ومنهما يظهر أن الأقوى لزوم الماء للجميع، مع أنه أحوط، لأنه حصر كفاية
الأحجار في استنجاء لم يتجاوز الغائط محله، ولظهور كلماتهم في أن مطهر
المتعدي هو الماء، بل لا أظن أن أحدا في مقام صدق الاستنجاء على المتعدي
يفتي بتبعيضه بحسب المطهر، فيحكم بلزوم الماء لبعضه وبكفاية الحجر في بعضه،
وأرى نسبته إلى فقيه من أصحابنا من كمال التجري في انتساب ما لا يليق بهم
إليهم، فالتبعيض لو صح فإنما يأتي من قبل حمل التعدي على ما يوجب خروجه
عن اسم الاستنجاء، ومعه يمكن أن يعمل في كل بعض بما يقتضيه دليله.
ولكن لا نعلم ما دعى شيخنا الماتن إلى أن خص تعين الماء لخصوص
المتعدي، مع أنه في جواهره جزم بأن المراد من التعدي هنا ليس ما يخرجه عن

(1) عدة الأصول: في التعادل والتراجيح ج 1 ص 379.
(2) المعتبر: كتاب الطهارة ج 1 ص 128.
(3) منتهى المطلب: في الاستطابة والتخلي ج 1 ص 268.
173

اسم الاستنجاء، لأنه استند فيه إلى الإجماعات، واستظهر من كلماتهم أنهم
لا يريدون خصوص ما يخرجه عن اسم الاستنجاء قال: بل بعض مصاديق
الاستنجاء أيضا متعين فيه الماء للإجماع والنبويين المعتضدين به، ولانصراف
إطلاقات الاستجمار إلى غير المتعدي.
وبدعوى الانصراف قد ضاق عليه الأمر في مسألة طهارة ماء الاستنجاء،
حيث إن لازم تلك الدعوى قصر طهارته على خصوص غير المتعدي، مع أن
ظاهرهم - كما هو مقتضى إطلاق الأدلة - العموم، ومن أجله التجأ إلى أن ادعى
قيام الإجماع على الطهارة في خصوص المتعدي فالتزم بأنه لولا الإجماع لكان
النجاسة فيه على القول بنجاسة الغسالة أظهر.
ونحن في سعة من ذلك كله لأ نا نقول: إن المراد بالتعدي ما يعطيه النبويان وما
هو مروي في شأن نزول الآية من عمل الأنصاري الذي لانت بطنه (1) لأكله الطعام
الملين، لأن تعويلنا في تقييد إطلاقات الاستجمار على النبويين لا على
الانصراف كما ادعاه الماتن في جواهره، لعدم تماميته عندنا إذ لا نرى منشأ
للانصراف يعتمد عليه.
ومنه يعلم أنه لا مجال للتمسك بالاستصحاب لتعين خصوص الماء بعد
وجود تلك المطلقات كما في المستند، لأنه لا مجرى له. ولا ريب أن التعدي
المستفاد منهما هو التعدي عن حلقة الدبر التي اعتيد تلوثها بالتغوط المتعارف
الغير الثلط الذي هو معتاد الطباع السليمة عن المرض الخالية عن التليين الذي هو
المراد من قوله: " تبعرون بعرا " إذ ليس المراد منه اليابس الذي لا يوجب خروجه
تلوث ظاهر المخرج، لعدم الاحتياج معه إلى المطهر إجماعا، وإن حكي أنه يوهم
وجوبه فيه أيضا بعض فروع المنتهى، بل المراد منه ما يقذفه الطباع المتعارفة عند
أكل الأغذية المتعارفة لهم، فإنهم يقذفون - حينئذ - كما يقذفه الحيوانات في حالة

(1) في الأصل: قلبه.
174

لم يعرضها ما يوجب ثلطها، فإن لها أيضا ثلطا في ابتداء رعيهم في الربيع من
الحشيش الأخضر اللطيف الكثير الماء، لكن الانسان لما لم يكن مخرجه كمخرج
الحيوان فلا محالة يتلوث مخرجه في الجملة ولو مع القذف، فلذا يحتاج إلى إزالته
ولو بالحجر. وعليه فالتعدي إنما هو ما يحصل غالبا من الثلط الذي هو نوع فساد
في الطبيعة.
والحاصل: أن التعدي المفهوم من دليل لزوم الماء وهو النبويان المعتمد عليه
عندنا هو التعدي عن المحل المتعارف تلوثه بالتغوط المتعارف، فلا يهمنا فحص
كلمات العلماء لتعيين ما يستفاد منها في معنى التعدي، وأنهم ماذا أرادوا في
المقام، لأنه يجب ذلك لمن اتكل في الحكم على خصوص الإجماع، ونحن لم
نقتصر عليه كما بيناه، هذا.
مع أن كلماتهم غير آبية عن إرادة هذا المعنى منها، بل جملة من العبارات
ظاهرة، بل صريحة فيه، فعن الذكرى: " لا استنجاء بالحجر من الغائط المنتشر عن
المخرج إجماعا، وهو المروي، والظاهر أنه أراد بالرواية المشار إليها النبويين
فيكون - حينئذ - صريحا فيما ذكرناه وإن كان يكفي في ظهوره في المطلب نفس
تعبيره.
وعن الروض أن المراد بالتعدي عن المخرج التعدي عن حواشي الدبر بأن لم
يبلغ الإليتين، وهذا الحكم إجماعي من الكل، وقريب منه بل مثله ما عن المسالك
والروضة وعن الذخيرة، والظاهر أن المراد بالتعدي في عبارات الأصحاب تعدي
حواشي الدبر وإن لم يصل إلى الإلية. ويظهر من التذكرة نقل الإجماع على ذلك،
وكذا يفهم الإجماع من كلام الشارح الفاضل من قوله: " ولولا ذلك لم يبعد تفسيره
بوصول النجاسة إلى محل لا يعتاد وصولها إليه، ولا يصدق على إزالتها اسم
الاستنجاء " انتهى.
وعن مجمع البرهان: " ان أخبار الاكتفاء بالأحجار خالية عن التقييد، بل
ظاهرها العموم، فلولا دعوى الإجماع لأمكن القول بالمطلق إلا ما يتفاحش
175

بحيث يخرج عن العادة ويصل إلى الإلية، كما اعتبروا ذلك في عدم عفو ماء
الاستنجاء، ولولا دعوى العلامة الإجماع في التذكرة على أن المتعدي هو ما
يتعدى عن المخرج في الجملة ولو لم يصل إلى الحد المذكور لقلت: مراد
الأصحاب ما قلناه، لعموم الأدلة مع عدم المخصص ". انتهى.
وظاهر كلامه الأخير حمل كلمات الأصحاب على ما يقوله لينطبق حكمهم
على الدليل، فهو سلم ظهورها في كفاية مطلق التعدي كما صرح به المحدث
البحراني على ما حكي عن حدائقه من قوله: " ان معنى التعدي لا يخلو من إجمال
وإشكال، حيث إن ما صرح به الأصحاب من أنه عبارة عن تجاوز الغائط للمخرج
وهو حواشي الدبر وإن لم يبلغ الإليتين لا دليل عليه في أخبار الاستنجاء
بالأجمار من طرقنا، بل هي مطلقة ". انتهى.
فظهر أن مراد الأصحاب من التعدي هو ما يزيد على ما يتلوث به حواشي
الدبر في الغالب المتعارف وإن لم يصل إلى ما يخرجه عن اسم الاستنجاء. وتأمل
هؤلاء الجماعة فيه إنما هو من حيث الدليل لا من حيث إجمال المراد، لأنهم
- كصاحب المدارك - لا يرون العمل بالنبويين، فمن يعتني منهم بالإجماع ويرى
حصوله يسكن اليه كما عن الحدائق من قوله: " الظاهر أن مستند أصحابنا في ذلك
هو الإجماع كما صرح به جماعة "، ومن لا يرى حصوله ولا يعتني بمنقوله يتوقف
كما توقف فيه جملة من متأخري المتأخرين، بل جزم بعضهم كالسيد السند في
المدارك بأنه: " ينبغي أن يراد بالتعدي وصول النجاسة إلى محل لا يعتاد وصولها
اليه ولا يصدق على إزالتها اسم الاستنجاء " انتهى.
ثم استقربه هو، ومن لا يعتني بالإجماع أو لم يحصل له فإن عليه أن يعمل فيه
- حينئذ - بمقتضى القاعدة ويتبع فيه أثر الأدلة كما عرفته من المدارك والحدائق.
فتبين أن كلماتهم صريحة أو ظاهرة في أن المراد من التعدي هو ما كان
خارجا عن الحالة المتعارفة وإن لم يبلغ مرتبة الخروج عن اسم الاستنجاء، فكما
لا يجب بلوغ تلك المرتبة كذا لا يصدق على ما تلوث به نفس الحواشي التي هي
176

عبارة عن حلقة الدبر الظاهرة، لأنه لو لم يتعد إليها لم يجب استعمال المطهر
جزما كما عرفت، فما في الجواهر من عدم كفاية مطلق التعدي مشيرا به
إلى ذا المعنى مستظهرا إياه من كلمات الجماعة المنقولة مستبعدا إرادة
الأصحاب إياه معللا ذلك أنه لازم لخروج الغائط في الغالب مع أن الاستنجاء
بالأحجار كان هو المتعارف في ذلك الزمان فيه ما لا يخفى، والأقوى ما عرفت،
لما ذكرناه.
قوله (قدس سره): (والحد في الغسل النقاء) لحسنة ابن المغيرة: " عن أبي
الحسن (عليه السلام) قلت له: هل للاستنجاء حد؟ قال: لا ينقى ما ثمة - وفي بعض النسخ:
لا حتى ينقى ما ثمة - قلت: فإنه ينقى ما ثمة ويبقى الريح، قال: الريح لا ينظر
اليه " (1) ويمكن التمسك فيه بما تقدم من رواية يونس بن يعقوب من قوله:
ويذهب الغائط، فإن إطلاقه يعطي أن حده ذهابه الموجب لنقاء المحل عنه، سواء
كان بالماء أو بالأحجار.
ولا يخفى أن النقاء لو اكتفينا به فإنما هو مع عدم التعدي الموجب لنجاسة ماء
الاستنجاء، وأما مع نجاسته فالأقوى التعدد لو أوجبنا التعدد في غير الاستنجاء،
لأنه إزالة غير استنجائية - حينئذ - فيلحقه حكمه، وهذا هو وجه ما علقه الأستاذ
- طاب ثراه - هنا من حكمه بلزوم التعدد مع التعدي الفاحش الموجب لنجاسة
الغسالة، بل لولا الإجماع على كفاية النقاء في صورة عدم التعدي كذلك لأشكل
القول بكفايته بناء على لزوم التعدد في غير الاستنجاء تعويلا على الخبرين
المذكورين، لما عرفته من سكوت رواية يونس عن بيان التعدد والمرة الواحدة
كما قدمناه.
وحسنة ابن المغيرة - أيضا - واردة لبيان مطلب آخر وهو ما توهمه السائل من
عدم كفاية النقاء الظاهري في الاستنجاء بعد شمولها للاستنجاء بالأحجار
أيضا كما هو ظاهر إطلاقها مع عدم صارف يصرفها عنه، لعدم قرينية ما ذكره

(1) الوسائل 1: 227، الباب 13 من أحكام الخلوة، ح 1.
177

الأستاذ - طاب ثراه - لاختصاصها بالاستنجاء بالماء من قوله: " إن الظاهر أن
الريح المسؤول هو الباقي في المحل بشهادة وجوده في اليد، وإلا فلا يمكن
استشمام المحل، ولا يكون ذلك إلا في الغسل، إذ مع المسح لا يوجد في اليد شيء ".
وجه عدم قرينيته أنه لا ريب أن الريح المسؤول عنها هو الباقي في المحل،
ولكن ليس المراد منه ريح الغائط المتعارف حتى يقال: إن اعتبار بقائها إنما
هو باستشمام اليد، لأن استشمام المحل غيرممكن، فيأتي من قبله - حينئذ -
اختصاص مورد الرواية بالاستنجاء بالماء، بل المراد بالريح المسؤول عنها هو ما
يوجد في الغائط الفاسد الذي يكون في بعض الأحوال في كمال العفونة من فساد
في الطبيعة التي لا يحتاج استشمامها إلى اليد ولا إلى غيرها، بل يحس من
الشخص الجائي من الغائط يستشمها هو وكل من يدنو اليه، فيتوهم من استشمامها
أنه لم ينق المحل، فهذا هو الذي نفي (عليه السلام) ضررها بقوله (عليه السلام): " الريح لا ينظر اليه
بعد ما فرضه الشارع من حصول النقاء " فالرواية مسوقة لبيان أن هذا المقدار من
النقاء كاف ولا يحتاج إلى النقاء المذهب للريح، فهي ساكتة عن العدد المعتبر في
هذا النقاء، فلا بد في تحصيله من الرجوع إلى غيرها مما هو محل لاستفادته منه.
وبهذا البيان يمكن جعلها قرينة على تعميم الرواية للاستنجاءين أو لخصوص
الاستجماري منه وإن لم يخصص الريح المسؤول عنها بالعفن أيضا، بتقريب أن
الريح المسؤول عنها يمكن أن يراد به ما يوجد في المتعارف أيضا، إلا أن هذه لما
تبقى غالبا فيمن استجمر ولا تزول عنه كما تزول عمن استنجى بالماء فيستشمها
هو بعد الفراغ عن عمله والقيام عن محله، بل يشمه كل من يدنو إليه.
فتوهم السائل أن النقاء المطلق بالأحجار لعله يكون مثل ما طلب من الماء
من إزالتها هذه الريح أيضا كما يزيلها الماء، ولا يكفي فيها نقاء المحل عن العين،
فسأل عن ضرر بقاء الريح بعد هذا النقاء الظاهري، فأجابه (عليه السلام) بأن الريح لا ينظر
اليه بعد حصول النقاء.
وبالجملة لا يوجب هذا الذي ذكره (قدس سره) صرف الرواية عن ظاهرها من العموم،
178

لما بيناه كما لا يتم الامور الاخر التي ذكرها للاختصاص كما يعلم ذلك بالرجوع
إلى كتابه، فإذا ثبت عموم الرواية للاستجمار كما هو الظاهر منها تبين أنها لم ترد
لبيان التحديد من حيث العدد، بل الظاهر منها - حينئذ - أن الداعي إلى السؤال عن
الحد ما توهمه السائل من أخبار الاستجمار من كفاية الثلاثة مطلقا، وإن لم ينق
المحل غاية للنقاء، فأجابه (عليه السلام) بأن الحد النقاء الظاهري.
لا يقال: إنها - حينئذ - تدل على كفاية النقاء ولو حصل بأقل من الثلاثة، مع أن
الأقوى - كما يأتي - لزوم الثلاثة لما يدل على اعتبارها.
لأ نا نقول: إن التوهم إنما كان في الاقتصار على ما احرز لزومه من الثلاثة،
وأنه هل يجب الزائد عليها أو لا يجب؟ فلا إطلاق فيها يشمل ما دون الثلاثة، مع
أن تسليم إطلاقها غير ضائر كما سلمه جماعة، غاية الأمر وقوع التعارض بينها
وبين أخبار اعتبار الثلاثة، فيقدم تلك عليها لما في تلك الأخبار من المرجحات
سيما في الدلالة باعتبار النصوصية، هذا.
ويمكن تتميم دلالة الرواية على كفاية النقاء في الاستنجاء بالماء وعدم لزوم
العدد بوجه آخر وهو أن يدعى أن ظاهر السؤال هو التفحص عن حال إزالة تلك
النجاسة الخاصة وهو إزالة الغائط بالماء عن محله ومخرجه، لأن إزالته بغير الماء
كانت معلومة عندهم من حيث إن العدد لازم فيها بملاحظة أخبارها ووضوح
جري السنة عليها، فتحير السائل في أن المعتبر في إزالته عن المخرج بالماء هل
هو العدد المعتبر في إزالته عنه بغير الماء من الأحجار من التثليث، أو أن حاله في
إزالته عن المخرج بالماء كحاله في إزالته به عن غيره؟ فسأل الامام (عليه السلام) عن حد
الإزالة بالماء هنا لرفع الحيرة الحاصلة له من تلك الملاحظات، فأجابه (عليه السلام) بأن
حده هنا النقاء، ولا يعتبر فيه العدد أصلا.
وعندي أنه لا ضير في هذه الدعوى، لأنه غير بعيدة عن ملاحظة الرواية
سؤالا وجوابا ومتبادر عنها أيضا في متفاهم العرف، فلا غرو في التعويل عليه لأنه
ظهور لفظي حاصل من الكلام في متفاهم أهل المحاورة.
179

لا يقال: انها بناء على ما ذكرت تدل على كفاية النقاء في البول أيضا، لأنه
أيضا استنجاء.
لأنه مدفوع بأن المعهود من لفظ الاستنجاء هو الغائط، مع أن قوله: " تنقى
ما ثمة " أيضا قرينة على أنه هو المراد بالسؤال في المقام.
فإذا الأقوى كفاية النقاء في الاستنجاء بالماء ما لم يتعد تعديا فاحشا،
للرواية وللإجماع الظاهر تحققه في المقام كما ادعاه الأستاذ - طاب ثراه - صريحا
على نفي التعدد في الاستنجاء من الغائط، وحكاه عن المنتهى على أنه لا يبعد أن
نقوي كفاية المرة في غير الاستنجاء أيضا.
قوله (قدس سره): (بل هو) يعني النقاء (في المسح قوي) وجه كفايته اطلاق
قوله (عليه السلام): " حتى ينقى ما ثمة " وإطلاق قوله (عليه السلام): " ويذهب الغائط " وتنزيل
روايات التثليث على الغالب المتعارف من عدم حصول النقاء والإذهاب إلا
بالثلاثة، فلا تعارض الدالة على التثليث الإطلاقين المعتضدين بإطلاقات المسح
والاستنجاء، مضافا إلى استبعاد وجوب الامرار تعبدا.
قوله (قدس سره): (لكن الأحوط والأقوى التثليث في المسح مع فرض
حصوله بالأقل) لضعف التمسك بالإطلاقين، لما بيناه من إهمالهما من تلك
الجهة أولا، ولمنع ورود أخبار التثليث مورد الغالب ثانيا، لمنافاة الخروج مخرج
الغالب كيفية التعبير عن اعتبارها في المسح بقوله: " جرت السنة " كما في صحيح
زرارة (1) وفي صحيحه الآخر: " ويجزيك من الاستنجاء ثلاثة أحجار بذلك جرت
السنة من رسول الله " سيما بعد ملاحظة تعقب قوله: " ويجزيك... الخ " لقوله (عليه السلام):
" لا صلاة إلا بطهور " (2) فإنه يوجب كمال ظهوره في عدم إجزاء أقل من ثلاثة
في الطهورية.
ومثله خبره المتقدم: " جرت السنة في أثر الغائط بثلاثة أحجار أن يمسح

(1) الوسائل 1: 246، الباب 30 من أبواب أحكام الطهارة، ح 3.
(2) الوسائل 1: 222، الباب 9 من أبواب أحكام الخلوة، ح 1.
180

العجان " فإنه يفيد أن المجعول مطهرا لإزالة تلك النجاسة من قبل الشارع ثلاثة
أحجار لا أقل.
وأصرح منهما خبر سلمان (رضي الله عنه): " نهانا النبي أن نستنجي بأقل من ثلاثة
أحجار " (1).
فإذا الأقوى ما قواه من لزوم التثليث، لأن إزالة النجاسة المعتبرة فيما يشترط
فيه الطهارة الخبثية لا شك أنه لم يرد منها إزالة عينها قطعا كما مر مشروحا في
الإزالة بالمضاف، بل المراد منها إما رفع الحالة الخبثية المعنوية الحاصلة من
عروض تلك الأعيان بطرو ضدها وهو الطهارة المعنوية والحالة الكمالية للمحل،
أو الحكم بجواز الإتيان بالمشروط بها بعد أعمال مخصوصة، وأيا ما كان لا بد من
أخذه من الشرع والاقتصار في الحكم بحصولها بما جعله الشارع محصلا لها،
وهذا هو معنى التعبد بما وصل منه، وعدم الرخصة في التعدي عنه، هذا.
مضافا إلى جريان استصحاب بقاء حكم النجاسة في مورد الشك في رفعها،
ولا ريب أيضا في ظهور الروايات المذكورة في اعتبار التثليث في المطهر
المسحي الذي هو مقابل الغسل، بل وعدم كفاية ما دون الثلاث كما هو صريح خبر
سلمان، وظاهر صحيحتي زرارة (2) وما ضاهاهما، كمرسل ابن عيسى المتقدم (3).
ومرفوعة أحمد التي مثله من قوله (عليه السلام): " جرت السنة في الاستنجاء بثلاثة أحجار
أبكار وتتبع بالماء " (4) والنبوي المتقدم (5) الذي ذكرنا انتظامه في سلك أخبارنا في
مسألة التعدي كالنبويين الآخرين اللذين يمكن التأييد بهما لو لم يجبرا بالشهرة
المحققة والإجماع المحكي الصريحين في نفي الأقل: أحدهما: " لا يكفي أحدكم

(1) مستدرك الوسائل 1: 275، الباب 22 من أبواب أحكام الخلوة، ح 10.
(2) الوسائل 1: 222، الباب 9 و 30 من أبواب أحكام الخلوة، ح 1.
(3) تقدم في ص 170.
(4) الوسائل 1: 246، الباب 30 من أبواب أحكام الخلوة، ح 4.
(5) تقدم في ص 170.
181

دون ثلاثة أحجار " (1) والآخر: " لا يستنجي أحدكم بدون ثلاثة أحجار " (2)،
والنبويين الظاهرين في ذلك أحدهما: " إذا جلس أحدكم لحاجة فليمسح ثلاث
مسحات " (3) والآخر: " واستطب بثلاثة أحجار، أو ثلاثة أعواد، أو ثلاثة حفنات
من تراب " (4).
ولا يعارضها مطلقات المسح والاستنجاء، لأنها من تلك الجهة مهملة لو لم
يدع ظهورها في اعتبار العدد باعتبار صيغة الجمع أو عدم منافاتها لإرادة العدد
منها بملاحظة اسم الجنس الصادق على القليل والكثير، فانحصر المعارض في
الإطلاقين المتقدمين اللذين قد عرفت إهمالهما من تلك الجهة.
وعلى فرض الإطلاق يجب تقييدهما بتلك، لنصوصيتها في نفي الأقل، وعلى
فرض التكافؤ يرجع إلى استصحاب حكم النجاسة، لفقد ما يوجب ترجيحهما على
تلك فيسلم الأصل، لعدم وجود إطلاق سالم حاكم عليه بعد ما عرفته من البيان.
قوله (قدس سره): (وأحوط من ذلك مراعاته بآلات منفصلة) يعني أن هذا
احتياط فوق الاحتياط الأول، لأنه كمال الاحتياط لا أن الاحتياط هنا أشد منه
ثمة، لأن خفته هنا غير خفية، لقول جماعة من معتبري العدد بكفاية ذي الجهات
والشعب، ولأضعفية دليله بالنسبة إلى دليل اعتبار العدد بملاحظة كثرة الروايات
الواردة في اعتبار العدد وانحصار دليل عدم كفاية ذي الجهات في فهم الانفصال
من التعبير بثلاثة أحجار ونحوه مما هو من المنفصلات.
ويمكن دفعه بورودها مورد الغالب والمتعارف، كما ربما يفصح عنه
قوله (صلى الله عليه وآله): " فليمسح ثلاث مسحات " (5) بدعوى كونه مبينا لأخبار العدد لو لم يدع
أن الأمر بالعكس لأظهريتها منه.

(1) سنن البيهقي 1: 102.
(2) سنن البيهقي 1: 103.
(3) نقله في روض الجنان: في بيان أحكام المتخلي ص 24 س 19.
(4) سنن البيهقي 1: 111.
(5) عوالي اللآلي 2: 185، باب الطهارة، ح 59. وفيه: وليستنج.
182

قوله (قدس سره): (فلا يجزي - حينئذ - في حصول الاحتياط ذو الجهات
والشعب وإن كان الأقوى حصول الطهارة به) قد عرفت إمكان التعويل في
هذه التقوية إلى أمرين من منع لزوم التعدد رأسا ومن منع لزوم كونه بآلات
منفصلة.
ولكن الإشكال في التعويل عليهما غير خفي بعد ما بيناه كما استشكل فيه
الأستاذ في تعليقه على الرسالة بقوله - طاب ثراه -: " فيه إشكال " بل غير خفي
لزوم كونه بآلات منفصلة، لما عرفته من ظهور الأدلة الدالة على لزوم العدد في
لزوم صدق المسح بثلاثة أحجار، وأنه الذي جعل مطهرا في المقام وغيره غير
ثابت مطهريته لو لم ننفه بما هو صريح في لزوم العدد، والواحد ذو الجهات واضح
عدم صدق المسح بالثلاثة عليه، لوضوح الفرق بين ثلاث مسحات وبين المسح
بثلاثة أشياء، والذي مذكور في الأدلة هو الثاني لا الأول، وارجاعه اليه بالاعتبار
الحدسي الغير المعتبر في الفقه واضح البطلان.
وعدم قابلية خبر: " فليمسح ثلاث مسحات " بعد الغض عن عدم نصوصيته
في الواحد ذي الجهات لصرف تلك للظواهر، بل النصوصات الخاصية والعامية
واضحة غنية عن البيان، لكونه عاميا غير منجبر، ولكونه ساقطا عن درجة
الاعتبار سيما بعد عدم كفاية مطلق الانجبار في الأخبار العامية، للزوم مرتبة
خاصة منه فيها، وهو اتكال الكل أو المعظم في فتواهم عليها واستنادهم إليها كما
ذكرناه في العاميين اللذين تقدما في مسألة التعدية (1)، مضافا إلى ما عرفت من أن
دلالته غير بالغة في الظهور حد الصرف سيما في صرف ما هو أظهر منه.
فالأصل بعد تلك الظواهر الصريحة في اعتبار صدق المسح بثلاثة أشياء
يقضي بعدم كفاية ذي الجهات والشعب.
والعجب من صاحب المستند حيث إنه التزم بلزوم تعدد الماسح في

(1) تقدما في ص 180.
183

الأحجار، واكتفى في غيرها بالواحد ذي الجهات زعما منه اختصاص ما يفيد
لزوم التعدد من أخبار الباب بما هو متضمن لفظ الأحجار، ففيها يقيد مطلقات
المسح، وفي غيرها من الأخشاب والخرق ونحوهما يعمل بالإطلاق لسلامته عن
المقيد، مع أنك عرفت إهمال المطلقات من تلك الجهة، لأنها مسوقة لبيان أن
الكرسف - مثلا - مطهر لهذا النجس، ولا يتعين فيه الماء كما يتعين في الإزالة عن
غير ذلك الموضع، فلا إشعار فيها بأن القدر الذي يعتبر من تلك الأشياء في
المطهرية ماذا؟ مضافا إلى استلزام التقييد في بعضها - كما سلمه - هو لزوم التزامه
في الجميع، لعدم القول بالفصل، وللقطع بأن خصوصية الحجرية ملغاة، وإنما خص
بالذكر لكونه الفرد الغالب الشائع لما هو المطهر هنا من الجسم القالع للنجاسة
الصالح للاستعمال فيه.
نعم لا بأس بالتمسح بأطراف ثوب وسيع نحوا من الوسعة ينزل كل طرف منه
عند العرف منزلة المنفصل لكبره، فهو في الحقيقة مسح بالمتعدد لا بالواحد، وإن
شئت قلت: التعدد أعم من الحقيقي والحكمي، لكن بشرط أن يكون التنزيل وعده
متعددا ثابتا عند العرف ومثل الثوب الواسع، بل كل موسع مثله فإن التنزيل فيه
ثابت عرفا، فافهم.
قوله (قدس سره): (ويكفي في الاستجمار إزالة العين دون الأثر الذي هو بمعنى
الأجزاء الصغار اللطيفة بخلاف الماء) هذه هي مسألة عويصة بملاحظة فهم
كلماتهم فيها، لغاية ما فيها من الاختلاف، ولصعوبة بيان المراد من الأثر المفترق
فيه بين الماء والأحجار في لزوم إزالته بالأول دون الثاني، ولصعوبة جعل ما
يكون التعويل عليه مستحسنا مدركا للفرق، ولا يهمنا أن نقفوا أثرهم في بيان ما
ذكروه هنا، بل اللازم علينا اتباع ما يفيده الأدلة.
وليعلم أولا أنهم اتفقوا على لزوم اذهاب الغائط ولزوم نقاء المحل عنه - كما
هو مفاد روايتي يونس وابن المغيرة المتقدمتين (1) - بالماء والاستجمار كليهما،

(1) تقدمتا في ص...
184

واتفقوا على حصول الطهر للمحل بالثاني أيضا كحصوله له بالأول كما ادعاه
الأستاذ - طاب ثراه - صريحا، واتفقوا على أن بقاء الريح بنفسها غير مضر، كما
نفاه صريحا حسنة ابن المغيرة (1).
كما أنه لا مجال للتأمل في عدم مضرة ما يبقى من اللون الصبغي الذي لا
يزول بالماء أيضا أحيانا وإن بلغ استعماله في المحل ما بلغ، فانحصر الأثر الذي
فرقوا فيه - حينئذ - بين الماء والأحجار في اللون الذي يزول بالماء بسهولة، ولا
يزيله الاستجمار إلا إذا بولغ فيه غاية المبالغة التي لا يرتكب مثلها في العادة، لما
فيها من كمال المشقة، فإن ما دونه من الأجزاء اللطيفة التي هي بعض مراتب العين
عرفا لا يسع بحسب الأدلة المعتبرة للنقاء التزام عدم لزوم، إزالتها، بل ينافيه
الاتفاق على طهارة المحل، اذ يلزم من التزام عدم لزوم إزالتها وعدم ضرر بقائها
في المحل الالتزام بطهارة عين الغائط، كما أن حمل الأثر على النجاسة الحكمية
وحمل إزالتها على لزوم التعدد في استعمال الماء مما لا معنى له، لمخالفته لما
اتفقوا عليه من كفاية النقاء وعدم لزوم التعدد مطلقا، مع اعتبارهم لزوم ذهاب
الأثر بالماء، هذا.
مضافا إلى ما حققناه من أن ما يجب إزالته هو النجاسة المعنوية التي اعتبر
الشارع مانعيتها للصلاة مثلا لا خصوص العين، وهو الذي عبر عنه بالحكمية، أي
ما حكم بعدم صحة الصلاة - مثلا - معه فحمل الأثر على خصوص هذا اللون
متعين كما ينادي به كلماتهم المحكية، مثل ما حكي عن ثاني الشهيدين والفاضل
الميسي أنها أجزاء لطيفة عالقة بالمحل لا تزول إلا بالماء، والتعبير عنه بالأجزاء
إنما هو بملاحظة ما اتفق عليه الحكماء من أن اللون المرئي هي أجزاء الجسم
اللطيفة، لاتفاقهم على امتناع قيام العرض بغير الجوهر وامتناع انتقاله من محل
إلى آخر.

(1) الوسائل 1: 252، الباب 35 من أبواب أحكام الخلوة، ح 6.
185

وكيف كان فالدليل على لزوم إزالة هذا اللون بالماء وعدم لزوم إزالته
بالاستجمار إن كان هو كشفه عن بقاء العين وعدم ذهابها عن المحل فيصدق عليه
الغائط حينئذ، فقد عرفت أنه لا معنى لعدم لزوم إزالته بالاستجمار، لما عرفته في
تفسير الأثر بالأجزاء اللطيفة التي هي بعض مراتب وجود العين أن إزالته لازمة
بالإجماع وبالمعتبرين المتقدمين في حد الاستنجاء من أنه الذهاب والنقاء،
مضافا إلى ما يستلزمه من اللوازم الفاسدة.
وإن كان لأجل عدم صدق النقاء مع بقاء هذا اللون ففيه أيضا أنه لا معنى له
حينئذ لعدم لزومه في الاستجمار بعد ظهور حسنة ابن المغيرة ورواية يونس في
لزومه لعدم مخرج إياه عنهما، مضافا إلى قيام الإجماع على اعتبار النقاء في
الاستجمار أيضا كما ادعاه صريحا شيخنا الأستاذ - طاب ثراه -.
وإن كان لصدق النقاء مع بقاء هذا اللون ولكن في الاستنجاء بالماء لزم إزالته
تعبدا ففيه ما مر مرارا من عدم تعقل التعبدية بهذا المعنى في أمثال المقام، اللهم إلا
أن يدعى تحقق التفكيك في صدق النقاء عرفا في المطهرين كما هو غير بعيد بأن
يدعى أنه يفهم عرفا من لزوم الغسل، والاذهاب به أنه يعتبر تحقق التنظيف به
عرفا المتوقف صدقه في الغسل على ذهاب العين والأثر معا بخلاف الاستجمار
لتحقق النقاء والاذهاب فيه بعدم بقاء شيء مما يعد عينا في العرف وصدق نقاء
المحل عما كان فيه وإن بقي لونه.
فتحقق من تمام ما ذكرنا أن اللازم في كل من قسمي الاستنجاء هو النقاء
وذهاب العين وأن بقاء ما يعد لونا عند العرف غير ضائر بعد الحكم بأنه لم يبق من
العين شيء ولا تضايق من تفاوت الصدق في الموضعين.
قوله (قدس سره): (كما أنه يكفي فيه كل جسم قالع من غير فرق بين الأحجار
والخرق وغيرهما) كما هو المشهور، بل حكي عليه الإجماع في الجواهر،
وخصه بالجامد وغير الصقيل بعضهم كما حكي الأول عن المنتهى حيث قال:
" يجوز استعمال كل جامد طاهر إلا ما نستثنيه وهو قول أكثر أهل العلم " ونسبه
186

في المستند إلى والده أيضا وعلله بتنجسه مع الرطوبة بالملاقاة.
وفيه أنه لا يضر في تنجس المطهر بالاستعمال، بل هو لازم التطهير
بالأحجار، اللهم إلا أن يكون المراد رطوبة سارية إلى المحل بعد تنجسها بالملاقاة
فينجس بها، واعتبار عدم الرطوبة بهذا المعنى هو الأقوى، لعدم إفادته طهر المحل،
بل وجب تعين الماء في تطهيره حينئذ لعدم كفاية الاستجمار في طهر غير الغائط
عن موضع النجو ونسب اعتبار الثاني إلى الأكثر.
ولكن الظاهر أن وجه المنع في الصقيل عدم القلع، ولا بأس به ولو اريد منه
الأعم على فرض تحقق القلع التام به كبعض أفراده فلا دليل يقتضي ممنوعيته.
ودعوى انصراف الإطلاق إلى غيره ممنوعة كما لا يخفى.
قوله (قدس سره): (والأحوط اعتبار البكارة فيه) معنى عدم استعماله في
الاستنجاء أو في تطهير باطن القدم، لمرسل ابن عيسى المتقدم من قوله: " بثلاثة
أحجار أبكار " (1) ولأن المستعمل مشكوك المطهرية، فالأصل يقضي بترتب
أحكام النجس على المحل بعد استعماله.
ونسب اختيار البكارة في الجواهر إلى شيخه كاشف الغطاء في كشفه، وحكاه
عن ظاهر القواعد والشرائع، كما عن الوسيلة والنهاية والمهذب، وعن كاشف
اللثام حكايته عن ظاهر الجامع والإصباح، والوجه فيه ما قدمناه.
قوله (قدس سره): (وإن كان الأقوى خلافه - إلى قوله: - ولو بأن يغسله لو كان
متنجسا) يعني أن الأقوى عدم منع المستعمل من حيث استعماله كما ظاهر
الجماعة المتقدم إليهم الإشارة، بل الممنوع المستعمل المتنجس لتنجس المحل
حينئذ بنجاسته، فيتعين فيه الماء، ولذا لو استعمله بعد تطهيره لم يمنع من استعماله
كما حكي عن صريح كشف الغطاء منعه من استعماله وإن غسل، ويرده ما عن
مصابيح الطباطبائي من قوله: " ولو طهر المتنجس بالاستنجاء أو غيره جاز
استعماله اجماعا ".

(1) تقدم في ص 184.
187

ويؤيده الإجماع المتقدم المحكي عن المنتهى من جواز الاستنجاء بكل
جامد، ومثله حكي عن الغنية، وجوازه هو المصرح به من جملة من الأصحاب.
ويدل على عدم ممنوعية الاستعمال من حيث نفسه إطلاق قوله (عليه السلام): " ينقي
ما ثمة " وإطلاق قوله: " ويذهب الغائط " في حسنة ابن المغيرة (1) وصحيحة
يونس (2)، وإطلاقات المسح والاستنجاء، بل جميع أخباره لإطلاقها من تلك
الحيثية، فلا مجال لإجراء الأصل بعد تلك الظواهر السليمة، لعدم بلوغ المرسلة
حد الحجية حتى يقيد بها تلك الإطلاقات القوية المعتضدة بالمحكي من الإجماع،
مضافا إلى ما في دلالتها من الإجمال لو لم يدع ظهورها في المنع عن المستعمل
المتنجس لا مطلق المستعمل وإن لم يتنجس كالمكملة للعدد، لما يشاهد من
التلازم الغالبي بين الاستعمال والتنجيس، فقوله: " أبكار " يحتمل قويا وروده
لردع العوام الغير المبالين بالأحكام والدين فيأخذون بإطلاق قوله (عليه السلام): " ثلاثة
أحجار " ولا يلتفتون إلى أن ما يستعملونه قد تنجس سابقا فنبههم (عليه السلام) بقوله:
" أبكار " ليتفحصوا ولا يستعملوا المتنجس فيصعب عليهم الأمر بعد الالتفات.
وبالجملة فتقييدها بالمرسلة رفع يد عن الظواهر المحكمة بلا صارف معتبر،
كما أن دعوى الانصراف فيها مجازفة واضحة، فالأقوى جوازه بكل ما فيه
صلاحية القلع عدا المستثنيات.
قوله (قدس سره): (فلا يجوز الاستجمار بالأعيان النجسة) للإجماع كما عن
التذكرة، والتحرير، والغنية، ولعدم الدليل على مطهريته بعد تقييد مطلقات المسح
والاستنجاء بغير المتنجس اللازم منه عدم جوازه بالنجس بالطريق الأولى،
ولمرسل ابن عيسى (3) الدال على خروج المتنجس أيضا، فهو دال على عدم
جوازها به بالفحوى كما سمعت، ولأن المحل ينجس بها على ما هو الحق أيضا من
تأثر المتنجس بما يرد عليه من النجاسات إذا كان للواردة حكم زائد عن التي

(1) تقدم في ص 177.
(2) تقدمت في ص 169.
(3) تقدمت في ص 172.
188

في المحل، فلا يجوز من تلك الجهة أيضا.
ومنه يتبين عدم الفرق بين النجس والمتنجس كما هو معقد الإجماع المحكي
عن الغنية، لأنه ادعاه على اعتبار الطهارة، وهو كذلك، لما عرفته من لزوم تقييد
المطلقات بالطاهر فإن الفاقد للطهر في نفسه لا يعقل أن يفيد طهرا في غيره
وتنجسه بالاستعمال غير ضائر، لما بيناه في التطهير بالماء القليل، ولأن الطاهر
المتنجس بالاستعمال متيقن الإرادة من لفظة " أبكار " في المرسلة فهو داخل في
المطلقات، فيصح من أجله حينئذ.
قوله (قدس سره): (بل لو استعملها تعين الماء على الأقوى، ولا يجزيه
الاستجمار بعدها بالأحجار الطاهرة) لما فيه من النجاسة الخارجية، خلافا
لما عن محتمل النهاية من الإجزاء بها مطلقا، ومحتمله الآخر كما عن القواعد
اختياره من إجزائها في صورة مماثلة الواردة للمورود عليها، لأن المتنجس
لا يتنجس مطلقا أو بمثله، فيبقى حكمه كما كان، ولذا عن الموجز وكشف
الالتباس الفرق بين غائطه وغائط غيره، وقد حكى تلك الأقوال في استعمال
المتنجس بعد الحكم بلغوية استعماله وعدم ترتب الأثر عليه، إلا أنك قد عرفت
عدم الفرق بينه وبين أعيان النجاسات، فالأقوى عدم الإجزاء مطلقا، فيتعين الماء
لعدم كونه حينئذ من الاستنجاء وحده، بل له ولإزالة نجاسة غير الغائط الكائن
في محل النجو.
لا يقال: إن تعين الغسل موقوف على زيادة الواردة حكما ولا زيادة في
جملة من النجاسات على الغائط الكائن في موضع النجو سيما إذا كان الوارد منه،
فلا شيء يستدعي لزوم الغسل.
ولأنا نقول لزوم الغسل في كل محل ملاق للنجاسة المسرية اليه حتى موضع
النجو جاء من أدلة لزوم الغسل في إزالة النجاسات إلا ما خرج والمكتفي
بالأحجار هنا يريد أن ينفيه بإطلاقات الاستنجاء بضميمة أن المتنجس لا يتأثر
مما وردت عليه.
189

ولا ريب أن بعد منع مقدمته الأخيرة - وهي الضميمة - لا مجال للتمسك
بإطلاقات الاستنجاء، لأنها دلت على كفاية الأحجار في إزالة نجاسة الغائط
المستنجى منه المخصوص بالكائن في موضع النجو لا إزالة كل ما ورد من
النجاسات على هذا المحل.
ومن هنا ينقدح صحة دعوى انصراف إطلاق أخبار الاستجمار عن مثل هذا
وعدم شموله له، مضافا إلى كفاية الشك في الشمول المتعين معه الرجوع إلى
الأصل، هذا مع ما عرفت من جميع ما ذكرناه أن الواردة لها أثر زائد فتؤثر في
المحل، وبعد تأثره بها لا مناص عن القول بتعين الماء.
قوله (قدس سره): (كما أنه لا يجوز له الاستنجاء بالعظم والروث وكل محترم)
لا يخفى ما في هذا التعبير من مسلمية حرمة الاستنجاء بالمذكورات، ولعله كذلك
للإجماعات المحكية حد الاستفاضة كما يعطيه حكاية الأستاذ إياه عن جماعة
بعد دعواه هو - طاب ثراه - أيضا إياه وفاقا لصريح دعوى المعتبر والمنتهى
والغنية، والروض في الاولين، وصريح المنتهى والغنية في الثالث، وعن المنتهى
الاستدلال له بقوله (صلى الله عليه وآله): " من استنجى بعظم أو رجيع فهو بري من دين
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) " (1) وعن الدعائم: " أنهم (عليهم السلام) نهوا عن العظام والبعر وكل طعام " (2)،
وعن مجالس الصدوق: " ان النبي (صلى الله عليه وآله) نهى عن الاستنجاء بالروث والرمة " (3)،
يعني العظم البالي، وعن الخلاف: " روى سلمان (رضي الله عنه) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمرنا أن
نستنجي بما ليس فيها رجيع ولا عظم " (4) وفي رواية ليث المرادي عن
الصادق (عليه السلام) قال: سألته عن استنجاء الرجل بالعظم والبعر والعود، فقال (عليه السلام):
إن العظم والروث طعام الجن، وذلك مما اشترطوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله): فقال:

(1) عوالي اللآلي 2: 186، ح 62.
(2) دعائم الاسلام 1: 105، كتاب الطهارة.
(3) أمالي الصدوق: المجلس السادس والستون ح 1 ص 345، وليس فيه: الرمة.
(4) الخلاف 1: 107، كتاب الطهارة، م 52.
190

لا يصلح بشيء من ذلك " (1) وعن الفقيه: " ولا يجوز الاستنجاء بالعظم والروث،
فلذلك لا ينبغي أن يستنجى بهما " (2).
وتلك الأخبار بعد انجبارها بتلك الإجماعات المحكية المقاربة للمتحقق بل
هو محقق وبالشهرة المحققة كافية في هذا المرام، فلا ينبغي التأمل في الحكم
بالحرمة وعدم الجواز.
فما عن بعض من الحكم بالكراهة استضعافا لأدلة المنع سندا ودلالة غير قابل
للإصغاء اليه بعد ما تلوناه عليك، سيما بعد انجبار سند الأخبار بالعمل وبكونها
مستفيضة وبوضوح دلالتها المؤيدة بالنبوي العامي: " أنهما لا يطهران "، فما عن
الدارقطني بعد نقله نهي النبي (صلى الله عليه وآله) عن الاستنجاء بالروث والعظم (3)، وفي ما عن
أبي داود أنه قال لرويفعة بنت ثابت: " أخبري الناس أنه من استنجى برجيع أو
عظم فهو بري من دين محمد (صلى الله عليه وآله) " (4) دلالة واضحة على أن المنع عنهما في
زمانه (صلى الله عليه وآله) بلغ أعلى درجة الوضوح.
ويظهر من الجميع أن النهي ليس تكليفيا محضا، بل هو وعدم حصول الطهر أو
خصوص الثاني كما هو الظاهر منه في أمثال المقام، ومنه يتأتى عدم الإشكال في
عدم حصول الطهر بالأولين مؤيدا بقوله (عليه السلام): " لا يصلح بشيء من ذلك " الظاهر
في نفي صلاحية المذكورات لإفادة ما طلب من استعمالها كما هو ظاهر تعلق
النهي بتلك المادة، حيث إنه يفهم منه أن نفي صلاحيته له لعدم قابليته لهذا المطلب
كما يستفاد ذلك المعنى من خبر سلمان (رضي الله عنه) أيضا، فإن تخصيصه الأشياء المأمور
بالاستنجاء بها بما خلا العظم والروث يعطي أنهما خارجان مما يصح الاستنجاء
به، وذكرنا أنه هو الظاهر من النهي أيضا في أمثال المقام، كما اشير اليه غير مرة من

(1) الوسائل 1: 251، الباب 35 من أبواب أحكام الخلوة، ح 1.
(2) من لا يحضره الفقيه 1: 30، في أحكام التخلي ذيل الحديث 58.
(3) سنن الدارقطني ح 1: 56، باب الاستنجاء، ح 9.
(4) سنن أبي داود 1: 9، كتاب الطهارة ح 36.
191

أنه فيها ليس للتكليف البحث أبدا، بل ظاهره بيان المانعية، كما أن ظاهر الأوامر
في أمثال تلك الموارد بيان الشرطية والجزئية، ولا يفهم منهما غيرها وحده جزما،
فهما في أمثال الموارد من الإرشاديات، مضافا إلى ما مر من النبويات الكافيات
في المطلب بعد الانجبار بما زبر.
هذا كله مع دلالة النهي على الفساد وعدم ترتب الأثر المقصود من المعاملة
عليها إذا تعلق بركنها وبما به قوامها كما في المقام في خصوص العظم والروث،
لعدم تمامية ما جعل علة للحكم في العلية، إذ لم يثبت احترام أطعمة الجن كلية
بتلك المثابة التي توجب تركه الهتك، سيما بعد معلومية أن استطعامهم منها ليس
بنحو الأكل.
ثم لا يخفى أنه لا ينبغي الارتياب في أن المنهي عنه في المقام هو رجيع
مطلق الحيوان من غير فرق بين ذات الخف منها وذات الظلف كما يفيده اختلاف
الأخبار في التعبير عنه بالرجيع (1) تارة وبالبعر (2) اخرى وبالروث (3) ثالثة،
ويفيده أيضا إطلاق الرجيع الصادق على الجميع، وإطلاق الروث على البعر في
خبر ليث (4). الدال على أن المراد بهما واحد، وورود خصوص البعر في بعض
الأخبار فلا يضر حينئذ وقوع التعبير في كلمات الأكثر وجملة من معاقد
الإجماعات عن المنهي عنه بالروث الظاهر الاختصاص برجيع ذات الخف من
الحيوان، لما عرفته من استفادة التعميم من الأخبار، فتخصيص بعضهم المنهي عنه
به بالخصوص بتلك الملاحظة مما لا محل له بعدما بيناه.
وأما الأخير - وهو المحترم - فقد فصل المصنف - طاب ثراه - في حكمه
بقوله (قدس سره): (وإن كان الذي يقوى حصول الطهارة بالأخير إذا لم يقض

(1) سنن ابن ماجة 1: 114، كتاب الطهارة ح 315.
(2) دعائم الاسلام 1: 105، كتاب الطهارة.
(3) أمالي الصدوق: 345، المجلس السادس والستون، ح 1.
(4) الوسائل 1: 251، الباب 35 من أبواب أحكام الخلوة، ح 1
192

بالتكفير وإن أثم مع العمد) كما هو المحكي عن الروض، والمقاصد العلية،
وشرح الألفية لوالد البهائي، ومصابيح الطباطبائي عملا بالإطلاق في غير ما
يوجب الكفر وعدم قابلية التطهير في ما أوجب الكفر، هذا مع الغض عن أن المحل
لكونه من بدن الكافر غير قابل لأن يطهر بهذا المطهر.
والأقوى حصولها مطلقا، للإطلاق وعدم مضرة طريان النجاسة الكفرية على
المحل والنهي هنا لا يقتضي الفساد، لأنه في المعاملة، ومتعلقه - وهو الهتك - أمر
خارج عنها وفاقا لجماعة نسب إليهم القول بالطهارة مطلقا منهم المحقق الكركي
في الجامع وماتنه في القواعد، بل عن كشف الالتباس ومصابيح الطباطبائي
والبحار وذخيرة السبزواري نسبته إلى الشهرة، وإن حكي عن الأخير ظهور
الشهرة على الخلاف أيضا، بل عن الغنية الإجماع عليه، ومال اليه الأستاذ في
طهارته، لأنه قال فيها: " ولو كان مستند التعدي عن الأجسام المنصوصة إلى غيرها
الإجماع كان المتعين هو الحكم بالفساد، للأصل وعدم الدليل، فتأمل " انتهى.
وما عرفت وجه الملازمة، لأن قيام الإجماع على نفي جواز ما يكون هاتكا
للحرمة غير ملازم لعدم ترتب الأثر المقصود على الفعل الهاتك المعاملي، فحال
النهي المستفاد منه الحرمة حال سائر النواهي المنصوصة، بل أخف لمصير كثير من
المجمعين إلى أن الأثر مترتب على هذا المحرم، فالإطلاقات من تلك الجهة
سليمة عن المعارض، ولعل أمره - طاب ثراه - بالتأمل إشارة إلى هذا.
ولكن الاحتياط لا ينبغي تركه خصوصا في صورة قضاء الفعل بالتكفير، إما
لما ذكره شيخنا - طاب ثراه - من أن مدار التعدي عن الأحجار إذا كان على
الإجماع. فلا وجه للمصير إلى إجزاء ما يوجب الكفر، لفقد الدليل على التعدي،
إذ لا إجماع على جواز ما ذكر، ولا يخفى أنه لو بني على ذلك لزم أن يقال بعدم
الإجزاء في مطلق المحرم لعين ما ذكر في موجب التكفير ويمكن أمره - طاب
ثراه - بالتأمل إشارة إلى هذا.
وأيضا يلزم أن يقال بعدم الإجزاء وإن جعل سبب التعدي نفس الإطلاق عند
من ادعى الانصراف في مسألة ذي الجهات فإن دعواه عن المذكورات أظهر، هذا.
193

مضافا إلى أن تنجس آلة الاستنجاء بأول ملاقاتها للمحل يوجب نجاستها
بنجاسة الكفر، فتخرج عن قابلية التطهير به، على أن الشك في الإجزاء كاف في
العدم، للأصل هذا، فتأمل فيه وفي ما يذكر للأجزاء لعلك تجد إلى الصواب سبيلا.
وأما حصول الإثم مع العمد فهو المجمع عليه كما تقدم حكايته عن جماعة،
ودل عليه في خصوص المطعوم خبر الدعائم الذي قال الأستاذ في حقه في كتاب
طهارته: " ان أخبار هذا الكتاب من المراسيل القابلة للانجبار "، وقول النبي (صلى الله عليه وآله)
في الكسرة التي رآها في بيت عائشة عند دخوله (صلى الله عليه وآله) عليها التي كاد أن
يطأها (صلى الله عليه وآله) برجله فأخذها وأكلها، وقال (صلى الله عليه وآله): " يا حميراء أكرمي جوار نعم الله
عليك فإنها لم تنفر عن قوم وكادت تعود إليهم " (1) وقضية أهل الثرثار الذين ورد
أن قوله تعالى: " ضرب الله مثلا قرية مطمئنة يأتيها رزقها رغدا " الآية، نزل فيهم
وهم الذين كانت بلادهم خصبة فبطروا حتى كانوا يستنجون بالعجين إلى أن
قال (صلى الله عليه وآله): " فكفروا بأنعم الله، فحبس الله عليهم الثرثار فجدبوا حتى أحوجهم إلى
ما كانوا يستنجون به، حتى كانوا يتقاسمونه " (2).
وفحوى تعليل المنع عن الروث بأنه طعام الجن، وفحوى خبر هشام بن سالم
سأله عن صاحب له (عليه السلام) فلاح يكون على سطحه الحنطة والشعير فيطؤونه
ويصلون عليه، فغضب (عليه السلام) وقال: " لولا أني أرى أنه من أصحابنا للعنته ".
ولما ثبت الحكم في المطعوم من جهة الهتك يثبت في كل محترم يلزم من
الاستنجاء به هتك حرمته وإن لم يلزم ذلك من مطلق تنجيسه، فإن للاستنجاء
خصوصية في الإهانة، وعليها اعتمد الأستاذ في الحرمة فقوى حصول الطهارة مع
الإثم، وأشرنا إلى أن الاعتماد على الاطلاق وعلى الإجماع على حد سواء، لما
بيناه من عدم قيام الإجماع على الفساد، فيكفي الاطلاقات في المحرم ما لم يقض
بالكفر، بل عرفت أن الاجزاء في المكفر أيضا لا يخلو عن وجه.

(1) الوسائل 16: 504، الباب 77 من أبواب المائدة، ح 4.
(2) مستدرك الوسائل 1: 281، الباب 28 من أبواب أحكام الخلوة، ح 1.
194

كما يجب تطهير بدن الميت عن النجاسة قبل الغسل ولو بماء قليل، مع أن
نجاسة موته لا تزول حينئذ، ولازمها نجاسة الماء بغير ما يزال به، وتنجس المطهر
بغير ما يزال به مانع عن حصول الطهر به، لكن ثبت عدم ضيره ثمة لكونها ملازمة
لما يراد إزالته فكذا هنا، وفائدته الحكم بالطهارة وعدم الحاجة إلى الإعادة عند
زوال نجاسة الكفر بالعود إلى الاسلام كالميت بعد تمام الغسل، وليتأمل فإنه دقيق
فلا تغفل.
قوله (قدس سره):
(المبحث الثالث في السنن)
أي الآداب المرغوبة شرعا للمتخلي التحلي بها وهي إما من المستحسن
المندوب إلى فعله أو المستقبح المطلوب التنزه عنه.
قوله (قدس سره): (يستحب تغطية الرأس، ويجزي عنها التقنع الذي هو
مستحب أيضا) استحباب التغطية اتفاقي كما عن المعتبر والذكرى وغيرهما،
وعن الفقيه: " ينبغي للرجل إذا دخل الخلاء أن يغطي رأسه إقرارا بأنه غير مبري
نفسه من العيوب " انتهى. وعن المفيد: وليغط رأسه إن كان مكشوفا ليأمن بذلك من
عبث الشيطان ومن وصول الرائحة الخبيثة إلى دماغه وهو سنة من سنن النبي (صلى الله عليه وآله)،
وفيه إظهار الحياء من الله لكثرة نعمه على العبد، وقلة الشكر منه " انتهى.
وقولهما رواية مرسلة تنجبر بالاتفاق المذكور، فتكون كافية في إثبات
المطلق، مضافا إلى كفاية نفس الاتفاق لإثباته مع الغض عن إرسال المفيد كونها
من السنن إرسال المسلمات، ويمكن أن يكون مطلوبيته التقنع كما في مرسلة
البرقي: " كان الصادق (عليه السلام) إذا دخل الخلاء يقنع رأسه " (1)، وأرسله في الفقيه (2)

(1) الوسائل 1: 214، الباب 3 من أبواب أحكام الخلوة، ح 2، الرواية موافقة لمرسل الفقيه ولم
نعثر عليها في المحاسن.
(2) من لا يحضره الفقيه 1: 24، باب ارتياد المكان للحدث، ح 41.
195

أيضا لكونه يحصل به التغطية لا لخصوصيته فيه.
قوله (قدس سره): (والتسمية) عطف على التغطية فتكون مستحبة، للأخبار
(وأفضلها المأثور) كما في رواية معاوية بن عمار: " إذا دخلت المخرج فقل:
بسم الله وبالله اللهم إني أعوذ بك من الخبيث المخبث الرجس النجس الشيطان
الرجيم، وإذا خرجت فقل: بسم الله وبالله والحمد لله الذي عافاني من الخبيث
المخبث وأماط عني الأذى " (1)، وفي مرفوعة سعد بن عبد الله إلى الصادق (عليه السلام):
" من أكثر فليقل إذا دخل المخرج: بسم الله وبالله أعوذ بالله من الرجس النجس
الخبيث المخبث الشيطان الرجيم " (2).
قوله (قدس سره): (وتقديم الرجل اليسرى عند الدخول واليمنى عند الخروج)
غير ثابت استحبابه بالخصوص، لما عن المعتبر أنه قال: لم أجد لهذا حجة غير أن
ما ذكره الشيخ وجماعة من الأصحاب حسن " انتهى.
فانحصر وجهه حينئذ على التسامح بفتوى الفقيه، ولا يبعد كفاية الإجماع
المحكي عن الغنية والشهرة المحققة لثبوته، مؤيدا بما ذكروه من الوجه
الاستنباطي من أنه عكس المسجد في الشرف والضعة فيستحب هنا عكس ما
استحب فيه، ولا يتم ذلك دليلا بنفسه لأنه نوع من القياس، فلذا جعلناه مؤيدا.
وكيف كان فظاهر لفظي " الدخول " و " الخروج " وملاحظة الحكمة المذكورة
اختصاص الحكم بالبناء، ولكن ذكر جماعة، أن المدار في الصحراء على موضع
الجلوس فيختم تخطية اليه باليسرى ويبتدأ عند قيامه منه وشروعه في الحركة
باليمنى.
قوله (قدس سره): (والاستبراء) واستحبابه هو المشهور، بل في الجواهر: لا خلاف
فيه بين المتأخرين، بل في المستند دعوى ظهور الإجماع عليه، لشذوذ المخالف
وانقطاع القول بمقالته في المتأخرين.

(1) الوسائل 1: 216، الباب 5 من أبواب أحكام الخلوة، ح 1.
(2) الوسائل 1: 217، الباب 5 من أبواب أحكام الخلوة، ح 8.
196

وحكي عن ابني حمزة وزهرة وجوبه، ونسب إلى ظاهر الاستبصار أيضا،
بل عن الغنية دعوى الإجماع عليه، ولا يبعد إرادة الوجوب الشرطي للحكم
بطهارة البلل المشتبه، كما أن أخباره ظاهرة فيه فيرتفع النزاع حينئذ من البين،
وعلى فرض إرادتهما الوجوب التعبدي أو الشرطي للاستنجاء أو الوضوء والغسل
مما لا تأمل في ضعفه، لعدم الدليل عليه. وكيفيته سيأتي عند تعرض المصنف له.
قوله (قدس سره): (والدعاء عند الاستنجاء) بقوله (عليه السلام): " اللهم حصن فرجي
وأعفه، واستر عورتي، وحرمني على النار " (1) وعند الفراغ منه بقوله (عليه السلام): " الحمد
لله الذي عافاني من البلاء وأماط عني الأذى " (2) (وغير ذلك) يعني من
الأحوال المستحبة فيها الدعاء كحالة التقنع سرا في نفسه، وعند إرادة الدخول
واقفا ملتفتا يمينا وشمالا إلى ملكيه ومطلقا، وعند الدخول وعند الكشف، فإن
الشيطان يغض بصره عنه كما في الرواية (3)، وعند الجلوس، وعند الحدث، وعند
النظر إلى الماء، وعند الخروج مطلقا، وبعد مسح البطن بقوله (صلى الله عليه وآله): " الحمد لله الذي
أخرج عني أذاه وأبقى قوته، فيالها من نعمة لا يقدر القادرون قدرها " (4) لورود
جميع ذلك في الأخبار.
وهاهنا مستحبات لم يذكرها هو (قدس سره) وذكرها القوم مثل اختيار موضع مرتفع،
أو كثير التراب للبول، لمرسلة الفقيه: " كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أشد الناس توقيا عن
البول حتى أنه كان إذا أراد البول عمد إلى مكان مرتفع من الأرض أو مكان يكون
فيه التراب الكثير كراهة أن ينضح عليه البول " (5) وغيرها من الأخبار، ومثل
الاعتماد على الرجل اليسرى وفتح اليمنى (6)، ومثل اختيار مهابط الأرض

(1) الوسائل 1: 282، الباب 16 من أبواب الوضوء ضمن ح 1.
(2) الوسائل 1: 216، الباب 5 من أبواب أحكام الخلوة، ح 2.
(3) الوسائل 1: 217، الباب 5 من أبواب أحكام الخلوة، ح 4.
(4) الوسائل 1: 217، الباب 5 من أبواب أحكام الخلوة، ح 6.
(5) من لا يحضره الفقيه 1: 22، باب ارتياد المكان للحدث، ح 36.
(6) فإنه أسرع إلى الدفع كما في الخبر (منه قدس سره).
197

للتغوط. ومثل البدأة بالمقعدة في الاستنجاء، لموثقة عمار (1) ومثل تأخير التكشف
إلى أن يدنو من الأرض للتأسي كما قيل (2) والتسمية عنده.
قوله (قدس سره): (ويكره الجلوس في الشوارع) أي الجواد من الطرق النافذة،
والمراد هنا مطلق النافذ من الطريق وأما الطرق المرفوعة فهي ملك لأربابها لا
يباح الجلوس فيها بلا رخصة منهم، لما عن الخصال بسند معتبر عن أمير المؤمنين
صلوات الله عليه وآله في جملة حديث قال: " ولا تبل على المحجة ولا تتغوط
عليها " ولصحيحة عاصم بن حميد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " قال رجل لعلي بن
الحسين (عليه السلام): أين يتوضأ الغرباء ببلدكم؟ قال (عليه السلام): يتقي شطوط الأنهار والطريق
النافذ وتحت الأشجار المثمرة ومواضع اللعن، قيل له: وأين مواضع اللعن؟
قال (عليه السلام): أبواب الدور " (3) والنهي في الأول محمول على الكراهة، لعدم القول
بالحرمة.
قوله (قدس سره): (والمشارع) أي موارد المياه بلا خلاف فيه وفي سابقه كما في
الجواهر، لصحيحة عاصم ومرفوعة الكافي: " عن مولانا أبي الحسن (عليه السلام) حين
سأله أبو حنيفة - وهو غلام صغير - عن أنه أين يضع الغريب ببلدكم؟ قال (عليه السلام):
اجتنب أفنية المساجد وشطوط الأنهار ومساقط الثمار ومنازل النزال، ولا
تستقبل القبلة ببول ولا غائط، وارفع ثوبك وضع حيث شئت " (4) وغيرهما من
الأخبار (5).
قوله (قدس سره): (ومساقط الثمار) أي المحل المتعارف وقوعها عليه عند سقوطها
من شجرتها، للصحيحة والمرفوعة المذكورتين، ولمحكي العلل عن الباقر (عليه السلام):

(1) الوسائل 1: 227، الباب 14 من أبواب أحكام الخلوة، ح 1.
(2) الخصال: 635، ضمن حديث الأربعمائة، وفي الأصل: ولا تبني على المحجة.
(3) الوسائل 1: 228، الباب 15 من أبواب أحكام الخلوة، ح 1.
(4) الكافي 3: 16، باب الموضع الذي يكره أن يتغوط فيه، ح 5.
(5) الوسائل 1: 228، الباب 15 من أبواب أحكام الخلوة، ح.
198

" ان لله عزوجل ملائكة موكلين بنبات الأرض من شجر ونخل فليس من شجرة
ونخلة إلا ومعها من الله عز وجل ملك يحفظها وما كان فيها، ولولا أن فيها من
يمنعها لأكلها السباع وهوام الأرض إذا كان معها ثمرها، وإنما نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله)
أن يضرب خلاءه تحت شجرة أو نخلة قد أثمرت لمكان الملائكة الموكلين بها،
ولذلك تكون الشجرة والنخلة انسا إذا كان فيه حمله، لأن الملائكة تحضره " (1).
وظاهر مفادها كراهة الفعل تحت الأشجار المثمرة أي اللواتي هي متصفة
بتلك الصفة فعلا، لقوله (عليه السلام): " إذا كان... الخ "، ولقوله: " قد أثمرت... الخ "، ولكن
الأقوى كراهة الحدث تحت المتصفة بالإثمار اتصاف ذي الملكة بملكتها، وهي
التي من شأنها أن تثمر وقت الإثمار في مقابل ما ليست كذلك أصلا كالخلاف
والصنوبرة وأمثالهما، أو بالعرض لصغر أو كبر زال عنها القابلية أو لم تتصف بها
بعد، للمطلقات، إذ لا وجه لتقييدها بعد عدم فهم الاتحاد.
قوله (قدس سره): (والمواضع المعدة لنزول القوافل والمترددين)، لمرفوعة
الكافي المتقدمة، ويمكن استفادته أيضا من صحيحة عاصم بإدخاله في مواضع
اللعن وتنزيل ذكر أبواب الدور على المثال، ولرواية الكرخي: " ثلاث من فعلهن
فهو ملعون المتغوط في ظل النزال... " الحديث (2) والتعبير بالظل، لغلبة مطلوبيته
للنزال، وغلبة كون منازلهم ذات الظل فلا تنافي الإطلاق.
قوله (قدس سره): (والتي يلعن فيها المحدث كأبواب الدور)، للصحيحة
المتقدمة، وتعبيره كتعبير جملة من الأصحاب يشهد على فهمهم المثالية من
تفسيره (عليه السلام) مواضع اللعن بأبواب الدور، ولذا أخذنا بإطلاقها.
قوله (قدس سره): (واستقبال قرص القمر والشمس بفرجه)، لرواية السكوني:
" نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يستقبل الرجل الشمس والقمر بفرجه " (3) وعليه ينزل

(1) علل الشرائع: 278، الباب 185 ذيل الحديث الأول.
(2) الوسائل 1: 229، الباب 15 من أبواب أحكام الخلوة، ح 4.
(3) الوسائل 1: 241، الباب 25 من أبواب أحكام الخلوة، ح 1.
199

المرسل: " لا تستقبل الشمس ولا القمر " (1)، لما أسلفناه سابقا من ثبوت التلازم
غالبا بين استقبال الشمس واستقبال عورته لما استقبله ويوضحهما كمال التوضيح
حسنة الكاهلي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " لا يبولن
أحدكم وفرجه باد للشمس والقمر يستقبل " (2) وحديث المناهي: " نهى أن يبول
الرجل وفرجه باد للشمس والقمر " (3).
وتخصيصهما بالبول لأن به يبدو الفرج وهو القبل لهما، لا لأن للبول
خصوصيته في الكراهة، فالمكروه هو استقباله إياهما بفرجه حال الحدث مطلقا،
وإن لم يبل كما هو مفاد إطلاق الرواية والمرسل، والتخصيص بالفرج الظاهر في
القبل لأجل عدم صدق استقبال مخرج الغائط لهما في العادة استقبلهما أو
استدبرهما، لأنه محاذ للأرض، فلا يبدو لهما، فترياه مضافا إلى إمكان منع
الظهور، أي ظهور الفرج في القبل، فمرسلة الفقيه: " لاتستقبل الهلال ولا
تستدبره " (4) مطروحة، لعدم العامل بذيله.
قوله (قدس سره): (والريح بالبول) بالنصب عطف على محل قرص القمر، لأن محله
النصب بالمفعولية للمصدر الذي اضيف اليه، وجره بالعطف على اللفظ عندي غير
مستحسن، لأنه خروج عن وظيفة المفاعيل بلا سبب، لما عن الخصال بسنده عن
أمير المؤمنين (عليه السلام): " إذا بال أحدكم فلا يستقبل ببوله الريح " (5)، ولرواية
عبد الحميد المسؤول فيها عن حد الغائط: " لا تستقبل الريح ولا تستدبرها " (6)
ولأن استقبالها مظنة رد البول فيستفاد كراهته من رواية ابن مسكان وهو المرسل

(1) الوسائل 1: 241، الباب 25 من أبواب أحكام الخلوة، ح 5.
(2) الوسائل 1: 241، الباب 25 من أبواب أحكام الخلوة، ح 2، وليست فيه: للشمس.
(3) الوسائل 1: 241، الباب 25 من أبواب أحكام الخلوة، ح 4.
(4) من لا يحضره الفقيه 1: 26، باب ارتياد المكان للحدث، ح 48.
(5) الخصال: 614، ضمن حديث الأربعمائة، وليست فيه: ببوله.
(6) الوسائل 1: 213، الباب 2 من أبواب أحكام الخلوة ح 6.
200

المتقدم عن الفقيه (1)، لأن التوقي عن البول والحفظ عن نضحه لا يحصل إلا بترك
الاستقبال، بل والاستدبار أيضا من رفع ثوبه عند التخلي كما هو المتعارف عند
المتعارف من الناس، وعلمه (عليه السلام) لأبي حنيفة، وعليه ينزل رواية عبد الحميد، فعدم
كراهة الاستدبار عندهم مخصوص بالبول وحده، إذ معه يحفظ نضحه باستدبار
الريح واصطحاب الثوب للأرض كما هو المتعارف في البول الخالي، وبهذا يجمع
بين الروايتين وتسلم رواية عبد الحميد عن الطرح، لعدم الافتاء بما فيها، وهو
وجه حسن يساعده متفاهم العرف وملاحظة حكمة الكراهة.
قوله (قدس سره): (والبول في الأرض الصلبة)، لرواية ابن مسكان المتقدمة:
" انه (صلى الله عليه وآله) كان أشد الناس توقيا للبول " (2)، ولرواية السكوني: " من فقه الرجل أن
يرتاد موضعا لبوله " (3). ويرتفع الكراهة بعلاجه بما يأمن معه من رد البول اليه.
قوله (قدس سره): (وفي ثقوب الحيوان) بلا خلاف يجده فيه كما في جواهره وما
ينقل عن ظاهر النهاية من قوله: (لا يجوز) لا ينافيها، التداول لتعبير عن المكروه
ب‍ (لا يجوز) في لسان القدماء، والأصل فيه ما عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه: " نهى أن يبال
في الجحر " (4) المؤيد بما رواه الجمهور عن عبد الله بن سرجين: " أنه (صلى الله عليه وآله) نهى أن
يبال في الجحر " (5) المعتضد بما علله به بعض أصحابنا من أنه معرض للأذية كما
يومئ اليه والى معروفيته في الصدر الأول قضية سعد بن عبادة، إذ بعد أن قتلوه
وضعوا له سببا يطل به دمه وهو أنه بالشام أو في الطريق قالوا: بال في جحر فقتله
الجن، فلقوه ميتا، وقالوا سمع الجن تقول:
قد قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة * فرميناه بسهمين فلم يخط فؤاده

(1) تقدم في صفحة 197.
(2) الوسائل 1: 238، الباب 22 من أبواب أحكام الخلوة، ح 2.
(3) الوسائل 1: 238، الباب 22 من أبواب أحكام الخلوة، ح 1.
(4) الهداية: باب 12 في الوضوء ص 15.
(5) سنن البيهقي 1: 99، باب النهي عن البول في الثقب.
201

إذ لولا شيوع هذا الحكم بين المسلمين وأنه معرض خوف الأذية لم ينفعهم
التجشم به في إخفاء هذا الأمر العظيم.
وكيف كان يكفي في ثبوت الكراهة الخبر المزبور بعد جبره بالشهرة المحققة،
بل عدم الخلاف في المسألة الذي قد يقال: إن فيه الكفاية.
قوله (قدس سره): (وفي الماء جاريا وراكدا) للأخبار الكثيرة الدالة على
الحكم (1)، الواردة جملة منها في الماء مطلقا، وجملة منها في الماء النقيع والراكد،
وجملة منها في الماء الجاري، وإن ورد في الأخير ما ينفي الكراهة بظاهره من
نفي البأس عنه (2)، إلا أنه محمول على نفي الحرمة المتوهمة من أخبار المنع أو
على خفة الكراهة فيه، لثبوت أصل الكراهة بقوله (عليه السلام) في مرسلة مسمع: " نهى
رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يبول الرجل في الماء الجاري وقال: إن للماء أهلا " (3) فإن
التعليل بالعلة العامة يفيد عموم الحكم، ولا يزاحمه خصوصية المورد.
وبما عن الخصال بسنده عن أمير المؤمنين (عليه السلام): " لا يبولن الرجل من سطح
في الهواء، ولا يبولن في ماء جار، فإن فعل شيئا من ذلك فأصابه شيء فلا يلومن
إلا نفسه، فإن للماء أهلا وللهواء أهلا " (4) حيث إن المثبت نص في الحكم والنافي
ظاهر في النفي، لقوة احتمال إرادة الحرمة من البأس المنفي سيما بعد ملاحظة
وروده في مقام توهم الخطر الناشئ من تلك النواهي.
وصحيحة ابن مسلم: " لا بأس بأن يبول الرجل في الماء الجاري، وكره أن
يبول في الراكد " (5) غير منافية لما ذكر، لاحتمال إرادة شدة الكراهة من لفظة
(كره) فيها، فيكون نفي البأس في الجاري راجعا إلى نفي ذلك، فيفيد خفتها في

(1) الوسائل 1: 240، الباب 24 من أبواب أحكام الخلوة.
(2) الوسائل 1: 107، الباب 5 من أبواب الماء المطلق، ح 2.
(3) الوسائل 1: 240، الباب 24 من أبواب أحكام الخلوة، ح 3.
(4) الخصال: 613، في حديث الأربعمائة، وليس فيه الرجل.
(5) الوسائل 1: 107، الباب 5 من أبواب الماء المطلق ح 1، وفيه: عن الفضيل.
202

الجاري أو يكون راجعا إلى جهة الاستقذار، لزوالها بالجريان بخلاف الراكد فإنها
تبقى فيه فيتنفر عنه الطباع.
وبالجملة العمل على المعلل المثبت للكراهة في الجاري أيضا متعين فالقول
بنفي الكراهة في الجاري كما نقل عن بعض القدماء لا وجه له بعد ما ذكرناه، كما
أن ما عن الهداية والمقنعة من " أنه لا يجوز في الراكد " محمول على شدة الكراهة،
لما أشرنا اليه من تعارف هذا التعبير في مثله عندهم، ولعدم وفاء أخبار الباب
بإثبات الحرمة. وفي الليل أشد كراهة لما قيل: " إن الماء في الليل للجن فلا يبال
فيه ولا يغتسل حذرا من إصابة آفة ".
كما أن مقتضى فحاوى تلك العلل من أذية أهل الماء، ومن ايراثه النسيان
وذهاب العقل والحصر، وإصابة البلاء والآفة هو القول بكراهة التغوط فيه أيضا،
ولعل هذا هو وجه الحاقهم إياه به في الحكم.
قوله (قدس سره): (والأكل والشرب ما دام جالسا للتخلي) لمرسل الفقيه المنجبر
بالشهرة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: دخل (عليه السلام) الخلاء فوجد لقمة خبز في القذر
فغسلها ودفعها إلى مملوك معه، فقال (عليه السلام): يكون معك لآكلها إذا خرجت، فلما
خرج (عليه السلام) قال للمملوك أين اللقمة؟ فقال: أكلتها يا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال (عليه السلام):
ما استقرت في جوف أحد إلا وجبت له الجنة، فأنت حر، وأنا أكره أن أستخدم
رجلا من أهل الجنة " (1) وعن العيون رواية هذه القصة بثلاثة أسانيد عن
الرضا (عليه السلام) عن آبائه، عن الحسين بن علي (عليه السلام) (2).
وتقريب الدلالة فيهما واضحة من تأخيره (عليه السلام) الأكل الحاوي لتلك المثوبة
العظيمة إلى خروجه عن الخلاء، فيدل على كمال الكراهة وإلا لما كان
يؤخره (عليه السلام)، بل كان يسرع إليه كما هو عادتهم من استباقهم إلى الخيرات
والمثوبات، واختصاصه بالخبز لا يوجب تخصيصا، فإنه من التخصيص بالمورد

(1) من لا يحضره الفقيه 1: 27، في أحكام التخلي.
(2) عيون أخبار الرضا 2: 43، باب 31 ح 154.
203

بعد معلومية عدم خصوصية له، للعلم بأنه لا وجه له إلا استلزامه الإهانة
والاستخفاف بنعم الله وبما هو محترم شرعا، وإلا كشفه عن الدناءة، وإن كان
للتأمل في العموم مجال للقدح في العلم بالعلة المستنبطة، لاحتمال أن يكون للخبز
خصوصيته حتى في العلة، فلم يبق إلا التسامح في أدلة الكراهة لو اريد تعميمها
لمطلق المأكول والمشروب، بل هو من أضعف أنحاء التسامح، من جهة القناعة فيه
بكفاية الفتوى في صدق البلوغ.
قوله (قدس سره): (والسواك) لمضمرة التهذيب المرسلة في الفقيه: " ان السواك في
الخلاء يوجب البخر " (1) وكفايتها في الفتوى والحكم بالكراهة إنما هي من باب
الجبر بالعمل.
قوله (قدس سره): (والاستنجاء باليمين) لنهي النبي (صلى الله عليه وآله) في مرسلة يونس (2) وفي
رواية السكوني أن الاستنجاء باليمين من الجفاء (3) ولما عن الصدوق من قوله:
" وروي أنه: لا بأس إذا كانت اليسرى معتلة " (4) الدال على ثبوت البأس في غير
ذات العلة وهي مجبورة بالعمل أيضا.
قوله (قدس سره): (وباليسار وفيها خاتم عليه اسم الله) حتى في البول إذا لم يكن
بالصب وحده، بل استعمل يده فيه، لرواية أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام):
" قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): من كان نقش خاتمه اسم الله فيحوله من اليد التي
يستنجي بها في التوضي " (5) ولرواية الصيرفي: قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام):
الرجل يستنجي وخاتمه في إصبعه ونقشه لا إله لا الله فقال: أكره ذلك له،
فقلت: جعلت فداك أو ليس رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكل واحد من آبائك يفعل ذلك
وخاتمه في إصبعه؟ قال: بلى، ولكن اولئك يتختمون في اليد اليمنى وإنكم

(1) من لا يحضره الفقيه 1: 52، باب السواك، ح 110، وفيه: يورث بدل يوجب.
(2) الوسائل 1: 226، الباب 12 من أبواب أحكام الخلوة، ح 1.
(3) الوسائل 1: 226، الباب 12 من أبواب أحكام الخلوة، ح 2.
(4) من لا يحضره الفقيه 1: 27، في أحكام التخلي، ح 52.
(5) الوسائل 1: 233، الباب 17 من أبواب أحكام التخلي، ح 4.
204

تتختمون باليسرى، فاتقوا الله وانظروا لأنفسكم " (1).
ورواية وهب بن وهب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " كان نقش خاتم أبي العزة
لله، وكان يستنجي بها " (2) الدالة على عدم الكراهة، لأنه (عليه السلام) لا يرتكب المكروه
مردودة بما ذكره الأستاذ - طاب ثراه - من أنه عامي خبيث، بل من أكذب البرية
مع إمكان حملها ولو بعيدا على أنه (عليه السلام) ينزعه عند الاستنجاء، هذا إذا لم يتلوث،
وإلا فيحرم كما عن بعض الأصحاب، وعليه الأستاذ - طاب ثراه -، بل في
الجواهر أنه يوجب الكفر لو كان بقصد الإهانة والاستحقار وهو كذلك.
ولا فرق بين اسم الجلالة وباقي أسمائه تعالى المختصة والمشتركة إذا كان هو
تعالى مقصودا بالنقش كما هو صريح رواية أبي أيوب الآتية، وفي الحاق أسماء
الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) كما عن المشهور، بل عن جماعة من الأصحاب إلحاق
الزهراء الطاهرة أيضا عليها سلام الله وجه حسن، لقوة الاعتبار الدال على
الإلحاق وإن خلا عن النص، بل ظاهر رواية أبان بن عثمان عن أبي القسم: " قلت
لأبي عبد الله (عليه السلام): الرجل يريد الخلاء وعليه خاتم فيه اسم الله، فقال (عليه السلام): ما احب
ذلك، قلت: فيكون اسم محمد (صلى الله عليه وآله)، قال: لا بأس " (3) عدم الكراهة، ولكنها ليست
بتلك المرتبة من الظهور تأبى الحمل على إرادة محمد العلمي، حيث إن بناء الناس
على احترام اسمه (صلى الله عليه وآله) المبارك وإن جعل إسما لغيره، سيما إذا كان التشرف
بالاسم الشريف منظورا في التسمية، فإرادته غير بعيدة في الرواية.
ثم إن ظاهر جملة من الروايات وإن كان هو الحرمة كرواية أبي أيوب: قلت
لأبي عبد الله (عليه السلام): " إذا أدخل الخلاء وفي يدي خاتم وفيه اسم من أسماء الله
تعالى، قال (عليه السلام): لا، ولا تجامع فيه " (4) وكرواية قرب الاسناد بسنده عن علي بن

(1) الوسائل 1: 234، الباب 17 من أبواب أحكام الخلوة، ح 9.
(2) الوسائل 1: 234، الباب 17 من أبواب أحكام الخلوة، ح 8.
(3) الوسائل 1: 233، الباب 17 من أبواب أحكام الخلوة، ح 6.
(4) الوسائل 1: 232، الباب 17 من أبواب أحكام الخلوة، ح 1.
205

جعفر (عليه السلام) عن أخيه (عليه السلام) قال: " سألته عن الرجل يجامع ويدخل الكنيف وعليه
الخاتم فيه ذكر الله أو شيء من القرآن أيصلح ذلك؟ قال (عليه السلام): لا " (1) وكرواية
عمار: " لا يمس الجنب درهما ولا دينارا عليه اسم الله تعالى، ولا يستنجي وعليه
خاتم فيه اسم الله تعالى، ولا يجامع وهو عليه، ولا يدخل المخرج وهو عليه " (2)
إلا أن إعراض القوم عن العمل بها مع ما فيها من القرائن الدالة على إرادة التنزه
أوجب صرف النهي عن ظاهره سيما مع احتياج سندها إلى الجبر، وهو مفقود في
خصوص الحرمة.
وما عن الفقيه من تعبيره هنا ب‍ " لا يجوز " غير ظاهر في إرادة الحرمة، لما بيناه
من تداول التعبير بينهم عن الكراهة ب‍ " لا يجوز "، مضافا إلى وجود القرينة في
كلامه بالخصوص على إرادة الكراهة، لأنه قال: " فإن دخل وعليه خاتم عليه اسم
الله فليحوله من يده اليسرى إذا أراد الاستنجاء " (3) فإنه يصرف قوله: " لا يجوز "
للرجل أن يدخل الخلاء ومعه خاتم عليه اسم الله تعالى أو مصحف فيه القرآن إلى
أنه أراد التنزيه لا الحرمة، فهذا مما لا إشكال فيه، إنما الإشكال في ما أظهر
الأستاذ - طاب ثراه - العجز عنه من الجمع بين تلك الروايات الدالة على كراهة
اصطحاب الخاتم الذي فيه اسم الله في الخلاء ورواية الصيرفي وما هي بمثابتها
كخبر حسين بن خالد (4) من النافية لكراهة الاصطحاب.
ويمكن حمل تلك الدالة على كراهة المصاحبة على كون الخاتم في محله من
اليد اليسرى كما يفصح عن تداول ذلك في زمانهم (عليهم السلام) روايتا الصيرفي وحسين
ابن خالد (5) وحينئذ يكون وجه الكراهة أنه معرض لوقوعه في القذر لمن أراد

(1) قرب الإسناد: 293، باب الخواتيم من الفضة، ح 1157.
(2) الوسائل 1: 233، الباب 17 من أبواب أحكام الخلوة، ح 5.
(3) من لا يحضره الفقيه 1: 29 باب أرتياد المكان للحدث، ح 58.
(4) الوسائل 1: 233، الباب 17 من أبواب أحكام الخلوة، ح 3.
(5) الوسائل 1: 233، الباب 17 من أبواب أحكام الخلوة، ح 3 و 9.
206

تحوله في حال الاستنجاء وإصابة القذارة اليه إن أبقاه في محله، وإن أبيت عن
ذلك لطهارة ماء الاستنجاء فلا أقل من الإهانة أو لحماية الحمى، ومعرضية الوقوع
في الكنيف هو وجه كراهة اصطحاب الدراهم والدنانير التي فيها اسم الله في
الخلاء كما ينبئ عنه بعض أخبارها المقيدة ذلك بكونها غير مصرورة، فافهم،
والنافية للبأس على كونه مستورا محفوظا عما يوجب الإهانة والتخفيف.
فتلخص أن المكروه هو الاستنجاء بيد مصاحبة لشيء من المحترمات
كالقرآن وأسماء الله - كما هو صريح رواية علي بن جعفر (عليه السلام) - أو ما ضاهاهما في
الاحترام كأسماء الأنبياء والأئمة والزكية الطاهرة كما هو مقتضى الاعتبار
المستنبط من الأخبار أيضا، أو اصطحاب شيء مما ذكر على وجه يكون معرضا
للسقوط في القذر على ما هو مقتضى أحد حملي تلك الأخبار الأخيرة في
الخاتم، وفي أخبار الدراهم والدنانير الغير المصرورين وعدمه في المحفوظة.
قوله (قدس سره): (والكلام إلا بذكر الله أو آية الكرسي) ويدل على كراهة الكلام
مطلقا قليله وكثيره روايات منها: رواية أبي بصير: " لا يتكلم على الخلاء، فإن من
تكلم على الخلاء لم تقض حاجته " (1) ومثلها مرسلة الفقيه (2)، ومنها: المروي عن
المحاسن: " ترك الكلام في الخلاء يزيد في الرزق " (3) وعن الدعائم عن أهل
البيت (عليهم السلام) أنهم: " نهوا عن الكلام في حال الحدث والبول، وأن يرد سلام من سلم
عليه، وهو في تلك الحالة " (4)، ويدل ذيله على كراهة السلام على المتخلي كما
يكرهه على من في الحمام بلحاظ النهي عن جوابه الواجب قطعا، ومنها: رواية
صفوان: " نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يجيب الرجل الآخر وهو على الغائط، أو يكلمه
حتى يفرغ " (5) وبظاهر النهي عبر الصدوق فقال: " لا يجوز الكلام في الخلاء لنهي

(1) الوسائل 1: 218، الباب 6 من أبواب أحكام الخلوة، ح 2.
(2) من لا يحضره الفقيه 1: 31، باب ارتياد المكان للحدث، ح 61.
(3) نقله في بحار الأنوار 76: 314.
(4) دعائم الاسلام 2: 104، في ذكر آداب الوضوء.
(5) الوسائل 1: 218، الباب 6 من أبواب أحكام الخلوة، ح 1.
207

النبي (صلى الله عليه وآله) عن ذلك " (1). ولكن الظاهر إرادته الكراهة كما عليها يحمل نهي
الأخبار، لعدم قول من الأصحاب هنا بالحرمة، ولإشعار التعليل الوارد فيها
بالكراهة، مضافا إلى ضعفها سندا فلا تنهض لإثبات الحرمة.
واستثناء ذكر الله من الكلام المكروه ولو بمعنى قلة الثواب - كما عليها بنى
الأصحاب الكراهة - في العبادة هو المعروف بينهم. ويدل عليه - مع الغض عن
عدم شمول النواهي له لانصرافها إلى كلام الآدمي - رواية الحلبي: " لا بأس بذكر
الله وأنت تبول فإن ذكر الله حسن على كل حال فلا تسأم من ذكر الله " (2).
وصحيحة أبي حمزة عن أبي جعفر (عليه السلام): " مكتوب في التوراة التي لم تغير أن
موسى - على نبينا وآله وعليه السلام - سأل ربه فقال: إلهي نأتي على مجالس
اعزك واجلك أن أذكرك فيها، فقال تعالى: يا موسى إن ذكري حسن على كل
حال " (3). وغيرهما من الأخبار الكثيرة الدالة عليه، فجوازه بمعنى خلوه عن
الكراهة بأي معنى كانت مسلم.
نعم ينبغي الاخفات به لقول أبي جعفر (عليه السلام) على ما روي عن قرب الاسناد:
" كان أبي يقول: إذا عطس أحدكم وهو على الخلاء فليحمد الله في نفسه " (4) أي
بقوله سرا على حد ما ورد في المأموم المسبوق أنه يقرأ في نفسه (5)، وللمرسل:
" كان الصادق (عليه السلام) إذا دخل الخلاء يقنع رأسه ويقول في نفسه: بسم الله وبالله...
الخ " (6).
وأما استثناء آية الكرسي فظاهره أنه يراه مخصوصا بها كما صرح به في

(1) من لا يحضره الفقيه 1: 31، باب ارتياد المكان للحدث، ح 60.
(2) الوسائل 1: 219، الباب 7 من أبواب أحكام الخلوة، ح 2.
(3) الوسائل 1: 219، الباب 7 من أبواب أحكام الخلوة، ح 1.
(4) قرب الاسناد: ص 74 ح 239.
(5) الوسائل 5: 423، الباب 31 من أبواب صلاة الجماعة، ح 6.
(6) من لا يحضره الفقيه 1: 24، باب ارتياد المكان للحدث، ح 41.
208

جواهره حيث إنه أشار إلى دلالة صحيحة الحلبي على عدم كراهة غيرها أيضا
وردها بأني لم أعثر على مفت بها، وشتان بينه وبين الأستاذ - طاب ثراه - فإنه بعد
أن ذكر الصحيحة في طي أخبار الذكر وردد في معناها بين إرادة مقدار ما شاؤوا
من القرآن وغيره كالأدعية، قال: وعلى كل تقدير فتخصيصها برواية عمر بن يزيد
بعيد، بل مستهجن.
أقول: الظاهر من الصحيحة: " يقرء النفساء والحائض والجنب والرجل يتغوط
في المخرج القرآن، قال (عليه السلام): " يقرأون ما شاؤوا " (1) أنهم يقرأون ما هموا به من
قرآن وذكر ودعاء، وحالتهم التي هم عليها لا تمنعهم عما بدا لهم الاشتغال به من
المذكورات. وظاهرها عدم حصول نقص في المذكورات وأنها باقية على ما كانت
عليه من الثواب، وخبر عمر بن يزيد: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن التسبيح في
المخرج وقراءة القرآن، قال (عليه السلام): لم يرخص في الكنيف في أكثر من آية الكرسي،
أو تحميد الله، أو آية " (2). وفي رواية الصدوق: " أو آية الحمد لله رب العالمين " (3)
لا ينفي إلا ما زاد على مقدار آية الكرسي كما هو ظاهر لفظة " أكثر " لا ما كان
غيرها مطلقا كما حملوه عليه، على ما يظهر من تخصيص شيخ الجواهر وغيره،
ويومئ اليه كلام الأستاذ - طاب ثراه - أيضا من استهجانه التخصيص به.
فالذي يقوى في نفسي بملاحظة تمام أخبار الباب من روايات الأدعية
المأثورة وروايات استحباب الذكر (4) على حد استحبابه في غير تلك الحال
والصحيحة (5) الظاهرة في ذلك أيضا، وغيرها من روايات حكاية الأذان وغيرها،
وضم خبر عمر بن يزيد إليها أنه لا يناسب جعل مجلسه هذا مجلس قراءة ودعاء،

(1) الوسائل 1: 221، الباب 7 من أبواب أحكام الخلوة، ح 8.
(2) الوسائل 1: 220، الباب 7 من أبواب أحكام الخلوة، ح 7.
(3) من لا يحضره الفقيه 1: 28، باب ارتياد المكان للحدث، ح 57.
(4) الوسائل 4: 1177، الباب 1 من أبواب الذكر.
(5) الوسائل 1: 220، الباب 7 من أبواب أحكام الخلوة، ح 6.
209

بل ينبغي الاقتصار فيه على قليل منهما كما يومئ اليه اختصار الأدعية المأثورة،
ويفصح عنه قوله: " لم يرخص في أكثر " في خبر عمرو، وترديده (عليه السلام) بين آية
الكرسي وآية الحمد لله في الخبر إشارة إلى مقدار الكلمات، يعني أنه لم ينحصر
الاستثناء بثلاث آيات كما هو عدد آيات آية الكرسي، بل يجوز سبع آيات إذا
كانت الآية غير مطولة كما في آيات الحمد، فحاصل الترديد تقريب مقدار
المستثنى من حيث كمية التكلم إلى ذهن السامع، يعني لم يرخص بأزيد من هذا
المقدار من التكلم في القراءة والدعاء.
وبهذا الوجه المسبوق منه إلى الذهن في متفاهم العرف يجمع بينه وبين
الأخبار المثبتة لندبية القراءة والذكر والدعاء في تلك الحال حيث إنها لم تدل على
مطلوبية أزيد من المقدار المذكور ولو بالظهور المعتد به، فالأقوى حينئذ عدم
اختصاص الاستثناء بقراءة خصوص آية الكرسي، بل يعم ما شاء من القرآن ما لم
يزد على المقدار المزبور.
كما أنه رخص في حكاية الأذان على ما لها من الاستحباب في غير تلك
الحال، للصحيح عن أبي جعفر (عليه السلام): " يا ابن مسلم لا تدعن ذكر الله على كل حال،
قال: ولو سمعت المنادي ينادي بالأذان وأنت على الخلاء فاذكر الله وقل كما يقول
المؤذن " (1)، ولرواية أبي بصير: " إن سمعت الأذان وأنت على الخلاء فقل كما يقول
المؤذن، ولا تدع ذكر الله في تلك الحال فإن ذكر الله حسن على كل حال " (2).
وظاهر قوله (عليه السلام) فيهما: " فقل كما يقول المؤذن " جواز حكاية الحيعلات
بنفسها بلا تبديلها بالحولقة، وعدم ذكريتها حقيقة لا يمنع حكايتها، ولا يقتضي
تبديل الحيعلات بالحولقة لتدخل في الذكر، لجواز إطلاق الذكر على مجموع
الأذان تغليبا، أو لأن ذكرية أكثره وهو واحد مطلوب حكايته أوجب جواز حكاية
غير الذكر منه أيضا على ما هو عليه. ورواية سلمان بن عقيل: قلت لأبي الحسن

(1) الوسائل 1: 221، الباب 8 من أبواب أحكام الخلوة، ح 1.
(2) الوسائل 1: 221، الباب 8 من أبواب أحكام الخلوة، ح 2.
210

الأول (عليه السلام): " لاي علة يستحب للانسان أن يقول كما يقول المؤذن وإن كان على
البول والغائط؟ قال (عليه السلام): لأن ذلك يزيد في الرزق (1).
والتعليل بزيادة الرزق لا يناسب لخصوص الذكر منه، بل فيه ظهور في أن
لحكايتها خصوصية فعلم أن هذا عنوان آخر غير عنوان الذكر، بل القول بكونه
بتمامه من مصداق الذكر غير بعيد، كما يفصح عنه قوله (عليه السلام): " لا تدع ذكر الله في
تلك الحال " معللا بأن ذكر الله حسن على كل حال بعد قوله: " قل كما يقول
المؤذن " في رواية أبي بصير وصحيح ابن مسلم، فلو كانت الذكرية مخصوصة
ببعضه وكان بعضه الآخر خارجا عنه قبح منه (عليه السلام) تفريع قوله: " قل كما يقول...
الخ " على قوله: " لا تدعن ذكر الله على كل حال " فعلم أنه بتمامه ذكر، ويؤيده
كراهة التكلم بعد الحيعلات في الإقامة، بل بطلانها به حينئذ، فإنه لا معنى لبطلان
كلام الآدمي بكلام الآدمي.
فإذن الأقوى جواز حكايته بتمامه بلا تبديل، خلافا لما عن الشهيد من
الاستشكال فيه، وأنه يبدل الحيعلات بالحولقة كما في الصلاة.
قوله (قدس سره): (وتسميت العاطس) وهو طلب الرحمة والمغفرة له بقولك له:
يرحمك الله، ظاهر العطف أنه (قدس سره) يقول بكراهته كما عن جامع المقاصد بعد نقله
استحبابه عن المنتهى قال: " وفيه شيء " انتهى.
ولكن الأقوى استحبابه، لأنه من الذكر فلا يشمله الكلام الممنوع، وعلى
فرض الشمول يخصصه أدلة استثناء الذكر كما به عللاه في النهاية والروض بعد أن
استثنياه، فإنهما - على ما حكي - قالا: لأنه ذكر الله، وهو صريحه في الجواهر
حيث إنه بعد أن قال: وينبغي للمصنف استثناء الحمد بعد العطس لما في خبر
مسعدة بن صدقة عن أبي جعفر (عليه السلام)، وذكر ما رويناه عن قرب الاسناد سندا
لاستحباب الإخفات بالذكر اعتذر عن مصنفه بأن تركه لعله لأنه أدخله تحت

(1) الوسائل 1: 221، الباب 8 من أبواب أحكام الخلوة، ح 3، وفيه عن سليمان بن مقبل.
211

استحباب الذكر ثم قال: " ومنه يعرف انسحاب استحباب التسميت كما صرح به
بعضهم " انتهى.
فعلم أن استحباب تسميت العاطس كاستحباب حمده هو في نفسه مما
لا ينبغي اهماله، فيتوهم دخوله في المكروه، فكيف ذكره في المكروهات كما
هو ظاهر المتن؟! وإن كان يمكن أن يجعل معطوفا على المستثنى كما يؤيده
ما حكيناه عن جواهره.
قوله (قدس سره): (وتطميح الرجل ببوله من سطح أو مكان مرتفع) أصل
التطميح مطلق رميه في الهواء وارتفاعه فيها كما عن أهل اللغة، والأقوى كراهته
مطلقا ولو لم يكن عن سطح أو مرتفع، لما تقدم من تعليل الحكم في رواية
الخصال المتقدمة بقوله (عليه السلام): " فإن للهواء أهلا " (1) ولا يبعد صدق البول في الهواء
على كلية البول من السطح، وما هو بمثابته في العلو والارتفاع سيما مع إمكان ترك
طمحه منه بلا عسر، والفرق بين الارتفاعين المطلق للتوقي عن إصابة البول
والمذموم رمي البول عنه أن الأول ما يحصل به الحفظ عن النضح الغير الصادق
عليه عرفا أنه بال في الهواء بخلاف الثاني، فإن صدق البول في الهواء عرفا
متوقف على زيادة ارتفاع يأتي معها الصدق المزبور، على أن الطمح عبارة عن
الرمي به في الهواء، وهو لا يكون إلا بتعليته فيه بخلاف البول من مرتفع في الجملة
متنزلا به إلى السفل بحيث يقال: إنه بال إلى الأرض لا في الهواء.
والدليل على أصل الحكم رواية الخصال المتقدمة في كراهة البول في الماء
ورواية السكوني: " نهى النبي (صلى الله عليه وآله) أن يطمح الرجل ببول من السطح أو من الشيء
المرتفع في الهواء " (2) ونحوها رواية مسمع (3).
قوله (قدس سره): (والبول قائما والتخلي على القبر وبين القبور)، لصحيحة ابن

(1) الخصال: حديث الأربعمائة ص 613.
(2) الوسائل 1: 248، الباب 33 من أبواب أحكام الخلوة، ح 1.
(3) الوسائل 1: 249، الباب 33 من أبواب أحكام الخلوة، ح 8.
212

مسلم: " من تخلى على قبر أو بال قائما أو بال في ماء قائما فأصابه شيء من
الشيطان لم يدعه إلا أن يشاء الله " (1) ولما ذكره السيد سبط بحر العلوم: " أن في
النص أن البول قائما من الجفاء " (2). وفي آخر: " أنه يتخوف أن يتلبس به
الشيطان (3)، وأسرع ما يكون الشيطان إلى الإنسان وهو على بعض هذه
الحالات " (4)، ولخبر إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: " ثلاثة
يتخوف منها الجنون... " (5) وعد منها التغوط بين القبور ". ولما عن جامع البزنطي
عن الباقر (عليه السلام): " ولا تبل في الماء ولا تخل على قبر " (6).
قوله (قدس سره): (وطول الجلوس على الخلاء) لإيراثه الناسور أو الباسور وتفجع
الكبد وصعود الحرارة إلى الرأس كما ورد في الأخبار ناقلا التفجع عن لقمان (7).
قوله (قدس سره): (واستصحاب الدرهم الأبيض إلا أن يكون مصرورا وغير
ذلك) مما لم يذكره (قدس سره) من المكروهات كمس الذكر باليمين عند البول على
ما ذكره الأستاذ.
وتعجيل القيام عن الغائط قبل تمام الفراغ، للمروي عن الخصال: " لا يعجل
الرجل عند طعامه حتى يفرغ ولا عند غايطه حتى يأتي على حاجته " (8).
والجلوس للحاجة في فناء المساجد، وهو حريمها الخارج منها، لما تقدم من
قول مولانا الكاظم (عليه السلام) لأبي حنيفة: " اجتنب أفنية المساجد " (9).

(1) الوسائل 1: 249، الباب 33 من أبواب أحكام الخلوة، ح 8.
(2) الوسائل 1: 248، الباب 33 من أبواب أحكام الخلوة، ح 3.
(3) الوسائل 1: 249، الباب 33 من أبواب أحكام الخلوة، ح 7.
(4) الوسائل 1: 231، الباب 16 من أبواب أحكام الخلوة، ح 1.
(5) الوسائل 1: 232، الباب 16 من أبواب أحكام الخلوة، ح 2.
(6) مستدرك الوسائل 1: 264، الباب 13 من أبواب أحكام الخلوة، ح 1.
(7) الوسائل 1: 237، الباب 20 من أبواب أحكام الخلوة، ح 5.
(8) الخصال: 635، حديث الأربعمائة، وفيه ولا تعجلوا.
(9) الوسائل 1: 228، الباب 15 من أبواب أحكام الخلوة، ح 2.
213

ووجه كراهة استصحاب الدراهم البيض الغير المصرورة ما أشرنا إليه من
خوف وقوعها في القذر مع عدم خلو نقشها عن اسم الله والأسماء المحترمة في
الزمان السابق، وعليه يحمل إطلاق خبر غياث عن جعفر (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام): " أنه
كره أن يدخل الخلاء ومعه درهم أبيض إلا أن يكون مصرورا " (1) كما صرح بهذا
التقييد بعضهم، إذ لا وجه للاطلاق أبدا.
قوله (قدس سره):
(المبحث الرابع)
(ماء الاستنجاء (2) طاهر... الخ) قد تقدم وجهه مع تقوية الطهارة وترجيحه
على العفو مطلقا سيما على العفو الذي لم يكن مرجعه إليها.
قوله (قدس سره): (وإن استصحب أجزاء) فيه نظر مع عدم الاستهلاك كما عن
شيخنا الأستاذ - طاب ثراه - في تعليقه، لأن الحكم بالطهارة فيه على خلاف
قاعدة ماء القليل المنفعل بالملاقاة، وشمول إطلاقات الاستنجاءات له مشكوك فلا
مخرج له عن تحت الأصل. فإذن الأقوى نجاسته إذا استصحب جزءا محسوسا.
قوله (قدس سره): (لكنه لا يزيل حدثا) لما تقدم في مسألة الغسالة من نقل
الإجماع على أن مزيل الخبث لا يرفع الحدث مطلقا.
قوله (قدس سره): (أما الخبث والغسل المندوب ووضوء الحائض فالأقوى
جوازها به) لما تقدم، بل جعلها جمع ثمرة القول بطهارته في قبال عفويته،
وأما جواز الغسل والوضوء فلأنه ماء طاهر مطلق ومن شأنه جواز استعماله
في ما طلب فيه الماء، خرج منه الطهارات الرافعة بالإجماع وبقي الباقي. والغسل
المندوب وأمثال وضوء الحائض غير رافع كما حقق في محله فيكونان جائزين،
هذا.

(1) الوسائل 1: 234، الباب 17 من أبواب أحكام الخلوة، ح 7.
(2) في أصل نجاة العباد بإضافة: ولو من البول.
214

ولكن الأقوى في الغسل والوضوء المذكورين عدم الجواز فإنه يعتبر فيهما ما
يعتبر في غيرهما من الغسل والوضوء الرافعين كما هو مفاد تعليق الأستاذ - طاب
ثراه -، لأن دليل تشريعهما قد أوكل أمر شروطهما إلى ما يستفاد منه شروط كلية
الطهارة الحدثية، باعتبار أن ظاهر أوامرهما أن المراد منهما نوع تنظيف نظير ما
شأنه رفع الحدث من الطهارات، بل يمكن أن يقال: إن الثاني من روافع الحدث
أيضا ولو في الجملة، أعني تخفيفا لحكمه، فلذا يعتبر فيهما ما يعتبر فيه.
قوله (قدس سره): (نعم يشترط في طهارته أن لا تتجاوز النجاسة المحل
المعتاد) اعتبار عدم التجاوز على وجه يخرجه عن اسم الاستنجاء مما لا خفاء
فيه، بل غير محتاج إلى التنبيه عليه. واعتبار عدم مطلق التعدي ولو في الجملة بأن
يراد منه التعدي عن نفس المخرج الحقيقي ببلوغ حواشيه أيضا مما لا يخرجه عن
اسم الاستنجاء فمما لا يسع لأحد أن يلتزم بإرادته، في المقام لأن مرجعه إلى
نجاسة ماء الاستنجاء مطلقا، إذ لا يوجد في المتعارف مصداق له لا يتلوث به
الحواشي أبدا.
فالمراد به لابد وأن يكون المعنى الذي ذكرناه في تعين الماء لاستنجاء الغائط
وهو للتعدي عن المحل المتعارف وصوله اليه في الأمزجة السليمة المتعارفة،
وهذا هو الذي ذهب اليه بعضهم، وهو لازم كل من ادعى الانصراف في إطلاقات
أدلة الاستجمار ثمة، وذهب إلى تعين الماء في التطهير، فهذا هو الذي ينبغي أن
يقال باعتبار عدمه في الحكم بطهارة ماء الاستنجاء إن لم يتمسك هنا بالإجماع
على طهارة الماء ما لم يخرج عن اسم الاستنجاء كما هو ظاهر الماتن في جواهره
حيث ادعى الانصراف ثمة، وجعله دليلا على لزوم تعين الماء في التعدي المخرج
له عن اسم الاستنجاء.
ثم ادعى في دفع ما أورده على نفسه من أن مقتضى الانصراف المذكور أن
يقال بنجاسة الماء أن ظاهر الأصحاب الحكم بالطهارة حتى يتعدى تعديا يخرج
به عن مسمى الاستنجاء.
215

والأقوى عدم اشتراط طهارة الماء بعدم التعدي بهذا المعنى، لما مر منا من
منع الانصراف المدعى في المقام، وسلامة الإطلاقات الدالة على طهارة ماء
الاستنجاء، بل هي معتضدة بالإجماع المدعى من شيخ الجواهر الظاهر دعواه من
جماعة من الفحول كما عن الروضة والمدارك والذخيرة ومجمع البرهان
والحدائق والمحقق الخونساري حيث إنهم في تلك المسألة صرحوا بأنه لولا
إجماع العلامة على كفاية هذا المقدار من التعدي في لزوم الماء لقلنا بأنه يعتبر في
لزومه التعدي المخرج له عن اسم الاستنجاء كما هو المعتبر في الحكم بالنجاسة.
وبالجملة مقتضى الإطلاق المعتضد بظهور الإجماع هو الحكم بطهارة ماء
الاستنجاء مطلقا، إذ لا دليل على نجاسته بعد صراحة الأخبار الواردة بطهارته،
إلا دعوى أن التعدي الموجب لتعين الماء يلازم نجاسة الغسالة، كما هو ظاهر
بعضهم بعد تشخيص كون المراد منه هو هذا المعنى الذي ذكرناه.
وممنوعية هذه الدعوى غير محتاجة إلى البيان، لأن منشأها إن كان استفادته
من كلماتهم فغير خفي على المراجع إليها أنهم ينادون بأعلى صوتهم بافتراق
المراد من التعدي في الموردين، وإن كان لدعوى الانصراف في اطلاق الأخبار
فقد عرفت ممنوعية تلك الدعوى أولا، وظهور الإجماع على الطهارة ما لم يخرج
عن اسم الاستنجاء بعد تسليم الانصراف ثانيا كما سمعته عن شيخ الجواهر.
ومنه يظهر أنه لا بد من حمل تلك العبارة منه على التعدي المخرج له عن
الاسم، وإن كان لا ينبغي ترك الاحتياط في التعدي الفاحش، غايته وإن لم يخرج
عن اسم الاستنجاء لاختلاف الانصراف المدعى في المرجوعات إلى العرف،
فاحتمال انصراف المطلقات عن مثل الفرض قوي، ولا أقل من الشك في شمول
الإطلاق لمثله، فيسلم الأصل الذي أصلناه في الغسالة، بل لعله هو الأقوى.
وبعبارة اخرى التعدي قد يفرض بالنسبة إلى الطباع المتعارفة التي لم يحصل
لهم ثلط أبدا فيراد بالمتعدي ما هو لازم متعارف الطباع الثلطية التي لانت معدتهم
في الجملة، الذي هو الموجب لتعين الماء وعدم كفاية الأحجار، فهذا هو الذي
216

نقول بإرادته من المطلقات، ونمنع انصرافها عنه. وأما التعدي الملحوظ في تلك
الطباع الثلطة اللينة الذي هو على خلاف المتعارف، ووقوعه منها نادري فهو
موجب لنجاسة ماء الاستنجاء، وإن صدق عليه اسم الاستنجاء، لعدم انصراف
الإطلاق اليه فيبقى تحت الأصل.
قوله (قدس سره): (وأن لا يتغير أحد أوصافه بالنجاسة) لما تقدم أنه ليس لنا ماء
لا يحكم بنجاسته بعد تغييره بملاقاة النجس، مضافا إلى فحوى أدلة نجاسة الكر
والجاري بالتغيير ولانصراف إطلاقات الطهارة إلى غير صورة التغيير، ولأن
المفهوم من تعليل الطهارة بأكثرية الماء من القذر استهلاكه به وعدم ظهور أثره فيه،
فيفهم منه أنه لو انعكس لم يكن طاهرا وبملاحظة تلك الامور وظهور الإجماع
على النجاسة في الفرض كما ادعاه شيخ الجواهر يتقوى عمومات نجاسة المتغير
وتقدم على عموم طهارة ماء الاستنجاء وإن كان بينهما عموم من وجه.
قوله (قدس سره): (وأن لا تصيبه نجاسة من خارج ولو من المتعدي) هذا
الشرط يرى أنه غير محتاج اليه كما صرح به الأستاذ - طاب ثراه - في طهارته،
لأنه ليس من قيود عدم انفعال ماء الاستنجاء، حيث إن النجاسة في الفرض إنما
لحقته لكونه غسالة غير الاستنجاء لكنهم أتوا به للتنبيه على بعض الأفراد الخفية
مثل ما ذكره الماتن. ولدفع ما توهمه بعض من أن إصابتها غير مضرة بلحاظ أن
النجس لا ينجس فحكم ماء الاستنجاء بعد بحاله مما كان عليه من الطهارة لصدق
الاستنجاء عليه بعد إصابة النجاسة.
ولذا فصل بعضهم بين ما كانت الطارئة أغلظ حكما، فينجس الماء وبين ما
كانت مساوية أو أخف فلا ينجس.
وربما يلوح من بعض العبارات تفصيل آخر وهو أنه ينجس الماء لو تلوث
المحل بغير الحدث المستنجى منه حال كونه سابقا عليه، ولا ينجس باللاحقة
والمقارنة مطلقا، أو على التفصيل بين الأغلظ حكما وغيره.
والأقوى التنجس مطلقا لو تلوث بها المحل سابقا كان أو لاحقا أو مقارنا من
217

غير فرق بين الأغلظ وغيره، لما أشرنا غير مرة أن النجاسة الواردة على المحل
النجس توثر فيه لو كان لها أثر زائد، وهنا كذلك، لأن غسالة غير الاستنجاء نجسة
فهي من الآثار الزائدة الثابتة للواردة فتؤثر أثرها لا محالة.
ومنه يتبين حكم خلط الحدث المستنجى منه بغيره وازيلا بذلك الماء، وإن لم
يتلوث بها المحل.
نعم لو أزالها في تلك الصورة بغير الماء على وجه لم يلاق المحل ولم تسر اليه
ثم استنجى بالماء لم ينجس الماء، لأن النجاسة العينية لا تتأثر بورود النجاسة
عليها، والمفروض أن الماء أيضا لم يستعمل في إزالته فهو ماء استنجاء خالص
وهو طاهر، لعدم ما ينجسه.
والدليل على النجاسة في الصور المذكورة كون الماء المذكور غسالة غير
الاستنجاء حقيقة، واختصاص الطهارة بمقتضى الأدلة بماء الاستنجاء الساذج،
وغسالة غير الاستنجاء نجسة كما تقدم، والتكلم هنا أيضا مبني على القول
بنجاستها، ولا معنى لتغليب جانب الاستنجاء هنا، مع أن الأمر في أمثاله بالعكس.
فتلخص أن تلوث المحل بالنجاسة الخارجة يوجب نجاسة الماء وإن لم يبق
عينها حال الاستنجاء، كما أن إزالتها مع الحدث المستنجى منه بمائه توجبها أيضا
وإن فرض عدم تلوث المحل بها ولو بالسراية.
قوله (قدس سره): (دون الداخلة كالدم الخارج مع الغائط والمتنجس الذي يخرج
معه على الأقوى) ما قواه في المتنجس بالحدث المستنجى منه تام لو لم يكن
عينه باقية فازيلت بالماء، لما قد سلف منا أن الطاهر الوارد على النجس يتأثر بما
في ذلك المحل، ولا يتأثر منه المحل ثانيا، لأنه لا يأخذ منه ما اكتسبه هو منه،
ولأن ما أثر هذا المتنجس الخارج مع الغائط في المحل - لو سلم تأثره به - ليس إلا
ما معه من الحدث المستنجى منه، إذ أصله كان طاهرا وليس هناك نجاسة خارجية
ولا متنجس موجود حتى يأتي من قبلهما نجاسة الماء، وليس كذلك لو كانت عينه
باقية فإن الماء حينئذ غسالة لهذا المتنجس وهو غير الحدث المستنجى منه.
218

وبالتأمل فيه وفي النجاسة الخارجية يتبين حكم النجاسة الداخلية كالدم
مثلا، فإن الأقوى نجاسة الماء مع إزالتها به أو تلوث المحل بها بالملاقاة أو
بالسراية، وإن لم تبق عينها، واليه ينظر ما استشكل فيه الأستاذ - طاب ثراه - في
تعليقه بقوله: " يعني في الداخلة " كما أوضحه السيد الأستاذ جناب الميرزا - طاب
ثراه - بقوله: " فيه اشكال "، نعم لو لم تكن عينه باقية ولا تلوث بها المحل ولو
بالسراية لا ضير في خروجها مع النجاسة المستنجى منها كما لم تكن تضر
الخارجية لو كانت كذلك.
وتوهم عدم مضريتها مطلقا لغلبة وقوعها وعدم الاستفصال عنها في غير
محله، لمنع الغلبة في الأمزجة السليمة، ولإهمال الروايات من تلك الحيثية أو
انصرافها إلى الخالية عن النجاسات الخارجة عنها على فرض تسليم الغلبة،
فالأقوى ضرر النجاسة الخارجة عن حقيقة الحدث المستنجى منه أو عن شخصه
وإن كانت أصله منه.
قوله (قدس سره): (ولا يعتبر فيه سبق الماء اليد) بعد صدق أنها آلة للغسل
فتنجسها غير مضر إذا كان لأجل ذلك.
قوله (قدس سره): (بل لو تنجست يده بإرادة الغسل ثم أعرض عنه فعاد إليه لم
يبعد اللحوق بماء الاستنجاء) إذا كان الاعراض بمجرد القصد ولم يطل زمان
لحوقها الماء بما يخرج معه عن الإلية وعن التهيؤ للغسل الذي هو مناط عدم
مضرة السبق مطلقا، بل ولو صادف القصد المذكور رفع ما، مما لا يخرج معه
الملاقاة السابقة عليه عن المقدمية، لأن مجرد الاعراض غير مضر بعد صدق
المقدمية والتهيؤ عرفا على الملاقاة المذكورة.
وأما في الزائد على المقدار المذكور ففيه إشكال كما علقه عليه الأستاذ
- طاب ثراه - بقوله: " الأحوط الاجتناب "، لأن مجرد كون الملاقاة بقصد الغسل
لا يوجب عدها على الإطلاق من مقدماته عرفا، فلو رفعها وطال زمان عودها
أو طال الزمان ولو بغير رفع بعد الإعراض المذكور حكم بنجاسة مائه بسبب تلك
219

اليد النجسة، لأنها نجاسة خارجة عن الحدث المستنجى منه حينئذ كما لا يخفى،
ومنه تعرف أن ما في طهارة الشيخ الأستاذ - طاب ثراه - من عدم مضرة عود اليد
بعد الرفع إعراضا على إطلاقه في غير محله.
قوله (قدس سره):
(المبحث الخامس)
(قد عرفت استحباب الاستبراء من البول) كما تقدم تقويته وتضعيف
القول بالوجوب المنسوب إلى الغنية والوسيلة، بل إلى ظاهر الاستبصار، لعدم
الدليل عليه، ولظاهر الصحيحة: " إذا انقطعت درة البول فصب الماء " (1) فإنه لو كان
لم يكن يهمله ويسكت عنه، هذا مع احتمال كلامهم لزومه في الحكم بطهارة البلل
الخارج المشتبه.
قوله (قدس سره): (وكيفيته أن يمسح من المقعدة إلى أصل القضيب ثلاثا، ثم
منه إلى رأس الحشفة ثلاثا، ثم ينترها ثلاثا) والنتر كما عن النهاية جذب فيه
جفوة وقوة. والأصل في الكيفية المذكورة وجعلها تسعا حمل المطلق من
الروايات على المقيد والمجمل على المبين، وإلا فليس منها ما نص فيه بالتسع،
ولاختلافها بظاهرها اختلفت كلماتهم حتى أنهاها في المستند إلى ستة أقوال،
ولكن المنسوب إلى المشهور هو التسع وإن نسب الست الباقي من التسع المحذوف
منه الثلاثة الأخيرة أيضا إلى الشهرة، إلا أنه حكى ارجاع القولين إلى واحد.
وكيف كان ففي صحيحة البختري في الرجل يبول قال (عليه السلام): " ينتره ثلاثا، ثم
إن سال حتى يبلغ الساق فلا يبالي " (2) وعود الضمير المفعول إلى البول غير بعيد،
فيكون حينئذ إشارة إلى نتر المواضع الثلاثة أي ينتر البول من تلك المواضع الثلاثة
ثلاثا لكي تستبرئ من البول. وفي حسنة ابن مسلم، بل صحيحته كما عبر بها

(1) الوسائل 1: 247، الباب 31 من أبواب أحكام الخلوة، ح 1.
(2) الوسائل 1: 200، الباب 13 من أبواب نواقض الوضوء، ح 3.
220

الأستاذ - طاب ثراه -: " رجل بال ولم يكن معه ماء فقال (عليه السلام): يعصر أصل ذكره
إلى طرفه ثلاث عصرات وينتر طرفه، فإن خرج بعد ذلك شيء فليس من البول،
ولكنه من الحبائل " (1) وجعلها الأستاذ أصلا في تلك الكيفية يعني في إفادة التسع.
ويمكن تقريب الاستفادة بأن قوله (عليه السلام) " يعصر أصل ذكره إلى طرفه ثلاث
عصرات " اريد منه عصر تمام الذكر أصله وقضيبه فيفيد العصرات الست المتعلق
ثلاث منها بما بين المقعدة والانثيين، وثلاث منها بالقضيب، لأن عصر التمام الذي
مبدؤه المقعدة إلى الطرف الذي هو الحشفة ثلاث مرات يؤول إلى الست الذي
أراده القوم كما لا يخفى.
وإن أبيت إلا عن ظهورها في عصر أصل ما هو مصداق الذكر عرفا وهو
القضيب وحده فلا يثبت بها أزيد من ست، فنتممها بحسنة عبد الملك في الرجل
يبول ثم يستنجي ثم يجد بعد ذلك بللا قال (عليه السلام): " إذا بال فخرط ما بين المقعدة
والانثيين ثلاث مرات وغمز ما بينهما ثم استنجى، فإن سال حتى يبلغ السوق
فلايبالي " (2)، وبنوادر الراوندي: " من بال فليضع إصبعه الوسطى في أصل العجان
ثم ليسلها ثلاثا " (3) الصريحين في لزوم عصر بين المقعدة والانثيين في تحقق
الاستبراء المترتب عليه الحكم. ولا يعارضهما شيء، لعدم دلالة الصحيحتين على
نفي ما أثبتناه مع احتمال كونه مرادا منهما أيضا، ولا أقل من إجمالهما من تلك
الحيثية وعدم ظهور لهما معتد به في خلاف هذين بحيث ينفي عدم مدخلية الثلاث
عصرات التي بين المقعدة والقضيب في ترتب هذا الحكم وهو عدم المبالاة بما
سال حتى يقع التعارض بينهما وبين الصحيحتين، هذا.
مضافا إلى أن القول بسقوط الثلاث الاولى وهي المتعلقة بما بين القضيب
والمقعدة مخالف للقولين المشهورين، بل لم ينسب إلا إلى السيد والمهذب حيث

(1) الوسائل 1: 225، الباب 11 من أبواب نواقض الوضوء، ح 2.
(2) الوسائل 1: 200، الباب 13 من أبواب نواقض الوضوء، ح 2.
(3) نوادر الراوندي: 39.
221

إنه نقل عنهما الاكتفاء بالثلاثة الوسطى وهي المتعلقة بأصل القضيب بحسبان أنه
ظاهر صحيحة البختري بدعوى عود الضمير المفعول فيها في قوله (عليه السلام): " ينتره إلى
الذكر "، ودعوى اختصاص الذكر بالقضيب أو انصرافه اليه وهو حسبان بلا مستند،
إذ الدعويان مما لا شاهد لهما، مع الغض عن أن هذا القول معارض بما حكي عن
والد الصدوق من أنه خص الاستبراء بالثلاثة الاولى.
وبالجملة فالأقوى اعتبار التسع في الكيفية أخذا بصحيحة ابن مسلم فإنها
صريحة في لزوم نتر الطرف الذي هو الرأس في الحكم بعد الاعتناء، وظاهرة في
لزوم العصرات الاولى أيضا، أو غير منافية لما يستفاد لزومها منه كحسنة
عبد الملك ونوادر الراوندي المنجبرين سندا بالشهرة المحققة، وبصحيحة البختري
الظاهرة في اعتبار التسع بالتقريب الذي بيناه أو الغير المنافية من جهة الإجمال
لما يستفاد منه اعتبار الأزيد مما ليس مذكورا فيها صريحا من العدد كما حققناه
من أنه ليس لها ظهور يعبأ به في النفي، إذ ظهورها في خصوص الثلاث الوسطى
موقوف بضعف الاحتمال الذي احتملناه فيها بحيث لا يعتنى به عرفا ليتم الظهور
المزبور، والضعف غير مقبول.
ولكن الانصاف أنه لو أغضى عن دعوى ظهورها فيما احتملناه فلا ريب في
إجمالها، لتساوي الاحتمالين، أو قوة احتمالنا بمقدار ما تسقط به عن الظهور في
خلافه، وحينئذ فيحكم غيرها الناص في اعتبار ما لم يستفد منها عليها تحكيما
للمبين على المجمل، فبمقتضى الروايات الأربع الظاهر من حيث المجموع في
اعتبار التسع معونة حمل مطلقها على المقيد أو مجملها بالمبين لزم القول باعتبار
التسع في الاستبراء المترتب عليه الحكم بطهارة البلل المشتبه وعدم ناقضيته كما
عليه المشهور، لعدم دليل تام على كفاية الست أو أقل في الحكم المزبور بعد
تطابق الروايات والفتاوى على الحكم بخبثية البلل المشتبه الخارج قبل الاستبراء
وحدثيته.
قوله (قدس سره): (والظاهر الاجتزاء في الثلاثة الوسطى بالعصر والغمز) لورود
222

كل منهما في رواية معتبرة ولإفادة الغمز ما اريد بالعصر، فلا يتعين هو بخصوصه.
قوله (قدس سره): (كما أنه يقوى الاجتزاء - إلى قوله: - وإن كان الأحوط
مراعاة التسع منفصلة غير مفصول بين آحادها) أراد به بيان أنه لا يلزم
تأخير ثلاثة نتر الرأس عن ثلاث عصرات القضيب، بل يجوز استتباع كل عصرة
بنترة، لصدق ثلاث عصرات وثلاث نترات بتلك الكيفية أيضا، ولعدم الفرق بين
الكيفيتين في ما يترتب عليهما من الفائدة من نقاء المجرى وإخراج ما بقي فيه من
البول، ولكن الأحوط فعل كل ثلاثة بعد الفراغ عن صاحبتها السابقة عليها، كما هو
مقتضى الترتيب المستفاد من عطف إحداهما على الاخرى، ولاحتمال مدخلية
الكيفية الخاصة في الحكم المزبور كما قواه في جواهره في دفع قول من استنبط
من الروايات عدم اعتبار خصوصية للكيفية أصلا، حيث نزل الروايات على
الغالب، وجعل المناط حصول الاطمئنان بنقاء المجرى وإن لم يكن بالكيفية
المذكورة.
فإنه (قدس سره) ضعف هذا القول كقول من جمع بين الروايات بحمل اختلافهما على
اختلاف المثانات في الشدة والضعف، وقال: " انهما قولان لا شاهد لهما، بل ظاهر
الأخبار يقضي بخلافهما - وجعل (قدس سره) مدخلية خصوصية الكيفية مقتضى ظاهر
الأخبار، وقال: - ان استنباط أن المناط استظهار عدم تخلف شيء من البول في
المجرى والاطمئنان بنقائه عنه بأي نحو كان استنباط خال عن الشاهد " وهو
كذلك، لظهورها في مدخلية الكيفية وفي عدم كفاية مجرد الاستظهار من أينما
حصل، بل لو أغضى النظر عن التعبدية وترتب الحكم على نفس تلك الكيفية وإن
لم يحصل اطمئنان فلا أقل من قصر ترتبه على الاستظهار والاطمئنان الحاصل
من الكيفية الخاصة كما هو مقتضى ظاهر الروايات المذكورة.
قوله (قدس سره): (وفائدته الحكم بعدم حدثية البلل المشتبه إذا خرج بعده
وعدم خبثيته، بخلاف ما لو خرج مع عدم الاستبراء فإنه محكوم بأنه
بول) لما عرفته من أخبار الباب مفهوما ومنطوقا، وللإجماع على الحكمين معا
223

كما يظهر من الجواهر حيث قال: " لم أجد خلافا فيهما " وحكى نفيه فيهما صريحا
عن ابن إدريس وإن استظهر الخلاف في الثاني عن الاستبصار، لكنه ضعفه
واستظهر من بعضهم دعوى الإجماع على خلافه، كما استظهر خبثيته كحدثيته من
السنة أيضا بسبب تضمنها الأمر بالاستنجاء منه.
قوله (قدس سره): (وقد يلحق بالاستبراء بالنسبة إلى الحكم المزبور طول المدة
وكثرة الحركة بحيث يقطع بعدم بقاء شيء في المجرى) مشتبه المراد، لأنه
إن أراد إلحاق نفس الأمرين المذكورين بالاستبراء وإن لم يحصل منهما قطع
بالعدم، بل كان من شأنهما حصول القطع وكان مفادهما الفعلي الاطمئنان فقط،
فلازمه الاكتفاء بالاطمئنان من أينما حصل، وقد نسبه (قدس سره) هو إلى بعضهم وجال
عليه على ما نقلناه عن جواهره كما عرفت، فلا ينبغي له أن يعتمد عليه هنا، لما
عرفته منه من عدم الشاهد على كفاية الاطمئنان الحاصل من غير الكيفية الخاصة.
وإن أراد صورة حصول القطع حقيقة فلا معنى للإلحاق أيضا، لأنه لا معنى
حينئذ للشك في كون البلل من البول الباقي في المجرى، لما فرض من القطع
بعدمه، فلو فرض حصول شك فإنما هو مع الغفلة عن القطع المذكور وبمجرد
الالتفات اليه يزول الشك كما هو شأن الشكوك البدوية كما سيصرح به هو (قدس سره) في
باب الغسل، وإليه ينظر ما علقه عليه الأستاذ - طاب ثراه - من التأمل فيه.
قوله (قدس سره): (والظاهر عدم سقوطه) أي الاستبراء (بقطع الحشفة، بل ولا
ثلاثة النتر) لما عرفته من ترتب الحكم على مصداق الذكر المتحقق في ضمن
مقطوع الحشفة، ولترتب النتر على الطرف وهو الرأس الصادق على رأس ما
قطعت حشفته أيضا، وتعبير العلماء بالحشفة إنما هو لكونه مصداق الرأس
والطرف في الغالب لا لخصوصية فيها لتنتفي عن مقطوعها، فلا مجال للتأمل في
بقاء الحكمين بمقتضى الأدلة، كما لا يخفى.
قوله (قدس سره): (أما لو كان مقطوعا من أصله) يعني من أصل القضيب (أجزأ
ثلاثة المقعدة) لعدم المحل للستة الأخيرة، ولانتفاء الفائدة في إعمالها في محل
224

الاولى، وعدم ثبوت تعبدية في مطلوبيتها.
قوله (قدس سره): (كما أن الظاهر عدم اشتراط المباشرة فيه) لما عرفته من عدم
التعبدية، ولترتب الفائدة المطلوبة من المسحات على الموجود الخارجي من أي
فاعل صدر كما هو شأن التوصليات والإرشاديات سيما لو كان المرشد اليه من
الامور الخارجية.
قوله (قدس سره): (ولو خرج البلل من غير المستبرئ وكان مجنونا أو كان
نائما لا يعلم به وعلم به الغير فالأقرب نجاسته) إذا فرض كونهما شاكين في
بوليته أو ممزوجيته بالبول لو فرض كونهما ملتفتين، لأن الظاهر من الأخبار
تحكيم استصحاب بقاء شيء من ذلك البول في المجرى، وتحكيم ظاهر الحال
الدال على عدم نقاء المجرى منه على الأصل والقاعدة الدالين على عدم خبثية
هذا البلل المشكوك وعدم حدثيته، لكن هذا إذا لم يطل الزمان كثيرا ولم يقع منه
حركة كثيرة أو عنيفة يوجب القطع بعدم بقاء شيء في المجرى، ولذا قلنا باعتبار
القطع بالنقاء وإن لم يحصل من الاستبراء، وإن تأمل فيه هو (قدس سره) في جواهره
واحتمل مدخلية خصوصية الاستبراء وإن حكم أخيرا بضعف ذلك الاحتمال
وقوى الاعتبار، كما أنه (قدس سره) هنا جعل وجه الحكم بالنجاسة أن الأصل بولية البلل
الخارج قبل الاستبراء، لظاهر تلك الأدلة، وحكم ذلك الظاهر على أصالة الطهارة
وقاعدتها المغياة بالعلم بالنجاسة.
وبالجملة مناط الحكم بالنجاسة مشكوكية البلل الخارج عند من خرج منه
ولو شأنا لكل من يريد أن يرتب عليه حكما من الأحكام ولا يتوقف سريان
حكمه في حق الغير على فعليته في حق الشاك كما احتمله في الجواهر حيث قال:
" وهل يدور الحكم في البلل مدار اشتباهه يعني فعلا عند من خرج منه البول،
أولا؟ " وعليه فلا ينظر إلى عدم مشكوكيته فعلا عند من بال، لأنه من عدم
الالتفات وعدم الادراك، وإلا فهو أيضا شاك فيه قطعا، لما فرض من شأنية لكونه
مشكوكا مطلقا.
225

قوله (قدس سره): (وكذا لو خرج بلل ممن لم يستبرئ ولم يتمكن من اختباره
إما لظلمة أو غير ذلك) لأن الشك فيه فعلي، ولكن السبب فيه ليس عدم التميز
كما في الأول، وإنما هو عدم الوصلة إلى أسباب التميز، فالحكم بالنجاسة في
الجميع إنما هو لمشكوكية الخارج. واحتمال كونه من البول السابق أو خلطه به لو
كان الخارج مذيا مثلا أخذا بالظاهر من باب الأخبار والاستصحاب أيضا في وجه.
قوله (قدس سره): (ولا استبراء للنساء... الخ) لانتفاء ما هو محل للأعمال
المذكورة من العصرات والنترات فيهن، فليس لهن عمل يترتب عليه الحكم
المزبور، وأما طهارة البلل الخارج منهن فلضعف الاستصحاب المذكور، لعدم
حجيته في التدريجيات التي لا يحكم بوحدتها في العرف، بل استصحاب العدم
فيه محكم، ولولا الأخبار المذكورة لما كنا نحكم بنجاسة البلل الخارج في الذكور
أيضا، وما أشرنا اليه من كونها بمقتضى الاستصحاب إنما هو لرفع التعبدية الصرفة
المتخيلة في المقام.
ومنه يتبين أن موردها إنما هو ما هو مظنة البقاء عادة فلا تغفل، وإلا فلا ريب
أن مقتضى الأصل عدم حدثية البلل المشتبه وعدم خبثيته، والله العالم بحقائق
أحكامه.
* * *
وقد كان لمؤلفه قد تم الفراغ من تلك الوريقات
المكتوبة في زمان هجوم الهموم والغموم
وكمال الابتلاء بالفتور
في عصر الاثنين عاشر ربيع
المولود سنة 1294
226

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سادات الورى وأئمة الهدى
محمد وآله الأتقياء النجباء.
قوله (قدس سره):
(وأما المقاصد) الثلاثة التي منها التأم كتاب الطهارة بضميمة المقدمة
والخاتمة (فأولها في الوضوء) الذي هو أقدم من أخويه لحاجة الناس اليه في
الغالب (وفيه) أي في هذا المقصد (مباحث):
(المبحث الأول: في أجزائه)
(وهي غسلتان ومسحتان) بنص الكتاب والسنة وإجماع المسلمين في
الغسلتين وإحدى المسحتين، وبهما وبإجماعنا الإمامية في مسح الرجلين أيضا،
بل وبضرورة المذهب كما في الجواهر، كما يشهد لتحققها ما تواترت فيه عن
أئمة الدين.
قوله (قدس سره): (فالغسلتان للوجه واليدين) لما تقدم من الأدلة (والمسحتان
للرأس والقدمين) لما عرفت.
قوله (قدس سره): (أما الوجه فهو ما بين القصاص وطرف الذقن طولا، وما
اشتملت عليه الإبهام والوسطى عرضا) هذا هو بيان ما اريد منه في آية
الوضوء، بل لا يبعد اتحاده مع العضو المخصوص المفهوم من لفظه عرفا الذي
227

هو معناه أيضا لغة، وما نقلوه أن يكون في معناه اللغوي من أنه مستقبل الشيء
أو خصوص ما يواجه به مأخوذا منه لو لم يكن الثاني عين ما ذكرناه.
وكيف كان فلا ريب في وجوب غسل ما حوى عليه الإصبعان عرضا من هذا
العضو الذي ابتداؤه منتهى القصاص وانتهاؤه محادر اللحية من الذقن، كما هو
المعروف بين الأصحاب، بل حكي عدم الخلاف فيه، بل عليه الإجماع من جمع،
بل عن المعتبر والمنتهى أنه مذهب أهل البيت (عليهم السلام) والأصل فيه صحيحة زرارة
عن أبي جعفر (عليه السلام) حيث قال: " أخبرني عن الوجه الذي ينبغي أن يوضأ الذي قال
الله تعالى: (فاغسلوا وجوهكم) فقال (عليه السلام): الوجه الذي أمر الله بغسله الذي لا
ينبغي لأحد أن يزيد عليه ولا ينقص عنه، إن زاد عليه لم يؤجر، وإن نقص عنه أثم
ما دارت عليه الابهام والوسطى من قصاص الشعر إلى الذقن، وما جرت عليه
الإصبعان مستديرا فهو من الوجه، وما سوى ذلك فليس من الوجه، قال: قلت
الصدغ من الوجه؟ قال (عليه السلام): لا " (1).
فالصحيحة المؤيدة بما ذكر من الشهرة والإجماع المنقول أوفى دليل على
عدم جواز التعدي عن التحديد المذكور زيادة ونقصا، لظهورها في ما فهمه منها
المشهور من تبادر الإحاطة من لفظ " دار " عند إطلاقه في مثل المقام عرفا،
ولكون الفقرة الثانية تأكيدا لما أفادته الاولى، فلا يصغى بعد ذلك إلى ما حققه
شيخنا البهائي (رحمه الله) من الدائرة الپرگارية سيما مع بعده عن متفاهم العرف الغير
المناسب لكلامهم (عليهم السلام) الذي صدر عنهم (عليهم السلام) على النهج المتعارف بين الناس
لإفادة المطلب على الطريقة المألوفة، هذا.
مضافا إلى اسلتزامه مع هذا الخفاء خروج بعض ما يجب غسله عنه من
مواضع التحذيف والصدغ والعذار على ما ذكره البهائي، إذ لا ريب في وجوب
غسل شيء من المذكورات قطعا أما مواضع التحذيف فلوضوح كون ما قابل منها

(1) الوسائل 1: 283، باب 17 من أبواب الوضوء، ح 1.
228

الحاجبين من الوجه بلا ريبة، لأنه تحت منتهى القصاص الذي هو أول الطرف
لا على الوجه.
وأما الصدغ والعذار فكذلك بناء على ابتدائهما من مؤخر العين والحاجب
وانتهائهما إلى صماخ الاذن، كما حكي أن الصدغ هو العظم الناتئ هناك، والعذار
هو ما تحت العظم الممتدان من مؤخر الحاجب والعين إلى طرف الاذن.
وحكمه (عليه السلام) بعدم كون الصدغ من الوجه في الصحيحة محمول على مجموعه كما
هو ظاهر السؤال، أو على التفسير الذي ادعي معروفيته بين الأصحاب والأخبار
أيضا من أنه منبت الشعر المسمى بالفارسية (زلف) وعليه فهو داخل في الرأس
كما في الجواهر أيضا أنه معرب (زلف) الذي هو الشعر المتدلي من طرفي الاذنين،
والمعنى الثاني على هذا من باب تسمية المحل باسم الحال بإرادة محل هذا الشعر
منه، كما حكي أن العذار هو محل محادر أول اللحية من محاذاة الاذن ومؤخر
العين، ومنه يعرف أن الصدغ جزء من الرأس، إذ هو على ما ذكروه فوق العذار.
وكيف ما كان لا ريب في وجوب غسل بعض المذكورات على التفسير الأول
كما لا ريب في استلزام الدائرة التي ذكرها البهائي (قدس سره) خروجه فتحقيقه غير حقيق
بالمقام، كما أن توهمه دخول النزعتين في تحديد المشهور في غير محله، إذ ليس
كل ما يعد قصاصا أي منتهى لمنبت شعر الرأس حدا للوجه، بل إنما حده منتهى
القصاص المتعارف، بل لا يحتاج الوجه من أعلاه وأسفله إلى التحديد لمعلومية
طرفيه عرفا، وذكرهما إنما هو لبيان المحل الذي يجري عليه الإصبعان، وأنه
محدود بالحدين اللذين هما معروفان عندك، ولئلا يدع الغاسل شيئا من الطرفين
الأعلى والأسفل الذي لا شبهة في كونه واجب الغسل، إذ الوجه من قبلهما معلوم
غير قابل للاشتباه، والقابل للاشتباه إنما هو من طرف العرض، إذ الظاهر أنه أنقص
من الوجه العرفي، فإنه أوسع من المقدار المحدد بهما عند العرف وعند عامة الناس.
فهذا التوهم نظير ما حكي عن صاحب المدارك من توهمه شمول التحديد
لجميع الخط الطولي ولو من جانب الذقن فرأى أنه في أسفل الوجه يتجاوز
229

الإصبعان إلى ما تحت اللحيين قريب الرقبة، فالتجأ إلى تخصيصه بوسط تدوير
الوجه، مع أنه من الواضح أن التحديد إنما هو لإخراج ما يتوهم دخوله في المراد
من الوجه مما ليس بمراد كصفحتي العارض فإنهما بتمامهما من الوجه عند العرف
قطعا، وليستا بمراد في الآية، وأما أسفل الوجه فليس كذلك، لمعلومية خروج
ما تحت اللحى عن الوجه كخروج النزعتين عنه.
فتبين بما ذكرنا وجه قوله (قدس سره): (فالداخل في ذلك) يعني في التحديد
المذكور (من الوجه كما أن الخارج عنه ليس منه) أي من الوجه الواجب
غسله المتوقف صحة الوضوء (من غير فرق بين الصدغ والعذار والعارض
ومواضع التحذيف وغيرها. نعم يجب غسل شيء مما خرج عن الحد،
للمقدمة) تحصيلا للعلم بإتيان الواجب، ولا يجب أصالة شيء من المذكورات
مما لا يحيط به الإصبعان، كما لا يجوز ترك ماينالانه منها، خلافا في الأول لظاهر
المشهور على ما نسبه إليهم الأستاذ - طاب ثراه - في شرح الارشاد تبعا لما في
صحيحة زرارة المذكورة من الحكم بخروجه عن الوجه. ولابد من حمله على
ما حكي عن الصحاح من أنه يسمى الشعر المتدلي بين العين والاذن صدغا، بعد
أن حكى عنه أن الصدغ هو ما بين العين والاذن بإرادتهم منه محل هذا الشعر
المتدلي مجازا.
وهذا بعد عدم إمكان حمل كلامهم في نفي كونه من الوجه، وخروجه منه
الظاهر في خروجه عن المحدود لا عن الحكم على عدم كون جميعه من الوجه،
لما عرفت من أن بعضه خارج عنه بمقتضى التحديد، فإبقاء كلامهم كظاهر
الصحيحة على حاله من خروجه بأجمعه من الوجه مستلزم لإرادتهم هذا المعنى
الذي حكي عن أهل اللغة لا معناه المعروف بينهم من أنه تمام ما بين الحدين،
ليلزم منه خروج ما هو مقطوع الدخول بمقتضى التحديد المقبول أيضا، بل يقع
التنافي من أجله بين كلامي المشهور وفقرتي الصحيحة من الحكم بخروجه
صريحا واستلزام التحديد دخول بعضه كذلك.
230

فالحمل المذكور متعين كما حكي التصريح بإرادة المعنى المزبور عن
جماعة، وللمحكي عن الراوندي فقال بدخوله فيه أجمع. ويرده الصحيحة تحديدا
وتصريحا.
وفي الثاني للمحكي عن المشهور كما في الحدائق بخروجه عنه مع تفسيره
بالشعر النابت على العظم الناتئ، وعن التذكرة أن العذار وهو ما كان على العظم
الذي يحاذي وتد الاذن ليس من الوجه عندنا، خلافا للشافعي وللمحكي عن
ظاهر المعتبر بدخوله فيه بأجمعه، وحكي الدخول عن صريح المبسوط والخلاف
والإسكافي، وعن صريح المرتضى وجده الناصر، حيث حكى في الناصريات
عن الناصر وجوب غسل العذار بعد نباتها، لوجوبه قبل نباتها ثم رده بأن حكمه
حكم اللحية والشعر إذا علا البشرة حيث انتقل الفرض اليه.
وكذا حكي عن ثاني الشهيدين والمحققين وحمل كلام المخرج اياه عنه على
إرادة ما حاذى الصدغ الذي حكم بخروجه كما يومئ اليه ما عن التذكرة.
والتفسير المتقدم حيث إنه حينئذ لا يناله الإصبعان غير بعيد.
كما أن حمل كلام القائل بدخوله فيه على بعضه الذي يناله الإصبعان على
معناه المعروف من امتداده من مؤخر العين إلى صماخ الاذن المتصل أعلاه
بالصدغ وأسفله بالعارض متعين كما يشهد لهذا ما صنعه بعضهم من الجمع بين كلام
الفرقتين بهذا التبعيض حملا لكلام المخرج على بعضه الخارج والمدخل على
بعضه الداخل عملا بقوله تعالى: " فأصلحوا بين أخويكم " وفي الثالث لمحكي
المنتهى من خروجهما بعد تفسيره اياهما بالشعر المتدلي النازل عن العذارين
وللمحكي عن الشهيد والمحقق الثانيين من حكمهما بالدخول، بل عن أولهما
الاتفاق عليه. وتنزيل القولين على التبعيض كما عن بعض القطع به متعين بمقتضى
التحديد المتقدم في الصحيحة المتسالم عليه، ومثله يعمل في مواضع التحذيف
يعني يحكم بخروج ما يعد منها من الرأس عنه ودخول ما سواه فيه، وهكذا كل
ما أخذه الحد يجب الحكم بدخوله فيه كائنا ما كان، وكل ما خرج عنه لا يجب
231

غسله وإن كان بعضا من العضو المخصوص عرفا، للصحيح المؤيد بما سمعته من
الإجماعات المحكية.
قوله (قدس سره): (ولا عبرة بالأنزع) وهو الذي انحسر شعر ناصيته إلى فوق فبقي
بعض مقدم رأسه لا شعر عليه، وعدم وجوب غسله لاخفاء فيه، لأن هذا الجزء
الخالي من الشعر رأس جزما، والذي يجب غسله هو العضو المخصوص المسمى
بالوجه، وتحديده بالقصاص ومنتهى منبت شعر الرأس إنما هو بلحاظ الغالب
والمتعارف لا أن لنبات الشعر عليه مدخلية فيه، بل الدخيل في التحديد هو نفس
هذا العضو الذي منبت للشعر في العادة، وهو المسمى بالرأس وحدوده كحدود
الوجه معلومة منضبطة عند العرف.
ومنه يعلم وجه قوله (قدس سره): (ولا بالأغم) وهو الذي نبت الشعر على جبهته
وجبينيه كما ذكره القوم، لا ضيق الجبهة كما قد يطلق الأغم عليه، لأن حد وجهه
أيضا منبت الشعر كواسع الجبهة الذي قد يطلق الأنزع عليه توسعا.
قوله (قدس سره): (ولا بمن تجاوزت أصابعه) أي خرجت عن المعتاد بملاحظة
جثته وبدنه أو بملاحظة وجهه وحده كما يظهر من جواهره (قدس سره) إصلاحا لأمر
عريض الوجه (في الطول والقصر، بل المرجع للجميع) أي الفاقد شعر
الناصية المسمى بالأنزع، وأشعر الجبهة والجبينين المسمى بالأغم، وطويل
الأصابع ذاتا، أو بملاحظة ضيق دائرة الوجه وقصيرها كذلك، لقصر نفس الأصابع
أو لخروج وجهه عن معتاد بدنه، وكونه عريضا واسع الدائرة (مستوي الخلقة)
أي يرجع كل من الخارجين عن العادة وجها أو إصبعا إلى المستوى الداخل في
المعتاد بأن يقدر فاقد الشعر واجده فيسقط من الموضع الخالي من الشعر ما يعد
جزءا لرأسه فلا يغسله.
كما أنه يغسل الأغم وجوبا الجبهة والجبين اللذين نبت الشعر عليهما، لأنه
من الوجه قطعا وإن نبت عليهما الشعر، لعدم مدخلية فعلية نبات الشعر وعدم نباته
في تحقق موضوعي الرأس والوجه كما لا يخفى، وتحديدهما به إنما هو بلحاظ
232

الغالب المتعارف، كما أنه هو الوجه لإرجاع طويل الأصابع وقصيرها إلى
المتعارف في الخلقة لانصراف الإطلاق اليه.
بل من الرجوع في اطلاق التحديد إلى المتعارف يصحح أمر عريض الوجه
وضيقه مع كون أصابعه متعارفا حيث إن إطلاق قوله: " اغسل من وجهك ما حوته
أصابعك " ظاهر في الوجه والأصابع المتناسبين في الخلقة، لانصرافه إلى ما كان
منهما على النهج المتعارف من تناسبهما معها خلقة، فلو خرج أحدهما عنه لا بد
من إرجاعه اليه، فالوجه العريض يفرض مناسبا للأصابع، ويغسل منه ما تحويه
الأصابع المتعارفة. وجه المناسبة له إما بفرض الأصابع طويلا مناسبة لهذا الوجه
العريض في الخلقة فيغسل منه ما تحويه تلك الأصابع المقدرة، أو بفرض الوجه
ضيقا، والمناسب للتقدير هو الثاني، وإن ذكر في الجواهر القسم الأول، لأن
المردود إلى المتعارف هو المتعدي عن حده. وكيف كان هكذا يفعل ضيق الوجه
وطويل الأصابع وقصيرها.
ثم لا يخفى عليك بعد هذا البيان أن في عبارة المتن تسامحا لإرادته من
خرج وجهه عن المتعارف ضيقا وسعة من لفظتي طويل الأصابع وقصيرها باعتبار
تعميمه الطول والقصر لما يعرضه هذان الوصفان، من جهة سعة الوجه وضيقه، وإن
كانت الأصابع بأنفسها ليست بطويلة ولا قصيرة وكان المناسب لتلك الرسالة
المؤلفة لرجوع العوام إليها أن يعطف على قوله: " أصابعه في الطول والقصر " قول:
" أو وجهه في السعة والضيق " لخفاء انفهامهما من طول الأصابع وقصرها.
ولذا علق على قوله: " بل المرجع للجميع مستوي الخلقة " جناب الأستاذ
الميرزا - طاب ثراه - بقوله: " في مستوي الخلقة وفي غيره إلى ما يناسبه "، وإن
كان لهذا التعليق وجه آخر أظهر مما ذكرناه وهو فهمه - طاب ثراه - من لفظة
" مستوي الخلقة " من كان في تمام خلقته مستويا حتى في عظم الجثة وصغرها.
فتوهم إرجاع عظيم الجثة على وجه خارج عن المتعارف عظمها كصغيرها كذلك
مع تناسب جميع أجزاء بدنهما إلى متعارف خلقة جثة، مع أنه بديهي البطلان فذكر
233

أن مرجعهما أنفسهما لاذوالخلقة المتعارفة جثة عظما وصغرا.
وبالجملة فتلخص من جميع ما ذكرناه أن طويل الأصابع لا يغسل غير وجهه
من أجزاء رقبته ما يناله الإصبعان، كما أن قصيرها لا يكتفي ببعض وجهه بأن يدع
غسل ما لا ينالانه منه، كما نفى عنه الشبهة والتردد والإشكال في الجواهر وحكى
تصريح القوم عليه.
قوله (قدس سره): (ويجب أن يكون الغسل من أعلى الوجه) يعني بدأة وإتماما،
ولذا عقبه بقوله (قدس سره): (بحيث يصدق عرفا عليه ذلك) إذ لولا إرادتهما معا بل
كان مراده خصوص البدأة بالأعلى لا نرضى بأن ننسبه اليه، لبعد الاكتفاء
بالمسامحة العرفية في خصوص البدأة بالأعلى، فعلم أن مراده كلاهما، لبعد إهماله
الغسل من الأعلى إلى الأسفل، ولأنه هو الذي يكتفى فيه بالصدق العرفي، لتعذر
المعنى الحقيقي أو تعسره كما سيأتي إن شاءالله.
وبالجملة النزاع في وجوب الغسل من الأعلى يقع من جهات:
الاولى: وجوب الابتداء من الأعلى في قبال الابتداء بالذقن الذي لازمه
النكس التام في الغسل كما يشهد له تفريعهم على وجوبه عدم جواز الغسل منكوسا.
الثانية: وجوب الغسل من الأعلى أعني وجوب الابتداء بالأعلى بمعنى عدم
جواز الشروع في الغسل الوضوئي بغيره، ولو لم ينكس في غسله بأن ابتدأ بغير
الأعلى وتمم غسله من الأعلى إلى الأسفل، أو قارن فيه بين الأعلى وغيره، فغسل
الجميع جملة بالرمس في الماء أو بالصب على وجه حصل غسل الجميع دفعة
واحدة.
الثالثة: وجوب الغسل من الأعلى بمعنى وجوب غسل كل جزء فوقاني قبل
الجزء السافل مطلقا أو قبل خصوص السافل المسامت له.
الرابعة: الجمع بين الثانية والثالثة بأحد المعنيين، وحاصله وجوب البدأة
بالأعلى ومراعاة الترتيب بين الأجزاء، لكن مع اختلاف الواجبين.
أما من الجهة الاولى فالمشهور وجوب الغسل من الأعلى، بل عن بعض
234

حواشي الألفية الاتفاق عليه، ومع ذلك نسب إلى السيد (رضي الله عنه) في أحد قوليه جواز
النكس، وهو المحكي عن الشهيد (قدس سره)، وعن ابني سعيد وإدريس، بل نسبه في
الحدائق إلى جماعة من المتاخرين ومتأخري المتأخرين.
وكيف كان الأقوى هو وجوب الغسل من الأعلى وعدم جواز العكس،
للأخبار المعتبرة كصحيحة زرارة قال: " حكى لنا أبو جعفر (عليه السلام) وضوء رسول
الله (صلى الله عليه وآله) فدعى بقدح من ماء فأدخل يده اليمنى فأخذ كفا من ماء فأسدله على
وجهه من أعلى الوجه، ثم مسح وجهه من الجانبين جميعا، ثم أعاد يده اليسرى
في الاناء، فأسدلها على يده اليمنى ثم مسح جوانبها، ثم أعاد اليمنى في الاناء،
فصبها على اليسرى، ثم صنع بها كما صنع باليمنى، ثم مسح بما بقي في يده رأسه
ورجليه، ولم يعدهما في الإناء " (1).
ورواية قرب الاسناد عن أبي الحسن موسى (عليه السلام): " كيف أتوضأ للصلاة؟
فقال (عليه السلام): لا تعمق في الوضوء ولا تلطم وجهك بالماء لطما، ولكن اغسله من
أعلى وجهك إلى أسفله بالماء مسحا، وكذلك فامسح الماء على ذراعيك ورأسك
وقدميك " (2).
وصحيحة زرارة وبكير بن أعين فإنهما سألا أبا جعفر (عليه السلام): " عن وضوء
رسول الله (صلى الله عليه وآله) فدعا بطست أو تور فيه ماء، فغسل كفيه، ثم غمس كفه اليمنى في
التور فغسل وجهه بها، واستعان بيده اليسرى بكفه على غسل وجهه، ثم غمس كفه
اليمنى في الماء فاغترف بها من الماء، فغسل يده اليمنى من المرفق إلى الأصابع
لا يرد الماء إلى المرفق، ثم غمس كفه اليمنى في الماء فاغترف بها من الماء
فأفرغه على يده اليسرى من المرفق إلى الكف لا يرد الماء إلى المرفق كما صنع
باليمنى، ثم مسح رأسه وقدميه إلى الكعبين بفضل كفيه لم يجدد ماء " (3).

(1) الوسائل 1: 275، الباب 15 من أبواب الوضوء، ح 10.
(2) قرب الاسناد: 312، الوسائل 1: 280 الباب 15 من أبواب الوضوء، ح 22.
(3) الوسائل 1: 276 الباب 15 من أبواب الوضوء، ح 11.
235

ومثلهما صحيحتهما الاخرى عنه (عليه السلام) مع زيادة في آخرها من تمسكه (عليه السلام)
في الغسل والمسح بآية الوضوء، وبيانه (عليه السلام) للكعبين بما هو ظاهر في قبتي
القدمين، ورواها الشيخ عن حسين بن سعيد عن ابن أبي عمير بحذف تلك الزيادة
مع التنبيه عليه على ما في الوسائل (1).
وصحيحة اخرى لزرارة (2) مثل صحيحته الاولى بتفاوت يسير في اللفظ.
وصحيحة ثالثة له قال: " قال أبو جعفر (عليه السلام): ألا أحكي لكم وضوء رسول
الله (صلى الله عليه وآله)؟ فقلنا: بلى، فدعا بعقب فيه شيء من ماء فوضعه بين يديه ثم حسر عن
ذراعيه، ثم غمس فيه كفه اليمنى ثم قال: هكذا إذا كانت طاهرة ثم غرف ملأها ماء
فوضعها على جبهته، ثم قال: بسم الله وسدله على أطراف لحيته، ثم أمر يده على
وجهه وظاهر جبنيه مرة واحدة، ثم غمس يده اليسرى فغرف بها ملأها ثم وضعه
على مرفقه اليمنى فأمر كفه على ساعده حتى جرى على أطراف أصابعه ثم غرف
بيمينه ملأها فوضعه على مرفقه اليسرى، فأمر كفه على ساعده حتى جرى الماء
على أطراف أصابعه، ومسح مقدم رأسه وظهر قدميه ببلة يساره وبقية بلة يمناه.
قال: وقال أبو جعفر (عليه السلام): إن الله وتريحب الوتر، فقد يجزيك من الوضوء
ثلاث غرفات واحدة للوجه واثنتان للذراعين، وتمسح ببلة يمناك ناصيتك وما
بقي من بلة يمينك ظهر قدمك اليمنى، وتمسح ببلة يسارك ظهر قدمك اليسرى،
قال زرارة: قال أبو جعفر (عليه السلام): سأل رجل أمير المؤمنين (عليه السلام) عن وضوء رسول
الله (صلى الله عليه وآله)، فحكى له مثل ذلك (3).
ومن المعلوم أن حكاية الفعل العادي على وجه خاص إذا لم يترتب عليه
فائدة لا داعي لذكر ماله من الخصوصية القائمة بشخصه الخارجي، ولا ينحو
نحوها من له روية أداء الكلام على وجهه عند عدم تعلق غرضه ببيان تلك

(1) الوسائل 1: 272، الباب 15 من أبواب الوضوء، ح 3.
(2) الوسائل 1: 274، الباب 15 من أبواب الوضوء، ح 6.
(3) الوسائل 1: 272، الباب 15 من أبواب الوضوء، ح 2.
236

الخصوصية، فذكر كيفية وقوع الفعل بنحو خاص من مثل هذا الشخص دليل على
أن لتكيفه بتلك الكيفية دخلا في صيرورته متعلقا للحكم، وليس هذا من قبيل نفس
صدوره من الفاعل حتى يتأتى فيه أن يقال: إنه أحد أقسام وقوع الفعل في
الخارج، وليس لاتصافه بتلك الخصوصية دخل في الحكم، إذ الوجود في
الخارجي لابد ان يكون متكيفا بكيفية من الكيفيات الخاصة، لأنه لازم توقف
وجود الكلي على التشخص.
إذا عرفت ذلك فنقول: إن حكاية زرارة فعل أبي جعفر بعنوان أنه غسل من
الأعلى لو لم تكن لخصوصيته مدخليه لم يكن يذكره في مقام الحكاية، فذكره
أقوى شاهد على أنه أراد بيان ماله دخل في الغسل الوضوئي. وإذا ثبت مدخليتها
في حصول المطلوب من غسل الوضوء وجب أن يقال بكونه من الآداب الواجبة
فيه، لمعلومية أنه مع المدخلية ليس من الآداب المرخص في تركها ما لم يقم في
المقام شيء يدل على عدم اللزوم، أو لم يثبت من الخارج عدم لزومه.
ولا يرد حينئذ ما أورده الشيخ الأستاذ - طاب ثراه - من أن حمل الوضوء
البياني على بيان واجبات الوضوء غير ممكن، للعلم باشتماله على مندوبات، لما
عرفت أن الاشتمال على المندوبات غير مضر على ما أسسناه لبيان ما أردناه من
استفادة الوجوب من الوضوءات البيانية، حيث إنا لم نجعل مورد الاستفادة نفس
الفعل حتى يرد عليه أن اشتمال الفعل على مندوبات يمنع عن إفادته وجوب بعض
الخصوصيات المشتمل هو عليها، بل جعلنا مورد الاستفادة حكاية زرارة الفعل
الواقع منه (عليه السلام) على وجه التعليم والإفادة بوجه مخصوص. كما لا يرد ما ذكروه
في منع وجوب التأسي من أن الفعل العادي ليس موردا للتأسي، لعين ما قلناه.
وبالجملة حكاية زرارة لتلك الخصوصية دليل على أنه فهم من فعله (عليه السلام)
دخل تلك الخصوصية في الغسل الوضوئي، وفهمه حجة، لأن الفعل وقع إعلاما له
بالكيفيات المعتبرة في هذا الفعل المطلوب المعترك للآراء بلحاظ ما تصرف فيه
العامة وغيروه عما ينبغي وقوعه عليها. وعرفت أنه بعد إحراز المدخلية لا بد أن
237

يعامل مع الدخيل معاملة الواجب ما لم يقم قرينة من نفس المقام على خلافه،
أو لم يثبت عدم وجوبه من الخارج، هذا.
مع أن نفس بيانه (عليه السلام) غسل الوضوء بلسان الحكاية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أوفى
في إفادة وجوب هذا النحو من الغسل في الوضوء عن كل ظهور لفظي، لنداء
فعله (عليه السلام) بأعلى صوته أنه في مقام الردع عما هو المتداول عند هؤلاء، هذا.
مضافا إلى كفاية رواية قرب الاسناد لإثبات هذا المعنى، لكونها معتبرة في
نفسها، لكون الكتاب المذكور من الاصول المشهورة المعتمد عليها على ما ذكره
في الحدائق، مع أنه على فرض عدم بلوغها حد الحجية في نفسها يكفي في
اعتبارها وصحة الاتكال عليها عمل المشهور عليها وركونهم إليها، فينجبر ما فيها
من الضعف لو كان بتلك الشهرة المحققة والإجماع المنقول المتقدم، ويشهد
لاعتبار سندها أن الشيخ الأستاذ - طاب ثراه - لم يتعرض له أصلا، بل منع دلالتها
على المدعى.
وما أورده - طاب ثراه - لمنع الدلالة غير وارد، لأن اللطم المرجوح الغير
المحرم هو ما تحقق معه الغسل من الأعلى. وأما المفوت لهذا المعنى فهو أيضا
داخل في محل النزاع كما بيناه لك في صدر المسألة من ذكر الشقوق الأربعة.
وستعرف أن الأقوى حرمته بناء على ما نبينه من عدم جواز الابتداء بغير الأعلى
وإن لم يغسل منكوسا.
فقوله (قدس سره): " فالأمر فيه محمول على الاستحباب قطعا، لتقييده بكونه على
وجه المسح في مقابل اللطم " انتهى، مقطوع خلافه، لأنه يتم لو وقع المسح في
مقابل اللطم الغير المفوت، لحصول الغسل من الأعلى، وبعبارة اخرى اللطم
المكروه هو ايراد ماء الوضوء على الوجه على وجه اللطم، والمسح المقابل له
مندوب كما ذكره - طاب ثراه - وأما ايجاد غسل الوجه الوضوئي على وجه اللطم
الموجب لفوات البدأة بالأعلى، فهو محرم غير مجوز كما ستعرفه ان شاء الله،
ومعه يكون الغسل بعنوان المسح في قباله واجبا قطعا، وهذه الرواية من عمدة
238

ما نستدل به على وجوب البدأة بالأعلى.
فتبين أن النكس في غسل الوجه كما هو دأب غيرنا غير مجز بمقتضى تلك
الروايات، وبمقتضى ما ورد من عدم جوازه في غسل اليد كما ذكر في جملة من
روايته بعد ضم عدم القول بالفصل اليه كما حكاه الأستاذ - طاب ثراه - عن ظاهر
الفاضلين والشهيد وجماعة، وبعد ضم استسلام الشيعة لتلك الكيفية المنبئ عن
كونه واصلا إليهم يدا بيد بحيث أخذه كل خلف عن سلفه الدال على أنه هو ما أتى
به صادع أمر الدين وشارع الأحكام على الوجه المبين، فلا يبقى بعده شك في
عدم جواز النكس بوجه.
ومن الكلام في الجهة الاولى تبين حال الجهة الثانية، وأن الأقوى فيها أيضا
الوجوب، لقوله (عليه السلام): " لا تلطم وجهك بالماء لطما... الخ " كما قدمناه، فإنه (عليه السلام) منع
عن غسل الوجه لطما لاستلزامه فوت البدأة بالأعلى، وفوت تحقق غسل الوجه
من الأعلى فالأعلى، فأمره بايجاد الغسل على وجه يحصل معه البدأة المطلوبة
في غسل الوضوء بقوله (عليه السلام): " ولكن اغسله من أعلى وجهك... الخ ".
ومن تقابل نهي اللطم بهذا الأمر الظاهر في الوجوب بحيث يغسل به الأسفل
والأعلى معا ويفوت معه الابتداء من الأعلى غير مجوز كما أشرنا إليه ودفعنا به ما
أورده الشيخ الأستاذ على الرواية من حمل الأمر فيها على الندب بقرينة تقابله
للنهي عن اللطم الذي هو للكراهة، لعدم حرمة الصب المقدمي الواقع على وجه
اللطم هذا. مضافا إلى ظهور نفس الفقرة في إرادة تمام الغسل بنفس اللطم باعتبار
الاكتفاء بذكره وحده في مقام بيان كيفية غسل الوجه.
ويمكن استفادة وجوب هذا المعنى من الوضوءات البيانية أيضا بالتقريب
الذي تقدم من استفادة مدخلية الكيفية المحكية في حصول المطلق من غسل
الوجه منها، وقد عرفت تضمن الحكاية لكون الغسل من الأعلى.
ثم لا يخفى عليك أنه بعد تسليم ثبوت وجوب الابتداء من الأعلى لا بد أن
يحمل على الحقيقي، لعدم دليل على جريان المسامحة العرفية فيه، لعدم قيام قرينة
239

عليها، ولاهناك تعارف يقتضيها ولا حرج في فعل ما يقابلها ليوجب رفعه المصير
إليها مضافا إلى أن المحكي من فعله (عليه السلام) متضمن للابتداء الحقيقي، لأنه (عليه السلام)
لم يدع شيئا من وجهه غير مغسول ولا غسله بغير تلك الصبة التي عبارة عن
وضعه (عليه السلام) الماء على أعلى وجهه أو على جبينه، لأنه حكي أن بعد وضعه (عليه السلام)
الماء على أعلى وجهه أو على جبهته مسح وجهه من الجانبين، ولم يذكر أنه مسح
موضع الوضع أيضا، فلو لم يكن وضعه من الأعلى الحقيقي لزم تركه (عليه السلام) لشيء
من أعلى وجهه غير مغسول، وهو باطل.
فإذا تبين أن غسله (عليه السلام) المأتي به في مقام حكاية وضوئه صلوات الله عليه
عند إرادته (عليه السلام) تعليم أصحابه ما يحق لهم في ايجاد الوضوء المأمور به كان من
الأعلى الحقيقي لزم متابعته، لأنه الأصل في كل تحديد. فإذا ثبت الابتداء بالغسل
من الأعلى بتلك الأخبار فليحمل على ما ليس أعلى منه، للأصل المذكور لما
ذكرناه من لزوم متابعة الكيفيات الصادرة عنه (عليه السلام) في وضوئه في غير ما قامت
القرينة على عدم لزومه منها كالعاديات المعلومة والمستحبات كذلك.
وذكرنا أنه ليس أيضا من تخصيص ما استفدناه من عموم وجوب المتابعة
حتى يتأتى عليه أنه من التخصيص المستهجن، لكون المخرج أكثر مما بقي، بل هو
خارج من أول الأمر، لقيام القرينة الحالية على خروجه لمعلومية كونه من الأفعال
العادية، أو من المندوبات الواضح الندبية. وهذا النحو من الخروج لا استهجان
فيه، وإن بلغ المخرج في الكثرة ما بلغ.
فتبين مما ذكرنا أنه كما لا يجوز الشروع بغير الأعلى كذلك لا يجوز تحصيل
غسل الأعلى وغيره دفعة واحدة بأن يوجد غسل وجهه بصب واحد يتحقق به
غسل جميع الوجه دفعة واحدة، أو يضع وجهه في الماء، أو يعرضه لمطر أو ماء
جار، وينوي غسل جميعه باستيلاء الماء عليه بتمامه.
ولا يرد عليه ما ذكره في الجواهر من أن وجوب البدأة بالأعلى كما ينافيه
النكس كذلك ينافيه المقارنة، ثم فرع عليه أنه يشكل الثاني بأنه يلزم منه فساد
240

أكثر وضوءات الناس، إذ من المقطوع به أنه يغسل مع الجزء الأعلى غيره دفعة
واحدة، لوضوح أن ليس المراد من وجوب البدأة بالأعلى وإن عممناه لكل جزء
عالي وقلنا بوجوب غسل الأعلى فالأعلى المنع من المقارنة اليسيرة، كما ستعرف
حقيقة الحال فيه عند الكلام في الجهة الثالثة، بل المقصود هو منع النكس وايجاد
المقارنة بمعنى غسل تمام الوجه دفعة واحدة.
ولا يذهب عليك أن هذا مناف لكلمات القوم، لأ نك تراهم يفرعون على
وجوب البدأة بالأعلى عدم جواز النكس ولو يسيرا، فيلزم على ثبوت هذا المعنى
أن لا يجوز المقارنة أيضا كذلك، وفيه ما عرفته من المحذور، لأ نا نسلم أن
المستفاد من الأدلة التي قامت على اثبات وجوب البدأة بالأعلى هو منع النكس
ولو يسيرا، ومع ذلك نقول بجواز المقارنة في أجزاء يسيرة لعين تلك الأدلة، ولم
يمنعوا عنه أهل هذا القول كما ينادي به كلماتهم.
والمختار في المقام الثالث أيضا هو الوجوب، لكن بمقدار ما تفيده الأدلة
وليس هو المعنى الا العرفي لا الحقيقي، ومنه يعلم اختصاصه بخصوص المسامت،
لأن الدليل عليه هو الوضوءات البيانية ورواية قرب الاسناد، والروايات الحاكية
لوضوء الرسول (صلى الله عليه وآله)، وليس في شيء منها ما يفيد وقوع الغسل من الأعلى
فالأعلى بنحو الحقيقية في المسامت وغيره، كما يفصح عنه قوله (عليه السلام): " ولكن
اغسله من أعلى وجهك إلى أسفله بالماء مسحا " (1)، وقول: " ثم مسح وجهه من
الجانبين " (2) حيث إنهما يفيدان لزوم ايقاع الغسل على الوجه المتعارف وبالكيفية
التي أوجد الغسل بها في الوضوء البياني، وأمر بها في رواية قرب الاسناد، بل
الوضوء البياني صريح في نفي الترتيب بين غير المسامت، لمعلومية أن مسح
الوجه إنما هو لإرادة تحصيل غسله الواجب، ولا ريب أن أحدهما وقع بعد الآخر
فيلزمه تقدم غسل منتهى أحد طرفي الوجه قبل غسل ما هو أعلى منه من الطرف
الآخر، مع أنه (عليه السلام) لم يتداركه واكتفى به عن الواجب، فافهم.

(1) و (2) تقدما في ص 235.
241

وهذا معنى ما حكي عن سيد المدارك حيث قال: واعلم أن أقصى ما يستفاد
من الأخبار وكلام الأصحاب وجوب البدأة بالأعلى، أعني صب الماء على أعلى
الوجه، ثم اتباعه بغسل الباقي، ومقصوده (قدس سره) أنه لما استفيد من الأدله وجوب
البدأة بالأعلى ولا مجرى للمسامحة العرفية في الأحكام الشرعية في غير
المنساق منها على وتيرة العرف وفي غير المحمول منها عليهم، فلا بد من الأخذ
فيه بالمعنى الحقيقي، فلذا قلنا بأن البدأة لابد أن يكون بجزء ليس فوقه جزء، لكن
لا يكفي الابتداء بجزء يسير من الأعلى مثل مقدار إصبع مثلا وتأخر الباقي كما
هو المحكي عن بعض. كما لا يجب الابتداء بتمام الخط العرفي من الأعلى من
الوجه واليدين دفعة واحدة، إذ هو خلاف الوضوءات البيانية كما هو واضح، بل
المرجع هو المتعارف كما هو مفاد إمرار يده (عليه السلام) على طرفي وجهه وعلى طرفي
ساعده بعد وضعه الماء على جبهته ومرفقه.
ولعل مراد الماتن من عده الابتداء بالأعلى أيضا عرفيا هو هذا لا الابتداء
المسامحي.
وأما وجوب الغسل من الأعلى إلى الأسفل الذي معناه غسل الأعلى فالأعلى
فهو مأخوذ من فعله (عليه السلام) مسح وجهه من الجانبين، ومن قوله: " اغسل من الأعلى
إلى الأسفل مسحا " الذي هو عين ما عند العرف من الغسل من الأعلى إلى الأسفل
مسحا، فلا بد من العمل فيه بما هو مقرر عند العرف من ايجادهم غسل الوجه من
أعلاه إلى أسفله، لا أن يعامل فيه بما يقتضيه لزوم تقديم كل جزء يسير عال حقيقة
على ما هو دونه كذلك في تمام الوجه.
ولذا قال السيد المتقدم ذكره على ما حكي عنه: " وأما ما تخيله بعض
القاصرين من عدم جواز غسل شيء من الأسفل قبل غسل الأعلى وإن لم يكن
في سمته فهو من الخرافات الباردة والأوهام الفاسدة " انتهى. ونعم ما أفاد، لأنه
مع الغض عن أنه قول بغير دليل كما عرفت فيه أنه متعذر حقيقة كما نبه عليه الشيخ
الأستاذ - طاب ثراه -.
242

وأعجب من نفس هذا القول نسبة شيخ الجواهر إلى مثل الشهيد الثاني
تحسينه هذا القول حيث قال بعد انتسابه الاحتمالات التي ذكرها في وجوب
البدأة بالأعلى إلى العلماء كلا إلى قائله: " الثاني ما ذكر عن بعض القاصرين وهو
وجوب غسل الأعلى فالأعلى وإن لم يكن مسامتا، وعن الشهيد الثاني في شرح
الرسالة أنه وجه وجيه ".
أقول: وله عذر ليس بعذر حقيقة حيث إنه اتكل على نقل الغير، ولا أدري ما
عذر شيخ الحدائق حيث قال بعد نقله كلام سيد المدارك: " ونسبة السيد السند (قدس سره)
ذلك إلى خيال بعض القاصرين مع أن جده من جملة القائلين غفلة منه - يعني من
السيد ثم علله بقوله: - فإن جده صرح في شرح الرسالة بأن المعتبر في غسل
الوجه الأعلى فالأعلى، لكن لا حقيقة لتعسره أو تعذره، بل عرفا فلا تعتبر
المخالفة اليسيرة التي لا يخرج بها عن كونه غسل الأعلى فالأعلى ثم قال: وفي
الاكتفاء يكون كل جزء من العضو لا يغسل قبل ما فوقه على خطه وإن غسل ذلك
الجزء قبل الأعلى من غير جهته وجه وجيه " انتهى.
وليت شعري أي العبارتين اللتين نقلهما عن الرسالة تدل على اختيار الشهيد
أو تحسينه ما نسبه سيد المدارك إلى بعض القاصرين، أتصريحه بنفي الحقيقة
وكفاية العرفية، أم تصريحه بجواز غسل أسفل قبل عال غير مسامت؟!
نعم يبقى أن في كلام الشهيد خفاء من حيث إن ما ذكره ثانيا هل هو مصير إلى
اختيار الأخف بعد الأشد، مع كون مختاره مفاد العبارة الاولى، لكن لا كما نسب
إلى بعض القاصرين لتصريحه بنفي الحقيقة وكفاية العرفية، أو أنه مجرد تحسين
للأخف، وهو ظاهر تمام الجملتين؟.
وقوله (قدس سره): " فلا تعتبر المخالفة اليسيرة... الخ " مظنون غلطيته، والصحيح
أن يقول: فلا تضر المخالفة، أو يزاد لفظة " عدم " قبل لفظة " المخالفة ".
وكيف ما كان الأقوى وجوب غسل الأعلى فالأعلى عرفا، فلا يقدح المقارنة
في أجزاء يسيرة ولا غسل الأسفل قبل غير مسامته من الأجزاء العالية كما
243

لا خفاء في مضرة غسل الأسفل قبل الأعلى المسامت له في صدق هذا المعنى في
العرف حقيقة إذا كان غير المغسول شيئا محسوسا معتدا به عند العرف، وإليه يشير
ما عن العلامة من نقله عن ابن الجنيد التفصيل في اللمعة الباقية بين كونها دون سعة
الدرهم أو أزيد، واكتفائه في الأول ببلها والصلاة مع هذا الوضوء مستفيدا هذا
التفصيل من قوله (قدس سره): " ولا اوجب غسل جميع ذلك العضو، بل من الموضع
المتروك إلى آخره إن أوجبنا الابتداء من موضع بعينه والموضع خاصة إن سوغنا
النكس " انتهى.
وغير خفي أن مراده من غسل المتروك إلى آخر العضو هو وجوب غسل
ما يسامته عرفا المعدود عندهم من غسل الأسفل قبل الأعلى لا جميع الأجزاء
السافلة حتى غير المسامتة، فنسبة شيخ الجواهر اليه كالأستاذ ايجابه غسل
الأعلى فالأعلى ولو بالنسبة إلى غير المسامت إن كان من جهة هذه العبارة لا أرى
له وجها كما لا يخفى، لأنه في قبال عدم كفاية غسل اللمعة وحدها لا في تحصيل
الترتيب مطلقا.
فتلخص من جميع ما ذكرناه أن الأقوى هو وجوب البدأة بالأعلى حقيقة
ووجوب الترتيب بين الأجزاء بما يصدق معه غسل الأعلى فالأعلى عرفا لا حقيقة
كما فصلناه. وهذا هو المراد بالجهة الرابعة في ذكر الاحتمالات في المسألة، وهذا
هو الذي علقه السيد الأستاذ - طاب ثراه - على قول الماتن في الرسالة، فتأمل فيه
جيدا تجده حريا بالقبول.
قوله (قدس سره): (وأن يكون غير منكوس) قد عرفت وجهه سواء اريد به ايجاد
غسل الوجه من الأسفل إلى الأعلى أو وجوب الترتيب بين الأجزاء أيضا كما
يظهر منهم تعميم المنع عن النكس، لمخالفة الترتيب أيضا.
قوله (قدس سره): (فلو نكس بطل وضوؤه إلا إذا كان يسيرا بحيث لا يعد أنه
غسل منكوسا كما يصنعه غيرنا) قد عرفت عدم اختصاص الممنوع
بخصوص ما يصدق معه ايجاد غسل الوجه منكوسا، بل النكس مطلقا ممنوع،
244

نعم لا بأس بغسل الجزء اليسير عرضا مما لا يخرج معه عن صدق الغسل من
الأعلى إلى الأسفل.
قوله (قدس سره): (ولو رد الماء منكوسا ولكن نوى الغسل من الأعلى برجوعه
جاز) لعدم ايجاده الغسل المحسوب من الوضوء منكوسا، وعدم الضير في حصول
غسل للوجه قبل الغسل الوضوئي، ونعم العون على التقية العمل بتلك الكيفية.
قوله (قدس سره): (ولو وضع وجهه في حوض مثلا نوى البدأة بالغسل من
الأعلى، والأحوط له ذلك إن لم يكن الأقوى فيما لو أسدل الماء على
وجهه بحيث وقع على الأعلى وغيره دفعة) الأقوى عدم كفاية ما فرضه من
الغسل في الصورتين معا، لعدم الدليل على بدلية الترتيب الحكمي عن الحقيقي،
وقد عرفت بطلان المقارنة بين الأجزاء بما يفوت معه صدق الأعلى فالأعلى
عرفا، لقضية وجوب الترتيب بمقتضى ما أقمنا عليه الدليل من الأخبار، نعم
لو حرك وجهه في الحوض مثلا على وجه حصل له الانغسال من الأعلى إلى
الأسفل صح كما يصح في صورة الاسدال لو كانت المقارنة في أجزاء يسيرة
غير منافية لصدق الغسل من الأعلى إلى الأسفل العرفي.
والوجه في عدم كفاية مطلق ما يصدق معه غسل الوجه تقييد مطلقات الغسل
- لو كانت - بما يدل على اعتبار البدأة بالأعلى، ووجوب الترتيب بين الأجزاء
مما قد مر من الأخبار.
قوله (قدس سره): (ولا يجب غسل ما استرسل من اللحية) لعدم دخوله في
الوجه المأمور بغسله وعدم إحاطته بشيء منه مما يجب غسله ليكون غسله بدلا
عن غسله، حيث إن المقصود من المسترسل ما خرج عن حد الوجه وإن كان منبته
في داخل الحد من غير فرق فيه بين الذقن والعارضين وغيرهما، وادعى الشيخ
الأستاذ - طاب ثراه - أن لا خلاف فيه بين الإمامية، بل نسب في الجواهر عدم
الوجوب إلى أكثر العامة، وعن الإسكافي استحباب غسله، قالوا: " ولعله لما في
بعض الوضوءات البيانية من أنه (عليه السلام) أسدله إلى أطراف لحيته " ولإطلاق الآمرة
245

بأخذ الماء من اللحية عند الجفاف، مضافا إلى التسامح في أدلة السنن ولا بأس
بالأخير في مقام العمل دون عده دليلا للاستحباب الشرعي ليتأتى منه جواز
المسح بمائه كما سيأتي تفصيله، وأما اسدال اليد إلى أطراف اللحية فغير دال على
أن الامام فعله لمحبوبيته، إذ احتمال كونه فعلا عاديا قوي، مضافا إلى إمكان إرادة
الطرف الداخل منها في الحد وهو المنبت.
ومنه يظهر عدم صحة الاستدلال بأخذ الماء للمسح من اللحية، فإنه قضية مهملة
يراد بها ما غسل منها وجوبا، ويشهد لكون اسدال اليد عاديا ما نراه من أن الناس
يسدلون أيديهم على أطراف لحاهم من غير علم منهم بحسبه أو مطلوبيته، وهنا
الحمل على الوجوب مقطوع العدم، للإجماع، والاستحباب لم يثبت من الخارج
ولامن نفس الخبر، وإلا لكان القوم يقولون به، فظهر أنهم فهموا منه كونه العادة.
وعليه فلا يجب غسل المسترسل من الحاجب والشارب، لعين ما مر في
المسترسل من اللحية، ولكن لا ينبغي ترك الاحتياط فيه، إذ الوجوب الذي نفيناه
هو الأصالي، وأما التبعي فلا يبعد ثبوته له لوجوب غسل الزوائد الداخلة في
حدود المغسولات لو لم يدع اختصاصها بما يعد عرفا من أجزاء الجسم، فلا
تشمل الشعر فإنه من الفضلات، وسيأتي.
وأما غسل الشعر المحيط بالبشرة من منبته وما حوله مما يعد عرفا من توابعه
فالأقوى وجوبه، لقوله (عليه السلام) في صحيح زرارة: " كل ما أحاط به الشعر فليس للعباد
أن يغسلوه ولا يبحثوا عنه، ولكن يجرى عليه الماء " (1). وعن الصدوق باسناده
عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " قلت له: أرأيت ما أحاط به الشعر؟ فقال:
كل ما أحاط به الشعر فليس على العباد أن يطلبوه ولا يبحثوا عنه، ولكن يجرى
عليه الماء " (2) وصحيح محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) سألته عن الرجل يتوضأ

(1) الوسائل 1: 335، الباب 46 من أبواب الوضوء، ح 2.
(2) من لا يحضره الفقيه 1: 44، باب حد الوضوء، ح 88، الوسائل 1: 335، الباب 46 من
أبواب الوضوء، ح 3.
246

أيبطن لحيته؟ قال: لا " (1)، وفي خبر زرارة: " إنما عليك أن تغسل الظاهر " (2).
وهذا معنى قوله (قدس سره): (أما ما دخل منها في حد الوجه فإنه يجب غسله
بدلا عما أحاط به من البشرة) لانتقال حكم وجوب الغسل منها اليه بصريح
الأخبار المذكورة.
قوله (قدس سره): (لكن الواجب غسل الظاهر منه فلا يجب، بل لا يجزي
البحث عن الشعر المستور بالشعر فضلا عن البشرة المستورة به)
لقوله (عليه السلام): " ليس للعباد أن يغسلوه " النافي للغسل عن البشرة المحاطة بالشعر
كقوله (عليه السلام): " لا " في الجواب عن سؤال أيبطن لحيته؟ وقوله (عليه السلام): " إنما عليك أن
تغسل الظاهر " المفيد لحصر محل الغسل في ما ظهر، وخروج الباطن عن كونه
موردا له، ولا ينافيه قوله (عليه السلام): " ليس على العباد " المشعر بكونه رخصة لظهور
تلك في العزيمة.
مضافا إلى كون الحكم مجمعا عليه كما يظهر من الأستاذ - طاب ثراه - حيث
إنه نفى الإشكال عنه، وحكى الإجماع عليه عن خلاف الشيخ وعن شارح
الدروس هذا مع أنه يمكن دعوى ظهور ذلك الصحيح أيضا في النفي، لأنه في
مقام بيان ما هو وظيفة المتوضئ حيث إنه (عليه السلام) سئل عن حال من أحاط الشعر
ببشرته، وأنه ماذا عليه حينئذ في مقام ايجاده ما أمر به من غسل وجهه،
فأجاب (عليه السلام) بأنه ليس عليه طلب غير ظاهر الشعر، وهو الذي يجب عليه أن
يغسله فلا يتبع غيره، وهذا لا إشكال فيه.
وإنما الإشكال في قوله (قدس سره): (وإن كانت مرئية بين خلال الشعر) حيث
إن ظاهره عدم وجوب التخليل في الشعر الخفيف وعدم وجوب غسل البشرة
المرئية خلاله، وإن كان ربما ينافيه قوله (قدس سره): (بعد صدق اسم الإحاطة)
لو لم يحمل على التفصيل المنقول عن العلامة الطباطبائي حيث إنه فصل في

(1) الوسائل 1: 334، الباب 46 من أبواب الوضوء، ح 1.
(2) الوسائل 1: 303، الباب 29 من أبواب الوضوء، ح 6.
247

الخفيف بين ما يكون حائلا حاكيا كالثوب الرقيق فلا يجب غسله، أما البشرة التي
في خلاله مما لا شعر عليها أصلا والشعر دار عليها وهي في وسطه كاللمعة فإنه
يجب غسلها، انتهى.
كما يوضح هذا التفصيل قوله (قدس سره): (أما إذا لم يصدق معه اسم الإحاطة
لتباعد منابت الشعر فالأحوط إن لم يكن أقوى وجوب غسل البشرة)
وهذا التفصيل قوي جدا، وهو ظاهر المتن أيضا.
وكيف كان قد اختلفت كلماتهم في تخليل الشعر الخفيف ووجوب غسل
البشرة التي نرى من خلاله، حتى أن بعضهم حسب النزاع فيه لفظيا. وتحقيق الحق
على وجه يقتضيه الأصل والقاعدة هو أنه متى شك في انتقال الحكم عن الوجه
يجب الحكم بوجوب غسل هذا الجزء المشكوك، وعدم كفاية غسل غيره عنه
لا أصالة، كما قد يتخيل أنه هو الوجه حينئذ بحسبان أن الوجه اسم لمطلق
ما يواجه حتى الشعر، كما نسب إلى بعضهم اختياره فحكم من أجله بوجوب غسل
الشعر أصالة، إذ فساده غني عن البيان، فأدنى ما يلزمه حينئذ هو القول بوجوب
غسل المسترسل من اللحية المجمع على خلافه، مضافا إلى عدم مساعدة عرف
ولا لغة عليه.
ولو فرض ظفرك على تعبير " عن الوجه " بما يواجه فمع الغض عن عدم
دلالته على المدعى لاحتماله قويا لإرادة العضو المخصوص منه وأن هذا التعبير
وقع لإبداء وجه مناسبة للتسمية لا لبيان المسمى حقيقة لا حجية فيه ولا بدلا عما
ينبت عليه من العضو، لكفاية عدم ثبوت البدلية بعد الشك في شمول أدلتها من
الأخبار والإجماع لمثله مما لا يصدق معه اسم الإحاطة والستر، أو مشكوك
صدقهما عليه لا يصدق على تخليله البحث والطلب والتبطين، أو مشكوك لما تراه
من صدق الظاهر على البشرة المرئية في مجلس التخاطب.
ومن هنا يجب غسل ما أحاط عليه المسترسل من الشارب والحاجب
والعنفقة على خلاف المتعارف، لطول استرسالها، بل وما أحاطه المسترسل
248

المتعارف مما كان منبته خارج الوجه، كل ذلك لما بيناه من الأصل مؤيدا
بالإجماع المحكي عن الخلاف المعتضد بعدم خلاف القدماء في ما سبق من
مفروض المتن بمقتضى نسبتهم نشوء الخلاف في المسألة إلى العلامة أو إلى
المحقق، هذا.
مضافا إلى عدم صراحة كلمات من نقل عنهم عدم وجوب التخليل في العدم
في مثل الفرض على ما يساعده التتبع في كلماتهم، ويشهد له دعوى بعضهم لفظية
النزاع، هذا كله.
مع ما عن الشهيد الثاني من دعوى الإجماع على وجوب غسل البشرة
الظاهرة خلال الشعر، وما عن الشهيد الأول من أن ما يجب تخليله ما يصل الماء
إلى البشرة بسهولة وما لا يجب ما يحتاج إلى تحمل كلفة ونوع تعميق وحمل
مشقة، وإذا انضم إلى هذا ما عن كاشف اللثام - وهو الحق المحقق - من عدم وجود
ما يكون مستورا دائما تحت الخفيف، بل كل جزء مما أحاطه يستره أحيانا
ويكشف أحيانا، ويختلف الكشف والستر باختلاف الأحوال والأوضاع، فليس
لنا بشرة يصدق فيها أن يقال: إنها مما سترها وأحاط بها الشعر الخفيف يظهر
ما هو الحق الحقيق من وجوب التخليل في مثله.
نعم إذا التفت الشعور بعضها ببعض كما فرضه الأستاذ - طاب ثراه - فيكون
كالثوب الحاكي، لكثرة منافذه على ما عرفته من تفصيل العلامة الطباطبائي على
نحو يسع دعوى صدق الإحاطة عليه وصدق التبطين والبحث والطلب المنفيات
على ايصال الماء إلى ما تحته من البشرة المستورة به يقوى الحكم فيه بكفاية
غسل الشعر بدلا عما أحاط به وستره بهذا النحو من الستر.
ويمكن استفادة عدم وجوب تخليله من الوضوءات البيانية ومن الحاكيات
لوضوئه (صلى الله عليه وآله) بضميمة المحددة للوجه المغسول من أجل سكوتها عن بيان وظيفته
بعد ما نشاهده من عدم مغسولية تمام ما تحته من البشرة بهذا النحو من الغسل
المذكور في البيانيات والحاكيات بعكس غيره من الصورة السابقة فإنها تنغسل
249

البشرة بتلك الكيفية، ولا يصدق التبطين على ايصال الماء إلى مثل تلك البشرة
المرئية خلال تلك الشعور.
ولا يقال للظاهرة في مجلس التخاطب والمرئية بالمواجهة المتعارفة أنها مما
احيط به الشعر، لوضوح عدم صدق الإحاطة والستر والتغطية في مثله وأخبار
الباب وكلماتهم كما ترى مشحونة بتلك المضامين.
فإذن الأقوى وفاقا للشيخ الأستاذ وجوب التخليل في الثاني للأدلة المزبورة
مع عدم انصراف الأخبار المثبتة لبدلية الشعر عن البشرة اليه لو لم يدع ظهورها
في غيره ففي مثله يجب التخليل، لوجوب غسل البشرة.
ولكن لا ينبغي ترك الاحتياط فلا يترك غسل البشرة مع ظاهر هذا الشعر في
الأول أيضا، لأنه بعد احتمال وجوبه يكون من دوران الأمر بين المتباينين الذي
هو محل الاحتياط ومورده.
ولا يتوهم أن وجوب غسل الشعر حينئذ معلوم إما أصالة، أو لكونه من توابع
الجسد كما في شعر اليد، ووجوب غسل البشرة مشكوك فيرفع بالأصل، لأ نا نمنع
وجوب غسل مثل هذا الشعر النابت على النحو المتعارف في محل معد لنبت
الشعر فيه تبعا لاختصاص التبعية بالشعرات الخفاف الضعاف والنابتات في غير ما
اعد لنبتها فيه، فينحصر وجوبه حينئذ بكونه بدلا عن البشرة الواجب الغسل الساقط
وجوب غسلها بثبوت غسل بدلها، فيكون من دوران الأمر بين المتباينين جزما.
ولعل ما ذكرناه هو الوجه لما حكم به العلامة في التذكرة في بعض فروع
المسألة من وجوب غسلهما معا، وعبارته المحكية هي هذه: " لو أدخل يده
وغسل بشرة اللحية لم يجز، لأنها إن كانت كثيفة فالغسل للظاهر، وإن كانت خفيفة
فالغسل لهما فلا يجزيه أحدهما " انتهى.
وإن كان ربما ينافيه تعليله وجوب غسله بأن الوجه اسم لما يواجه به.
قوله (قدس سره): (ولو كانت بقعة في وسط اللحية ونبت الشعر دائرا عليها
فالأحوط غسلها مع الشعر) قد عرفت وجه الاحتياط كما عرفت قوة القول
بوجوب غسلها.
250

قوله (قدس سره): (كما أنه كذلك في المستور باسترسال الشارب، بل
والعنفقة) قد عرفت تفصيل الحال فيهما فتذكر.
فتنقح أن تخليل الخفيف بجميع أنحائه لازم فتوى أو احتياطا لزوميا.
قوله (قدس سره): (ولو نبتت للمرأة لحية جرى عليها حكم لحية الرجل) كما
تلقوها بالقبول وأرسلوها إرسال المسلمات، لعدم فرق بينهما في ذلك.
قوله (قدس سره): (كما أن حكم الحاجب والهدب والعنفقة حكم غيرها أيضا)
لوضوح أن لا فرق بينها وبين اللحية، لإطلاق الشعر في الصحيحين، وصدق
الإحاطة في ما أحاطت به، وصدق الظاهر على تلك الشعور، فيجب غسلها
بمقتضى قوله (عليه السلام): " إنما عليك أن تغسل الظاهر " (1).
قوله (قدس سره): (ولا بد من غسل شيء من باطن الأنف ونحوه مقدمة
للظاهر) لتوقف العلم بأداء الواجب عليه في العادة.
قوله (قدس سره): (ومطبق الشفتين من الظاهر) الظاهر أنه (قدس سره) أراد منه مخرج
الميم حيث إنه مطبقهما على خلاف المتعارف، لكونه من يابس الشفتين وهو من
الظاهر قطعا مع صدق المطبق عليه في الجملة، وإلا فلا ريب أن مطبقهما المتعارف
وهو مخرج الباء أي مبدأ محل البلة من الشفتين من الباطن.
قوله (قدس سره): (وأما اليدان) اللذان هما ثاني عضو في الغسل وثاني فروض
الوضوء (فالواجب غسلهما من المرفقين، وهما مجمع عظمي الذراع
والعضد مدخلا لهما فيهما) تفسيره المرفق بمجمع العظمين وهو موضع
اجتماعهما وانضمام أحدهما بالآخر الذي نتيجته كون المرفق مركبا من رأسي
العظمين هو المحكي عن الذكرى والتذكرة، وعن جماعة، بل نسب إلى الشهرة،
والظاهر تحققها كما يظهر مما نشاهده من كلماتهم في المسألة، بل يستفاد من
بعض الكلمات أنه مجمع عليه ويعضده تبادره منه عرفا، بل استفادته مما حكي

(1) تقدم في ص 45.
251

عن أهل اللغة أيضا كما عن المغرب أنه موصل العضد بالساعد، وعن الصحاح
والقاموس أنة موصل الذراع في العضد.
والمراد من الموصل هو موضع انضمام العظمين واجتماعهما ومحل تلاقيهما
وتداخلهما، كما يشهد له ما عن شارح الدروس من حكمه باتحاد المجمع
والموصل، بل والمفصل، لأنه ذكر أولا تفسير أهل اللغة له بالموصل.
ثم قال: وقريب منه ما في التذكرة وهو التفسير بالمجمع، ثم قال: وفسر أيضا
بالمفصل وهو مثل الأول، ومما يؤيد اتحاد الموصل والمفصل ما عن الروضة
وغيرها من عدم ذكرهم الموصل في تفسير المرفق، مع أنة معروف تفسيره به عن
أهل اللغة، بل قيل: إنه المعروف بينهم، فعلم أنهم اكتفوا بذكر المفصل عنه.
وبالجملة معروفية هذا المعنى بين العلماء وأهل اللغة وتبادره منه عرفا وعدم
ثبوت غيره مما ذكره بعضهم من كونه نفس المفصل بمعنى الحد المشترك كافية في
ثبوت موضوع الحكم الشرعي ولا يؤثر وهنا في اختلاف كلماتهم في الأقطع
الباقي منه الجزء العضدي من المرفق، لإمكان الاتكال في نفي وجوب غسله من
القائل به إلى مشكوكية بلحاظ احتمال مدخلية الاجتماع في الحكم، أو في صدق
الموضوع، أو لعدم وجوب غسله عنده أصالة، بل مقدمة وقد انتفت، فلا يكشف
الحكم بعدم الوجوب حينئذ عن عدم جزئية رأس العضد للمرفق ليستكشف منه
بطلان تفسيره بمجمع العظمين، وصحة تفسيره بالمفصل بمعنى الحد المشترك كما
أن من أجله توقف شيخنا الأستاذ في كتاب طهارته، فإذن الأقوى صحة ما ذكره
الماتن (قدس سره) من التفسير.
وعليه لا مجال لما حكي عن بعضهم من احتمال كون وجوب هذا الجزء من
العضد مقدمة لا أصالة عند القائل بوجوب غسل المرفق، لأنه بعد ثبوت كونه
مجمع العظمين لا معنى لإيجاب غسل جميعه مقدمة، لأن لازم المقدمية خروجه
عما وجب غسله، ومع الخروج يكفي في تحصيل العلم بالواجب غسل شيء منه
لا غسله بتمامه.
252

اللهم إلا أن يجعل ما وجب غسله أصالة تمام عظم الذراع حتى الجزء
الداخل منه في عظم العضد الذي من اجتماعهما تحقق المرفق، وحينئذ يكون
انتهاء الغسل إلى المرفق وخروج المرفق عن المغسول بلحاظ المجموع المتقوم
بالجزأين، ووجوبه مقدمة أيضا يكون بهذا اللحاظ، فيؤول معنى الوجوب
المقدمي إلى وجوب غسل هذا الجزء من العضد - الذي التأم منه ومن جزء من
الذراع المرفق - مقدمة لغسل هذا الجزء من الذراع الواجب غسله أصالة، لتوقف
تحقق غسل الواجب الأصيل على غسله، وعدم حصوله بدونه، ولعله لذا نفوا
وجوب غسل هذا الجزء العضدي من المرفق عمن قطعت يده بحيث لم يبق من
عظم ذراعه شيء، وسيأتي تمام الكلام فيه، هذا بيان الكلام في المرفق.
وأما تحقيق حكمه من وجوب غسله الذي أفاده بقوله (قدس سره): " مدخلا لهما
فيهما " حيث إنه شرك بينهما وبين نفس اليدين في وجوب الغسل الذي معناه كون
غسلهما واجبا أصاليا لا مقدميا فيكفي، فالأصل فيه الإجماع المحقق كما أشار
اليه الأستاذ - طاب ثراه -، مضافا إلى الكتاب بجعل " إلى " في الآية بمعنى " مع "
كما هو غير عزيز في الاستعمال والسنة المستفيضة، ففي الصحيح الحاكي لوضوء
رسول الله (صلى الله عليه وآله): " فوضع الماء على مرفقه فأمر كفه على ساعده " (1)، وفي آخر:
" فغرف بها غرفة فأفرغ على ذراعه اليمنى، غسل بها ذراعه من المرفق إلى الكف
لا يردها إلى المرفق " (2)، وفي رواية الهثيم بن عروة التميمي حيث سأل أبا
عبد الله (عليه السلام) عن قوله تعالى: " فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق " فقلت:
" هكذا، ومسحت من ظهر كفي إلى المرافق، فقال (عليه السلام): ليس هكذا تنزيلها إنما هي:
فاغسلوا وجوهكم وأيديكم من المرافق، ثم أمر من مرفقه إلى أصابعه " (3) فإن
إمرار اليد من المرفق صريح في كونه داخلا فيما يجب غسله.

(1) الوسائل 1: 272، الباب 15 من أبواب الوضوء ح 2.
(2) الوسائل 1: 275، الباب 15 من أبواب الوضوء ح 11.
(3) الوسائل 1: 285، الباب 19 من أبواب الوضوء ح 1.
253

وأما فقه الحديث باعتبار لفظ التنزيل وإن كان ذكره مناسبا عند ذكر الماتن
وجوب البدأة بالأعلى إلا أنا نقدم الكلام فيه تتميما للحديث فنقول:
إن معنى التنزيل في كلامه (عليه السلام) هو تنزيل الحكم الذي تضمنته الآية لا تنزيل
نفس الآية. وبعبارة اخرى التنزيل المسند إلى الكتاب قد يكون باعتبار الحكم
الذي ثبت به، وقد يكون باعتبار القراءة حرفا أو كلمة أو ترتيبا، وإن كان اختلافها
قد يوجب اختلاف الحكم الثابت به، ولكن لا يجب في إثبات حكم به أن يكون
لفظه ظاهرا فيه، بل المجمل المفسر ببيانه صلوات الله عليه قولا أو فعلا أيضا مثبت
له. ويصح إسناد مثل هذا الحكم إلى كونه مأخوذا من الكتاب سيما فيما إذا كان
هذا من كيفيات حكم آخر مذكور فيه صريحا، وليس إسناده إلى تنزيل الكتاب
منافيا لظاهر لفظ التنزيل، إذ ليس الكتاب ظاهرا في خلاف ما أفاده (عليه السلام) حتى
يلحق المستفاد منه بالتأويل.
وبالجملة لما كان هذا الحكم - أعنى البدأة بالأعلى - ثابتا في أول ما نزلت به
الآية كما يفصح عنه ما عن جامع الجوامع من أن وجوب الغسل من المرفقين هو
مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، وما عن الخلاف من أنه ثبت عن الأئمة أن " إلى " في
الآية بمعنى " مع " وما ورد في بعض الأخبار من جعل " إلى " غاية للمغسول لا
الغسل صح أن يقال: إن تنزيلها هكذا، إذ لا ظهور لها في خلافه فيكون الآية
بلفظها الصريح ساكتة عن بيان هذه الكيفية وهي الغسل من الأصابع إلى المرفق أو
منه إليها فبينها النبي (صلى الله عليه وآله) بقوله وفعله فيصح أن يقال: إن تنزيل الآية في تلك
الكيفية هكذا لأنها من كيفيات ما نزلت به، وهو الغسل القابل لوقوعه بتلك الكيفية
مع عدم دلالتها على خلافها تحتاج إرادتها منها إلى تأويل فيها كما احتمله الماتن
في جواهره.
فتنقح أن إطلاق لفظ التنزيل في الخبر غير محتاج إلى التأويل.
وبالجملة وجوب غسل المرفقين في غسل اليدين مما لا شبهة فيه. كما
لا ينبغي التأمل في كونه أصاليا لمن تأمل في الأدلة المثبتة لهذا الوجوب من جعل
254

" إلى " بمعنى " مع " كما عرفت عن الخلاف نسبته إلى الأئمة، وعن المحقق الكركي
أيضا نسبته إلى السيد (رضي الله عنه) وجماعة ممن يوثق بهم، ومن نسبة وجوب غسلهما
إلى مذهب أهل البيت (عليهم السلام) كما تقدم عن جمع الجوامع، وكذا من نسبة الوجوب
إلى الفقهاء ما خلا زفر، كما عن كاشف اللثام في شرح عبارة القواعد: " فإن نكس
أو لم يدخل المرفق بطل " قال: " إجماعا في الثاني ممن عدا زفر وداود وبعض
المالكية، وكما عن الخلاف، وبه قال جميع الفقهاء إلا زفر مشيرا إلى دخول
المرفقين في المغسول، وكما عن المعتبر يجب غسل اليدين مع المرفقين، وعليه
الإجماع خلا زفر ومن لا عبرة بخلافه.
إذ بعد التأمل في هذه الأدلة لا يبقى شك في كون غسله واجبا أصاليا، فإن
هذا النحو من الاستدلال والتعرض لرد العامة بالتزام دخول الغاية في المغيى إما
مطلقا أو في خصوص المقام لا يلتئم مع احتمال كون الوجوب مقدميا كما عن
الفاضل المقداد والمحقق الثاني، بل الأستاذ أيضا شيده حيث قال في آخر
المسألة: " فالمسألة محل توقف " وأظن أنه لما رأى من بعض المدعين للإجماع
على وجوب غسل المرفق عدم ايجابهم غسل جزء من العضد عند قطع اليد من
المرفق فاستكشف منهم أن معقد إجماعهم هو مطلق الوجوب القابل للمقدمية
أيضا، وقد عرفت منا ما ينفي هذا الاستلزام، مضافا إلى احتمال كون المراد من
مقطوع اليد من المرفق من لم يبق له من العظمين المجتمعين المسميين بالمرفق
شيء، وسيأتي الكلام فيه في محله إن شاء الله.
قوله (قدس سره): (بل لا بد من غسل شيء من العضد مقدمة) قد عرفت وجهه
من توقف تحصيل العلم بأداء الواجب عليه والجزء الواجب غسله من العضد
مقدمة يراد به غير الجزء الملتئم منه ومن جزء من الذراع المرفق بقرينة ذكره اياه
بعد كلمة الاضراب، وتعقيبه له عن الحكم بوجوب غسل المرفق المفسر عنده
بمجمع العظمين، فلا يبقى في كلامه مجال احتمال إرادة الجزء المرفقي من العضد،
فتعليق الأستاذ - طاب ثراه - على العبارة بقوله: " بل أصالة " لا وجه له إلا الأخذ
255

بإطلاق كلمة " شيء من العضد " ودعوى صدقها على الجزء المرفقي، وغير خفي
أن تماميتها موقوفة على الغض عن القرينتين اللتين ذكرناهما، فلا تغفل.
قوله (قدس سره): (ويجب البدأة بالأعلى على حسب ما سمعته في الوجه،
وكذا عدم النكس) قد تبين وجه الحكمين، بل وجوب غسل الأعلى فالأعلى
في الوجه مستوفى، بل الأدلة فيهما أسد وأتم، ولذا قد اعتبر الترتيب هنا بعض من
لم يعتبره في الوجه، لصراحة بعض أخبار اليد بالابتداء بالمرفق، وبعدم جواز رد
الشعر فيهما، ومنه استفادوا حكم الوجه أيضا كالمروي عن إرشاد المفيد (رحمه الله)
بسنده عن علي بن يقطين عنه أنه (عليه السلام) كتب إلى علي بن يقطين بعد ارتفاع التهمة
عنه وصلاح حاله عند السلطان: " يا علي توضأ كما أمر الله تعالى: اغسل وجهك
مرة واحدة فريضة، واخرى اسباغا، واغسل يديك من المرفقين كذلك، وامسح
بمقدم رأسك وظاهر قدميك من فضل نداوة وضوئك فقد زال ما كنا نخاف منه
عليك والسلام " (1).
والمحكي عن كشف الغمة عن كتاب علي بن إبراهيم في حديث النبي (صلى الله عليه وآله)
أنه: " علمه جبرئيل الوضوء على الوجه واليدين من المرفق، ومسح الرأس
والرجلين إلى الكعبين " (2). وعن تفسير العياشي عن صفوان في حديث غسل اليد
عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: " قلت له: هل يرد الشعر؟ قال: إن كان عنده آخر،
وإلا فلا " (3) والمراد حضور من يتقى منه.
ورواية ابن عروة التميمي المتقدمة والوضوءات البيانية خصوصا المتعرضة
منها صريحا لعدم رد الماء إلى المرفق كما في صحيحة زرارة وبكير وغيرها من
الأخبار، فالحكمان وهو وجوب البدأة بالأعلى ووجوب الترتيب بين الأجزاء
وعدم جواز النكس كلا ولا بعضا هو الأقوى دليلا، وهو الأمتن قولا، لما عرفت.

(1) ارشاد المفيد: ص 295.
(2) كشف الغمة: 88. الوسائل 1: 281، الباب 15 من أبواب الوضوء، ح 24.
(3) تفسير العياشي 1: 298 (سورة المائدة).
256

قوله (قدس سره): (ومن قطعت بعض يديه غسل ما بقي من المرفق وما معه)
لعدم توقف غسله على غسل التمام، بل الواجب هو غسل تمام العضو، فإذا تعذر
بعضه أتى بالباقي، لقاعدة الميسور، وما لا يدرك، ولاستصحاب وجوبه الثابت له
قبل القطع، ولا يضر تردده بين الأصالي والمقدمي، لعدم الاحتياج في استصحاب
أصل الوجوب إلى خصوصية أحد الفردين وكفاية القدر المشترك المعلوم تحققه
سابقا وهو الوجوب في الجملة، وبهذا اللحاظ يجري أصالة الشغل أيضا، هذا.
مع أن المسألة لاخلاف فيها كما نبه عليه الأستاذ - طاب ثراه - ونقل عن
المنتهى نسبة الوجوب إلى أهل العلم. ويدل عليه أيضا المستفيضة، فعن رفاعة في
سؤالين أحدهما عن الأقطع والآخر عن الأقطع اليد والرجل قال (عليه السلام) في الأول:
" يغسل ما قطع منه " وفي الآخر: " يغسل ذلك عن المكان الذي قطع منه ". وعن
الحسن في الأقطع سألته عن الأقطع اليد والرجل قال (عليه السلام): " يغسلهما " (1).
قال الأستاذ في كتاب الطهارة: " الضمير إما مفرد أو مثنى راجع إلى اليدين،
أو المراد بالغسل الأعم من المسح، أو يحمل على التقية في خصوص الرجل ".
أقول: تصحيح رجوعه مع افراده إلى اليدين إنما هو بإرادة الجنس من لفظ
اليد في السؤال ليصح إرادتهما معا لو قطعتا معا لئلا يبقى حكم قطعهما معا غير
مبين. وأما إرادة المسح من الغسل فهي إما بتغليب المغسول على الممسوح فأسند
الغسل الذي هو صفة أحدهما اليهما معا، وإما بإطلاق الغسل على ما يشمل المسح
تسامحا وإرادة حقيقة الغسل فيه لا يسع إلا بحمل تعميم الغسل لهما على التقية،
وهذا هو معنى قوله - طاب ثراه -: " أو يحمل على التقية في خصوص الرجل ".
قوله (قدس سره): (ولو قطعت من المرفق بحيث لم يبق منه شيء سقط وجوب
الغسل) وعن المنتهى الإجماع عليه، وفي شرح الأستاذ سقط قولا واحدا،
والتقييد بقوله (قدس سره): " لم يبق منه شيء " إشارة إلى وجوب غسل رأس العضد
لو قطعت من المفصل كما هو ظاهر كل من قال بوجوب غسل المرفق أصالة، بل

(1) الوسائل 1: 337، الباب 49 من أبواب الوضوء، ح 3.
257

صرح بتفريع الوجوب على هذا القول في المدارك، بل جعله قرينة على قول
مصنفه، فإن قطعت من المرفق سقط غسلها بإرادة قطع المرفق بأسره، كما أن عدم
الوجوب متفرع على كون وجوب غسله مقدميا، وضعف بتضعيف مدركه، وقد
تقدم منا أنه يمكن عدم الوجوب على الأصالي أيضا، لاحتمال مدخلية العنوان
في الحكم، وتوقف صدق المرفقية على الهيئة الاجتماعية.
بل يمكن حمل الوجوب المقدمي أيضا على كونه مقدمة لتحقق الموضوع،
فإن الجزء مقدمة لتحقق الكل، ويكون إشارة إلى ما ذكرناه من رفع الحكم المتعلق
على الكل عن الجزء بعد انتفاء الكل، لأن وجوبه كان مقدميا، وبعد رفع حكم الكل
لانتفاء موضوعه يرتفع حكم الجزء الثابت له بعنوان الجزئية.
وثبوت حكم آخر له نفسا مشكوك يرتفع بالأصل، وإلا فالوجوب المقدمي
لكونه مقدمة علمية كما هو المفهوم من قائله لم نتحققه كما أشار اليه في الجواهر.
نعم يمكن إرادة معنى آخر للمقدمية هنا ذكرناه آنفا أيضا، وهو توقف غسل
الواجب بالأصالة - وهو تمام عظم الذراع بناء على اختصاص الوجوب به وحده -
على غسل رأس عظم العضد، لاجتماع رأسي العظمين وتداخلهما في الآخر، فإذا
فرض عدم بقاء شيء من عظم الذراع سقط الوجوب الآتي من قبل هذا التوقف،
كما لا يخفى.
والأقوى هو الوجوب بعد ما عرفت من ثبوت الحكم له أصالة، لتعلق الحكم
على تمام الأجزاء على نحو العموم، مضافا إلى كون المقام من مجرى قاعدة
الميسور وما لا يدرك باتفاق الكل، فحكم جزئه الباقي حكم سائر أجزاء اليد
الباقية.
قوله (قدس سره): (والأولى له غسل تمام العضد حينئذ) لصحيحة علي بن جعفر
الواردة في مقطوع اليد من المرفق أنه: " يغسل ما بقي من عضده " التي ردها
العلامة بأنها مخالفة للإجماع، وحملها بعض على غسل رأس العضد الذي كان
جزءا من المرفق.
258

وبالجملة عدم وجوب غسل العضد اجماعي كما تقدم نقله عن المنتهى، وإن
نسب إلى ظاهر ابن الجنيد الافتاء بمضمون الرواية، وجعلها في الحدائق دليلا
على وجوب ما بقي من المرفق من جزئه العضدي بجعل (من) في قوله: (من
عضده) تبعيضية لا بيانية.
قوله (قدس سره): (ولو كان له ذراعان دون المرفق أو فيه، أو أصابع زائدة
أو لحم نابت أو غير ذلك وجب غسل الجميع) لكونها جزءا لما وجب غسله
أو بحكم الجزء له، أو لكونها تابعة له، كما أن بكل من الاعتبارات الثلاث وقع
الاستدلال منهم، والحكم إجماعي ظاهرا كما يظهر من الأستاذ من نفيه الخلاف
فيه، ومن المدارك من نفيه الريب فيه، واستظهر عن شارح الدروس الإجماع عليه.
قوله (قدس سره): (دون ما لو كان شيء من ذلك فوق المرفق وإن تدلى إلى
تحت) لعدم جزئيته وعدم تابعيته للمغسول، وعدم صدق اليد عليه ليشمله دليل
وجوب غسلها، والحكم فيه أيضا إجماعي ظاهرا كما يظهر من المدارك، وعن
المنتهى نفي الخلاف فيه.
قوله (قدس سره): (وكذلك ما كان في الوجه بالنسبة إلى الخارج عن حدوده
والداخل فيه) لعين ما ذكر في اليد وإن كان بينهما فرق في بعض التوابع كالشعر،
حيث إنه في الوجه يغسل ظاهره أصالة لا تبعا، لقيامه مقام البشرة وانتقال حكمها
اليه، ولذا يكتفى فيه بغسل الظاهر ولا يطلب الشعر المستور بالشعر كالبشرة
المستورة به، لما مر من قوله (عليه السلام): " ما أحاط الله به الشعر فليس للعباد أن يطلبوه،
ولا أن يبحثوا عنه " بخلافه هنا فإن الشعر وجب غسله تبعا لاختصاص الحديث
المذكور بالوجه كما ذكره الأستاذ، ولأجله يجب التنقيب هنا ليحصل غسل البشرة
الواجب غسلها أصالة، والشعور المستور بالشعور الواجب غسلها تبعا،
ولا يجتزى بغسل ما ظهر.
ومنه يظهر عدم صحة ما حكي عن الشيخ كاشف الغطاء وقبله الماتن في
جواهره أيضا من جريان ما للشعر من الحكم في الوجه في اليدين أيضا أخذا
259

بعموم " كل ما أحاط به... الخ " في خبر زرارة، وقوله: " وإنما عليك غسل ما
ظهر " (1) في الخبر الآخر، إذ من الواضح أن الشعر الكثيف الملتف لا يجب تخليله
في الوجه، بل لا يجزي إن ترك ظاهره بلا غسل، وفي اليد قد اتفقوا على جوازه،
بل على وجوب غسل البشرة معه وأنه الأصل في المقام وغيرها تبع أو جزء
من المطلوب، والعموم المدعى مجرد ادعاء لا أثر له مطلقا، إذ قوله (عليه السلام): " كل
ما أحاط " في صحيح زرارة جزء خبره في تحديد الوجه، فاللام فيه للعهد
الذكري، وخبره الآخر - لو سلم استقلاله - لا جابر له في اليد لو اغضي عن كون
عمومه معرضا عنه عندهم، والحصر في خبر: " إنما عليك " إضافي بالنسبة إلى
البواطن، فإنه ذيل لقوله: " المضمضة والاستنشاق ليسا بفريضة ولا سنة " فقول
الشيخين خال عن الدليل بالمرة.
قوله (قدس سره): (ولو كان له يد اخرى مستقلة، فإن علم زيادتها وأن الأصلية
غيرها لم يجب غسلها) خلافا لما عن المختلف من وجوب غسلها، لصدق اليد
وصحة التقسيم، ومال في الذكرى إلى وجوب غسل ما حاذى منها المغسول من
الأصلية حملا له على الجلد المتدلي فيه عن غير محله، وكلاهما في غير محله، لما
ستعرف. والتقييد بكونها مستقلة لأنها لو لم تستقل وكانت بعض اليد كالكف
والذراع أو هما معا دخل في الفرض الأول، وتبين حكمه بكلا شقيه مما كان منه
داخل الحد وما كان منه خارج الحد، وأما حكمه من عدم وجوب غسلها مع هذا
الشرط وهو تشخيص الزائدة وتمييزها عن الأصلية لا مجرد العلم بالزيادة، إذ هو
حاصل مع الاشتباه أيضا لزيادتها بحسب الخلقة المتعارفة مع تماميتها في المصداق.
كما يشهد لإرادتهم هذا المعنى تحقق فرض الاشتباه فيها، حيث إن الزيادة
بغير هذا المعنى - يعني عدم تماميته في المصداق - لا ينقسم إلى معلومة ومشتبهة،

(1) الوسائل 1: 303، الباب 29 من أبواب الوضوء، ح 6.
260

فهو المعروف بينهم وهو المنسوب إلى مختار القواعد، والتحرير، والمنتهى،
والدروس، وظاهر جامع المقاصد، وإطلاق المعتبر، وهو مختار الماتن في
جواهره، والمحقق البحراني في حدائقه، كالسيد في المدارك في غير ذات المرفق
قطعا وفي ذات المرفق اختيارا منهما (قدس سرهما)، وهو مختار التذكرة، واختاره في
الذكرى صريحا، وهو ظاهر كشف الغطاء أيضا، وأطلق في المبسوط عدم وجوب
ما كان فوق المرفق بحيث يشمل الأصلية أيضا وإن حملها في الذكرى على
خصوص الزائدة.
والأقوى عدم الوجوب، وفاقا لهؤلاء الأساطين، ولمنع شمول اليد لمثلها
حقيقة، وصحة التقسيم إنما هو بالنظر إلى الشباهة في الصورة كما يوضحه ملاحظة
غيرها من أجزاء البدن مما يوجد على صورته مما لا يعمل عمل شاكلته، فإنه
لا ريب في أن إطلاق اسم مشاكله عليه ليس إلا للمشاكلة الصورية والمسامحة
العرفية السارية في أمثاله، فحال هذا اليد حال جزء زائد في العضو، لأ نا لا نفهم
معنى لليد أو غيرها من الأعضاء إلا ما كان من مصاديقها حقيقة، ولا يصدق عليه
الزيادة إلا بملاحظة الخلقة المتعارفة للنوع.
وبهذا البيان تعرف أنة لا مجال للتأمل في عدم وجوب غسلها كما تأمل فيه
الأستاذ لمنعه ما جعل دليلا على عدم الوجوب من انصراف اليد في الآية إلى
الأصلية وقوله فيه: " بأنه انصراف خطوري من دون تصديق الذهن بعدم إرادتها،
وهو غير قادح، وإلا سقط جل الإطلاقات، بل كلها " انتهى.
وهو كما يقول (قدس سره) لو سلم كون الدليل منحصرا بهذا النحو من الانصراف الذي
ذكره - طاب ثراه -، وهو ممنوع لما عرفته من عدم الصدق وإن كان ظاهر جماعة
حصر الدليل في الانصراف المذكور، مع أن الانصراف في المقام ليس من
الخطوري كما تسلمه هو - طاب ثراه - ثانيا بقوله: " مع أن الانصراف لو سلم قدحه
فليس في المقام على وجه " يوجب ظهور المطلق في الأصلية لتحتاج إرادة الأعم
من الزائدة إلى القرينة، غاية الأمر صيرورته في خصوص الأصلية بمنزلة المجاز
261

المشهور، فيتوقف في الشمول وعدمه فيرجع إلى الاحتياط اللازم من جهة قوله:
" لا صلاة إلا بطهور " لا إلى أصالة البراءة من جهة الشك في الجزئية.
ثم قوى الوجوب - طاب ثراه - تبعا لمصنفه والمختلف، واحتمل الوجوب
غيره أيضا وإن قووا خلافه، ولا يخفى عليك منافاة ما اعتمده هنا من الاحتياط،
لما عهدناه منه - طاب ثراه - في كتابه هذا من اجرائه البراءة في كثير من موارد
الشك في ما يعتبر في الوضوء شرطا أو شطرا التي منها ما تقدم منه - طاب ثراه -
قبيل هذا في مقطوع اليد من دون المرفق من تمسكه لوجوب غسل الباقي بقاعدة
الميسور وما لا يدرك ومناقشته فيها بقوله: " إن وجوب الوضوء إنما هو لرفع
الحدث أو إباحة الصلاة... الخ ".
ثم دفعها بأن عموم القاعدة لهذا المقام يكشف عن حصول الغرض المقصود
... الخ، وما تقدم منه - طاب ثراه - في مسألة المرفق من توقفه من حيث الدليل
الاجتهادي، ومن بيانه أن المرجع أصالة البراءة، وما ذكره في الاستحباب النفسي
للوضوء من جعله نفس تلك الأفعال مؤثرة في الرفع والاستباحة، ومعلوم أنه بعد
قبول هذا المطلب وجعل متعلق الأمر نفس الأفعال يكون كل ما شك في جزئيته
وشرطيته من مجرى البراءة كما هو الحال في غيره مما هو كذلك، هذا.
مع أن جعل اليد في المقام نظير المجاز المشهور خلاف التحقيق، لتوقف
الشهرة على كثرة الاستعمال مجردا عن القرينة، وهو في المقام مفقود، ولما عرفت
أن إطلاقها على الزائدة مجاز، لعلاقة المشابهة كما أشرنا اليه. فإذن الأقوى عدم
الوجوب كما عرفت.
قوله (قدس سره): (وإلا وجب) أي وإن لم يعلم الزيادة ولم يتبين من الأصلية
وجب غسلهما معا، علم أصليتهما معا، أو اشتبهت الأصلية بالزائدة، ووجوب
الغسل في الصورتين هو المشهور، بل عن المنتهى وظاهر التذكرة الإجماع عليه،
ولكن عرفت دعوى القطع عن المدارك على عدم وجوب غسل ما لا مرفق له،
واستحسنه في الحدائق.
262

وهذا النفي وإن كان يحتمل أن يكون لأجل أخذ عدم المرفقية دليلا على
الزيادة ولكن علله في الحدائق بأن الغسل لا بد أن ينتهي إلى المرفق، فما لا مرفق
له لا غسل له.
وإن رد برجوعه إلى المتعارف في التحديد كذي اليد الواحدة إذا خلت يده
عن المرفق، وكذا عرفت أن إطلاق المبسوط أيضا عدم الوجوب وإن حمله
المشهور على خصوص الزائدة.
وبالجملة المعروف بينهم الوجوب هنا، بل من قال بصدق اليد على الزائدة
حقيقة لزمه القول بالوجوب هنا أصالة، لضعف الانصراف الذي ادعي نمة هنا، لأنه
خطوري صرف لو لم ندع عدمه كما هو الحق المبين، ولذا قال الأستاذ - طاب
ثراه - فيها بالوجوب بالأولوية، حيث حكم بالوجوب في الزائدة.
وبالجملة الوجوب الأصلي هو صريح جمع، وظاهر آخرين، ولكن صرح
في الذكرى بالوجوب المقدمي، وكذا الشيخ الأستاذ متفرعا إياه على عدم وجوب
الزائدة.
والأقوى وجوب غسلهما أصالة، لقوله تعالى: " وأيديكم " الشامل لكل ما
صدق عليه اليد على وجه الحقيقة، وعليه لو قلنا بصدق اليد على المتميزة حقيقة
ولم نقل بانصرافها لقلنا بوجوب غسلها أيضا كما اختاره الأستاذ - طاب ثراه -.
وبهذا البيان تعرف أنه لا وجه لتقسيم هذه اليد الزائدة عن الخلقة المتعارفة
للنوع إلى زائدة وأصلية ومشتبهة بعد فرض صدق اليد على الزائدة حقيقة وكونها
من أفراد اليد جزما كما صرح بهذا التقسيم في كشف الغطاء، لصدق الزائدة على
الجميع بملاحظة نوع الخلقة نظير صدقها على كل واحد من الرأسين في ذي
الرأسين وكل من الحقوين في ذي الحقوين، وصدق الأصلية على الجميع
بملاحظة صدق هذا العضو عليه حقيقة حتى في المتميزة.
نعم يمكن فرض الاشتباه بطرق العوارض كما لو كان تميزهما بعدم الحركة
في الزائدة مثلا مع تساويهما في الصورة فشلت الأصلية بالمرض بحيث صارتا
263

متساويتين في عدم القوة والحركة، ولكن الظاهر منهم أنهم أرادوا الاشتباه ابتداء
وأصالة لا من حيث الطوارئ كما هو مفاد تقسيمهم اياها إلى الأقسام، فإن ظاهره
أن اليد المستقلة عند وجودها وتحققها لا تخلو عن تلك الحالات الثلاث.
وكيف كان الأقوى هو الوجوب الأصالي هنا، لعدم التمكن عن إخراج مثلها
عن حكم وجوب الغسل وما هو المستفاد من بعضهم من دعوى عدم شمول الآية
لذي الأيدي لمعهود الاثنينية في اليد لا يخفى ما فيه، فإن غلبة وجود الاثنينية
لا يوجب انصراف الجمع المضاف إلى الفرد الغالب الوجود ما لم يصل الفرد النادر
في الشذوذ إلى حد يحتاج إرادته من اللفظ إلى قرينة بخصوصه، ومعلوم عدم
وصول الزائدة مطلقا إلى هذا الحد من الندور ما لم يتميز عن الأصلية بفقد الصفات
والآثار الثابتة لهذا العضو، أو بعدم وجدانها لها إلا اليسير الملحق بالعدم.
فإذن الأحسن تقسيم الزائدة إلى قسمين كما هو ظاهر الأكثر، وهو التميز
وعدم التميز، ويجعل مناط الزيادة تميزها عن الأصلية بخلوها عن عمدة الآثار
والصفات، ومناط عدمها وجدانها لها، فالأول نسميه بالزائدة بمعنى عدم صدق
اليد عليه حقيقة، وتسميته بها إنما هو باعتبار المشاكلة، والثانية نسميها باليد
حقيقة، وإطلاق الزائدة عليها إنما هو بقياس هذا الشخص إلى الأفراد المتعارفة
في نوع الإنسان.
ودعوى الانصراف حينئذ لا مجال لها فإنها في الاولى من دعوى انصراف
اللفظ عن المعنى المجازي وفي الثانية غير صحيحة، إذ لا وجه للانصراف عنها
أبدا فهي باقية تحت العموم فيجب غسلها أصالة، بل لا يبعد أن يكون مراد القوم
من المتميزة أيضا هي فاقدة الآثار، ومن الأصلية هي واجدتها، ومن المشتبهة
المشتبهة بالعرض، فافهم.
ومنه يظهر وجه قوله (قدس سره): (بل الظاهر اجراء حكم الأصلية على كل
منهما، فيجزي المسح بأحدهما وإن كان الأحوط المسح بهما) وجه
الاحتياط واضح، وهو مراعاة القول بعدم وجوب الزائدة مطلقا إلا تحصيلا
264

للواجب الأصيل، وهو غسل الأصيل. وهذا هو المراد بما علقه الأستاذ هنا من
قوله: " هذا هو الأقوى مطلقا خصوصا إذا علم بأصلية أحدهما، ولكن لم يعرف
الأصلية من الزائدة ".
وقد عرفت أنه لا وجه لإخراج الزائدة مطلقا ولو مع التميز عن حكم
الوجوب بقصر موضوع الخطاب في الآية على ذات الخلقة المتعارفة من ذات
اليدين دون ذات الأيادي كما تراهم لم يتأملوا في شمولها لذات الوجهين من ذي
الرأسين، ولم يتمسك القائل منهم بالوجوب هنا إلا بما يفيد الوجوب الأصالي
دون المقدمي من عموم الآية، وصدق الوجه وأمثالهما.
فالأقوى كفاية ايقاع المسح بكل منهما، لما مر من وجوب غسلهما أصالة.
ثم لا يخفى عليك على ما قررناه أنه لا معنى لقوله - طاب ثراه -: " خصوصا
إذا علم بأصلية أحدهما... الخ " ما لم يكن الاشتباه ناشئا من الامور الطارئة من
مرض ونحوه، لأن الانصراف إما أن يدعى في خصوص المتميزة فليس هناك
مورد اشتباه إلا بالامور الطارئة، وهو مناف لإيجابه المسح بهما في صورة عدم
التميز من أصله، وإما أن يدعى في مطلق ما يصدق عليه عنوان الزائدة وإخراجها
بقسميها عن مورد الآية، فلا يبقى لبعض صورها حينئذ خصوصية تقتضي شدة
اختصاصها بهذا الحكم دون بعض، لصدق الزائدة حينئذ على الجميع على حد
سواء تميزتا أو لم تتميزا، وايجاب غسلهما معا من باب الاحتياط وقاعدة
الاشتغال. أو من باب المقدمة لا يورث إحداث حكم جديد في المقام.
نعم لما تعين عليه المسح باليد الأصلية حينئذ - لوقوع غسل الزائدة لغوا، لعدم
وجوبه واقعا - فعليه السعي في تحصيله، وحينئذ فإن تميز الأصلية يمسح به لا
غير، وإن لم يتميز يمسح بهما معا مقدمة لتحصيل المسح بما يجب أن يمسح به،
وهذا إنما يتم في صورة ايجاد الغسل فيهما لاشتباه الأصلية بالزائدة عرضا، بناء
على اختصاص الوجوب بالأصلية، وكون وجوب غسل الزائدة حينئذ من باب
المقدمة تحصيلا للعلم بإتيان الواجب كما هو المنسوب إلى ظاهر الذكرى.
265

وأما في صورة تساويهما من جميع الجهات بأصل الخلقة لا وجه له أبدا، لأنه
حينئذ إما يجب غسلهما معا أصالة كما هو الأقوى، وأما يجب غسل إحداهما
خاصة، لما سمعته منهم من تخصيصهم الغسل باليدين، ونفيه عن الزائدة عليهما،
ووقوع الغسل عليها من باب الاحتياط.
ولا ريب في جواز الاكتفاء بالمسح بإحداهما حينئذ لا على التعيين على كل
من القولين، أما على القول بوجوب غسلهما معا أصالة فلصدق المسح باليد
المغسولة عضوا للوضوء، وأما على قول المكتفي بغسل إحداهما فلأن الواجب
عنده هو غسل واحدة لا على التعيين زعما منه أن عضو اليدي للوضوء لا يزيد
عن اثنتين وليس عنده زائدة وأصلية في تلك الصورة، بل لا بد أن يقول بالتخيير
بينهما ابتداء، فيجوز المسح بذلك المغسول مع وحدته بلا شبهة، وباحداهما
لا على التعيين لو غسلتا لأجل الاحتياط الناشئ من احتمال وجوب غسلهما معا،
لما عرفت أنه لا يتعين الواجبة في إحداهما بالخصوص على فرض عدم وجوبهما
معا، فيصدق على كل منهما أنه يد وضوء كما لا يخفى.
فوجوب المسح بهما معا منحصر بصورة الاشتباه العرضي عند القائل بوجوب
غسل واحدة مع تخصيصه الواجب عند حصول التميز بالأصلية دون الزائدة، وإلا
فلو خير بينهما في صورة التميز أيضا، لصدق اليد سقط المسح بهما معا رأسا.
قوله (قدس سره): (والأحوط إن لم يكن الأقوى وجوب غسل الشعر هنا مع
البشرة) قد تقدم أن الأقوى وجوبه، لكونه من التوابع الواجبة الغسل كاللحم
الزائد والإصبع الزائدة وأمثالهما مما هو كائن في المحل المغسول وجودا ومنبتا
فيدخل في متعلق أمر أغسلوا أيديكم.
ونسب في الحدائق استظهار عدم وجوبه إلى بعض محققي المتأخرين،
للأصل، لعدم كونه من الأجزاء الحقيقية وكونه من الفضلات.
وفيه أنه بحكم الجزء، لأنه من التوابع، وما أبعد ما بينه وبين كاشف الغطاء
حيث حكم في كشفه بوجوب غسله أصالة بدلا عن البشرة المحاطة به، ومال إليه
266

في الحدائق لعموم قوله (عليه السلام): " ما أحاط به الشعر "، حيث جعلها رواية مستقلة غير
المصدرة بما فيها الوجه ليحمل على شعر الوجه. والأقوى اختصاص المعتبرة منها
بالوجه، للعهدية وغيرها من القرائن مما ذكره الأستاذ وما ظاهره الإطلاق
كقوله (عليه السلام): " إنما يغسل ما ظهر " ضعيف لا يعمل به، مضافا إلى ما تقدم فيه من
عدم الدلالة.
قوله (قدس سره): (والوسخ تحت الأظفار لا تجب إزالته إلا إذا تجاوز المعتاد)
عدم الوجوب في غير المتجاوز لكونه من الباطن في باب الوضوء والغسل كما
يوضحه ما عد فيهما من البواطن فينفي وجوب غسل ما تحت تلك الأظفار بما
نفى به غيره مما يضاهيه في الباطنية، فلذا لا يجب إزالة وسخه. وأما الوجوب في
المتجاوز كما هو مقتضى الاستثناء فهو المشهور بينهم، وإن قيده بعضهم كما في
التذكرة والذكرى وغيرهما بعدم المشقة، بل صرح بعضهم بنفي الوجوب مع المشقة،
وفصل بعض بين الخفيف الغير المانع عن وصول الماء تحته وغيره المانع عنه.
والأقوى الوجوب في غير ما يلزم منه حرج رافع للتكليف، لوجوب غسل
البشرة المحجوبة به الغير المحسوبة من الباطن بسترها به ما لم يكن من الخفة
بحيث يصدق الغسل على ما تحته بما وصله من الماء، وأما نفس الظفر أعني
المقدار الخارج منه عن الحد فقيل بعدم وجوب غسله، لأنه كمسترسل اللحية.
ولعل ما علقه الأستاذ هنا من قوله: " الأحوط إزالة الوسخ الكائن على موضع
يجب غسله من باطن الأظفار " إشارة إلى هذا الخلاف بأن يكون مقصوده بيان أن
وجوب الإزالة المفهوم من الاستثناء احتياط، تقوية للقول بوجوب غسل ما خرج
عن الحد من الظفر كما هو المشهور، لكن بالنسبة إلى باطن الأظفار الطويلة دون
ظاهرها بمعنى أنه يجب غسل ظاهرها، لأنها محسوبة من أطراف الأصابع
المنتهي إليها الغسل، ولكن باطنها لشبهة صدق الباطن عليه لم يفت به ولم ينف
وجوبه، بل احتاط فيه، وهذا الاحتمال هو المناسب للفظة " الأحوط " فإن مورده
شبهة الوجوب الأصالي وإن حملناه نحن على الباطن الذي نفينا وجوب غسله
267

أصالة وهو باطن ما لم يتجاوز عن المعتاد، وحملنا قوله - طاب ثراه -: " يجب
غسله " يعني مقدمة لغسل البشرة المتصلة به الواجب غسله، ووجه الاحتياط
حينئذ توقف العلم بحصول غسل الظاهر بتمامه في المتعارف على الإزالة وإن
لم يتوقف عليها واقعا.
وكيف كان الأقوى والمشهور وجوب غسل الظفر بتمامه وإن بلغ في الطول ما
بلغ، لما ذكر في الشعر، بل الشهيد في الذكرى جعله أولى من الشعر، لأنه متصل
بالبشرة الواجب غسلها ومحسوب عند العرف من العضو.
قوله (قدس سره): (ولو ظهر بعد التقليم وجب ازالته وغسل ما تحته) لأنه
حينئذ من الظاهر الواجب غسله كما في غيره مما هو باطن في الوضوء فانقلب
موضوعه وصار ظاهرا.
قوله (قدس سره): (ولا يجوز ترك شيء من الوجه أو اليدين بلا غسل ولو
مقدار مكان شعرة) يعني مما يجب غسله، لأنه مأمور بغسل تلك الأعضاء
بحدودها المبينة، ولا ريب في توقف الخروج عن عهدة الأمر بايجاد الغسل فيها
بتمامها حقيقة، لعدم صدق غسل تمام العضو ما بقي منه شيء غير مغسول إلا
بالمسامحة العرفية في اليسير الملحق عندهم بالعدم، ولا دليل على جريان
المسامحة فيه، لوجوب الحمل على الحقيقة في ما لم يثبت فيه كفاية العرف
المسامحي ولو في العرفيات كالمقادير والموازين وأمثالهما، هذا.
مع أن عدم المسامحة معلوم هنا كما يشهد له الاهتمام في تحديد الوجه
واليدين ومسألة البقعة الباقية في الوجه، ومسألة تخليل الشعر وغيره في
الطهارتين مضافا إلى مسلمية الحكم عندهم كما يقف عليه المتتبع في كلماتهم،
فالمسألة خالية عن الاشكال بحمد الله.
وقوله (قدس سره): (ويلزم رفع ما يمنع وصول الماء إليه أو تحريكه) أيضا
شاهد على ما ذكرناه.
قوله (قدس سره): (ولو شك في حجبة وجب الايصال إلى ما تحته أيضا)
268

لأصالة عدم وصول الماء إلى البدن، وتوقف الخروج عن عهدة الأمر بالايصال
عليه، هذا.
ولكن يعارضه أصالة عدم كون البدن محجوبا كما هو مناط الحكم في
المسألة الثانية وهو قوله (قدس سره): (ولو شك في أصل الحاجب لم يجب البحث
وإن كان هو الأحوط) وهذا الأصل وإن كان من الأصل المثبت الغير المعتبر
كما حققه المحقق النحرير الأستاذ الأكبر - طاب ثراه - ومن أجله علق على قوله:
" هو الأحوط " بقوله: " بل لا يخلو عن قوة إلا مع غلبة الظن بالعدم " انتهى، لكنه
ادعى الإجماع على العمل به في الثاني كما حكاه هو - طاب ثراه - عن بعض،
والمصنف - طاب ثراه - ادعى في جواهره قيام السيرة القطعية عليه، وهذا هو
الفارق بين الشك في الحجب والشك في الحاجب، وإن ردهما الأستاذ - طاب
ثراه - فيه أيضا بعدم حصول الحدس القطعي بتحققه، لعدم تعرض جل الأصحاب
لهذا الفرع بالخصوص وبأن السيرة القائمة على عدم الاعتناء بهذا الشك إنما هو
لعدم الالتفات غالبا، أو لحصول الاطمئنان بالعدم مع الالتفات، فلذا لا يعبأون به
ولا يبحثون عنه.
وأنت خبير بأن دعوى الإجماع بالحدس القطعي لا يتوقف على كون المسألة
معنونة بالخصوص كما شاهدنا منه - طاب ثراه - دعوى الإجماع في غير
المعنونات غير مرة، لمعلومية رأيهم فيها من غيرها.
وأما رد السيرة بما ذكره - طاب ثراه - من الاحتمالين فلا يخفى ما في أولهما
من عدم إمكان نسبته إلى أهل الورع والديانة سيما أهل العلم منهم.
ودعوى حصول الاطمئنان لهم في جميع الموارد وفي قاطبة الحالات لا
يقبلها الذهن السليم، فلا يبعد دعوى قيامها على عدم الاعتناء بهذا الشك مطلقا،
وأما كون الأصل مثبتا وإن كان لا يسعنا دعوى كونه من باب الظن النوعي، فيكون
حاله كحال سائر الأمارات المثبتة لجميع ما يقارن مجراه من اللوازم والمقارنات،
إلا أنه يقرب صحة جريانه وصحة الاتكال عليه دعوى خفاء الواسطة في المقام
269

كما أشار إليه - طاب ثراه - فيكون الحكم الشرعي المتفرع على اللازم العادي هنا
- وهو وصول الماء إلى البشرة - متفرعا في نظر العرف على عدم الحاجب المثبت
بالأصل.
ولكن لا ينبغي ترك الاحتياط كما ذكره (قدس سره)، وإن كان الأقوى في النظر عدم
لزوم البحث هنا بعكس الاولى وهو الشك في الحاجبية، لما ذكره المصنف من
عدم استقرار السيرة فيها على عدم الاعتناء لو لم يدع استقرارها على خلافه مع
ما عرفته من ضعف الأصل، لكونه مثبتا، بل غير مؤصل، إذ لا يقين سابقا بعدم
حاجبية هذا الموجود ليستصحب في زمان الشك.
مضافا إلى ورود النص فيها بالخصوص على لزوم المراعاة كصحيحة علي بن
جعفر عن أخيه (عليهما السلام) قال: " سألته عن المرأة عليها السوار والدملج في بعض
ذراعها لا يدري يجري الماء تحته أم لا كيف تصنع إذا توضأت أو اغتسلت؟
قال (عليه السلام): تحركه أو تنزعه حتى يدخل الماء تحته، وعن الخاتم الضيق لا يدري
يجري الماء تحته إذا توضأ أم لا كيف يصنع؟ قال: إذا علم أن الماء لا يدخله
فليخرجه إذا توضأ " الخبر (1).
ومعارضة الصدر مع الذيل باعتبار اقتضاء الصدر لزوم التحريك أو الاخراج
مع عدم العلم بالوصول واقتضاء شرطية الذيل اختصاص لزوم الاخراج بصورة
العلم بعدم الوصول الذي مفهومه عدم اللزوم مع فقد العلم بالعدم سواء علم
بالوصول أو شك فيه.
مدفوعة بحمل العلم فيه على العلم العادي، يعني إذا كان الضيق إلى حد
لا يشك في العادة بدخول الماء تحته، بل كان بحيث يعلم عادة بدخول الماء تحته
لا ينزعه، بل يدخل الماء تحته ولو بالتحريك، وأما إذا علم أن الماء لا يدخله عادة
لكمال ضيقه يجب عليه نزعه، لعدم تيقنه بحصول غسل ما تحته إلا بالاخراج، لأن

(1) الوسائل 1: 329، الباب 41 من أبواب الوضوء، ح 1.
270

تحريك مثله لا يورث إلا شكا في الوصول الغسلي، وإن كان ربما يحصل العلم
بوصول النداوة الغير المجزية، ولعل ما ذكره الأستاذ - طاب ثراه - من حمل النفي
في " لا يدخله " على نفي استمرار الدخول لا على نفي الدخول نفسه أيضا راجع
إلى هذا المعنى.
وبالجملة يشهد على عدم معارضة الصدر والذيل في متفاهم العرف تمسك
الشهيد في الذكرى، لوجوب ايصال الماء بالنزع أو التحريك في الخاتم والسوار
والدملج عند عدم العلم بتلك الصحيحة من غير تعرض منه (قدس سره) لبيان المعارضة
وعلاجها، ولا التفات منه إليها.
قوله (قدس سره): (وأما المسحتان) اللتان هما من أجزاء الوضوء قطعا فهما للرأس
والقدمين (فأولهما مسح الرأس، ويجب مسح شيء من مقدم الرأس ولو
منكوسا على الأصح) فيهما عند المصنف.
أما الأول: وهو كفاية المسمى فللشهرة المحققة كما عن المدارك، ويعطيه
حكايته القول به في جواهره عن الجمل والعقود والسرائر والنافع والمعتبر
والتحرير والقواعد والارشاد اللمعة والروضة، وظاهر جامع المقاصد، وعن
التبيان والمجمع وأحكام القرآن للراوندي وروض الجنان، وللإجماع المحكي
عن الأربعة الأخيرة من نسبتهم كفاية المسمى إلى مذهب الأصحاب على ما
حكاه عن كاشف اللثام كما حكاه الأستاذ عن آيات الأحكام للمقدس الأردبيلي،
ولإطلاق الآية (1) وإطلاق جملة من الأخبار (2) وظاهر لفظ " الإجزاء " في قول
أبي جعفر (عليه السلام): " إذا مسحت بشيء من رأسك فقد أجزأك " (3) وظاهر مرسل حماد
عن أحدهما (عليهما السلام) في الرجل يتوضأ وعليه العمامة قال (عليه السلام): " يرفع العمامة بقدر

(1) المائدة: 6.
(2) الوسائل 1: 291، الباب 23 من أبواب الوضوء، ح 7.
(3) الوسائل 1: 291، الباب 23 من أبواب الوضوء، ح 4.
271

ما يدخل إصبعه فيمسح على مقدم رأسه " (1) لوضوح أن إدخال الإصبع الواحد
تحت العمامة والمسح به لا يحصل منه غالبا مسح تمام عرض الإصبع، بل ينقص
منه شيء ولو قليلا على ما هو المتعارف من كيفية المسح به حينئذ من إمراره على
الممسوح بالعرض، وهو ينافي لزوم مقدار إصبع تام في المسح أو في حصول
المسمى كما سيأتي، فيستفاد منه كفاية المسمى وإن قل فلا تبتئس.
وارسال الرواية غير قادح بعد جبر سندها بالشهرة والإجماع المذكورين
سيما على ما حكاه في الجواهر عن الوسائل أنه ذكره مسندا عن الكافي عن
حماد، عن الحسين، عن أبي عبد الله (عليه السلام) وإن قيد كيفية إدخال الإصبع فيها حينئذ
بما ذكر في السؤال من ثقل نزع العمامة على المتوضى لمكان البرد، إلا أنه ليس
بشيء، لأنه فرض سؤال لا يتقيد به الحكم.
مضافا إلى أن مجرد البرد ليس من الضرورة المغيرة للحكم كما يومئ اليه
تعبير السائل بقوله: " فثقل عليه " فلا تعارض الأخبار الدالة على لزوم الإصبع لو
كان حتى يجمع بينهما بالضرورة والاختيار، فيوجب ذلك تقييد ما دل على كفاية
المسمى بحال الضرورة، ولصحيحة زرارة وبكير الواردة في تفسير آية الوضوء
الحاكية لوضوء رسول الله (صلى الله عليه وآله) من قوله (عليه السلام): " فإذا مسح بشيء من رأسه أو بشيء
من قدميه ما بين الكعبين إلى أطراف الأصابع أجزأه... الخ " (2).
والصحيحة الاخرى لزرارة (3) المعروفة في سؤاله عن أبي جعفر (عليه السلام) محل
استفادة كفاية مسح بعض الرأس من الآية الشريفة وجوابه (عليه السلام) بقوله: " لمكان
الباء " وغير ذلك مما يمكن استفادة كفاية المسمى منه.
ومقابل الأصح ما نسب إلى المقنعة والتهذيب والخلاف وجمل السيد
والراوندي في موضع من كتابه من لزوم الإصبع، وعدم كفاية الأقل، وهو المنقول

(1) الوسائل 1: 293، الباب 24 من أبواب الوضوء، ح 1.
(2) الوسائل 1: 291، الباب 23 من أبواب الوضوء، ح 4.
(3) الوسائل 1: 291، الباب 23 من أبواب الوضوء، ح 1.
272

عن دروس الشهيد (رحمه الله) وذكراه وبيانه.
ولكنه (قدس سره) صرح في الدروس بكفاية المسمى إلا أنه قال: ولا يحصل بأقل من
إصبع كما حاول ذلك بعضهم في الجمع بين القولين، وللاصلاح بين الفريقين، وإن
منع ما حكي عن تهذيب الشيخ (قدس سره) من أنه بعد أن استدل لكفاية الإصبع بإطلاق
الآية قال: " ولا يلزم على ذلك ما دون الإصبع، لأ نا لو خلينا والظاهر لقلنا بجواز
ذلك، لكن السنة منعت من ذلك "، والظاهر أن غيره من أصحاب هذا القول لا يقول
بلزوم الإصبع تعبدا، بل دعاهم إلى لزومه توهم توقف المسمى على ذلك، إذ لم
ينقل عن غيره (قدس سره) في مقام منع هذا الاصلاح ما ينافيه، واقتصر في نقل المنافي
بكلامه، بل المحكي عن الذكرى بعد حكمه بوجوب المسمى أنه قال (قدس سره): " ولا
يجزي أقل من إصبع، قاله الراوندي كما حكيناه عن دروسه ".
فعلى هذا ينحصر القول بلزوم الإصبع تعبدا في الشيخ، وهو وإن ادعى في
النهاية ورود السنة بذلك إلا أن الأستاذ الأكبر - طاب ثراه - جال عليه بأنا لم نعثر
في السنة إلا على التحديد بالثلاث المحمول على الندب، ولا يبعد أن يكون نظر
الشيخ (قدس سره) إلى الروايات الثلاث المذكورة فيها المسح بالإصبع لمكان العمامة
اللواتي ذكرنا اثنتين منها في مقام الاستدلال لكفاية المسمى، والثالثة هي هذه:
" عن الرجل يمسح رأسه من خلفه وعليه عمامة بإصبعه أيجزيه ذلك؟ فقال:
نعم " (1). كما يشهد له ما في المستند من قوله: " واستدلوا بالأخبار " ثم ذكره
الروايات الثلاث.
وكيف كان فقد ظهر لك خلو هذا القول عن الدليل، لصدق المسح بالإصبع عند
تحقق المسمى، إذ لو أغضى عن ظهور تلك الثلاث في كفاية المسمى على الوجه
المذكور فلا أقل من دلالتها عليها من باب الإطلاق، إذ لا ظهور لها في طلبه (عليه السلام)
ايقاع المسح بتمام عرض الإصبع كما هو واضح.

(1) الوسائل 1: 289، الباب 22 من أبواب الوضوء، ح 4.
273

ولعل هذا هو مراد الشيخ الأستاذ من نفيه رؤية رواية تدل على التحديد عدا
المحددة له بثلاث أصابع، هذا مع ما هو المتداول من ايقاع المسح برأس الأنملة
ممن يوقعه بالإصبع الواحدة، ولاخفاء في أنه ينقص حينئذ عن عرض الإصبع
غالبا أو دائما.
فتنقح أن ذكر الإصبع هنا إنما هو لأجل غلبة تحقق المسمى بها لا بدونها،
مضافا إلى ما تراه من نداء الرواية الثالثة بكونه للتقية، لتداول المسح بالإصبع من
خلف الرأس عند العامة، هذا أحد القولين اللذين أشار اليهما بقوله: " على
الأصح "، والآخر ما حكي من لزوم ثلاث أصابع إما مطلقا كما نسبه في المستند
إلى بعض الأخباريين، وحكاه في الجواهر عن ظاهر الصدوق في الفقيه، وعن
المعتبر حكايته عن مسائل الخلاف للسيد، أو في خصوص حال الاختيار كما
حكاه عن النهاية، أو لخصوص النساء كما حكاه عن أبي علي، ومستند الجميع
رواية معمر بن خلاد، عن أبي جعفر (عليه السلام): " يجزي من المسح على الرأس موضع
ثلاث أصابع، وكذا القدمين " (1)، وما ورد في صحيح زرارة عنه (عليه السلام) أيضا: " المرأة
يجزيها من مسح الرأس أن تمسح مقدمه قدر ثلاث أصابع، ولا تلقي عنها
خمارها " (2) بناء على عدم الفرق بين الرجل والمرأة، لعدم الاعتناء بخلاف أبي
علي الإسكافي، أو بالتفصيل بينهما كما عنه (قدس سره).
وما عن محمد بن عيسى أنه قال: " قلت لحريز يوما: يا عبد الله كم يجزيك أن
تمسح من شعر رأسك في وضوئك؟ قال: مقدار ثلاث أصابع، وأشار إلى السبابة
والوسطى والثالثة، وكان يونس يذكر عنه فقها كثيرا " (3) والظاهر أن مثل حريز
لا يفتي في الشرعيات إلا بما سمعه.

(1) الوسائل 1: 294، الباب 24 من أبواب الوضوء، ح 5، وفيه عن معمر بن عمر.
(2) الوسائل 1: 294، الباب 24 من أبواب الوضوء، ح 3.
(3) جامع أحاديث الشيعة 2: 304، كتاب الطهارة ح 2143.
274

ومستند تفصيل النهاية الجمع بينها وبين ما سبقت من روايات الإصبع
باستظهار اختصاصها بحال الضرورة، وفيها أن رواية معمر محمولة على الإجزاء
في الفضل لجمعها بين الرأس والقدمين المجمع على إجزاء الواحدة فيهما، وكذا
صحيح زرارة، والشاهد لهذا الحمل فيه قوله: ولا تلقي عنها خمارها.
وأما المنقول عن حريز فهو إما اجتهاد منه، أو يراد منه الإجزاء في الفضل أيضا،
فلا شيء منها يفي باللزوم المحكي عن الجماعة المنسوب إليهم ذلك، فالأحسن
أخذها دليلا على فضل المقدار المذكور في مسح الرأس على ما عليه الأكثر.
ثم بناء على استحبابه الأقوى كونه أفضل فردي الواجب سواء وقع دفعة أم
تدريجا، أما الأول فواضح، وأما الثاني فلحكم العرف بوحدة ما وقع عن المقدار
في فرديته للمسح بشهادة عدم حكمهم بلغوية الزائد عن مقدار الواجب لو فرض
عدم كونه مستحبا، وتعقل جمع الوجوب والاستحباب إنما هو باعتبار جنس
الاستحباب لا فصله وباعتبار ما هو مناط تحققه والجهة الموجبة لثبوته في المقام
لا هو بتمام مقوماته جنسا وفصلا.
ثم إن ظاهر الأكثر استحباب المقدار المذكور في عرض الرأس كما نقله
الأستاذ عن المقنعة والتذكرة والشهيد وجامع المقاصد وحاشية الشرائع، وجعله
ظاهر الأكثر، وعن ظاهر شارح الدروس دعوى الوفاق فيه، وهو ظاهر النصوص
أيضا، لأن رواية معمر الجامعة بين الرأس والرجلين صريحة فيه بقرينة إرادة
العرض من مقدار الثلاث في الرجلين، وقريب منها في الوضوح أو أصرح
وضوحا رواية حريز، وبعد ذا لا يبقى ما ينافي روايات الإصبع، حيث إنه لو كان
المراد المقدار الطولي لكان يحصل بإدخال إصبع واحدة وإمراره من طول الرأس
إلى أن يصير قامة الخط الطولي مقدار ثلاث، وليس فيها ما يستظهر منه عدم إرادة
هذا النحو من المسح عدا الإطلاق المستظهر منه كفاية المسمى طولا وعرضا،
ومن الواضح عدم معارضة الإطلاق لما هو نص في الخصوصية، وحينئذ فما معنى
جعلها مقابلة للروايات المعتبرة للثلاث، وكونها مفيدة لكفاية الواحدة ثم
275

تخصيصها من أجله بحال الضرورة؟!
ومنه يعلم أن ما عن الشهيد الثاني من اعتبار ذلك في طول الرأس لا دليل
عليه إلا أن يحمل كلامه على مطلوبية الثلاثة طولا وعرضا، ويكون وجه اقتصاره
حينئذ على ذكر الطول وحده أن ثلاثة العرض قهري الحصول بعد فرض ايقاع
المسح بثلاث أصابع لو مسح على الاستقامة، نعم لو لم يكن مسحه بها مجتمعا، بل
كان بالواحد المتصور فيه فقد هذا المقدار طولا وعرضا لكان عليه أن يقول
باعتبار الثلاث فيهما معا.
ولكن يرد عليه أنه لو كان مقصوده ما ذكر لعبر بمثل ما في المتن مما يفيد
مطلوبية هذا المقدار وإن أوجده بإصبع واحدة لإمكانه فيه، ولذا جعل ايقاعه
بخصوص الثلاث مستحبا آخر، وبالجملة تخصيص مقدار الثلاث بطول الرأس
وحده، مع أنه لا دليل عليه لا ريب في كونه خلاف ظاهر الروايات وخلاف
كلمات القوم.
ثم على المختار من كون الفضل هذا المقدار طولا وعرضا، ومن حصوله في
الثاني بقسمين من الدفعي والتدريجي يتصور تدريجية هذا المقدار بأن يجعل
الأصابع الثلاث على الرأس على خط مورب، وإمرارها عليه موربا بمقدار ما
يحصل هناك مربع يكون أضلاعه مارة على طول الرأس وعرضه معا. فحينئذ
يحصل مقدار مسح الثلاث في عرض الرأس في خط منصف لهذا المربع في
عرض الرأس على الاستقامة هكذا، وهذا معنى حصول مقدار الثلاث تدريجا.
هذا تمام الكلام في الحكم الأول وهو كفاية المسمى في المسح.
وأما الثاني: وهو جواز النكس فللشهرة كما عن الحدائق، ولاطلاق الآية
وصريح الرواية من قوله: " لا بأس بمسح الوضوء مقبلا ومدبرا " (1)، ولما دل على
جواز النكس في الرجلين بدعوى الإجماع المركب على اتحادهما في هذا الحكم.

(1) الوسائل 1: 286، الباب 20 من أبواب الوضوء، ح 1.
276

والأقوى عدم جوازه فيه كما في الدروس نسبه إلى المشهور، بل عن الخلاف
الإجماع عليه، وعن المختلف حكايته عن السيد للأصل وعدم دليل على الجواز،
لتقييد الاطلاق بما قيد به اطلاق غسل الأيدي بالابتداء من الأعلى من
الوضوءات البيانية، ولاختصاص الصحيحة بمسح القدمين على ما يظهر من
الأستاذ، وأشار اليه في الجواهر أيضا، وعدم ثبوت الإجماع المركب لما عن
ظاهر الشيخ، بل صريحه في تهذيبه من اختصاص هذا الحكم بالقدمين، ومثله عن
ظاهر النهاية التي هي متون الأخبار، ويؤيده ما عن كاشف اللثام من نقل التوسعة
في القدمين عن جماعة، وعدم نقله الجواز عنهم في المقام، كما يؤيده ما عن
الإشارة والمراسم من التصريح بالجواز في القدمين وإطلاقهما المسح في المقام.
ويؤيد عدم الجواز هنا، بل يدل عليه روايات العمامة والخمار، إذ المسح
المنكوس غير محتاج إلى رفعهما حتى يعالج عند ثقل النزع بإدخال الإصبع، بل
يظهر منها معلومية عدم الجواز عند الرواة حتى ألجأهم ذلك إلى السؤال عن علاج
حال العسر والمشقة، هذا كله.
مع أنه لا ريب أن تركه أحوط كما أشار اليه الأستاذ - طاب ثراه - فيما علقه
هناك بقوله: " الأحوط عدم النكس " ثم على القول بالجواز لا كراهة فيه، لعدم
الدليل عليه كما عن المدارك والحدائق نفيها لذلك، بل عنهما نفيها ولو بني على
التسامح، لأن مبناه على المسامحة في الدليل المخالف لا على الخروج من مخالفة
من خالف وجال عليهما بعض بكفاية القول أيضا كما هو المعهود عن القائلين
بثبوت الاستحباب والكراهة به.
ولا يخفى أنه في غير محله، لأن كفاية القول إنما هو إذا أفتوا بحكم خاص،
ولم يعلم مستندهم فيه، وليس المقام كذلك، لأن مستندهم فيها الخروج عن شبهة
خلاف من لم يجوزه، وهذا عمل بالاحتياط لا قول بالكراهة، ومستنده عدم
الدليل لا النهي عنه حتى يحمل على الكراهة، فلا وجه للحكم بالكراهة في المقام
ومثله كما لا يخفى.
277

ثم على القول بالحرمة لو بنى من أول الأمر أن يتوضأ وضوء يدبر في مسحه
فلا شك في بطلانه وإن تداركه بعد بأن مسح مقبلا، لأنه لم يقصد الاتيان بالمأمور
به، بل قصد الاتيان بما هو تشريع وحرام، فيبطل لعدم الأمر، بل للنهي كما أنه
كذلك لو لم يقصد ذلك من أول الأمر، ولكنه أتى بالمسح مدبرا واكتفى به للنقص
وخلو وضوئه عن المسح. نعم لو أمكنه التدارك في هذه الصورة وتدارك صح،
لعدم مضرة فصل الأجنبي وإن كان محرما، لعدم اعتبار الاتصال وعدم الفصل
في الوضوء، فافهم.
قوله (قدس سره): (والأحوط عدم الاجتزاء بما دون عرض إصبع، وأحوط منه
مسح مقدار عرض ثلاثة أصابع مضمومة) خروجا عن خلاف من أوجبهما
كما تقدم تفصيلهما.
قوله (قدس سره): (بل الأولى كون المسح بالثلاثة أيضا) مراعاة للمنقول عن
حريز، وإلا فليس في الروايتين المعتبرتين لمقدار الثلاث ما يفيد أولوية وقوعه
بالثلاث أيضا.
قوله (قدس سره): (والمرأة كالرجل في ذلك) لما عرفته من ضعف التفصيل بينهما
لشذوذه من أجل اختصاص القول به بخصوص أبي علي الإسكافي.
قوله (قدس سره): (إلا أنه) استثناء من التشريك الذي أفاده بقوله: " والمرأة
كالرجل " يعني في المسح بواجباته ومستحباته ولكنها تفترقه بأنها (قد تتأكد
لها في خصوص الوضوء لصلاة الصبح إزالة خمارها ومسح موضع
المسح) بخبر عبد الله بن الحسين بن زيد بن علي (عليه السلام) بن الحسين (عليه السلام) بن علي
بن أبي طالب (عليه السلام)، عن أبيه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " لا تمسح المرأة بالرأس
كما يمسح الرجال، إنما المرأة إذا أصبحت مسحت رأسها وتضع الخمار عنها، فإذا
كان الظهر والعصر والمغرب والعشاء تمسح بناصيتها " (1) القاصر عن إفادة

(1) الوسائل 1: 292، الباب 23 من أبواب الوضوء، ح 5.
278

الوجوب للإجماع على عدمه وإن حكي عن ظاهر الصدوق القول به.
قوله (قدس سره): (ودون ذلك تأكدا صلاة المغرب) لنفيها في الخبر المزبور
وثبوتها في المروي عن الصدوق في الخصال بسنده عن جابر الجعفي، عن أبي
جعفر (عليه السلام) قال: " المرأة لا تمسح كما يمسح الرجال، بل عليها أن تلقي خمارها
عن موضع مسح رأسها في صلاة الغداة والمغرب، وتمسح عليه في سائر الصلوات
تدخل إصبعها فتمسح على رأسها من غير أن تلقي خمارها " (1).
قوله (قدس سره): (أما باقي الصلوات فلا يتأكد لها ذلك، بل يجزيها إدخال
إصبعها من تحت قناعها وتمسح به) لخصوص الخبرين وعدم ما يفيد تأكده،
ولكنه يحسن لها إزالة خمارها فيها أيضا، لأنها مع كونها أطوع للمسح موجبة
للاطمئنان بحصول المطلوب المطلق في جميع الواجبات.
قوله (قدس سره): (والمراد بمقدم الرأس الربع المتقدم منه) بمقتضى وضع اللفظ،
وهو المفهوم منه عرفا وهو المقابل للمؤخر والجانبين بعد تقسيم الرأس باستثناء
قبة الرأس أربعة أقسام، وكفاية المقدم، وعدم اختصاص موضع المسح بخصوص
الناصية منه هو ظاهر الأكثر، بل صريحهم وهو ظاهر أكثر النصوص، وأما
النصوص المتضمنة للناصية كالحاكية لفعل النبي (صلى الله عليه وآله) أنه مسح ناصيته (2)،
وصحيحة زرارة: " ثم تمسح ببلة يمناك ناصيتك " (3)، وخبر عبد الله بن الحسين بن
زيد في المرأة تمسح بناصيتها (4)، فغير قابلة لتقييد المقدم، لإمكان حملها على
الغالب، لغلبة وقوع المسح بها، مضافا إلى ما عن القاموس من عده الناصية أحد
معاني المقدم لو لم يحمل على أنه أراد تضييق المقدم لا توسعة الناصية، فليتأمل.
وعن البيضاوي تفسيرها بربع الرأس، وعن غيره تفسيرها بشعر مقدم الرأس،

(1) الخصال 1 - 2: 585 ح 12.
(2) سنن النسائي 1: 76، سنن البيهقي 1: 58.
(3) الوسائل 1: 272، الباب 15 من أبواب الوضوء، ح 2.
(4) الوسائل 1: 292، الباب 15 من أبواب الوضوء، ح 5.
279

وعن محكي المصباح الجزم بإرادة المقدم منها، فلا أقل من عدم ثبوت إرادة ما
يضاد المقدم من لفظة " الناصية " ليوجب تقييده بها، هذا.
مع أن الحاكي لفعله (صلى الله عليه وآله) غير قابل للتقييد، لعدم دلالته على الخصوصية،
والصحيحة لا بد من تأويلها وحملها على الاستحباب، لظهورها في وجوب مسح
تمام الناصية، وهو مخالف للإجماع كما نبه عليه الأستاذ - طاب ثراه - ومثلها خبر
عبد الله، لعدم وجوب إزالة الخمار عليها في المسح، هذا.
ولكن الأحوط الاقتصار في المسح عليها، لاحتمال سوق لفظ " المقدم " في
النصوص في قبال العامة القائلين بمسح المؤخر، فيكون المراد منه نفي ما هم عليه
لا إثبات ما هو المفهوم منه عرفا من إرادة تمام الربع لو سلم انفهامه منه.
مضافا إلى ما عرفته عن القاموس من أنها أحد معاني المقدم، بل عن الحدائق
عن بعض معاصريه دعوى الإجماع على إرادتها منه ممن عدا الشهيد الثاني
وبعض من تبعه، ويشهد على صدق الدعوى ما عن المعتبر والتذكرة من استدلالهم
لوجوب مسح المقدم بأنه (صلى الله عليه وآله) مسح بناصيته، وفعله (صلى الله عليه وآله) في مقام البيان فيجب
اتباعه، انتهى.
وما عن الذكرى من قوله: " يجوز المسح بكل من البشرة والشعر المختص
بالمقدم، لصدق الناصية عليهما "، انتهى. فإن ظاهر تلك الاستدلالات يفيد اتحاد
الناصية والمقدم، هذا.
وقد تقدم أن الأحوط الاقتصار عليها وعدم التعدي عنها سيما مع تصريحه
في التذكرة على ما حكي بكون الناصية ما بين النزعتين وأن ذكرهم المقدم إنما
صدر قبالا للعامة المجوزون للمسح بالمؤخر كما عن جمهورهم أو المخصصين له
به كما عن بعضهم، لا لكونه مرادا قبالا للناصية. ومنه يتأتى أن يقال بوحدة المراد
بهما في الأخبار، وأنها هي المراد من لفظة " مقدم الرأس " مضافا إلى ما عرفته من
إمكان حمل قول من فسر من اللغويين الناصية بالمقدم على التضييق، فيقوى
حينئذ القول بعدم جواز التعدي عنها إلى غيرها من إجزاء المقدم بمعناه اللغوي،
280

فتدبر.
قوله (قدس سره): (فلا يجزي المسح على غيره) أي غير المقدم، لاستقرار المذهب
المأخوذ من الآثار الواردة عنهم (عليهم السلام) على تعين المقدم للمسح، وعدم اجزاء
مسح غيره من الرأس في غير مقام التقية، كما يفصح عنه ما عن مولانا الكاظم (عليه السلام)
من أمره (عليه السلام) علي بن يقطين بالوضوء المعروف المتضمن لمسح الاذنين تخليصا
له من سعاية الواشين، ثم أمره (عليه السلام) إياه بالوضوء المتعارف عندنا، المذكور فيه
صريحا مسح المقدم بعد اصلاح أمره عند الرشيد لعنة الله، فما في المستند من
حكاية بعض مشايخه استحباب مسح المقدم عن بعض الأصحاب غريب جدا كما
استغربه هو (قدس سره)، كما حملوا ما في شواذ الأخبار من جواز مسح المؤخر والرقبة
على التقية أو غيرها مما يحتمله من المحامل، للإجماع على عدم الجواز، بل
لعدهم تعين المقدم من منفردات الامامية وبه يقيد مطلقات المسح على الرأس.
ثم لا يخفى عليك عدم ملائمة ذكر هذا الفرع هنا وأن المناسب تفريعه بما
تقدم من قوله: " ويجب مسح شيء من مقدم الرأس " اللهم إلا أن يجعل أيضا من
متفرعاته، ويجعل تلك الفواصل من التوابع المعترضات في أثناء المطلب.
قوله (قدس سره): (نعم لا يجب المسح على بشرته، بل يكفي المسح على
شعره المختص به... الخ) بلا خلاف فيه بين الإمامية كما في الجواهر، بل عن
ظاهر المعتبر وصريح المدارك والحدائق، وظاهر التذكرة دعوى الإجماع عليه،
لصدق المسح بالرأس عليه كما قدمناه عن التذكرة والذكرى وصرح به الأستاذ
- طاب ثراه - في دعوى صدق الناصية على شعرها، بل تقدم عن بعض أصحاب
البيضاوي تفسير الناصية بشعر مقدم الرأس، بل ملاحظة غلبة تعسر ايصال المسح
إلى البشرة في الغالب يوجب ظهور لفظ " المقدم " و " الناصية " في الأخبار في
الأعم من الشعر والبشرة عرفا في خصوص المسح، بمعنى أنه لا يشك العرف في
إرادة المعنيين معا من اللفظين بعد ملاحظة التعسر الآتي من قبل إرادة خصوص
البشرة، ومثله متبع فيما هو من قبيله، كما تقدم نظيره عن الأستاذ - طاب ثراه - في
281

وجوب غسل الوجه الأعلى فالأعلى بحمله على العرفي لا الحقيقي بقوله: " لكن
تعسر التحقيق كتعذره قرينة على كفاية التقريب ".
وأفرط بعض العامة فخص المسح بخصوص الشعر جريا على ما ثبت في
الوجه، وقد بينا في محله أن عدم كفاية غسل البشرة ثمة إنما هو للدليل الخاص به
من الإجماع والخبر، ولا يشمل عمومه المقام كما لا يخفى.
فتنقح أن المسح بالشعر المختص بالمقدم جائز من غير منع ولا تعيين.
قوله (قدس سره): (المسامت له خلقة) لأنه الذي يتأتى فيه دعوى الصدق، ويفيده
غيره مما قدمناه دليلا للجواز حال كونه غير متجاوز عنه ولا مجموعا عليه بعد أن
كان يخرج بمده عن حده لعدم وفاء ما تقدم من الدليل على إثبات الجواز فيه،
بل لوضوح عدم صدق الناصية أو المقدم عليه، بل لوضوح عدم إرادة مثله منهما،
وعدم ما يفيد ثبوت الجواز فيه.
قوله (قدس سره): (بل الأحوط عدم المسح على الجمة وهي مجمع شعر
الناصية عند عقصه) للتشكيك الآتي من، لأنه بالتعلية وتركب بعضه فوق بعض
يتراءى كونه خارجا عن الحد، لعدم توقف الخروج عن الحد بالسدل في محل
آخر، بل يتحقق بالصعود إلى الهواء أيضا والمسترسل لا يجوز المسح عليه مطلقا،
لعدم الدليل، مضافا إلى شهادة إدخال الإصبع تحت العمامة والخمار وأخبار نزع
الخمار والعمامة بخروج المسترسل عما يمسح به، إذ لو جاز المسح به لم يكن
يحتاج إلى المعالجة غالبا، لخروج رؤوس الشعور عنهما في أكثر الناس، فإذا لم
يجز مع سدله لا يجوز مع جمعه، لوحدة الدليل.
قوله (قدس سره): (والأولى بل الأحوط أن يكون المسح على الناصية من
المقدم) بناء على أعمية المقدم من الناصية وجه الاحتياط ما قدمناه.
قوله (قدس سره): (ويجب أن يكون المسح بباطن الكف، والأحوط الأيمن، بل
الأولى الأصابع منه) كون اليد آلة المسح مما لا إشكال فيه ولا شبهة تعتريه، كما
أن تعين الكف لذلك هو مفاد بعض ما ورد في الوضوءات البيانية كخبر زرارة
282

وبكير: " ثم يمسح رأسه وقدميه ببلل كفيه لم يحدث لهما ماء جديدا " (1) وخبرهما
الآخر. " ثم مسح رأسه وقدميه إلى الكعبين بفضل كفيه لم يجدد لهما ماء " (2)
وغيرهما من الأخبار المتقدمة التي أكثرها صحاح، بل المتبادر من الأمر بالمسح
هو كون اليد آلة لإيقاعه كما في غيره من الأفعال المتداول ايقاعها باليد، بل
لا يفهم غيره في مثله مما هو متدوال عند العرف فعله باليد من المسح والغسل
وأمثالهما، ومن أجل وضوح الأمر لم يسأل عنه في الأخبار ولم يشك فيه أحد
من أصحاب الأئمة ولا من بعدهم من الرواة.
بل يمكن دعوى استفادة تعين الكف، لما ذكر من التبادر والتداول،
وللروايات المتضمنة لنسبة البلل إلى الكف بدعوى ظهورها في كون آلة ايصال
هذا البلل إلى الممسوح هو ما اضيف اليه البلل لأجل الإضافة، وحينئذ فما عن
شيخنا الأستاذ من تزييف التبادر بأنه من غلبة الوجود وهو غير معتبر غير
مستحسن، وتنظيره بتبادر الباطن غير وجيه.
فإذن الأقوى الأظهر حمل مطلقات المسح على اليد وحمل مطلقات اليد
على الكف، لذلك، فقوله في خبر المعراج: " ثم امسح رأسك مما بقي في يدك " (3)
لايراد منه إلا الكف كغيره مما هو مثله، فالمسألة غير محتاجة إلى التجشم فيها
بقاعدة الاحتياط المأخوذة من قوله: " لا صلاة إلا بطهور " (4) كما سلكها الأستاذ
بعد منعه تمامية دليل الطرفين، لما عرفته من قيام الدليل الواضح على تعين الكف.
وأما تعين الباطن ففيه إشكال، إذ ليس فيه دليل ثبت غير التبادر المضعف
بكونه لأجل غلبة الوجود، وغير ظاهر الوضوءات البيانية المحتمل لكون ايجاده
بالباطن لأجل التعارف الناشئ عن سهولة التناول وعن الدأب والتداول، فلم يبق

(1) الوسائل 1: 272، الباب 15 من أبواب الوضوء، ح 3.
(2) الوسائل 1: 276، الباب 15 من أبواب الوضوء، ح 11.
(3) الوسائل 1: 274، الباب 15 من أبواب الوضوء، ح 5.
(4) الوسائل 1: 256، الباب 1 من أبواب الوضوء، ح 1.
283

إلا الاحتياط المتقدم لو قصر اليد عن إعمال المطلقات الكثيرة المتينة الخالية عن
القيد المفيدة للعموم، لورودها في مقام البيان، ولذا جعله الشهيد في الذكرى أولى
على ما حكي عنه.
وأما تعين اليمنى لذلك فلصحيحة زرارة: " وتمسح ببلة يمناك ناصيتك " (1).
وهو المحكي عن ظاهر الإسكافي، وعن بعض متأخري المتأخرين وهو أيضا
مشكل، لأن حملها على الاستحباب أو على المعتاد عند المتشرعة أولى من تقييد
المطلقات الكثيرة الواردة في مقام البيان كما أشار اليه الأستاذ طاب ثراه.
ويشهد له كيفية الحكاية من حاكي الوضوءات البيانية من قوله: " ثم مسح
رأسه وظاهر قدميه ببلة يساره وبقية بلة يمناه " حيث إنه لم يعتن بحكاية الترتيب
مع وقوع المسح مرتبا قطعا، فيعلم أنه لم يفهم منه الوجوب، وإلا لما أخل به في
مقام الحكاية.
ويؤيده ما عن الحدائق من دعواه أن ظاهرهم الاتفاق على عدم التعين، ومع
هذا فالاحتياط لا ينبغي تركه، لقوة احتمال تعينه، وكون الأخبار محولة إلى
المعهود المتعارف من أنهم لا يرتكبون خلافه، فتأمل.
وأما أولوية وقوعه بالأصابع فلظاهر بعض العبائر الواردة في تحديد مقدار
الممسوح بالإصبع أو الأصابع، وما سمعته مما تضمن أنه يدخل إصبعه، بل عن
الحدائق أنه حكي عن جملة من الأصحاب الاختصاص بها، وهو أشكل من سابقه
لخلوه عن المعين رأسا حتى التداول، والاحتياط مطلوب جدا.
قوله (قدس سره): (وأن يكون) أي المسح (بما بقي في يده من نداوة الوضوء،
فلا يجوز استئناف ماء جديد عندنا) عطف على قوله: " أن يكون المسح
بباطن الكف ".
قوله: " عندنا " دعوى منه للإجماع كما ادعاه في جواهره، وهو كذلك، إذ

(1) الوسائل 1: 272، الباب 15 من أبواب الوضوء، ح 2.
284

لم ينقل الخلاف فيه إلا عن ابن الجنيد وعبارته المنقولة غير صريحة في الخلاف،
لأنه قال: " إذا كان في يد المتطهر نداوة يستبقيها من غسل يديه مسح بيمينه رأسه
ورجله اليمنى وبيده اليسرى رجله اليسرى، ولو لم يستبق ذلك أخذ ماء جديدا
لرأسه ورجليه "، إذ يحتمل أن يكون سمى المأخوذ من مواضع الوضوء ماء
جديدا، أو يكون ذلك لشدة حر أو حرارة على القول بجوازه، ويؤيد حصول
الإجماع ما عن الانتصار من عده إياه من متفردات الإمامية، وكذا نقله عن
الأساطين كالخلاف والمعتبر والذكرى وغيرهم ممن يضاهيهم.
مضافا إلى المستفيضة المعتبرة كحسنة زرارة بإبراهيم بن هاشم التي هي
صحيحة على الصحيح من قوله: " ومسح مقدم رأسه وظهر قدميه ببلة يساره وبقية
بلة يمناه ". وقول أبي جعفر (عليه السلام): إن الله وتر يحب الوتر، فقد يجزيك من الوضوء
ثلاث غرفات واحدة للوجه واثنتان للذراعين، وتمسح ببلة يمناك ناصيتك، وما
بقي من بلة يمناك ظهر قدمك اليمنى، وتمسح ببلة يسارك ظهر قدمك اليسرى " (1).
وحسنة زرارة وبكير أيضا بابن هاشم: " ثم مسح رأسه وقدميه ببلل كفه لم
يحدث لها ماء جديدا " (2) وما في خبر بكير: " ثم مسح بفضل يديه رأسه
ورجليه " (3) وخبر محمد بن مسلم: " ثم مسح رأسه ورجليه بما بقي في يديه " (4)
وما في خبر أبي عبيدة الحذاء: " ثم مسح بفضلة الندى رأسه ورجليه " (5) وما في
خبر زرارة: " ثم مسح ببلة ما بقي في يديه رأسه ورجليه، ولم يعدهما في الإناء " (6)

(1) الوسائل 1: 272، الباب 15 من أبواب الوضوء، ح 2.
(2) تقدمت في ص 282، 283.
(3) الوسائل 1: 273، الباب 15 من أبواب الوضوء، ح 4.
(4) الوسائل 1: 274، الباب 15 من أبواب الوضوء، ح 7.
(5) الوسائل 1: 275، الباب 15 من أبواب الوضوء، ح 8.
(6) الوسائل 1: 275، الباب 15 من أبواب الوضوء، ح 10.
285

وفي آخر: " ثم مسح رأسه وقدميه إلى الكعبين بفضل كفيه لم يجدد ماء " (1).
وما تقدم في الوضوءات البيانية وكحسنة ابن اذينة بإبراهيم أنه: " لما اسري
بالنبي (صلى الله عليه وآله) إلى السماء أوحى الله اليه: ادن يا محمد (صلى الله عليه وآله) - إلى أن قال: - ثم أوحى
الله أن اغسل وجهك فإنك تنظر إلى عظمتي، ثم اغسل ذراعك اليمنى واليسرى،
فإنك تلقى بيديك كلامي، ثم امسح رأسك بما بقي في يدك من الماء ورجليك
إلى الكعبين فإني اباركك، واوطئك موطئا لم يطأه أحد غيرك " (2).
بل يدل عليه الأخبار المستفيضة الدالة على أخذ الماء من مواضع الوضوء
من اللحية والحاجبين والأشفار عند نسيان المسح، وجفاف ما في اليد، أو لغيره
من الأعذار، أو إعادة الوضوء، ففي بعضها أنه: " إن لم يبق من بلة وضوئك شيء
أعدت الوضوء "، وفي آخر: " من نسي مسح رأسه ثم ذكر أنه لم يمسح رأسه، فإن
كان في لحيته بلل فليأخذ منه وليمسح رأسه، وإن لم يكن في لحيته فلينصرف
وليعد الوضوء " (3).
ثم لا يخفى أن القدر المسلم من تلك الأدلة لزوم ايقاع المسح ببلة الوضوء
وعدم اجزائه بماء جديد خارجي، وأما تعينه في خصوص ما بقي في باطن
الكفين ففيه إشكال، بل صريح الأستاذ - طاب ثراه - نفي الخصوصية وتجويز
ايقاعه بمطلق بلل الوضوء تحكيما للمطلقات، لكونها أقوى من المقيدات فلا تتقيد
بها، ثم قال: " وعلى فرض تكافؤ الحملين فاللازم هو الرجوع إلى إطلاق الآية
والروايات الدالة على وجوب مجرد المسح باليد، والثابت بالإجماع وغيره هو
وجوب استصحاب الماسح لبلل، أما كونه بلل خصوص اليد فلم يثبت " انتهى.
وتدافع هذه الدعوى لما ذكره - طاب ثراه - في رد المحقق وابن إدريس
المصححين للمسح عند مغلوبية ما في الكف من البلة بماء خارجي من قوله
- طاب ثراه -: " ظاهر الأخبار وجوب ايصال البلة بواسطة اليد على أن تكون اليد

(1) الوسائل 1: 275، الباب 15 من أبواب الوضوء، ح 11.
(2) تقدمت في ص 282.
(3) الوسائل 1: 288، الباب 21 من أبواب الوضوء، ح 7.
286

آلة للايصال لا وجوب ايصال اليد المبلولة، انتهى.
واضح، إذ كما يمكن نفي خصوصية بلة الكف كذلك يمكن نفي خصوصية بلة
الوضوء، فكيف خصوصية خلوصها عن الخلط بغيرها؟ فلولا دعوى تبادر
الخصوصية لم يستقم رد ما صححاه وبعد تسليم التبادر وقضية التداول يتعين بلة
الكف كما هو ظاهر الأخبار وكلمات الأخيار أيضا، كما يفصح عنه عنوان التعذر
في الأخبار وكلمات الأبرار في جواز الأخذ من سائر المواضع كما اعترف به
هو (قدس سره) بقوله: " ولكن الانصاف أن هذه المحامل إنما تحسن... الخ " فإن اشتراط
أخذ البلل من المواضع المذكورة بجفاف ما في الكف صريح في تعين بللها
للمسح، بل يمكن دعوى انصباب المطلقات من قول: " امسح بيدك "، وقول:
" امسح بما بقي فيها " على الغالب المتعارف الذي لا يتعداه فهم العرف. ولذا استقر
المذهب على عدم إجزاء الماء الجديد.
وحينئذ فكما يمكن دعوى ورود المقيدات على الغالب المتعارف من وقوع
المسح ببلة الكف كذلك يمكن دعوى ورود المطلقات المحتوية للمسح ببلة
الوضوء أيضا على الغالب المتعارف، من كون المراد بها ما بقي منها في الكف،
فيبقى أنه لا دليل على التعدي عن غير القدر المسلم من كون اليد آلة في ايصال
بلتها إلى الممسوح.
وكيف كان الأقوى عدم جواز المسح ببلة غير الكف، لما ذكرناه ولصريح
الأخبار المتقدمة في إفادة الخصوصية من قوله: " ببلة يمناك " أو " ببلة يمناه "،
أو " ببلة كفك " وأمثالها مما هو صريح في تعينها للمسح، فيقيد بها المطلقات.
نعم في تعين وقوعه ببلل الباطن إشكال، لعدم دليل عليه عدا وقوع المسح
كذلك في الوضوءات البيانية وما في بعض الكلمات من أنه إذا تعذر المسح
بالباطن مسح بظاهر الكف ولا حجية في شيء منهما، لأن وقوع الفعل به في
البيانيات محمول على التعارف الناشئ من السهولة والترتيب المذكور في بعض
الكلمات، مع أنه لا حجية فيه يمكن حمله على إرادة العادي لا الشرعي كما هو
287

المحكي عن الشهيد الثاني.
نعم بناء على ما ادعيناه في مطلقات المسح ببلة الوضوء أو ببلة اليد أو بفضل
نداوة الكف من احتمال انصبابها على الغالب المتعارف لا يبقى دليل على جواز
المسح بالظاهر أيضا في حال الاختيار، فيجب الرجوع فيه إلى قاعدة الاحتياط
المأخوذة من قوله: " لا صلاة إلا بطهور " وإن كان العمل بالمطلقات لا ضير فيه كما
عمل بها القوم فيه، بل وفي أزيد منه كما عرفت، والاحتياط مطلوب فيه، وفي
الفروع المترتبة عليه كأخذ البلة عند تعذر المسح به، لعدم البلل، أو عند تعذر
المسح به لمانع آخر من تقدم المسح بالظاهر على سائر المراتب.
قوله (قدس سره): (ولو تعذر الباطن لمرض ونحوه أجزأ المسح بغيره) لسلامة
المطلقات حينئذ عن التقييد لو لم يدع انصرافها إلى الفرد الغالب، لأن الوضوءات
البيانية لا تقتضي إلا رفع اليد عنها في حال الاختيار كما نبه عليه الأستاذ - طاب
ثراه - هذا، مضافا إلى ما ورد في أخذ البله من سائر مواضع الوضوء عند جفاف ما
في اليد فإنه يستكشف منه كون ذلك هي الطهارة المائية المطلوبة منه في هذه
الحالة، ومعه لا يسع أن يحتمل في مثل الفرض الانتقال إلى التيمم.
قوله (قدس سره): (والأولى) بل الأحوط كما علقه عليه السيد الأستاذ جناب
الميرزا - طاب ثراه -، وظهر لك وجهه مما تقدم (المسح بظاهر الكف، فإن
تعذر فالذراع) لما عرفته من سلامة مطلقات: " امسح من فضل نداوة وضوئك "
في قصة ابن يقطين، و: " ثم امسح رأسك بفضل ما بقي في يدك من الماء " في قضية
المعراج، وخصوص مرسلة الصدوق عن الصادق (عليه السلام): " إن نسيت مسح رأسك
فامسح عليه وعلى رجليك من بلة وضوئك، فإن لم يبق في يدك من نداوة
وضوئك شيء فخذ من لحيتك وامسح به رأسك ورجليك، فإن لم يكن لك لحية
فخذ من حاجبيك، فإن لم يكن بقي من بلة وضوئك شيء فأعد الوضوء " (1) عن

(1) من لا يحضره الفقيه 1: 60، باب فيمن ترك الوضوء أو بعضه، ح 134، الوسائل 1: 288، الباب 21 من أبواب الوضوء، ح 8.
288

المعارض، فإن ظاهرها لزوم المسح ببلة الوضوء بقدر الإمكان، غاية الأمر أن
يدعى تعين الماسح في خصوص الكف في حال الإمكان، ولكن بعد فهم كونها
لمجرد الآلية لا يبقى مجال للتأمل في سقوطها في صورة التعذر، وفي انتقال
الحكم إلى غيرها من أعضاء الوضوء مما يصلح لآلية هذا العمل، وهو ايصال بلة
الوضوء إلى العضو الممسوح.
وبالجملة بعد استفادة أن المسح لا بد أن يقع ببل الوضوء كما هو صريح
الأخبار المتقدمة، وكون اليد آلة لإيصال تلك البلة إلى الممسوح كما سبق
استفادتها منها لا يبقى مجال للتأمل في وجوب هذا الوضوء ولزوم ايقاع مسحه
بالترتيب المذكور، وعدم الانتقال إلى التيمم بناء على فهم خصوصية الباطن
في الآلية، لبداهة لزوم الاقتصار في الاختصاص بحال الاختيار.
قوله (قدس سره): (ويجب جفاف الممسوح على وجه لا تنتقل منه أجزاء إلى
الماسح فيقع المسح بها وبما في اليد، نعم لا بأس بنداوة الممسوح لا على
الوجه المزبور) قد بين (قدس سره) الفرع على وجه أشار به إلى جهة المنع والفساد وهو
وقوع المسح بالمشترك من الداخل والخارج المانع من صحة استناده إلى أحدهما
بالخصوص، ومنه تبين وجه الصحه في الفرع الثاني وهو كون النداوة الخارجية
مغلوبة مستهلكة في ضمنه، كما أن منه يستفاد وجه القول الآخر وهو صحة العمل
مع تساوي الماءين، بل مع مغلوبية ماء الوضوء كما حكي عن المحقق في المعتبر
وابن إدريس في السرائر الحكم بصحة المسح فيهما معللا كما عن الأول بأن يديه
لا ينفك عن ماء الوضوء، ولا يضره ما كان على قدميه من الماء، وتصحيحهما
المسح هنا ناشئ عن تصحيحهما المسح لمن أتى بالغسلة الثالثة التي هي محكومة
عندهم بكونها بدعة ومستدلا بأنه مسح بغير خلاف كما عن الثاني.
وقد وضح لك مما أسلفناه من دعوى ظهور الأخبار في وقوع المسح ببلة
289

الوضوء، وكون اليد آلة في وصولها إلى الممسوح عدم صحة ما ذكراه نظير ما لو
طولب مسح الرأس بالدهن فإنه لا يشك في عدم صدقه عند مزجه بغيره مع عدم
استهلاك ذلك الغير فيه، ووجه استظهار اختصاص وقوع المسح بالبلة خالصة
وكون اليد آلة من الأخبار إنما يتضح بذكر جملة منها ليتأمل فيها المتأمل، ولا
يرمي المستظهر بسهم الهذل والجزاف، منها ما عن المفيد في إرشاده، عن محمد
ابن إسماعيل، عن محمد بن الفضل، عن علي بن يقطين، وفيه: " بعد أن أمر (عليه السلام)
علي بن يقطين بالوضوء على وجه التقية وبعد صلاح حاله عند الرشيد كتب (عليه السلام)
إليه: يا علي توضأ كما أمر الله تعالى، اغسل وجهك مرة واحدة فريضة، واخرى
اسباغا، واغسل يديك من المرفقين، وامسح بمقدم رأسك وظاهر قدميك من فضل
نداوة وضوئك، فقد زال ما كنا نخافه عليك " (1) فانظر بعين الانصاف فهل ترى فيه
لوقوع المسح باليد المبلولة بأي بلة كانت أثرا حتى تتمسك بصدقه في مثل
المسألة؟! حاشا، بل من الواضح ظهوره في كون اليد آلة في ايصال بلة الوضوء
إلى المحل الممسوح.
وأوضح منه الصحيح المروي عن الكافي (2) والعلل (3) المتضمن لقصة أمر
النبي (صلى الله عليه وآله) بالوضوء ليلة المعراج الذي قد تقدم، وفيه: " ثم امسح رأسك بفضل
ما بقي في يدك من الماء ورجليك إلى الكعبين ".
ومثلهما في الوضوح ما قدمناه قريبا من حسنة زرارة وأخيه بكير بابن هاشم
أو صحيحتهما، وخبر بكير الآخر، وخبر محمد بن مسلم، وخبر أبي عبيدة، وخبر
زرارة المتضمنة بأجمعها لكون المسح ببلل الكف وفضلها وفضل اليد والنداوة،
وأمثالها كالوضوءات البيانية المتقدمة في غسل الوجه، والأخبار الواردة في حكم

(1) الارشاد للمفيد: ص 295.
(2) الكافي 3: 482 - 485، كتاب الصلاة باب النوادر، ح 1.
(3) علل الشرائع: باب علل الوضوء و... ص 312.
290

من لم يبق في كفه بلل وجف ما فيها من فضل الوضوء، فإنه لا يبقى للمتأمل فيها،
بل الناظر فيها - ما لم يتعسف - مجال لأن يحتمل أن المطلوب في الوضوء المسح
باليد المبلولة بأي بلة كانت، أو باليد المبلولة ببلة الوضوء وان لم يتأثر المحل بتلك
البلة لقلتها أو لاستهلاكها في ضمن الغير فيتأتى منه توهم أصالية اليد في ذلك،
وكونها مطلوبة ذاتا، وكون البلة مطلوبة تبعا، بل يقطع بأن مطلوبيتها الثابتة
بالإجماع إنما هي على وجه التبعية والآلية، وأن المقصود الأصلي إنما هو ايصال
بلة الوضوء إلى الممسوح.
قوله (قدس سره): (ولا يضر كثرة ما في الماسح وإن حصل منه جريان بعد أن
كان القصد المسح، أو لم يكن من قصده الغسل) وفاقا لما حكي عن الذكرى
حيث قال: " لا يقدح اكثار ماء الوضوء لأجل المسح، لأنه من بلل الوضوء،
وكذا لو مسح بماء جار على العضو وإن أفرط الجريان، لصدق الامتثال، ولأن
الغسل غير مقصود " انتهى.
لما عرفته من أن المأمور به المسح بماء الوضوء وفضل مائه الباقي في اليد
من دون تقييد بعدم الجريان مع تداول أقل مرتبة الجريان في أغلب الوضوءات،
بل استحباب الإسباغ في الوضوء ربما يشعر بترخيص خصوص ما يحصل فيه
الجريان، وهذا هو المناسب لسهولة الملة السمحة، إذ في ملاحظة عدم تحقق أقل
مسمى الجري حرج ولو في الجملة، بل الوقوع في الحرج الشديد والعسر الأكيد
ملازم لما هو المشهور من لزوم تأثر المحل ببلة الوضوء، والتحفظ عن عدم
حصول أقل مراتب الجري لغلبة عدم التوافق، نعم يكفي التأثر بعد لزوم اعتباره
وإن لم يتحقق الجري الدهني، لصدق المسح بالبلة، وكون الأقل هذا المقدار هو ما
اختاره الأستاذ، وحكاه عن النهاية وعن الذكرى أيضا حيث قال: " الغرض
بالمسح عندنا وصول البلة بواسطة اليد، فلا يكفي وصول البلة وحدها " انتهى.
كما لا يكفي وصول اليد إذا لم يتأثر المحل من بلتها وهذا الذي ذكرناه من
لزوم التأثر وهو ظاهر ما حكي عن المنتهى في رد من قال بكفاية بل موضع
291

المسح بالمطر قال: " لأن الشرط هو استعمال الماء الباقي من نداوة الوضوء " انتهى.
وهو ظاهر من حكي عنهم عدم جواز المسح ما دام المحل مصاحبا للرطوبة
ما لم ينشفه بمقدار ما يؤثر فيه بلل الوضوء، وحصل هناك منه شيء بلا مغلوبية ولا
امتزاج محقق للشركة كما حكاه الأستاذ عن المختلف، وعنه عن والده، وعن
التذكرة، وعن الذكرى والدروس مع التصريح بأن المراد بالتنشيف هو أخذ الماء
من المحل لا جعله جافا يابسا.
وبالجملة فبعد ثبوت أن أقل المسح هو تأثر المحل بالبلل لا يبقى مجال
للتأمل في عدم ضرر في الجري بعد أن قصد به المسح، بل لم يقصد به الغسل بناء
على كفاية النية الاجمالية الحاصلة من النية الابتدائية المفصلة، إذ بعد عدم قصد
الغسل بهذا الفعل يقع جزءا من وضوئه المائي به بداعي الأمر، ومن المعلوم أن
جزءه هذا مسح لا غير، فيقع في الخارج بعنوان المسحية فقد صار منويا به المسح
ضمنا، وهو كاف في صرف هذا الموجود الخارجي القابل لكونه غسلا بلحاظ
نفسه إلى المسح المباين له بلحاظ قصد الفاعل.
فتنقح مما ذكرنا أن بين المسح والغسل تباينا بلحاظ الفاعل من حيث
الصدور عنه وعموما من وجه بلحاظ نفس الوجود الخارجي، إذ مورد الاجتماع
هو ما انتقل منه الماء من محل إلى آخر بإعانة اليد، فهو مسح لكونه حاصلا من
إمرار اليد المنوي به المسح وغسل لتحقق أقل الجري، ومورد افتراق المسح هو ما
قل فيه النداوة بمقدار ما يتأثر به الممسوح ولا يتحقق معه فيه أقل مراتب الجري،
ومورد افتراق الغسل واضح مباينة لبلة الغسل المنوي به ذلك دائما، ولا يتصادقان
في مورد أبدا إلا بعد الاغضاء عن حيث صدورهما عن الفاعل كما لو شاهد
المحل من لم يطلع على حقيقة الحال فإنه يحتمل كلا منهما لقابليته في نفسه لهما،
كما لو لم يقصد الفاعل شيئا منهما وأوجد الصورة القابلة لهما بلا قصد خصوصية لو
لم يدع صرفه قهرا إلى الغسل عرفا، نظير المطلق المنصرف إلى بعض أفراده، لعدم
ذكر القيد.
292

قوله (قدس سره): (ولو كان غسل يده بالادخال في الماء أو المكث فيه ثم
أخرجها فإن كانت اليسرى لم يجز له المسح بها، وإن كانت اليمنى فإن
استعملها في غسل اليسرى جاز، وإلا فلا، بخلاف ما لو غسلها بالإخراج)
قد تقدم ما به يتنقح حقيقة هذه الفروع وما ضاهاها، وأن المناط صدق وقوع
المسح ببلة الوضوء بالخصوص، أو في الجملة ولو ضمنا، وسمعت نسبة كفاية
الضمنية إلى المحقق وابن إدريس والإسكافي، وعرفت أن الحق خلافه وأن
الاشتراك مع التساوي مضر فكيف مع المغلوبية كما في الفرض، لتحقق الغسل
الوضوئي قبل الإخراج، فالعالق باليد بعده ماء جديد غالب على بلة الوضوء
كما هو واضح؟!
نعم لو قصد الوضوء بالإخراج يتحقق غسل الكف الوضوئي به وبعده لم يلاق
ماء خارجيا فيكون العالق بها من بلة الوضوء فيصح المسح به.
قوله (قدس سره): (نعم لا بأس بالمسح بما بقي في يده بعد تمام الغسل وإن
كرر امرار يده على العضو استظهارا) لأنه من ماء الوضوء الباقي في الكف
بعد تمامه المنصوص صحة المسح به في أخباره، نعم لو كرر الامرار لاغيا لا
للاستظهار يدور صحة المسح به حينئذ مدارما سيذكر من جواز خلط ما في الكف
بغيره من بلل الوضوء، لأن تكرار الامرار لا للاستظهار لا يتصف بالاستحباب كما
أشار اليه الأستاذ، بل هو لغو صرف، فلا يعد الماء الحاصل منه في اليد من الماء
الباقي فيها بعد الوضوء، بل هو ماء خارجي بالنسبة إلى الكف، فيتوقف صحة
المسح به على جواز المسح بمطلق ماء الوضوء.
قوله (قدس سره): (بل الأقوى أنه لا بأس باختلاط ما بقي في يده مع شيء
مما بقي على أعضاء الوضوء من مائه اختيارا، وإن كان الأحوط احتياطا
شديدا الاقتصار في المسح على ما بقي في يده بعد تمام الغسل) وجه
عدم البأس على ما يستفاد من الأستاذ في طهارته قوة الإطلاقات وعدم قابلية
المقيدات لتقييدها، فيتعين العمل بها حيث قال - طاب ثراه -: " ومن الانصاف أن
293

إطلاق المرسلة ورواية ابن يقطين، وكذا إطلاق فتاوى من أطلق البلل أقوى من
مقيدات النصوص والفتاوى في التقييد، مع أن اللازم - على تقدير تكافؤ الحملين -
هو الرجوع إلى إطلاق الآية (1) والروايات (2) الدالة على وجوب مجرد المسح
باليد، والثابت بالإجماع وغيره وجوب استصحاب الماسح لبلل، أما كونه بلل
خصوص اليد فلم يثبت. فالقول بالاطلاق إذا لا يخلو عن قوة، وفاقا لظاهر الألفية
والموجز وشرحه، وصريح المسالك والروض والمقاصد العلية والمدارك
والمشارق وغيرها، بل الكل بناء على ما ذكره الشهيد الثاني من حمل كلماتهم
على إرادة الترتيب العادي لا الشرعي، انتهى.
ووجه تقديمه المطلقات على المقيدات مع ما هو المعهود منه - طيب رمسه -
من تقديمه المقيد الواحد البالغ أدنى درجة الحجية على مطلقات كثيرة عدم ظهور
مقيدات المقام في مدخلية الخصوصية، لاحتمال سوقهاعلى ما هو المتعارف من
أن من كان في كفه بلل لا يوجد المسح ببلل غير الكف غالبا.
وهذا هو مراد ثاني الشهيدين من كون الترتيب في كلمات القوم، وفي
الأخبار في مقام أخذ البلة عند جفاف ما في الكف عاديا لاشرعيا، وهذا هو
المعنى من تكافؤ الحملين في كلامه (قدس سره)، حيث إن الحمل على الغالب كما يحتمل
في المقيدات فلا يختلف المراد منها مع المطلقات، بل تنطبقان، كذلك الحمل على
الغالب محتمل في المطلقات أيضا، فتكون قد سيقت على المعهود المتعارف من
أن من كان في كفه بلة لا يمسح عند ايقاعه المسح بها ببلة يأخذها من غيرها من
مواضع الوضوء فاريد من المطلق ذلك الفرد المعهود المتعارف اعتمادا على تلك
القرينة، وهو المعهودية عند العرف على وجه يسبق إلى أذهانهم ذلك الفرد عند
سماعهم المطلق، بل يمكن دعوى أنهم لا يفهمون من المطلق سواه.

(1) المائدة: 6.
(2) الوسائل 1: 271، الباب 15 من أبواب الوضوء.
294

إذا عرفت هذا تعلم أنه ليس لنا مطلق سليم عن هذا الاحتمال حتى يكون
هو المرجع عند تكافؤ غيره مع المقيدات في هذا الاحتمال، بل الكل مبتلى
بدعوى هذا الانصراف فيها.
فإذا الأقوى كما قواه هو - طاب ثراه - في ما علقه على الرسالة عند قول
المصنف " وإن كان الأحوط " بقوله: " هذا لا يخلو عن قوة " ظاهر الاقتصار مع
الاختيار ببلة الكف وعدم جواز خلطه بغيره من بلل الوضوء وفاقا للأكثر،
بل الأشهر كما صرح به بعض من تأخر على ما في المستند، بل فيه نقل الإجماع
عن السيدين والشهيد لو لم يكن في قبال الإسكافي المجوز للمسح بماء جديد.
وكيف كان فالمعتمد هو ظهور المقيدات في الخصوصية كمرسلة الفقيه (1)
وما ضاهاها من رواية مالك بن أعين (2) ورواية خلف (3) وأمثالهما من مشترطي
جواز الأخذ من اللحية والأشفار والحاجبين عدم بقاء شيء منها في الكف،
وكحسنة ابن اذينة المتضمنة لهبوط جبرئيل (عليه السلام) على رسول الله (صلى الله عليه وآله) بغسلين
ومسحين غسل الوجه والذراعين ومسح الرأس والرجلين بفضل النداوة التي
بقيت في يديك من وضوئك والوضوءات البيانية وصحيحة زرارة المتقدمة، مع
ما عرفته من دعوى ظهور المطلقات أيضا في ذلك كما تقدم.
وعلى فرض سقوط المقيدات عن الاعتبار للاحتمال المذكور لا شك أن
المطلقات أسوأ حالا منها، لقوة ذلك الاحتمال فيها، فليرجع في المسألة بعد قطع
اليد عن الأدلة اللفظية إلى قاعدة الاحتياط الآتي من قبل " لا صلاة إلا بطهور "،
المشكوك حصول الطهارة بالمسح ببلة غير الكف عند إمكان ايجاد المسح ببلة.
قوله (قدس سره): (نعم لو جف ما في يده قبل المسح به لنسيان أو غيره من

(1) من لا يحضره الفقيه 1: 60، باب في أحكام الوضوء، ح 134.
(2) الوسائل 1: 288، الباب 21 من أبواب الوضوء، ح 7.
(3) الوسائل 1: 287، الباب 21 من أبواب الوضوء، ح 1.
295

الأعذار جاز له الأخذ مما على أعضاء الوضوء والمسح به، والأحوط
تقديم ما على اللحية والحاجبين ونحوهما مما هو من الوجه) من غير
خلاف فيه إلا من الإسكافي من تجويزه المسح بماء جديد المتيقن منه صورة
جفاف اليد، لأ نك عرفت في المسألة السابقة أنهم بين مجوز للمسح بماء الوضوء
مطلقا ومشترط له بجفاف ما في الكف إما مطلقا أو خصوص الباطن منها، وجواز
المسح بمطلق بلة الوضوء في الفرض مما لا إشكال فيه، لمرسلة الصدوق عن
الصادق (عليه السلام): " إن نسيت مسح رأسك فامسح عليه وعلى رجليك من بلة وضوئك،
فإن لم يبق في يدك من نداوة وضوئك شيء فخذ من لحيتك وامسح به رأسك
ورجليك، فإن لم يكن لك لحية فخذ من حاجبيك وأشفار عينك، فإن لم يكن بقي
من بلة وضوئك شيء فأعد الوضوء ".
وقريبة منها مرسلة خلف بن حماد عنه (عليه السلام)، وفي رواية مالك بن أعين:
" فإن كان في لحيته بلل فليأخذ منه وليمسح رأسه، وإن لم يكن في لحيته بلل
فلينصرف ويعد الوضوء " المنجبرتين بالعمل، وتخصيص اللحية والحاجب فيهما
بالذكر لكونهما من مظان البلة بعد جفاف اليد، وإلا فلا خصوصية لهما لو لم نقل
بتقديم بلل الذراع عليهما، لصدق بلة اليد عليه.
وبالجملة يدل على عدم خصوصية للمذكورات قوله (عليه السلام) في المرسلة: " فإن
لم يكن بقي من بلة وضوئك " فأخذ البلة من كل موضع فيه نداوة قابلة للأخذ من
غير خصوصية ولا ترتيب بين الأعضاء مما لا شبهة فيه.
قوله (قدس سره): (فإن لم يبق شيء من نداوة الوضوء استأنف) لما تقدم من
الخبرين المنجبرين في هذا الحكم أيضا بلا خلاف فيه بين القدماء والمتأخرين،
لما احتملوه من موافقة الإسكافي هنا لفوت الموالاة، وعن كاشف اللثام أنه
مقطوع به مروي. وبلل مسترسل اللحية بحكم العدم، لعدم كونه من أعضاء الوضوء
فبلته من الماء الخارج.
296

وتوهم كونها من ماء الوضوء لكونها من مسترسل مائه تجويز للمسح بما
اجتمع من مائه في الإناء، لعدم فرق بينهما في كونهما من غير أعضاء الوضوء وفي
أن المستقر فيهما من فاضل مائه، مع أنه خلاف الإجماع عند المانعين عن
استئناف الماء، فما في الجواهر من تجويز الأخذ من مسترسل اللحية وإن استبعده
هو أيضا لا وجه له أصلا، سيما مع تعميمه الحكم لصورة عدم استحباب غسل
المسترسل.
قوله (قدس سره): (ولو فرض عدم إمكان حفظ نداوة الوضوء لشدة حر أو
غيره مسح بدونها) ولكن حكى في الجواهر عن المعتبر والمنتهى والقواعد
والذكرى وجامع المقاصد والمدارك وعن غيرها وجوب استئناف ماء جديد،
وذكر فيه المسح باليد الخالية احتمالا كالرجوع إلى التيمم، وهو كذلك بمقتضى ما
ادعاه الأستاذ - طاب ثراه - حيث إنه قال: " المسح باليد المجردة لم يقل به أحد
فيما أعلم "، وقال أيضا: " القول بالتيمم فيما نحن فيه لم يعرف لأحد ".
وكيف كان ذكر استئناف الماء، واستدل عليه بالضرورة، ونفي الحرج، وصدق
الامتثال، واختصاص أدلة المنع عن استئناف الماء بحال الاختيار، وقاعدة
الميسور وما لا يدرك.
وفيه أن تلك الأدلة لا تقتضي جواز الاستئناف سيما مع الإشكال في جريان
قاعدة الميسور في القيود، بل الأولى بملاحظة تلك الأدلة الحكم بسقوط المسح
رأسا بعد ما تحقق عدم رفع اليد عن المائية بمقتضى ما سمعته عن الأستاذ - طاب
ثراه - من عدم جواز الرجوع إلى التيمم من جهة عدم القول به، وإلا كان مقتضى
القاعدة الرجوع إلى التيمم، إلا أنه لما كان القول باستئناف الماء هو مقالة
الأصحاب.
ويمكن تطبيقه على قاعدة الميسور أيضا بالتقريب الذي ذكره الأستاذ من
كون إمرار اليد لا مطلوبية فيه إلا على وجه الآلية كما تقدم، وأن المطلوب بالذات
هو المسح ببلة الوضوء، ولما تعذر قيد كونها من الوضوء يؤخذ بميسورها وهو
297

ايقاع المسح بمطلق البلة كما سقط قيد مباشرة الماسح للممسوح في مسألة المرارة
لا مناص عن القول بوجوب هذا الوضوء، فيدخل هذا الوضوء الناقص في الطهارة
المائية، ومع تحققها لا مجال للترابية لترتبها عليها وتوقفها على تعذرها.
فإذن الأقوى المسح بالماء الجديد وعدم كفاية المسح باليد المجردة، كما
علقه عليه الأستاذ - طاب ثراه - بقوله: " لا يجزي ذلك قطعا ".
ولكن مع ذلك لا ينبغي ترك الاحتياط بالجمع بينه وبين الاحتمالين، وهو
المسح باليد المجردة وإيجاد تيمم بعد ذلك الوضوء إن أمكن كما ذكره بقوله (قدس سره):
(والأحوط المسح بعد ذلك بماء جديد، ثم التيمم) ولا يخفى عليك أنه
ينوي بمسحه أولا باليد المجردة الاحتياط، لما قويناه من أن التكليف حينئذ
المسح بماء جديد.
قوله (قدس سره): (وثانيهما) أي ثاني المسحين الذي هو رابع أعضاء الوضوء وبه
يتم (مسح القدمين) الثابت كتابا (1) وسنه (2) وإجماعا عند الفرقة المحقة، بل
عند الكل، لجوازه عندهم في الجملة، بل على ثبوته بالخصوص ضرورة المذهب.
قوله (قدس سره): (والواجب مسح ظاهرهما) اجماعا كما ادعاه الأستاذ، وحكي
عن كاشف اللثام وشارح الدروس وسيد الرياض، وظاهرالغنية، بل لا يكاد يتأمل
في حصوله من تتبع الكلمات، ولقول أمير المؤمنين (عليه السلام): " لولا أني رأيت
رسول الله (صلى الله عليه وآله) مسح ظاهر قدميه لظننت أن باطنهما أولى بالمسح من الظاهر " (3)
وقول أبي جعفر (عليه السلام) في صحيح زرارة: " وتمسح ببلة يمناك ناصيتك وما بقي من
بلة يمينك ظهر قدمك اليمنى، وتمسح ببلة يسارك ظهر قدمك اليسرى " (4)
وغيرهما.

(1) المائدة: 6.
(2) الوسائل 1: 294 - 297، الباب 25 من أبواب الوضوء، انظر الباب.
(3) الوسائل 1: 292، الباب 23 من أبواب الوضوء، ح 9.
(4) الوسائل 1: 272، الباب 15 من أبواب الوضوء، ح 2.
298

فما في بعض الأخبار من مسح باطنهما أيضا كمرفوعة أبي بصير (1) وخبر
سماعة (2) مع ما فيهما من ضعف السند وعدم الجابر، بل وإعراض القوم عنه على
التقية محمول كما فيه شواهدها لائحة.
قوله (قدس سره): (ومقداره الطولي من أطراف الأصابع إلى الكعبين، وهما قبتا
القدمين وداخلان في الممسوح كالمرفقين في المغسول) أما تحديد الطول
بالمقدار المذكور، فعلية الإجماع عن الخلاف والانتصار والتذكرة والمنتهى
والذكرى والمعتبر، وحصوله هو مقتضى ما ذكره الأستاذ من دعواه ظهور عدم
الخلاف في المسألة.
ويدل على استيعاب تمام المقدار المذكور بعد الإجماع الوضوءات البيانية (3)
من وقوع التعبير فيها بقوله: " مسح إلى الكعبين " لظهور الغاية، بل صراحتها في
الاستيعاب، وصحيحة زرارة بناء على أخذ الموصولة وهو قوله: " ما بين كعبيك
إلى أطراف أصابعك " (4) بدلا عن قوله: " بشيء من قدميك "، أو جعلها خبرا لمبتدأ
محذوف، وجعل الجملة الثانية بيانا للجملة الاولى.
ولا يرد عليه ما أورده الأستاذ من كونه خلاف الإجماع، لظهوره حينئذ في
الاستغراق الطولي والعرضي معا، لأنه مدفوع بأن دلالته على الاستيعاب الطولي
حينئذ بصراحة اللفظ واستفادة الاستيعاب العرضي منه بالإطلاق الناشئ عن عدم
ذكر القيد، وهذا الاطلاق ليس بتلك المثابة من الظهور لقابلية المقام للاعتماد على
ما هو المتداول المعروف عند الشيعة من كفاية المسمى بدعوى معروفية عدم
الاستيعاب عرضا في سالف الزمان أيضا، سيما مع ملاحظة ما عن زرارة من قضية

(1) الوسائل 1: 292، الباب 23 من أبواب الوضوء، ح 7.
(2) الوسائل 1: 292، الباب 23 من أبواب الوضوء، ح 6.
(3) الوسائل 1: 271 - 281، الباب 15 من أبواب الوضوء، انظر الباب.
(4) الوسائل 1: 272، الباب 15 من أبواب الوضوء، ح 3.
299

المسح ببعض الرأس فإنه يعلم منها مسلمية كفاية المسح بالبعض عندهم في
موضع المسح.
وأن الاستيعاب في الخط الطولي في الرجل إنما جاء من لفظة " الكعبين "
الواردة في الكتاب (1) والسنة (2) أو للحوالة على ما صدر منهم (عليهم السلام) من
الوضوءات البيانية المعلوم منها عدم الاستيعاب عرضا والخدشة في ظهور
الصحيحة في هذا المعنى بابداء احتمال بدلية الموصولة عن كلمة " القدمين " أو
بدليتها عن لفظة " شيء " مع كون الباء تبعيضية الظاهرة بهذين التقديرين في كون
المقدار المذكور من الرجل كمقدم الرأس محلا للمسح.
يدفعها سوق الإمام (عليه السلام) ذلك الكلام لبيان لزوم الاستيعاب الطولي كما يفصح
عنه استدلاله (عليه السلام) لإثبات مدعاه، واستشهاده عليه بالآية الظاهرة في الاستيعاب،
بناء على أن الغاية إما غاية للفعل أي المسح أو غاية للممسوح، وأيا ما كان
فذكرها يدل على الاستيعاب، وإلا لكان لغوا، إذ على الأول معنى انتهاء الفعل إلى
الكعب هو الاستيعاب، وعلى الثاني بيان لمقدار ما يجب أن يمسح من الرجل
كالمرفقين في اليد، ولازم وقوع المسح على هذا المقدار هو الاستيعاب، إذ لو كان
المسمى من الظهر كافيا في تحقق الواجب لوجب تعيين محل المسح من الرجل
بالظهر كالناصية في الرأس، ولا يناسب تقييده بالغاية أبدا، بل ذكرها لغو صرف،
بل مخل بالكلام، ولا يصدر من الحكيم، فافهم، كما تقدم توضيحه في غسل المرفق.
وبالجملة فمخالفة ظاهرها للإجماع لو سلم ظهورها في الاستيعاب العرضي
لا يوجب رفع اليد عما هو نص فيه من الاستيعاب الطولي.
وبهذا التقريب يسع الاستدلال على المدعى بصحيح محمد بن أبي نصر عن
الرضا (عليه السلام): " سألته عن المسح على القدمين كيف هو؟ فوضع كفه على الأصابع

(1) المائدة: 6.
(2) الوسائل 1: 290 - 292، الباب 23 من أبواب الوضوء.
300

فمسحها إلى الكعبين إلى ظاهر القدم، فقلت: جعلت فداك لو أن رجلا قال
بإصبعين من أصابعه هكذا، فقال: لا إلا بكفه " (1)، فإن اشتماله على خلاف
الإجماع من ايجاب المسح بتمام الكف بظاهره لا يقدح، لإمكان صرفه إلى
الاستحباب من تلك الجهة، كما ربما يؤيده ذكر الإصبعين في قباله، حيث إنه أيضا
غير لازم لو لم يرد منه أداء وظيفة العمل بالاستحباب، للإجماع على كفاية
الواحدة في خصوص الرجل ولا أقل من كون الإصبعين خلافا للإجماع، لأن مع
التعدي عن الواحدة وعدم الكفاية بها يجب ثلاثة أصابع، أو المسح بتمام الكف.
وكيف كان الحكم بلزوم استيعاب المقدار الطولي نظرا إلى جملة ما ذكر
لإثباته مما لا ينبغي أن يتأمل فيه.
وأما كون الكعبين قبتي القدمين فقال الأستاذ: إنه لا إشكال ولا خلاف فيه
بين الإمامية، كما عن المقنعة: " إن الكعب في كل قدم واحد، وهو ما علا منه
في وسط القدم "، وعن التهذيب الإجماع على هذا المعنى، ومثله عن الذكرى،
وعن الانتصار اتفاق الامامية عليه، وعن المعتبر عليه إجماع فقهاء أهل البيت
وعن التنقيح نسبته إلى أصحابنا، وعن النهاية الأثيرية نسبته إلى الشيعة الإمامية.
وبالجملة كون هذا المعنى هو المراد من الكعب مما لا ينبغي التأمل فيه في
مقابل ما يقول به العامة من كونهما عبارة عن العظمين اللذين في جانبي الساق.
نعم هنا إشكال آخر في تصحيح كلام العلامة بعد اعترافه بأن الكعب هو ما ذكروه
لا غير من قوله: " إنه هو العظم الناتئ الواقع في مجمع الساق والقدم "، وقد أخذ
بعض المتأخرين في التشنيع عليه بمخالفة هذا التفسير للإجماع والأخبار وقول
أهل اللغة، وذكر في رده كلمات من القوم وطائفة من الأخبار مثل ما ورد من
وصفه (عليه السلام) الكعب بما في ظهر القدم.
ومثل ما دل على عدم وجوب إدخال اليد الماسحة تحت الشراك، وطائفة مما

(1) الوسائل 1: 293، الباب 24 من أبواب الوضوء، ح 4.
301

فيها النقل عن اللغويين مثل ما عن الذكرى والمدارك من أن لغوية الخاصة متفقون
على أن الكعب هو الناشز في ظهر القدم، وما عن الذكرى أيضا أن عميد الرؤساء
صنف كتابا في الكعب أكثر فيه من الشواهد على أن الكعب هو الناتئ في ظهر
القدم أمام الساق، وما يقع معقد الشراك إلى غير ذلك مماهو مثل ما ذكر.
وفي مقابل هذا البعض الطاعن ما عن كنز العرفان فإنه بعد اختياره مذهب
العلامة طعن على القول بأن الكعب هو العظم الناتئ، ورد ذلك بأنه مما لا شاهد له
لغة ولا عرفا ولا شرعا.
وذكر الأستاذ - طاب ثراه - كلاما اصلاحا بين الفرقتين وقال: إن الانصاف
أن الطعن الواقع في المقام في غير محله، لاتحاد كلمات العلامة مع القوم في التعبير
عن الكعب فإنه قال في التذكرة: إن الكعبين هما العظمان الناتئان في وسط القدم،
وهما معقد الشراك، وبه قال الشيباني، وهذا التعبير هو ما ادعى في المعتبر اجماع
فقهاء أهل البيت (عليهم السلام) عليه، وهذا بعينه هو المحكي عن السيد والطبرسي والشيخ
والحلي وغيرهم.
نعم عبر المفيد عنهما بقبتي القدمين، وادعى الشيخ في التهذيب الإجماع عليه
مع تعبيره عنهما في غيره بما ذكرنا عن العلامة، فيدل ذلك على أن التعبيرين
متحدان مفادا كما يفصح عنه تعبير المحقق عنهما أولا بقبتي القدمين، ثم تفسيره
بما ذكرناه عنه مدعيا عليه الإجماع.
فعلم أن العلامة بزعمه لم يخالف أحدا وإنما يدعي إرادة العلماء من العبارة
هو ما ذكره (قدس سره)، فلا ينبغي رده بكلمات هؤلاء، بل ينبغي أن يطالب بالدليل أو
القرينة على ما يدعيه من أن مراد القوم هو الواقع في مجمع الساقين والقدمين،
ثم ذكر - طاب ثراه - له شواهد من الأخبار وكلمات الأخيار كصحيح الأخوين
المفسر للكعب بالمفصل (1).

(1) الوسائل 1: 291، الباب 23 من أبواب الوضوء، ح 4.
302

أقول: ولا طائل تحته، والحق هو أن الكعب قبة القدم، وظني أن العلامة أيضا
يقول بذلك، لأن تعبيره بمعقد الشراك نص فيها فيصرف بها قوله أعني مجمع الساق
والقدم إلى ما يجتمع معها، ولا يخالفها.
وأما دخول الكعبين في الممسوح فلما ذكر في المرفق من دعوى الإجماع
على أن " إلى " بمعنى " مع "، وإن كان القول بعدم دخوله بتمامه لا يخلو عن قوة
كما ينبئ اليه أخبار عدم وجوب استبطان الشراك والاحتياط غير خفي.
قوله (قدس سره): (ولا تقدير للعرض فيجزي بعد استيعاب الطول من العرض
ما يتحقق به اسم المسح) باجماع الأصحاب وأخبارهم المتواترة معنى، كما
في طهارة الأستاذ - طاب ثراه - وعن التذكرة حكاية القول بوجوب ثلاثة أصابع
عن بعض، لرواية معمر التي تقدمت في مسح الرأس مع جوابها (1).
نعم يبقى الكلام في صحيحة البزنطي (2) المعتبرة لتمام الكف المعتضدة بحسنة
عبد الأعلى مولى آل سام الواردة في المسح على الإصبع المغطى بالمرارة (3)
الآبيتين في بادي النظر عن الحمل على الاستحباب كما ارتكب في رواية معمر.
وجه الاباء أن المستحب يجوز أن يترك في غير حال الضرورة، فكيف فيها؟
فلو لم يجب الاستيعاب لما كان وجه لالزام المسح على الإصبع المغطى بالمرارة،
لجواز القناعة حينئذ بغيره من الأصابع، إلا أنه يسهل الخطب عدم العامل بهما غير
الصدوق على ما ذكره الأستاذ، وإن مال اليه الأردبيلي أيضا، وعن المدارك أنه
لولا إجماع المعتبر والمنتهى لأمكن القول بمضمون الصحيحة، هذا.
ولكن يرده معارضتها بحسنة زرارة بابن هاشم وفيها بعد الاستشهاد على
وجوب الاستيعاب في الغسل بقوله: " فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق "

(1) الوسائل 1: 288، الباب 21 من أبواب الوضوء، ح 5.
(2) الوسائل 1: 293، الباب 24 من أبواب الوضوء، ح 4.
(3) الوسائل 1: 327، الباب 39 من أبواب الوضوء، ح 5.
303

قال: " ثم قال تعالى: (وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم) فإذا مسحت بشيء من
رأسك أو بشيء من قدميك ما بين كعبيك إلى أطراف أصابعك فقد أجزأك " (1).
المعتبرة عند صاحب المدارك أيضا، مضافا إلى المستفيضة المعتبرة كرواية جعفر
ابن سليمان (2) ومرسلة الصدوق (3) الواردتين في إدخال اليد في الخف المخرق،
ومرسلة خلف بن حماد الواردة في أخذ البلل لمسح الرأس والرجلين من الحاجبين
وأشفار العين (4) ورواية معمر بن خلاد المتقدمة (5) في إجزاء مسح ثلاثة أصابع،
إلى غير ذلك الدالة على عدم لزوم الاستيعاب، فليحملا على ما قبلاه من الحمل،
أو فليتركا لعدم التكافؤ، فالمسألة من تلك الجهة خالية عن الإشكال بحمد الله.
قوله (قدس سره): (ويجوز مقبلا ومدبرا وإن كان الأولى الأول) أما جواز
النكس، فلأنه المشهور كما حكي، لإطلاق الآية (6) وصريح الرواية في صحيح
حماد: " لا بأس بمسح الوضوء مقبلا ومدبرا " (7) وفي آخر له أيضا أنه " لا بأس
بمسح القدمين مقبلا ومدبرا " (8) وفي مرسل يونس الذي هو كالصحيح قال:
" أخبرني من رأى أبا الحسن (عليه السلام) بمنى يمسح ظهر قدميه من أعلى القدم إلى
الكعب ومن الكعب إلى أعلى القدم، ويقول الأمر في مسح الرجلين موسع من شاء
مسح مقبلا ومن شاء مسح مدبرا فإنه من الأمر الموسع إن شاء الله " (9) وارساله
بالشهرة منجبر لو احتاج إلى الجبر.

(1) الوسائل 1: 272، الباب 15 من أبواب الوضوء، ح 3.
(2) الوسائل 1: 291، الباب 23 من أبواب الوضوء، ح 2.
(3) من لا يحضره الفقيه 1: 48، الطهارة / باب حد الوضوء، ح 98.
(4) تقدمت في ص 294.
(5) تقدمت في ص 273.
(6) المائدة: 6.
(7) الوسائل 1: 286، الباب 20 من أبواب الوضوء، ح 1.
(8) الوسائل 1: 286، الباب 20 من أبواب الوضوء، ح 3.
(9) الوسائل 1: 286، الباب 20 من أبواب الوضوء، ح 3.
304

وأما أولوية عدم النكس كما في الذكرى وعن الدروس، بل حكي عدم
الجواز عن ظاهر الفقيه والمقنعة والانتصار، وعن ابني حمزة وزهرة وأبي
الصلاح، وصريح السرائر، فلدعوى ظهور " إلى " في انتهاء فعل المسح إلى
الكعبين، ولما في بعض الوضوءات البيانية (1) من أنه مسح من الأصابع إلى
الكعب، وقد تقدم أن فعله في مقام البيان يجب أن يؤخذ به، ولما تقدم أيضا من
صحيح أحمد بن محمد حين سأله عن كيفية المسح فوضع كفه على الأصابع، ثم
مسحها إلى الكعبين (2) ولكنها لما لا تنهض لإثبات التعيين فلتحمل على الفضل.
أما كلمة " إلى " فلأنه قد ادعي ظهورها في كونها غاية للمسوح لا المسح، مضافا
إلى ما تقدم من دعوى الإجماع على كونها بمعنى " مع " فلا يبقى مجال لدعوى
ظهورها في انتهاء الفعل إلى الكعب بمجرد تلك اللفظة، وأما الوضوء البياني
فقد قيدنا وجوب الأخذ بما فيه بما لم يثبت خلافه من عادية الفعل أو استحبابه،
وفي المقام قد ثبت جواز النكس بالصحيح المعتضد بالشهرة.
وأما صحيح البزنطي (3) فمن الواضح وروده مورد حكم آخر، لوقوع السؤال
فيه عن كيفية المسح من حيث المقدار، مضافا إلى ما فيه من عدم إمكان حمله من
تضمنه المسح بتمام الكف على الوجوب، لمخالفته حينئذ للإجماع كما تقدم، فلم
يبق شيء يدل على تعين الاستقبال في مسح الرجلين، وإن كان لا ينبغي ترك
الاحتياط بأن لا يوجد المسح مدبرا، بل يمسح مقبلا كما أشار اليه الأستاذ في ما
علقه هناك بقوله: " بل لا يترك احتياطا ".
قوله (قدس سره): (ولا ترتيب بينهما) فيجوز المعية وتقديم اليسرى على اليمنى
كما حكي عن الحلي والفاضلين والنفلية والبيان وغيرهم من المتأخرين، بل عن

(1) الوسائل 1: 272 - 281، الباب 15 من أبواب الوضوء، ح 3.
(2) الوسائل 1: 293، الباب 24 من أبواب الوضوء، ح 4.
(3) تقدم في ص 330.
305

المدارك والبحار نسبته إلى الشهرة المطلقة، بل عن الحلي أنه قال: " لا أظن أحدا
منا يخالفنا في ذلك ".
واستدل عليه في الجواهر مضافا إلى الإجماع والشهرة المنقولين بإطلاق
الكتاب والسنة وبظهور الوضوءات البيانية في الإطلاق والرخصة في الأقسام
الثلاثة من أجل عدم تعرضه لحكاية الترتيب بينهما مع ذكره الترتيب في غيرهما
فإنها تفيد بهذا الاعتبار عدم اعتباره فيهما، ولأنه لو وجب لشاع، لعموم البلوى.
واستظهر أيضا من خبر عبد الرحمن بن كثير الهاشمي عن الصادق (عليه السلام) في حكاية
تعليم أمير المؤمنين (عليه السلام) محمد بن الحنفية الوضوء الذي ذكر (عليه السلام) الدعاء عند كل
فعل منه من قوله: " ثم مسح رجليه فقال: اللهم ثبت قدمي على الصراط يوم تزل
فيه الأقدام... الخ " (1) فإن في جعل دعائهما واحدا إشارة إلى أنه لا ترتيب بينهما،
وأنهما في الوضوء بمنزلة فعل واحد.
ولكن مع ذلك قال بوجوب الترتيب بينهما جماعة كما حكي عن صريح
المراسم والفقيه وجامع المقاصد واللمعة والروضة والمدارك، وهو المحكي عن
الصدوقين وابن الجنيد وأبي عقيل، بل عن خلاف الشيخ دعوى الإجماع عليه.
والأقوى عدم جواز تقديم اليسرى كما علق الأستاذ هنا على قوله:
" والأحوط أن لا يقدم مسح اليسرى على اليمنى بقوله: " بل لا يخلو عن قوة "
وفاقا لما حكي عن جماعة من متأخري المتأخرين من التفصيل للتوقيع
المروي في الاحتجاج عن المسح على الرجلين يبدأ باليمين، أو يمسح عليهما
جميعا فوقع (عليه السلام) يمسح عليهما، فإن بدأ بأحدهما قبل الاخرى فلا يبدأ إلا
باليمين (2) فإنه (عليه السلام) أوجب تقديم اليمنى في غير صورة المقارنة من قوله: فإن
بدأ بأحدهما قبل الاخرى فلا يبدأ إلا باليمين، وهو شاهد جمع بين الأخبار

(1) الوسائل 1: 282، الباب 16 من أبواب الوضوء، ح 1.
(2) الاحتجاج: في توقيعات الناحية المقدسة ص 492، س 13.
306

المتعارضة وغيرها من أدلة الطرفين، فيحمل الأمر بالبدأة باليمين في حسن
محمد بن مسلم: " امسح على مقدم رأسك، وامسح على القدمين وابدأ بالشق
الأيمن " (1) وفي المروي في رجال النجاشي: " إذا توضأ أحدكم فليبدأ باليمين
قبل الشمال من جسده " (2) كفعل النبي (صلى الله عليه وآله) أنه: " كان إذا توضأ بدأ بميامنه " (3)
على الفضل أو على مريد ايقاعهما مرتبا، ليحمل ما لا يقبل الحملين كالمروي
عن النبي (صلى الله عليه وآله) بعد السؤال عمن بدأ بالمروة قبل الصفا يعيد من قوله: ألا ترى
أنه لو بدأ بشماله قبل يمينه في الوضوء يعيد الوضوء على الأجزاء الغسلية
منه (4) هذا.
مضافا إلى عدم تمامية شيء من أدلة الطرفين سندا أو دلالة، كما لا يخفى
على المتأمل فيهما.
قوله (قدس سره): (كما لا يختص أحدهما بماسح، وإن كان الأحوط مسح
اليمنى باليمنى ثم اليسرى باليسرى) لما تقدم من أن الواجب هو وقوع المسح
ببلة اليد وبفضل نداوتها، ونحن قد خصصناها بالكف لبعض الخصوصيات المعتبرة
أو للانصراف فيبقى الخصوصية من تلك الجهة خالية عن المعين، لعدم ما يقوم
باثباتها، هذا. مضافا إلى ما ذكره في الجواهر من أنه لم يعثر على ناص على
الخصوصية، وعلى وجوب تعيين اليمنى لليمنى واليسرى لليسرى.
فإذن الأقوى جواز ايقاع المسح ببلة الكف مطلقا وإن كان ما ذكره (قدس سره) من
الاحتياط لا يحسن تركه لبعض الوضوءات البيانية، ولحسنة زرارة بابن هاشم:
" تمسح ببلة يمناك ناصيتك وما بقي من بلة يمينك ظهر قدمك اليمنى، وتمسح ببلة

(1) الوسائل 1: 316، الباب 34 من أبواب الوضوء، ح 2.
(2) رجال النجاشي: ص 7.
(3) الوسائل 1: 316، الباب 34 من أبواب الوضوء، ح 3.
(4) الوسائل 1: 526، الباب 10 من أبواب السعي، ح 4 و 5، وفيهما عن أبي عبد الله (عليه السلام).
307

يسارك ظهر قدمك اليسرى " (1) لأنهما لانصبابهما على المتعارف غير ناهضين
لإثبات الخصوصية والمنع عن غير تلك الكيفية، ولكن لما لم يكن فيهما أيضا ما
يسقطهما عن الاعتبار والظهور رأسا من ضعف السند أو الدلالة أو متروكية العمل،
فلا ينبغي أن يترك العمل بهما فنأخذ بهما على ما هو ظاهرهما، سيما مع ملاحظة
أن ما هو متعارف وصادر عن الناس لو خلوا وطباعهم المتعودة باتيان المتعارف
لا يحسن للامام ذكره عند كونه في صدد بيان الأحكام والوظائف الشرعية،
خصوصا بهذا الاهتمام كما بمثله سلكنا في التفصيل المروي عن الاحتجاج فمن
أجله صح أن يقال: إن ذكره دليل على مطلوبيته. ومنه ينقدح تقديم الرجل اليمنى
لو رتب ولم يقارن.
قوله (قدس سره): (وإذا قطع بعض موضع المسح مسح على ما بقي) لما تقدم له
من الوجه في الاقتصار على غسل ما بقي من اليد المقطوعة عما دون المرفق.
قوله (قدس سره): (ولو قطع جميعه سقط المسح كما سمعته في اليد) مستوفى،
وأنه لا ينتقل إلى التيمم بمجرد تعذر الإتيان بذلك العضو كلا أو بعضا، كما في قطع
الكل أو البعض من الأجزاء المغسولة، لقاعدة الميسور وما لا يدرك وأمثالهما
بالتقريب المذكور في غسل اليد، مع إمكان دعوى الخصوصية في جريان القاعدة
هنا، لعدم كونه عمدة في نظر العرف كأعضاء الغسل.
قوله (قدس سره): (بل لا يخفى عليك جريان ما تقدم فيها) يعني في اليد (وفي
مسح الرأس من حكم الزائد) يعني دخول النابت منه في الممسوح (والمسح
بالبلة وتجفيف الممسوح، ونحو ذلك) ولا يخفى عليك عدم تمامية العبارة
والاحتياج إلى ذكر لفظة " هنا " أو " فيه " بعد قوله: و " نحو ذلك ".
قوله (قدس سره): (نعم الأحوط هنا عدم الاجتزاء بمسح الشعر عن البشرة وإن
كان الاجتزاء لا يخلو عن قوة) كما استظهر عن الحدائق وحكي عن الشيخ

(1) الوسائل 1: 272، الباب 15 من أبواب الوضوء، ح 2.
308

كاشف الغطاء في المتكاثف، لعموم ما أحاط به الشعر، وقد عرفت ضعفه في مسألة
غسل اليد.
فإذن الأقوى ما علقه عليه الأستاذ من قوله: " الأشهر الأحوط الأقوى عدم
الاجتزاء "، بل عن المدارك وكشف اللثام والشهيد الثاني وغيرهم من متأخري
المتأخرين الإجماع عليه، بل عن الحدائق أن ظاهر كلمة الأصحاب الاتفاق على
أن من الحائل الذي لا يجزي المسح عليه الشعر هنا.
ومما يؤيد حصول الإجماع أنه (قدس سره) لم ينسب إلى أحد في جواهره هذا الذي
اختاره من كفاية المسح على الشعر مع كمال احتياجه إلى الرفيق.
قوله (قدس سره): (وأحوط من ذلك جمعهما في المسح) البشرة أصالة، والشعر
لشبهة التبعية كما مر في الشعرات الخفيفة في اليد.
قوله (قدس سره): (أما غير الشعر كالخف ونحوه فلا يجزي المسح عليه قطعا)
في حال الاختيار، وهو مذهب فقهاء أهل البيت (عليهم السلام) كما عن المعتبر، ومذهب
أهل البيت كما عن المنتهى، ونحوهما غيرهما، وفي الجواهر بل الإجماع عليه
محصل. كما أن الأخبار بالمنع عنه قريبة من التواتر، ولا يضر وقوع التعبير فيها
ككلام الأصحاب على الخصوصات كالخف والجرموق والجورب والشمشك
وأمثالها، لوضوح كون ذكرها من باب التمثيل لا لخصوصية فيها كما يرشد اليه
الاستدلال للمنع بالآية، وبأنه سبق الكتاب المسح على الخفين كمافي رواية
زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) في قضية جمع عمر أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) وسؤاله عنهم
عن المسح على الخفين، وجواب مغيرة بن شعبة رأيت رسول الله يمسح على
الخفين، فإن فيها أنه قام علي (عليه السلام) وقال: أقبل المائدة أو بعدها! وأنه (عليه السلام) قال:
سبق الكتاب المسح على الخفين " (1).
فلا ينبغي الإشكال حينئذ في تعميم الحكم لكل حائل كما هو صريح معاقد

(1) الوسائل 1: 323، الباب 38 من أبواب الوضوء، ح 6.
309

جملة من الإجماعات، وهذا معنى قوله (قدس سره): (من غير فرق بين شراك النعل
العربي وغيره).
قوله (قدس سره): (إلا لتقية فيجوز حينئذ على الخف وغيره، كما تجوز
المخالفة في باقي أفعال الوضوء لها أيضا) لإمكان دعوى عدم شمول أخبار
المنع للمقام، ولخصوص ما ورد في الرخصة معها كرواية أبي الورد: " فقلت:
هل فيهما - أي الخفين - رخصة؟ فقال: لا، إلا من عدو تتقية أو ثلج تخافه على
رجليك " (1)، ومن الجمع بين الثلج والتقية فيها في ترخيص المسح على الخفين
يعلم عدم الفرق بينهما وبين سائر أفراد الضرورة في كونها من أسباب الترخيص
عند تحققها بشرائطها، فيسع التمسك فيها حينئذ بخبر عبد الأعلى الوارد في
المسح على المرارة (2)، والرضوي: " ولا تمسح على جوربك إلا من عذر أو ثلج
تخافه على رجليك " (3) وما ضاهاهما معتضدا بعموم أدلة نفي الحرج، هذا.
مع أن المسألة لا خلاف فيها ظاهر كما يظهر من المستند من قوله: " بلا خلاف
معروف "، ومن الجواهر من قوله: بلا خلاف أجده بين أصحابنا "، بل عن صريح
المعتبر وغيره الإجماع عليه، بل هو محصل عند شيخ الجواهر، هذا.
مضافا إلى عمومات التقية الشاملة للمقام ولو بإعانة ما ذكر من الشهرة
المحققة والإجماع المستفيض النقل، بل المحصل كما عرفت دعواه من الجواهر.
وحينئذ فلا يضر اشتمال جملة من الأخبار على استثناء المسح على الخف
عما يتقي فيه كصحيح زرارة وخبره: " ثلاث لا أتقي فيهن أحدا شرب المسكر
ومسح الخفين ومتعة الحج " (4) وخبر أبي عمرو: " والتقية في كل شيء إلا في

(1) الوسائل 1: 322، الباب 38 من أبواب الوضوء، ح 5.
(2) الوسائل 1: 327، الباب 39 من أبواب الوضوء، ح 5.
(3) فقه الرضا: ص 68 س 9.
(4) الوسائل 1: 322، الباب 38 من أبواب الوضوء، ح 3.
310

النبيذ، والمسح على الخفين " (1) لأنها محمولة على ما يتحملها من المحامل كعدم
إجراء التقية فيها لمعلومية المذهب فيها، والتقية فائدتها إخفاء المذهب، أو لأنها
يعتبر فيها عدم المندوحة، وتلك الثلاثة واضحة فيها ثبوت المندوحة كغسل
الرجل الموجب لنزع الخف، فيتمكن من الإتيان بالمسح خفاء، أو لتقدم الغسل
على المسح عند التقية كما يأتي، أو غير ذلك من المحامل، ولذا لم ير عامل بها
كما في الجواهر.
قوله (قدس سره): (بل الأقوى جواز المسح المزبور لها وإن أمكن تأديها
بالغسل، لكن الأحوط تعين الغسل حينئذ) بل هو الأقوى الأشهر كما علقه
عليه الأستاذ - طاب ثراه -، لفحوى جواز المسح بالماء الجديد عند تعذره بنداوة
الوضوء، فيعلم أن عند تعذر إيصال بلة الوضوء إلى المحل الممسوح يكتفي بما هو
أقرب اليه من مسحه باليد المبلولة مطلقا، لأنه القدر الممكن مما كان واجبا من
مباشرة اليد الممسوح ببلة الوضوء، فإذا تعذر بعضه أتى بالممكن منه، وهو هنا
مباشرة اليد المحل في ضمن الغسل، بل هو مسح حقيقة، بناء على ما تقدم عن
المحقق وابن إدريس من وقوع المسح بماء الوضوء في ضمن ذلك الماء الخارجي
فيمن توضأ وأدخل يده الماء.
وبالجملة من هنا يأتي صحة التمسك للمقام بقاعدة الميسور وما لا يدرك،
والاتيان بالمستطاع من الأمر. ويؤيد تعينه أخبار نفي التقية المسح على الخفين،
ولعله لذا أو لغيره حكم القوم بتعينه كما عن المدارك نسبته إلى قطع الأصحاب،
وكذا عن الذخيرة نسبة وجوب الغسل إلى الأصحاب، ويؤيده حكاية الوجوب
عن الذكرى والتذكرة والروض والبيان، وعن الحدائق أنه صرح به جملة من
الأصحاب، ومع ذلك كله لا ريب أنه أحوط لدوران الأمر بين التعيين والتخيير،
إذ لم ينقل القول بتعيين المسح هنا كما قالوا بتعيين الغسل.

(1) الوسائل 11: 468، الباب 25 من أبواب الامر والنهي، ح 3.
311

قوله (قدس سره): (كما أن الأحوط اعتبار عدم المندوحة في التقية مطلقا
خصوصا في المسح على الخفين وشرب المسكر ومتعة الحج، وإن كان
الأقوى خلافه في الثلاثة وغيرها خصوصا في أماكن سطوتهم وسلطنتهم،
بل الظاهر استحباب التحبب إليهم فيها بالتقية) قد اختلف كلمة الأصحاب
في اعتبار عدم المندوحة في شرعية التقية وفي كيفية عذريتها، فعن المدارك
ومحكي بعض متأخري المتأخرين اعتبار عدمها فيها، وكونها كسائر الأعذار
المتوقف تحقق عذريتها على عدم المناص عنها، وهو صريح ظاهر من تمسك
فيها بأدله الحرج كما عن الفاضلين، ولكن عن صريح البيان وجامع المقاصد
والروض كفاية ترتب الضرر على تركها في جواز العمل بمقتضاها وإن قدر الفاعل
على التخلص عنها بتغيير الوقت أو المكان أو غير ذلك، فالمعتبر في عذريتها كون
مخالفتها مظنة الضرر بمقتضى حال المكلف بما هو عليها بعكس المدارك ونظرائه
فإن ضرريتها عندهم منوطة بعدم إمكان التخلص عنها بوجه من الوجوه، وإلا
فتزول ومع ذلك قد ادعى غير واحد أن خصوص التأخير إلى آخر الوقت غير
لازم فيها فتفارق سائر الأعذار عند من يوجب الانتظار، ولم يجوز البدار فيها.
والأقوى ما حققه الأستاذ من التفصيل بين ما يوجب تغيير الموضوع فلا
يجب، وما يوجب تلبيس الأمر على المخالف مع ايجاده الفعل بطبق الواقع متلبسا
بصورة الخلاف من دون تغيير المكلف حالته التي هو عليها، فيجب كما علقه على
الرسالة بقوله (قدس سره): " الأقوى اعتبار عدم المندوحة في مكان التقية، نعم لا يجب
التفصي عن موضوع التقية بأن يخرج إلى مكان لا تقية فيه أو يبذل مالا ليأمن من
الخوف " (1) لرواية البزنطي عن إبراهيم بن هاشم قال: كتبت إلى أبي جعفر الثاني
أسأله عن الصلاة خلف من تولى أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يمسح على الخفين " قال:

(1) الوسائل 5: 427، الباب 33 من أبواب صلاة الجماعة، ح 2. وفيه إبراهيم بن شيبة بدل
هاشم وفيه اختلاف يسير في التعبير.
312

فكتب لا تصل خلف من يمسح على الخفين، فإن جامعك وإياهم موضع لا تجد
بدا من الصلاة معهم فأذن لنفسك وأقم... " إلى آخر الرواية.
ورواية دعائم الإسلام بسنده عن أبي جعفر (عليه السلام): " لا تصلوا خلف ناصب ولا
كرامة، إلا أن تخافوا على أنفسكم أن تشبروا أو يشار إليكم، فصلوا في بيوتكم، ثم
صلوا معهم، واجعلوا صلاتكم معهم تطوعا " (1) كما يومئ اليه أيضا ما ورد من أن:
" كل شيء يضطر اليه ابن آدم ففيه التقية " (2) فإن ظاهره بيان ضابط التقية نفيا
واثباتا، ومعلوم تحقق الاضطرار في الحال التي يكون الإنسان عليها، إذا لم يعرف
وجه التلبيس عليهم مع عدم تغييره ما هو طريقة السلوك المتعارف في تلك الحال،
وعدم الصدق مع قدرته على الحيلة من دون تغيير الوضع والهيئة بايجاد العمل في
تلك الحال على الوجه المتعارف مطابقا للواقع كما علمه (عليه السلام) لابن هاشم، ومثله
رواية معمر بن يحيى: " كل ما خاف المؤمن على نفسه فيه ضرورة فله فيه
التقية " (3) والمرسل المحكي في الفقه الرضوي عن العالم (عليه السلام): " لا تصل خلف
أحد إلا خلف رجلين أحدهما من تثق به وبدينه وورعه، والآخر من تتقي سيفه
وسوطه وشره وبوائقه وشنعته فصل خلفه على سبيل التقية والمداراة " (4).
ويؤيده أيضا روايات نفي التقية عن الثلاثة المتقدمة بحملها على التمكن من
تركها بحسب المتعارف، لأن النبيذ ليس مما يجب شربه حتى لا يمكنه التخلص
منه بالعادة فهو متمكن من أن يحكم بالحلية ولا يشرب، ومتعة الحج موافق لعملهم
في الحج مع كونهم قارنين ومنفردين، لدخولهم مكة قبل أعمال الحج وتجويزهم
الطواف والسعي المستحبين، ويلبون بعدهما لشبهة التحليل، والمتمتع ينويهما
الواجب فيقصر ويحل عن إحرامه، ثم يحرم للحج ثانيا ويلبي وهم غافلون

(1) دعائم الاسلام 1: 151، في ذكر الإمامة.
(2) الوسائل 11: 468، الباب 25 من أبواب الامر والنهي، ح 2.
(3) الوسائل 16: 136، الباب 12 من أبواب جواز الحلف باليمين الكاذبة، ح 16.
(4) فقه الرضا: 144، باب صلاة الجماعة.
313

عن المنوي، والمسح على الخفين يبدله بغسل الرجلين اللذين هم أميل اليه، ثم
يمسح بيده قبل صب الماء على رجله ويري الناظر أنه يعين بيده ايصال الماء
إلى بشرة الرجل.
وبالجملة لا دليل على ترك الواقع وعلى مخالفة التكليف في أزيد مما يتضرر
المكلف من قبله، غاية الأمر أن يلاحظ في التضرر حال الفاعل بما هو عليه،
وايجاده الفعل بحسب المتعارف بلا تغيير وضع ولا تغيير سلوك، بل يجري في
العمل على ما يقتضيه العرف والعادة والدواعي النفسانية، ويحسب المخالف كأحد
أصدقائه، فإن كان يقدر مع ذا على ايجاد الواقع وتلبيس الأمر عليه من دون أن
يغير هيئته ولا أن يطلع هو على مخالفة وضع، بل يريه أنه أتى بالعمل على طبق ما
هو واقع عنده فليفعل، وإلا فليتق بما يقتضيه المقام، ولا يتوقع التخلص بتغير
الوقت أو العادة، أو بتبديل المكان أو الحالة، فلا يؤخر السوقي مثلا صلاته إلى
قريب الغروب، بل لو كان من عادة الشخص حضور المساجد مطلقا أو في الأيام
المتبركة كشهر الصيام مثلا، أو كان متعارفه دعوتهم إلى الضيافة أو حضور
ضيافتهم فلا يترك شيئا من ذلك، ولا يخالف ما يقتضيه تلك الحال.
بل يعامل معاملة الأحباب والأمثال والأقران، لما يستفاد من الأخبار من أن
الشارع تفضل على الشيعة بجعل مخالفيهم كأحد منهم في المعاشرة معهم معاشرة
الشخص مع أمثاله وأصحابه، فالضرر الملحوظ في ترك التقية معتبر مع هذا
الموضوع وفي تلك الحال، والتخلص أيضا يعتبر بالنسبة اليه مع بقائه على حاله
التي هو عليها، وعدم خروجه عن ذلك الموضوع كما هو مفاد جملة كثيرة من
أخبار الباب الدالة على أن التقية أوسع من سائر الأعذار، وينزل الطائفة الاخرى
الظاهرة في كون التقية كسائر الأعذار فيعتبر فيها ترتب الضرر المسوغ
للمحظورات كالمرض والإكراه وأمثالهما عليها.
وأما الطائفة الثالثة الدالة على رجحان التقية وحسن إظهار التحبب إليهم
وكون الضرر حكمة لشرع التقية فلا يعتبر ترتبه في القضية الشخصية، وفي كل
314

واحد واحد من الوقائع الجزئية فغير قابلة لرفع أدله التكاليف، لعدم سلامتها إما في
نفسها بضعف السند، أو لابتلائها بالمعارض الأقوى من سنخها كالطائفة المعتبرة
للضرر المبيح للمحظورات في شخص القضية في خصوص الفاعل.
فاذا القدر المتيقن في رفع اليد عن التكاليف الواقعية ما تضمنته الطائفة
المتوسطة الدلالة على إناطتها بالضرر، ولكن لا على نحو سائر الضرورات بل
الأمر فيها أوسع منها، كما هو مفاد جملة من أخبارها، لعدم ملاحظة فعلية الضرر
فيها، بل متوقعه أيضا مثل الفعلي وإن كان بعد سنين.
كما أن الضرر الواجب الدفع غير مختص بالفاعل، بل يعمه وسائر الشيعة،
ومنه يأتي اخفاء الجزئيات من المسائل، ولو بعد معلومية كون الشخص شيعيا، بل
ولو مع معلومية ارتكاب الشيعة عندهم إجمالا، لخلاف ما هو عليه في تلك
المسألة، وهو الجامع أيضا بين مختلفاتها كما بيناه، فعليه ينحصر التقية باخفاء
المذهب عن المخالفين ويراعي في غيرهم من المنافقين من أهل المذهب
أو الكفار فعلية الضرر كسائر الضرورات والأعذار.
نعم إذا كان المخالف عند اطلاعه على المذهب مع كون الفعل مستنكرا عنده
يشمئز نفسه بصدره عن كل أحد كالسجدة على التربة أو قول " حي على خير
العمل " في الأذان والإقامة يجب أن يعامل الفاعل معه معاملة التقية، سيما مع
إمكان الإخفاء بأن يظهر أن هذا ليس مذهبا لتمام الشيعة، وأهم من ذلك في لزوم
الإخفاء ما يكون ارتكابه موجبا لكفر مرتكبه ووجوب قتله فورا عندهم كسب
الشيخين مثلا.
فعلم من جميع ما ذكرناه أن قوله (قدس سره): " بل الظاهر استحباب التحبب إليهم فيها
بالتقية " كما هو مفاد جملة من أخبار الباب (1) على إطلاقه غير تام، لعدم
صلاحيتها لرفع اليد عن الأحكام الواقعية الثابتة بالأدلة المعتبرة، فليحمل تلك
الأخبار على ما لا يلزم منه مخالفة للواقع من المعاشرة المتعارفة أو إعمال التورية

(1) الوسائل 11: 467 - 475، الباب 25 و 28 من أبواب الامر والنهي.
315

في العبادات كما علمه (عليه السلام) للبزنطي (1) وغيره من نظرائه.
قوله (قدس سره): (ويجب أن يعامل الخف وغيره معاملة البشرة، فيمسحه
بنداوة الوضوء مستوعبا له بالطول إلى الكعب نحو ما سمعته في بشرة
القدم) كما عن المنتهى نقله عن كافة أهل العلم ما عدا بعض أصحاب مالك،
لقيامه في تلك الحال مقام البشرة وبدليته عنها لتلك الضرورة فيحكم بثبوت ما
للمبدل من الأحكام له الا ما خرج.
قوله (قدس سره): (ولا يجب تخفيف ما على القدم لو كان متعددا وإن كان
هو أحوط) للاقتصار في مخالفة الواقع على ما اقتضته الضرورة وهو أقل
ما يتحقق به التقية أو اقتضته الضرورة، ووجه عدم الوجوب أن الموجود
الخارجي من أفراد ما يتقى به، إذ لم يتعين بالتقية خصوص التحتاني، وإنما اجيز
من قبلها المسح على ملبوس القدم من دون خصوصية لشخصه، فلا ينظر إلى
وحدته أو تعدده فيجوز مطلقا.
قوله (قدس سره): (والضرورة غير التقية كضيق وقت أو خوف عدو، أو غيرهما
من أفراد الضرورة كالتقية في تجويز المسح على الحائل) لما عرفته من
الحرج، وخصوص رواية عبد الأعلى (2) وجملة من أخبار التقية المذكورة فيها
كلمة الضرورة أو بعض مصاديقها كالثلج والعدو، ومن المعلوم أن ذكرهما إنما هو
من باب المثال، هذا.
مع أن المسألة إجماعية كما عن صريح المختلف والحدائق وظاهر التذكرة
والذكرى، إلا أن في خصوص ضيق الوقت إشكالا كما نبه عليه الأستاذ - طاب
ثراه - بما علقه عليه بقوله: " الأحوط في ضيق الوقت ضم التيمم إلى الوضوء "
لأن ضيق الوقت من أسباب الانتقال إلى التيمم، ومعلوم أن المراد بالضيق هو عدم

(1) الوسائل 5: 427، الباب 33 من أبواب صلاة الجماعة، ح 2.
(2) الوسائل 1: 327، الباب 39 من أبواب الوضوء، ح 5.
316

سعة الوقت للإتيان بالوضوء التام المطلق من شخص المكلف، وهذا منه لفرض
عدم سعة الوقت لإتيان المسح المأمور به في الوضوء، فينتقل فرضه إلى التيمم
كما في صورة عدم سعة الوقت للمسح مع عدم الحائل لضيق الوقت عن ايجاد
الوضوء التام.
ولكن لما كان مسألة المسح على الحائل عند الضرورة مسلمة، ويظن أن
المورد أيضا منها كما صرح به جمع منهم، فلا يسع الفقيه الحكم بترك الوضوء رأسا
والاقتصار على التيمم وحده لو لم يرجح كفاية الوضوء وحده، لما أشرنا اليه من
أن المراد بالضيق الضيق عن الوضوء المطلق عن شخص المكلف فيدعى أن مثل
هذا الشخص مضطر إلى مسح الحائل ولو لضيق الوقت، فوضوؤه الذي يوجده في
الوقت تام الأجزاء، لوجدانه للمسح المطلق في تلك الحال، ومع تمامية الوضوء لا
يسع له التيمم وترك الوضوء قطعا.
قوله (قدس سره): (والرأس كالقدم بالنسبة إلى ذلك كله) لعدم الفرق فيما جوزه
الضرورة بين الشرط والشطر، وبين هذا الجزء وذاك الجزء، أو هذا الواجب وذلك
الواجب إلا ما قام عليه دليل بالخصوص فيتبع مفاده.
قوله (قدس سره): (وإذا زال السبب المسوغ لذلك تقية كان أو ضرورة لم يجب
عليه تجديد الطهارة المزبورة وإن كان الأحوط له ذلك، خصوصا إذا زال
وأمكن المسح على البشرة بنداوة اليد) لا يخفى إرادته (قدس سره) من الطهارة
المعادة الأعم من الجزء والتمام كما يشهد له قوله: " خصوصا... الخ "، وكذا إلحاقه
الزوال في الأثناء بالزوال بعد الفراغ هنا، وفي مسألة الجبائر مصرحا به في
المقامين، ولأنه لو بنى على عدم إعادة الجزء أيضا لكونه مشمول الدليل لا يفرق
فيه بين الجزء الأول والوسط والأخير، مع أنه في الأخير بنى على عدم الإعادة
كما هو مفاد حكمه بإعادة المسح بنداوة اليد احتياطا، هذا.
ولكن في التعميم إشكالا وإن قلنا: إن مقتضى الدليل التعميم لما يظهر من
الأستاذ أن عدم إعادة الجزء المتخلف فيه لعذر مع زوال العذر حين الاشتغال،
317

وعدم حصول الفراغ أو متصلا بالفراغ من ذلك العضو، والاكتفاء بحصول العذر
عند اتيانه خلاف الإجماع، لأنه - طاب ثراه - أورده شاهدا على لزوم الإعادة
مطلقا، قال في آخر المسألة: " ويشهد لما ذكرنا أنه لو بنى على الكفاية - يعني به
كفاية حصول العذر عند الوضوء وعدم لزوم تحققه عند الصلاة - فاللازم الاكتفاء
بها في زمان الإتيان بذلك الجزء العذري وإن زال قبل الفراغ والجفاف، مع أنهم
لا يقولون به كما قيل " انتهى كلامه.
فيظهر من كلامه (قدس سره) هذا دعوى الإجماع على الإعادة في المسألة الآتية وهو
زوال العذر في أثناء العمل.
وكيف كان فالأقوى ما ذكره المصنف من الكفاية وعدم الإعادة سواء صلى
بهذا الوضوء شيئا ثم زال العذر أم لم يصل به بعد زوال السبب بعد الفراغ منه، وبعد
فوت الموالاة إذا كان المتخلف الجزء الأخير، لأن الأمر الشرعي مفيد للإجزاء إذا
امتثل وإن كان ظاهريا، والاقتصار في كونه مجزيا بالنسبة إلى نفسه لا مطلقا
راجع إلى اختيار عدم الإجزاء فيه، لأن معنى الإجزاء خروج المكلف عن عهدة
ما عليه من التكليف بهذا الامتثال، ولأن ايجاد تلك الأفعال بداعي الأمر موجب
لرفع الحدث في المحل القابل، وبعد كون المكلف مرتفع الحدث لا معنى لتوجه
أمر " فاغسلوا " - الآية - اليه ولاستصحاب الإباحة بعد زوال السبب، وليس الشك
فيه من الشك في الاستعداد أو الراجع إلى الشك في المقتضي الغير الجاري فيه
الاستصحاب، لأن معنى عدم اعتبار المندوحة في التقية وكون الأمر العذري أمرا
حقيقيا، وكون متعلقه جزاء حقيقيا كما في غيرها على ما يقتضيه الحكم ببطلان
الوضوء بتخلفه عمدا وسهوا، وتحقق أن الآتي به آت بالمأمور به الواقع ولو
الثانوي هو القطع بمبيحيته هذا الوضوء مطلقا، فالشك الحاصل من زوال السبب
شك في الرافع، ومن هنا يصح التمسك أيضا بالصحيحة (1) والموثقة: إذا توضأت

(1) الوسائل 1: 174، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء، ح 1.
318

فإياك أن تحدث وضوء حتى تستيقن أنك قد أحدثت " (1) وقول الأستاذ - طاب
ثراه - فيمن تخلف في مورد التقية مقتضاها وأتى بالواقع الأولى: " أن حكمه
كالمتضرر بمسح البشرة يبطل عمدا إذا لم يتداركه ويصح لا مع العمد بخلاف
سائر الأعذار " انتهى.
فإن مفاده أيضا هو ما ذكرناه حيث إنه - طاب ثراه - حكم بالبطلان مع
التخلف مطلقا، لما قدمه - طاب ثراه - من صيرورة الجزء العذري جزءا حقيقيا، مع
أ نا لا نفهم وجه التفرقة بينهما، حيث إن الشارع (عليه السلام) قد قنع فيهما عن الواقع
بالمأتي به العذري غاية ما بينهما ما استكشفناه من أخبار التقية من أن عدم
المندوحة غير معتبر فيها بمقدار ما يعتبر في سائر الاعذار.
وغير خفي أن قوله هذا مناف لحكمه بالإعادة بعد زوال العذر، لعدم اجتماع
الحكم بالإعادة البناء على كون المسح على الجورب مثلا عند البرد كالمسح على
بشرة الرجل مسحا حقيقيا وجزءا للوضوء واقعيا، سيما مع ما حكم - طاب ثراه -
بعدم إعادة الصلاة وغيرها من العبادات التي اتي بها على وجه التقية، وإن بقي
الوقت.
وصرح أيضا في رد ما حكاه عن المحقق الثاني من التفصيل بين عمومات
التقية وخصوصاتها باقتضاء جملة من العمومات كالخصوصات الرخصة في
امتثال الأوامر على وجه التقية، فما معنى الإعادة حينئذ بعد حصول الامتثال؟!
وما أدري ما دعاه - طاب ثراه - إلى الحكم بالإعادة هنا؟ ويمكن أن يكون
ملاحظة كون الأمر فيه غيريا، وهو مع أنه غير ضائر بعد كونه تعبديا لا يلائم ما
حققه في صدر مسألة الوضوء من أن أمر الوضوء إذا امتثل بمعنى أنه أتى بتلك
الأفعال بداعي الأمر إفادة رفع الحدث في المحل القابل، فعدم التزامه - طاب
ثراه - برفع الحدث في المقام لا أرى له وجها أبدا.

(1) الوسائل 1: 176، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء، ح 7.
319

فإذن الأقوى أن الوضوء العذري طهارة ورافع للحدث يؤتى به مع عدم
انتقاضه بالحدث كل ما يتوقف على الطهارة ورفع الحدث صحة أو كمالا، وفاقا
للأكثر، بل المشهور، وأما الجزء المأتي به لعذر مع زوال العذر في الأثناء أو بعد
الفراغ وقبل فوات الموالاة مع إمكان تحصيله إذا كان المتخلف فيه الجزء الأخير
فالأقوى لزوم إعادته، بمعنى لزوم الإتيان بهذا الجزء، لأن أمر الوضوء لم يمتثل
بعد وهو متمكن من الإتيان بالوضوء التام، فاكتفاؤه بالوضوء الناقص لا وجه له،
لعدم الدليل عليه.
ولذا حكم في المستند فيه بالإعادة احتياطا مع حكمه بعدم إعادة أصل
الوضوء، وقد عرفت دعوى ظهور الإجماع فيه مما حكيناه عن الأستاذ - طاب
ثراه -. وبهذا التفصيل صرح الشيخ الأستاذ الشيخ راضي - طاب ثراه - في ما علقه
على النجاة. فما في جواهر الماتن من حكمه بعدم الإعادة فيهما معا ولا وجه له،
لعدم تحقق أمر ظاهري شرعي متعلق بالجزء ويقتضي اجزاء المأتي به المخالف
للواقع كما أريناك وجوده في نفس الوضوء، وهذا هو الفارق بينه وبين أجزائه،
مضافا إلى سائر ما تقدم من أدلة الصحة.
قوله (قدس سره): (وكذا لو زال في الأثناء) يعني لا يعيد ما أوجده على طبق العذر
من الجزء وإن كان إعادته أحوط.
قوله (قدس سره): (بل الاحتياط فيه أشد) لما عرفته مما قدمناه وجها للتفصيل بين
الجزء والتمام وسمعت أن الإعادة فيه أقوى.
قوله (قدس سره): (بل لا يبعد الإعادة فيما لو استلزم ما وقع للضرورة أو التقية
المنافي بعد زوالهما) لأن تجويز العمل بخلاف الواقع من غير ضرورة مفسد
للعمل قطعا، والمفروض أن التقية والضرورة لم يجوز إلا ايجاد ذلك الجزء لمكان
الضرورة على خلاف الواقع.
وأما الإتيان بالجزء المرتفع ضرورته حال ايجاده على خلاف الواقع فغير
جائز، إذ لا ضرورة تقتضي مخالفة الواقع فيه، فحاصل مرامه - طاب ثراه - أنه
320

إذا غسل الأجزاء الغسلية منكوسا مثلا للتقية لا يجب عليه إعادتها مع ارتفاع
التقية قبل فراغه عن الوضوء، وإن كان الأحوط الإعادة بخلاف ما إذا أخذ ماء
جديدا ليمسح به فارتفع التقية بعد أخذه قبل حصول المسح به، فلا يجوز المسح
به، لأن غاية ما اقتضاه التقية هو جواز أخذ ماء جديد مقدمة للمسح، وأما المسح
بالماء الجديد فلم يقتضه تقية ولا ضرورة، لأن المفروض ارتفاعها حين ايجاده
فلا مجوز له أصلا، وهذا معنى قوله (قدس سره): باستلزام الواقع تقية أو ضرورة المنافي،
يعني فيما يتعقبه مما بقي من أجزاء الوضوء مما يؤتى به بعد زوال العذر.
وقوله (قدس سره): (كما لو أخذ ماء جديدا للمسح فارتفعت التقية مثلا قبل
الفعل أو غسل الحائل في كفه مثلا بدلا عن البشرة للضرورة، فارتفعت
قبل المسح به فإنه لا يجزيه حينئذ المسح بهما على الأقوى) توضيح له
ومثال لما ذكره من الكلية، والمراد برفع الحائل الذي في الكف قابلية للرفع مع
وجوده فيها فعلا حال المسح، وإلا فمع سقوطه لا يحتمل أحد جواز أخذه
والمسح به بتخيل انه يمسح بمائه لأنه في حال الغسل غسل بدلا عن الكف الذي
يمسح بنداوتها فمقتضى البدلية ان يمسح بنداوته ولو حال الانفصال ترخيصا على
القول بعدم تعين الكف للمسح وتعيينا على القول بتعينها له.
وكيف كان فقد عرفت أن الأقوى التفصيل بين زوال العذر قبل الفراغ من
الوضوء وبعد الفراغ منه، وأن الثاني مجز لصدق الامتثال دون الأول، لأن أمر
الجزء هو أمر الكل وهو لم يمتثل بعد، وليس هناك أمر آخر وراءه حتى يوجب
امتثاله الإجزاء.
مضافا إلى أن الطهارة ورفع الحدث مترتبة على مجموع تلك الأفعال،
وليست قابلة للتبعيض، فيحصل بوجود كل جزء من الغسلتين والمسحتين بعض
منها. والفراغ الملحوظ بالنسبة إلى المسح هو عدم إمكان تحصيله في هذا الوضوء
لو كان هو المتخلف فيه، لفوت موالاة أو لخلط نداوة اليد بماء جديد بناء على
تعين وقوع المسح بها، أو غير ذلك مما يوجب امتناع تحصيله بعد زوال العذر.
321

قوله (قدس سره):
(المبحث الثاني)
من المباحث الخمسة التي في الوضوء (في) بيان (وضوء المضطر).
وهو من رخص له شرعا في ايجاد الوضوء الناقص، ولم يطلب منه الوضوء
التام (قد عرفت وضوء الأقطع، وما كان لتقية أو ضرورة منه) أي من
الوضوء التام يعني المأمور به الأولي المتوجه إلى المكلف المختار.
(أما الجبائر) وهي الألواح التي تشد لإصلاح المكسور والمقلوع، وقد
يطلق على ما يشد لإصلاحهما وإن لم يكن خشبا ولوحا، بل ولو لم يكن شدا
كاللطوخ، وهذا هو المراد في كلمات الفقهاء من الجبيرة، بل قد تطلق في كلماتهم
على ما يعم المشدود على الجروح والقروح أيضا كما عن شارح الدروس، وهو
ظاهر من لم يصرح بإلحاقه بالجبيرة (فمن كان على بعض أعضاء وضوئه
جبيرة) أي كسر أو قلع مشدود (وتمكن من غسل ما تحتها بنزعها أو
بغمسها في إناء مثلا على وجه يحصل به الغسل للبشرة وجب) عليه
تحصيل الغسل وايجاد الوضوءالتام بلا خلاف، لعدم اضطراره إلى شيء، ولانصراف
أدلة الجبائر إلى من الجأته الجبيرة إلى الوضوء الناقص، وللموثق فيمن انكسر
ساعده ولا يقدر أن يحله لحال الجبر، قال (عليه السلام): " يضع إناء فيه ماء، ويضع موضع
الجبر في الماء حتى يصل الماء إلى جلده وقد أجزأه ذلك من غير أن يحله " (1).
وتوهم أن الواصل إلى العضو حينئذ هو البلة بلا جريان منه عليه - وقد تقدم
اعتبار الجريان في مفهوم الغسل - مدفوع بأنه في مقابل ايصال البلل بمس اليد
الرطبة للمحل، وإلا فلا إشكال في تحقق الغسل باستيلاء الماء على العضو من دون
إجراء كما في الغمس أو وضع القطرات عليه من دون أن تتحرك وتتعدى عن محلها.
(وإن لم يتمكن من الغسل لخوف الضرر أو لعدم إمكان إزالة النجاسة)

(1) الوسائل 1: 327، الباب 39 من أبواب الوضوء، ح 7.
322

الكائنة على العضو (أو غير ذلك) من أسباب رفع التمكن عن ايصال الماء إلى
العضو من اللصوق واللطوخ وأمثالهما (مسح عليها بالماء، وإن لم يحصل به
أقل مسمى الغسل) ولا يجب عليه غسل ما تحتها بلا خلاف، لحسنة الحلبي
عن الرجل يكون به القرحة في أذرعه أو نحو ذلك من موضع الوضوء فيعصبها
بالخرقة فيتوضأ ويمسح عليها إذا توضأ، قال (عليه السلام): " إذا كان يؤذيه الماء فليمسح
على الخرقة، وإن كان لا يؤذيه الماء فلينزع الخرقة وليغسلها " (1) وهي أيضا دالة
على الفرع الأول من وجوب غسل البشرة مع الإمكان.
وعن تفسير العياشي بسنده عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: " سألت رسول
الله (صلى الله عليه وآله) عن الجبائر يكون على الكسر كيف يتوضأ صاحبها؟ وكيف يغتسل إذا
أجنب؟ قال (صلى الله عليه وآله): يجزيه المسح بالماء عليها في الجنابة والوضوء، قلت: فإن كان
في برد يخاف على نفسه إذا أفرغ الماء، فقرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله): (ولا تقتلوا أنفسكم
إن الله كان بكم رحيما) " (2)، وفي رواية كليب الأسدي: " عن الرجل إذا كان
كسيرا كيف يصنع بالصلاة؟ قال: إن كان يتخوف على نفسه فليمسح على جبائره
وليصل " (3) ورواية ابن عيسى، عن الوشاء، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: " سألته عن
الدواء يكون على يدي الرجل أيجزيه أن يمسح في الوضوء على الدواء المطلي
عليه؟ قال: نعم يجزيه أن يمسح عليه " (4) ولرواية عبد الأعلى مولى آل سام في
العاثر الذي انقطع ظفره فجعل عليه مرارة حيث حكم (عليه السلام) بالمسح عليها، وأشار
باستفادته من الكتاب مستشهدا عليه بآية نفي الحرج الذي هو إعطاء لقاعدة كلية
عن رفع الحكم عن مثله (5)، سواء ثبت له بدل كما في الجبائر أو لم يثبت كما

(1) الوسائل 1: 326، الباب 39 من الوضوء، ح 2.
(2) تفسير العياشي 1: 236، ذيل آية 29 من سورة النساء، ح 102 والوسائل 1: 328، الباب
39 من أبواب الوضوء، ح 11.
(3) الوسائل 1: 327، الباب 39 من أبواب الوضوء، ح 8.
(4) الوسائل 1: 328، الباب 39 من أبواب الوضوء، ح 10.
(5) الوسائل 1: 327، الباب 39 من أبواب الوضوء، ح 5.
323

في الجرح المكشوف، على ما يأتي. وفي صحيحة ابن الحجاج عن أبي الحسن (عليه السلام)
عن الكسير تكون عليه الجبائر أو تكون به الجراحة كيف يصنع بالوضوء وعند
غسل الجنابة وغسل الجمعة؟ فقال (عليه السلام): " يغسل ما وصل اليه الغسل مما ظهر مما
ليس عليه الجبائر ويدع ما سوى ذلك مما لا يستطيع غسله، ولا ينزع الجبائر
ولا يعبث بجراحته " (1). ولروايات الجرح المتضمنة لأنه يغسل ما حوله.
ثم إن ظاهر تلك الروايات بل صريحها غير صحيحة ابن الحجاج وروايات
الجرح وجوب المسح على الجبيرة، فما في المدارك من أنه لولا الإجماع المدعى
على وجوب المسح على الجبيرة لأمكن القول بالاستحباب، كما سبقه بتلك
المقالة الأردبيلي ولحقه السبزواري لا وجه له، لعدم معارضة الصحيحة - لسكوتها
عن ذكر المسح - الروايات المصرحة بثبوته، لأنها ليست في مقام بيان تمام الحكم
كما هو واضح للمتأمل فيها، وإنما هو (عليه السلام) بصدد بيان أنه لا يجب عليه غسل
ما تحت الجبيرة للضرورة، فهي نظير رواية عبد الأعلى في مقام إعطاء قاعدة نفي
الحرج في سقوط غسل ما لا يتمكن كما يفصح عنه قوله (عليه السلام): " ولا ينزع الجبائر
ولا يعبث بجراحته " لا في مقام أنه ماذا يجب عليه بدلا عن هذا الساقط، وهذا
معنى قول الأستاذ - طاب ثراه - في رسالة المظنة أن استفادة مثل هذا الحكم عن
الكتاب مشكل يعني به تمام الحكم من سقوط الأصل وثبوت البدل.
كما لا يمكن التعويل في عدم وجوب المسح على روايات الجرح لأنها
ظاهرة في الجرح المكشوف كما تعطيه حسنة الحلبي بقضية التقابل، فإنه بعد
فراغه عن سؤال القرحة المعصبة الملحقة بالجبيرة، قال: " وسألته عن الجرح كيف
أصنع به في غسله؟ قال: اغسل ما حوله " (2).
وكيف كان فوجوب مسح الجبائر وما في حكمها مما لا إشكال فيه كما نفي
عنه الخلاف في المدارك أيضا، إنما الإشكال في أن الواجب في المقام ماذا مسح

(1) الوسائل 1: 326، الباب 39 من أبواب الوضوء، ح 1.
(2) الوسائل 1: 326، الباب 39 من أبواب الوضوء، ذيل ح 2.
324

أو غسل، نقل عن نهاية الإحكام: " وجوب تحقق أقل الغسل "، وعن كاشف اللثام:
" أنه قوي "، ولكن في جامع المقاصد مسح عليها المسح المعهود في الوضوء،
وعن شارح الجعفرية " أنه لا يجب الاجراء، بل لا يجوز "، وهو ظاهر الباقين
حيث عبروا عن الواجب هنا بالمسح، سيما مع تقابله بغسل العضو نفسه مع
الإمكان كما في العبارات المنقولة عن المعتبر والمنتهى والذكرى والروض
والمسالك نظير حسنة الحلبي المتقدمة.
ويوضح إرادة المسح بالمعنى الأخص تعبير بعض هؤلاء بالاجزاء عن الغسل
كما عن المنتهى، أو بأنه بدل عن الغسل كما عن المعتبر، أو بأنه لم يتعبد بغسلها في
مقام التعليل لعدم وجوب الإجراء كما عنه أيضا في موضع آخر.
ولكن مع ذلك كله الانصاف أنه لم يظهر من النصوص تعين خصوص أحدهما
بحيث لو حصل الآخر ولو من غير قصد لم يكن مجزيا، وليس لفظ المسح فيها
ظاهرا في المعنى الأخص، لأن ظاهرها إفادة قيام الجبيرة مقام البشرة، وأن إمرار
اليد المصاحبة للماء عليها كافية عن غسل ما تحتها لا أن مسحها بالمعنى المعهود
صار بدلا عن غسل ما تحتها تعبدا.
ويشهد عليه ما عن السرائر من تعبيره بالمسح في الممكنة النزع التي يجب
فيها غسل البشرة قطعا وغير ممكنتها على حد سواء، بل ربما يستفاد من
المرتضوي المروي عن تفسير العياشي من قوله (صلى الله عليه وآله): " يجزيه المسح بالماء " نفي
هذا المعنى، لاستلزام المسح بالماء الجديد تحقق أقل الغسل ولو في الغالب، كما
يشهد للزومه وعدم كفاية المسح المعهود في الوضوء ايجابهم وقوع مسح الوضوء
بالماسح ذات الجبيرة، ومن المعلوم عدم كفاية مثله في الجبيرة.
فالأقوى بمقتضى ما يستفاد من الأخبار هو وجوب إمرار اليد ونحوها
مصاحبة للماء على الجبيرة على نحو يصدق أنه مسح بالماء كما هو مقتضى أخبار
الباب، تحقق الغسل أو لم يتحقق، من غير قصد إلى خصوص أحد العنوانين،
ولا ينافيه كلمات القوم، لأنهم في مقام رفع وجوب غسل البشرة وعدم تعين
325

غسلها على نحو غسل البشرة، بل لا يبعد استفادة عدم جواز غير هذا النحو من
العمل كغسلها بإفاضة الماء عليها أو برمسها فيه في الوضوء والغسل الارتماسيين،
فما ذكره الأستاذ من الإشكال في منع هذا النحو من الغسل لا نعرف له وجها، لأن
الغسل الممنوع هو ما ذكرناه من ايجاد الغسل فيها على نحو ما كان وظيفة البشرة،
وما نجوز تحققه في المقام ليس إلا ما يحصل بإمرار اليد المصاحب للماء إن
فرض تحققه بهذا المسح دون غيره من أفراده، لأنه المستفاد جوازه من النصوص
بعد القائها عن الظهور في المسح المعهود بالقرائن المتقدمة لا مطلق الغسل.
قوله (قدس سره): (بل وإن تمكن من مسح البشرة) بيان للفرد الخفي من موارد
وجوب غسل الجبيرة أو مسحها، والمراد من المسح المنفي هو مالا يتحقق معه
أقل الغسل وعدم اجزائه حينئذ، لعدم الدليل عليه، بل لإفادة أدلة الجبيرة عدم
الاعتناء به، حيث إنها أفادت حصر تكليف غير المتمكن من غسل البشرة في
مسح الجبيرة كما هو مفاد الاقتصار عليه في مقام البيان.
قوله (قدس سره): (إلا أن الأحوط له مع ذلك) أي مع وضوح عدم كفايته لو اقتصر
المتوضي عليه، لما عرفته من عدم الدليل - لو أغضى عن وجوده - على العدم
(الجمع بين المسحين) لشبهة أن يكون عدم الذكر لغلبة عدم التمكن لو لم يدع
ملازمة عدم التمكن من غسل البشرة عدم التمكن من مسحها أيضا، وإلا فلو
فرض أنه متمكن من مسح البشرة دون غسلها يمكن أن يمنع تقدم مسح الجبيرة
على مسحها لو لم نقل بتقدم مسحها على مسح الجبيرة لكونها الأصل، فالاحتياط
حينئذ في محله ولا ينبغي تركه.
قوله (قدس سره): (كما أن الأحوط (1) مسحها على وجه يحصل معه أقل
مسمى الغسل) لما بيناه من ظهور المروي عن التفسير من باب اعتباره وقوع
المسح بالماء تحقق الغسل، لاستلزام ماسحية الماء للمحل غسله غالبا،

(1) في متن نجاة العباد بإضافة: " له ".
326

وإلا لانتفى صدق مسحه بالماء أيضا، فمعنى هذا الاحتياط أنه لو لم يحصل
الغسل بأول مسحة مسح ثانيا ليتحقق به صدق الغسل عند ايجاد المسح به.
قوله (قدس سره): (ولا يجزي غسل الجبيرة بالغمس ونحوه عن مسحها) لما
أشرنا اليه من أنه لو صرفنا الأدلة عن إفادتها كون المسح الواجب هنا هو المسح
المعهود في الوضوء وجوزنا تحقق ما يصدق عليه الغسل أيضا فلا شك في إفادتها
تعين العمل على هذا النحو، وهو إيصال الماء إلى الجبيرة على وجه يتحقق معه
صورة المسح، لإطباق الأدلة من النص ومعقد الإجماع في لزوم تحقق هذا المعنى
وإن صدق عليه الغسل أيضا، فالواجب في المقام إما مسح حقيقة أو غسل بتلك
الكيفية، فلا يجزي غيرها لعدم الدليل، إذ لم يستفد من الأدلة مطلوبية تحقق مفهوم
الغسل كيف ما كان.
قوله (قدس سره): (فضلا عن غسل ما عداها) يعني مع تركها رأسا كما نسب إلى
المحققين الثلاثة الأردبيلي وتابعيه، لما قدمناه من أنه ليس عليه دليل تام.
قوله (قدس سره): (نعم الظاهر عدم وجوب قصد كونه مسحا) لما عرفته من
عدم ثبوت مسحيته، لاحتمال كون الواجب في المقام هو الغسل كما تقدم حكايته
عن النهاية، فالأحسن حينئذ التعبير بعدم الجواز، وإنما عبر بعدم الوجوب لما
رجحه من كون الواجب في المقام هو المسح كما يعطيه قوله: " وإن لم يحصل معه
أقل مسمى الغسل " ومن لم يرجح مسحيته لم يجوز قصد المسح به في المقام.
ولذا أصلح الأستاذ - طاب ثراه - العبارة بضمه إليها قوله (قدس سره): " ولا قصد كونه
غسلا، بل الأحوط أن لا يقصد خصوص أحدهما، بل قصد تحقق ما هو الواجب
عند الله تعالى "، وجوز - طاب ثراه - قصد خصوص كل منهما، لأنه لم يعين
الواجب في المقام بأحدهما بالخصوص، بل يجوزهما معا كما قواه في طهارته،
وهو حسن على ما فصلناه.
قوله (قدس سره): (لو مسح بالماء على وجه حصل معه أقل مسمى الغسل
بخلاف مسح الرأس والقدمين) بيان لمورد نفي وجوب قصد المسح فإنه
327

لو مسح على وجه لا يحصل معه أقل الغسل فهو مسح حقيقة، ولا يجوز له حينئذ
قصد الغسل كما كان يجوز له في الصورة الاولى، وأشار بقوله هذا إلى رد
الموجبين في المقام المسح المعهود في الوضوء، فإنه يجب عندهم أن يقصد
المسح به في جميع الصور كما في مسح الرأس والقدمين عند من يجوز ايقاعه
على وجه يحصل معه الجريان المحقق لمسمى الغسل كما تقدم تقويته.
قوله (قدس سره): (كما أن الظاهر عدم وجوب كونه هنا بالكف فضلا عن
باطنه) لما بيناه من أن المقصود حصول مسح الجبيرة بالماء، وهو حاصل بأية
آلة كانت، ولم يدل على خصوصية اليد دليل. ودعوى الانصراف واضحة الفساد،
لوضوح كون التبادر بدويا غير معتبر.
قوله (قدس سره): (ولا بد عن استيعابها بالمسح بالماء) خلافا لما استظهر عن
الشيخ في المبسوط من قوله: " والأحوط أن يستغرق جميعه "، واستحسنه في
الذكرى بعد أن أشكل في وجوب الاستيعاب بصدق المسح عليها بالمسح على
جزء منها كصدق المسح على الرجلين والخفين عند الضرورة على ما حكي
عنهما، وكلام الشيخ لا ظهور له في نفي وجوب الاستيعاب، لأنه كثيرا ما يعبر عن
الواجب بلفظ الاحتياط للتطابق أو لاستناده في الحكم الخاص اليه.
وأما دعوى الشهيد صدق المسح بمسح البعض فمع تسليمه والغض عن أن
المقيس عليه استفيد التبعيض فيه من الخارج كما أشار اليه (عليه السلام) بقوله: " لمكان
الباء " أن ظاهر بدليته عما وجب استيعابه بالغسل وجوب الاستيعاب فيه أيضا،
وليس هو نظير التيمم فعلا أجنبيا لا يعلم وجه البدلية فيه، مضافا إلى ما هو
معروف من كيفية تيمم عمار الدالة على مركوزية هذا المعنى، وهو إجراء ما
للمبدل في البدل في أذهان العقلاء والعرف وأهل الشرع ما لم يصرفهم عنه
صارف، بل الناظر في النصوص يرى أنه (عليه السلام) لم يرفع في المقام إلا وجوب مماسة
الماء للبشرة، واكتفى بمماسته لما احيط بها كما يفصح عنه قوله (عليه السلام): " ولا ينزع
الجبائر ولا يعبث بجراحته " سيما على فهمه بعض من قوله: " يغسل ما وصل اليه "
328

الغسل مما ظهر حيث عممه للجبيرة أيضا وحكم بثبوت الغسل لها.
وكيف كان فلا مجال للتأمل في استفادة الاستيعاب من النصوص على أنه لم
يحك لنا مصرح فيه بالعدم غير ما سمعت، فالحكم بحمد الله خال عن الإشكال.
قوله (قدس سره): (ولا تكفي الرطوبة والنداوة في اليد) تفريع على قوله:
" بالمسح بالماء " وقد تقدم الإشارة إلى لزوم تعين الماء وعدم كفاية نداوة اليد.
قوله (قدس سره): (نعم الظاهر عدم وجوب مسح ما يتعذر أو يتعسر مما بين
الخيوط) أما الأول وهو ما يتعذر فقطعي غير محتاج إلى الاستدلال، لعدم تعلق
التكليف بغير المقدور، وأما الثاني فهو كما قال (قدس سره): " لظهور سوق النصوص في
ابتناء الحكم على المساهلة ورفع المشقة "، فلا مجال لحملها على ما يورث
المشقة، مضافا إلى أن المرجع في مثله هو الرجوع إلى المتعارف دون ما يعطيه
الدقة الحكمية، على أن المعسور منفي بأدلة الحرج وعموماته مع قطع النظر عن
استفادة النفي عن خصوص نصوص الباب من مثل قوله (عليه السلام): " ولا تعبث " (1)
وقوله (صلى الله عليه وآله): " ولا تقتلوا أنفسكم " (2) في ذيل المرتضوي في مقام نفي الوضوء في
البرد المؤلم.
نعم لا بد أن لا يتسامح في مسح ما يتعارف وصول الماء إليه من الخلل،
ولا يكتفى بمجرد ما علا منها ويترك مسح ما نزل بسبب شد الخيوط، بل يجب
ايصال الماء إلى ما يصل اليه بالمسح على الوجه المتعارف مع الدقة فيه على النحو
المتعارف لا ما تسومح فيه.
قوله (قدس سره): (والجروح والقروح المعصبة كالجبيرة) في الأحكام الأربعة
من وجوب المسح عليها عند عدم التمكن من غسل البشرة المستورة بالعصابة
بأحد الوجوه المتقدمة، ومن عدم وجوب غسل البشرة والحال هذه، وعدم كفاية
غسل ما حولها وتركها رأسا وعدم الانتقال فيها إلى التيمم، ولا خلاف في شيء

(1) الوسائل 1: 326، الباب 39 من أبواب الوضوء، ح 1.
(2) الوسائل 1: 328، الباب 39 من أبواب الوضوء، ح 11.
329

من ذلك ظاهرا كما يعطيه ما في المدارك من أنهم صرحوا بالحاق القروح
والجروح بالجبائر.
ثم استشكاله في غير المعصبة منهما لأجل إطلاق ما ورد في الجروح من
الاكتفاء بغسل ما حولها وعدم اختصاصه بغير المعصبة منها، ولأجل أن ظاهر تلك
الأخبار كون الواجب في الفرض هو الوضوء الناقص مع ملاحظة قوة احتمال
كون الواجب فيها هو التيمم، خصوصا في المكشوفة منها.
ومثله ما ذكره الأستاذ في طهارته حيث قال: " فإلحاق ما عدا مورد النص
بالجبيرة يحتاج إلى تنقيح المناط، ولعله منقح بالنسبة إلى كل ملصق لعذر " بل
ادعى اتفاقهم عليه بقوله بعيد ذا: " الكسر والقرح والجرح التي عليها جبيرة أو
خرقة فإن ظاهرهم الاتفاق في باب الوضوء على المسح عليها " انتهى.
فإن ظاهره مسلمية الإلحاق عند الأصحاب فيهما مع عدم النص، كيف؟ وهما
منصوصان كما في حسنة الحلبي ورواية الوشاء (1)، ورواية عبد الأعلى (2)، وبعض
احتمالات ذيل صحيحة ابن الحجاج (3) من عموم ذيله للأحكام الثلاثة، أو
اختصاصه ببعض الأحكام المذكورة. وبالجملة لا ينبغي التأمل في إلحاقهما
بالجبيرة مع فعلية الشك.
قوله (قدس سره): (وإن لم تكن معصبة فالأقوى غسل ما حولها والمسح عليها
نفسها، فإن تعذر مسحها وضع خرقة عليها ومسحها، ولا يضم معها شيئا
من الصحيح، ولو تعذر اكتفى بغسل ما حولها، والأولى الجمع بين ذلك
والتيمم، كما أن الأحوط الجمع بينهما في مطلق المكشوف) لا يخفى على
المراجع المتتبع في المسألة أنه لا ينبغي ترك ما ذكره (قدس سره) من الاحتياط أخيرا
بالجمع بين هذا الوضوء والتيمم لاختلاف الأخبار فيها غايته، واضطراب كلماتهم

(1) الوسائل 1: 328، الباب 39 من أبواب الوضوء، ح 10.
(2) الوسائل 1: 327، الباب 39 من أبواب الوضوء، ح 5.
(3) الوسائل 1: 326، الباب 39 من أبواب الوضوء، ح 1.
330

فيها كماله، كما تعرض لتفصيلها الشيخ الأستاذ في كتاب الطهارة، وإن كان الذي
يقوى في النظر حسن الجمع الأخير الذي ذكره - طاب ثراه - ثمة من بين وجوه
الجمع غير التخيير، وهو حمل المتضمنة للتيمم على من يضره استعمال الماء في
العضو الصحيح المصاحب للجرح، وحمل أخبار غسل ما حول الجرح على من لم
يتضرر بغسله بعد رفع اليد عن ظهورها في كفاية غسل ما حوله وعدم الحاجة إلى
مسح الجرح بحملها على أنها وردت مورد الغالب من أن ما لا يمكن غسله من
الجراح لا يمكن مسحه أيضا.
فيكون السكوت عن الحكم بمسحها فيها لذلك لا لعدم وجوبه مع إمكانه،
سيما مع ما بنينا عليه أخيرا ثمة من أن المراد بالمسح هو الغسل الخفيف أي ما
صدق ملاقاة المحل للماء ووصوله اليه، وهذا هو الغسل الكافي في الوضوء،
والمفروض تضرره بالغسل كما هو صريح الأخبار، فعلم أن مسحه أيضا يضر به
لما بيناه، فالسكوت في مقام البيان دال على كفاية غسل ما حول الجرح وعدم
لزوم شيء آخر فيه، لعدم إمكانه لما سمعت، لا أنه كاف مطلقا ولو في صورة
إمكان المسح عليه بنفسه أو بواسطة الخرقة، هذا.
مع مجيء مثله في جملة أخبار من الجبيرة أيضا، مع أنه لم يعمل به فيها حيث
إنهم حكموا بوجوب مسح الجبيرة، هذا.
مضافا إلى أن جملة اخرى من أخبارها مثبتة للزوم المسح عليها ولا
تعارضها الساكتة لما بيناه كما لا ينافي ثبوت المسح فيها عدم ثبوت مسح البشرة
في الجبيرة بملاحظة أن قضية الالحاق اتحادهما في الحكم، إذ عدم المسح في
الجبيرة للإجماع وظهور أخبارها في نفيه، وهنا الأمر بالعكس، فتأمل.
وأما عدم الانتقال إلى التيمم في الفرض وهو صريح تلك الأخبار لإيجابهم
الوضوء المقنع فيه بغسل ما حول الجرح، سواء اكتفى به فيه أم قيل فيه بوجوب
مسح الجرح أيضا، فلا ينبغي أن يتأمل في عدم كفاية التيمم وحده في المقام،
إلا أن يغضى عن تلك الأخبار رأسا وتطرح، هذا مضافا إلى ما قدمناه من أن
التيمم محله عدم التمكن من المائية، فتأمل.
331

قوله (قدس سره): (نعم يتعين التيمم مع تعذر ما سمعته في الجبيرة) من المسح
عليها لتضرره به أو عدم تمكنه منه للتضرر بتحريك العضو أو بشم الهواء ونحو
ذلك، وهو حسن مع فرض التضرر بغسل ما حولها، وإلا فمع التمكن من هذا النحو
من الوضوء فالاكتفاء بالتيمم مشكل.
فلا يترك الاحتياط بالجمع بينهما كما ذكره الأستاذ بقوله: " الأحوط الجمع
بينه وبين ما تيسر من الوضوء فيها وفي سابقتها يعني القروح والجروح المكشوفة،
وإن كان الأقوى ما تقدم في مثله من تقديم الوضوء على التيمم كما يعطيه صحيحة
ابن الحجاج المتقدمة، ويعضدها القاعدة المستفادة من روايات الميسور وما
لا يدرك، والاتيان بالمستطاع من المأمور به المفيدة لتقدم الوضوء الناقص على
التيمم، سيما في المقام مما كان الساقط فيه جزء المأمور به لاقيده، مضافا إلى أن
ظاهر ما رأيناه من كلمات القوم أيضا هو وجوب الوضوء على من لم يتضرر
بأعمال عمل الجبيرة في جرحه وقرحه، واعتبارهم في انتقاله إلى التيمم تضرره
بذلك وبغسل ما حول الجرح، فليراجع.
قوله (قدس سره): (وحكم اللطوخ ونحوها حكم الجبيرة في المسح عليها مع
الضرورة) للإجماع المتقدم عن الشيخ الأستاذ بقوله: " الكسر والجرح والقرح
التي عليها جبيرة أو خرقة، فإن ظاهرهم الاتفاق في باب الوضوء على المسح
عليها " بضميمة قوله قبله: " ولعله منقح - أي المناط - بالنسبة إلى كل ملصق لعذر "
ولرواية ابن الوشاء المتقدمة المتضمنة لخصوص الدواء المطلي، ولرواية عبد
الأعلى الواردة في المرارة، فالحكم بالمسح عليه مع كونه لحاجة اليه كما هو معنى
اللطوخ لا إشكال فيه ولا شبهة تعتريه.
قوله (قدس سره): (بل الظاهر ذلك في كل حاجب للبشرة وقد تعذر أو تعسر
إزالته) الاكتفاء بالوضوء الجبيري في مثله في غاية الإشكال، لعدم شمول
أدلته له، كما أن الحكم فيه بالتيمم أشكل، لعدم صدق غير الواجد للماء المراد
منه غير المتمكن من استعمال الماء على مثل هذا الشخص، فالآية غير مجوزة
332

في حقه التيمم وأخبار التيمم خاصة بغيره من الأعذار نظير الخصوصات الواردة
في الجبيرة.
وأما عموماتها كقاعدة الميسور وما لا يدرك ووجوب الاتيان بالمستطاع،
ففي غاية الصعوبة اجراؤها في المقام على وجه نثبت بها مسح الحاجب وإن
أغضى النظر عن تخصيصها بالمركب ذات الأجزاء وقلنا بجريانها في المقيد
المتعسر قيده لاختصاصها حينئذ بما كان القيد منتزعا من أمر خارجي وعدم
جريانها في ما ليس له منشأ انتزاع خارجي من القيود كما في المقام فإن الغسل
معنى بسيط هو عبارة عن مماسة الماء للبشرة، وليس قيد المباشرة مقسما لمفهوم
الغسل إلى قسمين، بل إنما هو مقوم له، لأنها هي المماسة التي بها يتحقق الغسل.
فالأقوى في النظر هو وجوب الوضوء على وجه يغسل فيه غير المحجوب
من الأعضاء، ويدع الحاجب المزبور وإن كان الأحوط عدم ترك غسله على نحو
ما تقدم في الجبيرة بمسحه بماء جديد على وجه يتحقق معه أقل مسمى الغسل كما
قدمنا أنه المراد من المسح الواجب في الجبيرة، أما غسل غير المحجوب فبتلك
العمومات، وأما مسح المحجوب فبقاعدة الاشتغال بعد نفي غيره من أنحاء الغسل
بظهور الإجماع على عدم كفايته في المقام، وعدم منافاة ثبوت مسح الحاجب
بالقاعدة بعد عدم دلالة العمومات عليه واختصاصها بوجوب غسل غير
المحجوب، لأنها لا تنفيه من حيث سكوتها عنه.
كما أن الأحوط أيضا الجمع بين هذا الوضوء والتيمم كما علقه على الرسالة
السيد الأستاذ - طاب ثراه - لما ادعاه الشيخ الأستاذ - طاب ثراه - من أنهم اتفقوا
على أن من تعذر عليه الماء لبعض الأعضاء يرجع إلى التيمم، ولا يشرع له
الوضوء الناقص، وهذا ينبهك أيضا على أنهم بين موجب للتيمم في مثل المقام
وموجب للوضوء الجبيري والمسح كما هو ظاهر كلماتهم أيضا لا الوضوء الذي
نحن قويناه تبعا للشيخ الأستاذ بجعل الحاجب بمنزلة البشرة، هذا.
ولكن في دعوى الأستاذ اتفاقهم على التيمم وعدم مشروعية الوضوء
333

الناقص فيمن تعذر عليه الماء لبعض الأعضاء تأملا، بل الأقوى تقدم الوضوء
الناقص على التيمم فيما لا يتضح مصداقيته للمرض من الأعذار كما في القروح
والجروح، للعمومات المتقدمة، وحسنة عبد الأعلى مولى آل سام، ولأن
مشروعية التيمم مترتبة على رفع الأمر باستعمال الماء، وبعد تنزيل الشارع
الوضوء الناقص منزلة الوضوء التام بتلك العمومات لا يبقى محل لمجي أمر
التيمم، لتوقفه على رفع التكليف عن المائية، وقد عرفت أن مقتضى عمومات
الميسور وما لا يدرك والمستطاع وحسنة عبد الأعلى بقاء الأمر بإعمال الماء في
الأعضاء الصحيحة، لعدم تقيد أمرها بالتمكن من إعمال الماء في الجميع وعدم
اشتراط التكليف بغسل جزء من الأجزاء على التمكن من آخر، فتكون أدلة
المائية من الآية والرواية متكفلة بملاحظة تلك العمومات لحكم الوضوءات
الناقصة وأنها مثل التامة في كفايتها عند إرادة القيام إلى الصلاة، وأن التكليف
بالمائية يختلف بحسب الأشخاص.
وبملاحظتها يقوى في النظر القول بوجوب غسل غير المحجوب وترك
المحجوب بلا غسل ولا مسح، وعدم الرجوع إلى التيمم لو لم يكن كغسل الحاجب
مخالفا للإجماع، ولا أظن تحققه، بل هو معلوم العدم ولأن ذلك مقتضى عمومات
الميسور والمستطاع وما لا يدرك بلحاظ التركيب، نعم لما كانت تلك العمومات
موهونة بمصير الأصحاب في غالب مواردها إلى خلاف مقتضاها لا بد من العمل
بها من عمل للمعظم يجبر وهنها، ويقوي عمومها في مورد يكون من مجراها.
فإذا الأقوى في الفرض وما ضاهاه الوضوء، ولكن مع ايجاد غسل الحاجب
غسلا مسحيا دون غيره من أقسام الغسل، بل بلا نية لخصوص الغسل ولا المسح،
ولكن مع ذلك ينبغي أن لا يترك الاحتياط السابق بضم التيمم اليه كما في أمثاله.
قوله (قدس سره): (والجبيرة المستوعبة لجميع العضو كغيرها) لعموم أدلتها
الشامل لها، ولعدم فرق بين قلة الجبيرة وكثرتها بعد قيام مسحها مقام غسل العضو
كما صرح به الأساطين على ما حكى عباراتهم الأستاذ - طاب ثراه -، وادعى
334

تصريح الفاضلين والشهيدين وغيرهم به، فعن المعتبر: " لو كان على الجميع جبائر
أو دواء يتضرر به جاز المسح على الجميع ولو استضر تيمم "، انتهى. وعن التذكرة:
لو كانت الجبائر على جميع أعضاء الغسل وتعذر غسلها مسح على الجميع
مستوعبا بالماء، ومسح رأسه ورجليه ببقية البلل ولو تضرر تيمم "، انتهى. وعن
الذكرى: " لو عمت الجبائر أو الدواء الأعضاء مسح على الجميع، ولو تضرر تيمم.
ولا ينسحب الحكم إلى خائف البرد فيؤمر بوضع حائل، بل تيمم، لأنه عذر نادر
وزواله سريع ". انتهى.
ولا يخفى عليك شهادة تلك الكلمات على صحة الجمع الأخير الذي
استحسناه بين أخبار الجبيرة والتيمم.
قوله (قدس سره): (والأحوط الجمع بين ذلك والتيمم سيما في بعض الأفراد)
كالفروض المذكورة عن التذكرة لما عن البيان من أنه: " لو استوعب العذر عضوا
تيمم. انتهى. ولما عن جامع المقاصد: " تصويبه الجمع بين أخبار الجبيرة والتيمم
بحمل الاولى على ما كان العذر في بعض العضو والثانية على ما كان مستوعبا
لعضو كامل بدعوى أن اغتفار عضو كامل في الطهارة بعيد " إنتهى. فإذا أوجبوا
التيمم في استيعاب عضو ففي استيعاب الجميع بطريق أولى.
قوله (قدس سره): (والغسل كالوضوء في حكم الجبيرة) لعدم تفصيلهم بينهما،
ولتصريحه (عليه السلام) بجريان حكم الجبيرة لهما معا في المروي عن تفسير العياشي،
وفي صحيحة ابن الحجاج (1)، ولعموم رواية كليب الأسدي (2) لهما معا وللإجماع
المحكي عن المنتهى على عدم الفرق بينهما، فما عن بعضهم من الجمع بين أخبار
الجبيرة والتيمم بحمل الثانية على الغسل بملاحظة ورود أكثر الآمرة بالتيمم في
الغسل وحمل الاولى على الوضوء لا وجه له، لما عرفته من عموم بعض أخبار
الجبيرة للغسل أيضا بل بعض الآمرة بالجبيرة واردة فيه بالخصوص بالصراحة
ومن أجله بضميمة الإجماع المحكي على اتحادهما في هذا الحكم يرد هذا الجمع.

(1) تقدمت في ص...
(2) تقدمت في ص 323.
335

قوله (قدس سره): (ولو كانت الجبيرة على الماسح وجب اعتبار المسح ببلته
كالبشرة) لما عرفته من تنزيل الشارع إياها منزلة البشرة، فيجري عليها حكمها،
ولأنها مصداق الكف الوضوئي لهذا الشخص، وقد تقدم وجوب المسح ببلة الكف.
وبالجملة بعد وجوب أن يعامل مع الجبيرة معاملة البشرة لا مجال للتأمل في
وجوب المسح بها، وأنها قائمة مقام الكف فيما يترتب عليها من الأحكام، ومن
حكمهم هنا بوجوب المسح بجبيرة الماسح تعرف صحة ما قدمناه من لزوم
حصول أقل الغسل في مسح الجبيرة، وعدم كفاية المسح الوضوئي فيها. وهذا من
جملة الشواهد على ما ادعيناه ثمة.
قوله (قدس سره): (ولا يجري حكم الجبيرة على الرمد، بل يتعين التيمم وإن
كان الأحوط جمعهما، وكذلك وجع الأعضاء بالصليل) وهو البثور
(ونحوه) من دمل وجرح في إطلاقه الحكم بالتيمم في الرمد إشكال كإطلاقه
في الاحتياط فيه، بل الأقوى أن الرمد إذا كان بحيث يضره استعمال الماء في
المواضع الصحيحة من الوجه ولو القريبة من العين فالتكليف فيه التيمم، إذ لا دليل
على إعمال المسح الجبيري في العضو الصحيح الغير المستور بخرق الجبيرة
وألواحها، فالتيمم مع التضرر باستعمال الماء للمرض إجماعي، فلا ينبغي التأمل
في أن الحكم حينئذ التيمم كما أنه ينبغي القطع بأن الحكم الوضوء التام في الأرمد
الذي لا يضره استعمال الماء بوجه أو خصوص الماء الحار، مع إمكان الوصلة اليه.
نعم الإشكال في الرمد الذي يضره استعمال الماء في خصوص العين
وأجفانها، فهل يكلف بالوضوء الجبيري بوضع خرقة على العين والمسح عليها
كالمكشوف من القروح، أو أنه يتيمم لإطلاقهم الحكم بالتيمم في الرمد الذي يضر
معه استعمال الماء؟ وقد ادعى المصنف (قدس سره) في جواهره القطع بأن التكليف فيه
التيمم لأصالة الانتقال إلى التيمم بتعذر بعض أعظاء طهارته وعدم شمول أدلة
الجبيرة ولواحقها له، انتهى.
ولا يخفى عليك ما في الأصل الذي ادعاه مما قد قدمناه من أصالة الجبيرة
336

في ما لم يوهن فيه عمومات الميسور وما لا يدرك والمستطاع وحسنة
عبد الأعلى، وحكى (قدس سره) عن الحدائق أن الأقرب إن كان لا يتضرر بغسل ما عدا
العين فالواجب الوضوء أو الغسل أو غسل ما حول العين ولو بنحو الدهن، لأصالة
المائية مع عدم ثبوت المخرج وإلحاقا لها بحكم القروح والجروح، بل لعل
الجواب في بعض أخبارها يتناول لذلك وإن كان السؤال مشتملا على خصوص
الجرح والقرح، فإن العبرة بعمومه، انتهى.
أقول: ولا ينبغي فيه ترك الاحتياط بالجمع بين التيمم والوضوء الجبيري،
وعليه ينزل ما علقه الأستاذ - طاب ثراه - على الرسالة بقوله: " فيه إشكال،
فلا يترك الاحتياط " وإن كان لا يبعد فيه قوة القول بكفاية الوضوء الجبيري في
الفرض، هذا تمام الكلام في الرمد.
وأما وجع الأعضاء فتفصيله أنه إن أضره استعمال الماء في العضو بزيادة
وجعه أو بطء برئه أو تألمه في الحال ألما لا يتحمل عادة وأمثال ذلك، فالحكم فيه
التيمم لدخوله في المرض المسوغ معه التيمم، لعدم الفرق فيه بين ما يختص بعضو
أو يشمل جميع البدن بمعنى انقلاب الطبيعة به عن الصحة إلى الفساد، لاشتراك
الجميع في زوال الطبيعة عن الاعتدال وانعزاله عن التصرف بمقتضى حالتها
الأصلية، وإن لم يستضر بإعمال الماء فتكليفه الوضوء التام، ومع الشك يجمع
بينهما، للاحتياط والضرر والألم اليسير الغير المعتنى به في العادة بحكم العدم في
وجوب الوضوء معه فلا نعلم وجها لوجوب الاحتياط بالجمع كما هو ظاهر
العبارة وإن كان لا ينبغي تركه.
قوله (قدس سره): (ولو كانت الجبيرة نجسة وضع خرقة اخرى طاهرة عليها)
ومسحها، لأن الواجب عليه الوضوء المشتمل على مسح الجبيرة، ولا يعتبر في
خرقها عدد خاص، فإذا كان السطح الفوقاني من الموجود حال الوضوء غير قابل
للمسح عليه باعتبار نجاسته وجب عليه إصلاحها بما يسعه المسح عليها، وهو بأن
يشد خرقة اخرى عليها كما لو اشتد ألمه بإحساس البرودة مثلا من إمساسها
337

للنداوة الحاصلة من المسح عليها لقلة خرقها، فإنه يجب عليه إحكام الشد بحيث
لا يؤذيه برد المسح.
وعليه ينزل ما ادعاه سيد المدارك من نفي الخلاف عن وجوب وضع الخرقة
على الجبيرة النجسة، وكذا ما عن الحدائق من نسبة ذا إلى ظاهر الأصحاب حتى
أنه ألجأ إلى متابعتهم مع كونها على خلاف مذاقه.
وإن كان إطلاقهم يشمل ما استشكل فيه الأستاذ - طاب ثراه -، وهو أن يضع
عليها خرقة عادية ويمسح عليها ويرفعها بعد المسح. وجه الاشكال أن وضع
الخرقة يرى أنه لا يصدق عليه الجبيرة، فالمسح عليها ليس مسحا على البشرة
ولا على بدلها، ويؤيده ما حكي عن العلامة في التذكرة أنه حكم بالتيمم فيمن كان
بعض بشرته نجسا، ولم يجوز له الوضوء بالمسح على خرقة موضوعة على الجزء
المتنجس مع ايجابه وضع الخرقة هنا على الجبيرة النجسة.
فإذن الحكم في تلك الصورة مشكل، غايته فاللازم إما إصلاح جبيرته بحيث
تكون قابلة للمسح عليها بالغسل أو التبديل، أو بأن يشد عليها خرقة طاهرة مثلا
فيمسح عليها، وأما التيمم لأنه من المتعذر مسح جبيرته الذي هو بدل عن غسل
بشرته، فيصدق أنه غير متمكن من المائية بكلتا قسميها من الاختيارية
والاضطرارية، فيتعين عليه التيمم كما عن كشف الغطاء تأسيس كونه هو الأصل
مع احتماله أن يعامل معها مع تعذر الغسل والوضع والتبديل معاملة الجرح المجرد
بأن يذرها ويغسل ما حولها، هذا.
ولكن مقتضى القاعدة تعين التيمم، لتعذر المائية بقسميها فهو بدلها، لكن لما
كان القول بالوضوء في حقه هو ما يستفاد منهم في الفرض حتى أنه نقل الأستاذ
- طاب ثراه - القول بالمسح على الجبيرة النجسة، فلا يترك الوضوء مع ايجاد
مسح الجبيرة بما أمكن خصوصا مع ما أصلناه سابقا من أصالة المائية بقسميها من
غير فرق بين الأنحاء الثلاثة في إصلاح الجبيرة النجسة هنا.
نعم الأقوى التيمم مع تعذر ما ذكر وإن كان في تمام الصور لا ينبغي ترك
338

الاحتياط كما حكم به السيد الأستاذ الميرزا - طاب ثراه - بايجاد الوضوء بما
أمكن وتيمم معه.
قوله (قدس سره): (ولا يعتبر في مسحها كونها مما تصح الصلاة فيها) بعد كونها
طاهرة، لعدم اعتبار جميع ما يعتبر في الصلاة في الوضوء قطعا سيما اللباس، لعدم
مانعية ما لا يصح الصلاة فيه كالحرير وغير المأكول عن التوضي معه، خصوصا مع
استثناء عصابة الحرير في الصلاة أيضا.
وقوله (قدس سره): (فلا بأس حينئذ بالمسح على جبيرة الحرير والذهب
وغيرهما) تفريع عليه، ولما كانت الكلية المذكورة تشمل الغصب استثناه
بقوله (قدس سره): (نعم لو كانت مغصوبة لم يجز له المسح عليها) لأن المسح
تصرف في المغصوب وهو عبادة منهي عنها فيفسد.
قوله (قدس سره): (بل لو وضع عليها خرقة محلله لم يجزه المسح عليها) لعدم
مدخلية للواسطة في رفع قبح التصرف في مال الغير كما في الصلاة على الفرش
المغصوب ولو بوسائط عديدة.
قوله (قدس سره): (ولا يعيد الصلاة بوضوء الجبائر بعد البرء قطعا) للإجماع
عليه بكلا قسميه، كما يومئ إلى حصوله أن الأستاذ - طاب ثراه - لم يستشكل فيه
وقال: " فلا إشكال في عدم وجوب الإعادة ولا القضاء لفرض الإتيان بالمأمور به
واقعا نظير الصلاة بالتيمم " انتهى. ولا شبهة في اقتضائه الإجزاء.
قوله (قدس سره): (بل ولا الطهارة للمتجدد من صلاته وإن كان هو الأحوط)
لما قدمناه في مبحث التقية، ووجه الاحتياط أيضا واضح سيما على ما عليه
الأستاذ - طاب ثراه - من الشك في رافعية مثل هذا الوضوء، والمبيح منه إنما هو
الوضوء لصلاة تعذر اتيانها بالوضوء التام، والمفروض أن الصلوات الآتية ممكن
ايجادها بالوضوء التام، فلا عذر يقتضي مبيحية هذا الوضوء الناقص للدخول فيها
لامتثالها به.
قوله (قدس سره): (بل الأقوى ذلك) يعني عدم الإعادة (لو كان في الأثناء)
339

يعني البرء قد عرفت ما فيه، وأن الأقوى فيه الإتيان بوظيفة هذا الجزء إن لم يفت
الموالاة، وإلا وجب الاستئناف.
قوله (قدس سره): (فضلا عما بعد الفراغ) لما قدمناه من أنه بعد حصوله رافع
للحدث إذا ورد على المحل القابل، فلا وجه للحكم بإعادته لمن ارتفع حدثه فهو
وما صلى به صلاة صحيحة بالنسبة إلى ما يأتي من صلواته على حد سواء، إلا أن
الأقوى فيما اتسع الوقت لزوم الإعادة ما لم يصل به، سواء ارتفع العذر في أثناء
الوضوء أم بعد الفراغ منه، لاقتضاء وسعة الوقت ذلك، فإن عمله في الوقت
مشروط بالوضوء التام من دون ملاحظة تبعيض الزمان، والفرض تمكنه مما كلف
به، والوضوء الجبيري صحته متوقفة على عدم تمكنه من الوضوء التام لهذا العمل
في وقته، وقد فرض تمكنه منه فلم يقع ما هو بدله صحيحا شرعيا ليترتب عليه
رفع الحدث كالتيمم عند اعتقاد بقاء مسوغه إلى آخر الوقت إذا ارتفع في البين،
فايجاد كلا البدلين باعتقاد وجود المسوغ لهما إنما هو بتخيل الأمر، فإجزاؤهما
مبتن على اقتضاء الأمر الظاهري العقلي للإجزاء، وقد تنقح عدمه في محله والأمر
الظاهري الشرعي غير محقق كما بيناه.
قوله (قدس سره): (كما عرفته سابقا في الضرورة التي منها ما هنا فيجري فيه
ما تقدم) إشارة إلى ما قواه مع ما فيه من الاحتياط بالإعادة، ويأتي فيه ما قواه
الشيخ الأستاذ - طاب ثراه - ولذا علق هنا أيضا على العبارة بقوله: " وقد تقدم أن
الأقوى إعادة الوضوء " بعد زوال العذر، سواء كان في أثناء الوضوء أو بعد فراغه
منه ظاهرا.
نعم لا ينبغي ترك الاحتياط بالإعادة مع ما عرفته من قوتها فيها، فكيف في
الملحقات خصوصا في ما لم يتضح فيه كون التكليف فيه الوضوء الناقص فكيف
في ما ترجح فيه التيمم؟! بل الأقوى فيه حينئذ الإعادة، لبطلان هذا الوضوء وهذا
التيمم بالتمكن من المائية الكاملة، فتأمل لئلا يختلط عليك الأمر، والله الهادي
إلى سواء السبيل.
340

وقد اتضح بذلك صحة قول الأستاذ الذي علقه هنا بقوله: " وقد تقدم أن
الأقوى إعادة الوضوء " بعد زوال العذر سواء كان في أثناء الوضوء أو بعد فراغه
منه، لكن في خصوص تلك الأعذار دون التقية، لاعتبار عدم المندوحة فيها دونها.
قوله (قدس سره):
(المبحث الثالث: في الشرائط)
(وهي امور) تأخيره (قدس سره) بيان الشرائط عن الأحكام اللاحقة لنفس الوضوء
مع أن ترتب الحكم على الموضوع وتوقف تمامية الموضوع على بيان الأجزاء
والشرائط معا يقتضي تقدمها عليها إنما هو لأجل أن معرفة الشرط مؤخرة عن
معرفة المشروط، والأحكام المتقدمة ذكرت تبعا لبيان مهية الوضوء لا أصالة،
ومن المعلوم تقدم بيان المهية على بيان شرطها، ولذا كان المبحثان المتقدمان في
بيان أجزاء الوضوء في المختار والمضطر لا لبيان الأحكام.
قوله (قدس سره): (منها طهارة الماء... إلخ) لا يخفى عدم ملائمته لتعداد شرائط
الوضوء، فإن الأربعة الاول من شرائط الماء، اللهم إلا أن يتمحل ويتسامح بعد
شرط الشرط من شرائط المشروط الأول بأن يجعل من شرط الوضوء وقوعه بماء
مخصوص فأدرج خصوصيات الماء في عداد شرائط الوضوء لإرجاعه إليها
بالمآل، فافهم.
ثم الدليل على اعتبار طهارة ماء الوضوء الإجماع، بل الضرورة كما ادعاه في
المستند والأخبار المستفيضة المستدل بها على انفعال الماء القليل بالملاقاة
المذكور فيها أنه لا يجوز التوضي به، ومنها المروي عن تفسير النعماني عن مولانا
أمير المؤمنين (عليه السلام): " ان الله فرض الوضوء على عباده بالماء الطاهر " (1).
وأما اعتبار إطلاقه فللاجماع أيضا كما يشهد على حصوله حكايته عن
المبسوط، والانتصار، والتهذيب، والسرائر، ونهاية الإحكام، والغنية، والتحرير،

(1) المحكم والمتشابه: ص 53.
341

وهو صريح الشرائع والتذكرة، وعدم نقل خلاف فيه إلا عن الصدوق بماء الورد،
وعن العماني به عند الضرورة بمستندين فيه إلى رواية محمد بن عيسى، عن
يونس، عن أبي الحسن (عليه السلام): " عن الرجل يغتسل بماء الورد ويتوضأ به للصلاة،
قال (عليه السلام): لا بأس " (1) المردودة بضعف السند بسهل بن زياد وبابن عيسى،
وبالشذوذ، كما عن التهذيب أنه أجمعت العصابة على ترك العمل بها، مضافا إلى
دعوى متروكية روايات ابن عيسى عن يونس مطلقا كما في المدارك.
ومنه يعلم عدم إمكان حملها على الضرورة لتكون مستندة للعماني، بل عن
المبسوط نفي الخلاف عنه بين الطائفة، وعن السرائر بين المحصلين، ولقول
الصادق (عليه السلام) في رواية أبي بصير وقد سأله عن الوضوء باللبن: " لا إنما هو الماء
والصعيد " (2). ومنها يتضح صحة التمسك بآية التيمم من قوله تعالى: " فلم تجدوا
ماء " (3) وبقوله تعالى: " وأنزلنا من السماء ماء طهورا " (4) بضميمة تبادر الماء
المطلق وصحة السلب عن المضاف، حيث إنه لو صح طهورية المضاف لم يحسن
الاقتصار في مقام الامتنان على ذكر الماء فقط، ولعرى تخصيصه بالذكر عن
الفائدة.
وإمكان كون فائدة التخصيص أعمية النفع فيه وأكثرية وجوده يرده كثرة
وجود المضاف أيضا وعدم قصور نفعه عن المطلق على فرض طهوريته لو لم يدع
أنه أعم حينئذ.
وأما اعتبار إباحته فللإجماع أيضا على ما يظهر منهم من ارسالهم اياه إرسال
المسلمات، وللنهي المفسد للعبادة كما حقق في محله.
وأما اعتبار عدم استعماله في رفع الخبث، فلعدم خلاف فيه كما نفاه عنه
الأستاذ، ويظهر من آخرين أيضا، بل أرسله بعضهم إرسال المسلمات، وقد تقدم

(1) الوسائل 1: 148، الباب 3 من أبواب الماء المضاف، ح 1.
(2) الوسائل 1: 146، الباب 2 من أبواب الماء المضاف، ح 1.
(3) النساء: 43.
(4) الفرقان: 48.
342

تفصيله عند شرح قول المصنف (قدس سره) في المبحث الثاني من مباحث المياه من قوله:
" الماء المستعمل... الخ "، وتقدم منا هناك تقوية جواز رفع الحدث بالمستعمل في
رفع الحدث، فالاحتياط الذي من السيد الأستاذ - طاب ثراه - في تركه في
الموردين غير لازم وإن كان حسنا.
وأما اعتبار طهر المحل فلأن الماء القليل ينفعل بمجرد ملاقاة النجاسة كما
تقدم، فيخرج عن القابلية لرفع الحدث وفي غيره الغير المنفعل يناط الصحة بجواز
التداخل، وهو ممنوع.
مضاف إلى ما يدعى أن الأصل ذلك بعد فرض العجز عن إقامة الدليل عليه
كيف؟ وقد اقيم الدليل عليه من الإجماع المحكي عن الغنية، ومما عن أمالي
الصدوق: " أنه من دين الإمامية "، وما عن شارح المفاتيح: " انه هو الظاهر من
فتاوى الأصحاب ".
ومن الأخبار المدعى ظهورها في الاشتراط كصحيحة محمد بن مسلم بعد
السؤال عن غسل الجنابة: " تبدأ بكفيك فتغسلهما، ثم تغسل فرجك، ثم تصب على
رأسك ثلاثا " (1) الخبر. وفي صحيح زرارة: " كيف يغتسل الجنب؟ فقال: إن لم
يكن أصاب كفه شيء غمسها في الماء ثم بدأ بفرجه فأنقاه، ثم صب على
رأسه " (2). وفي صحيح حكم بن حكيم بعد السؤال عن الغسل: " أفض على كفك
اليمنى من الماء فاغسلها ثم اغسل ما أصاب جسدك من أذى، ثم اغسل فرجك
وأفض على رأسك وجسدك فاغتسل، فإن كنت في مكان نظيف فلا يضرك أن
لا تغسل رجليك، وإن كنت في مكان ليس بنظيف فاغسل رجليك " (3).
وفي صحيح يعقوب بن يقطين: " الجنب يغتسل يبدأ فيغسل يديه إلى
المرفقين قبل أن يغمسهما في الماء ثم يغسل ما أصابه من أذى، ثم يصب على

(1) الوسائل 1: 502 الباب 26 من أبواب الجنابة، ح 1.
(2) الوسائل 1: 502 الباب 26 من أبواب الجنابة، ح 2.
(3) الوسائل 1: 503 الباب 26 من أبواب الجنابة، ح 7.
343

رأسه " (1). وفي صحيح أحمد بن محمد بعد السؤال عن الغسل: " تغسل يدك
من المرفقين إلى أصابعك، وتبول إن قدرت على البول، ثم تدخل يدك في الإناء
ثم اغسل ما أصابك منه، ثم أفض على رأسك وجسدك (2).
وفي موثق سماعة: " إذا أصاب الرجل جنابة فأراد الغسل فليفرغ على كفيه
فليغسلهما دون المرفق ثم يدخل يده في إنائه ثم يغسل فرجه ثم يصب على رأسه
ثلاث مرات " (3). وفي خبر أبي بصير بعد السؤال: " تصب على يديك الماء فتغسل
كفيك ثم تدخل يدك فتغسل فرجك ثم تمضمض وتستنشق وتصب الماء على
رأسك ثلاث مرات " (4).
والايراد على تلك الصحاح بعدم الدلالة لاشتمالها على جملة من
المستحبات فليكن الأمر بتقديم إزالة النجاسة أيضا كذلك كما هو صريح جملة من
كلمات الأصحاب كما عن التذكرة وغيرها، بل بعض من عاصرناه ادعى أن معظم
الأصحاب أرسل ندب التقديم إرسال المسلمات، بل أوجب حملها على الندب
لمخالفة ظواهرها لفتوى القوم، حيث إنها في وجوب التقديم ظاهرة.
مدفوع، بأنها كجملة من كلمات القوم الظاهرة في وجوب التقديم مسوقة
لبيان أصل الوجوب لا لوجوب التقديم، والتعبير بما ظاهره التقديم إنما هو لأجل
ما هو المتعارف من أنهم يقدمون ما يجب رفعه من الموانع، ولا يدعونه غالبا إلى
حين الاشتغال بذلك العضو الذي هو فيه.
ومن هنا يعلم أن نسبة القول بوجوب التقديم على تمام العمل إلى جمع من
الأصحاب شرطا أو تعبدا أخذا بظاهر كلماتهم ليس في محله، لعدم الشبهة في
أن مرادهم من تلك العبارات ما ذكرناه، وإن أوهم ظاهرها خلافه كما أفصح عن

(1) الوسائل 1: 515 الباب 34 من أبواب الجنابة، ح 1.
(2) الوسائل 1: 515 الباب 34 من أبواب الجنابة، ح 3.
(3) الوسائل 1: 503 الباب 26 من أبواب الجنابة، ح 8.
(4) الوسائل 1: 504 الباب 26 من أبواب الجنابة، ح 9.
344

ذلك الأستاذ - طاب ثراه - في غسل الميت وكذلك المحقق الثاني في شرح عبارة
القواعد: " يجب إزالة النجاسة أولا " انتهى. حيث قال: " ربما أوهم قول المصنف
وجوب إزالة النجاسة قبل الاغتسال، وليس كذلك قطعا " انتهى.
فإنه نسب ما يفيده ظاهر هذه العبارة الظاهرة في لزوم التقديم إلى الوهم،
فيعلم أن الباقين أيضا كذلك، والحاصل أنه لا قصور في أخبار الباب من تلك
الجهة، وهي تامة في الدلالة على المدعى إلا أن موردها لما كان الماء القليل
- فإنها وردت في مستعمليه كما هو ظاهرها سؤالا وجوابا، ولذا استدل بها على
انفعال الماء القليل والغسالة - لا تنهض بإثبات المطلب في الكثير والجاري.
بل يمكن دعوى أن منصرف الغسل في سالف الزمان لم يكن إلا الغسل بالماء
القليل كما يشهد له نقل الأستاذ - طاب ثراه - في غسل الميت قول بوجوب
الترتيب في غسل الجنابة وعدم كفاية الارتماس عن بعضهم، وإن ضعفه هو
- طاب ثراه -.
وكيف كان فلا دلالة في تلك الأخبار على وجوب الإزالة قبل الغسل مطلقا
حتى فيمن يغتسل في الكثير والجاري سيما على القول بحصول الطهر في المحل
النجس بمجرد ملاقاته لهما، فإنه يمكن أن يقال: إن التقديم حاصل حينئذ بالمعنى
الذي قدمناه من أن المراد تقديم الإزالة على غسل ذلك المحل لا على تمام
العمل، فإن من الجائز أن يقال: إن الطهر حصل بأول الملاقاة والغسل المطلوب
حصل في الآن المتأخر عنها، ولا يلزم التشريك الممنوع أيضا.
وعليه يمكن أيضا تنزيل كلام من أطلق في المقام ولم يصرح بالإطلاق
أو بلزوم الإزالة في خصوص الكثير والجاري.
وعليه فيقوى عدم الاشتراط في غير صورة تنجس الماء بالملاقاة وإن لم
يزل حكم الخبث لأجل الاحتياج إلى التعدد، أو لغير ذلك فيصح حينئذ ما حكي
عن الشيخ من أنه: " من اغتسل وفي بدنه نجاسة يكفيه عن غسلها إن زالت به،
وعليه ازالتها بعد الغسل إن لم تزل وصح غسله " انتهى، في الكثير والجاري مطلقا،
345

وفي القليل عند من لا يقول بانفعاله بها بعد فرض عدم حيلولتها عن غسل البشرة،
هذا إذا لم يكن إجماع على اشتراط الإزالة كما سمعت دعواه عن الجماعة.
والظاهر أيضا تحققه في خصوص غسل الميت حيث ادعى الأستاذ - طاب
ثراه - ثمة إمكان الفرق بينه وبين غيره من الأغسال لمكان الإجماع، بل والأخبار
فيه.
والظاهر أنه لا إجماع في المقام كما يظهر من هذا الكلام ومما حكي من
مخالفة كثير من الأعلام كما سمعته عن الشيخ عن مبسوطه، وعن العلامة في نهاية
الإحكام من التفصيل بين القليل وغيره فاعتبره فيه فيما إذا كان في غير آخر
العضو، وإلا فلا تجب، هذا فيما هو عمدة أدلتهم من الإجماع والأخبار.
وأما الأصل فإن اريد به استصحاب الحدث ففيه أن شكه مسبب عن الشك
في شرطية الإزالة، وبعد جريان الأصل في نفي ما شك في شرطيته لا يبقى مجرى
للاستصحاب المذكور لرفع الحدث بهذا الغسل شرعا قطعا.
وإن اريد به الاشتغال الذي سمعته فيما نقلناه سابقا عن الأستاذ - طاب ثراه -
المأخوذ من قوله (عليه السلام): " لا صلاة إلا بطهور " فقد عرفت منا تقوية رافعية استعمال
الطهور المأمور به في المحل القابل، وهذا منه، والمشكوك الشرطية منفي بحكم
الأصل، هذا.
ولكن لا يخفى أنه لا ينبغي ترك الاحتياط في الكثير والجاري أيضا، أما
القليل فالأقوى وجوب الإزالة قبل ما يجب من العمل في المحل المتنجس، لما
قدمناه من نجاسة الماء بالملاقاة، فيخرج عن القابلية لرفع الحدث. وجه الاحتياط
في الكثير والجاري شبهة التشريك، وإطلاق بعض الأخبار - وإن نزلناه نحن على
الماء القليل - وما سمعته من الأمالي من نسبته إياه إلى دين الإمامية.
ويؤيده أيضا وجوب إزالتها عن الميت إجماعا، فلو لم يدع أولويته غيره به
فلا شبهة في بعد مخالفته له من تلك الجهة، بل يمكن دعوى سكون النفس أنه مع
غيره من تلك الجهة من واد واحد كما ينبئ عنه الأخبار الدالة على أنه بعينه غسل
346

الجنابة لا غير، ومنه يتأتى دعوى اتحاد الطهارتين الوضوء والغسل في الشرائط،
وإن كان اتحادهما فيها مسلم غير محتاج إلى تلك الدعوى، والمقصود هنا
التسوية بينهما وبين غسل الميت في هذا الشرط ليستدل على ثبوته في المقام
بثبوته في غسل الميت إجماعا، ويتأتى منه صحة القول بتقوية الاشتراط، والحكم
بوجوب الإزالة فيهما أيضا.
وأما وجوب رفع الحاجب عنه فلظهور الاتفاق عليه، مضافا إلى المعتبرة
الواردة في الخاتم والسير والدملج بلزوم النزع أو التحريك لايصال الماء تحته
كما اشير إليها سابقا كصحيحة علي بن جعفر (عليه السلام) عن أخيه (عليه السلام): " حين سأله عن
المرأة عليها السوار والدملج في بعض ذراعها لا تدري يجري الماء تحتهما أم لا،
كيف تصنع إذا توضأت أو اغتسلت؟ قال (عليه السلام): تحركه حتى يدخل الماء تحته
أو تنزعه، وعن الخاتم الضيق لا يدري هل يجري الماء تحته أم لا كيف يصنع؟
قال: إن علم أن الماء لا يدخله فليخرجه إذا توضأ " (1)، ولا فرق بينها وبين غيرها
من موانع وصول الماء إلى البشرة قطعا كما يفيده قوله: " لا يدري... الخ "، وقوله:
" إن علم أن الماء الخ... ".
هذا مضافا إلى وجوب غسل هذا الجزء المحجوب بأدلة الوضوء وبالإجماع،
والمفروض منع الحاجب عن حصول غسله فلا يتحقق الوضوء معه.
(و) أما اعتبار (إباحة المكان الذي هو بمعنى الفضاء الذي يقع فيه
الغسل والمسح) فلأن المسح والغسل الغير الارتماسي اللذين هما الوضوء يتحد
تحققهما مع التصرف في الفضاء، بمعنى أنهما من مصاديق التصرف فيه أيضا،
فلو كان غير مأذون فيه فسدا، للنهي المفسد للعبادة.
وتوهم أن الغسل عبارة عن جري الماء على المحل المغسول والامرار خارج
عنه، والنهي عن الخارج المتحد تحققه زمانا مع العبادة غير مفسد كالنظر إلى
الأجنبية في الصلاة وترك التكتف فيها في موضع وجب فعله للتقية في غير محله

(1) الوسائل 1: 329 باب 41 من أبواب الوضوء، ح 1.
347

لأن الغسل الوضوئي عبارة عن اجرائك الماء على المحل، والإجراء عليه في غير
صورة كونه داخل الماء لا يمكن تحققه إلا بخرق الماء للهواء الملاصق للبشرة
بأي نحو حصل الإجراء، سواء كان بإعانة اليد أم بغيرها أو بنحو آخر، ولا شبهة
في صدق التصرف في الفضاء على الإجراء المستلزم لتخريق الهواء وكونهما
متحدي الوجود كاتحادهما أيضا فيما لو غمس العضو في الماء ونوى غسله بعد
حصول الغمس إذا كان الفضاء الذي شغله الماء مغصوبا، وإن كان الماء والمحيط
الذي أحرزه كجدران الحوض مملوكا له وما استثنيناه من الغسل بالرمس هو ما لو
فرض مكان الماء، وهو الفضاء الذي صار حيزا له مباحا، والفضاء الذي فوقه
المتصل بسطحه الأعلى مغصوبا.
فعلى هذا فما حكي عن العلامة بحر العلوم في الدرس أنه فصل بين الغسل
والمسح، فاعتبر إباحة المكان في الثاني، لأنه عبارة عن إمرار اليد فيكون تصرفا
في الفضاء دون الأول، لأن الإمرار فيه مقدمة خارجة عن حقيقته فلا يفسد.
لا وجه له، لما عرفت من صدق التصرف في الفضاء في كل منهما بفعل الغاسل
والماسح، نعم لا يعتبر فيه إباحة المكان بمعنى مستقر الغاسل والماسح حتى في
مثل الفرش أو النعل الذي عليه رجله حال المسح لخروجه عن حقيقة الغسل
والمسح وكون اجتماعهما مورديا كالنظر إلى الأجنبية حال الصلاة.
ومما ذكرناه وتحقق في محله أيضا من عدم جواز اجتماع الأمر والنهي وأن
الحكم فيه فساد المأمور به في مادة الاجتماع يتضح عدم تمامية ما حكي عن
المعتبر وجماعة منهم العلامة وسيد المدارك من القول بالصحة، لاختلاف جهتي
الأمر والنهي.
قوله (قدس سره): (أما غيره كالمصب والأواني فمع انحصار الاستعمال فيه
يبطل الوضوء، ومع عدمه يقوى الصحة، والأحوط التجنب) أما البطلان مع
الانحصار، فلعدم الأمر لقبح التكليف منه تعالى بما لا ينفك عن الحرام، وبما
يتوقف امتثال الأمر على ارتكابه، وأما الصحة مع عدم الانحصار، فلعدم تصادق
348

المأمور به والمنهي عنه في الواحد الشخصي الذي هو سبب البطلان فيما إذا كان
متعلقا الأمر والنهي مفهومين متغايرين كما في المقام، وإنما كان اجتماعهما
مورديا، وهو غير موجب للبطلان وإن توقف أحدهما على الآخر، وترتب
أحدهما على الآخر ترتب المسبب على السبب أو المعلول على العلة بعد وجود
المندوحة، إذ لا نقول بحرمة مقدمة الحرام مع عدم الاستلزام وإن كان علة له.
فحكم سيدنا الأستاذ - طاب ثراه - بالبطلان في خصوص المصب إذا كان
الوضوء علة للتصرف فيه كما علقه على الرسالة لم أفهم وجهه، إذ علية الوضوء
للتصرف في الغصب لو أوجب البطلان للزم أن يقال به في الآنية أيضا، إذ الوضوء
كما أوجب التصرف في المكان بالصب فيه كذلك يتوقف على التصرف في الآنية
بالأخذ منها، وليس شيء من الصب والاغتراف من الإناء وضوءا كما لا يخفى،
وإنما هما أمران مفارقان له وجودا، مترتبان عليه تسبيبا أو توقفا، وليس إسناد
ترتب أحدهما اليه أولى من إسناد صاحبه إليه للتوقف، بل هما في مرحلة الترتب
والتوقف على حد سواء، وقد عرفت أن توقف المأمور به على الحرام موجب
للبطلان إذا انحصر مقدمته فيه، واقتضاء الحرام حرمة مقدمته مقصور بصورة
استلزامه لها، وهنا غير مستلزم، لعدم توقف الوضوء على خصوص التصرف
المحرم بعد وجود المندوحة.
وبالجملة ما ثبت من الأدلة هو حرمة القرب والدنو إلى مال الغير بغير إذنه
المكنى به عن التصرف فيه، ومن المعلوم تحقق هذا الحرام وحصول معصية نهيه
بنفس الاغتراف وهو من مقدمات الوضوء لا نفسه، فعند عدم المندوحة يقبح
الأمر بالوضوء، لاستلزام امتثال أمره الواجب على ارتكاب التصرف في الآنية
المحرم للغصبية بخلاف صورة وجود المندوحة، وكذلك الحال في ترتب التصرف
في المصب على الوضوء، فلو لم يكن هنا مندوحة واستلزم الوضوء التصرف فيه
ولم يكن بد من ترتبه عليه لم يجز بقاء أمر الوضوء، لعدم انفكاك امتثاله عن الحرام
ومستلزم المحرم محرم بخلاف ما لو كان هناك مندوحة والمكلف بسوء اختياره
349

جمعهما، لعدم الاستلزام لامكان اتيان المأمور به في المكان المحلل، فالجمع
بينهما إنما حصل بسوء اختيار المكلف، وهو غير مناف لحصول الإطاعة بعد عدم
تصادفهما مصداقا كما في المقام.
ولعله لذا أبدل السيد الأستاذ قوله: " إذا كان علة " بقوله: " إذا كان تصرفا فيه "،
ليرجع إلى الاتحاد المصداقي ولو بحكم العرف، وإن كان من الاتحاد الموردي
بمقتضى النظر الدقيق، فافهم.
ومثله الكلام في الوضوء بالآنية المغصوبة فإنه لا يبعد فيه الحكم بالبطلان،
لصدق التوضي بها عرفا مطلقا، فيتحد متعلق الوجوب والحرمة، وهذا الاتحاد في
المصب ليس بدائمي، فلا تغفل.
قوله (قدس سره): (وكذلك الحال في الماء في آنية الذهب والفضة مع عدم
إمكان الافراغ منها) يعني في صورة انحصار الامتثال بإعمال تلك الآنية يبطل،
لما تقدم وجهه في المغصوب من قبح الأمر بشيء يستلزم امتثاله ارتكاب المحرم،
ولا يمكن اتيانه إلا بارتكابه.
قوله (قدس سره): (بل البطلان فيها مع عدم الانحصار لا يخلو عن وجه موافق
للاحتياط، إلا أن الأقوى خلافه) وجه البطلان ورود المستفيضة بحرمة الأكل
والشرب فيها، وتسلم القوم حرمتهما كما سيأتي، وتعديهم عن حرمتهما إلى حرمة
غيرهما من وجوه الاستعمال، لجملة من المطلقات، ولإلقاء خصوصية
الاستعمالين من البين على ما سيأتي تفصيله إن شاء الله.
ومن المعلوم بقرينة حرمة الأكل الذي هو عبارة عن المضغ والازدراد أن
المحرم من وجوه استعمال تلك الآنية بعد عدم قصرها في خصوص الأكل
والشرب وثبوت الحرمة في جميع وجوه الاستعمال كما هو الحق هو ما يعد في
العرف استعمالا لها، ولا يختص الحرمة بخصوص الاستعمال الذي هو مقدمة
للأفعال في النظر الدقيق، وهو أخذ ما فيها من المأكول والمشروب وغيرهما، بل
يعمها وما يتعقبها من الأفعال المترتبة عليها فيما يعد في العرف مجموع المقدمة
350

وذيها فعلا واحدا ويتحقق عندهم استعمالها في ذي المقدمة بتناول ما فيها، لأجل
تحصيل المطلق كما في الأكل فإن صدقه من الآنية إنما هو بأخذ اللقمة منها للأكل،
وليس الأكل من الآنية في العرف إلا بأخذ اللقمة مما فيها لأجل الأكل.
ومن هنا يختلف حال الأفعال لاختلاف العرف فيها، ولا ريب أن الوضوء من
الآنية باغتراف ما فيها من الماء لأجل الوضوء أو بصب ما فيه في اليد، والمفروض
حرمته، فإذا حرم الوضوء فسد، وهذا هو وجه ما حكي عن منظومة الطباطبائي
وعن كشف الغطاء من الحكم بفساد الوضوء، لأن العرف يحكم بأن استعمال الآنية
في الأكل هو ايجاد المضغ والازدراد عقيب أخذ ما فيها من المأكول والمشروب
بآلية اليد وغيرها، وكذا ايجاد أفعال الطهارة بأخذ ما فيها من الماء بالية اليد
وتعقب تلك الأفعال لهذا الأخذ، ويرون تحقق نفس الأكل والطهارة بأفعالهما
الخاصة بتلك الكيفية، فإذا حرمت تلك الأفعال فسدت، للنهي.
وبهذا البيان ظهر وجه ما قواه الماتن - طاب ثراه - أيضا، لأنه يجعل
الاستعمال المحرم للآنية هو الأخذ الذي هو مقدمة للوضوء، وقد ظهر لك أن
حرمتها غير مضرة مع عدم الانحصار، هذا.
مضافا إلى أنه لو جعل المحرم في الأكل أيضا هو نفس أخذ الطعام من الآنية
دون ما يتبعه من المضغ والازدراد كما يظهر من المصنف الميل اليه في جواهره لم
يبق بعد وجه للقول بحرمة الوضوء وفساده لحرمة مقدمة وهو الأخذ، بل يمكن
نفي الحرمة عن أفعال الطهارة وإن بني على حرمة المضغ والازدراد، لأن حرمة
الأكل منصوص بالخصوص وقد تسلمها القوم أيضا.
فلذا لا بأس أن يقال بالحرمة فيه بالخصوص ويتبع فيه فهم العرف الاتحاد
وعدهم الأخذ منها والوضع في الفم والمضغ والازدراد أمرا واحدا فيحكم فيه
بالحرمة، لأنه معنى منع الأكل عن آنية الذهب والفضة ويسلك في غيره من وجوه
الاستعمال إلى ما يقتضيه القاعدة من اختصاص الحرمة بأول ما يتحقق به طبيعة
الاستعمال فيسلم الباقي عن الحرمة ولو على القول بكون المجموع فردا واحدا
351

من الاستعمال، بدعوى أن الأفعال التدريجية التي يتحقق صدق المهية بأول
ما يوجد منها يخص الحكم المتعلق بها بأول مصداقها وبأول ما تحقق هي في
ضمنه، والبقية التي نتبعها إنما هي من مشخصات الفرد، ولا ربط لها بتحقق المهية
فلا يتعلق بها حكمها.
والمقام أيضا من هذا القبيل، لأن المحرم إنما هو استعمال الآنية ولا شك في
تحقق الاستعمال بنفس الأخذ منها، فيكون المحرم هو وحده ويكون ما تتبعه من
الأفعال محللة، لأنها ليست استعمالا للآنية، لتحقق طبيعة الاستعمال قبلها، وإنما
هي امور متعقبة لاستعمالها ومترتبة عليه لا أنها نفسه.
ولعله لذا أو لغيره أفتى القوم بصحة الوضوء حتى ادعي عدم الخلاف في
صحته وإن كان الوجه الأخير لا يخلو عن سماجة، إذ بعد أن جعلنا مجموع
الأفعال التدريجية الموجودة فردا واحدا من الطبيعة، فاختصاص أول ما يوجد
منها بحكم الطبيعة وتخلية البقية عنه مع كون الطبيعة موجودة بوجود الفرد وفي
ضمنه لا يخلو عن منافرة، إذ بين الدعويين وهو دعوى تحقق الطبيعة بأول
الأفعال ودعوى كون المجموع فردا واحدا للطبيعة مباينة تامة.
كما أن الفرق بين الأكل وغيره من الاستعمالات بحمل الاستعمال فيه على
العرفي وفي غيره على الحقيقي أيضا سماجة، وإن كان أسهل من سابقه، لإمكان
أن يقال: إن مقتضى القاعدة في الجميع الحمل على الحقيقي خرج مورد النص
لاقتضاء المحاورة بتلك اللفظة الحمل على المتفاهم العرفي، وفي غيره لما لم يكن
له لفظ يحمل على ما يعد استعمالا لها حقيقة، وهو أول الأفعال لو لم يمنع ذلك بأن
حرمة سائر الاستعمالات إنما استفيد من هذا الاستعمال الخاص بإلقاء خصوصيته
بحمله على المثال، لكونه أظهر أفراد استعمال الآنية فليسلك في غيره ما سلك فيه
من الحمل على المتعارف، أو يقال باستفادة الكل من المطلقات، ويحكم فيها فهم
العرف كموثقة ابن بكير: " آنية الذهب والفضة متاع الذين لا يوقنون " (1).

(1) الوسائل 2: 1084 ب 65 من أبواب النجاسات، ح 4، وفيه: عن موسى بن بكر.
352

وما هو بتلك المثابة من الإطلاق، فإنه لا يريب أحد من أن ما يعد استعمالا
لها وتمتعا بها في نظر العرف هو حرام، ومن الواضح عدهم الوضوء تمتعا بتلك
الآنية واستعمالا لها فيه، وسر ذلك أن من الواضح أن الحرمة المتعلقة بالعين يراد
بها حرمة ما يراد منها من الاستعمالات المتعارفة، فكل ما يعد في العرف استعمالا
لها يكون هو متعلق الحرمة حقيقة.
ومن هنا يمكن أن تختلف الأفعال الحاصلة بآلية الإناء، وتفترق آنية الذهب
والفضة عن الآنية المغصوبة حيث إنها لم ينه عنها بنفسها ولا عن استعمالها ليصح
صرفها إلى المتعارف، وإنما جاء حرمتها من قبل حرمة التصرف في مال الغير
ويدعى تحققه بنفس الأخذ والاغتراف وعدم صدقه على بقية الأفعال التي تتبعها،
لأن الأخذ والاغتراف هو القرب إلى مال الغير دون البقية.
وكيف كان فلا ريب في أنه لا ينبغي ترك الاحتياط في عدم الاتيان بالطهارة
بالآنيتين، بل لا يبعد تقويته لولا مصير القوم إلى خلافه كما يقتضيه اقتصار
الجواهر نسبة البطلان إلى العلامتين الطباطبائي في منظومته والشيخ كاشف الغطاء
في كشفه، ونسب في المدارك استجواده إلى العلامة في المنتهى، وإن كنا
لا نتحاشى عن مثل هذا الإجماع، لمعلومية أن ليس مستندهم إلا حسبان تعلق
النهي بأمر خارج عن الطهارة، وقد أظهرنا خلافه، فتدبر.
قوله (قدس سره): (وكذا يعتبر فيه عدم المانع من استعمال الماء من مرض
أو عطش على نفسه أو نفس مؤمنة، ونحو ذلك مما يجب معه التيمم)
على ما سيأتي تفصيله في باب التيمم، وغير خفي عدم دخوله تحت شروط
الوضوء إلا على التسامح في عد شروط الأمر من شروط المأمور به.
ومنه يعلم أن قوله (قدس سره): (فلو توضأ والحال هذه بطل) ليس البطلان فيه
كالبطلان في فقد الشروط السابقة يصححه استئناف الوضوء، بل البطلان هنا لعدم
الأمر وانقلاب التكليف.
ولذا هو (قدس سره) بتخيل بقاء الأمر ورجوع المسألة إلى مسألة اقتضاء الأمر بالشيء
353

النهي عن ضده استدرك ما استثناه (قدس سره) بقوله: (أما إذا كان المانع من استعماله
ضيق الوقت فالصحة لو خالف قوية) وهو يتم فيما إذا توضأ لغير ما ضاق
وقته فإن فيه يتأتى مسألة الضد مع الاحتياط الذي ذكره، وأما الوضوء لما ضاق
وقته فالأقوى بطلانه كما علقه عليه الأستاذ - طاب ثراه - بقوله: " الأقوى البطلان
إذا قصد بوضوئه إباحة ما ضاق وقته " لعدم الأمر انقلاب التكليف، وليس الأمر
بالتيمم معه ترخيصا وتسهيلا حتى يتأتى معه صحة الوضوء، وإلا لم يكن في فعله
إثم، وليس مطلوبيته نفسية حتى يزاحم أمره الأمر المضيق فيبتنى فساده على
مسألة الضد، وإنما هو مطلوب من أجل التوصل به إلى ما ضاق وقته، ومن الواضح
سقوطه عن المقدمية عند أدائه إلى فوت ذيها المطلوب حينئذ مع ثبوت ما هو بدل
عنه في التوصل به اليه.
قوله (قدس سره): (والأحوط الاستئناف) مراعاة لمسألة الضد، وهو في محله.
قوله (قدس سره): (ومنها الترتيب في الأعضاء) في غير الرجلين بالإجماع
والسنة، بل وبالكتاب بناء على إفادة الواو للترتيب.
قوله (قدس سره): (دون أجزائها عدا الأعلى في المغسول منها) قد عرفت منا
آنفا أن الأقوى اعتبار الترتيب فيها أيضا على التفصيل الذي تقدم من حقيقية
الابتداء بالأعلى وعرفية ما عداه.
فما علقه الشيخ الأستاذ هنا بقوله: " الأحوط مراعاة الترتيب في أجزاء العضو
بأن لا يقدم جزءا على ما يسامته "، وأمضاه السيد الأستاذ - طاب ثراه - أيضا
على وجه الاحتياط حيث علق عليه بقوله: " الظاهر كفاية أن يصدق عرفا أنه
غسل من الأعلى إلى الأسفل كما تقدم في الوجه "، ولم يزد عليه بشيء ليس على
ما ينبغي كما تقدم وجهه مفصلا.
قوله (قدس سره): (فيقدم تمام الوجه على اليد اليمنى، وهي على اليسرى،
وهي على مسح الرأس، وهو على مسح الرجلين) تفريع على ما ذكره من
وجوب الترتيب أراد به تفصيل ما أجمله.
354

قوله (قدس سره): (ولا ترتيب بينهما وإن كان هو الأحوط كما عرفته فيما
تقدم) في بيان الجزء الأخير من أجزاء الوضوء حيث ذكر مثل العبارة ثمة وأفاد
الترتيب بينهما هناك بقوله: " ثم اليسرى باليسرى " المفيدة للتعقيب، وقد تقدم منا
ثمة نفي جواز تقديم اليسرى على اليمنى وتجويز المقارنة والاحتياط فيه في
محله خروجا عن خلاف من أوجبه فيهما أيضا، ومراعاة للمعتبرة الدالة على
لزومه، لولا ابتلائها بالمعارض.
قوله (قدس سره): (ولو أخل بالترتيب حيث يجب لا على قصد التشريع عاد
إلى ما يحصل به إذا لم يلزم فوات الموالاة) التقييد بعدم قصد التشريع لأن
معه يبطل الوضوء رأسا ويجب الاستئناف، وهو فيما لو كان ذلك من قصده أول
الوضوء، وعند النية مسلم، لأنه لم يقصد الاتيان بالوضوء المأمور به، وإنما نوى
من أول الأمر امتثال ما أبدعه، وهو مردود إليه بحذافيره، ولا يجدي فيه مماثلة
بعض أجزائه لبعض المأمور به صورة في احتسابه جزءا منه عند الحاجة، وهو
واضح لاخفاء فيه، وأما لو شرع في الأثناء حين إتيانه بجزء منه مخالفا للمشروع
فالحكم ببطلان ما سبقه مما أوجده من الأجزاء بداعي أمر الشرع فغير واضح.
ولا أظن أنه (قدس سره) يقول به ولكنه أطلق، لأن ظاهر التشريع البناء على أن
المأمور به هكذا وهو لا يكون إلا بالتصرف في المركب بما هو مركب، والتصرف
في المجموع من حيث هو مجموع لازمه نيته المخالفة التشريعية من أول الأمر،
وإلا فلا معنى للحكم باستئناف الوضوء لفساد جزء منه ممكن الاستدراك، وليس
هو مثل الصلاة يسري فساد جزئها إلى فسادها رأسا. وأما التقييد بعدم فوات
الموالاة، لأن فوتها مانع عن التئام أجزاء الوضوء بعضها مع بعض، والقول بصحة
الوضوء مع العود إلى ما يحصل معه الترتيب في صورة بقاء الموالاة هو ظاهر كلمة
الأصحاب، ولكن المحكي عن التحرير عكس التذكرة إعادة نفس الوضوء وحمله
بعضهم كما هو ظاهر الجواهر على فوت الموالاة بمعنى المتابعة، لفصل الأجنبي
وهو فعل المتأخر الواقع في غير محله، لما حكي أن العلامة فسر الموالاة بالمتابعة
في حق المختار وبالجفاف في المضطر.
355

ولكن الأستاذ - طاب ثراه - أنكر ذلك وقال: " إنه مما لا يرضى به العلامة،
لأنه صرح في التحرير بعدم البطلان مع تعمد الاخلال بها وذكر هو - طاب ثراه -
أيضا أن مجرد الاخلال بالترتيب لا يوجب فوات المتابعة " انتهى، فتأمل.
قوله (قدس سره): (وكذا لو نسي جزءا من السابق عاد اليه ثم أعاد اللاحق
وصح الوضوء إذا لم تفت الموالاة، ولا فرق في فوات الترتيب بين تقديم
المؤخر وتأخير المقدم وبين الإتيان بهما معا فيجب حينئذ تحصيله في
كل منهما) قد عرفت أنه بتحصيله لم ينقل خلاف في صحة الوضوء إلا ما سمعته
من محكي التحرير بحسب الإطلاق في صورة تعمد الإخلال.
قوله (قدس سره): (والظاهر حصوله فيما لو غسل الوجه واليمنى دفعة بإعادة
غسل اليمنى كما لو غسلها أولا ثم غسل الوجه، مع فرض حصول النية
عنده) ايجادا أو استمرارا (وكذا يحصل فيما لو غسل اليدين دفعة أو قدم
اليسرى على اليمنى بإعادة اليسرى) وبحصوله بإعادة نفس المتأخر الذي
قدمه تعرف أنه (لو غسل الوجه واليدين دفعة لم يحصل له إلا الوجه، فلو
أعاد ثانيا حصل اليمنى، فلو أعاد ثالثا حصل اليسرى كما أنه لو عكس
الوضوء من آخره إلى أوله لم يحصل له إلا غسل الوجه، فلو أعاده ثانيا
حصل اليمنى وهكذا) لكن مع المحافظة على سائر ما يعتبر فيه من مقارنة النية
لغسل الوجه وحصول المسح بنداوة الكف الكائنة فيها من بلل الوضوء وغيرهما
ثم الحكم بحصوله بذلك وعدم الحاجة إلى إعادة غسل المتقدم الذي تأخر هو
المعروف بين الأصحاب على ما يظهر من الأستاذ، وفي الجواهر استظهاره عدم
مخالف فيه.
والأصل فيه قوله (عليه السلام) في رواية منصور بن حازم في حديث تقديم السعي
على الطواف: " ألا ترى أنك إذا غسلت شمالك قبل يمينك كان عليك أن تعيد على
شمالك " (1)، وموثقة ابن [أبي] يعفور المحكي عن مستطرفات السرائر عن نوادر

(1) الوسائل 1: 317، الباب 35 من أبواب الوضوء، ح 6.
356

البزنطي قال أبو عبد الله (عليه السلام): " إذا بدأت بيسارك قبل يمينك ومسحت رأسك
ورجليك، ثم استيقنت بعد أنك قد بدأت بها غسلت يسارك ثم مسحت رأسك
ورجليك " (1). وهما لتعاضدهما بالعمل كافيتان في المسألة، ومن أجله تقدمان
على غيرهما مع صحته من حيث السند.
قوله (قدس سره): (والأولى له في الجميع إعادة الآخر أيضا) أي المتقدم الذي
تأخر غسله، لأن تقديم ما حقه التأخير فاسد مفسد للمتأخر المحقق للتقديم،
ومحصله أنه كما يفسد المتأخر لتقدمه كذا يفسد المتقدم لتأخره، فتقديم ما حقه
التأخير وتأخير ما حقه التقديم على حد سواء في استلزامهما فساد ما خولف في
وظيفته.
ويدل عليه أيضا صحيح منصور بن حازم عن الصادق (عليه السلام) في الرجل يتوضأ
فبدأ بالشمال قبل اليمين، قال: " يغسل اليمين ويعيد الشمال " (2)، وصحيح زرارة
عن أحدهما (عليهما السلام) حين سئل (عليه السلام) عن رجل بدأ بيده قبل وجهه ورجليه قبل يديه،
قال (عليه السلام): " يبدأ بما بدأ الله به، وليعد ما كان " (3)، وموثقة أبي بصير عنه (عليه السلام) قال:
" إن نسيت فغسلت ذراعيك قبل وجهك فأعد غسل وجهك ثم اغسل ذراعيك بعد
الوجه، فإن بدأت بذراعك الأيسر قبل الأيمن فأعد الأيمن ثم اغسل اليسار، وإن
نسيت مسح رأسك حتى تغسل رجليك فامسح رأسك ثم اغسل رجليك " (4)،
والمروي عن قرب الاسناد عن علي بن جعفر (عليه السلام) في رجل توضأ فغسل يساره
قبل يمينه قال (عليه السلام): " يعيد الوضوء من حيث أخطأ يغسل يمينه ثم يساره ثم يمسح
رأسه ورجليه " (5).
والانصاف عدم دلالة تامة في شيء من الأخبار الأربعة على المدعى وإن

(1) مستطرفات السرائر: ج 3 ص 553.
(2) الوسائل 1: 317 ب 35 من أبواب الوضوء، ح 2.
(3) الوسائل 1: 317 ب 35 من أبواب الوضوء، ح 1.
(4) الوسائل 1: 318 ب 35 من أبواب الوضوء، ح 8.
(5) الوسائل 1: 319 ب 35 من أبواب الوضوء، ح 15.
357

ادعى في الجواهر أنه: " لولا ظهور عدم المخالف في هذا الحكم يعني في عدم
لزوم إعادة المتقدم الذي تأخر لأمكنت المناقشة فيه أخذا بإطلاق ما سمعت من
الأخبار سيما مع اشتمالها على لفظة (الإعادة) التي هي كالصريح في عدم حصول
وظيفة المعاد " انتهى.
وجه عدم الدلالة واصلاح المناقشة المذكورة أن لفظة " الإعادة " كثيرا ما
اطلقت واريد منها نفس الفعل الابتدائي بلحاظ فرض تحققه من أجل أنه كان
الحري أن يقع قبل ذاك، فيفرض عدم وقوعه في محله اللائق به بمنزلة ايقاعه
فاسدا، لكمال الاهتمام بشأن وقوعه فيه، فكأنه وقع ويفرض عدمه الواقعي فسادا
له، لاشتراكهما في عدم ترتب ما يترتب عليه عليهما.
ويفصح عما أبديناه صحيح ابن حازم حيث غاير بين اليدين فعبر بالغسل في
اليمين وبالإعادة في الشمال، فهو ينبئك عن أن المراد في أسئلة الجميع من قوله:
" غسل يساره قبل يمينه "، أو: " بدأ به قبله " نفس الإتيان بالمتأخر مقدما من دون
ايجاد المتقدم مؤخرا، فليحمل قوله (عليه السلام) بإعادة المتقدم الذي تأخر على صورة
عدم حصوله لا حصوله عقيب المتأخر الذي اوتي به متقدما عليه، ومع فرض إبائه
عن هذا الحمل لكمال ظهور الخبر في وجود كليهما وصراحته في اعادتهما معا
فليحمل على وجود مخل آخر من فوت موالاة ونحوه من المفسدات لا أنهما
فسدا لمجرد وقوعهما على خلاف ما يستحقانه من الوظيفة، هذا.
مع أنه في الجواهر علل فساد المتقدم الذي تأخر بكونه منهيا عنه كالمتأخر
الذي تقدم. ومن الواضح أن مع النسيان لا نهي، فلا وجه لفسادهما، إلا مخالفة
الترتيب الممكن تحصيله بإعادة المتأخر وحده، مع أن مفروض الموثقة ومروي
قرب الاسناد صورة النسيان، ومعه لا نهي، وظاهر صحيح زرارة من قوله:
" يبدأ بما بدأ الله به " (1) وقوع المخالفة عن تعنت وعناد محقق للتشريع ومعه نسلم
فساد الجميع.

(1) الوسائل 1: 317 ب 35 من أبواب الوضوء، ح 1.
358

ومع الغض عنه يمنع دلالة قوله: " وليعد ما كان " على إعادة جميع ما وقع،
لاحتمال أن يريد ما كان من المخالفة، بمعنى أنه يتداركه ويصحح المخالفة ويأتي
بما يخرجه عنها من محصل الترتيب. هذا كله مع ظهور الموثقة في ورودها تقية
كما يفصح عنه ذيلها، هذا.
مضافا إلى ما عرفته من منع ظهور لفظ " الإعادة " في الايجاد الثانوي على
أنه مع تسليم الظهور يمكن حملها على المجموع من حيث المجموع، فيكون
إطلاق الإعادة بلحاظ المتأخر الذي قد تقدم لا بلحاظ كليهما كما يومئ اليه رواية
منصور (1)، وموثقة ابن أبي يعفور (2) المعتضدتان بالإجماع الظاهر والشهرة
المحققة من عدم مخالف في المسألة عدا ما حكي عن ظاهر الفقيه من الحكم
بالتخيير نظرا إلى اقتصاره على ذكر كلتا الطائفتين من الأخبار، وعدم تعرضه
للعلاج، وهو أيضا ليس بشيء، ولا ينبغي أن يعد مخالفا لإمكان كونه متوقفا.
قوله (قدس سره): (ولو كان في جار وتعاقب الجريات عليه فنوى الترتيب
بتعاقبها صح أيضا) قد تسامح بذكر نية الترتيب عن قصد غسل كل متأخر
بالجرية المتعاقبة للجرية المنوي بها غسل المتقدم، وإلا فمن الواضح أن الترتيب
ليس بنفسه محتاجا إلى النية، والمحتاج إليها إنما هو الأفعال الواقعة على الأعضاء
المترتبة.
وكيف كان فحصول الترتيب بذلك غير محتاج إلى البيان بعد تجويز ايجاد
غسلات الوضوء رمسا وبعد نفي ضرر بلل الأعضاء الغسلية من الوضوء بقصد
وقوع غسله بمجموع ما فيه من البلل ومن الوارد عليه من الماء بقصد الغسل، وإنما
ذكروه لكونه مخفيا في نظر العوام، وإلا فلا أظن أن أحدا يناقش فيه أو ينكر
صحته، لعدم الفرق في صدق الغسل الاختياري بين عرض الماء على العضو

(1) الوسائل 1: 317 ب 35 من أبواب الوضوء، ح 2.
(2) مستطرفات السرائر: ج 3 ص 553.
359

أو عرض العضو على الماء، وفي تحقق إصابتك الماء عليه المحققة لمعنى الغسل
بين الحالين.
قوله (قدس سره): (بل في الاكتفاء بذلك في الواقف (1) وجه) لما ذكرناه من
تحقق مسمى الغسل الذي هو ملاقاة الماء للعضو، واستقربه في الذكرى على ما
حكي عنه لذلك.
وربما استدل له أيضا بأنه لو أمر عبده بأن يغسل يده فأراد العبد امتثال
أمر مولاه حين كون يده منغمسة في ماء واقف لم يحتج إلى إخراجها عنه ثم
إدخالها فيه، بل يكفيه ذلك في صدق الامتثال وبخبر علي بن جعفر (عليه السلام) عن
أخيه موسى (عليه السلام) قال: " سألته عن الرجل لا يكون على وضوئه فيصيبه المطر
حتى يبتل رأسه ولحيته وجسده ويداه ورجلاه هل يجزيه ذلك من الوضوء؟
قال (عليه السلام): إن غسله فإن ذلك يجزيه " (2) بتقريب أن انغسال الأعضاء إنما حصل
بنحو المعية والمقارنة، فالإجزاء حينئذ لا يعقل إلا مع الاكتفاء بالترتيب الحكمي
الحاصل بالنية.
قوله (قدس سره): (ولكن الأحوط بل الأقوى خلافه مع عدم تعاقب أزمنة
النية وعدم حصول التحريك الذي يحصل به مسمى الغسل) لمنع
ما ادعاه الشهيد (قدس سره) من تحقق مسمى الغسل بنفس المكث تحت الماء، وإنما
هو انغسال بالفعل السابق والغسل الذي هو فعل المكلف إنما حصل بنفس
التغطية، وتعدده يحصل بالتحريك لا بالمكث وحده، والشاهد على عدم
كون المكث غسلا على حدة وعدم صدق غسل اليسرى قبل اليمنى عرفا وإن
نواه بالمكث المزبور عدم محسوبيته عند العرف غسلات عديدة، مع أن هذا
التعدد لازم في الوضوء جزما، وأيضا يلزم القائل بصدقه بالمكث التزام
صدقه بالمصبوب على تمام الأعضاء دفعة واحدة أيضا ويحصل الترتيب

(1) في المتن: وماء المطر فيكون الترتيب حكميا.
(2) الوسائل 1: 320 ب 36 من أبواب الوضوء، ح 1.
360

فيه بالنية.
قال الأستاذ - طاب ثراه -: " ولا أظن الشهيد (قدس سره) ولا غيره يلتزم بذلك،
وإلا لم يحتج تدارك الترتيب إلى غسل جديد، بل كان يكتفى بنية انغسال العضو
بالماء الموجود فيه كالواقف المحيط به ".
وما تمثل به من مسألة العبد المأمور بالغسل وصدق الامتثال على نية الغسل
بنفس المكث ممنوع. وعدم احتياجه إلى الإخراج مسلم في التوصليات الساقطة
بحصول الغرض، فمثله إنما اكتفي به من باب سقوط المأمور به بحصوله لا من باب
الامتثال.
وأما الخبر فهو في مقام الاكتفاء بهذا النحو من الغسل بالمطر عن الغسل
الوضوئي، ولذا أجابه (عليه السلام) بقوله: " إن غسله فإن ذلك يجزيه " وإلا فالخبر غير
متعرض للترتيب الحكمي الحاصل بالنية وحمله عليه ليس بأولى من حمله على
تحصيل الترتيب الحقيقي على نحو ما ذكرناه في الجاري.
قوله (قدس سره): (كل ذلك) أي كل ما حصل فيه الترتيب بمعونة النية وسميناه
حكميا أو مع حصوله حقيقة، وقولهم بصحة الوضوء في الفروض المزبورة إنما هو
(مع المحافظة على كون المسح بماء الوضوء، وإلا بطل) وهو واضح على
ما حققناه من عدم جواز خلط مائه بماء خارجي، وقد عرفت سابقا عن المحقق
صحة مثل هذا المسح، لأن في اليد من ماء الوضوء شيء فيصدق أنه مسح به.
وعرفت الجواب عنه أيضا.
قوله (قدس سره): (ومنها) أي من الشرائط (الموالاة بين الأعضاء لا بمعنى
المتابعة وعدم الفصل بما يعتد به، وإن كان ذلك أحوط) لمصير جماعة من
الأساطين اليه إما شرطا كما عن المبسوط من قوله: " الموالاة واجبة في الوضوء،
وهي أن يتابع بين الأعضاء مع الاختيار، فإن خالف لم يجزه " انتهى، أو تعبدا كما
هو ظاهره في الخلاف والنهاية على ما حكي فيهما لقوله بعد تفسيره الموالاة
الواجبة حال الاختيار بالمتابعة: " فإن جف أعضاء طهارته - يعني بسبب انقطاع
361

الماء عنه - أعاد الوضوء وإن بقي في يده نداوة بنى عليه "، انتهى. وهو ظاهر
المفيد في المقنعة على ظاهر الحكاية، بل حكي عن التهذيب والاقتصاد وأحكام
الراوندي والمعتبر وكتب الفاضل، بل عن المحقق الثاني انكار القول الأول وحصر
القول بوجوب المتابعة في الثاني، وعن الفاضل المقداد الإجماع على عدم البطلان
بفوت المتابعة لو لم يجف.
ووجه عدم وجوبه مطلقا عدم دليل عليه، والأصل عدمه سيما على التكليفية
الصرفة كما عن ظاهر المحكي عن فخر الدين في شرح الارشاد، وكذا عن
التنقيح، وعن كشف الالتباس، وعرفت عن جامع المقاصد انحصار القول بوجوب
المتابعة فيه، بل لم ينقل القول بالبطلان بالاخلال بها إلا عن المبسوط، ووجه عدم
الدليل أن الاحتياط الذي ذكروه لإثباته لا يدل عليه.
والاشتغال بهذا المقدار لم يثبت، وإنما المسلم منه ثبوته في اتيان نفس
الأفعال وفي الموالاة بمعنى عدم الجفاف، الوضوءات البيانية توالي أفعالها إنما هو
بوفق العادة جزما.
والتمسك بكون الأمر للفور في المقام مما لا معنى له، لعدم تأتيه في غسل
الوجه، فكيف في ما عطف عليه؟! فإن الأمر منحصر بأمر الوضوء المتعلق
بمجموع أفعاله من حيث هو وضوء وإن تعلق في الآية (1) صورة بأبعاضه وهو
لغير الفور قطعا.
والأخبار الآمرة باتباع الوضوء بعضه بعضا كحسنة الحلبي: " اتبع وضوءك
بعضه بعضا " (2)، وخبر ابن حكيم: " ان الوضوء يتبع بعضه بعضا " (3) وما ضاهاهما
يراد من المتابعة فيها الترتيب كما هو صريح صدرها أو الموالاة بما سنبينه،

(1) المائدة: 6.
(2) الوسائل 1: 318 ب 35 من أبواب الوضوء، ح 9.
(3) الوسائل 1: 315 ب 33 من أبواب الوضوء، ح 6.
362

وموثقة أبي بصير الدالة على أن الوضوء لا يتبعض يراد من عدم تبعضه ضرر
الجفاف كما سيبين.
وعليه فالحق ما ذكره بقوله (قدس سره): (بل بمعنى أن لا يؤخر الشروع في
غسل اللاحق بحيث يحصل معه (1) جفاف جميع ما تقدم) وهذا هو المراد
مما حكي عن الصدوقين من التخيير بين الأمرين أي المتابعة وعدم الجفاف.
وملخصه كفاية مطلق التواصل، أما تواصل أفعاله صورة واتباع بعضها بعضا
وإن حصل الجفاف أو تواصل آثارها بمعنى أن يشرع في اللاحق قبل محو أثر
الفعل السابق وهو البلل، بل هذا هو مراد المشهور المنسوب إليهم اختيار تفسير
الموالاة بعدم الجفاف، لأنهم لم يحكموا إلا بقدح الجفاف الحاصل من التفريق
لا مطلقه، بل ادعى الأستاذ - طاب ثراه - أنه لم يعثر على مصرح بخلافه.
وعليه فلا يضر التجفيف الحاصل بفعل المكلف واختياره بلا تأخر ولا الجفاف
الحاصل لضرورة من حر ونحوه لو والى في وضوئه وتابع أفعاله بعضه بعضا.
وعلى ما اخترناه في معنى الموالاة يحمل التبعيض المنفي في موثقة أبي بصير
عن أبي عبد الله (عليه السلام): " إذا توضأت بعض وضوئك فعرضت لك حاجة حتى يبس
وضوؤك فأعد وضوءك، فإن الوضوء لا يتبعض " (2)، فإن المراد بالتبعيض فيها
انقطاع بعضه عن بعض وعدم التواصل في أفعاله مطلقا لا عينا ولا أثرا لا خصوص
الثاني ولا خصوص الأول ليتأتى منه البطلان عند محو الأثر في صورة تواصل
أفعاله بعضها ببعض عينا، أو يتأتى منه البطلان بمجرد تفريق أفعاله صورة وإن
حصل التواصل والمتابعة أثرا بمعنى أنه أتى باللاحق قبل جفاف السابق، فاليبس
المضر هو ما كان عن تأخير، كما أنه هو المراد بالمتابعة في رواية حكم ابن حكيم
قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل نسي من الوضوء الذراع والرأس، قال (عليه السلام):

(1) في المتن بإضافة " بسبب ذلك ".
(2) الوسائل 1: ص 314 ب 33 من أبواب الوضوء، ح 2.
363

يعيد الوضوء، إن الوضوء يتبع بعضه بعضا " (1)، وفي قوله (عليه السلام): " اتبع وضوءك بعضه
بعضا " (2)، وفي قول أبي جعفر (عليه السلام): " تابع بين الوضوء كما قال الله عز وجل
ابدأ بالوجه ثم باليدين " (3).
فإنها يراد بها كفاية مطلق التواصل ولو باعتبار الأثر عند حصول التفريق في
أفعاله، لعدم إمكان أن يراد منهما أي من التبعيض المنفي والمتابعة المأمور بها
خصوص تواصل الأفعال، للأخبار الكثيرة الدالة على جواز أخذ البلل للمسح من
اللحية والحاجبين وأشفار العينين عند النسيان، مع أن تقطيع الأفعال فيها مسلم،
لأنه فرض نسيانه ثم تذكره في حال الصلاة، وهو لا يجامع مع التواصل الصوري.
فتعين أن يراد بهما إما المعنى العام أو خصوص تواصل الأثر، فيكون المدار
على الجفاف وجودا وعدما، ولا شك أن الأول أظهر على أنه مؤيد بالإطلاقات
والوضوءات البيانية، هذا مضافا إلى ما تقدم من ظهور جملة منها في الترتيب
وكونه مرادا من لفظ " المتابعة " فيها كحسنة زرارة وصحيحه (4) وغيرهما، فلا تغفل.
وأما الرضوي: " فإن فرغت من بعض وضوئك وانقطع بك الماء قبل أن تتمه
ثم اوتيت بالماء فأتمم وضوءك إذا كان ما غسلته رطبا، فإن كان قد جف فأعد
الوضوء وإن جف بعض وضوئك قبل أن يتم الوضوء من غير أن ينقطع عنك الماء
فامض عليه جف وضوؤك أم لم يجف " (5)، فالمراد من قوله (عليه السلام): " وإن جف بعض
وضوئك " هو تمام ما حصل منه، والمقصود من جفافه بلا انقطاع الماء هو حصوله
من غير تفريق وتأخير، وحينئذ قوله (عليه السلام): " جف وضوؤك أم لم يجف " تأكيد
لما أفاده بتلك الشرطية، فمعنى لزوم المضي أن الجفاف الذي اعتبرنا عدمه أولا

(1) الوسائل 1: 315 ب 33 من أبواب الوضوء، ح 6.
(2) الوسائل 1: 314 ب 33 من أبواب الوضوء، ح 1.
(3) الوسائل 1: 315 ب 34 من أبواب الوضوء، ح 1.
(4) الوسائل 1: 317 ب 35 من أبواب الوضوء.
(5) فقه الرضا: ص 68.
364

في صحة البناء هو ما حصل من التفريق والابطاء لا من مثل هذا الذي قارن بين
أفعال وضوئه وأوجد المتابعة، فإنه غير مضر كما هو المستفاد منه.
ويوضح هذا المعنى أن الجفاف جعل معرفا في الأخبار وكلمات الأخيار
للتفريق فيها المفوت للموالاة، سيما على القول بكونه تقديرا زمانيا، فلذا لا يعبأ
ببقائه مع كونه خلاف المتعارف، أو في الهواء البارد الرطب كما يومئ اليه التقييد
بالاعتدال في كلام الأكثر.
ثم الدليل على اعتبار الموالاة بمعنى عدم الجفاف أي بمعنى بطلان الوضوء
بالجفاف الحاصل من الابطاء بعد الإجماع المحصل موثقة أبي بصير المتقدمة (1)،
وصحيح معاوية بن عمار قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) ربما توضأت، ونفد الماء
فدعوت الجارية فأبطأت علي بالماء فيجف وضوئي، فقال: أعده " (2)، وبعض
الأخبار الواردة في الترتيب.
ولا يذهب عليك أني لما تمسكت بالإجماع على تمام المطلب فيرد علي
النقض بوهنه بتمسك بعض أهل هذا القول بتفسيرها بالمتابعة أيضا، والتخلص عنه
أ ني لا أرى وجها للتمسك بالإجماع في المقام على وجوب الموالاة لشيء من
القولين كما نبه عليه الأستاذ، لأن ذلك الإجماع انعقد على أمر مردد فلا يصح
التمسك به والأخذ بظهور معقده من لفظة " الموالاة " في المتابعة، كما لا يصح
التمسك للقول الثاني بتفسير معقده من أكثر مدعيه بعدم الجفاف كنجاسة الكافر
وكالتخيير بين القصر والإتمام في الحائر ونظائرهما، فافهم، بل إنما تمسكت به
في خصوص البطلان بالجفاف الحاصل من التفريق مطلقا اختيارا واضطرارا، لأن
هذا المقدار مسلم عند الكل.
ثم إن الماتن جعل المناط في البطلان على هذا المذهب جفاف جميع ما تقدم
حتى الأجزاء المستحبة كما أشار اليه بقوله (قدس سره): (حتى مسترسل اللحية على

(1) تقدمت في ص 377.
(2) الوسائل 1: 314 ب 33 من أبواب الوضوء، ح 3.
365

الأقوى) وهو حسن فيما ثبت استحبابه بالخصوص جزءا للوضوء لا من جهة
التسامح في أدلة السنن.
ولذا علق عليه الأستاذ - طاب ثراه - قوله: " فيه إشكال والأحوط عدم
الاعتناء به ".
ثم إن جعل المناط جفاف جميع ما تقدم هو الأقوى، وفاقا للمعظم كما هو
ظاهر كلماتهم المحكية، بل في الجواهر نسبه إلى ظاهر كثير من القدماء والى
صريح عامة المتأخرين.
ويدل عليه ظهور قوله: " فيجف " وقوله (عليه السلام): " حتى يبس " في الصحيحة
والموثقة باعتبار تعلقه بالوضوء الظاهر في التمام.
وعن ابن الجنيد الاكتفاء بجفاف بعض الأعضاء أي عضو كان، وأن المعتبر
عدم جفاف شيء من الأعضاء المغسولة عند المسح، ولعله لصدق اليبس والجفاف
معه وهو بمعزل عن التحقيق، لصدق عدمهما مع بقاء الرطوبة في البعض وقد صرح
في الرضوي بالإتمام مع بقاء رطوبة المغسول (1)، وهو صادق مع بقائها في
الجملة، هذا.
مع ما عرفت من كون المدار على عدم التأخير بمقدار مخصوص جعل
الجفاف معرفا له، فليس نفس الجفاف مناطا حتى يتكلم في صدقه بالبعض أو
توقفه على التمام على أنه ينافيه أخبار جواز أخذ البلة للمسح من اللحية
والحاجبين وأشفار العين، ولا يسع لأحد دعوى قصرها بصورة عدم حصول
الجفاف، وكون ذكرها إنما هو لقابلية بلتها لأن يؤخذ منها لكثرتها دون غيرها
لقلتها، للتصريح في جملة منها بحصول الجفاف، مع ما سمعته من بعضهم من تقديم
المسح بالذراع مع كونها ذات بلة على أخذها من تلك المواضع، فتلك الأخبار كما
تنافي هذا القول كذلك تنافي ما حكي عن السرائر وإشارة السبق والناصريات

(1) فقه الرضا: ص 68.
366

والمهذب البارع من اختيارهم كون المعيار جفاف خصوص المتلو، هذا.
مضافا إلى عدم الدليل عليه كما صرح في الجواهر بعدم عثوره على دليل
معتمد لهما.
قوله (قدس سره): (في الزمان المعتدل في صنفه ولو كان شتاء، فتكون حينئذ
تقديرا زمانيا لا مراعاة بلل حسي، فلا فرق حينئذ بين الأزمنة
والأحوال) أما التقييد بالاعتدال فهو لأكثر الأصحاب على ما حكى كلماتهم
الأستاذ - طاب ثراه -، بل حكي عن الذكرى نسبته إلى الأصحاب بأسرهم.
وأما كونه تقديرا زمانيا بحيث لا ينفع عدم الجفاف في الهواء المفرط في
الرطوبة والبرودة أو مع اسباغ ماء الوضوء على خلاف المعتاد، كما لا يضر تعجيله
في الهواء الحار الشديد الحرارة فهو الذي استظهره الأستاذ - طاب ثراه - تبعا
للخونساريين من التقييد بالاعتدال في كلام القوم، ولكن حكي عن الذكرى
التصريح بأنه للاحتراز عن إفراطه في الحرارة، وهو الظاهر منهم أيضا في كثير
من الكلمات، فعن المبسوط: " إن انقطع عنه الماء انتظره، فإذا وصل اليه وكان ما
غسله عليه نداوة بنى عليه وصح الوضوء، وإن لم يبق عليه نداوة مع اعتدال الهواء
أعاد الوضوء من أوله " انتهى.
وغير خفي صراحتها في كون القيد احترازا عن إفراط الحرارة، لأنه قيد به
النفي الذي معلوم تقابله مع الإثبات الذي تقدم بلا قيد، فكونه احترازا عن افراط
الحرارة إنما هو لأجل تقابل الجملتين مع كون القيد قيدا للأخيرة فيبقى إفادة
إطلاق الجملة المثبتة صحة الوضوء مع بقاء النداوة، وإن استند بقاؤها إلى إفراط
البرودة سليمة، لعدم ما يفيد اخراجه. وعن المهذب: " وإن ترك الموالاة حتى
يجف المتقدم لم يجزه، اللهم الا أن يكون الحر شديدا أو الريح يجف منه العضو
المتقدم " انتهى. وهو أوضح من عبارة الشيخ.
وعن السرائر: " لو فرق لعذر لم يعد إلا مع الجفاف في الهواء المعتدل، ولو
جنى لعذر جاز البناء، ولا يجوز استئناف ماء جديد " انتهى. يعني للمسح، وهو
367

أيضا في غاية الظهور حيث إنه فرع على وجوب الإعادة مع الجفاف المستفاد من
الاستثناء من قوله: " لم يعد إلا مع الجفاف " جواز البناء مع الجفاف لعذر، وهو
الجفاف الذي يأتي معه جواز استئناف الماء للمسح، فيعلم منه أن ما جوز معه
البناء هو هذا الجفاف الطارئ من شدة الحر، وأنه هو الذي يقابل الجفاف مع
الاعتدال وأن قيد الاعتدال إنما هو لإخراجه.
فظهر من جميع تلك العبارات أن مناط الموالاة فعلية عدم الجفاف لا ملاحظة
مقدار زمانه في الهواء المعتدل، بخلاف فوت الموالاة، فإن مناطه ملاحظة حصول
الجفاف، لأجل التفريق في الهواء المعتدل فلا يضر حصول الجفاف لإفراط الهواء
في الحرارة.
ويفصح عنه ما عن الذكرى وغيره من أن المعتبر في عدم الجفاف الحسي لا
التقديري، وبإزاء تلك الكلمات كلمات لها ظهور في التقدير بمقدار الزمان
المعتدل في الموالاة وفوتها بحيث لا يضر حصول الجفاف قبله ولا ينفع عدمه
بعده، فعن السيد (رضي الله عنه) في الناصريات: " ومن فرق بمقدار ما يجف معه غسل العضو
الذي انتهى اليه وقطع منه الموالاة في الهواء المعتدل وجب عليه إعادة الوضوء "
انتهى. وعن السيد أبي المكارم في الغنية: " الموالاة هي أن لا يؤخر غسل
الأعضاء بمقدار ما يجف ما تقدم في الهواء المعتدل " انتهى. وعن الكامل: " هي
متابعة بعض الأعضاء ببعض فلا يؤخر المؤخر عما يتقدم بمقدار ما يجف المتقدم
في الزمان المعتدل " انتهى.
فإن ظاهر تلك الكلمات تقديرها بزمان يقدر فيه الجفاف وجودا وعدما
ويشهد له تعبير السرائر في ذيل كلامه بالمقدار، وكذلك كلام القاضي في الكامل،
ويمكن الجمع بين كلماتهم بحمل ما نقل عن الكتب الثلاثة الاول من التقييد
بالاعتدال في صورة الجفاف والإطلاق في صورة عدم الجفاف على بيان ما هو
محل الحاجة وكثير الابتلاء من حصول الجفاف بالحرارة الغير المتعارفة، لفرط
الحرارة في الهواء أو في بدن المتوضئ فتعرضوا لإخراجه، وإلا فلا شبهة في أن
368

معتبري الجفاف لا يعتنون بالبلل الباقي في خلال اللحى الكثيفة خصوصا في
الشتاء، سيما في الأشخاص الذين لا يؤثر حرارة أبدانهم في ظاهرها أثرا بينا
لهرم أو غيره من العوارض، ولا يسع لأحد أن ينسب إليهم الاعتناء ببقاء تلك البلة
في حصول الموالاة.
فيعلم أن المدار عندهم على مقدار من الزمان يحصل فيه الجفاف في الأزمنة
المعتدلة في الأبدان المتعارفة، وإلا فيرد عليهم ما أورده الأستاذ - طاب ثراه - من
سؤال الفرق بين إفراط الهواء في الرطوبة وإفراطه في الحرارة، حيث إن لازم
سكوت بعض الكلمات عن حكم الأول عدم بطلان الوضوء بالتفريق فيه أبدا، وإن
بلغ من التأخير ما بلغ.
فجعل الموالاة في الجميع معنى واحدا هو الذي يقتضيه أخبار الباب ويناسب
اختياره من علمائنا الأخيار، فما يترى من القول بسقوط اعتبارها لضرورة الحر
المفرط كما هو ظاهر ما عن الجعفرية من قوله: " ومع التعذر لشدة الحر وقلة الماء
قيل بالسقوط، وليس ببعيد " انتهى.
في غاية البعد لمن له انس بالفقه، لنداء كلماتهم بأعلى صوتها بأن الفارق بين
الوضوء والغسل الواضح كونه من مميزاتهما المسلم عند الكل هو الموالاة المعتبرة
في الأول دون الثاني.
ومنه يتبين أيضا وجه ما أبديناه من عدم الاعتناء بعدم الجفاف الذي يكون
على خلاف المتعارف في الغاية، ومن أجله يؤول أيضا ما سمعته عن الذكرى من
أن المعتبر في عدم الجفاف الحسي لا التقديري بما يجتمع مع ما ذكرناه إن أمكن،
وإلا فليطرح لمخالفته لكلمات القوم وأخبار الباب.
ثم إن قول الماتن: " فلا فرق حينئذ بين الأزمنة والأحوال " مفرعا إياه على
قول المعتدل في صنفه الذي ظاهره أن معيار التفريق الموجب للجفاف الذي هو
مناط الموالاة يختلف بالنسبة إلى أهل كل صقع وزمان، ويلاحظ بالنسبة إلى اعتدال
أهويتهم التي هم فيها، ولا يقدر حال بلد لأهل بلد ولا هواء زمان في زمان مضى،
369

أو لم يأت، بل المعتبر هو اعتدال الهواء بلحاظ الفصول الأربعة وبلحاظ بقاع الأرض
كل بحسبه هو الذي يستفاد منهم، وهو معنى تقديره - أي الجفاف - بالزمان.
قوله (قدس سره): (وحينئذ فلا يقدح التجفيف اختيارا مع عدم مضي الزمان
المزبور وإن كان الأحوط ذلك) وجه عدم القدح واضح، إذ ليس الجفاف فيه
مستندا إلى التأخير فتلخص من كلامه أن التقدير أيضا يختلف بحسب الفصول
والبقاع كما صرح به (قدس سره).
وليس بجيد، بل هو عندي مشكل فإن مرجعه إلى تقدير الزمان النوعي أي
المختلف بحسب الأزمنة والأحوال وأصقاع الأرض، مع أن ظاهر كلماتهم
المذكورة هو تقدير الزمان الشخصي كما هو الظاهر من مثل تلك الكلمات إذا
وقعت في المحاورات العرفية، مضافا إلى ما يترتب عليه من الفساد كما هو واضح
لمن له خبرة بأهوية الأقاليم السبعة وأمزجه الأشخاص في سن الشباب والكهولة،
فلا تغفل.
ومن هنا يظهر صحة ما ذكره الأستاذ - طاب ثراه - من أنه لو وقع على العضو
المغسول ما استهلك معه رطوبة الوضوء لا يقدح في بقاء الموالاة، ولكن احتمل
هو - طاب ثراه - إلحاقه بالجفاف بمقتضى مذهب الشهيد (قدس سره) تنزيلا للاستهلاك
منزلة عدم البلل، ثم قوى هو - طاب ثراه - عدمه وهو في محله، ثم قال - طاب
ثراه -: " وهل العبرة بعد الاستهلاك بجفاف تمام الرطوبة نظرا إلى بقاء بعض
الرطوبة معها ما دامت باقية، أو يقدر زمانه بما لو لم يطرأ عليه هذه؟ ".
ونقل عن بعض متأخري المتأخرين القطع بالثاني، وتنظر هو - طاب ثراه -
فيه، والأقوى ما قطع به هذا البعض، لما بيناه من التقدير الزماني المتعارف على
وجه يستند الجفاف إلى الإفراط في التأخير، فيكون هو المناط، ومعه لا يناط إلى
اختلاف الفصول والبلاد في الأهوية كما لا يعتنى بعدم الجفاف، إذ لا ينافي
التأخير، فافهم ولا تقلد.
ووجه الاحتياط ما سمعته من الاحتمال الذي اشير اليه آنفا من إناطة
370

الموالاة بالجفاف وجودا وعدما.
قوله (قدس سره): (كما أن الأحوط استئناف الوضوء مع جفاف المتلو قبل
الشروع في التالي وإن بقي البلل على السابق) لظهور جملة من كلمات أهل
القول باعتبار عدم الجفاف في خصوص المتلو لا مطلق ما تقدم كعبارة المراسم
والناصريات والسرائر، بل يمكن استظهاره من كل من عبر بجفاف المتقدم
بدعوى ظهوره في خصوص المتلو.
ولذا علق عليه الأستاذ - طاب ثراه - بقوله: هذا الاحتياط لا يترك. ولكن
الأقوى عدم لزومه لصدق عدم الجفاف كما تقدم.
قوله (قدس سره): (بل الأحوط إن لم يكن الأقوى استئنافه أيضا لو بقي البلل
بعلاج، أو للافراط في برودة الهواء على وجه تنافي الاعتدال المزبور وأنه
لولا ذلك لجف) وجه تأمله في البطلان مع اقتضاء ما أسسه حدا للموالاة لزوم
الإعادة في الفرض ما سمعته من ظهور بعض الكلمات في إناطة الموالاة بفعلية
عدم الجفاف، بل سمعت عن الشهيد أن لا عبرة بالتقديري.
قوله (قدس سره): (أما إذا جف للإفراط في حرارة الهواء كذلك أو في بدن
المتوضئ، وأنه لولا ذلك لم يجف فلا استئناف) لما سمعته من أن قيد
الاعتدال في كلام معتبري الجفاف الذي هو مسلم عندهم إنما هو لإخراج هذا
الفرض.
قوله (قدس سره): (وإن كان هو الأحوط) لصدق الجفاف الذي دل النص على
فوت الموالاة به وإن كان أكثرها ناصة فيما كان عن تفريق.
قوله (قدس سره): (ولو نذر الموالاة بمعنى المتابعة في وضوء مخصوص مثلا
فلم يفعل صح وضوؤه على الأقوى وإن أثم بعدم الوفاء بالنذر) المنعقد
لرجحان متعلقه قبل تعلقه به (وكذا لو نذر الوضوء المتتابع لعبادة مخصوصة
مثلا فلم يفعل) أما حصول الإثم فموقوف على عدم التمكن من الإتيان
بالمنذور بعد، كما لو تعلق نذره بوضوء مخصوص، وإن جاء خصوصيته من لحاظ
371

غايته وفات الوقت ولم يمكن التدارك، وأما مع التمكن من الإتيان به كما لو كان
المنذور هو الوضوء لصلاة مخصوصة فتوضأ لها مخالفا فيه المتابعة، ولكنه لم
يوقعها بذلك الوضوء بمعنى أنه نقضه ثم توضأ لها ثانيا وضوء متابعا فيه وصلاها
به لا شك أنه قد بر نذره، ولم يحصل بمخالفته في وضوئه لها أولا حنث، لأنه
انكشف عدم كونه وضوء هذه الصلاة وإن قصده لها.
وأما رجحان المتابعة في الوضوء فيمكن دعوى الاتفاق عليه، ويمكن
استفادته من مطاوي الأخبار أيضا وإن أنكره الأستاذ - طاب ثراه - وجعلها
مستحبا مستقلا مستفادة من رجحان المبادرة والمسارعة إلى الطاعة، وفرع عدم
صدقه مخالفة نذرها في صحة الوضوء على استقلالها في الاستحباب وعدم كونها
من مستحبات الوضوء.
والأقوى في النظر استحبابها فيه لما أشرنا اليه، ومع ذلك لا يضر مخالفة النذر
وتركها لوقوع الوضوء صحيحا، لعدم تقييد أوامر الوضوء الأصلية بذلك الأمر
النذري، سواء كان أمره الأصلي وجوبيا أم ندبيا فهو باق بحاله بما كان عليه وإن
اكد بالأمر النذري.
وحينئذ فمخالفة أحد الأمرين لا يوجب سقوط الأمر الآخر عن اقتضائه
صحة المأتي به، وكونه مطابقا للمأمور به، وإن نوى بفعله هذا ايجاد متعلق النذر
الذي قد خالف فيه شرطه الذي وجب عليه فيه بالنذر، لأن امتثال الأمر الأصلي
أيضا مقصود له ضمنا، فصحته إنما هو بلحاظ ذلك الأمر الأصلي الذي قد نوى
ايجاد متعلقه به أيضا قطعا، فبطلان الفعل بلحاظ الأمر الذي قد خولف شرطه، وهو
الأمر النذري غير مناف لصحته بلحاظ الأمر الأصلي الذي قد أتى الفعل مجتمعا
لشرائط الصحة بالنظر اليه، لما عرفت من أن الأمرين ليسا من قبيل المطلق
والمقيد كما نبه عليه الأستاذ - طاب ثراه - أيضا.
وبهذا التقرير يظهر أنه لا فرق بين المسألتين اللتين أشار اليهما الماتن وهو
نذر الموالاة في الوضوء ونذر الوضوء الموالى فيه، لأن الموالاة بعد أن جعل من
372

مستحبات الوضوء لا يفرق فيها بين نذرها فيه أو نذر الوضوء المقيد بها، كما أنه
بعد جعلها مستحبا خارجيا مستقلا أيضا لا يفرق فيه بين قسميه، لأن تقييد
الوضوء في معقد نذره لا يوجب تقييد أمر الوضوء خلافا لسيد المدارك حيث
قال: " أما لو كان المنذور هو الوضوء المتتابع اتجه البطلان مع قصد المنذور، لعدم
المطابقة، ولو نوى غيره أجزأ وكفر مع تشخيص الزمان " انتهى.
وفيه أن عدم المطابقة لأمر النذر غير مستلزم للبطلان، لحصول المطابقة بين
المأتي به والمأمور به بأوامر الوضوء، وهو كاف في الصحة، ولا ينافي حصول
الامتثال من قبلها قصده من أول العمل امتثال أمر النذر، لأن قصده مشتمل على
قصد الأمر الأصلي أيضا فيحصل امتثاله فيصح الفعل من جهته، ولو أوجب قصد
المنذور فساد العمل للزم القول به في نذر الموالاة أيضا. وقوله (قدس سره) فيه بالصحة
معللا بأن النذر أمر خارج عن حقيقة الوضوء كما لو نذر القنوت في الصلاة غير
مسموع، لأن مآل نذرها فيه إلى تقييد فعله بها، ولذا لم يفصل بين القسمين العلامة
وولده الفخر والشهيد والمحقق الثاني على ما حكي عنهم، قال في القواعد:
" لو نذر الوضوء مواليا فأخل بها فالأقرب الصحة والكفارة " انتهى.
وفي الايضاح احتمل صحة الوضوء، لأن المنذور يشترط فيه ما يشترط في
الواجب، والموالاة ليست شرطا في صحة الواجب، بل واجبة فيه فيصح الوضوء،
قال (قدس سره): " ويحتمل عدم الصحة، لأن الصحة المشترطة في النذر لم يحصل فيبطل،
لأن فائدة الشرط ذلك، ولأنه لم يأت بالمنذور وقد نواه فيبطل " انتهى.
وكلامه كما تراه شامل للقسمين معا وإن علل الصحة بما هو عليل، وكلامه قد
عرفت اختصاصه بما حكم السيد ببطلانه.
وعن الذكرى: " فيما لو نذر المتابعة في الوضوء فأخل بها ولم يجف أن في
الصحة وجهين مبنيين على اعتبار حال الفعل وأصله، فعلى الأول لا يصح وعلى
الثاني يصح، أما الكفارة فلازمة مع تشخص الزمان قطعا لتحقق المخالفة، وهذا
يطرد في كل مستحب وجب لعارض " انتهى.
373

وتعليله للوجهين كما تراه يعم القسمين معا، ومحصله أن النذر أوجب تقييد
الواجب وقد قصد امتثاله، ولكنه لم يأت بالفعل مطابقا لما قصده فإنه أوجده خاليا
عن القيد المعتبر فيه بالنذر، وهذا هو المراد من قوله (عليه السلام): اعتبار حال الفعل
ومرجعه إلى ما هو معروف من أن ما قصد لم يقع وما وقع لم يقصد، ومبنى وجه
الصحة هو ما أشرنا إليه من الأمر الأصلي مع عدم حصول تقييد فيه، وقد قصد
امتثاله أيضا ولو ضمنا.
ومنه تعرف أن لا وجه للتفصيل المذكور عن المدارك، إذ التقييد لو سلم
لا يختص بالصورة التي ذكرها سيد المدارك، فإنه لو سلم يعم الصورتين معا، كما
رأيت تسالم هؤلاء الأساطين عليه، فتبصر ولا تغفل.
وعن جامع المقاصد: " ترجيح البطلان استنادا إلى عدم المطابقة، لأن المعتبر
في صحة النذر هو حاله الذي اقتضاه النذر، فما نواه لم يقع وما وقع لم ينوه " انتهى.
وتعليله للبطلان غير خفي شموله للقسمين، وعرفت ما في هذا التعليل من أن
الواقع عين المنوي لا غيره، لعدم منافاة بين نية النذر ونية الأصل، بل هي مشتملة
عليها فالصحة حينئذ وفاقا للأكثر في القسمين معا لا يخلو عن قوة، لما ذكرناه.
بقي هنا شيء قد اشتمل عليه كلام الفخر من وجوب الموالاة في الوضوء
وجوبا تكليفيا، وحكي عن الدروس والبيان ما يفيد وجوب المتابعة كذلك قال
في الدروس: " لو فرق ولم يجف فلا إثم ولا إبطال إلا أن يفحش التراخي فيأثم "
انتهى.
واحتمل الأستاذ - طاب ثراه - أنه لعله يقول بالإثم في ترك المتابعة مطلقا،
إلا أن التفريق الغير المتفاحش غير قادح عنده في صدق المتابعة.
وكيف ما كان لا دليل على وجوب شيء منهما بما هما، لما عرفت من أن
وجوب الموالاة شرطي لا يترتب على مخالفته سوى الفساد وحرمته من جهة
إبطال العمل ممنوع لعدم عموم يقتضي حرمة ابطال كل عمل، والمتابعة أيضا قد
374

عرفت عدم وجوبها، لما أشرنا اليه من أن قوله (عليه السلام): " اتبع وضوءك بعضه بعضا "
سيق لإفادة الترتيب، واستفادته من الوضوءات البيانية ممنوعة، لأنها فيها واقعة
على طبق العادة جزما أو ظنا فلا تفيد وجوبها فيه، نعم لا غرو في إفادة
الاستحباب والرجحان المطلق من ملاحظة المجموع.
قوله (قدس سره): (ومنها النية وهي القصد إلى الفعل) أما وجوبها فيه بل في كل
عبادة فإجماعي كما صرح به الأستاذ - طاب ثراه -، ويظهر هو للمتتبع في
كلماتهم، ولذا حكم - طاب ثراه - بطرح ما حكي عن الإسكافي من الاستحباب
وشذوذه أو تأويله بإرادة الصورة المخطرة، مضافا إلى أن غير المنوي من الأفعال
لا يعد من الأفعال الاختيارية للفاعل المباشر فلا يكتفي به عما طلب صدوره منه
اختيارا.
وأما الاستدلال عليه بآية: " وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين " (1) والنبويين
" إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى " (2) وقوله (عليه السلام): " لا عمل إلا
بنية " (3) فمردود.
أما الآية فبما ذكره الأستاذ من ظهورها في التوحيد ونفي الشرك كما هو
صريح جماعة من المفسرين أيضا على ما حكي عن مجمع البيان والبيضاوي
والنيشابوري، وجزم به شيخنا البهائي على ما حكي عن أربعينه، ويشهد له عطف
إقامة الصلاة وايتاء الزكاة على العبادة الخالصة من الشرك، فيكون الحصر إضافيا،
وإلا لزم تخصيص الأكثر على أن ظاهر سياقها كنظائرها من الآيات المحتوية
على تلك المادة هو لزوم الإخلاص في العبادة بعد إحراز عباديته، فالآية مسوقة
إما لبيان ما هو من أهم الاصول والفروع في جميع الشرائع بقرينة العطف المذكور

(1) البينة: 5.
(2) عوالي اللآلي: ح 3، ج 1 ص 81.
(3) الوسائل 1: 34 ب 5 من أبواب مقدمة العبادات، ح 9.
375

وبقرينة قوله تعالى: " وذلك دين القيمة " (1) أو لبيان لزوم الإخلاص في الأفعال
العبادية بعد إحراز عباديتها، فلا دلالة فيها على لزوم الإخلاص والقربة في كل
ما أمر به.
وأما النبويان فعدم دلالتهما أوضح من أن يبين، فإنهما سيقا لإفادة توقف
حصول العناوين المجازى بها على القصد إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
وأما الخبر فهو أيضا كذلك لئلا يلزم توضيح الواضح لو اريد من النية نية نفس
الأفعال، ولئلا يلزم المحال لو اريد من النية نية القربة واريد من النفي معناه
الحقيقي أو يلزم التخصيص الملحق للكلام بالهذل لو اريد نفي الصحة.
وأما تفسيره (قدس سره) النية بالقصد وهو العزم فلأنه هو معناها لغة وعرفا، فعن
الصحاح: نويت كذا إذا عزمت عليه، وفي اعتبار اتصالها بالفعل خلاف، فعن
المبسوط: " وقت النية عند أول جزء من الصلاة وأما ما يتقدمها فلا اعتبار بها لأنها
تكون عزما " انتهى. وذيل العبارة دال على مغايرة النية للعزم.
وعن الفخر في الايضاح التصريح بأن النية حقيقة في الإرادة المقارنة، وعن
الذكرى: " ان الإرادة المتقدمة عزم لا نية " انتهى.
والأستاذ - طاب ثراه - اختار عدم اختصاصها بالمقارن، بل جعلها للأعم منه
ومن العزم المقيد بأمر مترقب وهو الأقوى، لما نراه في جملة من المسائل الفقهية
من كفاية النية المتقدمة في الوضوء والصوم والحج وغيرها، إذا صدر الفعل بذلك
الداعي لا بغيره. والتزام أن كلها مخالفة للقاعدة جاءت من الضرورة أو ثبتت من
الدليل التعبدي تعسف بحت، كما لا يخفى.
قوله (قدس سره): (ويعتبر فيها أن يكون ذلك بعنوان الامتثال لله تعالى) لأنه لو
لم يقصد بفعله هذا اتيان المأمور به ولو إجمالا، بل قصد نفس الفعل بما هو هو لم
يمتثل التكليف المتوجه اليه، بل أوجده أمرا مباينا له، ولا شبهة في عدم اجزائه

(1) البينة: 5.
376

عن المكلف به ولم يخرج عن عهدة هذا التكليف، ويجب عليه إعادته بعنوانه
الواقعي وايجاده بداعي الأمر في غير ما علم أن المقصود منه خصوص وجود
الفعل في الخارج كيف ما اتفق، فإنه يسقط عنه الإعادة حينئذ، لعدم بقاء المحل
لا للإتيان بالمطلق، فقصد الامتثال في مثله مما هو من العبادات مما لا بد منه في
حصول المأمور به وفي الخروج عن عهدة الطلب اللازم عليه بحكم العقل وفي
خروج عمله عن اللغوية في غير ما أشرنا اليه من التوصلي الساقط طلبه لحصول
الغرض المقصود من طلبه، ولأن ملحوظ الأمر في التعبديات ليس ذات الفعل
بعنوانه المعروف عرفا، وإنما تعلق غرضه به بعنوانه الذي يعلمه هو وخفي علينا.
ومن المعلوم لزوم قصد المأمور به بعنوانه الذي تعلق به الطلب، لعدم مطلوبيته
بغير ذلك العنوان فعند تعذر قصد ذلك العنوان على التفصيل يحكم العقل بأن ينحو
نحوه بما أمكن من الإجمال.
ولا شك أن قصد الأمر وقصد امتثال المولى وقصد الاتيان بمطلوبه قصد لذلك
العنوان إجمالا، لأنها معرفات له، ولذا اتفق كلمتهم على لزوم قصد القربة في
العبادة، وأنها محتاجة إليها ولا تؤتى بدونها، وأيضا يشك في حصول غرض الأمر
لو أتى به بدون القربة، فلا يحصل به البراءة فيبقى الاشتغال المعلوم بحاله.
فإذا عرفت لزوم قصد الامتثال في التعبديات فاعلم أن لزومه إنما هو لما
أشار اليه بقوله (قدس سره): (إما لأنه أهل له) كما اشير اليه فيما عن قطب دائرة
التوحيد أمير المؤمنين (عليه السلام) من قوله: " بل وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك " (1).
وقوله (قدس سره): (أو لعظمته) لأن حق المولى العظيم أن يعبد، كما أن شأن العبد
الحقير العبودية.
وقوله (قدس سره): (أو جزاء لنعمته) الظاهرة والباطنة، لحكم العقل بلزوم شكر
المنعم على ما أنعم، واستحقاق الكافر بالنعم زوالها عنه، وإليه أشار تعالى بقوله عز

(1) بحار الأنوار: ج 41 ص 14.
377

من قائل: " لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد " (1).
وقوله (قدس سره): (أو طلبا لرضاه) لأن حق المملوك المنعم عليه تحصيل رضا
ولي نعمه الحقيقي بحكم العقل.
وقوله (قدس سره): (أو فرارا من سخطه) لأن أقبح شيء عقلا أن يأتي المخلوق
بما يسخط عليه خالقه ومولاه والآيات والأخبار في ذمه كثيرة.
قوله (قدس سره): (من حيث إنهما كذلك) أي ملحوظين من حيث أنفسهما لا من
حيث ما يترتب عليهما من الأجر والثواب والنكال والعقاب ليفترقا عن قوله (قدس سره):
(أو طلبا للثواب أو النجاة من العقاب دنياويين أو اخراويين إذا كان
الإخلاص وسيلة إلى حصولهما) فإن العبد إذا أخلص لله العبودية والمملوك
إذا اجتهد في خدمة مالكه ومولاه لا شك في أنه يحصل بذلك رضاه ولا يسخط
بعد عليه، لعدم صدور ما يوجبه فيستحق بذلك الإنعام من المولى، والإفضال منه
اليه جزاء لحسن خدمته، سيما من المبتدئ بالنعم من غير استحقاق.
فيصح أن يلاحظ العبد في خدمته نيل العطاء المترتب على الرضا بتوسط
الرضا ودفع الأذى المترتب على السخط برفع سببه الذي هو السخط باجتناب ما
يوجبه ملحوظا في سلوكه السببين الرضا ورفع السخط باعتبار ما يترتب عليهما
من صيرورته محلا للأفضال وقابلا لأن ينظر اليه المولى بعين العناية ويكرمه
بالنوال، ويعلم من تقييده (قدس سره) قصد الغايتين بتوسط الإخلاص فيهما عدم كفاية
قصدهما بما هما هما، وسيأتي في كتاب الصلاة تقويته (قدس سره) لصحة قصدهما
بملاحظة أنفسهما.
وهو الأقوى بمعنى أنه لو قصد اتيان الفعل بداعي الأمر وكان نظره في اطاعته
أمر مولاه أنه يعطيه الجائزة لأنه وعد الاعطاء بمن قام بامتثال أوامره وبالانتهاء
عن نواهيه، أو كان نظره في امتثاله الفرار عما أوعد عليه الآمر من خالف أمره

(1) إبراهيم: 7.
378

ونهيه من العقاب على ترك الأول وفعل الثاني كان صحيحا قطعا، لأنه من جملة
أنحاء العبودية والطاعة، بل هو أحد تفاسير اللطف الذي جعلوه وجه الوجوب
وهو الشكر، حيث إن مآله إلى المجازاة من الطرفين بمعنى أنه يجب على المنعم
عليه القيام بإطاعة منعمه يكون شكرا لإنعامه، فإن صرف النعم مع عدم الاعتناء
بالمنعم كفران، وكذا يحق للمنعم أن يلاحظ المقيم في طاعته ويكرمه بنيل نواله
وتشريف أفضاله، والآيات والأخبار المرغبة والمرهبة كلها مشاملة لما ذكرناه
دالة على صحته وهو أي الممتثل خوفا أو رجاء داخل فيمن مدحهم الله، لأنه
مدح الراجين والخائفين.
وما ورد (1) بهذا المضمون من أن العبادة خوفا عبادة العبيد، والعبادة طمعا
للثواب عبادة الاجراء، وعبادة الأحرار هو حق العبادة، وهو غيرهما وأفضلهما
أيضا لا ينافيه، لأنه بيان لمراتب الكمال والنقص ومنزل على ما عن أمير البررة
من أنه ما عبد الله خوفا من ناره ولا طمعا في جنته، بل وجده أهلا للعبادة فعبده،
بل هو أيضا دليل على الصحة لما يقتضيه قضية الأفضلية، فما عن قواعد
الشهيد (قدس سره) من دعوى قطع الأصحاب بفساد العبادة لتحصيل الثواب أو دفع العقاب
كما عن العلامة في أجوبة المسائل المهنائية أيضا: " اتفقت العدلية على أن من فعل
فعلا لطلب الثواب أو لخوف العقاب لا يستحق بذلك ثوابا " انتهى.
وعن الرازي في تفسيره الكبير دعوى اتفاق المتكلمين على عدم صحة هذه
العبادة، بل ونسبته إلى الشهرة المحققة أيضا، بل عن رضي الدين بن طاووس
القطع بالفساد محمول على ما إذا قصد الفاعل بفعله نفس الثواب أو دفع العقاب من
دون التفات منه إلى المولى أصلا، كما نشاهده في اجراء الظلمة حيث نرى
أن داعيهم على العمل غالبا ليس إلا أخذ الأجر كعملهم لغيره ممن هو دونهم
في الرتبة.
فالوضيع والشريف عندهم بمرتبة سواء لا يلاحظون إلا ما يستحقونه من قبل

(1) نهج البلاغة: ص 510 من كلماته القصار رقم 237.
379

عملهم، وعظم الكبير الآمر، وأمره ساقط عندهم غير ملتفت اليه أبدا، أو أنهم
يعملون العمل لما يشاهدوه من أن الآمر الظالم يؤلم من لم يعمل له ويوجعه ضربا
شديدا، فملحوظهم في عملهم ليس إلا دفع ظلم الظالم عن أنفسهم، ولا يعتنون
بكبره كما لا يلتفتون إلى اجرته أيضا، فلو قصد الانسان عند إتيانه بمتعلق الأمر
تلك المرتبة لا يحق أن يتأمل في فساد عبادته، لعدم تحقق العبادة عنه حينئذ،
وعدم صدق الإطاعة على هذا العمل، لأنه ليس حاله في عمله هذا إلا كعمله في
محل الجعالة التماسا منه حصول الجعل له.
فيكون عمله لما يترتب عليه نظير شرب الدواء في ترتب خاصيته، ويكون
نظره مقصورا على صرف الخاصية ولا نظر له إلى الآمر والجاعل أبدا، مع أن
العبادة والإطاعة مأخوذ فيهما ملاحظة مولوية من يعمل له، وأقل مراتبهما
ملاحظة طلبه بما هو هو، أو بداعي ما ينشأ منه من ترتب استحقاق الجزاء على
امتثاله، وترتب استحقاق العقاب على مخالفته، فإن أراد الماتن من توسل
الإخلاص في حصولهما ذلك فلا مناص من أخذه فيهما.
ولينزل كلام سيد المدارك ومن حذى حذوه من القول بكفايتهما على ذلك
كما يجب تنزيل كلام المستند من دعواه أنه لو اريد فعله لا لأجل الثواب كان
تكليفه به كأنه تكليف بما لا يطاق أيضا على ذلك، يعني أنه لو اريد خلوص
امتثال أمره تعالى عن ملاحظة الثواب لكان تكليفا بما لا يطاق في حق أغلب
المكلفين لو لم نقل كافتهم، وهذا الذي ذكرناه هو الذي صرح به الماتن في
جواهره ونزل عليه كلام الأصحاب.
وبالجملة لا ضير في أن يكون محرك العبد في قيامه بامتثال أمر المولى وفي
قيامه بأداء وظيفة الطاعة شوقه إلى الثواب الموعود وزاجره عن ارتكاب مخالفة
خوفه عن لحوق العذاب الوعيد، وإنما المضر وقوع الفعل والترك منه بملاحظة
نفس الغايتين مغضبا عن المولى رأسا غير ملتفت إلى حيثية اطاعته ومعصيته
بالمرة، قاصرا نظره على ترتبهما عليه من قبيل الخاصية كالأدوية كما نشاهده في
380

كثير من الناس في عملهم بجملة من المستحبات التي سمعوا تأثيرها في إصلاح
أمر الدنيا، بل جربوه فيه فعملوه لذلك، سيما أكثر عمال الظلمة في مداومتهم على
زيارة العاشوراء ومحافظتهم على إقامة تعزية المظلوم سيد الشهداء (عليه السلام) خصوصا
في عشر العاشورا، فإنه من هذا القبيل.
ومن ذلك ما سمعناه من جملة من التجار المتدينين أن تجار عبدة النار من
الهنود يقيمون عزاء المظلوم (عليه السلام) ويقولون في جواب من يعترض عليهم بعدم
المعرفة بأنا جربناه فوجدنا أن هذا العمل له دخل تام في حصول الربح في
التجارة، ومن الواضح عدم عد العقلاء ذلك العمل منهم عبادة وإطاعة لله جل شأنه،
ولا نفهم معنى لالتماس كون الثواب من الله جل وعز نوعا من العبودية والطاعة،
لما بيناه من أن العمل لمجرد توقع حصول شيء من عظيم بإزائه لأجل أنه وعد
الأجر الكذائي للعمل الكذائي، وهو لا يخلف وعده لا يعد إطاعة لهذا العظيم ما لم
يلاحظ العامل عظمه واستحقاقه لأن يعبد ويطاع، بل قصر نظره إلى أن عمله
الكذائي فيه أجر كذا بلا ملاحظة لشخص الآمر والواعد أبدا، فافهم وتبصر.
وعليه ينزل كلام القائلين بالفساد في العمل المؤتى به لتحصيل الثواب أو لدفع
العقاب أو إشارة إلى... (1) الدرجة.
قوله (قدس سره): (أو لما تركب منها) أي من المذكورات من أهليته تعالى للعبادة
وكونه عظيما وكونه منعما حريا بأن يشكر جزاء لنعمته وكون العمل مرضيا له جل
اسمه إلى غير ذلك.
قوله (قدس سره): (وكذا يعتبر فيها الإخلاص) أي تخليص العمل له تعالى وعدم
تشريك غيره معه تعالى، لأنه خير شريك فمتى عمل له ولغيره جعله لغيره كما نطق
به رواية علي بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال (عليه السلام): " يقول الله عزوجل: من

(1) هناك كلمة غير مقروءة يحتمل أن تكون " تخفيف ".
381

أشرك معي غيري في عمل لم أقبله إلا ما كان لي خالصا " (1). وفي صحيحة زرارة
وحمران عن أبي جعفر (عليه السلام): " لو أن عبدا عمل عملا يطلب به وجه الله والدار
الآخرة وأدخل فيه رضى أحد من الناس كان مشركا " (2). وفي رواية سفيان بن
عنبسة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: افعل الخالص الذي لا تريد أن يحمدك عليه
إلا الله عزوجل " (3).
وفي رواية السكوني عنه (عليه السلام) قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله): " إن الملك ليصعد بعمل
العبد مبتهجا به فإذا صعد بحسناته يقول الله عزوجل: (اجعلوها في سجين) " فإنه
ليس إياي أراد بها " (4)، والسجين كتاب الفجار. وفي رواية أبي بصير عنه (عليه السلام):
" يجاء بالعبد يوم القيامة قد صلى فقال: يا رب قد صليت ابتغاء وجهك، فيقال له:
هل صليت ليقال ما أحسن صلاة فلان؟ اذهبوا به إلى النار " ثم ذكر مثل ذلك
في القتال وقراءة القرآن والصدقة (5). إلى غير ذلك من الأخبار الدالة على أن كل
عمل لم يخلص لله عزوجل يجعل هباء منثورا ويكون كسراب بقيعة يحسبه
صاحبه الظمآن المتوقع لحصول نتيجته ماء، فإذا جاءه يوم القيامة وكشف عنه
الغطاء لم يجده شيئا.
وهذا معنى قوله (قدس سره) - مفرعا على اعتباره -: (فمتى ضم إليها) أي إلى النية
شيئا وكان مضادا للإخلاص المطلوب، وكان من قبيل (ما ينافيه) ولا يجتمع
معه (بطل خصوصا الرياء) المجمع على فساد العمل به لكونه محرما نصا
وإجماعا ومتحدا مع العمل في الوجود ومنافيا للإخلاص المعتبر فيه، ومقتضيا
لعدم حصول الإطاعة مضافا إلى ما سمعته من الأخبار.

(1) الوسائل 1: 44 ب 8 من أبواب مقدمة العبادات، ح 9.
(2) الوسائل 1: 49 ب 11 من أبواب مقدمة العبادات، ح 11.
(3) الوسائل 1: 43 ب 8 من أبواب مقدمة العبادات، ح 4، وفيه سفيان بن عيينة بدل عنبسة.
(4) الوسائل 1: 52 ب 12 من أبواب مقدمة العبادات، ح 3.
(5) الوسائل 1: 35 ب 12 من أبواب مقدمة العبادات، ح 10.
382

ولذا قال (قدس سره): (فإنه إذا دخل في النية على أي حال يكون أفسد) لما
عرفته، بل إفساده مورد اطباق من عدا السيد (رضي الله عنه) المحكي عنه قصره عدم اجزاء
ذلك العمل على مقام القبول وترتب الثواب عليه دون لزوم الإعادة، بمعنى أنه
ساقط عن درجة الاعتبار في المرحلة الاولى ومجز في المقام الثاني. وحكي ميل
بعض المتأخرين اليه أيضا، هذا.
ولكن نسب في الجواهر إلى بعض محققي المتأخرين عدم ضرر ما يكون
داخلا فيها على وجه التبعية، واستشكل فيه الأستاذ - طاب ثراه - أيضا في
طهارته مستظهرا اختصاص أدلة الرياء بصورة استقلاله في البعث أو تركب
الباعث منه ومن العبودية، وعدم شمولها لما يوجب تأكد الداعي إلى العمل منزلا
صحيحة زرارة المتقدمة من قوله (عليه السلام): " ادخل " على الإدخال في الباعث على
وجه الجزئية ومؤولا النشاط والكسل في رواية سفيان من قوله (عليه السلام): " للمرائي
ثلاث علامات ينشط إذا رأى الناس، ويكسل إذا كان وحده، ويحب أن يحمد في
جميع اموره " (1) على الهمة والقيام بالعمل وعلى التكاسل والتقاعد عنه، هذا.
مضافا إلى تضعيفه (قدس سره) مطلق أخبار الرياء بعدم الدلالة على المطلق بقوله
- طاب ثراه -: " فإن أظهرها رواية السكوني وهي ظاهرة بقرينة ابتهاج الملائكة
به في استجماعه لشرائط الصحة - إلى أن قال طاب ثراه -: - فلابد من حمل الرد
فيها على عدم القبول الكامل من جهة الرياء الخفي الذي لا يمكن إلزام كل أحد
بدفعه، فيحمل الرواية على مكلف خاص يكون هذا العمل منه كالسيئة، وإن كانت
من غيره حسنة فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين، ويكون المراد بالسجين
المحل الهابط السافل مقابل العليين بالنسبة إلى هذا المكلف كما يشهد له تفسير
السجين في بعض الروايات بالأرض السابعة والعليين بالسماء السابعة " يريد (قدس سره)
نزوله عن المرتبة العالية ومقام القرب الذي يستحقه بعمله هذا لو لم يراد فيه إلى

(1) الوسائل 1: 54 ب 13 من أبواب مقدمة العبادات، ح 1، وفيه عن " السكوني " بدل
" سفيان ".
383

مرتبة دونها.
وهذا الكلام وإن كان تاما في جملة من الروايات، ولكن الانصاف أن طائفة
منها ظاهرة في المرام كافية لإثبات ما هو المقصود في المقام، وعمومها أو إطلاقها
يشمل ما دخل في النية على وجه التبعية أيضا كقوله (عليه السلام): " كل رياء شرك " (1)
وقوله (عليه السلام): " وإياك والرياء " (2) وقوله (عليه السلام): " والرياء أخفى من دبيب النملة
السوداء في الليل المظلم " (3) في مقام المنع عن العمل المراءى فيه، وقوله (عليه السلام):
" من أشرك معي غيري " وصدق الدخول في الفرض في صحيحة زرارة بقرينة
قوله: " كان مشركا " (4) وظهور النشاط والكسل عرفا في الجلادة والتثاقل، وظهور
رواية أبي بصير في الرياء التبعي بقرينة قوله: " صليت ابتغاء وجهك " (5) مع عدم
إمكان حملها على ما حملت عليه رواية السكوني لقوله: " اذهبوا به إلى النار ".
نعم ليس منه الخطرة بمعنى أنها لا تضر، لحسنة زرارة: " عن الرجل يعمل
العمل من الخير فيراه إنسان فيسره ذلك فقال (عليه السلام): لا بأس، ما من أحد إلا وهو
يحب أن يظهر له في الناس الخير إذا لم يكن يصنع ذلك لذلك " (6)، وفي رواية:
" قال رجل لرسول الله (صلى الله عليه وآله): أستر العمل لا احب أن يطلع عليه أحد فيطلع عليه
فيسرني، فقال (صلى الله عليه وآله): لك أجران أجر الستر وأجر العلانية ".
والظاهر أن المراد بأجر العلانية هو حمد الناس له وهو مسرور به، فدلت على
أن مجرد السرور بإفشاء خيره في الناس غير مضر ما لم يكن دخيلا في العمل أي
بأن لا يكون حبه لذلك دعاه إلى العمل سيما إذا كان سروره لاقتداء غيره به.

(1) الوسائل 1: 52 ب 12 من أبواب مقدمة العبادات، ح 2 و 4.
(2) الوسائل 1: 48 ب 11 من أبواب مقدمة العبادات، ح 6.
(3) الوسائل 11: 498، الباب 36 من أبواب الامر والنهي، ح 3.
(4) الوسائل 1: 49 ب 11 من أبواب مقدمة العبادات، ح 11.
(5) الوسائل 1: 53 ب 12 من أبواب مقدمة العبادات، ح 10.
(6) الوسائل 1: 55 ب 15 من أبواب مقدمة العبادات، ح 1.
384

وربما يتمسك بعموم معقد الإجماع الذي عن جامع المقاصد، وليس بشيء
لإمكان كونه في قبال السيد المنكر لضرره مطلقا في الصحة، نعم رواية مسعدة:
" إنما النجاة في أن لا تخادعون الله فيخدعكم، قيل له: فكيف يخادع الله؟ فقال:
يعمل بما أمره الله تعالى ثم يريد به غيره " (1) غير خالية عن الدلالة على الرياء
التبعي بجعل التراخي المستفاد من كلمة " ثم " دالا على تبعية إرادة الغير إرادة الله
تعالى بالعمل لبعد حمل إرادة الغير بالعمل على الحب الحاصل بعد تمام العمل،
لعدم تسميته إرادة أولا، وعدم ضرر الرياء المتعقب ثانيا. نعم لا يبعد حملها على
الرياء الحاصل في أثناء العمل، وهو أيضا مضر كما سيأتي إن شاء الله.
هذا كله مضافا إلى دلالة الآيات على لزوم خلوص العبادة ولزوم تخليص
الدين للمعبود الحقيقي، ومضافا إلى كفاية ما سلكناه في ضرر الرياء من كون العبادة
المجامعة معه محرمة ولا يجتمع العبادية مع الحرمة، لأنه تعالى لا يطاع بالمعصية.
فروع:
أ: لا فرق في الرياء المقارن المفسد بين كونه مستقلا وبين تركب الداعي منه،
ومن ملاحظة طلب المولى، كما أنه لا فرق في التركيب بين استقلاله في الجزئية
أو كونه تابعا كما فصلناه، ومن التركيب استقلال كل منهما في البعث لو فرض
انفرادهما عن الآخر.
وتوهم أن العمل في الفرض صادر عن الإخلاص لفرض تماميته في البعث
مدفوع بامتناع استناد وجود فعل شخصي إلى علتين مستقلتين تامتين من جميع
الوجوه.
مع أنه كما يمكن اسناده اليه يمكن اسناده إلى صاحبه المقارن معه المؤثر في
الفعل مثل ما أثر هو فيه، فكما أن ذاك مقتض للصحة، فكذا صاحبه مقتض للفساد،

(1) الوسائل 1: 50 ب 11 من أبواب مقدمة العبادات، ح 16.
385

ولا ريب في تقدمه على مقتضي الصحة، هذا مع ما تراه من صدق " ادخل " في
صحيح زرارة هنا بوجه أوفى كشموله للجزئية بكلا قسميه.
ب: لا ريب في اختصاص الفساد بالعمل المراءى فيه، ولازمه فساد الجزء
وحده عند تعلقه به دون الكل، وحينئذ فإن أمكن استدراكه بعد الندم كأجزاء
الوضوء أعاد عليه وصح العمل وإن لم يمكن كأجزاء الصلاة بعد تجاوز المحل
أو مع بقائه عند اختيار البطلان بالكلام المحرم، أو استلزام الإعادة زيادة ركن
أو زيادة عمدية مبطلة أو غيره من المبطلات من فوت موالاة ونحوها فسد من
تلك الجهة لا من جهة نفس الرياء، هذا إذا تعلق الرياء بالجزء في الأثناء.
وأما إذا قصد ايجاد المركب مرائيا في جزئه من أول الأمر عند النية فلا شبهة
عندي في فساده مطلقا، لكونه منهيا عنه عند دخوله فيه، فلا يخلص للعبادية
ويكون نفس العمل ريائيا ولو باعتبار جزئه، فيكون من المنهي عنه لجزئه،
ويكون مشمولا لأدلة الرياء المنافي للخلوص فيفسد، وما ذكرناه وحكمنا بصحته
مع إمكان تدارك الجزء الفاسد بالرياء هو ما تعلق الرياء بالجزء في الأثناء، ولازم
ذلك صحة الصلاة عند تعلق الرياء بمثل القنوت من مستحباتها، وهو كذلك لأنه
ممكن التدارك ولا إشكال فيه، فإنه إن لم يتداركه كان بمنزلة الترك، وإن تداركه
ولم يقتصر عليه ولم يكن ذلك مقصودا له عند النية تمت صلاته لخلوها عن الرياء
لو لم نقل ببطلانها من جهة الاشتمال على الكلام المحرم كما تقدم.
وإنما الإشكال في ما ذكره الأستاذ - طاب ثراه - من الحكم بالصحة عند تعلق
الرياء بنفس الصلاة باعتبار جزئه المستحبي من أول الأمر تنزيلا له منزلة العدول
عن الفرد الأكمل إلى غيره تمسكا بتحقق الامتثال بأقل الواجب الموجود في
الخارج بداعي الاخلاص، وهو مشكل، لأن امتثال الأوامر العبادية ليس بمحض
صدق وجود متعلقها، وإنما هو باعتبار الايجاد الذي هو فعل المكلف، ولا ريب
في أن ايجاده للعمل الخاص لا يتصف بغير الوحدة، كما أن نفس الوجود الخارج
أيضا كذلك، وهو محرم وفاسد، لاشتماله على الرياء فأين الطبيعة الموجودة
386

الخالصة؟
نعم لو قلنا بتعدد الموجودين بلحاظ تحقق الطبيعة وصدقها على الأكثر
المحكوم بفساده، والأقل المتحقق في ضمنه كان لما ذكره - طاب ثراه - وجه،
ولكن غير خفي عدم صحة القول بتعدد الموجود مع وحدة الايجاد.
فإذن يقوى في النظر أن يحكم فيه بالفساد على أن تسليم التعدد بعد اختيار
أكمل الأفراد، وايجاده غير ثابت لو لم يرجح عدمه، فإن الفاعل لم يقصد سوى
الأكمل، ووجود غيره غير مقصود فوجوده قهري، ولا يعقل أن يقال: بتحقق
الامتثال بالوجودات القهرية الغير المقصودة للفاعل، لما اشير إليه غير مرة. وبهذا
صححنا تعقل التخيير بين الأقل والأكثر وحكمنا بوجوب الأكثر بتمامه عند تحققه
ونفينا اتصاف القدر الزائد عن أقل الواجب بالاستحباب في محله.
ج: لا فرق في بطلان العمل بضم الرياء إليه بين كونه باعثا لصدوره أو داعيا
لاختيار بعض أفراده على بعض، لما بيناه أن امتثال الكلي إنما هو بايجاد أفراده،
فإنه ما لم يتشخص لم يوجد، والمفروض اقتران ايجاده بالرياء فيفسد ما اقترن به،
وليس وراءه شيء آخر يصير محلا للامتثال وخالصا عن الرياء.
وأما ما ذكره الأستاذ - طاب ثراه - من أن الأمر بالكلي يلزم منه التخيير
في الأفراد المباحة دون مطلق الأفراد حتى المحرمة ففيه أن الفرد ليس بمحرم
بما هو فرد، وإنما المانع من قبوله عدم تحقق شرط الامتثال فيه وهو ايجاده
بداعي الأمر خالصا. نعم قوله - طاب ثراه -: " مع أنه يصدق عليه أنه عمل هذا
العمل الخاص لغير الله تعالى " تام، وهو الوجه للفساد.
ومنه يتبين فساد المراءى فيه باعتبار جزئه المستحبي وتفريقه - طاب ثراه -
بينه وبين المراءى فيه باعتبار وصفه بارجاع النهي في الأول إلى الجزء حقيقة
وجعل متعلقه في الثاني نفس العمل، لأن الفرد المتشخص بالخصوصية هو محل
الرياء ما صدقه عقلنا الناقص وما انتقش في ذهننا المعوج.
نعم لو تعلق الرياء ببعض الخصوصيات الخارجة عن الفرد من حيث الوجود
387

لم يقدح وإن انتزع عنه صفة قائمة بالفرد كالاستقبال في الوضوء مثلا أو التحنك
في الصلاة، ومن هنا يفرق بين الصلاة في مكان خاص رياء فتبطل وبين الوضوء
فيه كذلك فلا يفسد. وأما الزمان فكلاهما فيه سواء فمن توضأ قبل الوقت تهيأ
رياء فسد.
د: نقل عن بعض علماء الأخلاق تفسير الرياء بطلب المنزلة عند غيره تعالى
بالعبادة. واستظهر منه الأستاذ - طاب ثراه - اختصاصه بداعي مدح الناس، فلذا
نفى البأس عما لو قصد به دفع الذم عن نفسه كما لو راعى في القراءة آدابها الغير
الواجبة دفعا لنسبة النقص إليه بجهله بطريقة القراء، وقال - طاب ثراه -: ظاهر
أخبار الباب أيضا الاختصاص، وهو مشكل في غير ما تعلق بالكيفية الخارجة
عن أصل العبادة.
ولذا حكم - طاب ثراه - بالفساد في صورة استقلاله في البعث وفرع جزئيته
في الداعي على حكم الضميمة المباحة، بل جعله منها وحكم فيه بالصحة لأنها
مختاره فيها، والذي يرجح في النظر فيما لم يكن تابعا صرفا حرمته وفساد ما
تعلق به، سواء تعلق بأصل العمل أو بخصوصياته المشخصة أو بكيفياته المقومة له
المتحدة معه، وسواء كان مستقلا في البعث أو جزءا للداعي كما عن قواعد الشهيد
من قوله: " ويتحقق الرياء بقصد مدح الرائي للانتفاع به أو دفع ضرره " انتهى.
والظاهر كون مدخول " أو " عطفا على كلمة " مدح " وكون الانتفاع وحده
غاية للمدح لاهما معا كما احتمله الأستاذ - طاب ثراه - بجعل المعطوف عليه
كلمة الانتفاع. وجه الترجيح أن دفع النقص أيضا راجع إلى طلب المنزلة لتلازمه له
باظهار صفة كمال مضاد لذلك النقص، فهو طلب منزلة بوجدان ذلك الكمال، مضافا
إلى ما مر من اعتبار الخلوص ومضرة دخول الرياء بأي نحو كان، ومن الواضح أن
ايجاد العمل لدفع المذمة عن نفسه لا يكون خاليا من الرياء وخالصا لله.
وبالجملة كما أن ايجاد أصل العمل بداعي دفع النقص مفسد كما اعترف به هو
- طاب ثراه - كذا اختيار الخصوصية له كالصلاة في المسجد أو جماعة لدفع أن لا
388

يعير بأنه تارك لهما مفسد أيضا، نعم مع استقلال القربة في كونها داعية إلى
اختيارهما مثلا لا بأس بتأكده بملاحظة دفع هذه التهمة عن نفسه.
كما أنه لا بأس باختيار الجهر في القراءة في مقام التخيير وعدم ترجيح
لإحدى الكيفيتين في نظره لدفع نقص جهله بالقراءة. وأما اظهاره العمل بعد
استقلال القربة بالبعث إلى أصل ايجاده لدفع تهمة الترك عن نفسه أو لاقتداء الغير
به فيه فخارج عما نحن فيه وداخل في الأمر المرغوب المندوب إليه، وهو الاتقاء
عن مواضع التهمة، وحمل إخوانه على تجشم الامور المعروفة المطلوبان بكل
وجه. ومن هذا الباب التقية في محل رخصتها، ومنه يعلم ما في قول الشهيد (قدس سره)
المحكي عن قواعده ذيلا، لما حكيناه:
" فإن قلت: فما تقول في العبادة المشوبة بالتقييد؟
قلنا: أصل العبادة واقع على وجه الإخلاص، وما فعل فيها تقية فإن له
اعتبارين: بالنظر إلى أصله فهو قربة، وبالنسبة إلى ما طرأ من استدفاع الضرر فهو
لازم لذلك، فلا يقدح في اعتباره. أما لو فرض إحداثه صلاة تقية فإنه من باب
الرياء " انتهى.
فإن إتيان السوقي في أول الوقت بصلاة الظهر - مثلا - في سوق المخالفين
اتقاء منهم لكي يخفي تشيعه عليهم بإظهاره بذلك الفعل أنه ممن لايجوز تأخير
الصلاة عن أول الوقت كالفرقة المحقة إحداث للصلاة تقية، ومع ذلك صحيح.
ولا يتوهم أن مقصوده (قدس سره) من إحداث الصلاة إحداث صلاة غير مشروعة
هيئة أو زمانا، لأن فسادها حينئذ يأتي من قبل عدم المشروعية، والحاصل إعمال
التقية في العبادة خارج عن الرياء لا أنه مستثنى منه.
ثم إن طلب المنزلة عند الناس لتحصيل غاية راجحة كترويج الحق وإماتة
الباطل بكلمته المسموعة فغير داخل في الرياء، لأن مرجعه إلى تحصيل المنزلة
عند الله ولأنه توصل بما جعله الشارع وسيلة لنيل مرامه وطلب منصبه المجعول له
شرعا بطريقه المنصوب له من قبله (عليه السلام)، فإن الكملين من يقتدى بأفعالهم
389

وأطوارهم ويكون فعلهم أيضا موعظة كقولهم.
وأما ما ذكره الأستاذ - طاب ثراه - من معارضة حرمة الرياء بعد تسليم كون
الفرض منه لعموم رجحان تلك الغاية فغير تام، لعدم تقدم الواجب على الحرام إذا
تعارضا دليلا بنحو العموم من وجه، كيف والمقام غالبا غير بالغ درجة الوجوب؟!
ه‍: حكم السمعة وهي أن يقصد بالعمل سماع الناس به فيعظم رتبته عندهم
حكم الرياء فإنه من أفراده، وأما حب استماع الناس لعمله من دون أن يفعله لذلك
فهو كحب رؤية الغير لعمله وسروره بذلك من غير أن يعمله لذلك، وليس به بأس،
لحسنة زرارة والرواية المتقدمتين.
وأما الضمائم المحرمة الاخر غير الرياء والسمعة فما كان منها عنوانا للفعل
فلا إشكال في مفسدية قصده، لصيرورة الفعل الواحد عنوانا لواجب ومحرم
فيكون حراما، وما كان منها غاية له كان قصدها منافيا للإخلاص فيفسد من تلك
الجهة، مع أن الفعل لأجل الغاية المحرمة محرم ولو مقدمة فيكون مجمعا للواجب
والحرام، وبطلانه حينئذ واضح.
وبهذا البيان يلغى الفرق بين ما كان الحرام غاية لأصل العمل أو لترجيح بعض
خصوصياته على بعض.
قوله (قدس سره): (والأحوط إلحاق العجب المقارن للعمل به، إلا أن الأقوى
خلافه) وجه الاحتياط ما حكاه في جواهره عن بعض مشايخه من إلحاقه
العجب المقارن بالرياء في الإفساد. ودعوى بعضهم ظهور الأخبار فيه كرواية ابن
الحجاج عن الصادق (عليه السلام) قال: " قال إبليس لعنه الله: إذا استمكنت من ابن آدم
في ثلاث لم ابال ما عمل فإنه غير مقبول منه: إذا استكثر عمله، ونسي ذنبه،
ودخله العجب " (1).
وخبر أبي عبيدة عن الباقر (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: " قال الله تعالى: إن

(1) الوسائل 1: 73 ب 22 من أبواب مقدمة العبادات، ح 7.
390

من عبادي المؤمنين لمن يجتهد في عبادتي إلى أن فاض به النعاس الليلة والليلتين
نظرا مني له، وابقاء عليه، ولو اخلي بينه وبين ما يريد من عبادتي لدخله العجب
من ذلك فيصير بالعجب إلى الفتنة بأعماله، فيأتيه من ذلك ما فيه هلاكه، لعجبه
بأعماله، ورضاه عن نفسه، فيتباعد مني عند ذلك وهو يظن أنه يتقرب إلي " (1).
وخبر علي بن سويد عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: " سألته عن العجب الذي يفسد
العمل، فقال: للعجب درجات منها أن يزين للعبد سوء عمله فيراه حسنا فيعجبه،
ويحسب أنه يحسن صنعا، ومنها أن يؤمن العبد بربه فيمن على الله، ولله عليه
المن " (2).
وما رواه إسحاق بن عمار عن الصادق (عليه السلام) قال: " أتى عالم إلى عابد - إلى أن
قال: - قال العالم للعابد: إن المدل لا يصعد من عمله شيء " (3).
وما عن الوسائل أنه روي عن العلل والتوحيد مسندا عن النبي (صلى الله عليه وآله) عن
جبرئيل (عليه السلام) في حديث قال تعالى: " إن من عبادي لمن يريد الباب من العبادة
فأكفه عنه لئلا يدخله عجب، فيفسده " (4).
إلى غير ذلك مما ورد أنه من المهلكات وأن الذنب خير منه، وأن ترك العمل
معه خير من فعله، وأن سيئة تسؤك خير من حسنة تعجبك، وأن الخروج عن حد
التقصير باخلاء العمل عنه.
وفي الجواهر أن أحسنها ما رواه يونس بن عمار عن الصادق (عليه السلام) قال: " قيل
له وأنا حاضر: الرجل يكون في صلاته خاليا فيدخله العجب، فقال: إذا كان أول
صلاته بنية يريد بها ربه فلا يضره ما دخله بعد ذلك، فليمض في صلاته وليخسأ

(1) الوسائل 1: 73 ب 23 من أبواب مقدمة العبادات، ح 1.
(2) الوسائل 1: 75 ب 23 من أبواب مقدمة العبادات، ح 5.
(3) الوسائل 1: 76 ب 23 من أبواب مقدمة العبادات، ح 9.
(4) الوسائل 1: 78 ب 23 من أبواب مقدمة العبادات، ح 17.
391

الشيطان " (1)، لدلالته مفهوما على أن مقارنته لأول العمل مفسدة له، كما أن منطوقه
عدم ضرر ما وقع منه في الأثناء، قال: " وبالأولى ما وقع منه بعد العمل ".
وأنت خبير بأنه أخسها، لأن ظاهر الخبر أنه (عليه السلام) في مقام نفي ضرر الخطرات
بعد خلو العمل عن المفسدات من رياء ونحوه، غاية الأمر أنه (عليه السلام) أدرج فيها
العجب كما يعطيه عموم كلمة " ما "، ويؤيده قوله (عليه السلام): " وليخسأ " فإنه في مقام رفع
الوسواس عنه وارغام الشيطان لئلا يغلب عليه فيفسد عمله بتلك الشبهات التي
تأتيه من قبل الخطرات، أو يقعده عن العمل فيحرمه عن ثوابه، فلا تغتر.
وأما باقي الأخبار فلا دلالة فيها إلا على أنه من الموبقات، لأنه من ذميم
الأخلاق الملحق صاحبه بأسفل الدركات كما يفصح عنه قوله في رواية العلل
فيفسده باسناد الفساد إلى الفاعل لا الفعل، ولأنه مدخل صاحبه في معشر
يحسبون أنهم يحسنون صنعا وهم مغشيون بسوء صنعهم كما ينبئ عنه قوله في
خبر ابن سويد: " يزين للعبد سوء عمله... الخ " (2)، ولأن العمل الفاسد ليس بحسنة
فتسمية العمل حسنة دليل صحته المبحوث عنها في الفقه فيراد حينئذ من عدم
قبوله وفساده عدم كونه مقربا صاحبه قربا يترتب عليه لو صدر عن الورع التقي
من نيل أعلى الدرجات، لأن المقرب المقرون بالمبعد غير مقرب سيما مع كون
المبعد خلقا.
فيكون ملخص تلك الاخبار أنه من الامور القبيحة والأشياء المحرمة المقللة
أو المحبطة لثواب الأعمال، كما أن حرمته كذلك متسالم عليها عند الأصحاب، بل
عدم إفساده أيضا منسوب إليهم، لأن في الجواهر - بعد نقل الفساد به عن بعض
مشايخه، قال: ولم أعرفه لأحد غيره - قال: " بل قد يظهر من الأصحاب خلافه،
لمكان حصرهم المفسدات وذكرهم الرياء وترك العجب مع غلبة الذهن إلى

(1) الوسائل 1: 80 ب 24 من أبواب مقدمة العبادات، ح 3.
(2) الوسائل 1: 75 ب 23 من أبواب مقدمة العبادات، ح 5.
392

الانتقال اليه عند ذكر الرياء ".
ويؤيده كون تلك الأخبار بمرأى منهم وبمسمع، فعدم تعرضهم له دليل عدم
اعتنائهم إليها سندا ودلالة، ولكن مع ذلك اختار الفساد السيد ابن بحر العلوم في
البرهان القاطع، وهو كما ترى.
قوله (قدس سره): (أما غير الرياء من الضمائم فإن كانت راجحة فلا منافاة
للإخلاص فيها، بل هي مؤكدة له) ظاهر العبارة إطلاق الحكم بالصحة
وهو الذي صرح به سيد المدارك بقوله (قدس سره): " فالمتجه الصحة مطلقا "، وعن شرح
الدروس الاتفاق عليه، ولكنه مشكل، كما قوى عدمها في جواهره فيما
إذا كان الضميمة هو المقصود بالذات وكانت العبادة تبعية بحيث لولاها لم يفعلها،
لعدم كونه مطيعا للأمر العبادي حينئذ ولا ممتثلا له. ولعله لذا تنظر فيه الأستاذ
- طاب ثراه -.
والذي يقوى في النظر عدم حصول امتثال الأمر العبادي في صورة تبعية
الإخلاص لها، بل يشكل حصوله في صورة كون كل منهما جزءا للداعي بحيث
لا يصدر عنه الفعل لو فرض الانفراد، بل مع استقلال كل في البعث أيضا كذلك،
وإن كان عمله حينئذ لا يخلو عن ثواب لو كان العبادة من المستحبات، وأما التأكد
المستدل به فهو إنما يكون في صورة كون الضميمة مرغبا اليه شرعا، أو مشوقا
للغير بحيث يكون ايجاده مطلوبا لله تعالى في تلك الحال، لا مجرد الرجحان
ولو وصول خير إلى الفاعل، فإنه بحكم المباح كما لا يخفى.
اللهم إلا أن يكون مراد الماتن أيضا هو الرجحان الشرعي فهو حينئذ له وجه،
لاجتماع جهات القربة في هذا الفعل الخاص مع فرض جواز التداخل كما في
الأغسال فيرى أنه لا بأس به، سواء تبع أحدهما الآخر أم تساوى الداعي فيهما
على وجه التشريك أو على وجه استقلال داعي كل منهما في البعث لو انفرد، هذا.
ولكن الأقوى جوازه حينئذ مع فرض جواز التداخل لعدم المنافاة، لكن
بلا تأكد للاخلاص، إذ على هذا الفرض موجودات بوجود واحد، فالايجاد الذي
393

هو فعل الفاعل واحد، واخلاصه أيضا واحد لا تعدد فيه حتى يوجب التأكد.
وتوهم أن الموجود الخارجي مقترن بالاخلاص وهو متعدد فيوجب تعدد
الاخلاص فيتأكد كلام ظاهري، إذ هذا التعدد يخرج الفعل عن الوحدة، فلم يجتمع
الاخلاصات المتعددة في محل واحد ليوجب التأكد، فمع وحدة الفعل وهو حيث
صدوره عن الفاعل اخلاصه واحد، ومع تعدده - وهو حيث وجوده الخارجي -
بأن تعدد حكما أو حقيقة إخلاصه أيضا كذلك، إلا أن كلا منها منفك عن الآخرة،
فلا يتأكد الاخلاص الموجود في أحدها بالإخلاص الموجود في الآخر، هذا.
مضافا إلى أن هذا التعدد إنما جاء بعد العمل، والموجب للتأكد إنما هو التعدد
الحاصل حين العمل عند الابتداء بالفعل، ولا شبهة في وحدة الفعل ووحدة
اخلاصه حينئذ. نعم مطلوبية هذا الفعل من جهات عديدة توجب تقوية المحرك
والداعي على ايجاده ولو بغير قصد القربة، وهذه التقوية موجودة في تمام
الضمائم، ولا ربط له بتقوية الاخلاص كما هو واضح، فالتعليل بعدم المنافاة
صحيح، إذ لا ضدية في البين والترقي منه إلى التأكد فاسد، لما ذكرناه، فتأمل فيه
فإنه دقيق.
قوله (قدس سره): (وإن كانت مباحة غير راجحة) أو راجحة رجحانا غير شرعي،
بل لعود خير إلى الفاعل كما أشرنا إلى لزوم خروجه من اطلاق الماتن آنفا
(كالتبرد فإن دخلت على جهة التبعية لما هو المقصود الأصلي فلا بأس
أيضا) هذا هو التفصيل المنسوب إلى الشهيد في قواعده جزما كما عن بعضهم،
واحتمالا كما عن الأستاذ - طاب ثراه - حيث خطأ نسبة الجزم اليه، لكن حكى
الجزم به عن غير واحد من المتأخرين، بل عن الفاضل الهندي تنزيل إطلاق
الأصحاب عليه، وهو غير بعيد بعد فرض استقلال الأمر في البعث، وكون ملاحظة
الضميمة مؤكدة للبعث وغير مضادة للإخلاص في خصوص الفرض، كما يومئ
اليه ما عن المبسوط وغيره من تعليل الصحة بكون نية التبرد زيادة غير منافية،
حيث إن ظاهره أن قصد التبرد من قبيل المرغب له والمشوق إياه، وأن المقصود
394

الأصلي والداعي الحقيقي هو ملاحظة الأمر، وعليه لا ينبغي التأمل في الصحة.
وتعليل الشيخ (قدس سره) يرشد إلى أن مراد المطلقين أيضا تلك الصورة، لأنه (قدس سره)
منهم، حيث حكى الأستاذ - طاب ثراه - عنه، وعن المعتبر وبعض كتب العلامة
التصريح بالصحة ناقلا هذا التعليل عنه وعن المعتبر وعن جماعة بعد حكاية نسبة
هذا القول إلى ظاهر الأكثر عن قواعد الشهيد، وحكي عن بعضهم التعليل أيضا بأن
هذه الضمائم من اللوازم، فهي حاصلة وإن لم تقصد.
والقول الآخر البطلان مطلقا حكي عن جماعة وعن بعض كتب العلامة
اختياره تبعا لهم، وعن فخر الدين والشهيدين في البيان والقواعد والروض، وعن
ثاني المحققين وصاحب الموجز وغيرهم الذهاب اليه.
والأقوى التفصيل على ما فصلناه ولا أظن أن هؤلاء الأساطين يحكمون
بالبطلان فيه، لأنهم أخذوا بظاهر تعليلي الصحة، وفهموا منه الحكم بالصحة حتى
في صورة التشريك في البعث كما هو نص التعليل الأخير ورأوا أن لزوم الحصول
غير قصد الحصول، وإلا يلزم الحكم بالصحة مع ضم الرياء أيضا، لأن مدح الناس
المرائي حاصل وإن لم يقصده، فلذا عدلوا عن الحكم بالصحة إلى الحكم بالفساد
كما صرح به الأستاذ - طاب ثراه - وإلا فلا وجه للحكم بالبطلان في مثل الصورة،
فافهم.
قوله (قدس سره): (وإن دخلت على جهة الشركة بمعنى تركب الداعي منهما
على أن يكون كل منهما جزءا، فالأقوى البطلان أيضا) كما في ضم الرياء
(لعدم الاخلاص) المعتبر في العبادة، ولما دل على حصر العباد فيمن يعمل
طمعا في الثواب ومن يعمل خوفا من العقاب ومن يعمل حبا لله، فإن ظاهر الحصر
بطلان عبادة من سواهم، إذ لو كان غير الأقسام الثلاثة أيضا من العبادة لم يستقم
التقسيم إليها، بل لقبح الاقتصار عليها واهمال ذكر ما عداها في مقام بيان أدنى
درجات العبادة وأعلاها، فيعلم أن ما عداها ساقطة عن درجة العبادية ولا يستحق
تسميته بها، وهذا معنى فسادها. وما عدا الحب من الامور الراجعة إلى الله
395

عز وجل راجع اليه بأدنى تأمل، ولمنع صدق الامتثال في مثله.
قوله (قدس سره): (بل الأحوط إن لم يكن الأقوى ذلك أيضا فيما إذا كان كل
منهما باعثا مستقلا) لاستناد الفعل إلى مجموع الأمرين لاحالة استناده إلى كل
منهما مستقلا، لامتناع وحدة الأثر وتعدد المؤثر التام، ولا إلى أحدهما، للزوم
الترجيح بلا مرجح، والمفروض أن ظاهر أدلة الاخلاص واعتبار القربة ينفي
مدخلية شيء آخر في العمل.
وبالجملة صلاحية كل منهما وحده للبعث والتحريك لو انفرد عن الآخر
لا ينفي استناد حصول الفعل الشخصي اليهما معا، وصدوره عنهما على نحو
التشريك، وقد عرفت ضرره، غاية ما هناك جواز استناده إلى كل منهما مستقلا
عرفا، ومع استناد الفعل إلى الأمر يصدق الامتثال، ولا يضر جواز استناده إلى
داعي المباح، لأن المضر عدم جواز استناده إلى داعي الأمر لا جواز استناده إلى
غيره، كما يصدق امتثال الأب والمولى لو أمرا بفعل واحد وأتى به المأمور بداعي
أمرهما معا على وجه يكون كل منهما كافيا في البعث لو انفرد عن الآخر.
ولكنه ليس بشيء، لمنع صدق امتثالهما معا في المثال، نعم هو كاف، لعدم
التمكن على أزيد منه في المثال، ولكن ما نحن فيه لما يمكن تخليص أحدهما عن
الآخر، فعليه إما التخليص أو تضعيف داعي المباح على وجه يعد تبعا لداعي
الأمر، وإلا فالبطلان لا يخلو عن قوة كما هو ظاهر إطلاق الماتن في كتاب الصلاة
على ما يأتي إن شاء الله مفصلا.
تنبيه: لا يخفى على من له خبرة تامة بالمسائل الاصولية عدم ارتباط مسألة
التداخل بمسألة جواز قصد الضمائم المباحة كما هو المشاهد من بعضهم من
تفريعه عليه، وهو توهم كما نبه عليه الأستاذ - طاب ثراه -، لأن الكلام في
الضمائم في مفهومين متغايرين يتواردان على موضوع خارجي واحد، وكان كل
منهما مستقلا في استحقاق الثواب على موافقة أمره والعقاب على مخالفته على
فرض وجوبهما، وفيما كانت الضميمة من قبيل الأثر للمنوي الأصلي، وقد سمعت
396

تسالمهم على امتثالهما معا عند قصد الفاعل ذلك على إشكال أشرنا اليه في
استقلال أحدهما بالمقصودية وتبعية الآخر فيه من عدم صدق الامتثال في التبعي،
ولذا حكمنا بصحة العبادة في صورة تبعية الضميمة المباحة دون غيرها من الصور.
وأما الكلام في مسألة التداخل التي هي معركة الآراء فيقع تارة في اتحاد
التكليف وتعدده، واخرى أنه على فرض التعدد هل يترتب أثر المتعدد على
الواحد الموجود في الخارج، أو لابد في ترتب أثر المتعدد على صدق تعدد
الوجود فيه حقيقة أو حكما، أو لا يكفي ذلك، بل لابد من تعدد الايجاد أيضا؟
ولا يخفى أن القول بكفاية الواحد في غير المتصادقين أبدا بوجه عن المتعدد
غير معقول، بل لا بد من أن يكون بينهما تباين جزئي حتى يتصادقا، فلو تباينا
كليا بحيث لا يتصادقان أبدا فلا شك في لزوم التعدد حينئذ.
ثم إذا ثبت وحدة التكليف إما لإرجاع الأسباب إلى سبب واحد أو لأجل
التداخل في المسبب فلا إشكال في التداخل القهري، وإذا ثبت التعدد مع التباين
في الجملة والتصادق كذلك صار كمسألة الضميمة الراجحة رجحانا عباديا، ومع
ذلك شتان ما بينهما من الفرق، إذ مسألة الضميمة في بيان منافاة قصد ترتب
الضميمة على العبادة المنوية من حيث الخلوص المعتبر فيها وعدم منافاته له من
غير نظر إلى تحقق الضميمة في الخارج وعدم تحققه فيه، ومسألة التداخل نظرهم
إلى تحقق مطلوبين بايجاد واحد إما قهرا أو بعد نيتهما بحيث يصدق امتثالهما لو
كانا واجبين، ويترتب على هذا الموجود الخارجي أثر موجودين مستقلين
منفردي الوجود في الخارج، وأين إحداهما من الاخرى؟
قوله (قدس سره): (ولا يعتبر في النية غير ذلك) يعني غير الاخلاص (وغير
التعيين إذا احتيج اليه باعتبار فرض تعدد المكلف به ولو بنذر ونحوه) هذا
توطئة لدفع وجوب نية الوجه وغيره من الرفع والاستباحة وغيرهما، وينبغي قبل
الدخول في المسألة التعرض لأمرين مهمين.
الأول: أنه كيف يمكن نية الرفع في الوضوء؟ فإن رافعيته إنما هو من آثار
397

ايجاده بقصد التقرب المتوقف على الأمر، حيث إن تحققه في الخارج عبادة لا
يمكن إلا بإتيانه بداعي موافقة أمر الشارع، والمفروض أنه لا أمر في المقام إلا
الأمر الغيري المتعلق به لأجل الصلاة كسائر المقدمات فإن رفع المانع - وهو
الحدث - أحد المقدمات، وتعلق الأمر الغيري به يتوقف على مقدميته قبل الأمر،
ومقدميته - وهو كونه رافعا - موقوف على إتيانه على وجه العبادة المتوقفة على
الأمر به كما عرفت، فيلزم الدور.
وبعبارة اخرى ايجاب الوضوء لأجل الصلاة يتوقف على كون الوضوء في
نفسه مقدمة لها، وهو مناف لما نحن ملتزمون به من أن رفع الحدث الذي باعتباره
صار الوضوء مقدمة من أحكام إتيان الوضوء امتثالا لأمره، لوضوح عدم ترتب
الرفع على ايجاد غسل تلك الأعضاء بلا نية القربة، أي بلا داعي امتثال الأمر، فلا
بد إما من التزام أمر آخر غير الوجوب الغيري ليكون امتثاله محققا لمقدميته، وإما
من التزام كون الرفع ملحوظا في الوضوء قبل الأمر الغيري بمعنى ترتب الرفع
على نفس الغسلتين والمسحتين كترتب إزالة الخبث على نفس الغسل، والثاني
مخالف للإجماع قطعا، والأول خلاف الفرض، لعدم تحقق أمر في المقام سوى
هذا الأمر الغيري الذي تعلق به لأجل الصلاة.
وقد ذكر الأستاذ - طاب ثراه - لدفع الإشكال وجهين:
الأول: أن يقال: إن للوضوء في نفسه عنوانا واقعيا راجحا في ذاته ورافعيته
للحدث منوط بقصد ذلك العنوان ومتوقف على حصول الفعل في الخارج معنونا
بذلك العنوان، فمقدميته إنما هو بذلك الاعتبار، فأمر به بالأمر الغيري بتلك
الملاحظة، ولكن لما كان ذلك العنوان مجهولا لا يمكن قصده تفصيلا لابد من أن
يقصد إجمالا ويؤتى بالفعل لأجل إرادة الشارع إياه، فإن إرادته إياه وأمره به
إنما هو من حيث ذلك العنوان، فالقصد إلى موافقة أمر الشارع قصد إجمالي إلى
ذلك العنوان، وحصول التقرب للفاعل أيضا إنما هو باعتبار هذا الرجحان الذاتي
الذي لولا الوجوب الغيري لكان الفعل بلحاظه مستحبا نفسيا، بل هو مستحب
398

فعلا عند من يجوز اجتماعه مع الوجوب.
وتوهم أن الوجوب الغيري لا يصير منشأ للتقرب والاستحباب فعلا غير
موجود حتى يتقرب بامتثاله كما هو قضية تضاد الأحكام الخمسة بأسرها، بل مع
فرض تحقق الاستحباب فعلا أيضا لا يجدي، لعدم القصد إلى امتثاله لمفروضية
ايقاع الفعل لوجوبه.
مدفوع بمنع عدم حصول التقرب بالواجب الغيري إذا كان في نفسه عبادة
مطلوبة ندبا كالصوم الذي يجب مقدمة للاعتكاف المنذور، غاية الأمر عدم زيادة
ثوابه لأجل هذا الوجوب، فإنه لا يوجب الثواب لا أنه يزيله فإن الوجوب والندب
مجتمعان بلحاظ جنسهما وهو الرجحان، وتنافيهما إنما هو باعتبار فصليهما.
وهذا العلاج مع أنه منقوض بالتيمم حيث إنه لا رجحان له في نفسه كما أشار
اليه هو - طاب ثراه - فيه أنه مخالف لصريح كثير من نفيهم استحبابه النفسي
وحكمهم بعدم صحة ما أتى به بلا ملاحظة غاية من غاياته أي بعدم رفعه للحدث
وهو ظاهره - طاب ثراه - أيضا في الفروع المتفرعة على الوضوء ومن مطاوي
كلماته فيه.
الوجه الثاني: إن الفعل في نفسه ليست مقدمة فعلية، لما عرفت من أنه إنما
يصير مقدمة إذا اتي به على وجه العبادة، ولكن لما أراد الشارع الصلاة المتوقفة
على تلك المقدمة الموقوفة مقدميتها على الأمر وجب أن يأمر به مع نصب الدلالة
على وجوب الاتيان به على وجه التعبد، بناء على أن التعبدية في المأمور به
لا يستفاد من الأوامر وإنما يفهم من الخارج.
فعلى هذا يجعل ما ورد من الأمر به محققا لمقدميته، ويستغنى به عن ورود
أمر آخر به يفيد وجوبه الغيري لقيام هذا الأمر بتلك الإفادة أيضا بعد صيرورة
الفعل مقدمة فعلا بسببه، وهذا دفع لا أرى عنه محيصا، لأن الحكيم العالم بكوامن
الأشياء إذا رأى أن ايجاد فعل خاص بكيفية خاصة مترتب عليه أثر مخصوص
فأخبر به يجب أن يتبع خبره. وإليه يومئ ما عليه العدلية من تبعية الأوامر
399

والنواهي للمصالح والمفاسد الكامنة.
وبالجملة بعد تحقق الإجماع على لزوم قصد القربة في الوضوء وبعد تحقيق
أن الأمر الغيري لا يجب فيه قصد التقرب كما في غسل الثوب والبدن لأجل
الصلاة لا بد من التزام قيام هذا الأمر الواحد في الوضوء مقام أمرين: أحدهما
مبين لمقدميته، والآخر مظهر لمطلوبيته، بمعنى أن وجود أحد الأمرين مغن عن
الإتيان بصاحبه، لانفهام المطلبين معا منه، وهذا معنى قيام الواحد مقام الاثنين.
الأمر الثاني: في بيان قابلية الوضوء للشركة في وقت واحد وعدمها، وكلام
الشهيد الثاني في الروضة معروف بأن الوضوء في وقت العبادة الواجبة المشروطة
به لا يكون إلا واجبا، وهو المحكي عن غيره أيضا، بل هو المنسوب إلى المشهور
وهو الذي يقتضيه تضاد الأحكام الخمسة بأسرها ويزيد الوضوء منعا عدم قابليته
للتعدد ذاتا إذا كان المطلق به رفع الحدث بسبب تعلق الطلبين الوجوبي
والاستحبابي به، وإن جوزنا اجتماعهما في غيره من الطبائع وقلنا فيه بعدم
التداخل، ويكون المطلوب من الطبيعة حصول فردين في الخارج نظرا إلى وحدة
حقيقة الوضوء الواجب والمستحب، بناء على أن الوضوء المندوب رافع، لأن مهية
رفع الحدث قد اجتمع فيها جهتا الوجوب والندب كاجتماعهما في قتل بكر مثلا،
وغيره من الامور الغير القابلة للتكرار.
ولذا لا يجوز الإتيان بأحد الوضوءين عقيب الآخر بخلاف سائر الطبائع
فإنها قابلة للتكرار، فعليه لا يكون الوضوء مشتركا حتى يحتاج إلى نية التعيين.
وإليه نبه السيد الأستاذ بما علقه هناك بقوله: " في حصول التعدد في زمان
واحد ولو بنذر ونحوه تأمل " وإن لم يحسن له التأمل، بل كان عليه أن يجزم
بالعدم، وحينئذ يبقى الكلام في أن من لا يريد ايقاع الواجب هل يشرع له الوضوء
أو لا؟ وعلى الجواز هل يجب عليه أن ينوي الوجوب أو يجوز له قصد الندب؟
ومع قصده هل الواقع في الخارج واجب أو ندب؟ ومع كونه ندبا هل ارتفع حدثه
وابيح له الدخول في الصلاة أو لا؟
400

الأقوى مشروعية الوضوء له لاحدى الغايات المستحبة في وقت الواجب
المشروط به مع عدم إرادته أداء الواجب بذلك الوضوء كما عليه الأستاذ - طاب
ثراه - لأن القدر اللازم في الامتثال الموجب لاستحقاق الثواب ملاحظة جهة
الطلب الموجودة في الفعل المأتي به وإن كان نفس الطلب بلحاظ فصله وهو جواز
الترك مفقودا، لوجود الجهة المانعة من الترك، إذ الفقد على هذا الوجه لا ينافي
كون ملاحظته منشأ لاستحقاق الثواب، حيث إن الطلبين الفعلي والشأني وهما
الوجوب والندب مشتركان جنسا، فالفعل راجح الاتيان مطلقا، وأن تقوم فعلية
ذلك الرجحان بلحاظ فصله المقوم له بالقيد الذي هو المنع من الترك، فصار واجبا
ولكنه له حكم المندوب، لانطباقه على ما امر به وجوبا، وليس من باب إسقاط
الواجب بالمستحب، بل لاتحاد الواجب والمستحب حقيقة، حيث إن الوضوء
الرافع للحدث لا تعدد فيه كما يشهد له عدم جواز التكرار فيه وعدم جواز الإتيان
بأحد الوضوءين عقيب الآخر فيما إذا كان المندوب مطلوبا لرفع الحدث لا لنفسه
كوضوء الحائض. واليه يشير كلمة القوم: " إن الوضوء في وقت الواجب المشروط
به لا يكون إلا واجبا وفي غيره لا يكون إلا ندبا " حيث إن الوجوب والندب من
جهات الفعل المطلوب لا من مقوماته، كما لا يخفى.
وهذا هو وجه عدم اجتماع الوجوب والندب الفعليين فيه، وإن قيل بجواز
الاجتماع في غيره مما كان متعلق الطلبين طبيعتين أو طبيعة واحدة قابلة للتعدد
فإن وحدانية حقيقة الفعل المطلوب أخرجه عن قابلية اجتماع فردين من الطبيعة
على صفة المطلوبية الآتية من قبل تعلق الطلبين بها في الخارج لكي نحتاج
إلى تمييز أحدهما عن الآخر بالنية، ولا يتوقف منع التعدد هنا على مسألة التداخل
في مسألة الطلبين المتعلقين بطبيعة واحدة، ولا يمنع اجتماع الأمرين، لتضاد
الأحكام بأسرها، لما ذكرناه كما هو واضح بخلاف ما إذا كان متعلق الطلبين
متعددا من حيث المهية والحقيقة فإن اجتماعهما حينئذ معقول وإن لم نقل
بالاجتماع، لقاهرية فصل الوجوب على فصل الاستحباب، هذا.
401

فإذا ثبت لك جواز هذا الوضوء وشرعيته وتبين لك وجه الجواز تنقح أنه
لا يجب عليه أن ينوي الوجوب، بل لا يسعه قصده لو اريد الوجوب الغائي كعدم
جواز قصد الندب به مطلقا، لما عرفته من عدم ندبيته فعلا، لأن المفروض أن داعيه
على الاتيان ليس هو جهة وجوبه، وإنما يوجده لغاية اخرى غير الواجب
المشروط به، نعم نية الوجوب الوصفي لا غرو فيه بعد عدم المنع عن فعله نظير
الفريضة المعادة، كما أنه لو حسب وجوبه لتلك الغاية التي يوجده لها، فقصد
الوجوب لذلك صح لمصادفته لوجوبه الواقعي الذي اشتغلت به ذمته وإن أخطأ
هو محله وأخذ ذاك محله كما يقول به جماعة.
فاتضح أن الموجود الخارجي متصف بالوجوب وله حكم الندب، للاتيان به
للغاية المندوبة، ويرتفع به الحدث ويباح معه جميع الغايات، لأن الوضوء الواقع
بداعي الامتثال مع الرخصة في فعله رافع للحدث في المحل القابل للرفع فيباح به
كل غاية متوقفة على رفع الحدث صحة أو كمالا.
فاتضح مما قدمناه أن وجه قولهم: " إن الوضوء في وقت الواجب المشروط به
لا يكون إلا واجبا " ليس هو التداخل المصطلح ولا قاهرية فصل الوجوب على
الندب بانفرادها، بل إنما هي مع وحدة حقيقة المطلق وبساطتها وعدم قابليتها
للتعدد في الوضوء المطلق به الرفع، نعم التعدد متعقل في المندوب المطلق ذاتا
لا لرفع الحدث كوضوء الجنب والحائض وأمثالهما مع تأمل فيه أيضا.
ومن هنا تبين ما في اعتبار نية الوجوب في هذا الوضوء المأتي به لا للتوصل
به إلى الواجب المشروط به كما استفيد من جملة من كتب العلامة كالمنتهى
والنهاية والقواعد والتذكرة، وعن ولده فخر الاسلام، وعن صريح الذكرى، وعن
ظاهر الشهيدين وجماعة ممن تأخر عنهما، بل نسب إلى المشهور، لما عرفته من
أنه لا معنى لنية الوجوب ممن ليس داعيه على الإتيان هو وجوب الفعل، فإنه
لا يجب عليه الإتيان بالواجب المقدمي عند عدم قصد التوصل به إلى ذي المقدمة
بمعنى أن ما يوجده من أفراد تلك المقدمة مع بنائه على التوصل بها إلى غاية
402

اخرى لا يكون تحصيل هذا الفرد من المقدمة واجبا عليه فعلا، لأنه لا يتوصل به
إلى الواجب، وليس ذلك لحصر الواجب منها بالفرد الموصل كي ينافي قولنا
وجوب الطبيعة، بل إنما هو بلحاظ أن المقدمة لما كان وجوبها للتوصل لا لذاتها
فلا يجب ايجاد فرد منها لا يكون موصلا لا فعلا ولا شأنا وإن كان لو أوجده
يتصف في الخارج بالوجوب، لصدق الطبيعة الواجبة عليه.
وهذا معنى ما قلناه: " إنه واجب له حكم المستحب " لقيام معنى المقدمية به،
وهو توقف الواجب عليه وترتب حكم المستحب عليه، لأنه أتى بداعي التوصل
به إلى غاية مندوبة كما به تبين أيضا ما في المحكي عن جمال المحققين من
وجوب وضوء آخر للصلاة لو لم نجوز التداخل، لما عرفته من أن سقوط الواجب
حينئذ ليس لأجل التداخل ولا لسقوط الواجب بالمستحب، بل لحصول نفس
الواجب في الخارج من جهة أن المطلق بالطلب الوجوبي والندبي حقيقة واحدة
غير قابلة للتعدد، ولعله لذا اتفقوا كما ادعاه الأستاذ - طاب ثراه - على أن من أتى
بوضوئه جامعا لشرائطه ناويا به الرفع أو استباحة الصلاة ارتفع حدثه وإن لم يعقبه
بالصلاة التي نواه لها، بل مطلق الصلاة وله أن يأتي به كل ما يتوقف على الرفع
صحة أو كمالا بمعنى حصوله كاملا.
إذا تبين لك مما قدمناه أن مطلوبية الوضوء إنما هو لرفع الحدث وأن الرفع
مترتب على ايجاده بداعي الأمر لم يبق مجال للقول بوجوب شيء آخر في النية
عدا قصد الفعل متقربا به، هذا. مع ما سيتلى عليك من عدم وفاء ما أقاموه دليلا
لوجوب ما عدا ذلك على وجوبه.
وبهذا البيان اتضح تمامية الحكم السابق وصحة ما ذكره (قدس سره) من التفريع
بقوله (قدس سره): (فلا يجب نية الوجوب والندب وصفا ولا غاية وإن كان
أحوط) وجه الاحتياط الخروج عن خلاف من أوجبه كما نسب الأستاذ - طاب
ثراه - اعتباره إلى المشهور، بل عن ظاهر الفاضلين في المعتبر والتذكرة عدم
الخلاف فيه إلا عن بعض العامة كأبي حنيفة وابن أبي هريرة، ولكن مع ذلك
403

الأقوى عدم الوجوب، لعدم نهوض ما حكي عنهم لاثباته عليه، فافهم.
ذكروا في عداد أدلة الوجوب أنه من أجل تمييز المأتي به عما يشاركه ولو
شأنا باعتبار الوقوع عن غير هذا المكلف أو في غير هذا الوقت كما هو المحكي
عن المعتبر في رد ابن أبي هريرة المكتفي بنية الظهرية عن الفرضية من قوله: " بأن
جنس الفعل لا يستلزم وجوهه إلا بالنية وكل ما أمكن أن يقع على أكثر من وجه
واحد افتقر اختصاصه بأحد الوجوه إلى النية فينوي الظهر ليتميز عن بقية الصلاة،
والفرضية ليتميز عن ايقاعه ندبا كمن صلى منفردا ثم أدرك الجماعة، وكونها أداء
ليتميز عن القضاء "، انتهى.
ومثله حكي عن المبسوط في اعتبار الفرضية في صلاة الظهر ليتميز عن
المعادة ندبا مع الجماعة، وكذا عن تذكرة الفاضل من قوله: " وأما الفرضية والنفلية
فلا بد من التعرض لهما عندنا، لأن الظهر يقع على وجهي الفرض والندب كصلاة
الصبي، ومن أعادها للجماعة فلا يتخصص لأحدهما إلا بالقصد، ثم حكي عن ابن
أبي هريرة وأبي حنيفة الاكتفاء بالظهر عن الفرض، لأن الظهر لا يكون إلا واجبة
- ثم قال -: وقد تقدم بطلانه " انتهى.
وفيه: أنه لا يأتي في جميع الموارد كما لو لم يكن للمأمور به إلا عنوان واحد
من الوجوب والندب كصلاة الجمعة مثلا وصوم يوم الغدير مما الاشتراك فيه في
الخطاب المتوجه اليهما، مضافا إلى أن الواقع أولا يكون هو الواجب عند عدم
قصد أحدهما بالخصوص في صورة فرض اجتماع الطلبين في آن واحد، لانطباقه
عليه، فإن صوم اليوم مثلا إذا فرض كونه مطلوبا على وجه لا يرضى الآمر بتركه
فالمنطبق عليه ليس إلا هذا الفرد الواقع أولا، وأما الواقع ثانيا فهو مرضي الترك
قطعا كما هو قضية الفصلين، وهما المنع من الترك والرضا به، هذا.
مع أن تمييز الأفعال لا ينحصر بقصد الفرض والندب، بل يمكن التمييز بوجه
آخر، نعم لو لم يمكن ذلك وهو ملجأ إلى أن يقصد أحدهما ليحصل التميز عند
الحاجة اليه فنحن لا نتحاشى عن الوجوب حينئذ، إلا أن ظاهر هؤلاء الأساطين
404

اعتبارهم وجوب قصد الوجوب والندب لأنفسهما لا لذلك، كما عن صريح العلامة
في غير واحد من كتبه من أنه: " يجب استحضار وصف الوجوب أو الندب، ولو لم
يحصر إلا بإعمال روية، وأنه يجب استعلامه بالاجتهاد أو التقليد " انتهى.
فإن ظاهر هذا الكلام هو قصد الوصفين بخصوصهما لا لأجل التميز، بل هو
صريح فيه، وحينئذ نقول: إن أرادوا الوجوب والندب الشرعيين فمن الواضح أن
مرجع جعلهما غاية إنما هو إلى لزوم نية القربة، حيث إن أحد مراتبها هو إتيان
المأمور به بداعي أمره، مع أنك تراهم أنهم يعتبرونه مضيفا إياه إليها.
وإن أرادوا منهما العقليين كما يومئ إليه اعتبارهما على وجه الوصفية أيضا
على ما فهمه عنهم الشهيدان على ما حكي عن الذكرى نسبته إلى المتكلمين حيث
قال: " إنهم لما أوجبوا ايقاع الواجب لوجوبه أو وجه وجوبه جمعوا بين الأمرين
يعني الوصف والغاية فينوي الظهر الواجب لكونه واجبا " انتهى.
ففيه: أنه لا دليل على اعتبار هذا المعنى، كيف؟ وأكثر العوام وجمع من
الخواص لا يعتقدون ثبوته، بل اعتقادهم أنه يكفي في التكليف حسنه، ولا يجب
أن يكون المكلف به أيضا ذا حسن كما يعتقده العدلية، هذا مع أنك ترى ما في
تكليف العامة به، وبتعلمه من المشقة البالغة والتكليف بما لا يطاق منفي عقلا
وشرعا.
فتم أن أدلتهم على الوجوب تلك الوجوه الثلاثة واتضح لك عدم تمامية شيء
منها.
قوله (قدس سره): (ولا غيرهما من الصفات والغايات كرفع الحدث والاستباحة)
بأن ينوي الوضوء الرافع أو المبيح أو يكون الداعي لإتيانه رفعه للحدث أو إباحته
للصلاة، لما تقدم في نفي وجوب قصد الوجوب والندب.
والقول بوجوبهما معا هو المحكي عن ظاهر الكافي والغنية والوسيلة
والاصباح، وعن الرازي والمصري والقاضي، وبأحدهما عن المبسوط وموضع
من الوسيلة والسرائر مدعيا عليه إجماعنا، وعن المعتبر وأكثر كتب العلامة
405

والشهيد وفخر الدين في رسالة النية، وغيرهم، وبخصوص الرفع عن بعض كتب
الشيخ، وبخصوص الاستباحة عن ظاهر اللمعة تبعا لمحكي غاية المراد عن السيد
و... (1) فقد استدل على المطلب بما دل على وجوب الوضوء من حيث كونه طهورا
كقوله (عليه السلام): إذا دخل الوقت وجب الصلاة والطهور، بتقريب لزوم قصد عنوان
المأمور به، لعدم تحقق الامتثال بدونه.
ويرده أن الرفع والإباحة من أحكام امتثال الأمر بالوضوء، ومن آثار اتيانه
على الوجه الذي امر به لا من الوجوه التي يقع الوضوء عليها ويتقوم بها حتى
يجب أخذه قيدا للفعل فيوقع الفعل المقيد به قربة إلى الله، فالوضوء المعين المأتي
به قربة إلى الله رافع للحدث ومبيح للصلاة لا أن الوضوء المعين الرافع للحدث
أو المبيح للصلاة مأتي به قربة إلى الله كيف؟ ولو كان الفعل المعين في نفسه رافعا
للحدث أو مبيحا للصلاة لم يكن يشترط في صحة الوضوء قصد التقرب قطعا، لأن
رفع الحدث حينئذ كرفع الخبث توصلي يكفي في سقوط أمره مجرد وجوده في
الخارج بأي نحو كان كما هو شأن الواجب المقدمي الصرف، لوضوح أن الأمر
المتعلق بعنوان التطهير أعني الرفع أو الاستباحة لا يقصد منه إلا حصول متعلقه
وهو التطهير في الخارج وإن لم يقصده المكلف، بل لم يشعر به، إذ بعد حصوله
- على أي وجه حصل - يسقط الأمر جزما فالمأمور به بالأمر التعبدي - المدخل
له في العبادات المعتبر فيها قصد القربة - هي الأفعال التي تصير سببا لحصول
التطهير في الخارج بعد اتيانها في الخارج منويا بها بعد تعينها بجميع مشخصاتها
التقرب بها إلى الله. ونظير الأمر بالتطهر كل أمر يعنون بعنوان مترتب على عبادة
بعنوان كونه عبادة كأوامر الإطاعة وما في معناها كقول الآمر: ابرئ ذمتك مما
عليك، فإن هذه كلها أوامر توصلية لم تصدر لغرض التعبد بمضمونها وإنما اريد بها
مجرد حصول متعلقها في الخارج.

(1) هنا كلمات غير مقروءة.
406

فتحصل أن المأمور به على جهة التعبد لم يؤخد فيه رفع الحدث، والذي اخذ
فيه رفع الحدث لم يؤمر به على جهة العبادة، بل المأمور به على جهة العبادة هو
نفس الفعل وأثره من الرفع أو الإباحة إنما يترتب على وجوده الخارجي المأتي به
بعنوان الامتثال والتقرب لا مطلقا، ولا يسع أخذهما قيدا لمتعلق الطلب،
لحصولهما من الفعل بعد الطلب.
واستدل أيضا على ما حكي عن المعتبر والمنتهى وغيرهما على الاستباحة
التي تتحقق تارة برفع المانع وهو الحدث، واخرى برفع منعه كما في المستحاضة
والمسلوس ونحوهما بقوله تعالى: " إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم " (1)
الآية. بتقريب أن الظاهر منه كون ذلك لأجل الصلاة كما يقال: إذا لقيت الأسد فخذ
سلاحك، وإذا لقيت الأمير فخذ اهبتك، فلا بد من ايقاع تلك الأفعال لأجل الصلاة،
أي إباحتها.
وفيه أنه لا يفهم من هذا التعليل في الآية كما في الأمثلة المذكورة إلا تعليق
وجوب تلك الأفعال على إرادة القيام إلى الصلاة، إذ لا وجه لوجوب فعل عند
إرادة فعل إلا توقف ذلك المراد على ذلك الفعل، لأن إرادة شيء لشيء لا يكون
سببا لمطلوبية فعل قبله إلا لارتباط بينهما، ومن المعلوم أن الذي يتوقف عليه
الصلاة إنما هو ايقاع هذه الأفعال المشخصة بجميع قيودها التي منها ايجادها لغاية
الاخلاص، ليتمكن بعد ذلك من الإتيان بالصلاة، فإباحة الدخول في الصلاة
من غاياتها المترتبة على وجودها على النحو المطلق منها شرعا لا أنها من القيود
المأخوذة في طلبها.
وبعبارة اخرى ظاهر الآية أنه يجب عليكم لأجل الصلاة الوضوء بجميع
شرائطه لا أنه يجب عليكم هذه الأفعال المقيدة بقيد أنها للصلاة على أن يكون
قصد كونه للصلاة من مشخصات الفعل، لأن هذا مما لا يقتضيه سببية الشرط

(1) المائدة: 6.
407

للجزاء ولا مقتض لإرادته من الكلام غير قضية السببية.
واستدل أيضا بقوله (صلى الله عليه وآله): " إنما لكل امرئ ما نوى " (1) فإنه إذا لم ينو رفع
الحدث لم يرتفع، وإلا كان له ما لم ينوه.
وفيه: أن معنى الحديث الشريف أن فائدة المنوي عائدة إلى الفاعل الناوي،
وفائدة هذه الأفعال وهو حصول الطهر أيضا حاصلة للآتي بها عن قصد إليها فإن
غاية الشيء ترتبها عليه قهري، ولا يتوقف على قصد ترتبها عليه ألا ترى أن
الوضوء لأجل الصلاة يصح معه الدخول في كل غاية متوقفة عليه صحة أو كمالا،
مع أنه لم ينوها الفاعل عند وضوئه، بل لم يشعر بها، بل يصح وإن كان بانيا على
عدم ايجادها بهذا الوضوء.
فإذن الأقوى ما قواه الماتن (قدس سره) من عدم وجوب نيتهما في غير مورد جعلهما
من المميزات لو فرض مقام يتوقف التعيين على قصدهما.
قوله (قدس سره): (بل الأقوى الصحة فيما لو نوى الوجوب مثلا في مقام
الندب، وبالعكس إذا لم يكن على وجه ينحل إلى إرادة عدم الامتثال ولو
تشريعا) استشكل الأستاذ - طاب ثراه - في الصحة حيث علق عليه قوله: " فيه
اشكال " يمكن أن يكون استشكاله في أصل الحكم مع تسليم عدم التشريع أيضا،
لما حكاه في طهارته عن التذكرة من أن العلامة صرح فيها بوجوب الإعادة فيمن
نوى الندب للشك في دخول الوقت، أو الوجوب للشك في خروجه للاستصحاب
إذا كان متمكنا من تحصيل الظن، وكذا فيمن نواهما منعكسا عملا بالظن مع ظهور
الخطأ إذا كان متمكنا من تحصيل العلم، واستحسن الأخير، ووجه الأول بأن
الإعادة إنما هو لتقصيره في الفحص كما في الصائم المستصحب الليل، وتنظر فيه،
ثم خص الصحة في الفرعين بصورة الجهل وحكم في صورة التعمد بالبطلان،
للتشريع.

(1) الوسائل 4: 711 ب 1 من أبواب النية، ح 1.
408

ويمكن أن يكون استشكاله هنا لعدم تسليمه خلو التعمد عن التشريع كما هو
ظاهر المتن، فإن ظاهره فرض المسألة في صورة العلم بالوجه، وقد عرفت أن
الأستاذ - طاب ثراه - علل البطلان في صورة العمد بالتشريع، فعلم أنه يرى العمد
ملازما لحصول التشريع.
والأقوى تعقل نفي التشريع في المتخلف العامد كما شاهدناه في العوام حيث
إنهم يتخيلون أن الواجب إذا نوي وجوبه يتنجز التكليف به ويلزق بهم، ولا يرفع
عنهم أبدا ولو بروافع التكليف بخلاف نية الندب فيرون رفع التكليف بروافعه من
قبله أو مطلقا، وإن ظهر فاسدا فلا يوجبون له تداركا، بل ربما يتعدون فيحسبون
جواز رفع اليد عن الواجب بكل عارض في الأثناء، من جهة نية الندب فيه، ومع
تعقله فلا مانع من نية هذا الخلاف بعدما تبين لك من عدم وجوب نية الوجه.
وأما في صورة الظن فلا أرى وجها للصحة، لأن عمله بالظن مع التمكن من
العلم بلا دليل خاص يدل عليه غير مجوز في حقه شرعا، والمفروض أن ظنه دعاه
إلى امتثال ما لم يؤمر به واقعا وترك امتثال ما أمر به، حيث إن ما نواه غير موجود
والموجود غير منوي، سيما لو ظن الوجوب والواقع مندوب، وكان من حالته أنه
لو تفطن عدم كونه ملزما بالإتيان به لم يكن يأت بالفعل، هذا.
ولكن مع ذلك الأقوى الصحة فيما لو كان بانيا على الامتثال كائنا ما كان،
لرجحان الفعل الكافي في الامتثال وعدم مضرة ما قصده من الوجه المخالف ما لم
يكن مشرعا، ولم يحصل منه خلل في المأمور به بعنوانه وجميع مشخصاته،
لما عرفته من عدم وجوب قصد الوجه، فإذا صح هنا ففيما كان المخالفة من أجل
العمل بالأصل مع التمكن من الظن فبطريق أولى، لعدم اشتراط جواز عمله به
بعدم تمكنه من تحصيل الظن، سيما الاشتغال الذي هو الأصل بالنسبة إلى جواز
العمل بالظن.
ولعل نظر الأستاذ - طاب ثراه - في كلامه (قدس سره) حيث وجهه بأن التقصير في
الفحص أوجب بطلان العمل بالأصل ثم قال طاب ثراه: " وفيه ما فيه " يكون
409

إشارة إلى ذلك الذي ذكرناه، أو إلى عدم لزوم الفحص في الموضوعات.
قوله (قدس سره): (وكذا لو نوى التجديد وهو محدث غفلة أو بالعكس، فإن
الجميع يصح معه الوضوء) وجه ما علقه الأستاذ - دام ظله - هنا بقوله: " الصحة
في الأخير لا يخلو عن خفاء " وهو نية رفع الحدث في مقام التجديد كالمتطهر
الغافل عن طهارته الناوي بوضوئه رفع الحدث، لذلك فإن صحة الوضوء لا معنى
لها إلا ترتب آثار الوضوء الصحيح عليه من الرفع أو الاستباحة، والمفروض أن
الرفع هنا متحقق والاستباحة حاصلة له بالوضوء السابق المغفول عنه، فلم يبق
لوضوئه الثاني أثر إلا الثواب المترتب على الوضوء التجديدي، وهو أيضا يمكن
منعه في المقام بدعوى قصر دليله فيمن لم يكن له داع إلى الوضوء إلا امتثال هذا
الأمر الندبي، والمفروض انتفاؤه في المقام حيث لم يقصد امتثاله، مع أنه على
فرض تسليم جواز إطلاق الصحيح عليه من تلك الجهة قد تكلم (قدس سره) على خلاف
الرسم، إذ لا يطلقون الصحيح في مثل المقام على مجرد قابليته لترتب الثواب عليه.
وكيف كان وجه الصحة في الفرع قد علم مما سبق.
قوله (قدس سره): (والأولى بل الأحوط مقارنة النية لأول غسل الوجه وإن كان
الأقوى جواز تقديمها عند المضمضة والاستنشاق دون غسل اليدين، على
الأصح) وجه لزوم مقارنتها لغسل الوجه واضح، لأنه أول أفعال الوضوء
الواجبة، ويجب مقارنة نية كل عمل لأوله، لأن تقدمها يوجب خلو العمل عن النية
وتوسيطها يوجب وقوع بعضها عن غير نية، وقد قال (صلى الله عليه وآله): " لا عمل إلا بنية " (1).
ووجه قوة جواز تقديمها عند المضمضة والاستنشاق استظهار كونهما من
أجزاء الوضوء المستحبة من الروايات، حيث إنها وردت بمضمون أنهما من
الوضوء ونفي كونهما منه في بعضها محمول على عدم كونهما من أجزائه الواجبة
كما يشهد عليه ما عن نهاية الإحكام من دعواه الخلاف في أنهما من سنن

(1) الوسائل 1: 34 ب 5 من أبواب مقدمة العبادات، ح 9.
410

الوضوء، وتعليل الصادقين (عليهما السلام) في نفي كونهما منه بأنهما من الجوف أيضا مما
يشير إلى ذلك بمعونة قولهم (عليهم السلام): " ليس عليك أن تغسل إلا ما ظهر " (1) ومنه يدفع
احتمال كونهما منظفين مستحبين لأجل الصلاة.
وأما وجه تقوية عدم جواز تقديمها عند غسل اليدين فلدعوى استحبابه
النفسي صيانة لماء الوضوء عن النجاسة الوهمية كما يعطيه بعض الروايات مثل
رواية الهاشمي: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يبول ولم يمس يده اليمنى
شيء أيدخلها في وضوئه قبل أن يغسلها؟ قال: لا حتى يغسلها، قلت: فإنه استيقظ
من نومه ولم يبل أيدخل يده في الاناء قبل أن يغسلها؟ قال: لا، لأنه لا يدري
حيث باتت يده فليغسلها " مؤيدا بما في الوضوءات الحاكية: " ثم حسر عن ذراعيه
ثم غمس فيه - أي في الماء - كفه اليمنى، ثم قال: هكذا إذا كانت الكف طاهرة ".
وعدم ايجاده (2) (عليه السلام) الغسل في شيء منها إلا في المحكي عن زرارة وبكير عن
أبي جعفر (عليه السلام): انه (عليه السلام) غسل كفيه المحمول على التعليم لدفع النجاسة الوهمية.
ولذا لم يذكر في الوضوءات المعللة مع ذكر المضمضة والاستنشاق فيها معللا
فعل الأول بأن الله تعالى ينور قلبه ولسانه، والثاني بأنه آمنه من النار ورزقه رائحة
الجنة، ومثلها ما ذكر فيه الأدعية المستحبة عند كل فعل، حيث إنه ذكر بعد الفراغ
عن الاستنجاء ودعائه المضمضة والاستنشاق ودعاءهما، وذكر غسل اليدين
ودعاءه قبل الاستنجاء كما في حكاية الصادق (عليه السلام) وضوء أمير المؤمنين.
وبالجملة فغسل اليد المطلوب قبل الوضوء متصور فيه الامور الأربعة
الاستحباب النفسي نظير السواك، والاستحباب الغيري إما على وجه الجزئية
كتثنية الغسلات، وإما على وجه الشرطية الكمالية في ماء الوضوء وأعضائه ليكون
فيهما على يقين الطهارة، وأما على وجه الشرطية في كمال الوضوء تعبدا، وظاهر

(1) الوسائل 1: 303 ب 29 من أبواب الوضوء، ح 6. مع اختلاف يسير.
(2) كذا، ولعله مصحف: إيجابه.
411

الروايات هو أحد الأخيرين والنافع لصحة النية عنده هو الثاني.
ومنه تعرف ما في المحكي عن بعض كلمات السيد من اكتفائه بالنية عند
غسلهما مع تسليمه الاستحباب على الوجه الثالث، ثم تعديه إلى الاكتفاء بها
عندهما لو غسلهما للنجاسة المتيقنة أيضا من أجل الفحوى.
قوله (قدس سره): (ولا بد من نية الوضوء جملة، فلو نوى كل جزء على انفراده
لم يصح على الأقوى) أما كفاية نية الجملة، لأنه عبادة واحدة والعمل الواحد
نيته واحدة ولو كان مركبا عن أجزاء. وظاهرهم التسالم على هذا المعنى كما يظهر
للمتتبع في كلماتهم هنا وفي الصلاة والصوم والحج، وأما عدم إجزاء تفريق النية
على الأجزاء بأن ينوي الامتثال بكل منها مستقلا فلأنها لم يؤمر بها إلا جملة،
فالمأمور به العبادي هو المركب من مجموع الأجزاء، فقصد الامتثال بالجزء
مستقلا قصد إلى الامتثال بغير المأمور به العبادي، لأن الأمر المقدمي المتعلق
بالجزء تبعا أمر توصلي لا يعتبر في حصوله قصد التقرب، ونية الوضوء معتبر فيها
قصد القربة، فعدم الإجزاء إنما هو لذلك.
مضافا إلى أن قصد أمره المقدمي راجع إلى قصده بعنوان الجزئية والتبعية،
وهو ينافي قصد كل جزء بحياله ومستقلا، وخلوه بهذا النحو عن كل أمر بديهي
فمن أين يأتي له قصد التقرب؟!
وتعليل عدم الكفاية بكون الوضوء عبادة واحدة راجع إلى ذلك، وإلا فنفس
الوحدة غير مناف للتفريق كما عن ظاهر ثاني الشهيدين والمحققين الاقتصار
في المنع عليها.
نعم في جامع المقاصد علل المنع أيضا بأن الحدث متعلق بالجملة
لا بالأعضاء المخصوصة وبأن رفع الحدث لا يتبعض.
وفيهما ما لا يخفى، إذ مع الاغماض عما تقدم من أن قصد رفع الحدث غير
لازم في نية الوضوء أن الحدث قائم بالشخص وغسل تلك الأعضاء بداعي الأمر
رافع له، وعدم تبعض الحدث في الرفع باعتبار المحل لا باعتبار الرافع مع أنه
412

ليس بتلك المثابة من الوضوح، لوجود القول بالتبعض من الفحول، وأنه غير مناف
لتفريق النية على الأعضاء لجواز الاتيان بكل جزء بداعي الرفع وتوقف حصول
الرفع على حصول مجموع العمل غير مناف لذلك.
قوله (قدس سره): (نعم لو لحظ الجزئية التي بها يرجع إلى قصد الكل صح)
لأنه ليس بتفريق حينئذ حقيقة، بل إنما هو قاصد إلى الكل إجمالا، لأنه عين
الأجزاء، وتفارقهما إنما هو بالاعتبار، بل ربما يدعى أن التفريق بهذا المعنى أولى
من نية الجملة، لأن غسل الأعضاء أفعال مستقلة وكل فعل لا بد من مقارنة نيته
لأوله، والاكتفاء في مثل تلك المركبات بنية الفعل اللاحق عند الاتيان بالفعل
السابق إنما هو لأجل الاعتبار الذي من قبله صارت كفعل واحد، ولذا تراهم في
الحج وغسل الميت ونحوهما اعتبروا تفريق النية على أجزائه لغلبة جهة الصورة
من تفرق الأجزاء حسا على اعتبار وحدتها شرعا، واليه يومئ تعليلهم لصحة
تفريق النية فيه دون الوضوء والصلاة بأنها فيه منفصلة حسا دونهما، فإن
أجزاءهما متصلة حسا وشرعا.
والى ما ذكرناه من أولوية التفريق أشار الشيخ كاشف الغطاء حيث قال: " أما
ذو الأجزاء المتفرقة الشبيه بالأعمال المستقلة كأغسال الميت الثلاثة الداخلة
تحت اسم غسل الميت وأجزاء الحج والعمرة ونحوها، فعلى القاعدة لا بد فيها من
تكرير النية وإن كانت صحة بعضها موقوفة على صحة البعض الآخر - إلى أن
قال: - وما كان من الأجزاء الضمنية الصرفة لا حاجة فيه إلى النية " انتهى. وجه
عدم الحاجة اتصال الأجزاء حسا واعتبار وحدتها شرعا.
قوله (قدس سره): (بل الأقوى الصحة فيما لو فرق النية على الأجزاء مع عدم
ملاحظة الاستقلال والجزئية وإن كان الأحوط خلافه) وجه القوة قد علم
مما ذكرناه وجها لأولوية التفريق، لكن فيمن يعتقد الوحدة والتركيب لكي يرجع
إلى نية الجملة بسبب اعتقاده بأن المأتي به جزء، ووجه الاحتياط ما عرفته في
منع التفريق عند ملاحظة الاستقلال حيث إن المركب الاعتباري يلتئم أجزاؤه
413

الخارجية المستقلة في الوجود بملاحظة الفاعل حيث يركب بعضها مع بعض وهو
لا يكون إلا بنية الضم، وإلا فيقع بما كان عليه من الاستقلال ولهذا لا ينبغي ترك
هذا الاحتياط، فافهم واغتنم.
قوله (قدس سره): (ولابد من استدامة حكم النية إلى حين الفراغ، فلو تردد أو
نوى العدم وأتم الوضوء على هذا الحال لم يصح) حكي عن المشهور تفسير
الاستدامة بعدم نية الخلاف، وعن الشهيد (قدس سره) بالبقاء على حكمها والعزم على
مقتضاها، وعن ابن إدريس: " بأن يكون ذاكرا لها غير فاعل لنية تخالفها " انتهى.
وأرجع الأستاذ - طاب ثراه - الجميع إلى واحد مستشهدا بعدم عد أحد قول
ابن إدريس مخالفا لتفسيري المشهور والشهيد (قدس سره) مع كمال ظهور تفسيره في
المخالفة لهما متكلا على هذا الجمع بما حكاه عن المحقق الطوسي (قدس سره) القدوسي
من أنه يحدث آنا فآنا إرادة جزئية بحسب الحركات وإن لم يشعر الفاعل بها،
موضحا ذلك بما حققه من بداهة عدم إمكان صدور الحركة الاختيارية بدون
إرادة، وتلك الإرادة في حال الغفلة مركوزة في الذهن وفي حال الالتفات عزم
على مقتضى ما نواه أولا على التفصيل بنحو الإجمال.
فالنية ابتداء هي إرادة الفعل بجميع مشخصاته وقيوده وغايته، وهي إرادة
تفصيلية بلحاظ التفصيل في متعلقها، وفي الأثناء تنقسم إلى إرادة تفصيلية بلحاظ
نفسها والى إرادة اجمالية باعتبار عدم شعور الفاعل بالفعل أصلا وحصوله من
تلك الإرادة المرتكزة في الذهن، لما عرفته من المحقق المشار اليه من حدوث
الإرادة عند صدور تلك الحركات الجزئية ومن الأستاذ - طاب ثراه - من عدم
إمكان صدور الحركة الاختيارية من غير إرادة.
وحينئذ فمراد المشهور من عدم نية الخلاف هو تجدد العزم على مقتضى النية
الاولى حال الذكر والالتفات، لاستحالة صدور حركة منه حينئذ، وهو متردد كما
حققه الأستاذ، فهو مع اشتغاله بالعمل إما يفعله بمقتضى العزم الأول أو يفعله بعزم
حادث مخالف له، فالأول ما ذكره الشهيد (قدس سره) بقوله العزم على مقتضاها... الخ،
414

الذي لازمه عدم الثاني، والثاني ما نفاه المشهور بقولهم: عدم نية الخلاف
الذي لازمه في الذاكر، بل مطلقا العزم على مقتضى الأولى، وإلا فلا يظن بالمشهور
أن يجعلوا الأمر العدمي متعلقا للتكليف الذي هو وجوب الاستدامة. وظني أن
الذي دعاهم إلى تفسير الاستدامة بالعدم ليعم صورة الغفلة بتخيل خلو الفاعل عن
العزم معها، وقد عرفت وجود العزم على الفعل معها إجمالا وإن لم يشعر به الفاعل
كما لا يظن بالشهيد (قدس سره) ايجاب العزم التفصيلي مطلقا ليلزمه دوام الذكر والالتفات
من باب المقدمة، مع أنه عين ما فروا منه وقالوا بكفاية الاستدامة الحكمية عن
فعلية العزم لأجل استلزامها العسر المنفي.
وبعد هذا البيان تعرف توجيه ما ذكره في السرائر تفسير الاستدامة من قوله:
" ذاكرا لها غير فاعل لنية تخالفها " حيث إن ظاهره من ايجابه الذكر دائما خلاف
الإجماع، فليجعل قوله: " غير فاعل.. الخ " تفسيرا " للذاكر... الخ "، أو يؤخذ قوله:
" ذاكرا " حالا لا خبرا، فيصير معناه أنه في حال الذكر لا يحدث نية الخلاف.
بقي الكلام فيما ذكرناه من أنه مع التردد لا يحصل الفعل لما ذكره الأستاذ
- طاب ثراه - من إحالة صدور الفعل بلا إرادة، والمتردد لا إرادة له، فإذا فرض
اشتغاله بالفعل والحال هذه يكون فعله خارجا عن الاختيار فيكون وضوؤه باطلا
من تلك الجهة، وإلا فمع عدم صدور فعل منه في حال الترديد لا شبهة في عدم
ضرره لو رجع إلى الجزم قبل فوت الموالاة وأتم العمل، لعدم ضرر نية الخلاف
الذي هو أولى منه بالافساد لو رجع عنه واستدرك ما فعله بنية الخلاف مع مراعاة
ما يجب فيه من الترتيب والموالاة وغيرهما.
فتلخص لك وجه ما ذكره (قدس سره) من عدم الصحة مع الترديد أو مع نية الخلاف،
وأنه في الأول لخروج الفعل عن الاختيار، وفي الثاني لكونه فعلا غير وضوئي،
وكلاهما قابل للاستدراك.
وهذا معنى قوله (قدس سره): (نعم لو عاد إلى حكم النية الاولى ولم يكن قد
حصل منه مفسد من فوات موالاة ونحوها أتم وضوءه من حين التردد،
415

وصح) بلا خلاف كما ادعاه الأستاذ - طاب ثراه - في عدم مضرة الترديد أو نية
الخلاف في الأثناء، لعدم مدخلية نفس الانقطاع في صحة الوضوء وفساده كما
اعتبروا عدمه في أكوان الصلاة، وإنما المضر ايقاع أفعال الوضوء مع الترديد
أو بنية غير الوضوء مكتفيا به، والمفروض أنه تداركه بالفعل ثانيا.
قوله (قدس سره): (ويكفي وضوء واحد عن الأسباب المختلفة وإن لم يلحظها
بالنية) إجماعا، بل ضرورة كما ادعاه الأستاذ - طاب ثراه - لأن الحدث المسبب
عن الأسباب المختلفة أمر واحد لا تعدد فيه، فتداخلها قهري لأنه من تداخل
الأسباب في التأثير والتسبيب لا من تداخل المسبب، ولذا لا يجوز تعقيب
الوضوء الرافع بوضوء رافع، إذ لا معنى لتحصيل الحاصل، ومثله القول في الكفاية
بالنسبة إلى الغايات المختلفة، لأنها امور طلب فيها الوضوء من أجل أن توجد في
الخارج عن مرتفع الحدث ولو حكما، فإذا تحقق الوضوء الرافع فقد حصل
المقصود بالنسبة إلى كل غاية.
وبهذا البيان يظهر الوجه فيما ذكره (قدس سره) بعنوان الترقي بقوله: (بل لو قصد
رفع حدث بعينه صح وارتفع الجميع وإن قصد عدم رفع غيره، وإن كان
الأحوط إعادة الوضوء معه، بل الأولى اعادته مع قصد المعين، والفرض
وجود غيره) لما عرفت من أن الحدث أمر بسيط غير قابل للتبعيض وأن
التداخل في أسبابه قهري فلا معنى لرفعه بلحاظ بعض أسبابه وبقائه بلحاظ الآخر،
وإن حكي عن العلامة في النهاية احتمال البطلان كما عن أحد وجهي الشافعية.
نعم في صورة قصد عدم رفع غيره يقوى احتمال البطلان كما حكي عن نهاية
الإحكام والدروس والبيان القطع به لمكان تناقض القصدين، وينبغي القطع به في
حق العالم ببساطة الحدث، لتحقق التناقض في القصدين بالنسبة اليه جزما،
وأما في حق الجاهل المعتقد لإمكان الرفع بالنسبة إلى بعض الأسباب فيقوى فيه
الصحة لإلغاء قصده بالنسبة إلى عدم رفع الغير بعد رفع الطبيعة برفع ما نواها
في ضمنه.
416

ومن هنا يتجه التفصيل في صورة قصده حدثا بعينه وإن لم ينو عدم غيره بين
ما لو كان المنوي أول الأحداث فيصح، لأن الحدث الحاصل مستند اليه وسببية
غيره له شأني وبين ما لو كان المنوي غيره فلا يصح، لعدم استناد الحدث الفعلي
الحاصل اليه، خلافا لما حكي عن أحد وجهي الشافعية من العكس وهو الصحة لو
كان المنوي آخر الأحداث والبطلان لو كان المنوي غيره.
ولكن الأقوى الصحة مطلقا لكفاية توجه قصده إلى المطلق من طرف المعين
والغاء خصوصية ما عينه ومثله يأتي من التفصيل فيما لو كان الواقع غير ما عينه،
والمعين غير واقع أصلا، بل البطلان فيه أظهر، لأن ما نواه لم يقع وما وقع لم ينوه،
ولكن الصحة قوية، لأن بالقصد تعيينه من أجل كونه قنطرة، لتوجه القصد إلى
الطبيعة لا لخصوصية فيه، فلذا يلغى قصده إلى الخصوص ويبقى بالنسبة إلى
الطبيعة، وهذا معنى ما ذكره في الجواهر من أن الإضافة وجودها كعدمها.
وبهذا البيان الذي ذكرناه تبين وجه الاحتياط والأولوية اللذين ذكرهما
هو (قدس سره).
وما علقه هنا السيد الأستاذ بقوله: " هذا الاحتياط لا يترك إذا قصد غير
الحدث الواقع أولا، وكذلك في صورة قصد المعين والواقع غيره إذا لم يكن عن
اشتباه في المصداق ". وجه التقييد أنه في صورة الشبهة المصداقية قد قصد رفع
طبيعة الحدث الموجودة بوجود هذا السبب المشخص المعين الواقع منه، ولكنه
أخطأ في تشخيصه حيث حسبه النوم وكان الواقع إغماء، أو تخيل المذي الحاصل
بعد البول بلا استبراء سببا في صورة الاشتباه، وظن عدم سببية البلل المشتبه فإن
في أمثال تلك الصور يضعف الاحتياط، لأنه قصد رفع الحدث الحاصل ولكنه
أخطأ في المصداق اجتهادا أو غفلة عن الواقع.
قوله (قدس سره): (ولو اجتمعت أسباب للحدث الأكبر ونوى رفعها بغسل
واحد صح، ولا يحتاج إلى وضوء إذا كان فيها جنابة، وكذا لو نوى رفع
طبيعة الحدث المنحل إلى نية رفعها جميعا) قد استطرد (قدس سره) ذكر تداخل
417

الأغسال هنا لمناسبة ما ذكره من تداخل أسباب الوضوء وأنهما من روافع الحدث.
وقبل الخوض في تحقيق المطلب لا بد من بيان ما به يكشف عن وجه المرام
غواشي الظلام ليرتفع ما لبس الأمر على بعضهم أو يتوقع تلبيسه عليه في المقام
فنقول: يجب أولا تحقيق المراد من الغسل المأمور به، وتنقيح ما هو المطلوب من
ذلك الغسل المسمى بالغسل.
فليعلم أولا أنه لا ريب في كون المأمور به الذي هو فعل المكلف مباشرة
هو الغسل المحيط لتمام ظاهر البشرة من الجسد على وجه الانغماس في الماء
أو بتوزيع الغسل على الأعضاء الثلاثة، وهو أمر واحد لا يتفاوت في جميع الأغسال
واجبها ومستحبها كغسلتي ومسحتي الوضوء، فمن جعل المأمور به الحقيقي نفس
تلك الأفعال إلى طبيعتها لا بد له أن يقول بالتداخل القهري، لحصول الطبيعة بالمرة
الواحدة ولا امتثال عقيب الامتثال، ومن جعله أمرا وراء ذلك حاصلا من الأفعال،
فإن قال باتحاد الحقيقة في جميع الأغسال كالوضوء بأن جعله طبيعة رفع الحدث
وجعل الغسل محصلا له فهو ايضا لابد أن يجعل التداخل قهريا، لرجوعهما إلى
تداخل الأسباب، إذ المسبب غير قابل للتعدد وتوارد الأسباب العديدة مع كونها
حقيقية على مسبب واحد غير معقول، فلابد من جعلها معرفات.
وهذا معنى قهرية التداخل، وهو ظاهر الأكثر كما نسبه إليهم الأستاذ - طاب
ثراه - في طهارته ومن يقول باختلاف حقائقها كما هو الأقوى تبعا للاستاذ - طاب
ثراه - ويكشف عنه اختلاف آثارها كحرمة الوطي مثلا قبل غسل الحيض أو كراهته
دون الجنابة ممن تمضمض واستنشق فربما يقول بالتداخل، لأن الأصل عنده في
المسببات التداخل، والأقوى عدمه لاقتضاء كل سبب ايجاد مسببه بخصوصه.
بل ربما يقال بعدم إمكان التداخل، لعدم فهم التصادق في المفاهيم المختلفة
المتعلقة بها أوامر الأغسال.
وملخص الكلام أنه إما أن يجعل المقام من تداخل الأسباب كما في أسباب
الوضوء، فالتداخل فيه قهري، بل قد عرفت أن التعدد فيه غير معقول، وانتفاء
418

هذا المعنى في المقام غير محتاج إلى البيان، لظهور الإجماع على تعدد تلك
الأسباب وظهور أدلتها فيه، وظهوره من الأمارات أيضا كاختلاف الأغسال
في الآثار المترتبة عليها، وظهور الأخبار الدالة على التداخل في المقام في التعدد
من لفظة حقوق، وأغسال، وأجزأك، وأمثالها. وإما أن يجعل من تداخل المسببات
بدعوى صدق الامتثال عليه وضعفه غني عن البيان، وقد ظهر لك إجمالا ولعلنا
نبينه تفصيلا.
فإذا عرفت أن الأصل في المقام عدم التداخل لاختلاف حقيقة الأحداث
فلابد لإثباته من إقامة الدليل عليه ولاقتضاء كل سبب ايجاد مسببه مستقلا، وعدم
الاكتفاء بواحد عن متعدد في غير ما دل دليل معتبر على الكفاية مسلم.
ولابد قبل الخوض في المسألة من الإشارة إلى مطلب مهم به يتشخص محل
النزاع، وهو أنه ليس من المسألة ما لو تعلق أوامر متعددة بالطبيعة عند من يرجعها
إلى أمر واحد، لرجوع التداخل فيه حينئذ إلى التداخل في الأسباب، والمفروض
خلافه، وكذا ليس منه ما لو تعلق الأوامر بحقائق مختلفة مع تباينها كليا فلا
يتصادقان، فانحصر التداخل بفرض الأغسال مختلفة الحقيقة متحدة المصاديق
أعني كونها مفاهيم مختلفة متصادقة على فرد واحد، وما لم يحرز هذا المعنى
فلا ريب في أن الأصل عدم التداخل، بمعنى أنه لا يمكن أن يقال به، إذ لعل
المفهومين متباينان كليا فلا يمكن تصادقهما على فرد واحد، هذا.
ولكن لما ورد في المقام أخبار معتبرة دالة على التداخل، بل بعض صوره
اجماعي لا بد إما من التصرف في أدلة الأغسال وجعل أسبابها كأسباب الوضوء
ويلتزم فيها بالتداخل القهري أو يستكشف من تلك الأخبار كون مفاهيمها
متصادقة، والثاني هو الظاهر، لما عرفت من دلالة الأمارات على التعدد وظهوره
من أخبار التداخل أيضا.
وحينئذ فنقول: لا ريب في ثبوت التداخل في الموضوع الذي ذكره الماتن
وهو صورة نية الجميع تفصيلا أو اجمالا بقصد رفع طبيعة الحدث، والتداخل فيها
419

محل وفاق كما ادعاه الأستاذ - طاب ثراه - وأول ما حكي عن ابن إدريس من
ايجابه نية الجنابة إذا كان فيها جنابة ولم يجوز نية المجموع بأن مراده ليس منع نية
المجموع وإنما منع عند الاقتصار على نية البعض من نية غير الجنابة، وأوجب معه
لزوم نية الجنابة.
وكيف كان المتيقن من مورد الأخبار هو هذه الصورة، فالإجزاء فيها
لا إشكال فيه، كما أن عدم الاحتياج إلى الوضوء حينئذ مما لا ينبغي التأمل فيه،
لقوله تعالى: " وإن كنتم جنبا فاطهروا " (1) المفصل بين الحدث الأصغر والجنابة
فأوجب فيه الوضوء وفيها الغسل، والتفصيل قاطع للشركة، فيعلم منه أن الجنب
ليس عليه وضوء.
ويؤكد دلالة الآية على المدعى ما رواه محمد بن مسلم قال: " قلت لأبي
جعفر (عليه السلام): إن أهل الكوفة يروون أن عليا (عليه السلام) كان يأمر بالوضوء قبل غسل
الجنابة قال (عليه السلام): كذبوا ما وجدوا ذلك في كتاب علي (عليه السلام) إن الله عزوجل يقول:
(وإن كنتم جنبا فاطهروا) (2) فإن استشهاده (عليه السلام) بها دليل على دلالتها على المدعى.
ويمكن الاستدلال أيضا بما ورد من أن غسل الجنابة " ليس قبله ولا بعده
وضوء " (3) بناء على أن المنفي هو مطلق الوضوء من أي سبب كان لا نفي مدخليته
في رافعيته غسل الجنابة، كما لا يبعد ظهوره فيه حتى لا ينافي ثبوته بأسبابه الاخر.
قوله (قدس سره): (أما لو نوى واحدا معينا اختص الرفع به إلا أن يكون جنابة
فإنه يجزي حينئذ عن الجميع ولا حاجة إلى الوضوء، لكن الأحوط
التعدد) اختلفوا في الأجزاء مع تخصيص البعض بالرفع بالنية.
ولنقدم الكلام أولا في المستثنى فنقول: أما الإجزاء فيه فهو المشهور شهرة

(1) المائدة: 6.
(2) الوسائل 1: 516 ب 34 من أبواب الجنابة، ح 5.
(3) الوسائل 1: 515 ب 34 من أبواب الجنابة، ح 2.
420

محققة وحكي عليه الإجماع صريحا عن السرائر وجامع المقاصد، وعن شرح
الجعفرية وشرح الموجز عدم الخلاف فيه رادا على من حكى قولا بعدم الاجتزاء
به عن غسل الاستحاضة، وظاهر الأستاذ - طاب ثراه - اتكاله على تلك
الإجماعات المحكية، وهو بضميمة عدم قوله بحجية الإجماع المنقول يوجب
الاطمئنان بصدق المدعين للإجماع في المسألة.
والأحسن أن نذكر أخبار الباب فلعلنا بنورها نهتدي إلى المطلوب، ففي صحيح
زرارة المروية عن مستطرفات السرائر عن كتاب محمد بن علي بن محبوب،
وعن كتاب حريز، عن أبي جعفر (عليه السلام): " إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر أجزأك غسلك
ذلك للجنابة والجمعة وعرفة والنحر والحلق والذبح والزيارة، فإذا اجتمعت لله
عليك حقوق أجزأك فيها غسل واحد - قال: ثم قال (عليه السلام): - وكذلك المرأة يجزيها
غسل واحد لجنابتها وجمعتها وإحرامها وغسلها من حيضها وعيدها " (1).
وفي رواية ابن عيسى عن علي بن حديد عن جميل بن دراج عن بعض
أصحابنا عن أحدهما (عليهما السلام): " إذا اغتسل الجنب بعد طلوع الفجر أجزأ عنه ذلك
الغسل من كل غسل يلزمه في ذلك اليوم " (2).
وفي رواية شهاب بن عبد ربه عن أبي عبد الله (عليه السلام): " وإن غسل ميتا ثم توضأ
ثم أتى أهله يجزيه غسل واحد لهما " (3). وفي موثق زرارة عن الصادق (عليه السلام) أنه
قال: " إذا حاضت المرأة وهي جنب أجزأها غسل واحد " (4). ونحوها رواية
عبد الله بن سنان (5) عنه (عليه السلام)، وعن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " سئل عن

(1) مستطرفات السرائر: ج 3 ص 588.
(2) الوسائل 1: 526 ب 43 من أبواب الجنابة، ح 2.
(3) الوسائل 1: 526 ب 43 من أبواب الجنابة، ح 3.
(4) الوسائل 1: 526 ب 43 من أبواب الجنابة، ح 4.
(5) الوسائل 1: 527 ب 43 من أبواب الجنابة، ح 9.
421

رجل أصاب من امرأة ثم حاضت قبل أن تغتسل، قال: تجعله غسلا واحدا " (1)،
ومثله عن العباس بن عامر عن حجاج الخشاب (2) عنه (عليه السلام).
وفي رواية عمار الساباطي، عنه (عليه السلام): " عن المرأة التي واقعها زوجها، ثم
تحيض قبل أن تغتسل، قال: إن شاءت أن تغتسل فعلت، وإن لم تفعل فليس عليها
شيء، فإذا طهرت اغتسلت غسلا واحدا للحيض والجنابة " (3) ومخالفة ترخيصه
لها غسل الجنابة في زمان حيضها مع تحقق الإجماع على تحقق عدم الصحة، ومع
ما دل على نهيها عن الغسل وقت الحيض، لأنه قد جاءها ما هو أعظم منها، أو ما
يفسد الصلاة غير ضائر في العمل بالتتمة.
وفي رواية عبد الله بن سنان عنه (عليه السلام) قال: " سألته عن المرأة تحيض وهي
جنب هل عليها غسل الجنابة؟ قال: غسل الجنابة والحيض واحد " (4). وفي
صحيحة زرارة قال: " قلت لأبي جعفر: ميت مات وهو جنب كيف يغسل؟ وما
يجزيه من الماء؟ قال: يغسل غسلا واحدا يجزي ذلك للجنابة ولغسل الميت،
لأنهما حرمتان اجتمعتا في حرمة " (5).
أقول: ويكفي الفقيه ظاهر تلك الروايات غير الصحيحة الاولى المستظهر منها
جمع الأغسال في النية المعتضدة بالشهرة المحققة والإجماعات المحكية لو كان
في سندها نقص، وظاهرها وإن كان يفيد كفاية غسل الجنابة عن غيره ولو مع عدم
الالتفات كما عليه المشهور، ولكن نقيده بما دل على أنه لا عمل إلا بنية، وأن
لكل امرئ ما نوى بما إذا كان ملتفتا إلى أن مقتضاه ذلك شرعا تبعا للسيد الأستاذ
دام علاه.

(1) الوسائل 1: 527 ب 43 من أبواب الجنابة، ح 5.
(2) الوسائل 1: 527 ب 43 من أبواب الجنابة، ح 6.
(3) الوسائل 1: 527 ب 43 من أبواب الجنابة، ح 7.
(4) الوسائل 1: 527 ب 43 من أبواب الجنابة، ح 9.
(5) الوسائل 1: 721 ب 31 من أبواب غسل الميت، ح 1.
422

نعم يبقى أن ظاهر جملة منها تعين غسل الجنابة عند اجتماعه مع غيره،
وظواهر الاخر أيضا لا تنافيها، وإن كان يظهر من الأستاذ - طاب ثراه - التنافي
نظر إلى كلمتي " الاجزاء وتجعله ". وجه عدم التنافي عدم ظهور الكلمتين في
ثبوت المتعدد فعلا كما يشهد له ما ورد في غسل الميت فإنه استعمل لفظ
" الإجزاء " فيه، مع أنه ليس على الميت غسل جنابة، بل في بعض الأخبار أن
غسله هذا لأجل الجنابة الحاصلة له من شدة النزع، فاستعمال لفظة " الإجزاء " في
أمثاله باعتبار شأنية الثبوت لا باعتبار الفعلية.
فإذا سلم هذا الظهور لا بد أن يلتزم الفقيه بما اختاره ابن إدريس من عدم
تجويز نية الجميع، بل عدم جواز انفراد كل سبب بغسل، وهذا ايضا أحد أسباب ما
يوجب أن ينسب إلى القوم كون التداخل في المقام عزيمة، كما نسبها إليهم الأستاذ
- طاب ثراه - خلافا للمحقق القمي حيث نسب إليهم كونه رخصة، وإن استنده
- طاب ثراه - إلى كونه من تداخل الأسباب فيأتي في اجتماع ما عدا الجنابة،
ولا أراهم يلتزمون به، لما هو مشاهد من تجويزهم بغير ترديد نية الجميع، فلابد
من رفع اليد عن هذا الظهور لمن يسلمه، وحملها على ما لا ينافي... (1) عليه، وبعد
ذا لابد من العمل بمقتضى القاعدة مع تعدد الأسباب والمسببات القابلة للتداخل،
ولما بينا في محله بكون التداخل على خلاف الأصل، فلابد أن نقول بأنه من باب
الرخصة وأن نحكم بإجزاء غسل الجنابة عن الأغسال المجتمعة مع القصد إلى
مقتضاه لمكان الأخبار والإجماعات المحكية المعتضدة بالشهرة المحققة، وحينئذ
فيكون إجزاء غسل الجنابة عن غيره من المجتمع معه لسقوط أمره بهذا الفعل نظير
سقوط أمر الوضوء به.
ومن هذا البيان تبين لك وجه الحكم في المستثنى منه، ووجه الاحتياط الذي
ذكره الماتن بتعدد الغسل، فإن التداخل القهري لو قيل به مخصوص بغسل الجنابة،

(1) كلمة غير مقروءة في الأصل.
423

لما عرفت في غيره قد بينا أنه خلاف الأصل فلا يكفي الواحد عن الجميع في غير
الجنابة جزما وفيها على الأحوط، لما عرفت.
ومنه يعلم أيضا وجه عدم الحاجة إلى الوضوء بعد ما وضح أنه اغتسل غسل
الجنابة غسلا صحيحا.
وأما وجه ما ذهب اليه كثير منهم من كفاية أيها وقع منفردا بالنية عن الباقيات
فهو فهمهم العموم من جهة إطلاق لفظة " غسل واحد " وعدم تخصيص إجزائه
بصورة نية الجميع ولا بصورة قصد خصوص غسل الجنابة، فلابد من حمل لفظة
" غسل واحد " على واحد لا بعينه، للإطلاق.
وفيه أنك قد عرفت أن ظاهر الرواية الثانية خصوص الجنابة بانتساب الفعل،
وهو قوله: " اغتسل " إلى الجنب الظاهر في مدخلية وصف الجنابة في فعله، وهو
لا يكون إلا بإتيانه الفعل وهو الغسل بنية الجنابة، فتقيد بها المطلقات. اللهم إلا أن
يمنع دلالة ذكر الجنابة على الخصوصية كما هو الحق، إذ لا سبيل إلى فهمها منها
إلا مفهوم اللقب، فإذن يبقى الإطلاق بحاله سليما عن المعارض لو اغضي عن
القرينة المذكورة.
فالأحسن في رد استدلالهم هذا هو منع الإطلاق، لأن لفظة " غسل واحد " من
تلك الجهة مهملة، لورودها مورد حكم آخر وهو بيان كفاية الوحدة وعدم الحاجة
إلى التعدد لو لم يتجشموا بذيل الروايات، بدعوى كون المقام مقام البيان، فلا
يحسن فيه الإجمال والحكم بالإجزاء بنحو الإطلاق إذا كان خصوصية قصد
الجميع أو قصد خصوص الجنابة فيه معتبرا أو ملحوظا، ويمكن التفصي بأن ظاهر
الصحيحة هو صورة جمع الجميع في النية بجعل المجرور في قوله: " للجنابة " وما
عطف عليها متعلقا بكلمة تفعل المقدرة، وجعل المجرور مع متعلقه حالا عن قوله
ذلك، ولا يعلق المجرور بكلمة " أجزأك "، لأنه لو علق بها لناسب أن يوصلها من
حروف الجار بمن أو عن، فدخول اللام شاهد على عدم تعلقه بها، وإن أبيت
إلا عن ظهوره في تعلقه بكلمة " أجزأك " المفيدة لكفاية الواحدة عن الجميع آية
424

واحدة كانت فنقول: لنا أن نأخذ بظاهر قوله (عليه السلام): " اغتسلت بعد الفجر " (1) الصريح
في كون المأتي به خصوص الجنابة، لأنه الذي يعتبر في وقوعه صحيحا عند
ايقاعه بنية الوجوب وقوعه بعد الفجر كما هو حال عامة الناس، حيث إنهم يأتون
به بقصد الوجوب بعد دخول الفجر كما ينادي بصحة تلك الدعوى قوله (عليه السلام) في
رواية ابن عيسى: " إذا اغتسل الجنب بعد طلوع الفجر " (2) الصريح في أن غسله
غسل الجنابة.
فإذن يكون ذلك مصب ذيل الصحيحة وباقي الروايات فلم يبق لهم إطلاق
يتمسك به في المقام، هذا مضافا إلى ضعف الباقي سندا ولا جابر لها ينهضها للحجية،
لعدم ثبوت الشهرة التي ادعاها شارح الجعفرية على ما حكي عنه كما أنكرها
الأستاذ - طاب ثراه - فلم يبق لهم بعدما يقوم بإثبات هذا الحكم المخالف للقاعدة.
ومنه تعرف أنه لا ينفعهم إنكار الظهور الذي استفدناه من الصحيحة والرواية،
إذ لا ريب في كونه محتملا منهما احتمالا واضحا فيسقطان به عن الاستدلال
وبهما لهم الدليل الاعتباري الذي حكاه الأستاذ - طاب ثراه - عن المحقق (رحمه الله)
واستوضحه كاشف اللثام بأن أبرزه بصورة البرهان وهو صدق الامتثال مخدوش،
بأنا لا نفهم ما معنى صدق الامتثال، إذ الامتثال ليس إلا موافقة المأتي به للمأمور
به مع الإتيان به بداعي الأمر، وهو هنا مسلم لا كلام فيه كإجزائه عن نفسه، وكلامنا
هنا في كفاية هذا المأتي به عن غيره الغير المنوي ولا ربط له بمسألة الامتثال أبدا.
وظاهر الروايات كفايته عن الغير في الفرض أيضا، ومعناه كون التداخل قهريا،
ولا أراهم يلتزمون به في غير الجنابة وإن كان ظاهر هؤلاء ذلك، فليتأمل.
قوله (قدس سره): (ولو نوى القربة من غير تعرض للجميع والبعض فالأقوى
بطلان الغسل) أما على القول بلزومية الرفع أو الاستباحة فواضح، لأنه أخل
بالنية، وأما على القول بعدمه كما هو الأقوى فلما عرفته من تخالف حقيقة

(1) الوسائل 1: 525 ب 43 من أبواب الجنابة، ح 1.
(2) الوسائل 1: 526 ب 43 من أبواب الجنابة، ح 2. وفيه عن جميل بن دراج.
425

الأغسال وتعدد أوامرها فليس هناك حدث واحد متعلق به أمر واحد يرتفع بهذا
الغسل، والأخبار الدالة على التداخل قد عرفت أن لا إطلاق لها يشمل الغسل
الواحد مطلقا، بل عرفت ظهورها في نية الجميع عدا ما دل منها على كفاية
خصوص غسل الجنابة عن غيرها على ما فصل، فليس مثل هذا الغسل من مورد
شيء منها، نعم تأتي الصحة على مذهب القائلين بوحدة الحدث من اجتماع
الأسباب أو على مذهب من يأخذ بالإطلاق في أخبار الباب ولو ممن يرى التعدد.
قوله (قدس سره): (وكذا يجزي الغسل الواحد عن الأغسال المتعددة مع نيتها
في المندوبات أيضا) لقول أبي جعفر (عليه السلام) في صحيحة زرارة: " إذا اجتمعت لله
عليك حقوق أجزأك فيها غسل واحد " (1)، هذا مع إمكان التمسك بصدرها أيضا،
لظهور أن ذكر الجنابة إنما هو لمحض الفرض لا لمدخلية لها بالخصوص بحيث لو
لم تكن موجودة بشخصها، بل كان الموجود غيرها من الفروض لم يصح التداخل،
وحينئذ فلو جعلت قوله: " لذا اجتمعت.. الخ " تفسيرا للفقرة الاولى أيضا لم يضر،
لما عرفته من عدم مدخلية لوجود خصوص الواجب في المجتمعة، وعليه فيمكن
التمسك بباقي الروايات ما عدا رواية ابن سنان، إلا أن يجعل موردها من ذكر
اجتماع الواجب ايضا من باب المثال، وإطلاقها محكم في خصوص المسألة
لجبران ضعفها سندا لو كان في المقام بالشهرة المحققة على ما يظهر تحققها من
الأستاذ - طاب ثراه - من قوله: " فالمشهور ظاهرا على كفايته ".
وكيف كان فالسند للاكتفاء بغسل واحد عما يلزمه في ذلك اليوم أي عما اجتمع
عليه ونوى حصولها بما يأتي به ظواهر تلك الأخبار المنجبرة بالشهرة المدعاة.
ولا يصغى إلى قول من اعتبر في الإجزاء وجود واجب فيها بدعوى أنه مورد
الأخبار، لما اشير اليه أنه من باب المثال، ولقوله (عليه السلام): " يلزمه في ذلك اليوم " (2)،
لأنه إشارة إلى تحقق سببه وإرادة الفاعل لايجاده.

(1) الوسائل 1: 525 ب 43 من أبواب الجنابة، ح 1.
(2) الوسائل 1: 526 ب 43 من أبواب الجنابة، ح 2.
426

ومنه يعلم أنه لا بد من الالتفات اليه، فلا تكفي نيته جميع ما هو مطلوب في
هذا اليوم مع عدم علمه بالطلب كما توهم، كما لا يصغى إلى قول من لم يعتن
بظواهر تلك الأخبار وأخلد إلى الأصل وحكم بعدم الإجزاء مطلقا، نعم من قال
بالإجزاء مطلقا لظواهر الأخبار له وجه لولا ظهور جملة منها في صورة جمع ما
اجتمع بالنية وعدم جابر للدال منها على كفاية الواحد مطلقا، هذا.
وأما ما ركن اليه الماتن في جواهره من رواية عثمان بن يزيد عن
الصادق (عليه السلام) من قوله (عليه السلام): " إن اغتسل بعد الفجر كفاه غسله إلى الليل، ومن
اغتسل ليلا كفاه غسله إلى طلوع الفجر " مع تصديع تصحيح سندها بأن عثمان
مصحف عمر، ففيه عدم دلالة الرواية على المدعى بوجه، لأنها في مقام بيان أن
الأغسال التي للفعل كغسل الزيارة والإحرام والطواف ونحوها لا يشترط فيها
اتصالها بما أتى بها لأجله، وأن فصل الزمان بينهما بهذا المقدار غير مضر، كما ورد
عدم كفاية غسل الليل للنهار وبالعكس، كما حققناه في الحج، فهي عرية عن
مسألة تداخل الأغسال وهي عنها بجانب، والشاهد على ما ادعيناه تقييد الكفاية
فيها بتلك الغاية، إذ لولا إرادة ما ذكرناه، بل كان المراد ما ذكره الأستاذ للزم لغوية
الغاية، لعدم مدخليتها في كفاية الواحد عن المتعدد، كما لا يخفى.
قوله (قدس سره): (بل الأقوى ذلك أيضا في المختلفة) وفاقا للمعتبر وجملة من
المتأخرين على ما حكي لقوله (عليه السلام) في صحيح زرارة: " أجزأك غسلك ذلك
للجنابة والجمعة... الخ ". وقوله (عليه السلام): " فإذا اجتمعت لله عليك حقوق... الخ ".
وقوله (عليه السلام): " وكذلك المرأة... الخ " (1)، ولقول أحدهما (عليهما السلام) في رواية جميل:
" أجزأ عنه ذلك الغسل عن كل غسل يلزمه في ذلك اليوم " على ما فصلناه.
ولروايات الحائض على ما بيناه من إلغاء خصوصية الواجب، ولعموم التعليل في
صحيحة زرارة الاخرى بعد قوله (عليه السلام): " يجزي ذلك للجنابة ولغسل الميت، لأنهما
حرمتان اجتمعتا في حرمة واحدة " فالقول باجتزاء غسل واحد للمجتمعة

(1) الوسائل 1: 525 ب 43 من أبواب الجنابة، ح 1.
427

المختلفة الحقائق هو الأقوى، لمكان تلك الأخبار المفصحة عن تصادق تلك
الحقائق المختلفة في مصداق واحد كإفصاحها عن التصادق في الجملة في غير
تلك الصورة مع ما بيناها من اختلاف الحقيقة فيها أيضا.
وهذا مما لا إشكال فيه عندنا بعد ورود ما ذكر من الأخبار، ولا يزلزلنا
مخالفة جماعة من الفحول من علمائنا الأخيار كظاهر القواعد والارشاد، وصريح
جامع المقاصد والتذكرة على ما حكي بعدما ساعدنا الدليل، وإنما الإشكال في
تصحيح اجتماع الواجب والمندوب في محل واحد مع ما هو محقق من تضاد
جميع الأحكام الخمسة.
وهذا الاشكال من جهتين: إحداهما بملاحظة النية حين الاتيان بالفعل،
والاخرى باعتبار اجتماع صفتي الوجوب والندب في فعل واحد شخصي خارجي.
وربما يستشكل باعتبار امتناع الطلبين أيضا، فإن الأقوى امتناع تحقق
الفعلية للوجوب والندب عند اجتماعهما في وقت واحد في محل واحد، وهذا
الإشكال مرتفع هنا، لأن فعليتهما ليس في آن واحد وإنما المجتمع فيه جهة
الاستحباب مع فعلية الوجوب عند إرادة ايجادهما بفعل واحد، وإلا فهما فعليان
مطلقا لاختلاف متعلقهما، وتوسعة وقتهما، ولا ربط لأحدهما بالآخر.
أما الاشكال من جهة النية فهو أيضا عندنا ليس بشيء، لعدم وجوب نية
الوجه، مع أنه لو صححنا اجتماع الطلبين فالواجب أن ينوي الوجوب لقاهريته
على الندب إذا اجتمعا، مضافا إلى أنه لا تنافي بينهما، لأن مصلحة الندب
ورجحانه مؤكدة للوجوب. وتنافي فصله له إنما هو فيما إذا اتحد متعلقهما، وهنا
متعددان. فجواز الترك إنما هو بلحاظ فصله في متعلقه لا في المصداق الجامع لهما
هذا مع أن كلامنا في صورة نيتهما معا فيرجع الإشكال من جهته إلى الإشكال من
الجهة الثانية.
وأما الإشكال في اتصاف الموجود الخارجي بهما أي بالوجوب
والاستحباب فغير ضائر بعد توجه الوصفين إلى محلهما، وهو الفعل الشخصي
428

بلحاظ المفهومين المتغايرين، وكون المتصف بهما هما أصالة لاستقلالهما، وكون
اتصاف ذا بهما ثانيا وبالعرض كما في كل مصداق صار مجمعا لمفهومين متغايرين
بينهما عموم من وجه كما في ضرب اليتيم ظلما أي من غير رخصة شرعية بقصد
التأديب مع ترتبه عليه، ولذا كان أقوى وجوه عدم جواز اجتماع الأمر والنهي
عندنا عدم تحقق الإطاعة في ضمن المعصية لا تنافي نفس الحكمين، فإنه
يصححه كونهما من جهتين.
ومن هذا البيان ظهر لك أن التداخل هنا رخصة وأن جهة الندب مؤكدة، وأن
الأمر الممتثل في المقام تخييري ثبت بتلك الأخبار، فإنها دلت على أن غسل
الجنابة الواجب عليك مثلا عينا وكذا غسل الجمعة المستحب عليك عينا المقتضي
عينية كل منهما للاتيان به مستقلا مطلقا أنت مخير في امتثال أمره عند اجتماعه مع
غيره بايجاده على وجه الاستقلال كما هو مقتضى أمره، وبايجاده بهذا النحو وهو
الإتيان بفعل واحد عنه وعن غيره المجامع له كما هو مقتضى الترخيص المستفاد
من تلك الأخبار.
فتحقق مما ذكرناه أن ما علقه الأستاذ - طاب ثراه - هنا بقوله: " الأحوط، بل
الأقوى عدمه " أي عدم إجزاء غسل واحد عن المجتمعة المختلفة وجوبا وندبا
عند جمعهما في النية أن تقويته غير مسدد، وأن الأقوى ما سدده السيد الأستاذ
- دام علاه - بقوله: " ما قواه في المتن هو الأقوى "، والله أعلم.
قوله (قدس سره): (ومنها: المباشرة للغسل والمسح على وجه يستند الفعل اليه،
فمتى لم يكن كذلك بطل مع الاختيار، وأما مع الاضطرار فلا بأس، ولكن
يتولى هو النية) اشتراط المباشرة هو المشهور شهرة محققة، بل عن الانتصار
وهي الإجماع عليه، وعن المعتبر كونه مذهب الأصحاب، فما عن ابن الجنيد من
استحباب أن لا يشرك غيره في وضوئه بأن يوضيه أو يعينه عليه لا يعبأ به بعدما
نحققه دليلا على لزوم توليه الفعل هو بنفسه، كما به يتضح عدم صحة ما قيل به في
المقام، ويعطيه ظاهر طائفة من العبارات من كون وجوب المباشرة تكليفيا صرفا
لا شرطيا.
429

فنقول: أقوى الأدلة عندنا على لزوم المباشرة هو ظاهر الأمر فإنه يفيد
مطلوبية صدور الفعل عن خصوص المأمور مطلقا من غير فرق بين التوصليات
والتعبديات، فإن الأصل في الأوامر من تلك الجهة التعبدية كما يرى تسالمهم
عليه في الاصول. نعم لما قام القرينة ولو الحالية في أغلب المقامات على تعلق
غرض الآمر بحصول المأمور به في الخارج مطلقا ولو من غير المأمور، بل ربما
دلت على تعلق غرضه بحصول الفعل في الخارج ولو من غير المكلف عبروا عنه
بالتوصلي ولم يعتبروا فيه المباشرة، وهذه القرينة لما وجدت في غير العبادات
فإنها عادمة لتلك القرينة غالبا توهم الفرق بينهما. وليس كذلك، بل الأمر في
الجميع يقتضي صدور الفعل عن خصوص المأمور لولا القرينة، وعليه فيكون قيد
المباشرة من مقومات المأمور به، لأن الفعل يتقوم بالفاعل كما يتقوم بالمفعول.
ومنه يعلم أن إطلاق الشرط على مثلها مسامحة، لأن الشرط عبارة عن
الخارج الذي له دخل في الشيء والمباشرة في الفعل لا شبهة في كونها من
المقومات، إذ كما لا شبهة في عدم تحقق المأمور به وهو ضرب زيد في قولك:
" اضرب زيدا " بضرب عمرو كذلك لا يتحقق ضاربيته وامتثاله عند إرادة الفعل
منه بصدور الضرب من آخر، فلم يحصل الامتثال ولم يتحقق المأمور به بوصف
كونه مأمورا به في الخارج في غير ما قامت القرينة على أن المطلوب مطلق
حصوله في الخارج بلا خصوصية لإيجاد المكلف اياه بنفسه، مع أنه أيضا ليس
بامتثال، بل هو سقوط الأمر، لعدم بقاء المحل.
وأما العبادات التي تقبل النيابة فليس ينتقض بها على المقام، لأن النيابة على
ما حقق في باب الاستيجار على العبادات عبارة عن تنزيل الغير منزلة المخاطب
بأدلة النيابة لا تعميم في المباشر من المأمور والغير كما هو معنى عدم اعتبار
المباشرة، وحينئذ فإن دلت أدلة النيابة على ثبوتها عموما في جميع الأوامر فلابد
من القول بمقتضاها حتى في العبادات، لأنها حاكمة على الأوامر الدالة على
المباشرة، وإن كانت خاصة بمورد خاص فلا بد من الاقتصار عليه، وتكون حاكمة
430

فيه بالخصوص فلا يتعدى منه إلى غيره مما لم يثبت فيه.
فتبين أنه لا مجال لأن يقال: ظاهر الأوامر لا يقتضي أزيد من كون المأمور
مباشرا، وأما كون المباشرة شرطا في المأمور به فلا، فيحكم حينئذ عليها ما دل
على ثبوت النيابة والوكالة فينقلب الأصل إلى مشروعية الوكالة في جميع
العبادات، إذ لا يعقل دلالة الأمر على لزوم المباشرة، وعدم كونها شرطا فهو
ضعيف في الغاية كما تبين ضعف الفرق بينها وبين التوصليات برفع اليد عن
المباشرة فيها دونها، ومنشأ ذلك كله الخلط في ما فصلناه من قيام القرينة غالبا في
التوصليات على كون المطلق هو حصول الفعل في الخارج بلا ملاحظة خصوصية
صدوره عن فاعل خاص، وقيام الدليل في بعض العبادات، أو في بعض الأحوال
على تنزيل الغير منزلة المخاطب ثم الخلط بين الشرط والمقوم، فتوهم أنه يكفي
في نفيها عدم الدليل الخاص الدال على ثبوتها، أو أنها منفية أصلا بملاحظة
الأوامر التوصلية، أو عرضا بملاحظة حكومة أدلة النيابة والوكالة على الأوامر
المقتضية لثبوت المباشرة، وبالتأمل التام في ما ذكرناه يندفع ذلك كله.
ثم إنه ربما يتمسك لوجوب المباشرة بقوله تعالى: " ولا يشرك بعبادة ربه
أحدا " بإعانة ما ورد في تفسيره عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام): " حيث نهى (عليه السلام)
الوشاء حين أراد أن يصب عليه ماء فلم يدعه فقال له: لم تنهاني أن أصب عليك
الماء أتكره أن أوجر؟! فقال (عليه السلام): تؤجر أنت واوزر أنا، قال: فقلت له: وكيف
ذلك؟! فقال (عليه السلام): أما سمعت الله تعالى يقول: (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل
عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا)؟! وها أنا أتوضأ للصلاة وهي العبادة
فأكره أن يشرك فيها أحد (1).
ومثله ما ورد في قوله (عليه السلام) للمأمون لما صب الغلام على يده الماء للوضوء:
" يا أمير المؤمنين لا تشرك بعبادة ربك أحدا " (2). وقريب منهما غيرهما مما

(1) الوسائل 1: 335 ب 47 من أبواب الوضوء، ح 1.
(2) الوسائل 1: 336 ب 47 من أبواب الوضوء، ح 4.
431

استشهد فيه بالآية على النهي عن الاشراك في ايجاد العمل.
والانصاف عدم صحة الاتكال عليها في لزوم المباشرة، لأن ظاهر الآية مع
الغض عما ورد في تفسيرها لا تأبى عن صحة التشريك بهذا المعنى في عبادة الله،
بمعنى أن يشرك العابد غيره في عبادته تعالى فيعبداه بالاشتراك في فعل بأن
يعملوا العمل له تعالى على وجه الشركة، فيستحقوا منه الأجر الموعود على العمل
على وجه الشركة، وذلك فيما يكون العمل مطلوبا منهم معا وجوبا أو ندبا على
وجه الشركة، ومعه لا شبهة في جواز التشريك بهذا النحو في مثل هذا الفعل،
بل لا كراهة فيه لو لم نقل بكونه مندوبا اليه.
ومع الغض عما سيأتي من ظهور الآية في جعل العابد لمعبوده شريكا في
عبادته التي يفعلها له ليس لها ظهور في هذا النحو من التشريك الذي هو معدود
في العرف من أنحاء الإعانة كما هو مورد الأخبار المفسرة، بل ظاهرها التشريك
على وجه يستند الفعل اليهما معا، فتخرج عن محل الكلام، إذ محل الكلام هو
الشركة في فعل يكون قصد الفاعل منه العبادة وقصد شريكه أمر آخر وراء تلك
العبادة من خوف أو طمع ولو اخروي بلحاظ آخر فلا يدخل تحت هذا النهي،
ألا ترى أن باني المسجد مثلا يشاركه البناء والعمالة لقصد أخذ الاجرة، ومع ذلك
يستند فعل العبادة اليه وحده، وهو الذي يستحق أجره وثوابه الموعود، ولا يشمله
النهي في الآية، بل لا يقول بكراهة هذا النحو من التشريك ايضا أحد من العلماء؟!
وأما بملاحظة ما ورد فيها من التفسير فلأن الوارد في تفسيرها متخالفة
متعارضة ففي رواية جراح المدائني عن أبي عبد الله (عليه السلام) تفسيرها بالاشراك في
المعبودية حيث قال: إنه الرجل يعمل شيئا من الثواب لا يطلب به وجه الله، وإنما
يطلب تزكية الناس له يشتهي أن يسمع به الناس، فهذا الذي أشرك بعبادة ربه
أحدا (1).
ومن المعلوم أن هذا المعنى لا يجتمع مع التفسير الأول، ولا يمكن الجمع

(1) الوسائل 1: 52 ب 12 من أبواب العبادات، ح 6.
432

بينهما بإرادتهما معا من الآية، لكمال تباينهما، فلابد من ملاحظة الترجيح بينهما.
ولا ريب أن الأوفق بظاهري النهي والعموم هو ما في رواية جراح المدائني.
مضافا إلى ظهور الأخبار المدعى على دلالتها الكراهة - وهو موردها - ايقاع
الغير العبادة أو جزء منها، بل موردها إعانة الفاعل ببعض المقدمات القريبة،
كما هو دأب المتأمرين وديدنهم من صب خدامهم الماء في أيديهم عند التوضؤ
لئلا يتكلفوا مؤنة حمل الإبريق، ولئلا يشق عليهم أخذه ووضعه ولئلا يزري ذلك
بكبريائهم وجبروتهم، ولم يعهد توضؤهم بصب الخادم الماء على وجوههم
ومرافقهم فيكفونهم مؤنة نفس أغسال الوضوء، وإذا وضح أن المراد بالاشراك فيها
هو هذا المعنى فلا يريب أحد في كراهته، لأنه إعانة في مقدمات العبادة المعلوم
عدم حرمتها لا فيها نفسها لكي تحرم أو يقال من أجله بسقوط لزوم المباشرة.
ويشهد له قوله (عليه السلام): " تؤجر أنت واؤزر أنا " إذ الوزر المتصور ليس إلا دلالة
هذا النحو من الفعل على التجبر والتكبر، فلا دلالة فيه على الاشراك المحرم لو لم
نقل بدلالته على الكراهة، لأنه لا معنى لاستحقاق الأجر على الإعانة على
المحرم، سيما على القول بكون نفس الإعانة على الحرام حراما.
ومما يفصح كون مصب تلك الأخبار هو الإعانة في مقدمات العبادة دونها
نفسها قوله (عليه السلام) في الرواية الاولى في ضمن ما ذكره تعليلا للوشاء: " فها أنا أتوضأ
للصلاة وهي العبادة... الخ "، وأوضح منه في هذا ما عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه كان
لم يدع أحدا يصب عليه الماء، فقيل له: " يا أمير المؤمنين لم لا تدعهم يصبون
عليك الماء؟ فقال (عليه السلام): لا احب أن اشرك في صلاتي أحدا، إن الله جل ذكره يقول:
" ولا يشرك بعبادة ربه أحدا " (1). وأيضا عنه (عليه السلام) أنه قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
خصلتان لا احب أن يشاركني فيها أحد وضوئي فإنه من صلاتي، وصدقتي فإنها
من يدي إلى يد السائل، فإنها تقع في يد الرحمن " (2).

(1) الوسائل 1: 335 ب 47 من أبواب الوضوء، ح 2.
(2) الوسائل 1: 336 ب 47 من أبواب الوضوء، ح 3.
433

وظاهر هذه الروايات كما تراه ينادي بالكراهة مع ما عرفته من أنه لم يقل
أحد بحرمة الإعانة في مقدمات العبادة، بل ظاهرهم أن الإعانة في المقدمات
مكروهة، فهذا من أبين الشواهد على عدم إرادة الحرمة في الأخبار المستدل بها
على الحرمة المفسرة للآية، بل ظاهرها الكراهة إما بنفسها أو بمعونة القرائن
الموجبة لرفع اليد عن ظاهرها لو سلم تمامية دلالتها على الحرمة، فيجب من
أجلها التصرف فيها، وحملها على خلاف ظاهرها لو سلم ظهورها في الحرمة
أو ترجيح المفسرة للآية بخلافها عليها وتقديمها عليها.
هذا تمام الكلام في الشق الأولي وهو لزوم المباشرة مع الاختيار واستفيد منه
بالإشارة جواز الاستنابة في ايجاد أفعال الوضوء عند الاضطرار بعد قيام الدليل
الوافي على الرخصة في تلك الحال، لما ذكرناه أن ظاهر الأمر لولا القرينة هو
مطلوبية الفعل من شخص المأمور، ولكنه قد يقوم دليل ولو من الخارج بحصول
المطلوب ولو تسبيبا إما مطلقا كما في جملة من المستحبات أو بعد رفع التمكن
عن المباشرة كما في ما نحن فيه، للإجماع الذي ادعاه الأستاذ - طاب ثراه - في
المسألة ونقله عن غيره أيضا ويساعده التتبع، لأنه لم يعرف فيه مخالف ولم يجد
الماتن فيه مخالفا كما في جواهره ويعضده حكمة لزوم المباشرة في حال
الاختيارمن أن المقصود بالأمر إطاعة المأمور بشخصه، وتذلله وتخضعه، فهو
مطلوب منه بقدر الامكان والقدر الممكن منه في تلك الحال هو ذا - أي الفعل
التسبيبي - لاستناد الموجد بالتسبيب إلى الفاعل السببي أيضا.
وربما يستأنس له بالأخبار التي استدل بها عليه، لعدم تمامية دلالتها عندنا.
منها: ما استدل به الأكثر من صحيحة سليمان بن خالد عن أبي عبد الله (عليه السلام) في
حديث: " أنه (عليه السلام) كان وجعا شديد الوجع فأصابته جنابة وهو في مكان بارد،
قال (عليه السلام): فدعوت الغلمان فقلت لهم: احملوني فاغسلوني فحملوني ووضعوني
على خشبات ثم صبوا علي الماء، فغسلوني " (1). وجه عدم الدلالة أن القضية

(1) الوسائل 1: 336 ب 48 من أبواب الوضوء، ح 1.
434

محكية في صحيحة محمد بن مسلم بما ظاهره مباشرته (عليه السلام) بنفسه للاغتسال فإنه
روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث أنه ذكر: " أنه (عليه السلام) اضطر إلى الغسل وهو
مريض فأتوا به مسخنا فاغتسل، وقال: لا بد من الغسل (1)... الخ "، وعليه فيخرج
الخبر عن محل الاستدلال، فيحتمل حينئذ أن يكون المراد في الصحيحة الاولى
أنهم أعانوه في المقدمات القريبة وهو صب الماء في الإناء وإعطائه بيده، واغتسل
هو (عليه السلام) بنفسه واسند مع ذلك الغسل إليهم، لكمال إعانتهم، فكأنهم هم الفاعل
الموجد له، لقوة تسببهم لحصوله.
وأما ما ذكره الأستاذ - طاب ثراه - من مخالفتها للقاعدة المقررة من لزوم
التيمم في المرض، بل لاصول المذهب من جهة استلزامه التزام عروض الاحتلام
للإمام (عليه السلام) وهو ممتنع، فيمكن الذب عنه بأنه لم يكن يضره الغسل بالماء الحار
كما يومئ إلى كون الماء حارا كلمة " فأتوا به مسخنا " وبأن الاحتلام المنفي
عروضه للإمام (عليه السلام) هو ما كان عن سوء الأحلام الذي هو لعبة من لعبات الشيطان،
واحتلامه (عليه السلام) يمكن أن يكون عن بحران المرض، ولا دليل على امتناعه في
حقهم (عليهم السلام).
ومنها: ما تمسك به الأستاذ - طاب ثراه - من روايات المجدور الذي غسلوه
فمات، المتضمنة للتوبيخ عليهم بأنهم: " قتلوه قتلهم الله ألا يمموه " بتقريب إسناد
فعل التيمم إليهم الظاهر في توليتهم فيه.
وفيه أنها مسوقة لبيان أن الحكم في مثله التيمم لا الغسل فهي ساكتة عن
التعرض، لأن المباشر في هذا التيمم من هو هم أو المريض بنفسه، بل يمكن
دعوى قضاء العادة بكونه هو المباشر، لعدم عجز المجدور عن الضرب والمسح
في التيمم، فلا يجوز تولي الغير لتيممه.
ومنها: روايات تيمم الميت (2) الذي لا يمكن غسله لاستلزامه مثلته

(1) الوسائل 2: 987 باب 17 من أبواب التيمم، ح 4.
(2) الوسائل 2: 987 ب 18 من أبواب التيمم.
435

كالمجدور ونحوه. وفيه أن تيممه بالغير ليس بالتولية، وإنما الغير مكلف بايجاد
التيمم في الميت كغسله له فهو المباشر المطلوب منه ايجاد هذه الأفعال في بدن
الميت لا أن الميت كلف بها ابتداء، ثم لعجزه تعلق الحكم بالأحياء.
ومنها: رواية: " ما غلب الله، فالله أولى بالعذر " (1). وجه عدم الدلالة ظهورها
في ترك الواجبات وارتكاب المحرمات لا وجوب التولية في ايجاد ما يعجز عنه.
نعم لما استدل بها على الانتقال إلى البدل في الواجبات التي لها بدل فيستأنس منها
الانتقال عن المباشرة إلى التولية، لبدليتها عنها في الأفعال المطلوبة عن شخص
عند العرف والعقلاء.
ومنها: رواية عبد الأعلى (2) الواردة في المسح على الإصبع المنقطع الظفر
المغطى بالمرارة. واليه يشير ما عن معتبر المحقق (رحمه الله) من استدلاله على وجوب
التولية بأنها توصل إلى الواجب بقدر الإمكان. وجه عدم الدلالة مع الغض عن أن
البناء عليها في القيود موجب للاختلال في الأحكام بما لا يدخل تحت ضابط،
ومع الغض عن أن موردها عندهم هو الرجل على ما استظهروه منها، فلو لم يحمل
لفظ " الظفر " فيها على الجنس ثم يراد منه تمام الأظفار لزم منه مخالفته للمجمع
عليه، وهو غير صحيح، حيث إنهم أجمعوا على أنه لا يتعين المسح في الرجل
على خصوص الابهام، بل يجوز على سائر الأصابع أيضا لو كانت سالمة أن ظاهر
الرواية سقوط مباشرة الماسح للممسوح، وأين هي من مسألة التولية؟ إلا
بالاستئناس كما لا يخفى.
وتصحيحه بأن الفاعل من مقومات الفعل كالمفعول والمحل فإنه من القيود
المقسمة له فيتساويان في تقوم الفعل بهما معا، فايجاب العجز عن المباشرة في
أحدهما إذا أوجب سقوطها مع بقاء مطلوبية أصل الفعل وأوجب الرجوع إلى
ما أمكن منه، فكذا يوجبها في الآخر، لعدم فرق بينهما حيث إن الفعل متقوم بهما.

(1) الوسائل 5: 352 الباب 3 من أبواب قضاء الصلوات، ح 3.
(2) الوسائل 1: 327 ب 39 من أبواب الوضوء، ح 5.
436

سقيم، لوضوح الفرق بينهما، حيث إن طلب صوم الخميس يحسن أن يقال
ببقائه واقتضائه ايجاده في غير الخميس عند العجز عن ايجاده فيه، ولا كذلك
الصوم المطلوب عن شخص بخصوصه في بقاء مطلوبيته عند عجز المطلوب منه،
والتزام اقتضاء الطلب ايجاده عن آخر.
فإذن العمدة في إثبات جواز التولية بمعناه الأعم أنه إذا جاز وجب للإجماع
كما عليه اتكل الأستاذ - طاب ثراه - وجعل فيه الكفاية.
ومن تمام الكلام في المقام تبين أنه لا يتعين خصوصية شاعرية الصاب للماء
في ايجاد هذا الوضوء فكيف مكلفيته؟ لأن المطلق من المكلف ايجاده تسبيبا عند
عجزه عن المباشرة.
ومنه يتبين أن النية يتولاها هو، لأنه المتوضي بمعونة الغير، نعم لو كان عجزه
على حد لا يمكن صدورها منه ولو تسبيبا، لعدم الشعور وإن صعب تصوره بحيث
بقي معه أصل التكليف تولاها المباشر هذا، ولكن لما كان التشريك والتولية
الممنوعان حال الاختيار المجوزان حال الاضطرار غير واضحي المصاديق عرفا
فقد يشتبه أحدهما بالآخر، لخفاء بعض المصاديق وكان عمدة دليل المسألة أيضا
هو الاجماع الغير المعلوم منه أن المطلق في المقام هل هو الاستنابة المعلوم كون
الناوي في العمل هو النائب الفاعل كما في الاستنابة في سائر العبادات، أو الاستعانة
الموجبة لعد الفعل فعل المستعين كما بيناه؟ فالاحتياط يقتضي توليهما معا النية كما
أفاده الأستاذ - طاب ثراه - وعلقه هنا بقوله - طاب ثراه -: " الأحوط توليهما معا ".
قوله (قدس سره):
(المبحث الرابع)
مما يتعلق بالوضوء (في) بيان (أحكام الخلل) الواقعة فيه (من تيقن
الحدث وشك في الطهارة تطهر) بلا خلاف، ولا إشكال كما هو صريح الأستاذ
- طاب ثراه - لما ادعاه من الأخبار المستفيضة والاستصحاب المتفق عليه بين
437

الأعلام، بل بين قاطبة أهل الاسلام، بل عن المحدث الأسترآبادي المنكر لحجية
الاستصحاب عده في فوائده المدنية من ضروريات الإسلام. وبالجملة خصوص
هذا الحكم إجماعي بين المسلمين كما في المدارك.
وربما استدل عليه بقوله (عليه السلام): " إذا استيقنت أنك أحدثت فتوضأ " ومفهوم
قوله (عليه السلام): " وإياك أن تحدث وضوء حتى تستيقن أنك قد أحدثت " حيث فرع
وجوب الوضوء في الأول على يقين الحدث وحذر في الثاني ايجاد الوضوء بقصد
الوجوب قبل يقين الحدث الدال على أن محل ايجاد الوضوء الواجب هو بعد يقين
الحدث.
وفيه أن ظاهرهما فعلية اليقين لا اليقين السابق المشكوك تحققه عند إرادة
ايجاد الوضوء، ومع ذلك لا ربط لهما بتلك المسألة، بل موردهما المسألة الآتية،
فانهما مسوقان لبيان حكم المتطهر الذي قد شك في نقض طهارته كما هو غير
خفي على الناقد البصير المتأمل فيهما بعين الانصاف.
قوله (قدس سره): (وكذا لو ظن إذا لم يكن مستندا إلى دليل شرعي كخبر
العدل على الأقوى) لأن الظن الغير المعتبر أو المشكوك الاعتبار بحكم الشك
شرعا وعند أهل العلم، فالأصل المعمول به الجاري في المشكوك والموهوم حجة
فيه كالاستصحاب الجاري في المقام، لإطلاق النص والفتوى باعتباره في
خصوص المورد لا بشرط إفلاته الظن سيما على ما استثناه من اعتباره من باب
أخبار: " لا تنقض " بل ذكر الأستاذ - طاب ثراه - أنه معتبر وجار فيه، وإن قلنا
باعتباره من باب الظن، لأن المراد من إفادته الظن إفادته إياه لو خلي وطبعه وإن
ارتفع الظن بسبب بعض الموهنات، وإن نقل - طاب ثراه - عن حبل المتين لشيخنا
البهائي في مسألة يقين الطهارة والشك في الحدث أن له كلاما ظاهرا في العكس
بمعنى دوران اعتباره مدار الظن الشخصي المتفاوت حصوله بملاحظة خصوص
الموارد، ولعلنا نتعرض له في محله.
فحينئذ يمكن أن يكون نظر الماتن في التقوية إلى خلاف الشيخ، وقد عرفت
438

وجهها من اطلاق النص والفتوى باعتباره في المورد لا بشرط الظن.
ويمكن أن يكون ناظرا إلى من لم يعتن بخبر العدل ولم يدخله في المستند
الشرعي المعتبر كما يومئ اليه ما علقه الأستاذ - دام ظله - هنا بقوله: " في كفاية
العدل الواحد نظر "، إذ لا دليل على اعتباره في الموضوع الخارجي الغير المسدود
فيه باب العلم، لأن غاية ما دل من الدليل على اعتبار قول العدل إنما هو اعتباره
في الأحكام والموضوعات المستنبطة التي هي بحكمها وغيرهما باق تحت أصالة
عدم الحجية.
وعليه فعدم دخوله في المستند الشرعي أقوى ما لم يفد قوله الاطمئنان
خلافا للماتن في جواهره فإنه جوز النقض به وجعله حجة شرعية في رفع اليد
عن اليقين السابق كما هو ظاهره هنا، لخبر أبي بصير في اللمعة الباقية في ظهر أبي
عبد الله (عليه السلام) عند غسله حين أخبر بها فقال (عليه السلام): " ما كان عليك لو سكت " (1).
وغيره مما يدل على قبول قول العدل، وقد عرفت ما فيه.
واليه ينظر نظر الشيخ الأستاذ - طاب ثراه - فيما علقه عليه بقوله: " في كفاية
العدل الواحد نظر "، ولذا احتمل هو أيضا في جواهره عدم الاعتناء به في نقض
اليقين السابق، فافهم.
قوله (قدس سره): (ولو كان شكه بعد الفراغ من العمل المشروط بالطهارة بنى
على صحة العمل السابق وتطهر جديدا للعمل اللاحق ولو علم بقدم مأخذ
الشك على وجه لو كان متنبها لكان شاكا سابقا استأنف العمل على
الأحوط) أما عدم إعادة ما مضى فلقاعدة عدم الاعتناء بالشك بعد الفراغ كما
عليه المشهور، بل هي في الجملة إجماعية كما في المدارك في خصوص الوضوء
وفي الشك في أجزاء الصلاة بعد أن دخل في غيره في غير ما كان المشكوك ركنا
من الأوليين، والأخبار الصحيحة الصريحة ناطقة به.

(1) الوسائل 1: 524 ب 41 من أبواب الجنابة، ح 1.
439

وإذا كان الأمر كذلك فلا يعبأ بالاستصحاب في قبالها، وأمالزوم تطهره للعمل
اللاحق فلسلامة الاستصحاب عن المعارض، لعدم إحراز الشرط وهو الوضوء
بتلك القاعدة. ولذا استشكل بعض العمل عليها في الشك بعد الفراغ أيضا إذا كان
المشكوك شرطا كما عن كاشف اللثام في الطواف إذا شك بعد الفراغ منه في كونه
متطهرا فما ذكره الماتن في جواهره عن بعض مشائخه من احتمال عدم لزوم
التطهر للعمل اللاحق أيضا، بل اختياره هو إياه في غير محله، لعدم دلالة أخبار
الباب على الحكم بوقوع المشكوك، وعدم إفادة قوله (عليه السلام): " هو حين يتوضأ أذكر
منه حين يشك " (1) إياه بوجه، فلا ينقح بها وجوده أبدا فلابد من إحراز الشرط
عند الدخول في المشروط مع الالتفات إما حقيقة، أو حكما، كالمتعبد بالعمل
بالظن، أو بالأصل المعتبر شرعا.
مضافا إلى ما عرفت من اقتضاء الاستصحاب الخالي عن المعارض عدمه
أيضا، فما أبعد ما بين هذا القول وبين من لم يعمل بقاعدة الشك بعد الفراغ في
خصوص الشرط وخصها بالجزء كما أشرنا اليه، وكلاهما بعيدان عن الصواب كما
لا يخفى على المتأمل في أخبار الباب.
وأما الاستثناء الذي ذكره (قدس سره) بقوله: " ولو علم قدم مأخذ الشك... إلخ "
فلانصراف نصوص القاعدة عن مثل هذا الشك، واختصاص إجماعهم بغير تلك
الصورة ولأن هذا الشك وإن وقع فعليته بعد الفراغ ولكنه بملاحظة قدم سببه كان
من الشك قبل الفراغ به فكأنه واقع قبله.
وبالجملة حكم هذا الشك حكم الشك قبل الفراغ لمعاملة العرف والعقلاء معه
كذلك، على أن الشك في دخوله في القاعدة يكفينا للزوم إحراز المشروط
مستجمعا للشرائط إما حقيقة أو بحكم الشرع، وكلاهما في المقام منتفيان
فالاشتغال بحاله، ولذا جعله الماتن احتياطا ولم يحكم به صريحا لإمكان

(1) الوسائل 1: 331 ب 42 من أبواب الوضوء، ح 7.
440

أن يؤخذ بقشر ظاهر القاعدة ويجعل هذا أيضا من الشك بعد الفراغ عملا بصورته
الفعلية وهي تحقق فعليته بعده، وإن كان بلحاظ الشأنية سابقا بل في الحقيقة
حاصلا، لعدم تخلف الأثر عن المؤثر، غاية الأمر غفلة الشاك عنه.
ففعليته بعد الفراغ إنما هو بملاحظة الالتفات اليه لاحدوثه الحقيقي لو لم يدع
أنه حالة من حالات الشاعر لا تحقق لها إلا مع الالتفات، وهو ممنوع لأنه كمقابليه
من القطع والظن مسببات عن أسباب محصلة لها، وإن غفل الفاعل عنها فهي
محفوظة في الخزينة ملتفت إليها صاحبها إجمالا عند الغفلة وتفصيلا عند الالتفات.
قوله (قدس سره): (ولو كان في أثناء العمل قطعه وتطهر، والأحوط اتمامه ثم
استئنافه بطهارة جديدة) قد ظهر وجهه مما تقدم، حيث إن إجراء القاعدة في
الأجزاء الماضية لا يصحح أصل العمل ولا ينقح تحقق الشرط. ووقوع ما مضى
صحيحا لا يقتضي حصول الارتباط بينها وبين اللاحقة مطلقا مع كون الطهارة التي
هي شرط في المركب، شرطا له بلحاظ شرطيته لكل جزء جزء منه بمعنى اشتراطه
بها من اليد والى الختم، فتكون شرطا في اللاحقة أيضا، فيجب إحرازها فيها،
ولم يحرز، بل هي عنها منتفية بحكم الشرع، نظرا إلى الاستصحاب الجاري في
المقام بتسليم الكل وعدم معارضة القاعدة له كما عرفت.
فهذا الشخص بمنزلة متطهر انتقض طهارته في أثناء العمل، لأن المحرز
بالأصل والقاعدة المعتبرين كالمتحقق في ترتب ما يترتب عليهما، فبلحاظ ما
مضى لما يكون محلا للقاعدة ويحكم بكونها صادرة عن المتطهر، وبلحاظ ما
سيأتي لما يكون من مجرى الاستصحاب يحكم بكونها خالية عن الطهارة فيفسد،
وهذا معنى لزوم قطعه.
ومن هذا البيان ظهر لك وجه الاحتياط وحسنه.
قوله (قدس سره): (ولو كان متيقنا ثم زال عنه اليقين أو بالعكس فالعمل على
المتأخر، إلا أن الظاهر عدم وجوب إعادة ما فعله باليقين الأول) لأجل
قاعدة اليقين، ولا يذهب عليك أنه مناف لما ذكر (قدس سره) من مسألة تذكر قدم مأخذ
441

الشك حيث حكم هناك بسراية الشك، وهنا استظهر عدم وجوب إعادة ما فعله
باليقين الأول، لوضوح الفرق بينهما، إذ الاولى مفروضة فيمن دخل في الصلاة
غفلة غير محرز لشرطها الذي هو الطهارة لا بيقين ولا بأمارة معتبرة أو أصل
كذلك، ومع ذلك قد سرى الشك اللاحق إلى السابق لفرض وجود سببه، فكان كمن
شك سابقا كما اشير اليه.
وهذه المسألة الثانية مفروضة فيمن تيقن الطهارة ودخل في الصلاة بذلك
الاعتقاد، غاية الامر زوال يقينه حينئذ بشكه اللاحق فيعمل في كل منهما بمقتضى
ماله من الفعلية، ومعنى قوله (قدس سره) العمل على المتأخر يراد به الشك الذي هو لازم
زوال اليقين لا خصوص ما حصل له من الشك الفعلي.
وملخصه أنه حين اعتقاده بالطهارة يعمل معاملة الطاهر الواقعي، وحين زوال
ذلك الاعتقاد يعمل معاملة الشاك في أصل تحقق هذه الطهارة لكن من حين زوال
الاعتقاد، ولا يجري فيه الاستصحاب بملاحظة اليقين السابق، لأن مجراه صورة
اجتماع اليقين والشك في الشخص بلحاظ الزمانين السابق واللاحق، وما نحن فيه
ليس كذلك، لأنه كان معتقدا فزال اعتقاده، فهو الآن شاك غير متيقن ولو بالنظر
إلى الزمان السابق.
ومنه يعلم لزوم ايجاد الطهارة عليه للمشروط بها، وأما عدم إعادته العمل
الواقع في زمان الاعتقاد فلأجل الاعتقاد وهو قاعدة اليقين ولقاعدة الشك بعد
الفراغ، لأنه لم يعلم بطلان اعتقاده الأول ولم يسر شكه اليه، بل هو الآن شاك في
أنه لم كان معتقدا في ذلك الزمان؟ ولا أراك بعد هذا البيان يشتبه عليك الفرق بين
المسألتين وتشك في شيء مما حكم به الماتن في المسألة من الحكمين.
قوله (قدس سره): (ولو كان متيقنا للطهارة وشك في الحدث لم يلتفت) بل هو
متطهر إجماعا نصا وفتوى، والمراد بالشك كما في المسألة السابقة أعم من الظن
الغير المعتبر، لما عرفت من جريان الاستصحاب المعتبر في جميع الصور، بل
عمدة أخبار الاستصحاب واردة في خصوص مفروض المسألة، وعرفت أيضا
442

تنزيل الخبرين السابقين على خصوص الفرض ولم يحك فيه خلاف عن أحد
سوى ما تقدمت الإشارة اليه مما حكي عن الحبل المتين لشيخنا البهائي من
إناطته الاستصحاب بالظن الشخصي، وحكي عن شارح الدروس توجيهه بأن
اعتبار الاستصحاب من باب الظن لا من باب الأخبار.
وهذا التوجيه مخالف لمذهب القائلين باعتبار الظن في الاستصحاب حيث
إنهم يكتفون بالظن النوعي، إذ يعملون بالاستصحاب في مجاريه كالزوجية
والملكية والحياة ونحوها، ويرتبون عليها أحكامها باستصحابها من دون التفات
منهم إلى إفادة الاستصحاب فيها للظن الفعلي بالبقاء، بل يحكمون بمقتضى
الاستصحاب فيها مطلقا وإن لم يحصل لهم ظن فعلي بالبقاء لعارض من
العوارض، نعم يعتبرون إفادته له لو خلي وطبعه.
قوله (قدس سره): (ولو علمهما ولم يعلم السابق واللاحق ولا علم تاريخ
أحدهما تطهر أما إذا علم التاريخ فالأحوط له ذلك أيضا، بل هو الأقوى)
أما صورة جهل التاريخ، بل مطلقا هو المشهور شهرة مطلقة بين القدماء
والمتأخرين. وعمدة الدليل عليه توقف الصلاة على الطهور المشكوك تحققه في
الفرض، والشك فيها شك في الصلاة كما هو قضية الشرط الساري شكه إلى
المشروط، وهذا معنى ما يحكى عن المقنعة والسرائر من: " انه يجب عليه الوضوء
ليزول عنه الشك ويدخل في صلاته على يقين الطهارة " انتهى.
وأوضح منهما ما عن المبسوط والتهذيب: " انه مأخوذ على الانسان أن
لا يدخل في الصلاة إلا بطهارة فينبغي أن يكون متيقنا بالطهارة ليسوغ له الدخول
في الصلاة " انتهى.
ومحصل ذلك ما عن المعتبر في الاستدلال على خصوص الصورة الاولى من
قوله: لعدم حصول اليقين بالطهارة، بل ظاهر التذكرة أن هذا هو استدلال كل من
قال بهذا القول، وليس المقام من مجاري أصالة البراءة، لأن مجراها الشك في
الشرطية لا الشك في تحقق ما هو معلوم الشرطية كما لا ينفع التكلم في أن الطهارة
443

شرط أو الحدث مانع، لأن أصالة عدم المانع بما هي غير معتبرة عندنا، وتوهم
ثبوتها عند القوم إنما نشأ من موافقة عدمه للأصل غالبا، وإلا فلا معنى لأصالة
العدم فيما كان العدم مخالفا للأصل.
وبالجملة فعدم المانع مع قطع النظر عن كونه شرطا كما قيل: " إن المانع ما
يكون عدمه شرطا " واجب إحرازه ولو بالأصل كوجود الشرط، فما عن بعض من
أن المانع يكفي فيه عدم العلم بتحققه في غير محله، بل يجب العلم بعدمه ولو بحكم
الأصل. ويؤيده ما عن الرضوي في خصوص المسألة: " وإن كنت على يقين من
الوضوء والحدث ولا تدري أيهما أسبق فتوضأ " (1). ويمكن جعله دليلا على
المقام باعتضاده بالشهرة المحققة وظهور الاتفاق المفهوم من محكي الذكرى من
نسبته إلى الأصحاب.
ومنه يعلم عدم الفرق بين جهل التاريخ والعلم به، لأن أصالة تأخر الحادث
لا يثبت تأخر الطهارة عند معلومية زمان الحدث، وليس من آثاره الشرعية وقوع
الطهارة عقيب الحدث، ولا جواز الدخول في الصلاة مع الشك في شرطها الذي
هو الطهارة ما لم يحرز بوجه معتبر، هذا.
مضافا إلى أن هذا الأصل لا يترتب عليه في مجاريه ما هو من آثار خصوص
صفة التأخر ولو الشرعية، وإنما نرتب عليه في مجاريه ما هو من آثار عدم التقدم
الغير المنفك عادة عن التأخر أو المقارنة. وأما آثار خصوص صفة التأخر فترتبها
إنما يتم على القول بالأصل المثبت، ونحن لا نقول به.
فتبين وجه القوة في معلوم التاريخ كما قواه الماتن (قدس سره)، نعم هنا كلام في
خصوص ما لو علم حاله قبلهما بالطهارة أو الحدث في الأخذ بمعلومه كما عن
العلامة نظرا إلى التكافؤ والتساقط الموجب المرجوع إلى الحالة السابقة أو الأخذ
بضده كما عن المعتبر الميل إليه، وعن جامع المقاصد اختياره، وعن شارح

(1) تقدم في ص...
444

الجعفرية نسبته إلى المشهور بين المتأخرين، لتيقن زوالها بمزيلها المعلوم وجوده
ومشكوكية زوال هذا المزيل المعلوم التحقق، لأنه متوقف على تقدمه على
صاحبه المعلوم وجوده في الفرض أيضا، واحتمال التقدم في كل منهما معارض به
في الآخر، وهذا معنى مشكوكية زواله.
وهناك قولان آخران محكيان عن المختلف والقواعد.
أحدهما: أنه إذا تيقن عند الزوال أنه نقض طهارة وتوضأ عن حدث وشك في
السابق فإنه يستصحب حاله السابق على الزوال.
ثانيهما: أنه لو تيقنهما متحدين متعاقبين وشك في المتأخر فإن لم يعلم حاله
قبل زمانهما تطهر وإلا استصحبه.
وهما لو صح ادخالهما في محل الكلام ولم يخرجا عنه لكون شكهما بدويا
خصوصا الأول يرجعان إلى ما حكي عنه (قدس سره) عن بعض كتبه من التساقط الموجب
للرجوع إلى الحالة السابقة، فانحصر النزاع في القولين الأولين، ولا يتم شيء منهما.
أما الأخذ بنفس الحالة السابقة فما ذكر له من الوجه فخال عن الوجه، لأنه
ليس المقام مما يرجع فيه إلى الحالة السابقة بعد تساقط المتكافئين كالاصول
العامة، فإن الرجوع إليها بعد التساقط إنما هو لسلامته عن المعارض، لأن
المفروض كونه مما يعول عليه لولا وجود ما هو أخص منه المخالف لمدلوله الرافع
لحكمه لكونه أخص منه.
فإذا فرض ابتلاء الأخص بمثله الموجب لسقوطه بمعنى عدم قابليته للتصرف
في ما فوقه للابتلاء بالمعارض يكون وجوده كعدمه، وهو معنى تساقطهما فيبقى
العام سليما عما يرفعه ويخصصه بخلاف المقام، فإن الحالة الأولية معلومة الزوال
وإنما شك في وجود فرد آخر مثله، فلو استصحب حينئذ شيء فإنما هو من
استصحاب الكلي لا الفرد، ولما عرفت من القطع بارتفاع الفرد.
واستصحاب الكلي في المقام إنما هو من أردأ وجهي القسم الثالث مما ذكره
الأستاذ في رسالة الاستصحاب، لأنه من تبدل الفرد بفرد آخر مع عدم كونه في
445

نظر العرف غير منظور اليه مما يرون الكلي فيه مستمرا، ولا ينظرون إلى الفرد
أبدا، ولا من احتمال وجود فرد حال وجود الفرد المعلوم الارتفاع، ولا من
احتمال بقاء الفرد الأول ليستصحب الكلي باعتبارهما، لمشكوكية ارتفاعه مع
تيقن وجوده سابقا في ضمنهما.
ومن مطاوي ما ذكرناه في رد هذا علم وجه الأخذ بضد الحالة السابقة حيث
يتخيل أنه قد ارتفع تلك الحالة بطرو ضدها جزما. ورفع هذا الضد الطاري بطرو
ضده المعلوم تحققه غير معلوم، لاحتمال تقدمه فلم يؤثر في رفع صاحبه المعلوم
وقوعه أيضا.
وفيه أن استصحابه معارض باستصحاب صاحبه لكونهما معا متصفين
بمعلومية التحقق ومشكوكية الارتفاع، ولا مرجح، فيبقى منع الدخول في مشروط
الطهارة المشكوك تحقق شرطه بحاله، لسريان الشك في الشرط إلى الشك في
المشروط، فلا يكون الإتيان به والحال هذه امتثالا مخرجا عن عهدة التكليف
المعلوم، هذا.
مع ما في هذا الاستصحاب من الإشكال من عدم سبق زمان يقين الوجود
على زمان الشك فيه، إذ المفروض عدم إحراز وجود أحد هذين المعلومين في
زمان خاص خال عن الشك إلا بلحاظ أن الوجود سابق على رفعه، والمفروض
أن العدم المشكوك في المقام مسبب عن الارتفاع لا عن عدم الوجود فيكون بهذا
اللحاظ زمان اليقين قبل زمان الشك.
ثم إن شيخنا الأستاذ - طاب ثراه - ذكر نظيرا للمسألة من ملاقاة الثوب
لكرين أحدهما نجس ومن غسل الثوب النجس بماءين أحدهما نجس وجعل
المرجع في المسألة قاعدة الشغل كما ذكرناه، وفي النظيرين قاعدة الطهارة
لمشكوكية نجاسة ملاقي المشتبهين من أجل احتمال تأخر ملاقاته للطاهر منهما
الموجب لزوال نجاسته الحاصلة له من الملاقاة، والمفروض مقطوعية زوال
نجاسته الأولية في المسألة الثانية من أجل غسله بماء طاهر واقعي.
446

ولكنه يشكل فيما لو قيل بلزوم التعدد وعدم حصول الطهر بمجرد الملاقاة،
فإنه حين أول الملاقاة بالماء الثاني معلوم تفصيلا نجاسة الثوب، لأنه لو كان الماء
الأول نجسا في نفس الأمر، فهذا الغسل بالماء الثاني غير مطهر كما هو المفروض،
وإن كان النجس النفس الأمري من المشتبهين هو الماء المستعمل ثانيا فقد صار
الثوب نجسا بملاقاته. فتحقق أن نجاسته الآن مما لا شبهة فيه وإن كان مرددا بين
حصولها من ملاقاة الماء الأول أو الثاني. وزوالها مشكوك، لعدم إحراز طهارة ماء
المغسول به الثوب فيستصحب نجاسة الثوب، ويمكن التفصي عنه بأن استصحاب
النجاسة حينئذ إنما هو من استصحاب الكلي باعتبار تبادل فرديه، لأنها مرددة
بين كونها قائمة بالماء الأول، فتزول بالغسل مرتين بالماء الثاني قطعا، وبين كونها
قائمة بالماء الثاني فلا تزول بالغسل به نفسه.
ولا يتوهم كونه من قسم وجود الفرد المشكوك الوجود حين تحقق الفرد
المعلوم ارتفاعه، واستصحاب الكلي معه مسلم عنده - طاب ثراه - لأن المفروض
في هذا القسم معلومية فردية الفرد المعلوم الارتفاع، ومشكوكية تحقق فرد آخر
معلوم الفردية أيضا غيره، وعلى فرض تحققه لم يكن على وجه التبادل، بل لو كان
متحققا كان موجودا حين تحقق الفرد المعلوم الارتفاع.
وما نحن فيه ليس كذلك، لأن الكلي قائم فيه بفرد معين في الواقع مردد بين ما
هو معلوم الزوال وما هو غير معلوم الثبوت فهو مثل متبدل الفرد، حيث إن تحقق
مصداقه بهذا الموجود أخيرا مشكوك وبهما معا عين تحقق الكلي في ضمن أحد
فردين يعلم بارتفاع السابق ويشك في حصول غيره بعده ليقيمه ويثبته فكيف
نستصحب هذا الكلي؟! هذا.
ولكن مع ذلك الراجح في النظر جريان استصحاب النجاسة في الفرض، بل
كونه من قسم استصحاب الكلي في ضمن الفرد الخاص، بيانه أن النجاسة
الموجودة حال ملاقاة الثوب للماء الثاني من النجاسة المعلومة وارتفاعها بغسله
بعد مشكوك فيتسصحب بقاءه.
447

قوله (قدس سره): (ولو تيقن ترك غسل عضو أو مسحه أتى به وبما بعده)
تحصيلا للترتيب، وكذا بعضه (مع عدم تخلل مفسد من فوات موالاة
ونحوها، وإلا استأنف) أي وإلا يكن كذلك بأن تخلل مفسد استأنف وضوءه،
ولا يكفيه الإتيان بالعضو المتروك وبما بعده لبطلان الوضوء بفوات موالاته
المعتبرة في صحته كما تقدم.
والإتيان بما بعد المتروك في صورة الصحة هو الذي نفى عنه الإشكال
والخلاف شيخنا الأستاذ - طاب ثراه - إلا عن الإسكافي حيث نقل عنه الاقتصار
على إتيان نفس المتروك إذا كان بعض العضو وكان دون سعة الدرهم مستندا في
ذلك إلى حديث أبي امامة عن النبي (صلى الله عليه وآله)، وزرارة عن أبي جعفر (عليه السلام)، وابن
منصور عن زيد بن علي (عليه السلام)، ثم ذكر - طاب ثراه - أنه لم يذكر أصحابنا في ما
حضرني من كتبهم في الأخبار والفتاوى شيئا منها أي من الأخبار الثلاثة.
ثم قال - طاب ثراه -: نعم ذكر الصدوق أنه " سئل أبو الحسن (عليه السلام) عن الرجل
يبقى من وجهه إذا توضأ موضع لم يصبه الماء، فقال: يجزيه أن يبله من بعض
جسده ". قال - طاب ثراه -: ولا دلالة فيها على تحديد الإسكافي يعني دون
سعة الدرهم.
أقول: ويحتمل أن يكون المراد من قوله: " إذا توضأ " حال الاشتغال بالوضوء
لا حال فراغه عنه، لإطلاق مثل الشرطية على مثل هذا المعنى في عرف العامة،
فنحمله على مجرد فراغه من غسل الوجه ونحمل الاجتزاء ببلته أنه لا يجب عليه
غسل تمام وجهه بسببه لا أنه لا يجب تحصيل الترتيب بينه وبين باقي أجزاء
العضو تبرعا، لأنه مخالف للإجماع المحصل كما ادعاه الماتن (قدس سره) في جواهره
ويقرره ما حكيناه عن الأستاذ - طاب ثراه - من دعوى اللاخلاف.
قوله (قدس سره): (ولو شك في فعل شيء من أفعال الوضوء قبل الفراغ منه
أتى بماشك فيه مراعيا للترتيب والموالاة وغيرهما مما يعتبر في
الوضوء) من ايجاد غسله ومسحه على الوجه المعتبر (ولا فرق بين الشروط
448

والشطور في ذلك والظن كالشك هنا ما لم يكن من دليل شرعي) الإتيان
بالمشكوك مع وقوع الشك في حال التلبس والاشتغال بالوضوء ما لم يكن
المشكوك الجزء الأخير هو المعروف من مذهب الأصحاب، بل عليه الإجماع عن
شارح الدروس وشارح المفاتيح الوحيد البهبهاني نقلا له عن جماعة، وعن كاشف
اللثام استظهاره، وعن المدارك نفي الخلاف فيه لأصالة عدم الإتيان، وعدم ارتفاع
الحدث، وعدم إباحة الدخول في الصلاة وغيرها من المشروطات بالطهارة،
ولصحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): " إذا كنت قاعدا على وضوئك فلم تدر
أغسلت ذراعيك أم لا فأعد عليهما وعلى جميع ما شككت أنك لم تغسله أو لم
تمسحه مما سمى الله ما دمت في حال الوضوء، فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه
وصرت في حال اخرى من صلاة أو غيرها فشككت في بعض ما سمى الله مما
أوجب الله عليك وضوء فلا شيء عليك فيه، فإن شككت في مسح رأسك فأصبت
في لحيتك بللا فامسح بها عليه وعلى ظهر قدميك، فإن لم تصب بللا فلا تنقض
الوضوء بالشك وامض في صلاتك وإن تيقنت أنك لم تتم وضوءك فأعد على
ما تركت يقينا حتى تأتي على الوضوء " (1).
وبجميع ما ذكر يخصص عموم ما دل على أن الشك في الشيء بعد محله
لا يعبأ به مثل صحيحة زرارة عن الصادق (عليه السلام): " إذا خرجت من شيء ثم دخلت
في غيره فشكك ليس بشيء " (2)، وصحيحة أبي بصير عنه (عليه السلام): " كل ما شككت
فيه مما مضى فأمضه كما هو " (3) فإنهما وأمثالهما يعمان الشك في شيء من
المركب مع الفراغ من المشكوك والدخول في غيره من أجزائه وإن كان هو تاليه
المتصل به. ولذا خص بعضهم صحيحة زرارة العامة بخصوص الصلاة، هذا لو قلنا
بمخالفة صحيحة زرارة الاولى لتلك العمومات عموما وخصوصا كما هو ظاهرهما

(1) الوسائل 1: 330 ب 42 من أبواب الوضوء، ح 1.
(2) الوسائل 5: 336 ب 23 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، ح 1.
(3) الوسائل 5: 336 ب 23 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، ح 3.
449

في بادئ النظر. وأما مع اتحادهما وعدم تخالفهما كما سيبين فلا حاجة إلى
ارتكاب التخصيص، هذا مضافا إلى ما قيل من احتمال اختصاص الصحيحة
الاولى بأفعال الصلاة.
نعم يبقى أن الأستاذ - طاب ثراه - عارض بين صحيح زرارة الوارد في
الوضوء وموثقة ابن أبي يعفور عنه (عليه السلام): " إذا شككت في شيء من الوضوء
ودخلت في غيره فشكك ليس بشيء، إنما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه "
باستظهار رجوع الضمير في كلمة " في غيره " إلى الشيء المشكوك. وقال - طاب
ثراه -: " لو لم نجعل الموثقة أخص منه فلا أقل من كون تعارضهما على وجه
التباين فيجب الرجوع إلى عموم صحيحتي زرارة وأبي بصير.
أقول: أولا: إنا نفهم من ملاحظة تمام الكلام رجوع الضمير إلى الوضوء دون
الشيء المشكوك ولا أقل من مساواة هذا الاحتمال لما ذكره - طاب ثراه - فتكون
الموثقة مجملة فنبينها بالصحيحة.
وثانيا: إن مقتضى القاعدة في تعارض المتباينين إعمال المرجحات، ومع
فقدها يكون المرجع العام الفوقاني ووجود المرجح للصحيح عليها واضح جلي
داخليا وخارجيا من صحة السند وصراحة الدلالة وموافقة الشهرة، فلا وجه
لتساقطهما وإعمال ما ورائهما.
ومنه ينقدح عدم المعارضة بين مفهوم الذيل ومنطوق الصدر كما ذكره - طاب
ثراه - لأن الشيء المدخول لكلمة " الحصر " لا يشمل أجزاءالوضوء بعد جعله
بتمامه شيئا واحدا كما يستفاد من صحيح زرارة، واستنبطه هو (قدس سره) وجعله وجها
لإلحاق الغسل بالوضوء.
فتبين أن حكم الوضوء بعد استنباط وحدته في نظر الشارع منطبق على
العمومات أيضا، ووجه مراعاة الترتيب والموالاة وغيرهما من الشروط عند
إعادة المشكوك واضح لشرطيتها فيه مطلقا، وكون الغسل أو المسح المأتي بهما
بعد الشك هو وظيفة هذا العضو المجعولة له شرعا كما لو اوجدا فيه من غير شك
فيعتبر فيهما حينئذ ما يعتبر فيهما ابتداء.
450

وأما تسوية الماتن (قدس سره) بين الشروط والشطور فهو مختار جماعة من
الأصحاب في مطلق الشروط قال في الدرة: والشك في الشرط نظير الشطر وكل
ما فيه ففيه يجري.
بل ادعي الإجماع في خصوص النية، وهو كذلك، لأنها تعد من أفعاله عرفا
وارجع بعض الموالاة والترتيب إلى الشك في الصحة، والشك في الصحة شك في
الفعل، لأن المطلق ايجاد الغسل والمسح الصحيحين.
وبالجملة محل التأمل هو الشروط الخارجة، كطهارة الماء وإطلاقه وطهارة
محل الغسل وأمثالها عند عدم إحرازها بأصل موضوعي جار فيه بالخصوص من
حيث استظهار الأجزاء من صحيح زرارة فتبقى الشروط تحت عموم: " إذا
شككت في شيء ودخلت في غيره فشكك ليس بشيء ".
ولكن الظاهر بعد جعل الوضوء أمرا واحدا الالتفات إلى الشك فيها إذا كان
فيه، ويشملها عموم قوله (عليه السلام) في الصحيحة: " وعلى جميع ما شككت "، وإن كان
ما ذكر متعلقا له هو الإجزاء فإنه إنما هو من باب المثال، ولأنها هي الغالب في
صيرورتها مشكوكا فيها، ولذا خصها بالذكر وعموم مفهوم قوله: " فإذا فرغت
وصرت في حال اخرى - إلى قوله: - فلا شيء عليك " فإن الذي لا شيء عليه عند
الشك فيه وهو خارج عن الوضوء هو الذي يعود اليه إذا شك فيه وهو في
حال الوضوء.
ويؤيده ما نسبه بعضهم إلى الأصحاب وجعله دليلا برأسه من أنهم يقولون
بعدم الالتفات إلى الشك في الشرط بعد الفراغ، والظاهر أن الذي لا يلتفت اليه
حينئذ هو الذي يلتفت اليه حال الاشتغال به، وموثقة ابن أبي يعفور بناء على
ما بيناه من عود الضمير في غيره فيها إلى الوضوء يظهر منها أن الحكم في الوضوء
من الالتفات حال التلبس منطبق على عمومات عدم الالتفات إلى المشكوك بعد
الدخول في غيره حيث فرع (عليه السلام) عدم الالتفات إلى تلك القاعدة فيعلم منه أن
الوضوء في نظر الشرع شيء واحد، إذ لولاه لا يتم التفريع.
451

وعليه فما بنينا عليه الأمر أولا من كون عدم الالتفات هو المطابق لتلك
القاعدة ورفع اليد عنها في خصوص الوضوء إنما هو لأجل الصحيحة يجعلها
مخصصة للعمومات في غير محله، ولذا تراهم يلحقون الغسل بالوضوء ويعمون
الحكم لمطلق الطهارة مع اختصاص دليل التخصيص بخصوص الوضوء، فلولا
فهمهم كون الوضوء شيئا واحدا وكون الحكم فيه على القاعدة لم يكن للالحاق
والتعميم وجه أصلا.
ولذا ترى الماتن (قدس سره) في جواهره تعجب من صاحب الرياض من اجرائه
حكم الوضوء في الغسل، وقال (قدس سره): " ولم أعثر على مثل ذلك لغيره " وجعل منشأ
التوهم له تعبير الأصحاب بلفظ " الطهارة " واستظهر هو (قدس سره) إرادة الوضوء منها
لذكرها في بابه، والتعجب لاحق به (قدس سره) بلحاظ أنه كيف لم يتفطن لوجه التعميم؟
وكيف نسب اللغو إلى الأصحاب من ذكرهم في باب الوضوء لفظا عاما مع إرادتهم
منه الخصوص من دون داع يدعوهم إلى ذلك.
فإذا عرفت ذلك فالأقوى هو الحاق الشرط بالجزء في الحكم المذكور
وما أبعد ما بين هذا القول وبين ما قيل من الحكم بالصحة بمعنى تحقق الشرط
حتى بالنسبة إلى الأفعال المستقبلة بتخيل أن إحراز طهارة الماء أو إطلاقه مثلا
محله قبل الشروع في الوضوء، فالشك فيه في أثناء الوضوء شك بعد تجاوز المحل
العادي فلا يعبأ به.
وفيه ما لا يخفى، إذ لم يثبت لإحراز الشروط محل لا شرعا ولا عرفا، وليس
معنى شرطية طهارة ماء الوضوء أو إطلاقه إلا ايجاد أفعاله غسلا ومسحا بالماء
الطاهر المطلق، فليس أمرا مغايرا حتى يفرض له محل، فافهم.
وأما إلحاق الظن بالشك مع عدم شموله له لغة فلدعوى إرادة عدم العلم منه
في الأخبار كما في غير موضع منها، ولأن الظن المشكوك الاعتبار بحكم الشك
عندهم كما هو ظاهر منهم، بل هو هو لأن العمل به عمل بالشك أي مشكوك
الجواز.
452

ثم إنه حكي عن سرائر الحلي استثناء كثير الشك عن هذا الحكم، وهذا هو
الذي نبه عليه الماتن بقوله: (وكثير الشك لا عبرة بشكه)، وهو المحكي عن
الشهيدين والمحقق الثاني وصاحب المدارك وشارح الجعفرية وكاشف اللثام،
وغيرهم من المتأخرين. والمراد به العمل بالاحتمال في مقام لا يحتمله غيره
سواء كان عنده راجحا أو مرجوحا أو مساويا، كما ذكره الأستاذ طاب ثراه.
واستدل عليه مضافا إلى الحرج بقوله (عليه السلام) في صحيح زرارة وأبي بصير:
" لا تعودوا الخبيث من أنفسكم نقض الصلاة فتطيعوه، فإن الشيطان خبيث معتاد
لما عود، فليمض أحدكم في الوهم ولا يكثرن نقض الصلاة فإنه إذا فعل ذلك
مرات لم يعد اليه الشك - ثم قال زرارة: - قال (عليه السلام): إنما يريد الخبيث أن يطاع فإذا
عصي لم يعد إلى أحدكم " (1). وبقوله (عليه السلام): " إذا كثر عليك السهو فامض على
صلاتك، فإنه يوشك أن يدعك فإنما ذلك من الشيطان " (2). وبصحيحة عبد الله بن
سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " ذكرت له رجلا مبتلى بالوضوء والصلاة وقلت له:
هو رجل عاقل، فقال (عليه السلام): وأي عقل له وهو يطيع الشيطان؟! فقلت له: وكيف يطيع
الشيطان؟ فقال: سله هذا الذي يأتيه من أي شيء هو؟ فإنه يقول لك: من عمل
الشيطان ". انتهى.
وهو كذلك، لعموم التعليلات المذكورة ولأنه هو الوسواس الذي ذكر الشيخ
الكبير في كشفه في المقصد الحادي عشر من المقام الثاني الذي جعله في جملة
من العبادات أن له مرتبة العيوب التي هي نفس خسران الدنيا والآخرة، أو هو
مقدمة لها أو شريك معها في العيبية والموبقية، وانجراره اليهما عند الاعتناء به
والعمل عليه مما لا خفاء فيه، فنعوذ بالله من مخائل الشيطان ومكائده.
قوله (قدس سره): (كما أنه لا عبرة به) أي بالشك (بعد الفراغ سواء تعلق
بشرط أو شطر) لما عرفته من عموم أخبار الباب من عدم الالتفات بعد الفراغ

(1) الوسائل 5: 329 ب 16 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، ح 1.
(2) الوسائل 5: 330 ب 16 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، ح 6.
453

لهما معا، ولعموم أخبار أن الشك الملتفت اليه هو ما إذا وقع الشك في الشيء
ولم تجزه.
وأما إذا شك فيه بعدما مضى فامضه كما مضى كقوله (عليه السلام): " كل شيء شك فيه
مما قد مضى فامضه كما هو " (1)، وقوله (عليه السلام): " كل ما يمضي من صلاتك وطهورك
فذكرته تذكرا فامضه كما هو " (2). ولحصره (عليه السلام) الشك الملتفت اليه بما وقع حال
الاشتغال في ذيل موثقة ابن أبي يعفور بقوله (عليه السلام): " إنما الشك في شيء لم
تجزه " (3). ولرواية بكير بن أعين في: " الرجل يشك بعد ما يتوضأ، قال (عليه السلام):
هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك " (4)، ففصل (عليه السلام) في الشك بين حالة الاشتغال
بالوضوء وبعدها، فبعد تحقق الفراغ منه لا يعبأ بالشك مطلقا كما هو معقد عموم
النص والفتوى.
قوله (قدس سره): (نعم يقوى في مثل تطهير ماء الوضوء ومحله من النجاسة
لو حصل الشك فيهما بعد الفراغ أنه يتطهر من النجاسة خاصة إذا أراد
الدخول في المشروط بذلك) وجه حكمه (قدس سره) بصحة الوضوء ما عرفته من
عموم أدلة عدم الالتفات إلى الشك بعد الفراغ، وهذا منه. وأما حكمه بلزوم التطهير
فلاستصحاب النجاسة المعلومة سابقا المشكوك رفعها اللازمة الرفع عن محل
يعتبر طهارته للصلاة وهو البدن. وهذا الحكم فيما إذا كان النجس محل الوضوء
واضح. وأما على نجاسة الماء فمبني على أن النجاسة المستصحبة يترتب عليها ما
يترتب على المعلومة من الحكم بنجاسة ما يلاقيها برطوبة مؤثرة.
أما الحكم بصحة الوضوء والحال هذه فوجهه ما أشرنا اليه عند التعرض
للشك في الشروط الخارجة من أنه يعمل بقاعدة الشك بعد الفراغ فيها لو لم يكن

(1) الوسائل 5: 336 ب 23 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، ح 3.
(2) الوسائل 1: 331 ب 42 من أبواب الوضوء، ح 6.
(3) الوسائل 1: 330 ب 42 من أبواب الوضوء، ح 2.
(4) الوسائل 1: 331 ب 42 من أبواب الوضوء، ح 7.
454

المشكوك بخصوصه مجرى لأصل موضوعي يخرجه عن المشكوكية ولو بحكم
الشرع، فإن الأصل الجاري فيه حينئذ حاكم على تلك القاعدة، لإخراجه
المشكوك عن المشكوكية، حيث إن القاعدة محلها ومجراها المشكوك، وبعد
خروج المحل عن المشكوكية، ويترتب عليه حكم المعلوم لأجل حكم الشهيد
بعدم الاعتناء بشكه وكونه ملغى في نظره، لقوله: " لا تنقض اليقين بالشك أبدا ".
وقد عمل بهذا الاستصحاب هو (قدس سره) حيث حكم بتطهير المحل وتطهير ملاقي
الماء، ومع عمله به أيضا لا وجه لتقديم القاعدة عليه، بل هو مقدم عليها على وجه
الحكومة، لزوال الشك حكما بعد جريان الاستصحاب، ولازمه بطلان وضوئه،
لكونه فاقدا لشرطه الذي هو طهارة الماء أو المحل فقدانا قد أتى إحرازه بحكم
الشهيد بالعمل باستصحاب النجاسة السابقة المتيقنة، ومن آثاره الشرعية عدم
جواز هذا الوضوء وعدم صحته شرعا، وإن كان حين الوضوء لم يكن
الاستصحاب جاريا لعدم الالتفات، ولكنه بعد الفراغ جار ولا يزاحمه القاعدة كما
لا يخفى، وحينئذ فالأقوى صحة الوضوء كما ذكر.
ومنه تعرف ما فيما علقه الأستاذ - طاب ثراه - هنا بقوله: " الأحوط في جميع
صور الشك في الشروط إعادة الوضوء "، فإن الشك في الشروط بعد الفراغ لو كان
ابتدائيا كما لو شك في أنه توضأ بماء طاهر أو نجس أو شك في نجاسة شيء من
أعضاء وضوئه لا ريب في أنه يعمل فيه بقاعدة الشك بعد الفراغ ويحكم بصحة
الوضوء فكذا فيما لو كان المحل من مجرى الاستصحاب على فرض الالتفات،
ولعله - طاب ثراه - لا يقول بجريانه عند عدم الالتفات. ولذا لم يحكم بالبطلان،
بل احتاط للخروج عن شبهة الخلاف سيما في الشروط الخارجية، فتأمل.
ولا يتوهم أن الصحة في الصورة الاولى يأتي من قبل الأصل الموضوعي
المثبت لطهارة المشكوكين - أعني الماء والمحل - عند الشك في نجاستهما.
لأ نا نثبت الصحة حتى مع سقوط ذلك الأصل، لمعارضته بمثله كما في
الإناءين عند شكه بعد الفراغ في أنه بأيهما توضأ مع علمه بنجاسة أحدهما حينئذ
455

بالخصوص وكالإناءين في الشبهة المحصورة إذا توضأ بأحدهما غفلة عند علمه
إجمالا بنجاسة أحدهما، ومثله صورة علمه إجمالا بنجاسة عضو من بدنه مردد
بين وجهه مثلا وقفا رأسه، فإنه قبل الوضوء لا يجوز له الاشتغال به حتى يطهر
وجهه، بناء على لزوم الاحتراز عن أطراف الشبهة المحصورة، فوجهه شرعا
بحكم النجس، فمع الالتفات لم يحرز طهارة محل وضوئه.
وأما بعد الفراغ منه فيجري فيه قاعدة الشك بعد الفراغ وإن وجب عليه حينئذ
تطهير كلا طرفي الشبهة من وجهه وقفا رأسه، لوجوب إزالة الخبث في الصلاة،
فوجوب غسل الوجه إنما جاءه حينئذ من باب المقدمة العلمية، وهو - أي
الوجوب المقدمي - مصحح لوضوئه مع الغفلة.
بقي هنا ما يستشكل فيه في بادئ النظر من حكم الماتن (قدس سره) بلزوم غسل
الأعضاء الملاقية لهذا الماء المشكوك تطهيره، مع أن استصحاب طهارتها جار
كاستصحاب نجاسة الماء، ولذا ترى أن المحقق القمي (رحمه الله) في قوانينه قد عمل
بالأصلين في مثل هذا الفرض، ولكن الأقوى في مثله العمل باستصحاب النجاسة
والحكم بنجاسة الملاقي، لأن تعارضهما من تعارض استصحاب المزيل والمزال،
فإن الشك في نجاسة الملاقي مسبب عن الشك في تطهير الماء، وزوال نجاسته،
وبعد الحكم بنجاسته بحكم الشارع من أجل الاستصحاب يزول الشك عن نجاسة
الملاقي لترتب جميع آثار النجاسة الشرعية على النجس المستصحب نجاسته،
ومن جملتها نجاسة الملاقي فلم يبق بعد شك حتى يجري استصحاب الطهارة.
قوله (قدس سره): (ويتحقق الفراغ برؤية المكلف نفسه مشغولا بغيره بعد أن
كان مشتغلا به) هذا هو الفراغ المحقق عرفا وشرعا، وهو مصب أخبار الباب
أيضا، والمقصود من اشتغاله بغيره صيرورته إلى حال اخرى غير حال الوضوء
كما ينبئ عنه قوله (عليه السلام) في ذيل الموثقة: " إنما الشك في شيء لم يجزه " (1).

(1) تقدمت في ص 455.
456

وقوله (عليه السلام): " كل شيء شك فيه مما قد مضى " (1). وقوله (عليه السلام): " هو حين يتوضأ
أذكر منه حين يشك " (2). وقوله (عليه السلام) في صحيح زرارة: " فإذا قمت من الوضوء
وفرغت منه " (3). وقوله (عليه السلام) في الصحيحة الاخرى له: " إذا خرجت من شيء
ودخلت في غيره " (4)، حيث اعتبر في جميعها صدق حال غير حال الوضوء في
عدم الالتفات إلى الشك.
وحينئذ فقوله (قدس سره): (وبسبق يقين الفراغ قبل حدوث الشك) لا وجه له
كما أشار اليه الأستاذ - طاب ثراه - بما علقه عليه بقوله - طاب ثراه -: " في
الاكتفاء بسبق يقين الفراغ نظر " لأن مرجعه إن كان ظاهر حال الفاعل، حيث إن
ظاهر حال المكلف أنه لا يعتقد استيفاء أفعال الوضوء إلا بعد تحقق ذلك في
الخارج، كما هو المحكي عن المفيد في المقنعة، وهو أيضا ظاهر ما نسبه ابن
إدريس إلى بعض الأصحاب في عبارته المحكية عنه بقوله: " قال بعض أصحابنا
في كتاب له: إنه ليس من العادة أن ينصرف الانسان من حال الوضوء إلا بعد
الفراغ من استيفائه على الكمال - ثم قال هو (قدس سره): - وهو غير واضح إلا أن يرجع
ويقول: إن انصرف من حال الطهارة وقد شك في شيء من ذلك لم يلتفت اليه،
ومضى على يقينه، قال: وهذا القول أوضح وأمتن في الاستدلال " انتهى.
فهو كما ذكره ابن إدريس غير واضح، لوضوح عدم الدليل على اعتبار هذا
الظهور الغير المفيد للظن الشخصي في جميع موارده، بل ولا النوعي، لأن السهو
والنسيان والغفلة أيضا كثير وقوعها من الشخص فلا يبقى بملاحظتها ما يفيد ظنا
بأن الشخص إذا كان مشغولا بفعل لا يدع شيئا منه ولا يشتغل بغيره حتى يكمله
ويفرغ عنه، ولذا قيل: إن السهو والنسيان كالطبيعة الثانية للانسان.

(1) الوسائل 5: 337 ب 23 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، ح 2.
(2) تقدم في ص 474.
(3) الوسائل 1: 330 ب 42 من أبواب الوضوء، ح 1.
(4) الوسائل 5: 336 ب 23 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، ح 1.
457

وإن كان إلى ما يستفاد من المحكي عن ابن إدريس أخيرا من تعليل قوله:
" لو كان العارض بعد فراغه وانصرافه عن مغتسله وموضعه لم يعتد بالشك، لأنه لم
يخرج من حال الطهارة إلا على يقين كمالها، وليس ينقض الشك اليقين "، انتهى.
ومن تأويله ما ذكره عن بعض الأصحاب الذي حكيناه عنه بقوله: " إلا أن
يرجع... الخ "، حيث إن ظاهره خصوصا في الأخير بقرينة المقابلة وعدم ارتضائه
العمل بهذا الظهور الناشئ من العادة، وتأويله إياه إلى قاعدة اليقين هو أن عدم
العبرة بالشك بعد اليقين إنما هو لأجل سبق اليقين لا لذلك الظهور.
وهو الذي نسبه الأستاذ - طاب ثراه - أيضا إلى غير واحد من الأعلام، وقال:
" إنهم تخيلوه قاعدة برأسها معتبرة وراء قاعدة الاستصحاب، وأنها نظيرها في
الاعتبار، فهو ساقط عن درجة الاعتبار، إذ لا يثبت من الأخبار إلا ترتيب آثار ما
تيقنه سابقا وشك في ارتفاعه بعد حدوثه. وأما ترتيب آثار نفس اليقين السابق
الزائل بالشك اللاحق قطعا فكلا "، وإن كان ببالي أني رأيت في القوانين أنه حكي
عن بعض الأصحاب أنه حمل قوله (عليه السلام): " لا تنقض اليقين بالشك " على لزوم ابقاء
صفة اليقين بمعنى ترتيب آثار هذا الاعتقاد الخاص، أعني صفة اليقين وعدم رفع
اليد عنها بهذا الشك الطارئ، وهو بمعزل عن التحقيق لما بين في محله من ظهور
الأخبار في البناء على بقاء المتيقن، وترتيب ما هو من آثاره لا آثار نفس اليقين،
فلم يبق لتلك القاعدة مستند حينئذ إلا قاعدة اليقين على ما أشرنا اليه، وعدم
اجدائها في المقام واضح، إذ لا وجه له إلا الظهور المذكور الذي عرفت ما فيه.
فرعان:
الأول: المدار في التجاوز عن المحل ما ذكرناه من صيرورته إلى حال
غير حال الوضوء لابقاء محل التدارك بعدم فوت الموالاة، لتحقق الفراغ عرفا
الذي هو معيار الحكم نصا وفتوى وإن لم يفت الموالاة.
الثاني: عدم الالتفات بالمشكوك لا يخص المتروك نسيانا، بل يعم الترك
458

العمدي أيضا، لإطلاق الروايات ولظهور قوله (عليه السلام): " هو حين يتوضأ أذكر "
في أن الذاكر لا يخل بواجبه الذي قصده ايجاده فيكون بمنزلة صغرى لتلك
الكبرى الكلية.
ودعوى انصراف الإطلاق إلى الاخلال لا عن عمد غير مسموعة، لأنه لو
سلم فهو بدوي غير مضر، بل ظاهر الكلام أن الذاكر الباني على أداء تكليفه
لا يتسامح في تحصيله ولا يخل بشيء منه يضر بامتثاله، لأن الاخلال سهوا ينافي
ذكره، وعمدا ينافي كونه في صدد الامتثال ولعله من أجلها استشكل فيه الأستاذ -
طاب ثراه - في طهارته بعد أن منع ادخال الاخلال العمدي من جهة قاعدة حمل
فعل المسلم على الصحة بمنع عموم القاعدة لفعل الشخص نفسه، لظهور أخبارها
في فعل غير الحامل كما هو قضية " ضع فعل أخيك " وعدم التلازم بين نفي الفساد
عنه وبين كونه امتثالا ومخرجا عن العهدة، إذ المراد بالأحسن المأمور حمل الفعل
عليه نفي المفاسد التي لا يسع المكلف شرعا ارتكابها، ولا يحسن منه تعاطيها
لا نفي المباحات وإثبات اجتماع الفعل لجميع ما يعتبر في صيرورته محلا للطلب،
والامتثال عند إرادة الشخص ايجاده في الخارج.
والاخلال بالوضوء يمكن أن يكون جائزا كما لو بدا له تأخير الوضوء في
سعة الوقت، وأنت خبير بأن هذا المعنى مرجعه إلى الغاء القاعدة عن الاعتبار في
أكثر مواردها المسلمة جريانها فيها، بل في موارد تنزيلها التي وردت أخبارها
فيها، مضافا إلى أن الترك العمدي لجزء عمل لم يعرض عن اتيانه الفاعل ولم يبن
على تأخيره إلى وقت آخر من المفاسد التي قد قبل هو طاب ثراه أنه لا يرتكبه
الفاعل.
ومنه تعرف أن تنظير المقام بمن بدا له في التأخير غير مرتبط بما نحن فيه،
لأن مفروض المسألة من كان بناؤه على الامتثال، وبعد فراغه عن العمل يشك في
أنه هل تعمد بترك شيء منه تعاندا، أو أتى به كلا من غير ترك شيء منه عنادا.
ومنه يظهر أنه عين الفساد، هذا.
459

مع أنه طاب ثراه رجح في اصوله حملها على الحسن الواقعي المساوق
للصحة مطلقا في كل عمل بحسبه كما عليه المشهور فليراجع، وهو الحق الحقيق
ومن الاخلال العمدي ما لو كان الاخلال على فرض وقوعه من جهة عدم المبالاة
كما لو علم أنه لم يعتن بتخلل الحائل الذي قد يمنع وصول الماء إلى البشرة وقد
لا يمنع، ولكن يشك في الوصول حينئذ من باب الاتفاق، وهذا هو الذي جعله
الأستاذ - طاب ثراه - أشكل من سابقه، وهو كذلك لمسلمية الانصراف الذي ادعي
في مورد السؤال هنا، وعدم جريان التعليل الذي هو قوله (عليه السلام): " حين يتوضأ أذكر "
فيه، ويتضح الحال فيه قريبا عند تعرض الماتن لمشكوك الحاجبية والحجبية.
قوله (قدس سره): (أما إذا لم يكن كذلك فلا فراغ) أي إذا لم يكن مشغولا بغير
الوضوء ولم يكن له يقين سابق على الشك فلا فراغ، ووجهه واضح، إذ لا سبيل
في أن يحسب فارغا عند العرف والعقلاء.
قوله (قدس سره): (ولا فرق بين الجزء الأخير وغيره فيما ذكرنا وإن كان
الأحوط تلافي الأخير مع الشك فيه إذا لم ينتقل عن محل الوضوء ولم
يطل فصل بطول الجلوس) وجه التعميم ما عرفته من عموم إطلاق الأخبار،
وعدم ما يصلح للتخصيص. وهذا الحكم بناء على ما اعتبرناه من توقف تحقق
الفراغ على صيرورته إلى حال اخرى غير حال الوضوء واضح.
فما عن كاشف اللثام من الفرق بين الجزء الأخير فيلتفت اليه وغيره فلا
يلتفت اليه إن كان مراده حتى في صورة تحقق الفراغ وصيرورته في حال اخرى
كما بيناه فهو في غير محله، لأ نا لا نعلم وجها للتفرقة وإن كنا لم نجد هذا التفصيل
في كشفه في الوضوء. نعم له كلام في الغسل لا يتحاشى عنه لما بينهما من الفرق.
وإن كان المراد صورة عدم رؤية نفسه مشتغلا بالوضوء وإن لم يتغير حاله،
بل ولم يحصل له يقين الفراغ آنا ما كما أصر عليه الماتن في جواهره بأنه المناط
وأن الفراغ متحقق به، وأن ذكر الدخول في الغير في الأخبار خارج مخرج الغالب،
فلا يلتفت اليه، والفراغ الذي مناط عدم الالتفات متحقق بهذا.
460

فالحق أنه يجب الالتفات لعدم إحراز تحقق الفراغ وإن لم نعتبر الدخول في
الغير، بل الحكم كذلك حتى مع سبق يقين الفراغ لما بيناه من أن اليقين عند تجرده
عن إحراز الفراغ بوجه آخر لا يترتب عليه شيء مع زواله بالشك وعدم ثبوته
حاله، وليس حال الجزء الأخير حال سائر الأجزاء كما أصر الماتن في التسوية
بينهما في جواهره، لأ نا لو اكتفينا بتحقق الفراغ ولم نعتبر الدخول في الغير
فالواجب أن يكتفى في عدم الالتفات إلى الجزء المشكوك بنفس الفراغ، وهو
يحرز فيما إذا حصل شكه حين الفراغ عن مسح الرجلين، لصدق وقوع الشك بعد
الفراغ بخلاف ما إذا كان المشكوك نفس هذا المسح، وهو لم ينتقل عن حال
وضوئه ولو بطول جلوس، فإنه لم يتحقق الفراغ، ولا أقل من أنه لم يحرز تحققه
فلا يصدق أنه شك في شيء جازه، وعليه فيجب عليه الإتيان به، وهذا هو مقصود
كاشف اللثام من قوله: " وعندي أن الانتقال وحكمه كطول الجلوس يعتبر في
الشك في آخر الأعضاء دون غيره "، انتهى.
وما قاله حق بناء على اعتبار نفس الفراغ، لعدم صدقه فيما لو كان المشكوك
الخبر الأخير ولم يحصل منه تغيير حالة ولو بطول المكث، بخلاف ما إذا كان
المشكوك غيره من الأجزاء السابقة فإنه لا يبعد دعوى الفراغ لو حصل الشك بعد
الإتيان بالجزء الأخير.
نعم يحسن دعوى التسوية بناء على ما اخترناه من إناطة عدم الالتفات
لصيرورته في حال اخرى غير حال الوضوء إما لعدم تحقق الفراغ إلا به كما هو
الظاهر، أو لمكان اعتباره في أخبار الباب بالخصوص.
فتبين أن تفصيل كاشف اللثام ليس بين الجزء الأخير وغيره، وإنما مرجعه إلى
كيفية احراز الفراغ الذي جعله مناطا للالتفات وعدم الالتفات، ولكن يمكن
التفصيل بلحاظ أن التأخير جائز ولو عمدا ما لم يفت به الموالاة، فإذا شك في
الجزء الأخير واحتمل أنه أخره عمدا فوجب عليه الالتفات ولو مع الانتقال عن
حال الوضوء، لانصراف أخبار الباب عن هذا الإخلال العمدي وعدم إمكان
461

إحراز المشكوك بقاعدة حمل فعل المسلم على الصحيح أيضا، لا لما ذكره - طاب
ثراه - من أن قاعدة الصحة لا تحرز الصحة، بل لأن مجراها بعد إحراز نفس الفعل
ووقوع الشك في صحته وفساده، وهنا لم يحرز تحقق الفعل أما في صورة عدم
إحراز الفراغ فواضح، وأما في صورة إحرازه مع فرض وقوع الشك في الاخلال
العمدي لكن بمقدار يجوز التأخير لهذا الجزء الأخير كما فرضه الأستاذ - طاب
ثراه - فلأن وجود الفعل غير محرز، أما نفس المشكوك فواضح، وأما الوضوء
فكذلك، إذ بعد دعوى انصراف الأخبار عن مثل الفرض يصير الوضوء أيضا غير
محرز التحقق فلا يكون مجرى لقاعدة الصحة، فلذا يجب إتيان المشكوك، ومن
تمام ما ذكر علم وجه الاحتياط الذي ذكره الماتن.
قوله (قدس سره): (وكذا لا عبرة بالشك في أصل وجود الحاجب عن وصول
الماء إلى البشرة) لأصالة عدمه المجمع عليها في كل حادث شك في حدوثه،
وادعى عليه الماتن في جواهره بالخصوص السيرة القطعية الكاشفة عن رأي
المعصوم، وأيده بخلو النصوص والفتاوى عن ذكره، مع أنه أولى الأشياء بأن
يسأل عنه ويتكلم فيه لمكان غلبة قذى العيون ودماء البراغيث والقملة في
الأبدان، وغير ذلك من الواردات. وحكي عليه الإجماع أيضا عن بعضهم، ولكن
الأقوى مع ذلك ما يفيده.
قوله (قدس سره): (وإن كان الأحوط البحث عنه حتى يطمئن خصوصا إذا كان
الاحتمال معتدا به ولم تكن مشقة) كما علقه عليه الأستاذ - طاب ثراه -
بقوله: " قد ذكرنا أن وجوب الفحص لا يخلو عن قوة إلا مع غلبة الظن بالعدم " لأن
الإجماع غير محقق والسيرة في جميع الصور غير مسلمة عن المعتنين بعملهم. نعم
هي مسلمة في الاحتمالات الضعيفة التي لا يعبأ بها العقلاء فهي في الحقيقة راجعة
إلى العمل بالظن، بل الاطمئنان لا الأصل كما هو المقصد، وأيضا الاصول العملية
العدمية يعمل عليها بلا فحص في الموضوعات التي لا يترتب عليها المخالفة
الكثيرية للأحكام الشرعية الواقعية، فيختص جريانها حينئذ بما إذا لم يكن
462

احتمال الوجود قويا في العادة كالجصاص والقيار وأمثالهما ممن يكون وجود
الحاجب فيهم أغلبيا بلحاظ شغلهم وعملهم.
مضافا إلى أن العمل بالأصل في المقام عمل بالأصل المثبت، لأن المطلق
ايصال الماء إلى البشرة ووصوله إليها بمجرد اسداله عليها مع احتمال وجود مانع
عنه غير محرز، وإحرازه بأصالة العدم إثبات للازم عادي يترتب عليه حكم
شرعي.
اللهم إلا أن يقال: إن تلك الواسطة ملغاة في نظر العرف، بل يرون الحكم
الشرعي وهو ايجاده الغسل الوضوئي الواجب عليه، وهو وصول الماء إلى البشرة
وتأثرها بإيراده عليها مترتبا على عدم الحاجب، ولا يلتفتون إلى أن المترتب
على هذا العدم هو ملاقاة الماء للبشرة، وهو لازم عادي، لعدم الحاجب، لأنه
حكم شرعي مترتب عليه.
ولا يخفى عليك أيضا تفاوت المقامات، لأن إلغاء الواسطة متوقف على عد
العرف هذا الحكم حكما للمستصحب نفسه لا لازمه، وهو لا يكون إلا مع كمال
خفاء الواسطة بحيث لا يرون بين الحكم والمستصحب واسطة، كما ادعي في
ملاقي النجس مع الرطوبة المؤثرة في أحدهما نجاسته مع وساطة التأثر بين
حصول النجاسة والملاقاة في الواقع قطعا. ولكن العرف لا يلتفتون اليه، ولذا حكم
الأصحاب بالنجاسة عند الملاقاة بتلك الرطوبة. فمن هنا تبين وجه الخصوصية
التي ذكرها الماتن (قدس سره) وعرفت أن وجوب الفحص معها أقوى.
قوله (قدس سره): (نعم لو كان الشك في حجبه بعد العلم بوجوده وجب
تحصيل اليقين بوصول الماء إلى البشرة كالمعلوم حجبه، فلو نسي مراعاته
ولم يذكر إلا بعد الفراغ فالأحوط الإعادة) بل هو الأقوى كما علقه عليه
الأستاذ - طاب ثراه - لأن العمل بأصالة عدم المانع عن وصول الماء في الفرض
عمل بالأصل المثبت المردود إجماعا، إذ من المعلوم أن استصحاب عدم ممنوعية
المحل الذي هو المتيقن السابق لا يثبت عدم مانعية هذا بوجه، لعدم كونه من آثاره
463

ولوازمه، مضافا إلى أن تيقن عدم ممنوعية المحل حال وجود هذا المشكوك
الحاجبية غير محرز، وقبل وجوده يكون من تغاير الموضوع فأين الاستصحاب
الصحيح؟
ومنه يتبين أردئية هذا الأصل بالنسبة إلى الأصل السابق، كما أنه لا يلتفت
إلى ما قيل فيه بأنه نظير الأمارات الكاشفة عن الواقع، بمعنى أنه معتبر بلحاظ
الكشف، لأنه هو مفاد كونه مأخوذا من العقل، فيترتب عليه كالأمارات جميع
الآثار من العادية والشرعية وجه عدم الالتفات ما بيناه في محله أنه خلاف
التحقيق وأن الحق انحصار المستند فيه في الأخبار خاصة لا العقل وحده ولا هو
مع الأخبار.
فإذن لا يترتب عليه إلا الآثار الشرعية المترتبة على المستصحب دون غيرها
وإن قلنا بأن له نظرا إلى الواقع، وليس بصرف التعبد كما في البراءة.
ويفصح عن مردوديته أيضا رواية ابن أبي العلاء المفيدة لعدم الاعتناء بذلك
الأصل أبدا الآتية إن شاء الله، وكذا صدر صحيحة علي بن جعفر (عليه السلام) المفيد للزوم
العلم بالوصول المروية عن أخيه (عليه السلام): " قال: سألته عن المرأة عليها السوار
والدملج في بعض ذراعها لا تدري يجري الماء تحته أم لا كيف تصنع إذا توضأت
أو اغتسلت؟ قال (عليه السلام): تحركه أو تنزعه حتى يدخل الماء تحته " (1) فإنه كالصريح
في عدم الاعتناء بهذا الأصل ولا يعارضه ذيلها: " وعن الخاتم الضيق لا يدري
يجري الماء تحته إذا توضأ أم لا، كيف يصنع؟ قال (عليه السلام): إذا علم أن الماء لا يدخله
فليخرجه إذا توضأ " (2)، الخبر لسوق الشرطية لبيان الموضوع، ولا مفهوم لها،
فكأنه (عليه السلام) قال: إذا كان ضيقا فليخرجه، لأنه مع هذا الصفة معلوم عدم جريان
الماء تحته، فأظهر (عليه السلام) بهذا التعبير غلط السائل في فرضه الشك مع الضيق، وأظهر
ثبوت التلازم بين العلم بعدم الدخول وبين صفة الضيق.

(1 و 2) الوسائل 1: 329 ب 41 من أبواب الوضوء، ح 1.
464

وليس هذا من تقييد إطلاق مفهوم الذيل ولا لكونه من تقديم المنطوق على
المفهوم، بل ملاحظتهما مجتمعين موجب لظهور المنطوق في هذا المعنى، مضافا
إلى أن العمل بهذا المفهوم إنما هو إلغاء لمنطوق الصدر رأسا، لكونه أجنبيا عن
السؤال حينئذ بعد إحالة جوابه على مفهوم الذيل، وهذا أفسد ولا يسع حمله على
الاستحباب أيضا، لعدم ملائمته لمساق السؤال من قوله: " كيف تصنع؟ " الظاهر في
السؤال عما يجب عليها لا فيما يستحب لها، فافهم.
نعم هنا كلام للاستاذ في طهارته يظهر منه أن الشك في الحجب مآله إلى
الشك في الحاجب، لأنه مع اللصوق التام يحصل الحجب قطعا، أو لصوق جسم
بجسم لصوقا تاما مانع عن تحلل جسم آخر بينهما، وهو كذلك بحكم العقل،
فيكون الشك في الحجب شكا في وجود حاجب بالفعل، هذا.
ولكنه من دقائق مسائل الحكمة فلا يعبأ به في العرفيات في جميع الموارد،
والفرق بين الشكين في العرف واضح لاسترة عليه، لأن الأجسام الضعيفة الرقيقة
يرون لها كمال الاتصال واللصوق بالبشرة، ومع هذا يحكمون بأنها غير مانعة عن
وصول الماء إلى البشرة لرقته، ويحكمون بتخلل الماء بينهما، فالمناط في هذه
المقامات هو حكم العرف، وأين هذا من الشك في أصل الحاجب؟ وكيف يكون
مآل الشك في الحجب إلى الشك في الحاجب؟
نعم يبقى أن العمل بالأصل هنا غير صحيح، لما تقدم. واختصاص دعوى
الإجماع والسيرة بالمسألة الاولى دونها أيضا مسلم، فلذا يجب التحريك أو النزع.
قوله (قدس سره): (ولو كان الشك بعد الفراغ في ايصال الماء تحته وعدمه لم
يلتفت) هذا الحكم كما ذكره (قدس سره) حق لو كان الشك في الايصال كما هو ظاهر
العبارة، ولكنه ليس كذلك، لأن مراده أعم من الوصول والايصال، فإنه (قدس سره) ذكره
استدراكا لمسألة الشك في الحجب، فكأنه استثنى من حكمه بوجوب تحصيل
اليقين في صورة حصول الشك في الحاجبية صورة حصول ذلك الشك بعد الفراغ
عن الوضوء مطلقا بزعم أن قاعدة الفراغ محكمة فيه.
465

وفيه أنه من مجرى العمل بالشك الساري، لأن شكه هذا إنما هو بلحاظ أنه
شاك في حجب الموجود، وليس من جهة أنه لا يعلم حاله في حال الوضوء أنه
خلله أم لا، بل يعلم بأنه لم يقع منه تخليل وإنما شك حينئذ في الوصول وعدمه
لشكه في كون الموجود حاجبا تاما فمنع، أم لا فلم يمنع. فالواجب عليه معه
إعمال ما يجري في الشك في الحجب، وليس المورد من مجاري قاعدة الشك بعد
الفراغ، لاختصاصها بحدوث الشك بعد العمل من جهة عدم التفاته وعدم تفطنه
حينئذ بكيفية عمله وكيفية سلوكه حال تلبسه بالعمل لا مع العلم بعدم الاستثناء،
فالأقوى حينئذ الإعادة كصورة نسيانه. نعم لو كان شكه في المراعاة وعدمها
فالأقوى ما ذكره (قدس سره)، لكونه من مجرى القاعدة حينئذ.
ويمكن أن يقال بالصحة ويعمل بالقاعدة وإن كان الشك ناشئا من حجب
الموجود مع علمه بعدم المراعاة أيضا، لرواية حسين بن أبي العلاء، عن أبي
عبد الله (عليه السلام) قال: " سألته عن الخاتم إذا اغتسلت، قال: حوله من مكانه، وقال:
في الوضوء تديره فإن نسيت حتى تقوم في الصلاة فلا آمرك أن تعيد الصلاة " (1)
بأن نجعلها من أدلة القاعدة ونعممها ونجريها حتى في مثل هذا الشك.
ولكنه غير سديد، لأنها غير ناهضة لإثبات مثل تلك القاعدة، لضعفها،
على أنه (قدس سره) لم يعمل بها في موردها من صورة النسيان فكيف في غيره؟!
قوله (قدس سره): (بل المتجه ذلك أيضا في المعلوم حجبه إذا كان كذلك) يعني
حصل الشك بعد الفراغ (فضلا عنه) أي عن مشكوك الحاجبية، وهذا قرينة
على أن المراد في المسألة الاولى الشك الناشئ عن عدم تذكره بما فعل حال
التلبس لا الناشئ عن الشك في الحجب مع علمه بعدم التخلل. ويؤيده عدم
تعرض الشيخ الأستاذ - طاب ثراه - له، وكذا السيد الأستاذ - دام علاه - له مع
كمال توغلهما في مراعاة جانب الاحتياط، ومنه الفرض لو أغمض عن أن

(1) الوسائل 1: 329 باب 41 من أبواب الوضوء، ح 2.
466

فتواهما فيه الإعادة كما هو واضح من مشيهما في مسائل الباب، وعليه فالأقوى
في المسألتين الصحة للقاعدة.
ولكن هذا الحمل مخالف لما قواه في جواهره فإنه قوى العمل بالقاعدة ثمة
في صورة النسيان الذي هو عين الشك الساري أيضا، اللهم إلا أن يجعل ذكر
النسيان هنا على حدة قرينة على إرادة ما ذكرناه من الشك الذي هو مجرى
للقاعدة لا الشك الساري. وكيف كان فالتفصيل متجه كما بيناه.
قوله (قدس سره): (وكذا الحال في الحاجب الذي شك بعد الفراغ في سبقه على
الوضوء وتأخره إلا إذا علم تاريخه وشك في تاريخ الوضوء فإن الأحوط
إعادته، كما أن الأحوط ذلك فيما لو شك بعد الفراغ أيضا في صفة
الحجب وعدمها، بحيث لو كان متنبها قبل الوضوء لكان شاكا، والله
أعلم) قد علق علية الشيخ الأستاذ - طاب ثراه - بقوله: " في التفصيل نظر، وفي
المسألة إشكال، فالاحتياط لا يترك في جميع صور الشك في التاريخ " فان أراد
نفي الفرق بين مسألة الحاجب والحجب على التقريب الذي أسلفناه منه - طاب
ثراه - بارجاع الشك في الحجب إلى الشك في الحاجب من جهة أن تلاصق
الجسمين تلاصقا تاما يمنع عن تخلل جسم آخر بينهما.
فالأقوى ثبوت الفرق بينهما كما قدمناه سيما هنا، فإن قاعدة الفراغ لا تثبت
تأخر المانع المحقق وجوده عن الوضوء، بل لا معنى للتمسك بها في مثل هذا
الشك الخارجي غير المرتبط بعمل المتوضي لما وضح لك من اختصاصها بما
يكون منشأ الشك غفلة الفاعل عن حاله حال العمل فإنه الظاهر من الأخبار،
فالعمدة في تقوية الماتن (قدس سره) عدم الإعادة في مسألة الحاجب اعتماده على أصالة
تأخر الحادث معتضدا إياها بالقاعدة.
ولذا تراه احتاط في صورة معلومية تاريخ الحاجب ومشكوكية الوضوء
حيث إن القاعدة تقتضي صحة الوضوء، والأصل يقتضي تأخره عن المانع
المستلزم لفساده، ولأجل ما ذكرناه من ضعف جعل هذا المورد مجرى للقاعدة
467

وان احتمل جريانها فيه، ومن محققية كونه مجرى الأصل المذكور جعل (قدس سره)
الإعادة فيه أحوط.
وأما في مسألة الحجب فالأمر منحصر في جعلها مجرى القاعدة لعدم جريان
الأصل فيها من جهة العلم بوجود ما شك في حجبه سابقا، والقاعدة قد عرفت عدم
الاعتداد بها في الشك الساري، لما بيناه. فلذا لم يقو هنا الصحة، وهذا أيضا قرينة
اخرى على مسألتنا المتقدمة تدل على أنه لم يكن مراده (قدس سره) بالشك فيها الشك
الساري، ووجه عدم افتائه بالإعادة ما ذكرناه من تقويته في جواهره العمل
بالقاعدة في الشك الساري أيضا، لكونه حاصلا بعد الفراغ. وقد عرفت أن حدوثه
بعده لا يصيره من مصاديقها، بل يلاحظ زمان الشك بلحاظ متعلقه، ومن المعلوم
أن الشك في حجب الموجود حال الوضوء شك قبل الفراغ، غاية ما هناك غفلة
المتوضي عنه، وهذا غير مجد كما لو غفل عن الحاجب المعلوم حجبه.
وإن أراد - طاب ثراه - نفي الفرق بين صور العلم بالتاريخ والجهل به كما
يومئ اليه قوله - طاب ثراه - أخيرا في جميع صور الشك في التاريخ فهو حق
على ما يراه هو - طاب ثراه - وهو الحق أيضا من أن أصالة تأخر الحادث لا يثبت
بها صفة التأخر لمجراها واقعا حتى يترتب عليه ما كان يترتب على هذا الشيء
بوصف التأخر، وإنما المسلم من هذا الأصل نفي ما يترتب على هذا الحادث
بوصف التقدم، فمعنى أصالة تأخر الحادث هو أن الأصل عدم تقدمه فلا يسعك أن
ترتب عليه ما يترتب على حدوثه مقدما لا أنه يترتب عليه بهذا الأصل ما كان
يترتب على حدوثه متأخرا، وحينئذ فلا ينفى به صفة المقارنة وهي هنا أيضا
مضرة كما لا يخفى.
ولكن على ما يراه الماتن (قدس سره) تبعا لكثير من اثبات هذا الأصل لمجراه صفة
التأخر، فالفرق بين الصور أيضا لائح، ولكن الأقوى ما عرفت. وتبين لك أيضا
من مطاوي هذه الكلمات تحقيق الحق في المقام ودليله فلا نطيل بذكره ثانيا.
468

قوله (قدس سره):
(المبحث الخامس)
(فيما يجب الوضوء خاصة منه) أي وحده بلا غسل منه (وما
يستحب) تعبيره عن أسباب الوضوء بنفس الحكم التكليفي كأنه للإشارة إلى نفي
الحكم الوضعي مطلقا، أو في خصوص ما كان من قبيل السببية والشرطية وأمثالهما
من الامور الانتزاعية، ومعنى نفي ما عدا الحكم التكليفي نفي الأحكام الوضعية
المجعولة من قبل الشارع بجعل مستقل لا نفيه مطلقا ولو تبعا أو كان أمرا معنويا
ثابتا في الخارج، ففي نجاسة الأعيان النجسة النافي أيضا ينفي الحكم الوضعي،
ولكنه يثبت معنى واقعيا من القذارة النفس الآمرية، ولكنه لا ربط له بجعل الشرع،
وبالجملة فلتحقيق ثبوته وعدمه محل آخر لا يناسب التعرض له في هذا المختصر.
قوله (قدس سره): (يجب بخروج البول وما في حكمه كالبلل المشتبه قبل
الاستبراء) سببية خروج البول في الجملة للوضوء مما لا شبهة فيها بإجماع
النص والفتوى، وأما البلل المشتبه فكذلك وقد تقدم.
قوله (قدس سره): (وخروج مسمى الغائط) وهو مثل البول أيضا والتفصيل فيهما
ما يذكره (قدس سره).
قوله (قدس سره): (ولو بمصاحبة دود أو حصى من الموضع المعتاد أصلا وإن
لم يكن في الموضع المعتاد لغالب الناس، بل وإن لم يعتد الخروج منه
على إشكال أقواه ذلك، أو صار معتادا عارضا ولو جرحا، انسد الطبيعي
أو لا) المواضع التي يتصور الإشكال فيها سبعة حاصلة من ضرب حالتي
الخروج على حسب المعتاد وغير المعتاد في المواضع الأربعة من الموضع المعتاد
أصلا نوعا وشخصا، والمعتاد أصلا شخصا لا نوعا، والمعتاد عرضا، وغير المعتاد
رأسا باستثناء صورة واحدة من الثمانية التي تقدمت وهو الخروج المعتاد من
الموضع المعتاد أصلا نوعا وشخصا، والباقية قابلة للإشكال.
469

وإن كان بعضها خال عنه عند القوم اثنان منها: الخروج عن الموضع الغير
المعتاد بقسميه من الخروج المعتاد وغيره اللذين أشار اليهما بقوله: (وإن كان
الأحوط الوضوء بخروجه من غير المعتاد إذا كان تحت المعدة بل مطلقا)
يعني سواء كان فوقها أم تحتها، وسواء خرج على الوجه المعتاد أم غيره بقرينة
قوله: (خصوصا إذا كان قد خرج على حسب الخروج المعتاد) الذي علق
عليه الأستاذ - طاب ثراه - بقوله: " هذا هو الأقوى "، وبقرينة قوله: (وخصوصا
إذا كان من ثقب في الإحليل أو تحت الأنثيين ونحو ذلك).
وجه الاحتياط إذا لم يصادمه احتياط آخر واضح. أما لزومه في جميع
الصور فلا، بل الأقوى عدم ايجابه بهما الوضوء وعدم نقضهما إياه إذا خرجا عن
الجرح لا بدفع الطبيعة لهما، ولا لكون منفذ ثقب الجرح إلى مجمعهما في الباطن
من المثانة والمعدة، بل إنما خرجا منه قسرا كعصر الشخص ونحوه سيما إذا كان
الجرح فوق المعدة وخصوصا فيما خرج الغائط بآلة كطعنة ونحوها مثلا كما رماه
بسهم فوقع في بطنه وخرج ملطخا بالغائط من قفاه أو طعنه بالرمح كذلك فلما
جذبه كان رأسه ملطخا به، لعدم شمول الإطلاقات لمثلها.
نعم لو صار الخروج منه معتادا له وخرجا منه لا بدفع الطبيعة، بل لضعف قوة
الاستمساك يكون بحكم الخارج بالدفع الطبيعي، وبالجملة الخارج من الجرح من
الحدثين بلا اعتياد ولا بدفع طبيعي وما بحكمه غير موجب للوضوء ولا ناقض له،
لما ذكرناه وفاقا لظاهر المختلف في عد موجبات الوضوء من قوله: " البول
والغائط والريح من المعتاد وغيره مع اعتياده " انتهى.
وصريح شارحه المحقق الثاني في شرح العبارة " فلو خرج أحد الثلاثة من
غير الطبيعي قبل اعتياده فلا نقض ومنه كل من قبلي المشكل " بضميمة قوله:
" وينبغي أن يراد بالخروج الخروج المتعارف وهو خروج الخارج بنفسه منفصلا
عن حد الباطن " انتهى. ومقصوده من القيد الأخير كما ذكره هو الاحتراز عما
يخرج بخروج مقعدة أهل البواسير ثم يرد بردها.
470

وظاهر كشف اللثام بعد قول المصنف: ومن غيره مع اعتياده من قوله:
" والمحكم في الاعتياد العرف " انتهى. كما هو ظاهر ماتنه أيضا. وظاهر المدارك
بعد قول المصنف: " وكذا لو خرج الحدث من جرح ثم صار معتادا " حيث قال:
" والمرجع في الاعتياد إلى العرف، لأنه المحكم في مثله، وتحديده بالمرتين
تخمين " انتهى.
كما هو ظاهر ماتنه من العبارة أيضا، وظاهر ثاني الشهيدين في الروضة من
قوله: " أو من غيره - أي غير المعتاد - مع انسداده " أي المعتاد، بل هو مذهب كل
من سلك مسلك هؤلاء ممن اشترط في ناقضية الخارج من غير الموضع المعتاد
سد المعتاد تمحلا منه لإدخاله إياه بتلك الحيلة في قوله (عليه السلام): " ذلك مما أنعم الله
عليك " لصيرورته حينئذ به - أي بالاعتياد - مخرجا وممرا لدفع ذلك الفضول، كما
نسب إلى المشهور عدم ناقضية ما خرج عن غير الموضع الخلقي مع عدم انسداد
الخلقي وعدم اعتياد الخروج من هذا الغير، هذا حكم أحد القسمين من غير
المعتاد.
وأما القسم الآخر منه وهو ما اعتيد الخروج منه وكان الخروج أيضا على
حسب الخروج المعتاد يعني كان بدفع من الطبيعة أو ما في حكم الدفع الطبيعي،
فالأقوى فيه ما قواه الأستاذ - طاب ثراه - بما علقه على المتن هناك من كون
الخارج كذلك حدثا موجبا وناقضا وفاقا للمبسوط فيما لو كان المخرج دون
المعدة وللمحكي عن القاضي والحلي والتذكرة.
بل هو ظاهر كل من العبارات المتقدمة مزيدا في بعضها كعبارة اللمعة وما
ضاهاها قيد السد لكن في خصوص ما صار معتادا وفاقا للماتن والأستاذين
- طاب ثراهما - وصريح المحكي عن الحلي والتذكرة وظاهر المطلقين حتى
في ما فوق المعدة.
خلافا لمحكي القاضي وصريح المبسوط في الخارج عن ثقب فوق المعدة
استنادا إلى منع تسمية الخارج عن الفوق غائطا، الظاهر في إنه لا خلاف بينهم
471

في ناقضية مطلق الغائط من غير اعتبار الاعتياد، لكنهما منعا صدقه على ذلك
الخارج من فوق ولعلهما يدخلانه في القيء أو يقولان بإحالة خروج المحلل من
المأكول والمشروب من الفوق.
وأيا ما كان ففيه مع ما في منع الصدق وعدم التسمية أن كلام القوم إنما هو بعد
الصدق، لعموم قوله تعالى: " أو جاء أحد منكم من الغائط " (1) وقوله (عليه السلام) في رواية
زكريا بن آدم: " إنما ينقض الوضوء ثلاث البول والغائط والريح " (2). وفي رواية
فضل بن شاذان: " لا ينقض الوضوء إلا بول أو غائط أو ريح أو جنابة " (3) بعد
انصباب الحصر فيهما على الإضافي كما هو الظاهر منهما لسوقه لاخراج مثل
ما ذكر في صحيح أبي نصر المروي عن أبي عبد الله قال: " سألته عن القيء
والحجامة وكل دم سائل، فقال: ليس في هذا وضوء إنما الوضوء عن طرفيك
اللذين أنعم الله بهما عليك " (4).
وبهذا الصحيح يتضح عدم قابلية المقيدات لتقييد المطلقات كصحيح زرارة:
" قلت لأبي جعفر (عليه السلام) وأبي عبد الله (عليه السلام): ما ينقض الوضوء؟ فقالا: ما يخرج من
طرفيك الأسفلين من الذكر والدبر من الغائط والبول أو مني أو ريح، والنوم حتى
يذهب العقل " (5). وكما في صحيحة اخرى لزرارة: " لا ينقض الوضوء إلا ما خرج
من طرفيك، أو النوم " (6). وكموثقة أديم بن الحر سمع أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " ليس
ينقض الوضوء إلا ما خرج من طرفيك الأسفلين اللذين أنعم الله عليك بهما " (7).

(1) المائدة: 6.
(2) الوسائل 1: 178 ب 2 من أبواب نواقض الوضوء، ح 6.
(3) الوسائل 1: 179 ب 2 من أبواب نواقض الوضوء، ح 8.
(4) الوسائل 1: 189 ب 7 من أبواب نواقض الوضوء، ح 10، وفيه الرعاف بدل القيء.
(5) الوسائل 1: 177 ب 2 من أبواب نواقض الوضوء، ح 2.
(6) الوسائل 1: 177 ب 2 من أبواب نواقض الوضوء، ح 1.
(7) الوسائل 1: 177 ب 2 من أبواب نواقض الوضوء، ح 3.
472

وكصحيح ابن بزيع عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) في حديث طويل قال: قال أبو
جعفر (عليه السلام): " لا ينقض الوضوء إلا ما خرج من طرفيك اللذين جعل الله لك "،
أو قال: " أنعم الله بهما عليك " (1). وغير ذلك من المقيدات، لأنها منصبة على
الغالب المتعارف، ولم تسق لحصر الحدثين بالخارج من السبيلين الخلقيين
أصالة، لوضوح عدم حصر الناقض من الأحداث الثلاثة بخصوص الخارج عن
الموضع الخلقي المتعارف، لمسلمية ناقضية غيره أيضا في الجملة.
ومنه يتضح وجه فساد دعوى الانصراف في المطلقات فإنه ناش عن انس
الذهن بالفرد المتعارف، ولا شك في عدم اعتباره، مع أنه لو بنى على الأخذ بمثل
هذا الانصراف لم يسلم دليل للفقه أبدا، إذ جل قواعدها لو لم نقل كلها مبتنية على
المطلقات، وما من مطلق إلا وله منصرف في العرف لانس الذهن ببعض أفراده،
فالمطلق المسوق لإعطاء القاعدة كما في المقام يؤخذ بإطلاقه إلا إذا علم اتكال
المتكلم إلى ذلك الانصراف في إرادة المقيد من المطلق بحيث ينسب أهل العرف
العامل بإطلاقه إلى الغفلة عن طريق المحاورة وأنى لهم بإثباته في المقام!
ومما يفصح عن عدم خصوصية للأسفلين ذيل العلل المروي عن فقه الرضا
في ما حكم به بقوله (عليه السلام): " لا تغسل ثوبك إلا مما يجب عليك في خروجه إعادة
الوضوء " (2) في الحسن كالصحيح عن علل الفضل عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام):
" إنما وجب الوضوء مما يخرج عن الطرفين خاصة، ومن النوم دون سائر الأشياء،
لأن الطرفين هما طريق النجاسة، وليس للانسان طريق يصيبه النجاسة من نفسه
إلا منهما فامروا بالطهارة عندما يصيبهم تلك من أنفسهم " (3) فإنه صريح في أن
سبب وجوب الطهارة هو إصابة النجاسة المخصوصة من أنفسهم وأنه لو كان
لها مخرج غيرهما لما خصصت بهما، فبين (عليه السلام) وجه التقييد في الأخبار وأن

(1) الوسائل 1: 179 باب 2 من أبواب نواقض الوضوء، ح 9.
(2) فقه الرضا: ص 67.
(3) علل الشرائع: ص 257، الوسائل 1: 178 باب 2 من أبواب نواقض الوضوء، ح 7.
473

المقيدات لم تسق لإفادة الخصوصية.
ومن بيان الحال في ذلك القسم يتضح الحال في الأقسام الخمسة الباقية
أما في قسمين منها: وهما المخرجان المعتادان أصلا شخصيا أو عرضا مع كون
الخروج أيضا معتادا، فلا ينبغي الإشكال في الحكم بالنقض والايجاب فيهما
خصوصا مع انسداد الأصلي في العرضي، كما في المدارك دعوى وفاقهم على
الأول مع إلحاقه (قدس سره) العرضي به مع انسداد المعتاد، والماتن في جواهره لا يجد
في الأول خلافا، وحكى اجماع المنتهى عليه، بل جعل (قدس سره) العرضي أيضا داخلا
تحت الإجماعين. ويؤيده ما ذكره الأستاذ - طاب ثراه - من أنه المعروف، بل لم
يحك الخلاف فيه إلا عن شارح الدروس مع تقوية له من سيد الرياض، وقد
عرفت أن الاطلاقات آية ورواية محكمة فيهما.
وأن دعوى الانصراف فيها عنهما في غير محلها بعد صيرورة كل منهما
مخرجا عاديا معتبرا عرفيا فضلا عن كون الأول خلقيا، بل الثاني أيضا ولو ثانويا
مع فرض انسداد الأصلي وانحصار المخرج به، بل ومع عدم الانسداد أيضا كما
هو معنى المعتادية المفروضة فيدخل تحت قوله (عليه السلام): " أنعم الله بهما عليك " في
صحيح ابن بزيع وموثقة أديم (1)، كما عن الذكرى التمسك به على الحكم فيهما،
هذا مضافا إلى ذيل رواية العلل كما عرفت من وضوح دلالته عليه، فما عن
الحدائق من عدم ناقضية ما خرج عنهما لمنعه الإجماع في غير محله.
وأما الثلاث الصور الباقية وهو الخروج الغير المعتاد من المخارج الثلاث
المعتادات، وهن الأصليان نوعا وشخصا، وشخصا وحده، والعرضي المعتاد،
فلا إشكال كأنه عندهم في أولها وهو المخرج عن المخرج النوعي الطبيعي كما هو
مشمول الروايات الكثيرة التي ادعيت تواترها، بل ادعى الأستاذ - طاب ثراه - أن
ظاهر إطلاق الأخبار ومعاقد الإجماع وأكثر العبائر وصريح بعض عدم اعتبار

(1) الوسائل 1: 179 باب 2 من أبواب الوضوء، ح 9.
474

الاعتياد الشخصي في المعتاد النوعي. ونقل - طاب ثراه - عن الحدائق نفي
الخلاف فيه، وعن شارح الدروس دعوى الإجماع عليه صريحا، وعن الرياض
حكايته عن الفاضلين.
ويؤيده ما أفتى به كثير من ناقضية ما خرج بمصاحبة دود أو حصى كما
هو المصرح به في روايات الباب من قبيل موثقة عمار بن موسى، عن أبي
عبد الله (عليه السلام) قال: " سأل عن الرجل يكون في صلاته فيخرج منه حب القرع كيف
يصنع؟ قال: إن كان خرج نظيفا من العذرة فليس عليه شيء ولم ينقض وضوءه،
وإن خرج متلطخا بالعذرة فعليه أن يعيد الوضوء، وإن كان في صلاته قطع الصلاة
وأعاد الوضوء والصلاة " (1).
وبعد ما عرفت لا ينبغي الإشكال في المخرج كذلك عن المخرجين الآخرين
وهما الخلقي الشخصي على خلاف النوع والعرضي المعتاد عند انحصار المخرج
بهما، وأما مع وجود غيره فظاهر جمع، بل صريح جماعة اعتبار الاعتياد في نفس
الخروج في المخرج العارضي، ولا وجه له إلا دعوى الانصراف في الإطلاقات،
ومع تسليمه يجب القول بمقتضاه في صورة الانحصار، وفي الطبيعي النوعي.
ولا أراهم يلتزمون به في النوعي مطلقا حتى مع وجود غيره، بل تراهم متسالمين
على النقض بما خرج منه مطلقا خصوصا في صورة انحصار المخرج به.
بل لا يبعد نسبة هذا الحكم إليهم في الخلقي الشخصي عند انحصاره لو لم
ننسبه إليهم مع الانحصار مطلقا ولو في العرضي، ومع قبوله في النوعي يجب
التعدي إلى الآخرين أيضا، إذ لا وجه له إلا الإطلاقات بعد منع الانصراف فيها إلى
الخروج المعتاد سيما لو عمم الخروج الغير المعتاد إلى ما يخرج بعصرة شديدة
أو وطي بطنه بالرجل مثلا، أو بشيء ثقيل وطيا وتثقيلا فوق العادة، ولم يدع أنه
خروج معتاد ولو في تلك الحال كما رأى في الناس من عادته الضرطة بعصر بطنه
وجنبيه فإن دعوى انصراف المطلقات عن مثله ممنوعة أشد المنع ممن لم يتعسف.

(1) الوسائل 1: 184 باب 5 من أبواب نواقض الوضوء، ح 5.
475

وكيف كان الأقوى ما عرفت من شمول المطلقات لمثله بعد منع الانصراف
المدعى ومن دلالة ذيل العلل أيضا عليه.
فرع: لو أدخل هو أو غيره إصبعا أو عودا أو ما يشبههما في أحد المخارج
الثلاثة المذكورة، فإذا أخرجه كان متلطخا بالغائط لا يوجب وضوءا ولا نقضا،
لانصراف المطلقات ومعاقد الإجماع عن مثله، وبه صرح الماتن في جواهره،
بل يمنع دخوله تحت مصداق الخروج الغير المعتاد أيضا، وليس هذا مثل ما لو
عالج في الاخراج فأخرجه بإعانة آلة فإنه بمنزلة خروجه بنفسه بمصاحبة غيره
كما أسلفناه، فافهم.
قوله (قدس سره): (وكذا يجب بخروج الريح من الموضع المعتاد المزبور على
حسب ما عرفته) يعني عرفت الموضع المعتاد لا الخروج المعتاد، إذ ليس لها
بعد صدق أحد الاسمين عليها معتادة وغير معتادة حتى يشير اليه، ومراده هنا
الإشارة إلى تعميم الحكم للريح الخارجة من المواضع المعتادة الثلاثة وحكمها
بعد خروجها من موضعها حكم صاحبتهما بلا خلاف فيه، إلا أنه يعتبر مع ذلك
صدق اسم الفسوة والضرطة عليها، لصحيحة زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام):
" لا يوجب الوضوء إلا من الغائط أو بول أو ضرطة تسمع صوتها أو فسوة تجد
ريحها " (1). وغيرها من المستفيضة المطلقة.
والتقييد فيها بالوصفين من سماع الصوت ووجدان الريح وارد على الغالب
فلا يوجب تقييد المطلقات من الأخبار ومعاقد الاجماع على أنه جيء به لدفع
الوسوسة التي اشير إليها في الأخبار من أن الشيطان ينفخ في دبر الانسان حتى
يتخيل أنه قد خرج منه ريح كما في رواية معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام):
" إن الشيطان ينفخ في دبر الانسان حتى يخيل اليه أنه قد خرج منه الريح فلا ينقض
وضوءه إلا ريح يسمعها أو يجد ريحها " (2). ويفصح عنه خبر علي بن جعفر (عليه السلام)

(1) الوسائل 1: 175 باب 1 من أبواب الوضوء، ح 2.
(2) الوسائل 1: 175 باب 1 من أبواب الوضوء، ح 3.
476

عن أخيه (عليه السلام): " لما سأله عن رجل يكون في الصلاة فيعلم أن ريحا قد خرج
فلا يجد ريحها ولا يسمع صوتها يعيد الوضوء والصلاة، ولا يعتد بشيء مما صلى
إذا علم " (1).
قوله (قدس سره): (فلا عبرة بالريح الخارجة من القبل وإن اعتيدت) لأنها
ليست من الريح المعهودة، لأن فرج المرأة قد يدخله الهواء عند المجامعة أو غيرها
ثم يخرج وله صوت فيشتبه بتلك، والحال أنه ليس منها.
وبالجملة الحكم هنا محمول على موضوع يمنع صدقه على غير الخارج من
الدبر وليست مثل الغائط موضوعا لما يبقى في المعدة من ثقل الغذاء بعد طبخه
فيها وتحليل لطائفه إلى ما يصير جزءا لما يتحلل من البدن، ودفع الطبيعة إياه لضر
بقائه في محله زائدا عن حده، بل تلك الريح اسم لقسم من الهواء الحاصل من
المأكول النفاخ أو غيره، وهو الخارج من المخرج المعهود وباقي أنواعه المدفوعة
بغير هذا النحو وعن غير هذا المسلك يمنع صدق تلك الريح عليها، فما عن المعتبر
والتذكرة وشرح الموجز من النقض بالريح الخارجة من قبل المرأة مطلقا أو مع
الاعتياد، وكذا ما عن بعضهم من النقض بالخارجة من ذكر الرجل أيضا مما
لا وجه له، لما بيناه من تعليق حكم النقض في الأخبار على الموضوع الخاص
الغير الصادق على الخارجة عن غير مخرج الغائط.
قوله (قدس سره): (نعم لا يعتبر فيها سماع الصوت ولا شم الريح) لصدق هذا
الحدث عليها بعد خروجها عن المخرج المعتاد المذكور مطلقا، ولإطلاق
الروايات وخصوص خبر علي بن جعفر (عليه السلام) المتقدم.
قوله (قدس سره): (كما أنه لا عبرة بما يجده بعض الناس مما ينفخه الشيطان
في دبره حتى يخيل له أنه قد خرج منه ريح) لرواية عبد الرحمن بن أبي
عبد الله عن الصادق (عليه السلام) أنه قال له (عليه السلام): " أجد الريح في بطني حتى أظن أنها
قد خرجت، فقال (عليه السلام): ليس عليك وضوء حتى تسمع الصوت أو تجد الريح،

(1) الوسائل 1: 176 باب 1 من أبواب نواقض الوضوء، ح 9.
477

ثم قال (عليه السلام): إن إبليس لعنة الله عليه يجلس بين إليتي الرجل فيحدث ليشككه " (1).
ورواية معاوية بن عمار المتقدمة.
ولأنه من أقسام الشك في الناقض وهو غير معتبر بإجماع النص والفتوى،
فإن المراد به في النصوص عدم العلم الشامل للظن كما هو مصرح به فيهما،
وإفراده بالذكر لخصوصية وروده في الأخبار، ولردع أصحاب الوسواس المعتنين
بأمثاله.
قوله (قدس سره) (ومع الشك لا يلتفت) إجماعا نصا وفتوى.
قوله (قدس سره): (وكذا يجب بالنوم الغالب على العقل، ويعرف ذلك بغلبته
على حاسة السمع التي يلزمها الغلبة على حاسة البصر، ولعل إحالته على
الوجدان أولى من ذلك، فمن وجد طعم النوم قاعدا أو قائما توضأ،
وإلا فلا، ومع الشك لا يلتفت).
أصل النوم وحقيقته هو ما كان غالبا على العقل بأن عطله عن إعمال الحواس،
ولذا عرف في الآثار الواردة عنهم (عليهم السلام) تارة به نفسه وهو الغالب على العقل،
واخرى بكواشفه وهو الغالب على القلب الذي هو رئيس الحواس المستلزم غلبته
عليه الغلبة على سائرها، لأنها أضعف منه، والغالب على السمع لأنه أظهر في
الكاشفية لكونه أقوى الحواس الخمس الظاهرة، وإلا فالنوم هو ما غلب على
جميعها وعطل الكل عن شغلها، وهذا الاختلاف في التعبير لأن مبادئ النوم
قد يشتبه به نفسه كما قيل: " قد ينام العين ولا ينام القلب " ويطلق عليها النوم
مسامحة، فجعل له معرفا من اللوازم الغير المنفكة عنه غالبا، وإليه يشير ما في
رواية زيد الشحام عند سؤاله عن الصادق (عليه السلام) عن الخفقة والخفقتين فقال (عليه السلام):
" ما أدري ما الخفقة والخفقتان، إن الله تعالى يقول: (الانسان على نفسه
بصيرة) إن عليا (عليه السلام) كان يقول: من وجد طعم النوم قائما أو قاعدا فقد وجب

(1) الوسائل 1: 175 باب 1 من أبواب نواقض الوضوء، ح 5.
478

عليه الوضوء (1)، ولذا قال الماتن: إحالته على الوجدان أولى، وعبر بمتن الحديث.
وبالجملة كون النوم من أسباب الوضوء مجمع عليه نصا وفتوى، كتابا وسنة،
لتفسير المفسرين الآية بالقيام عن النوم ولا يفرق فيه بين حالاته كما في جملة من
الروايات من قبيل رواية عبد الحميد عنه (عليه السلام) قال: " سمعته يقول: من نام وهو
راكع أو ساجد أو ماش على أي الحالات فعليه الوضوء " (2). فما حكي عن
الصدوق من عدم لزوم الوضوء على من نام قاعدا بلا انفراج، لرواية الحضرمي
قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) ينام الرجل وهو جالس، قال (عليه السلام): كان أبي (عليه السلام) يقول:
إذا نام الرجل وهو جالس مجتمع فليس عليه وضوء، وإذا نام مضطجعا فعليه
الوضوء " (3)، ولما أرسل الصدوق عن أبي الحسن (عليه السلام): " أنه سئل عن الرجل يرقد
وهو قاعد هل عليه وضوء؟ قال (عليه السلام): " لا وضوء عليه ما دام قاعدا إذا لم
ينفرج " (4)، ولرواية ابن حمران " أنه سمع عبدا صالحا (عليه السلام) يقول: من نام وهو
جالس لا يتعمد النوم فلا وضوء عليه " (5)، ورواية عبد الله بن سنان عن أبي
عبد الله (عليه السلام): " في الرجل هل ينقض وضوءه إذا نام وهو جالس؟ قال (عليه السلام): إذا كان
في المسجد يوم الجمعة فلا وضوء عليه " وذلك لأنه في حال الضرورة (6).
ففيه أولا: أن روايته لتلك الروايات التي لا عامل بها مع روايته قبلها
الروايات المطلقة لا تدل على مخالفته للقوم، مع أنه على فرض تحققها لا يعبأ به
لشذوذ هذا القول من اختصاصه به.
وثانيا: أنها لا تقاوم المعممة، لأنها أقوى منها سندا ودلالة وكثرة واعتضادا،

(1) الوسائل 1: 181 باب 3 من أبواب نواقض الوضوء، ح 8.
(2) الوسائل 1: 180 باب 3 من أبواب نواقض الوضوء، ح 3.
(3) الوسائل 1: 182 باب 3 من أبواب نواقض الوضوء، ح 15.
(4) الوسائل 1: 181 باب 3 من أبواب نواقض الوضوء، ح 11.
(5) الوسائل 1: 182 باب 3 من أبواب نواقض الوضوء، ح 14.
(6) الوسائل 1: 182 باب 3 من أبواب نواقض الوضوء، ح 16.
479

فلتأول هذه على ما لا ينافيها، أو على التقية إن قبلتها، مع أن الأخيرة لا دلالة فيها،
لأن نفي الوضوء للضرورة لا يدل على عدم النقض، بل ظاهر في النقض.
فلعله (عليه السلام) يريد أن يجعل تكليفه في تلك الحال التيمم، كما عد من مسوغاته من
منعه الزحام يوم الجمعة، بل مرسله أيضا كذلك لظهوره في نفي النوم مع عدم
الانفراج، فلعل (عليه السلام) يريد أن يجعله شاكا في نومه، حيث إن الغالب فيمن نام قاعدا
أنه يقع فينفرج أعضاؤه، فجعل (عليه السلام) عدم الانفراج من كواشف عدم النوم كما جعل
الصوت في جملة من الروايات من علامة النوم للملازمة الغالبية، وهو ما يعبر عنه
بالفارسي: (نفير خوابش بلند است).
وبالجملة لا ينبغي الاشكال في الحكم مع تحقق النوم بأي حال يكون، كما
أنه لا يلتفت اليه مع الشك فيه.
قوله (قدس سره): (وكالنوم في النقض كل ما أزال العقل من جنون أو إغماء
أو سكر أو غير ذلك كبعض أفراد الأدوار ونحوه مما هو كالاغماء) بلا
خلاف يجده الماتن في جواهره وبلا خلاف ظاهر يراه الأستاذ - طاب ثراه -،
وعن المنتهى: " لا نعرف خلافا فيه بين أهل العلم "، وفي المدارك: " هذا الحكم
مجمع عليه بين الأصحاب "، وعن تهذيب الشيخ: " إجماع المسلمين عليه "، وعن
الخصال: " أن من دين الامامية أن مذهب العقل ناقض "، وعن الكفاية: " نسبته إلى
الأصحاب "، وعن البحار: " أن أكثر الأصحاب نقلوا الإجماع عليه " وهذا يزيد
على دعوى الاستفاضة.
أقول: وهذا القدر كاف في الفقه لو لم نقل إنه مما يوجب تحقق الإجماع
المحصل، مضافا إلى ما يشير اليه أخبار النوم تلويحا من جهة التعبير فيها بذهاب
العقل بحيث يظن منه أنه العلة لنقض الوضوء فضلا عن تفسير الاغفاء في رواية
معمر بن خلاد بالاغماء، وإن كان الظاهر خلافه، بل هو بمعنى النوم كما عن
الصحاح والقاموس، وبعضهم تجشم بها من باب الأولوية كما عن المعتبر والمنتهى
والتنقيح، وبعضهم من باب التنقيح. وفي المدارك: " والأجود الاستدلال عليه
480

بما دل على حكم النوم من باب التنبيه، فإنه إذا وجب الوضوء بالنوم الذي يجوز
معه الحدث كما يدل عليه إناطته بإزالة العقل وجب بالاغماء والسكر بطريق
أولى " انتهى.
ولا كرامة فيه، لأن مناط ناقضية النوم عندنا ليس لتجويز الحدث معه كما
عليه العامة، وإنما هو ناقض مستقل وإن حفظ نفسه ببعض الطرق المفيدة للقطع
بالعدم، وبعضهم أخذ بعموم الشرطية فيها، وهو قوله: " إذا خفي عنه الصوت فقد
وجب عليه الوضوء، وغير خفي عدم كون خفاء الصوت علة للنقض ليؤخذ
بعمومه، وإنما جعل معرفا للنوم. نعم لا بأس في التمسك بالخبر المروي عن
الدعائم عن الصادق (عليه السلام)، عن أبيه، عن آبائه (عليهم السلام): " أن الوضوء لا يجب إلا من
حدث، وأن المرء إذا توضأ صلى بوضوئه ما شاء من الصلاة ما لم يحدث أو ينم
أو يجامع، أو يغم عليه، أو يكن منه ما يجب منه إعادة الوضوء " (1) لو احرز
استنادهم في الفتوى إليه، ليكون العمل به جابرا لسنده، إلا عند من يقنع في الجبر
بمجرد مطابقة المضمون لعمل المشهور، وإلا عند من لا يعتني بالجبر أبدا، ولكن
فيما قدمناه كفاية إن شاء الله.
قوله (قدس سره): (ويجب أيضا بالاستحاضة القليلة التي لا تغمس الكرسف
ولا تثقبه) الموصول جيء به معرفا خلافا للمحكي عن العماني فلم يوجب بها
شيئا قبل. وربما يوهمه كلام من لم يذكرها في النواقض، وللمحكي عن الإسكافي
فأوجب بها غسلا في اليوم والليلة، وعلى خلافهما الأخبار المستفيضة والتفصيل
منوط بمحله من باب الدماء.
قوله (قدس سره): (بل وبالوسطى لغير صلاة الغداة أما لها فيجب هو مع الغسل،
بل وبالكثيرة لصلاة العصر والعشاء الأخيرة، أما الصبح والظهر والمغرب
فتوجبه مع الغسل كما ستسمع تفصيله في ما كتبناه في الدماء)
تخصيصه (قدس سره) حدث الاستحاضة بايجاب بعض حالاتها الوضوء خاصة والقائه

(1) دعائم الاسلام: كتاب الطهارة ج 1 ص 101.
481

مدخلية غسل الوسطى وأغسال الكثيرة في جميع الصلاة منظور فيه لو لم نقل:
إنه معلوم خلافه، والتفصيل في الدماء.
ولذا علق عليه الأستاذ جناب الميرزا بقول: " الظاهر أن لغسل الغداة في
الوسطى وللأغسال الثلاثة في الكثيرة مدخلا في جميع صلواتها، ولذا لو لم تغتسل
للصبح يجب على صاحبة الوسطى أن تغتسل للظهر، وكذا لو لم يبق من الوقت
إلا مقدار الاغتسال للأخيرة اغتسلت وصلت، والتفصيل في الدماء ".
قوله (قدس سره): (والمسلوس والمبطون إن كانت لهما فترة تسع الطهارة
والصلاة انتظراها) من غير شبهة، لعدم دليل على ترخيصه مع هذا الحدث
والخبث في الإتيان بالصلاة المشروطة بالطهارة وإزالة الخبث قطعا إلا ما استثني
بعدما تعرفه من اختصاص ما دل على العفو بغير تلك الصورة.
قوله (قدس سره): (وإلا فإن تمكنا من الصلاة بتكرير الطهارة والبناء من غير
عسر وحرج تطهرا وبنيا، والأولى لهما فعل ذلك بعد إتمام صلاتهما
بالوضوء الأول، بل هو الأحوط خصوصا في المسلوس) وجه الخصوصية
أنه مقتضى الأصل والقاعدة فيه من غير مخرج عنها لو لم يؤخذ بمناط روايات
المبطون بدعوى التنقيح.
والانصاف أنه غير منقح بيان هذا الأصل وتأسيسه، والقاعدة أن مقتضى
حدثية البول وناقضيته واعتبار الظهور في الصلاة وبطلانها بوقوع الفعل الكثير فيها
هو أن لا يكون هذا المبتلى بأحد المرضين مكلفا بالصلاة لعدم قدرته على أداء
هذا التكليف، لكنه لما كان ترك الصلاة خلاف الإجماع وثبت أن الصلاة لا تسقط
بحال فلا بد من رفع اليد عن إحدى الأدلة السابقة، والأوفق بقاعدة ما غلب الله
فهو أولى بالعذر العفو عما يأتيه من الحدثين في أثناء الصلاة بغير اختياره، ويكون
بحكم المتطهر كالمستحاضة، وهو مقتضى أصالة البراءة عن وجوب الوضوء عليه
في الأثناء عند عدم دليل مثبت له، بل استصحاب عدم الحدث الناقض
واستصحاب إباحته الصلاة بما أوجده من الطهارة أيضا يقتضي عدم وجوب
482

الوضوء عليه، بل عدم جوازه بلحاظ كونه فعلا كثيرا منافيا للصلاة.
ولا يعارض شيء منها باستصحاب عدم انقطاع الصلاة بفعل هذا الوضوء
مع كونه كثيرا وأصالة عدم مانعيته فيدور الأمر بينهما ويطلب المرجح، لأن الشك
في القاطعية مسبب عن الشك في شرطية الوضوء، فإذا لم يعلم شرطيته ولم يثبت
الأمر به كان فعلا أجنبيا قاطعا والدوران المذكور يأتي في ما يكون كل من فعله
وتركه محتمل الشرطية لا في ما يكون كالمقام فعله محتمل الشرطية وتركه أجنبيا
مترتبا عليه القاطعية والابطال.
ويمكن تتميم ما أسسناه من الأصل قاعدة بحديث: " ما غلب الله تعالى " (1).
وحسنة منصور بن حازم بابن هاشم التي هي صحيحة موضوعا أو حكما عن أبي
عبد الله (عليه السلام): " في الرجل يقطر منه وهو لا يقدر على حبسه، قال (عليه السلام): إذا لم يقدر
على حبسه فالله أولى بالعذر، وليجعل خريطة " (2) وصحيح الحلبي عنه (عليه السلام): " أنه
سئل عن تقطير البول قال: يجعل خريطة إذا صلى " (3) ومكاتبة عبد الرحمن عن
أبي الحسن (عليه السلام): " في خصي يبول فيلقى من ذلك شدة، ويرى البلل بعد البلل،
قال (عليه السلام): يتوضأ ثم ينتضح ثوبه بالنهار مرة " (4).
فإنها وإن كانت مسوقة بظاهرها لبيان حال خبثية ما يقطر منه، ولكنها تفيد
العفو عن حدثية الخارج في الأثناء أيضا للسكوت في مقام البيان والحاجة،
وهو من الدلالات المعتبرة، بل يمكن دعوى التلازم بين الحكمين في خصوص
المقام من حيث العفو، والمعتمد عندنا من الأصل هو البراءة، لعدم اعتبار
الاستصحابين فإن عدم الحدث الناقض ليس مسبوقا بيقين، إذ ليس الشك في
حدوث الحدث، إذ حدثية البول مثل وجوده في الفرض معلوم، والشك في

(1) الوسائل 5: 352 ب 3 من أبواب قضاء الصلوات، ح 3.
(2) الوسائل 1: 210 ب 19 من أبواب نواقض الوضوء، ح 2، وفيه: يعتريه.
(3) الوسائل 1: 211 ب 19 من أبواب نواقض الوضوء، ح 5.
(4) الوسائل 1: 201 ب 13 من أبواب نواقض الوضوء، ح 8، وفيه: عن عبد الرحيم.
483

الناقضية إنما أتى من قبل احتمال العفو، وإلا فكل حدث ثابت له صفة الناقضية
فلا شك في اتصاف هذا الموجود بالناقضية، كما لا شك في وجوده إلا من جهة
احتمال العفو، فإذا لم يثبت العفو يحكم بناقضيته لأنها أثره.
ومنه يعلم عدم جريان استصحاب الإباحة، نعم أصل البراءة أصل خال عن
المعارض، لأن الاستصحاب المقابل أيضا كذلك، والقاعدة عندنا أيضا تامة.
وما ذكره الأستاذ - طاب ثراه - من أن حديث ما غلب كما يفيد عفوية ما
يقطر كذلك يفيد عدم خلل هذا الفعل الكثير الواقع في أثناء الصلاة، لأن مفاده رفع
ما يترتب على وجود هذا الشيء لولا غلبة أمر الله وعجز العبد ورفع الاختيار
أو الطاقة عنه، وهو مردد بين نفي شرطية الطهارة ومانعية هذا الفعل الكثير
وقاطعيته، لأن كلا منهما من لوازم وجود هذا التقطير.
هذا ملخص ما أفاده - طاب ثراه - عندي محل نظر، لأن لازمه الأولي
حدثيته وخبثيته، والفعل الكثير لازم ايجاد رافع هذا الحدث وهو الطهارة والخلل
مترتب على وجود الفعل الكثير وإفادة حديث ما غلب نفي خلليته موقوف إما
على رفع اليد عن اللوازم الأولية، لعدم إمكان إرادتها حتى نرتب عليه الثانويات
والمترتبات بالواسطة، وأما على إرادة العموم، والأول منتف، لإمكان إرادة
الاوليات، والثاني منتف، لأن إرادة العموم فرع إمكانه واجتماعها مع الأوليات،
وهنا ليس كذلك، لأن إرادة نفي شرطية الطهارة بمعنى عدم حدثية ما يقطر لا
يجامع إرادة نفي خللية الفعل الكثير، ولا معنى لأن يراد بالحديث لوازمه بالواسطة
ويترك لوازمه بلا واسطة هذا.
ولكن القاعدة لا يفيد عفوية أزيد مما يقطر في أثناء الصلاة، والأصل لا يقاوم
عمومات حدثية البول أو غيره من الأحداث وعموم " لا صلاة إلا بطهور "،
فالأقوى ما عليه المشهور من وجوب الوضوء لكل صلاة لا كما يقوله الشيخ في
المبسوط في أواخر باب الاستحاضة: " وأما من به سلس البول فيجوز له أن
يصلي بوضوء واحد صلوات كثيرة، لأنه لا دليل على تجديد الوضوء عليه،
وحمله على الاستحاضة قياس لا نقول به " انتهى. وقال (قدس سره) بعيد ذلك: " والجرح
484

الذي لا يندمل ولا ينقطع دمه معفو عنه، ولا يجب شده عند كل صلاة، وحمله على
الاستحاضة قياس لا نقول به، وكذلك القول في سلسل البول على ما قلناه " انتهى.
ومقصوده (قدس سره) تشبيه حدثية البول بخبثية الدم، لأنه ذكر عقيب العبارة الاولى:
" وإنما يجب عليه أن يشد رأس الإحليل بقطن ويجعله في كيس أو خرقة
ويحتاط في ذلك " انتهى.
لأ نك عرفت أن مقتضى العمومات وجوب الوضوء متى أحدث، عفي عما
عفي لما ذكر بقي الباقي، وليس القول بالوجوب حملا له على المستحاضة، بل هذا
هو مقتضى القاعدة في كل مستدام الحدث ولا خصوصية للبطن والسلس، نعم
خرج المبطون عن القاعدة والأصل بوجوب الوضوء والبناء لأخباره. فما عن
السرائر من: " الفصل بين من يتوالى منه التقاطر من غير تراخ بين الأحوال
فكالمشهور وبين من تراخى فيه زمان الحدث فليتوضأ للصلاة، فإذا بدره وهو
فيها خرج وتوضأ وبنى على ما مضى، انتهى " لا وجه له إلا أن يستأنس له بتنقيح
مناط أخبار المبطون، وهو غير منقح.
نعم حكي عن المنتهى قول خامس مع ميل جماعة من متأخري المتأخرين
إليه، وهو الجمع بين الظهرين بوضوء والعشاءين كذلك ويفعل الصبح بوضوء،
لصحيحة حريز: " إذا كان الرجل يقطر منه البول والدم إذا كان حين الصلاة اتخذ
كيسا وجعل فيه قطنا، ثم علقه وأدخل ذكره فيه، ثم صلى يجمع بين الصلاتين
الظهر والعصر، يؤخر الظهر ويعجل العصر بأذان وإقامتين، ويؤخر المغرب ويعجل
العشاء بأذان وإقامتين، ويفعل ذلك في الصبح " (1) وهو أجمع الأقوال دليلا،
ولا بأس أن نقول به إلا أنه يثبطنا عن المصير اليه عدم عمل قدماء الأصحاب به،
فالجرأة على رفع اليد عن مقتضى عمومات " لا صلاة إلا بطهور " (2) وحدثية البول
بها والحال هذه مشكل.

(1) الوسائل 1: 210 ب 19 من أبواب نواقض الوضوء، ح 1.
(2) الوسائل 1: 256 ب 1 من أبواب الوضوء، ح 1.
485

ثم إنه قد تبين لك أنه ينبغي للماتن أن يعكس بأن يجعل ما أفتى به موردا
للاحتياط ويفتي بما جعله موردا للاحتياط في المسلوس ويسلك ما سلكه في
المبطون كما عليه المشهور، للروايات عن ابن مسلم ففي إحداها: " المبطون يبني
على صلاته " (1) وفي الاخرى: " يتوضأ ثم يرجع فيتم ما بقي " (2) وفي الثالثة
الصحيحة: " صاحب البطن الغالب يتوضأ ويبني على صلاته " (3).
ثم إنه ظهر لك أيضا أن ظاهر تلك الروايات كما هو صريح كلمة البطن الغالب
في الصحيحة من لم تكن له فترة تسع الطهارة والصلاة، كما أن ظاهرها، بل
صريحها بملاحظة الأمر بالتوضي من لم يتوال حدثه ولم يستمر بحيث لم يمكنه
ايقاع الصلاة مع طهارة بتلك الكيفية، وإلا فالواجب على الأول انتظار تلك الفترة
كما عرفت، وعلى الثاني اتمام الصلاة بوضوء واحد كما ذكرناأنه مقتضى الأصل
والقاعدة. والماتن في جواهره ألحق هذا الفرد من المبطون بالمسلوس الذي مثله،
وحكم بأنهما يتمان الصلاة بوضوء واحد، وألحق المسلوس الذي له فترة تسع
بعض الصلاة بالمبطون بملاحظة أن الغالب المتعارف من المسلوس هو القسم
الأول فينزل الأخبار عليه، وأن الغالب المتعارف من المبطون هو صاحب الفترة
الكذائية فينزل أخباره عليه.
وبعد ما عرفت ظهر لك أن إلحاق هذا الفرد من المبطون بالمسلوس لا ضير
فيه للأصل والقاعدة سيما مع قصور أخباره عن شموله وأما الحاق ذلك الفرد من
المسلوس بالمبطون لا وجه له بعد منع منقحية المناط، وكون البناء على خلاف
الأصل والقاعدة وكون الوضوء مستلزما لفعل كثير شأنه الاخلال أو كونه مطلقا
فعلا كثيرا كما مال اليه الأستاذ - طاب ثراه - وجمع، بل ربما يوهم كونه ماحيا
لصورة الصلاة كما أشار اليه الأستاذ - طاب ثراه -.

(1) الوسائل 1: 210 ب 19 من أبواب نواقض الوضوء، ح 3.
(2) الوسائل 1: 210 ب 19 من أبواب نواقض الوضوء، ح 4.
(3) من لا يحضره الفقيه: في صلاة المريض و... ح 1043 ج 1 ص 363.
486

ثم إن هذا كله إذا لم تكن له فترة تسع الطهارة والصلاة المتعارفة كما هو ظاهر
الأخبار وكلمات الأخيار بل وصريحها، ولكن المحكي عن السرائر أن مستدام
الحدث يخفف الصلاة ولا يطيلها، ويقتصر فيها على أدنى ما يجزي المصلي عند
الضرورة، وقال: " إنه يجزيه أن يقرأ في الاوليين بام الكتاب وحده وفي
الأخيرتين بتسبيح في كل واحدة أربع تسبيحات، فإن لم يتمكن من قراءة فاتحة
الكتاب سبح في جميع الركعات، فإن لم يتمكن من التسبيحات الأربع لتوالي
الحدث منه فليقتصر على ما دون التسبيح في العدد ويجزيه منه تسبيحة واحدة
في قيامه وتسبيحة في ركوعه وتسبيحة في سجوده، وفي التشهد على ذكر
الشهادتين خاصة والصلاة على محمد (صلى الله عليه وآله) وعليهم السلام الذي هو مما لابد منه
في التشهدين ويصلي على أحوط ما يقدر عليه في بدار الحدث من جلوس
أو اضطجاع وإن كان صلاته بالايماء أحوط له في حفظ الحدث ومنعه من
الخروج صلى مؤميا ويكون سجوده أخفض من ركوعه " انتهى.
وقد عرفت أنه لا دليل على وجوبه، بل هو خلاف ما عليه الأصحاب وما دل
عليه الأخبار، نعم لا بأس بأن يعمل هكذا احتياطا ولا يقتصر عليه، واليه أشار
الأستاذ - طاب ثراه - في ما علقه هناك بقوله: " ولو كانت الفترة تسع أقل أفراد
الصلاة الذي يكتفى فيه بالايماء وبتسبيحة في كل ركعة فالأحوط فعل هذا الفرد
من الصلاة في هذه الفترة كما أوجبه بعض أصحابنا، وفعل الصلاة التامة الأفعال
في وقت آخر ظاهرا ".
قوله (قدس سره): (وإن لم يتمكنا كذلك لتوالي حدثهما توضئا عند كل صلاة
ولايؤخراها عنه) لما عرفت أنه مقتضى الأصل والقاعدة ولا مزاحم لهما في
خصوص تلك الصورة.
قوله (قدس سره): (والأولى ملاحظة زمان الخفة) لمطلوبية إيقاع الصلاة واجدة
للطهارتين الحدثية والخبثية مهما أمكن، والإتيان بها في زمان الخفة إدراك
للطهارتين في شطر منها، وهو مطلوب بدليل مطلوبيتهما في الكل، إذ ما يعتبر
في المركب معتبر في تمام أجزائه قطعا.
487

قوله (قدس سره): (وكذا الحال في غيرهما من مسلوس الريح والنوم على
الأقوى) وقد عرفت أن الأقوى العمل بمقتضى الأصل والقاعدة، والاحتياط
مرغوب مطلوب.
قوله (قدس سره): (ويجب على المسلوس الاستظهار بمنع تعدي النجاسة بأن
يضع خريطة أو كيسا أو غيرهما وإن كان الأولى والأحوط الكيس،
والظاهر عدم وجوب تغييره لكل صلاة وإن كان هو الأحوط) وجوب
الاستظهار لا ينبغي أن يتأمل فيه، لأن مقتضى الأصل وجوب الإزالة والحفظ
حتى عما يتقاطر في أثناء الصلاة سيما إذا لم يستلزم فعلا كثيرا.
لكن قد ثبت العفو وعدم لزوم الإزالة بمقتضى حديث " ما غلب " وخصوص
أخبار الباب مع إثباتها لزوم الخريطة المقصود منها الحفيظة بما أمكن، فليتحرى
كما في غيره من النجاسات المعفو عن وجودها كدم القروح والجروح مع السيلان
ودم الاستحاضة وغيرهما، وخصوصية الكيس إنما هو لورودها في الأخبار.
وفي الجواهر: " إنه أقرب إلى صيرورته من قبيل الأجزاء الباطنة "، ولعله لذا
جعله هنا أحوط وأما عدم وجوب تغييره عند كل صلاة وإن كان خلاف مقتضى
ما أسسناه من الأصل إلا أنه لا غرو فيه، لصحيحة حريز المتقدمة، وأما غيرها من
الأخبار فلا دلالة فيها عليه، لما استظهر منها أن المعفو خصوص ما يتقاطر في
أثناء الصلاة، ولكنها ليست بحيث تنافي الصحيحة، فالعمل بها بمقدار مدلولها
لا بأس به سيما لو بنى في المستحاضة على عدم وجوب التغيير بهذا المقدار. بل
ربما يستأنس لعدم وجوب هذا المقدار بأدلة القروح والجروح بناء على عدم لزوم
التغيير لخرقها عند كل صلاة كما هو الأقوى فيها، والاحتياط سبيل النجاة.
قوله (قدس سره): (ويقوى في النظر أن المسلوس الذي يتوالى تقطير بوله
بحكم المتطهر بالنسبة إلى غير الصلاة كمس كتابة القرآن وصلاة النوافل
فلا ينتقض وضوؤه بما يخرج بداء سلسه، نعم ينتقض ببوله الخارج على
مقتضى الطبيعة، ويمكن إلحاق غيره به في ذلك، لكن الاحتياط باجتناب
488

مس الكتابة مثلا وتجديد الطهارة عند كل ركعتين من النافلة لا ينبغي
تركه) قد عرفت أن مقتضى الأصل كونه محدثا، ولذا يعبر عنهم بمستدام الحدث
وأن وضوءه هذا مبيح لا رافع، وأن المصير إلى عدم ناقضية ما يخرج بدائه هذا مما
لا وجه له. وأن العفو لم يثبت إلا عن الخارج في أثناء الصلاة وما بحكمه، ولم يدل
دليل على أن كل مستدام الحدث بعد الإتيان بتكليفه بحكم المتطهر كما يقال به
في المستحاضة.
فإذن لا وجه لجعله بحكم المتطهر سيما في ما لم يكن الوضوء شرطا له،
بل يحرم صدوره عن غير المتطهر كما قيل به في المس، كما لا وجه في ما أرى
لتخصيص المسلوس بهذا الحكم وأظن أن الذي دعاه (قدس سره) إلى ذلك أنه رأى أن
المبطون يجب عليه الوضوء في صلاة واحدة لما خرج منه فكيف يمكن أن يقال
بعفوية ما يخرج به لغير هذه الصلاة مع عدم عفويته لها ورأى أن الحكم في مستدام
الحدث على خلاف الأصل بمقتضى الأصل الأولي الذي ذكرنا أنه يقتضي سقوط
المشروط عن المستدام الفاقد للشرط؟
وفيه ما لا يخفى، لما بيناه من انقلاب الأصل بمقتضى حديث " ما غلب "
وغيره، فالأقوى هو ما ذكره (قدس سره) بلفظ الاحتياط كما علق عليه الأستاذ - طاب
ثراه - بقوله: " بل هذا هو الأقوى ظاهرا ".
قوله (قدس سره): (وعلى كل حال فلا ينقض الوضوء غير ما عرفت) من
أسباب الحدث الأصغر على تفصيل تقدم، للأخبار الحاصرة المتقدمة وما تعرفه
إن شاء الله في محله (من) أسباب (الحدث الأكبر) على ما يأتي (دون
المذي على الأصح) وما عطف عليه وإن قال بناقضية بعضها بعض الأصحاب،
وورد بها في جملة منها طائفة من الأخبار، لأن القول بها مخصوص بمن خالفنا،
فالقول بها نشأ من المخلط المخالط معهم.
كما أن عمدة وجه صدور تلك الأخبار أيضا هو الاتقاء منهم، فمنها المذي
الذي ورد في مرسلة ابن رباط: " أنه ما يخرج عقيب الشهوة " (1)، وعن غير واحد:

(1) الوسائل 1: 197 ب 12 من أبواب نواقض الوضوء، ح 6.
489

" أنه ما يخرج عقيب الملاعبة والتقبيل " (1) ونحوهما، وهو راجع إلى ما في المرسلة.
وعن الهرري: " انه أرق ما يكون من النطفة عند الممازحة والتقبيل "، وعن
ابن الأثير: " أنه البلل اللزج الخارج عقيب ملاعبة النساء "، وعن الشهيد الثاني:
" أنه ماء لزج رقيق يخرج عقيب الشهوة "، وعن الحدائق عن بعض علمائنا: " أنه
ماء رقيق أصفر لزج خروجه يكون بعد تفخيذ وتقبيل ". والكل متقارب، بل متحد،
ولم ينقل القول بناقضيته إلا عن الإسكافي.
وقال الأستاذ - طاب ثراه -: " إن المعروف بين الأصحاب خلافه، للأصل
والأخبار المستفيضة الحاصرة للنواقض، وللإجماعات المنقولة والأخبار
المستفيضة الخاصة النافية لناقضيته، ففي بعضها: (أنه إن سال من ذكرك شيء من
مذي أو ودي، وأنت في الصلاة فلا تقطع له الصلاة ولا تغسله ولا تنقض له
الوضوء، وإن بلغ عقبك) (2)، وفي بعضها: (أنه بمنزلة المخاط والبصاق والنخامة) " (3).
وعن الشيخ في كتاب المشيخة: عن شيخه ابن محبوب عن عمر بن يزيد قال:
" اغتسلت يوم الجمعة بالمدينة وتطيبت ولبست أثوابي فمرت بي وصيفة ففخذت
بها وأمذيت وأمنت هي فدخلني من ذلك ضيق، فسألت عن ذلك أبا عبد الله (عليه السلام)،
فقال: ليس عليك وضوء " (4).
فتفصيل الإسكافي بايجابه الوضوء في ما كان منه عن شهوة لقوله (عليه السلام)
عن المذي يخرج عن الرجل: " أحد لك حدا إن خرج منك على شهوة فتوضأ،
وإن خرج منك على غير ذلك فليس عليك وضوء " (5)، وصحيحة ابن يقطين
بعد السؤال عنه: " إن كان من شهوة نقض " (6)، وخبر الكاهلي بعد السئوال عنه:

(1) كما في مجمع البحرين: ج 1 ص 388، مادة (مذى). والصحاح: ج 6 ص 2491.
(2) الوسائل 1: 196 ب 12 من أبواب نواقض الوضوء، ح 2.
(3) الوسائل 1: 196 ب 12 من أبواب نواقض الوضوء.
(4) تهذيب الأحكام: ب 6 في حكم الجنابة ح 322 ج 1 ص 121.
(5) الوسائل 1: 197 ب 12 من أبواب نواقض الوضوء، ح 10.
(6) الوسائل 1: 198 ب 12 من أبواب نواقض الوضوء، ح 12.
490

" ما كان منه من شهوة فتوضأ " (1) لا وجه له بعد ورود جملة من الأخبار بنفي
الوضوء منه بنحو الإطلاق، أو بالصريح كما في المنقول عن المشيخة عن عمر بن
يزيد، وبالأخبار الصريحة النافية للوضوء وإن كان عن شهوة وبالوضوء منه
ولو لم يكن عن شهوة.
فلا يبقى مجال أن يقال: إنه شاهد جمع بين مختلفات الأخبار ومطلقاتها،
لرجوع التعارض حينئذ بينها وبين غيرها إلى التباين الموجب لإعمال المرجح
المعلوم كونه للطرف المقابل، مضافا إلى كونها معرضا عنها عند الأصحاب، ففي
مرسلة ابن أبي عمير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " ليس في المذي من الشهوة ولا من
الأنعاظ ولا من القبلة ولا من مس الفرج ولا من المضاجعة وضوء، ولا يغسل منه
الثوب ولا الجسد " (2) فلا بد حينئذ من حملها على التقية أو على الاستحباب.
كما يشهد له المروي عن محمد بن إسماعيل عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: " سألته
عن المذي فأمرني بالوضوء، ثم أعدت عليه سنة اخرى فأمرني بالوضوء منه،
وقال: إن عليا (عليه السلام) أمر المقداد أن يسأل رسول الله (صلى الله عليه وآله) واستحى هو (عليه السلام) أن
يسأله، فسأله فقال: فيه الوضوء، قلت: وإن لم أتوضأ؟ قال: لا بأس " (3)، مع أن
قصته محكية عن أبي عبد الله (عليه السلام) في موثقة إسحاق بن عمار قال: " سألته عن
المذي، فقال (عليه السلام): إن عليا (عليه السلام) كان رجلا مذاء فاستحى أن يسأل رسول الله (صلى الله عليه وآله)
لمكان فاطمة (عليها السلام)، فأمر المقداد أن يسأله وهو جالس فسأله، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله):
ليس بشيء " (4). فتبين أن المراد في الآمرة بالوضوء هو تكميل الطهارة.
ومنها: ما ذكره (قدس سره) بقوله: (والودي بالمهملة والمعجمة) والأول كما
في مرسلة ابن رباط ما يخرج عقيب البول، والثاني ما يخرج من الأدواء " (5)

(1) الوسائل 1: 198 ب 12 من أبواب نواقض الوضوء، ح 11.
(2) الوسائل 1: 191 ب 9 من أبواب نواقض الوضوء، ح 2.
(3) الوسائل 1: 197 ب 12 من أبواب نواقض الوضوء، ح 9.
(4) الوسائل 1: 197 ب 12 من أبواب نواقض الوضوء، ح 7.
(5) الوسائل 1: 197 ب 12 من أبواب نواقض الوضوء، ح 6.
491

يعني الأمراض، أو بالعكس كما هو ظاهر كتاب الوسائل - الذي عندي - ولا شيء
فيهما كما هو مفاد المستفيضة من غير خلاف فيهما يعرف نصا وفتوى.
ومنها: ما ذكره أيضا (قدس سره) بقوله: (وتقليم الظفر وحلق الشعر وغير ذلك مما
هو ناقض عند غيرنا) كالقيء، والرعاف، والنخامة، والدم السائل عن أحد
المخرجين غير الدماء الثلاثة، ولا غيره مما خرج عنهما ما لم يكن معه أحد
النواقض، ومس الفرج والقبل وباطن الإحليل والدبر والقبلة ولو من المرأة ومع
شهوة، ومس فرجها، وكأكل ما مسته النار، والمدة، والتجشأ، والقيح (1)، والقهقهة،
وانشاد الشعر، والحجامة والظلم، والكذب وإن كان على الله وأوليائه، وملاقاة
البدن للبول أو الغائط، ومس الكلب أو الخنزير، ومصافحة المجوس، ونتف الإبط،
وأخذ مطلق الشعر، وقتل القملة والبرغوث والنملة والبقة والذباب، والوضوء
قبل الاستنجاء.
كل ذلك للإجماع والأخبار وإن ورد بإعادة الوضوء لجملة منها أيضا الأخبار،
وقال بإعادته لها بأسرها أو أكثرها اولئك الأشرار، ولا قول بالوضوء لها منا على
ما أعرف إلا ما حكي عن الصدوق: " من النقض بمس الرجل باطن دبره أو باطن
إحليله، أو فتح إحليله " (2)، وإلا ما حكي عن ابن الجنيد من النقض بمس ما انضم
اليه الثقبتان، ومس ظاهر الفرج من غيره بشهوة إذا كان محرما، ومس باطن
الفرجين محرما ومحللا، لرواية عمار: " عن الرجل يتوضأ ثم يمس باطن دبره
قال: نقض وضوءه، وإن مس باطن إحليله، فعليه أن يعيد الوضوء، وإن كان في
الصلاة قطع الصلاة ويتوضأ ويعيد الصلاة، وإن فتح إحليله أعاد الوضوء والصلاة " (3)
وخبر أبي بصير: " إذا قبل الرجل المرأة من شهوة أو مس فرجها أعاد الوضوء " (4).

(1) القيء (خ ل).
(2) من لا يحضره الفقيه: في نواقض الوضوء ذيل الحديث 148 ج 1 ص 65.
(3) الوسائل 1: 193 ب 9 من أبواب نواقض الوضوء، ح 10.
(4) الوسائل 1: 193 ب 9 من أبواب نواقض الوضوء، ح 9.
492

ولا يخفى ما فيهما من القصور من وجوه هذا، مع ما تراه من أن ما تفرد به
الإسكافي من التفصيل لا منشأ له كما في جواهر الماتن أيضا، وفيه أيضا أن تفرده
بالنقض بالقهقهة إذا كان في الصلاة، وكذا تفرده بنقض الحقنة لا وجه له مع مخالفته
في الكل للاصول والإجماع والسنة.
قوله (قدس سره): (نعم لا بأس باستحباب تجديد الوضوء بالأولين) يعني
المذي والودي (وبالضحك في الصلاة، والكذب، والظلم، والإكثار من
الشعر الباطل، وبالرعاف، والقي، والتخليل المسيل للدم، ومس باطن الدبر
والإحليل ونسيان الاستنجاء قبل الوضوء والتقبيل بشهوة ومس الفرج
والقضيب) للتسامح بملاحظة الأخبار الواردة في جملة منها بالوضوء، هذا مع
الغض عن أدلة تجديد الوضوء مطلقا وأنه نور على نور الناهضة لإثبات
الاستحباب الشرعي هنا أيضا.
قوله (قدس سره):
(المبحث السادس)
(في ما يجب الوضوء له ويستحب، وسننه) أي سنن الوضوء وآدابه
المراد بالوجوب هنا هو الوجوب التكليفي المقدمي الناشئ من وجوب ذي
المقدمة، وإلا فلا شك في وجوبه الشرطي لبعض غاياته المستحبة كصلاة النافلة،
كما أن المراد بالاستحباب هو الشرعي أيضا، سواء نشأ من استحباب غايته
كالمثال أو من دليل خاص وإن لم يستحب نفس الغاية كجملة من الغايات الآتية
التي استحب الوضوء لها لوقوعها على وجه الكمال أو لشيء آخر لا نعرفه.
قوله (قدس سره): (الوضوء لا يجب لنفسه، بل يجب للصلاة الواجبة واستدامته
لأجزائها المنسية والركعات الاحتياطية) أما عدم وجوبه النفسي فبالإجماع
كما حكي عن العلامة والمحقق والشهيد الثانيين، ويشيده قول الماتن في جواهره:
" لم نعلم فيه خلافا ولم ينقله أحد ممن يتعاطى نقل شاذ الأقوال ".
493

وما يوهمه المنقول عن الذكرى من وجود القول بوجوبه النفسي حيث إنه
بعد أن ذكر الكلام في الغسل بالنسبة إلى وجوبه النفسي والغيري قال: " وربما قيل
بطرد الخلاف في كل الطهارات ".
يدفع بأنه لعله إشارة إلى ما عنه عن القواعد من أنه قول لبعض العامة حيث
قال: " لا ريب أن الطهارة والستر والقبلة معدودة من الواجبات في الصلاة مع
الاتفاق على جواز فعلها قبل الوقت والاتفاق في الاصول على أن غير الواجب
لا يجزي عن الواجب، فاتجه هنا سؤال وهو أن أحد الأمرين لازم إما القول
بوجوبها على الإطلاق - ولم يقل به أحد - أو يقال بالإجزاء، وهو باطل؟ - ثم
قال: - وهذا الإشكال اليسير هو الذي ألجأ بعض العلماء إلى اعتقاد أن وجوب
الوضوء أو غيره من الطهارات نفسي موسعا قبل الوقت وفي الوقت ومضيقا عند
آخر الوقت، ذهب اليه القاضي أبو بكر العنبري، وحكاه الرازي في التفسير عن
جماعة فصار بعض الأصحاب إلى أن وجوب الغسل بهذه المثابة " انتهى.
وربما يستدل لعدم الوجوب أيضا بالآية (1) وبقوله (عليه السلام): " إذا دخل الوقت
وجب الطهور والصلاة " (2) حيث إن مفاد الشرطية التوقيتية سببية الوقت
المخصوص لوجوبهما، المفهوم منه انتفاء الوجوب بدونه.
وأما وجوبه للصلاة الواجبة ففي المدارك: " أن عليه إجماع المسلمين، بل
عده فيه من ضروريات الدين، من غير فرق بين الصلوات كلها وخروج صلاة
الميت عنها إنما هو لخروجها عنها فإنها حقيقة لذات الركوع والسجود ثم ألحق بها
أجزاءها المنسية، لأن شرط المركب شرط لأجزائه ". وهو كذلك لو وقع الأجزاء
في ضمن المركب، فالعمدة في المقام أنه لم يعرف فيه خلاف وأما صلاة الاحتياط
فهي صلاة واجبة حقيقة. وتعبير الماتن بوجوب استدامته لهما إشارة إلى ما سيأتي
في الصلاة من قادحية الفصل بينهما وبين الصلاة.

(1) المائدة: 6.
(2) الوسائل 1: 261 ب 4 من أبواب الوضوء، ح 1.
494

قوله (قدس سره): (ويجب لسجود السهو) لأنه مكمل للصلاة فكأنه جزؤها.
ويظهر من كاشف الغطاء حيث ساق وجوبه له على وجه إرسال المسلمات أنه لا
خلاف في وجوبه، ولكنه مشكل، لحصر الشيخ (قدس سره) في المبسوط وجوبه في الصلاة
والطواف، فالأحسن أن نقول بوجوبه له من باب الاحتياط تبعا لسيد المدارك لو
لم يكن وجوبه له إجماعيا، وهو كذلك، لما حكي عن القواعد والتذكرة من التوقف
في وجوبه لهما، بل عن التحرير تقريب عدمه، ومثله عن الجواهر، وقواه الماتن
في جواهره، واستظهره عن البيان وعن كل من ترك التعرض له.
قوله (قدس سره): (والطواف الواجب ولو لأنه جزء حج مندوب أو عمرة
كذلك) لأن العمرة والحج المندوبين يجب اتمامهما بمجرد عقد إحرامهما، فيجب
طوافهما لذلك، والوضوء شرط في الطواف الواجب فيجب كما حققناه في الحج.
قوله (قدس سره): (وبالنذر وشبهه) من العهد واليمين، لأنه راجح تحصيلا للكون
على الطهارة تحبيبا إلى الله عزوجل، فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين.
قوله (قدس سره): (وللواجب بيمين ونحوه من مس كتابة اسم الله وصفاته
الخاصة على الأصح) من أنها حاكية عن ذاته المقدسة تقدست أسماؤه، فهي
واسمه المبارك سواء في كيفية التعظيم وجهة التكريم.
ويمكن أن يكون قوله: " على الأصح " إشارة إلى أصل الحكم فإنه لا دليل
عليه غير فحوى حرمة مس كتابة القرآن بغير وضوء، حيث إن ظاهر الخبرين
اللذين نستدل بهما على الحكم فيه كبناء العلماء أنه من جهة التكريم. ولا ريب أن
أسماءه جل وعلا أحق بالتكريم والاجلال، إلا أن الظاهر أنه إشارة إلى إلحاق
صفاته تعالى الخاصة به بأسمائه العلمية لشركتهما في الحكاية والاختصاص
بالمحكي، فيشتركان فيوجوب التعظيم ومراعاة التكريم، ولكنه لا دليل على
الالحاق بعد أن لم يكن لنافي أصل الحكم إطلاق.
ولعله لذا لم يذكر جماعة من الأصحاب هنا مس اسمه تعالى في المحرم بغير
وضوء، واقتصر بعض آخر على التعبير باسمه تعالى المخصوص بالاسم الجامع
495

وهو الله، إذ لا دليل لإلحاقه بالكتاب إلا الفحوى المخصوصة به، أو بمطلق الأسماء
العلمية، ولا تعم الصفات إلا بالذوق والمناسبات المخصوصة بأرباب
الاستحسانات، كما يشهد لما ذكرناه ما عن الموجز الحاوي من تخصيصه الحكم
في باب الجنب الذي استدلوا للحكم فيه بالنص الخاص بلفظ الجلالة ثم ترديده
في تعميمه لغيره من الأعلام لا الصفات.
وبالجملة لا دليل على الالحاق إلا الاعتبار المأخوذ من الفحوى المجعولة
دليلا لإلحاق اسمه تعالى بالكتاب، فتأمل.
وتقييده (قدس سره) وجوب الوضوء لها بصورة وجوب مسها بأمر عرضي كالنذر
وأخويه أو وجوب اللمس لانقاذها من هاتك حرمتها إنما هو لعدم وجوب مسها
ذاتا، وإن توهم بعض أن وجوب مسه عند إخراجه من العذرة ذاتي والمقصود من
وجوب الوضوء لتلك الغايات وجوبه المقدمي الآتي له من قبل ذي المقدمة،
حيث إنه لا يجب بنفسه كما تقدم وإن منع الكلباسي الوجوب المقدمي، أيضا وقال
به لحرمة المس على غير المتطهر.
ولا يخفى عليك ما فيه، إذ المقدمية والتوقف إنما نشأت من هذا النهي، فإذا
حرم مسه بلا طهارة يعلم أن جوازه متوقف عليها، لأنه معنى منعه بدونها، وهذا هو
المراد بكون شيء مقدمة لغيره، فإذا وجب المس وجب الوضوء له، لتوقف جوازه
عليه الذي عرفت أنه معنى المقدمة.
قوله (قدس سره) - عاطفا على مس كتابة اسم الله الواجب بالعرض -: (وكتابة
القرآن حتى المد والتشديد من غير فرق بين اسم فرعون وقارون
وغيرهما) مما هو معدود من كلماته وحروفه، وتقديمه اسم الله عليه للإشارة
إلى الفحوى المذكور الذي هو وجه الحاقه به في هذا الحكم.
واستدل لوجوب الوضوء له بحرمة مسه عن غير المتطهر لقوله تعالى:
" لا يمسه إلا المطهرون " (1). والايراد عليه بأن حرمة المس على المحدث لا دلالة

(1) الواقعة: 79.
496

فيها على شرطية الطهارة مندفع، بأن توقف حلية المس على الطهارة المستفادة
من حرمته بدونها هو معنى اشتراطها فيه.
نعم أورد عليه الأستاذ - طاب ثراه - برجوع الضمير إلى الكتاب المكنون
الذي هو عبارة عن وجوده اللوحي بشهادة الإتيان بصيغة المفعول الدال على أن
الشرط في جواز مسه هو التطهير الذي هو فعل الغير لا فعل الماس فيكون حاصل
المعنى أنه يمتنع الاطلاع عليه ممن لم يطهره الله تعالى بالعصمة، فيختص مسه
الذي هو بمعنى الاطلاع عليه، بهم حيث لا يعقل فيما لا وجود كتبي له أن يمس
بالجوارح خصصنا المس بما ذكرناه وخصصناه بمن عصمهم الله من الأنبياء
والأوصياء والملائكة.
أقول: ويمكن أن نقول بمثل هذا المعنى مع تسليم رجوع الضمير إلى القرآن
الذي هو عبارة عن وجوده الكتبي بالقرينة المذكورة بأن يقال: المراد حرمة مسه،
بل مطلق التسلط عليه ممن لم يطهره الاسلام، فيكون حاصله منع الكفار
والمشركين عنه لا المحدث، لصدق أن الاسلام طهره بعكس الوضوء والغسل
فانهما بأنفسهما طهارة لا أنهما مطهران لموجدهما.
وأما استشهاد الامام (عليه السلام) بالآية الشريفة كما في رواية إبراهيم بن عبد
الحميد: " المصحف لا تمسه على غير طهر ولا جنبا، ولا تمس خيطه، ولا تعلقه،
إن الله عزوجل يقول: (لا يمسه إلا المطهرون) " (1) فيضعف دلالته على الحرمة من
اقتران نهي مسه بالنواهي التنزيهية من النهي عن التعليق ومس الخيط.
نعم لا بأس بالاستدلال بمرسلة حريز (2) لوجود حماد الذي هو من أصحاب
الإجماع في سنده مؤيدة بالشهرة المحققة الجابرة لسندها، بل الإجماع المحكي
عن الخلاف وظاهر غيره من استنادهم في الحكم بالحرمة إليها والى موثقة أبي
بصير أو صحيحته، ففي المرسلة أنه (عليه السلام) قال لولده إسماعيل: " يا بني اقرأ

(1) الوسائل 1: 269 ب 12 من أبواب الوضوء، ح 3.
(2) الوسائل 1: 269 ب 12 من أبواب الوضوء، ح 2.
497

المصحف، فقال: لست على وضوء، قال (عليه السلام): لا تمس الكتاب " (1) يعني الكتابة
والخط ومس الورق واقرأ، وفي الموثقة قال: " سألت أبا عبد الله عمن قرأ من
المصحف وهو على غير وضوء، قال (عليه السلام): لا بأس ولا يمس الكتاب " (2) أي الخط،
وهذا المقدار كاف في ثبوت الحكم الفرعي.
وأما تعميم الحكم للمد والتشديد فلأنهما بدلان عن الحرف المدرج في
الممدود والمشدد كما ينبئ عنه تعبيرهم عنهما بالقائم مقام الحروف كالهمزة،
بل الأقوى دخول الحركات البنائية والاعرابية أيضا، لأنها نقوش هيئات الألفاظ،
كما أن الحروف نقوش موادها. ومنه يعلم حال الحروف المبدلة، وأما الحروف
الحاكية عن الحروف المقلوبة عند القراءة على النهج العربي كالنون والميم
المكتوبتان بالحمرة فالظاهر خروجهما عن القرآن، لأنهما ليستا مما يتركب منها
ألفاظه وإنما هما حاكيتان عن حروفه المقروءة وعلامتان لها.
قوله (قدس سره): (وأما أسماء الأنبياء والأوصياء والملائكة فله مسها ما لم
تدخل في القرآن، وإن كان الأولى بل الأحوط في الأولين تركه مع قصد
المسمى) لأن تعظيم الاسم إنما جاء من قبل المسمى، ومن أجله حكموا بحرمة
مس اسم الله تعالى وأخرجوها من حرمة مس كتابة القرآن حيث استفيد من
أخبار منع مس الكتاب الكريم بغير وضوء إنه لتكريمه وشرافته فألحقوا به أسماء
الله للفحوى، فلذا يناسب أن لا يمس أسماء الأنبياء والأوصياء أيضا بغير وضوء،
لأن شرافتهم لا ينقص عن القرآن لو لم نقل: إن بعضهم أكرم عند الله تعالى منه.
ولعله لذا ذهب الأستاذ الشيخ - طاب ثراه - إلى منع المس بغير وضوء فعلق
على قول الماتن: " بل الأحوط " بقوله - طاب ثراه -: " لا يخلو عن قوة ظاهرا "،
وإن كان في إثبات مثل هذا الحكم بمثل هذا الدليل كلفة وتعسف. فاذا لا مناص
إلا الأخذ بالأوثق والحكم بما يقتضيه الحزم.

(1) الوسائل 1: 269 ب 12 من أبواب الوضوء، ح 2.
(2) الوسائل 1: 269 ب 12 من أبواب الوضوء، ح 1.
498

قوله (قدس سره): (والألفاظ المشتركة يعتبر فيها قصد الكاتب دون اللامس،
ومع الاشتباه فلا بأس، والأولى الاجتناب) أما الإناطة بقصد الكاتب فلا
شبهة فيه كما في كل كتابة في ما يترتب عليه حكم، نعم لو مس المكتوب بقصد
غيرهم (عليهم السلام) قاصدا إياهم بلا وضوء، فالظاهر دخوله في المتجري فيلحقه حكم
التجري، وأما عدم البأس عند عدم العلم بقصد الكاتب فللأصل المحكم من
البراءة عند الشك في التكليف.
وتوهم ثانوية الشك وإدخاله في الشك في المكلف به للعلم الإجمالي بأن
بعض تلك المكتوبات قصد به هم (عليهم السلام) أو القرآن مدفوع، بأنه من الشبهة الغير
المحصورة الغير اللازم فيها الاحتياط إجماعا، والشبهة الموضوعية لا يجب فيها
الفحص ما لم يلزم من إجراء الأصل فيها مخالفة كثيرة بحيث يرغب عنه العقلاء،
فإنه يجب فيه الاحتياط حينئذ قبل البحث فيه لذلك. ومن هذا البيان تبين وجه
أولوية الاجتناب.
قوله (قدس سره): (ولا فرق في الكتابة بين أن تكون بمداد أو بحفر) بعد صدق
اسم المس (أو بتطريز أو بغيرها، بل المدار على اسم القرآنية واسم الله
تعالى كيفما تكون الكتابة، ومن أي كاتب تكون حتى الريح ونحوها فيما
لم يحتج صدقها إلى قصد) كاسم الجلالة وبعض كلمات القرآن المختصة به
(كما أنه لا فرق بعد صدق اسم المس بين أن يكون بما فيه روح كاليد
وغيره كالظفر) وتفرقة بعضهم بينهما لا وجه له لو لم يرجع إلى منع الصدق
كالشعر مثلا (نعم الظاهر عدم تحققه بمس الشعر) لعدم صدق أنه مسه.
قوله (قدس سره): (ويستحب للصلاة والطواف المندوبين، وطلب الحاجة
وحمل المصحف، وأفعال الحج عدا الطواف والصلاة، وصلاة الجنازة،
وزيارة قبور المؤمنين، وتلاوة القرآن، ونوم الجنب، وجماع المحتلم،
وجماع غاسل الميت ولما يغتسل، ولمريد غسل الميت وهو جنب، وذكر
الحائض، والتجديد، وللكون على الطهارة، وللتأهب للفرض على الأقوى،
499

وجماع الحامل، وأكل الجنب وشربه، ودخول المساجد خصوصا مع إرادة
الجلوس فيها، ويلحق بها المشاهد المشرفة، والنوم، وجماع المجامع مرة
اخرى، وكتابة القرآن، والقدوم من سفر، وللزوجين ليلة الزفاف، وجلوس
القاضي في مجلس القضاء، وادخال الميت في القبر وتكفينه إذا أراده من
غسله، وقبل الأغسال المسنونة، وقبل الأكل وبعده) لا يخفى على البصير
اختلاف جهة الاستحباب في المذكورات حيث إن الاستحباب في بعضها نفسي
وفي بعضها غيري كما ستعرف إن شاء الله.
أما الأول: وهو استحبابه للصلاة المندوبة فظاهر أن استحباب الوضوء لها
غيري كوجوبه لفرضها، لكن على سبيل المسامحة وإلا فلا يخفى وجوبه لها
وجوبا شرطيا للإجماع على مضمون قوله (عليه السلام): " لا صلاة إلا بطهور " كما تقدم في
المفروض منها لو لم يدع ضروريته كما سبق دعواها في المفروض.
وأما الثاني: وهو استحبابه للطواف المندوب فلتوقفه ولو كمالا عليه فهو
مقدمة له بلحاظ حصوله كاملا، فرجحان هذا التحصيل مقتضي لرجحان ما يتوقف
عليه كما هو قضية كون الأمر بالشيء أمرا بمقدماته. ويؤيده قوله (عليه السلام): " الطواف
بالبيت صلاة " (1) وأما عدم توقف أصل حصوله عليه فلما كتبناه في الحج من
الروايات النافية للاشتراط التي بها يقيد إطلاق ما دل على الاشتراط لو سلم
إطلاقها. ومنها أيضا يستفاد استحبابه له بقرينة قوله (عليه السلام) وفيها: والوضوء أفضل (2).
وأما الثالث: فللرواية عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه (عليه السلام) يقول: " من طلب حاجة
فهو على غير وضوء فلم تقض فلا يلومن الا نفسه " (3)، وقوله (عليه السلام): " إني لأعجب
ممن يأخذ في حاجة وهو على وضوء كيف لا تقضى حاجته! " (4).

(1) المستدرك للحاكم: كتاب المناسك ج 1 ص 459.
(2) الوسائل 1: 261 ب 5 من أبواب الوضوء، ح 1.
(3) الوسائل 1: 262 ب 6 من أبواب الوضوء، ح 1.
(4) الوسائل 1: 262 ب 6 من أبواب الوضوء، ح 2.
500

ولا يخفى أن استحبابه في المقام نفسي بمعنى مطلوبيته لتلك الغاية بالرواية
على وجه التسبيب لا أن استحبابه ناش عن استحباب غايته كما هو شأن
المطلوبات الغيرية. لا أقول: إنه في المقام مطلوب لنفسه، لعدم خفاء كون مطلوبيته
فيه أيضا للغير، وإنما نفينا عنه المطلوبية التبعية الناشئة عن مطلوبية الغير، فليفهم.
وأما الرابع: فلرواية عبد الحميد عن أبي الحسن (عليه السلام) قال (عليه السلام): " المصحف
لا تمسه على غير طهر ولا جنبا ولا تمس خطه ولا تعلقه إن الله يقول لا يمسه
إلا المطهرون " (1) حملا للنهي على الكراهة لضعفها سندا عن إثبات الحرمة مع
الغض عن تحقق الإجماع على عدمها فيه، ثم استفادة الاستحباب على نحو
استفادة الوجوب من النهي عن المس كما تقدم.
وأما الخامس: فللروايات النافية للوضوء في ما عدا الصلاة والطواف من
أفعال الحج المستفاد منها ومن غيرها استحبابه لها وليصب من محله.
وأما السادس: فلما رواه عبد الحميد بن سعيد قال: " قلت لأبي الحسن:
الجنازة تخرج ولست على وضوء فإن ذهبت أتوضأ فاتتني، أيجزيني أن اصلي
عليها وأنا على غير وضوء؟ قال (عليه السلام): تكون على طهر أحب الي " (2)، وظاهر
الرواية وإن أفاد أن ترك الصلاة أحب اليه (عليه السلام) من فعلها بلا وضوء، ولكن المراد
منها الاهتمام بشأن الوضوء لها وايقاعها معه مهما أمكن لا الترك رأسا في حال
عدم الوضوء.
وأما السابع: فاستدل عليه الماتن في جواهره بالتسامح في أدلة السنن لفتوى
جماعة باستحبابه، مضافا إلى كونه من تعظيم الشعائر كما استدل به جمع،
وبالمرسل الذي حكاه عن الذكرى وجامع المقاصد، وعبارة الجامع دالة على
ورود النص به بخصوصه حيث قال: واستحبابه لزيارة القبور مقيد في الخبر بقبور
المسلمين، ولكن في كشف اللثام قال: " ولم أظفر لخصوصه على نص " بعد أن قيد

(1) الوسائل 1: 269 ب 12 من أبواب الوضوء، ح 3.
(2) الوسائل 2: 798 ب 21 من أبواب صلاة الجنازة، ح 2.
501

كلام ماتنه بالمؤمنين تبعا للجامع، وهو ظاهر شيخ (1) كاشف الغطاء حيث أدخله
في الشعائر، وكذا كل من حذى حذوه.
فإذن اثبات الخصوصية مشكل، لأن مقصودنا من الاستحباب الخاص ما
يكون متعلقا للأمر الشرعي، ليترتب على امتثاله في المحل القابل لرفع الحدث
رفعه وللإباحة الإباحة، ومن المعلوم عدم ترتبهما على الثابت بأدله التسامح كما
حققناه في محله. ومجرد ورود الخبر أيضا غير كاف ما لم يتصف بشرائط الحجية،
فالمرسل والضعيف أيضا لا يثبتانه ما لم ينضم اليهما التسامح، لأ نا لا نعول عليهما
بمجردهما ما لم ينجبر ضعفهما بقبول الأصحاب وعملهم عليهما.
وأما الثامن: فلما رواه الماتن في جواهره عن الخصال قال أمير المؤمنين:
" لا يقرأ العبد القرآن إذا كان على غير طهر حتى يتطهر " (2)، وما رواه عن قرب
الاسناد، عن محمد بن الفضيل قال: " سألت أبا الحسن (عليه السلام) أقرأ المصحف ثم
يأخذني البول فأقوم وأبول وأستنجي وأغسل يدي وأعود إلى المصحف وأقرأ
فيه، قال: لا حتى تتوضأ للصلاة " (3)، والظاهر أن المراد مثل وضوء الصلاة. وفي
كشف اللثام قال: وجدت مرسلا عن الصادق (عليه السلام): " أن لقارئ القرآن بكل حرف
يقرأ في الصلاة قائما مائة حسنة، وقاعدا خمسون حسنة، ومتطهرا في غير الصلاة
خمس وعشرون، وغير متطهر عشر " (4).
وأما التاسع: فلما رواه الماتن عن الحلبي عن الصادق (عليه السلام): " سئل عن الرجل
أينبغي له أن ينام وهو جنب؟ فقال: يكره ذلك حتى يتوضأ " (5). وفي الموثق على
ما قيل: " عن الجنب يجنب ثم يريد النوم، قال: إني احب أن يتوضأ، فليفعل،
والغسل أفضل من ذلك " (6).

(1) كذا، والظاهر: الشيخ.
(2) الخصال: حديث الأربعمائة ج 2 ص 627.
(3) قرب الاسناد: ح 1386 ص 395.
(4) الوسائل 4: 848 ب 13 من أبواب قراءة القرآن، ح 3.
(5) الوسائل 1: 501 ب 25 من أبواب الجنابة، ح 1.
(6) الوسائل 1: 502 ب 25 من أبواب الجنابة، ح 6.
502

ومنه يعلم أن الاستحباب المستفاد من الأول ليس من باب أن ترك المكروه
مستحب حتى يناقش فيه، بل خصوص التعبير يفيده. وعن الغنية والتذكرة
الإجماع على الاستحباب أو على الكراهة بغير وضوء. كما أن عن المعتبر عليها
علماءنا. ومقصودهم ظاهرا كراهته من غير وضوء كما في الموثق، فاستحباب
الوضوء إنما هو لكون الكراهة مرتفعة به فاكتفوا بذكرها عن ذكر ما تتوقف عليه،
كما ينبئ عنه رواية أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، عن آبائه، عن
أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: " لا ينام المسلم وهو جنب، ولا ينام إلا على طهور، فإن لم
يجد الماء فليتيمم بالصعيد، فإن روح المؤمن تروح إلى الله عز وجل فيلقها ويبارك
عليها، فإن كان أجلها قد حضر جعلها في مكنون رحمته، وإن لم يكن أجلها
قد حضر بعث بها مع امنائه من ملائكته فيردها في جسده من قوله (عليه السلام): ولا ينام
إلا على طهور بعد قوله: لا ينام المسلم " (1).
ومنه يعلم عدم الفرق بين الجنابة وغيرها من الأحداث الكبيرة، فما في
الجواهر من تضعيفه جريان الحكم في كل محدث بالحدث الأكبر. وتضعيفه
الاستدلال بما دل على استحباب التطهر لمن أراد النوم الشامل للمقام بأنه لا يفيد
الاستحباب المخصوص كالجنب. ففيه أن ظاهر كلمة " لا ينام المسلم إلا على
طهور " استحبابه لكل محدث كغيرها مما دل على استحباب التطهر لمريد النوم من
غير ملاحظة حدث خاص.
نعم يبقى منع دلالتهما على استحباب التوضي لمن لا يرتفع حدثه به، لعدم
صدق التطهر في حقه والخطب فيه سهل، لأنه بعد أن ثبت في الأقوى وهو الجنابة
كما هو قضية الموثق المتقدم ثبت في الأضعف بطريق أولى بعدما علم أن المقصود
منه تخفيف الحالة الحدثية كما ينبئ اليه الأمر بالتيمم في رواية أبي بصير هذه،
ويرشد اليه الآمرة بالوضوء للجنب لغير نومه أيضا، مع أن الوضوء لا يرفع من

(1) الخصال: حديث الأربعمائة ج 2 ص 613.
503

حدث الجنب شيئا كما هو دخيل لرفع غيرها من الأحداث الكبار. وهذا ما أشرنا
اليه من الأولوية ومما يشيد العموم ما ورد في وضوء الحائض عند جلوسها في
مصلاها لذكر الله. وما عن الارشاد عن النبي (صلى الله عليه وآله): " أن الله تعالى يقول: من أحدث
ولم يتوضأ فقد جفاني " (1) الحديث.
فاتضح من تمام ما ذكر من الأخبار وكلمات الأخيار ومعقد الإجماع
مطلوبيته بعنوان الطهورية للنوع مطلقا، فهو في المحل القابل رافع وفي غيره
مخفف، فإذن لا يصغى إلى أن ما يكون غايته الحدث كيف يرفع الحدث؟! كما
سيأتي.
وأما العاشر: فاستدل عليه الماتن في جواهره بمرسلين حكاهما عن الذكرى
والمدارك حيث إنهما بعد ذكرهما الوضوءات المستحبة ذكرا كما في المدارك، وقد
ورد بجميع ذلك روايات، وبما ورد في استحبابه لجماع المجامع مرة اخرى.
وعن النزهة التعليل لاستحبابه له بأنه " لا يؤمن إذا جامع قبل أن يغتسل أو
يتوضأ إذا حملت من ذلك الجماع أن يجي الولد مجنونا "، ونحو هذا التعبير مشعر
بعثوره على رواية بهذا المضمون، لأنهم رضوان الله عليهم لا يتفوهون بحكم من
الأحكام وبعللها من قبل أنفسهم رجما بالغيب ما لم يصل إليهم من أئمتهم فيها
شيء. ولما لم يكن هذا الوضوء مما يرفع به حدث أو يباح به المشروط بطهارة
لا غرو في القول باستحبابه بتلك الاشعارات تسامحا في أدلة السنن بعد ثبوت
مشروعيته للجنب وعدم حرمته عليه من غير جهة التشريع، والتشريع مرتفع بأدلة
التسامح وبالاذن المستفاد مما ذكر.
وأما الحادي عشر والثاني عشر: فلرواية ابن عبد ربه عن الصادق (عليه السلام): " عن
الجنب أيغسل الميت؟ أو من غسل ميتا أيأتي أهله ثم يغتسل؟ قال (عليه السلام): هما
سواءلا بأس بذلك إذا كان جنبا غسل يده وتوضأ، وغسل الميت وهو جنب وإن
غسل ميتا ثم أتى أهله توضأ ثم أتى أهله، ويجزيه غسل واحد لهما ".

(1) ارشاد القلوب ص 60.
504

وأما الثالث عشر: فلما في كشف اللثام من دعواه ألاخلاف فيه استظهارا،
والأصل فيه النصوص المستفيضة، وفيها الصحاح على أنها تتوضأ وقت الصلاة
وفي بعضها وضوء الصلاة وتقعد في موضع طاهر، ثم تستقبل القبلة وتذكر الله
مقدار الصلاة ثم تفرغ لحاجتها، وفي حكمها النفساء، لأنه حيض محتبس كما
حقق في محله. وفي بعضها ضم الوضوء عند إرادتها الأكل أيضا، وفيه إشعار
بمطلوبية الوضوء عنها لكل ما ندب فيه إلى الوضوء ولو كمالا في غير الحائض،
فيكون دليلا على العموم في المورد التاسع أيضا من استحباب الوضوء للنوم لكل
محدث بالأكبر.
وأما الرابع عشر: فلا خلاف فيه في الجملة كما في الكشف، وبه نصوص كثيرة
كقوله (عليه السلام) كما في الوسائل مرسلا: " الوضوء على الوضوء نور على نور " (1) وفيه
أيضا مسندا عن مفضل بن عمر، عن أبي عبد الله (عليه السلام): " من جدد وضوءه لغير
حدث جدد الله توبته من غير استغفار " (2).
وفي مرسل سعدان عنه (عليه السلام) أيضا: " الطهر على الطهر عشر حسنات " (3).
وظاهر إطلاقها عدم اشتراط ايقاعه لفعل صلاة ولا فصل صلاة بينه وبين السابق
عليه، ولا فصل زمان بينهما معتد به، ولا احتمال وقوع خلل في الأول أو وقوع
ناقض له.
كما عن التذكرة التصريح باستحبابه ومشروعيته مطلقا كما حكاه الماتن
في جواهره والفاضل في الكشف لقضية الإطلاق.
وفي جامع المقاصد تبعا للتذكرة اختيار الإطلاق، وهو ظاهر من أطلق
كما في الدروس والمدارك.
ولكن عن الذكرى والروض، وظاهر المختلف التوقف في المشروعية ما لم

(1) الوسائل 1: 265 ب 8 من أبواب الوضوء، ح 8.
(2) الوسائل 1: 264 ب 8 من أبواب الوضوء، ح 7.
(3) الوسائل 1: 264 ب 8 من أبواب الوضوء، ح 3.
505

يصل بالأول، بل ربما استظهر من الفقيه المنع، لما فيه من أن النبي (صلى الله عليه وآله) يجدد
الوضوء لكل فريضة ولكل صلاة، بل عن الذكرى منع التكرير لصلاة واحدة معللا
بأصالة عدم المشروعية وأدائه إلى الكثرة المفرطة، وعن ظاهر المختلف الميل اليه
من قوله: لم أقف فيه على نص كما عن محتمل الفخر منعه من تكرير التجديد.
وربما يستأنس له من أخبار الباب بالنبوي المذكور، وبالمرسل عن سماعة
قال: " كنت عند أبي الحسن (عليه السلام) فصلى الظهر والعصر بين يدي وجلست عنده
حتى حضرت المغرب فدعا بوضوء فتوضأ للصلاة ثم قال لي: توضأ، فقلت جعلت
فداك أنا على وضوء، فقال (عليه السلام): وإن كنت على وضوء، إن من توضأ للمغرب كان
وضوؤه ذلك كفارة لما مضى من ذنوبه في يومه إلا الكبائر، ومن توضأ للصبح كان
وضوؤه كفارة لما مضى من ذنوبه في الليلة إلا الكبائر " (1). ومثله غيره مما هو
بمضمونه وبما عن الرضا (عليه السلام) قال: " تجديد الوضوء لصلاة العشاء يمحو لا والله
وبلى والله " (2).
وفيه عدم دلالة شيء منها على التقييد والاشتراط، لقوة احتمالها واردة
لإراءة أفضل أفراد التجديد وإراءة أحسن محاله.
وأضعف منه الاستناد إلى ما دل على المنع من التوضي لمن كان متطهرا ما لم
يستيقن بالحدث كقوله (عليه السلام): " إذا استيقنت أنك توضأت فإياك أن تحدث وضوء
أبدا حتى تستيقن أنك أحدثت " (3) بتقريب ترجيحه على أخبار الباب في غير ما
اتفق على خروجه أو للحكم بتساقطهما للتعارض والرجوع إلى أصالة عدم
المشروعية لا لما سلكه بعض المعاصرين من تسليم التعارض، وجعل النسبة
بينهما عموما من وجه، وترجيحه أخبار الباب عليه بالإجماع وغيره، أو لكون
أخبار الباب أخص منه مطلقا فيقيد بها، بل لعدم تعارض بينهما لظهور المانعة في

(1) الوسائل 1: 264 ب 8 من أبواب الوضوء، ح 2.
(2) الوسائل 1: 264 ب 8 من أبواب الوضوء، ح 6.
(3) الوسائل 1: 332 ب 44 من أبواب الوضوء، ح 1.
506

غير الوضوء التجديدي، ولورود أخبار التجديد عليها لو سلم عمومها، لأنها ناظرة
إليها وواردة في موردها.
فالأقوى جواز التجديد مطلقا ما لم يلحق فاعله باللاغي والعابث،
للمستفيضة الدالة على المشروعية بلا تقييد بشيء من الامور المذكورة المشار
إليها المحتمل اشتراطها بها، فكما ضعف احتمال الاشتراط بشيء من المذكورات،
لعدم دلالة الأخبار على نفي المطلوبية عن غير موردها، وإنما دلت على تأكد
المطلوبية في تلك الموارد كذلك يضعف الإطلاق المحكي عن بعض الأصحاب
من استحباب التكرار وإن لم يكن بقصد التجديد، لعدم دليل على جوازه. وكون
ايجاده لغوا، بل محرما لو أتى به بعنوان التعبد.
نعم يحتمل أن يكون مقصود المطلق عدم لزوم قصد التجديد في النية بعنوان
الغائية لا مشروعية الوضوء بغير عنوان التجديد، ثم الظاهر عدم مشروعيته في
غسل الجنابة، كما أن الظاهر عدم مشروعية التجديد في غيره من الطهارات
بمجانسها أو بمخالفها، لعدم الدليل لعدم وفاء مرسل سعدان بإثباته، إذ لا إطلاق
فيه، فإنه من تلك الجهة مهمل.
وأما الخامس عشر: ففي كشف اللثام كأنه لا خلاف فيه. وعن مصابيح بحر
العلوم الإجماع عليه، وعن المفيد في الأمالي عن أنس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" يا أنس أكثر من الطهور يزيد الله في عمرك، وإن استطعت أن تكون بالليل والنهار
على طهارة فافعل، فإنك تكون إذا مت على طهارة شهيدا " (1) وفي النبوي الآخر
يقول الله عزوجل: " من أحدث ولم يتوضأ فقد جفاني، ومن أحدث وتوضأ ولم
يصل ركعتين فقد جفاني، ومن أحدث وتوضأ وصلى ركعتين ودعاني ولم اجبه
فيما سألني من أمر دينه ودنياه فقد جفوته، ولست برب جاف " (2). وعن

(1) امالي المفيد: ج 5 ص 60.
(2) الوسائل 1: 268 ب 11 من أبواب الوضوء، ح 2.
507

أمير المؤمنين: " كان أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا بالوا توضأوا أو تيمموا مخافة أن
تدركهم الساعة ".
ويؤيده قوله تعالى: " إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين " وجملة من
أخبار التعقيب من قوله: " المؤمن معقب ما دام متطهرا ". ولا ينافي استحبابه القول
بعدمية الطهارة ووجودية الحدث بجعله عبارة عن الحالة المانعة والطهارة رافعة
لها، أي عبارة عن رفعها، لأن الشارع جعل الوضوء مثلا سببا لرفع تلك الحالة،
ولما كان مطلوبه جل اسمه كون عبده دائما قابلا للقائه ومناجاته جل شأنه أمره
بالتخلية عن الرذيلة لكي تتسم بالجميلة فتنخرط في المحبوبين، فإنه تعالى جميل
يحب الجمال.
نعم يبقى في المقام أن لازم هذا المشيء كون الوضوء مستحبا نفسيا، إذ ليس
الكون على الطهارة غاية من غايات الوضوء كالصلاة وأمثالها، ولا يكون مطلوبا
إلا إذا ترتب عليه الطهارة وحصلت به، ومعلوم عدم ترتبها عليه ما لم يؤت به
بداعي الأمر، فالأمر به لأجل حصولها دوري، وقد تقدمناه عن شيخنا الأستاذ
- طاب ثراه - مع أجوبته الثلاثة عنه.
والأحسن الالتزام بالاستفادة من أمره ولو المقدمي شيئين أحدهما: جعل
سببا لحصول تلك الحالة، والثاني: مطلوبيته لحصولها ولو مقدمة لأمر آخر، وكأنه
إلى هذا الإشكال ينظر ما عن شارح الدروس من قوله بعد منع المستند لاستحبابه
سوى الشهرة: " وعدم اتضاح كون الكون على الطهارة غاية برأسها، إذ وجود
حالة في المكلف عقيب الوضوء سوى وقوع الأشياء المتوقفة على الوضوء كاملا
أو صحيحا غير معلوم " انتهى.
وغير خفي على المتأمل في أدلة مطلوبيته كتابا وسنة بعد ضم بعضها إلى بعض
أن ليس المطلوب لتلك الأشياء نفس صورة تلك الأفعال، بل إنما المرتبط بها حالة
حاصلة منها في المكلف عقيب الإتيان بها بداعي الأمر تسمى طهارة كما هو الحق
من أنها أمر وجودي ولو على القول بالعدمية، لأن معنى عدميتها أنها رافعة لتلك
508

الحالة الخبثية الحاصلة للنفس من الحدث المانعة من وقوع تلك الأشياء كاملا
أو صحيحا لا أنها عدم صرف، إذ لا شبهة في نورانية النفس بعد الإتيان بها إما
لأنها بنفسها نور كما يشهد له قوله (عليه السلام): " نور على نور " أو لتصيقل نور النفس بها
بعدان غشي بظلمة تلك الحالة الخبثية التي وجدت لها من أسباب الاحداث التي
هي لها كالحاصلة للمرأة من ورود الواردات الكاسفة لنورها المحتاجة إلى إعمال
مصيقل مذهب لذلك الكاسف، فينجلي نورها وضياؤها كما يشهد له قولهم: " إنها
نظافة ونضارة من ظلمة الذنوب " فعلى القولين تلك الأفعال أسباب لما يتوقف
عليه نورانية النفس ليتأهل لصدور تلك الغايات عنها ويحصل لها شأنية حضور
حضرة السلطان، فالمتوقف عليه تلك الغايات في الحقيقة إنما هي تلك النورانية
لا صورة تلك الأفعال بما هي هي، ومن المعلوم عدم حصولها بها مطلقا، بل على
ما يراه الشهيد من كونها محصلا لها وبه يتضح معنى عباديتها أيضا وعدم حصول
المطلوب منها إلا بإتيانها بداعي الأمر، فافهم وتبصر.
وأما السادس عشر: ففي جواهر الماتن وكأنه مستغني عن الدليل، لأن
المعروف من السلف التأهب للفريضة والمحافظة على نوافل الزوال والفجر، وعن
الشهيد في الذكرى أنه روى ما وقر الصلاة من أخر الطهارة حتى يدخل الوقت،
وعن المجلسي نسبته إلى الأصحاب، وعن المنتهى الاستدلال بكونه مقدمة
المستحب لاستحباب ايقاع الصلاة أول وقتها، ولا يتم إلا بايجاد الوضوء قبل
الوقت وهو كذلك، إذ لا ريب في مطلوبيته ايقاع الصلاة أول الوقت، لتطابق
الأخبار وكلمة الأخيار عليه، فينشأ منها مطلوبية ايجاد مقدماتها على وجه
لا يفوت بسببها شيء من الوقت.
ولا يتوهم أن الصلاة أول الوقت واجبة فلو نشأ من مطلوبيتها مطلوبية
الوضوء حينئذ لزم القول بوجوبه قبل الوقت، مع أنه لم يقل به أحد من القائلين
باشتراط وجوب الصلاة بدخول الوقت كما هو الحق، ويفصح عنه الأخبار أيضا
509

مثل قوله (عليه السلام): " إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة " (1)، بل لم يجوزوا ايجاده
بقصد الوجوب حينئذ، لأن الواجب هو نفس الصلاة الواقعة أول الوقت،
والمستحب ايقاعها حينئذ، بمعنى أن المستحب ايجاد طبيعة الواجب في ضمن
هذا الفرد المتشخص بالزمان الخاص كالمتشخص بالمكان الخاص مثل
المسجدية، فالمتصف بالاستحباب إنما هو شخص الفرد بلحاظ تشخصه،
والواجب هو بلحاظ تحقق الطبيعة في ضمنه.
نعم الموجود الخارجي لا يتصف إلا بالوجوب لقاهرية جهة الوجوب على
جهة الاستحباب عند اجتماعهما باعتبار فصليهما، ويبقى الجهة المقتضية
للرجحان الاستحبابي بحالها، فمقتضى مطلوبيتها مطلوبية ما يتوصل به إليها، ولعله
من جهة مسلمية تلك المطلوبية ومسلمية مطلوبية ما به يتوصل إلى ذلك المطلوب
اشتبه الأمر على بعض متأخري المتأخرين، بل المعاصرين، فالتزم بإحداث
مطلب جديد من الواجب المعلق وجعل جملة كثيرة من الواجبات من هذا القبيل
حيث رأى مسلمية أن الواجب المشروط لا يقتضي ايجاب مقدماته قبل حصول
شرط الوجوب، ورأى أنهم يمنعون تفويت الموجود من مقدمات الواجب
المشروط على من يعلم بعدم تمكنه منها عند تنجز الواجب عليه بحيث إنه لو لم
يحصلها قبل زمان الوجوب وأخرها اليه يفوت عنه بسببه نفس الواجب في وقته
وعند حصول باقي شرائطه، فالتزم بأن الواجبات المؤقتة اللواتي هي من
المشروطة عند العلماء من الواجبات المطلقة المعلقة حصولها بالوقت المخصوص
لا وجوبها به، فجعل الوقت وقتا للواجب لا للوجوب فحكم بوجوب تحصيل
مقدماته قبل الوقت لكونها مقدمات للواجب المطلق.
ونحن تبعا للشيخ الأستاذ - طاب ثراه - قد صححنا المنع من تفويت ما
يوجب عدم أقدار المكلف على الواجب بحيث يخرجه عن حيطة التكليف ويمنع
المكلف الحكيم عن إيراد تكليفه على مثل هذا الغير القادر، لعموم حكم العقل بمنع

(1) الوسائل 1: 261 ب 4 من أبواب الوضوء، ح 1.
510

التكليف بما لا يطاق وبأن المعصية لما كانت بحكم العقل فهو لا يفرق فيها بين
مخالفة المولى في تكليفه الموجه أو منعه عن توجيه التكليف بقطع لسانه عن
الطلب الفعلي بتصيير الشخص نفسه غير قادر في زمان يعلم أن المولى يطلب منه
العمل الكذائي منجزا، فهما سواء عند العقل في كونهما معصية للمولى ومخالفة له
وإن لم يتنجز الطلب منه في الثاني، وإذ لم يكن جهة المنع هنا إلا تمامية المقتضي
للطلب في الوقت، وكون المصلحة بعد حضوره ملزمة وعدم مانع عن الطلب سوى
حضوره، ومسلم أيضا أن الفعل بعد الوقت في أول آنات دخوله متصف بالطلب
المنجز وواجد للمصلحة التامة الكاملة، ومسلم أيضا كمال المطلوبية في ايجاد
هذا المطلوب في أول وقته كما أفصح عنه الأخبار، وأطبق عليه كلمة الأخيار
فلا جرم يحكم العقل بحسن الاشتغال بتحصيل المقدمات بحيث إذا فرغ منها
يدخل في الواجب بلا مهلة عرفية، ومنه يعلم أن التأهب لا يتحقق معناه إلا بايجاد
الوضوء مثلا عند حضور الوقت لا مطلق ما يكون قبل الوقت.
إذا عرفت هذا تبين لك ما في منع الفاضل في الكشف من ثبوت هذا
المستحب بقوله: " أما الخبر فلم أظفر به، وأما الاعتبار فلا أرى الوضوء المتقدم
إلا ما يفعل للكون على طهارة، ولا معنى للتأهب للفرض إلا ذلك " انتهى. لوضوح
الفرق بين المعنيين مما أسلفناه لك، فالوجه لاستحبابه ما ذكرناه، والخبر المرسل
وهو وإن لم يبلغ درجة الحجية في نفسه إلا أنه يمكن جبره بالشهرة فينهض به لها،
ولا يسع لأحد نفيها، لأن الظاهر تحققها كما يظهر ممن رأيناهم ممن تعرض له
وحكم بثبوته حيث أرسلوه إرسال المسلمات كما في الدروس والمدارك
والجواهر، وعن الوسيلة والجامع والنزهة والبيان والنفلية والمنتهى ونهاية
الإحكام والذكرى والدلائل، ويؤكد تحققها ما سمعته مما تقدم عن المجلسي من
نسبته إلى الأصحاب، فالقول بجواز التوضي لصلاة حضر وقتها قبل الوقت بمقدار
ما يعد تهيأ للاشتغال بها أول الوقت بحيث يعد هذا من الاشتغال بها في أول وقتها
بحسب العادة لا بأس به. ومنه تعرف أن في تسمية هذا الوضوء من المستحب
511

للتأهب تسامحا، إذ ليس التأهب غاية مستقلة في عرض الغايات المندوبة
المطلوبة لأجلها الوضوء، وإنما غاية هذا الوضوء هي الصلاة المؤداة في أول
الوقت وإنما سمي بكونه مستحبا للتأهب، لأن الوضوء لهذه الصلاة واجب لكن
بعد تنجز وجوبها، فاستحبابه إنما هو بلحاظ الإعداد والتهيؤ لإتيان الواجب في
أول وقت فضيلته الذي هو مطلق بلا شبهة، فتسميته بالمستحب إنما هو لذلك كما
بيناه، وإلا فهو في الحقيقة من أقسام الوضوء الواجب، لأنه أتى به لأداء الواجب
كما عرفت.
وأما السابع عشر: فللنبوي (صلى الله عليه وآله) " يا علي إذا حملت امرأتك فلا تجامعها إلا
وأنت على وضوء، فإنه إن قضي بينكما ولد يكون أعمى القلب بخيل اليد " (1)،
والشهرة جابرة كما تقدم مع أنه في الوسائل رواه عن الأمالي والعلل، وعن عبد الله
ابن جعفر الحميري عن كتاب الدلائل أيضا، والمنقول عن الكتب المعتبرة معتبر
على ما فصل في محله.
وأما الثامن عشر: فلصحيحة الحلبي: " إذا كان الرجل جنبا لم يأكل ولم
يشرب حتى يتوضأ " (2). وحمل الوضوء على غسل اليد والوجه لاستعماله فيه في
غير واحد من الأخبار خلاف الظاهر، لا يصار إليه بلا قرينة واضحة عليه سيما بعد
التقابل، كما في الصحيح عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:
" قلت له: أيأكل الجنب قبل أن يتوضأ؟ قال: إنا لنكسل، ولكن ليغسل يده والوضوء
أفضل " (3) فإنه بقرينة المقابلة والأفضلية وتعليل الاكتفاء بالغسل وعدم الوضوء
بالكسالة يصير إرادة المعنى المصطلح في كمال الوضوح، فهو بناء عليه في كمال
صراحة الدلالة. فإذن الأقوى التخيير بينهما.
وأما التاسع عشر: كما أفتى به الأكثر فللنبوي: قال الله تعالى: " ألا إن بيوتي

(1) الوسائل 1: 270 ب 13 من أبواب الوضوء، ح 1.
(2) الوسائل 1: 495 ب 20 من أبواب الجنابة، ح 4.
(3) الوسائل 1: 496 ب 20 من أبواب الجنابة، ح 7.
512

في الأرض المساجد تضي لأهل السماء كما تضي النجوم لأهل الأرض،
ألا طوبى لمن كانت المساجد بيوته، ألا طوبى لمن توضأ في بيته ثم زارني في
بيتي، ألا إن على المزور كرامة الزائر، ألا بشر المشائين في الظلمات إلى المساجد
بالنور الساطع يوم القيامة " (1). وللعلوي: " من أحسن الطهور ثم مشى إلى المسجد
فهو في الصلاة ما لم يحدث " (2). ولصحيحة مرازم بن حكيم عن الصادق (عليه السلام):
" عليكم بإتيان المساجد فإنها بيوت الله في الأرض ومن أتاها متطهرا طهره الله
من ذنوبه، وكتب من زواره " (3). وفي الصحيح عن كليب الصيداوي عنه (عليه السلام) قال:
" مكتوب في التوراة: أن بيوتي في الأرض المساجد، فطوبى لمن تطهر في بيته ثم
زارني في بيتي " (4).
وأما آكديته لخصوص الجلوس فلمرسلة علاء بن فضيل عن الباقر (عليه السلام) قال:
" إذا دخلت المسجد وأنت تريد أن تجلس فلا تدخله إلا طاهرا " (5). وبالتأمل في
تلك الأخبار وأخبار فضل إتيان المشاهد والأخبار الواردة في بيان سبب فضل
المسجد كما أفصح عنه السيد (رحمه الله) في الدرة بقوله:
والسر في فضل صلاة المسجد * قبر لمعصوم به مستشهد
بقطرة من دمه مطهره * طهره الله لعبد ذكره
يعلم وجه إلحاق المشاهد بالمساجد سيما مع ما ورد في فضل زيارة
الحسين (عليه السلام) وأبيه بأن زائرهما زائرا لله، بل في الثاني زار الله تعالى زائره.
وبتلك الملاحظة يسع للفقيه أن يحكم باستحباب الوضوء لزيارتهم (عليهم السلام) وإن
لم يرد به نص، كيف؟ وقد ورد بل ويتعدى منهم (عليهم السلام) إلى المؤمنين من شيعتهم من

(1) الوسائل 1: 268 ب 10 من أبواب الوضوء، ح 5.
(2) لم نعثر عليه.
(3) الوسائل 1: 267 ب 10 من أبواب الوضوء، ح 2.
(4) الوسائل 1: 267 ب 10 من أبواب الوضوء، ح 4.
(5) الوسائل 1: 266 ب 10 من أبواب الوضوء، ح 1.
513

أهل القبور، فيقال باستحباب الوضوء لزيارتهم أيضا كما أفتى به الفقيه المتبحر
الشيخ كاشف الغطاء، لكن بتفاوت مراتب الرجحان برجحان مرتبة المزور،
ولا ريب أنه من تعظيم الشعائر، فلا بأس بالقول به.
وأما العشرون: فلقول الصادق (عليه السلام): " من تطهر ثم آوى إلى فراشه بات
وفراشه كمسجده " (1). وفي رواية اخرى بعده: " فإن ذكر أنه ليس على وضوء
فتيمم من دثاره كائنا ما كان لم يزل في صلاة ما ذكر الله " (2) وعن شعيب
العقرقوفي عنه (عليه السلام) روي سلمان عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: " من بات على طهر
فكأنما أحيا الليل " (3).
ولا يخفى على المتأمل في الروايات أنه لا مجال للتأمل في كون الوضوء هذا
أي المأتي به للنوم رافعا للحدث مع الغض عما أسسناه من أن اتيانه بداعي الأمر
في المحل القابل يفيد الرفع، ولا يصغى إلى تخيل من قال: إن ما كان غايته الحدث
كيف يرفع الحدث؟ لأن المطلوب للنوم هو الطهارة كما أنبأ عنه النبوي المزبور.
وفي إطلاق الطهارة على الوضوء الصوري غاية التنفر، مضافا إلى ما بين فيها
من أن غايته ليس نفس النوم وإنما هو تكميله بدرك الفيوض المفاضة عليه من
مبدأ الفيض يجعل نفسه قابلا لملاقاة الله عزوجل كما تقدم الإشارة اليه في حديث
أبي بصير في نوم الجنب، فتبصر وافهم فإن المتطهر قابل لأن يفاض عليه،
فتحصيل الطهارة إنما هو لجعل نومه عبادة وصيرورة نفسه قابلا لحضور محض
القدس وصيرورة روحه عند صرفها عن علقتها بالبدن قابلة للسير مع الروحانيين
ومتجنبة عن الانس بالشياطين كما تضمنتها أخبار الباب المأثورة عن الأئمة
الطاهرين.
وأما الحادي والعشرون: فلما عن كشف الغمة عن حسن بن علي الوشا، قال:

(1) الوسائل 1: 265 ب 9 من أبواب الوضوء، ح 1.
(2) الوسائل 1: 265 ب 9 من أبواب الوضوء، ح 2.
(3) الوسائل 1: ب 9 من أبواب الوضوء، ح 3.
514

" قال فلان بن محرز: بلغنا أن أبا عبد الله (عليه السلام) كان إذا أراد أن يعاود أهله للجماع
توضأ وضوء الصلاة فاحب أن تسأل أبا الحسن الثاني (عليه السلام)، قال الوشا: فدخلت
عليه فابتدأني من غير أن أسأله فقال (عليه السلام): كان أبو عبد الله (عليه السلام) إذا جامع وأراد أن
يعاود توضأ وضوء الصلاة، وإذا أراد أيضا توضأ للصلاة " (1). وبضميمة قاعدة
التسامح يتم المطلوب، هذا مع الغض عما في نكاح المبسوط من قوله عند الطواف
على النساء بغسل واحد " المستحب أن يغسل بعده - يعني بعد الجماع - فرجه
ويتوضأ وضوء الصلاة بلا خلاف ". وفي المروي عن ابن أبي نجران عمن رواه عن
الصادق (عليه السلام) قال: " إذا أتى الرجل جاريته ثم أراد أن يأتي اخرى توضأ " (2).
وأما الثاني والعشرون: فلصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) أنه
سأله عن الرجل " أيحل له أن يكتب القرآن في الألواح والصحيفة وهو على غير
وضوء قال: لا " (3)، وظاهرها وإن كان الوجوب لظاهر النهي، ولذا عن مشرق
الشمسين كما عن الكاشانيين في المفاتيح وشرحه الميل إلى الحرمة بدونه، إلا أنه
لإعراض الأصحاب عن هذا الظاهر كما يظهر من فتواهم جازمين عليه بالجواز
من غير نقل خلاف، بل عن العلامة أنه لم ينسب الخلاف في جملة من كتبه إلا إلى
الشافعي، وعن الذخيرة أن ظاهر الصحيحة غير معمول به عند الأصحاب، وعن
البحار لم يقل به أحد، وعن رياض الزهرية لا قائل به، وعن المولى البهبهاني في
شرح المفاتيح إجماع جميع الفقهاء النقاد على ترك العمل بهذا الظاهر يحمل على
الاستحباب كما حمله الشيخ عليه على ما في الوسائل.
وأما الثالث والعشرون: فلقول الصادق (عليه السلام): " من قدم من سفره ودخل على
أهله وهو على غير وضوء فرأى ما يكره فلا يلومن إلا نفسه " مؤيدا بالشهرة
المحققة فلا بأس في القول بمقتضاه من مطلوبية الوضوء له.

(1) كشف الغمة: ج 2 ص 302.
(2) الوسائل 14: 192 ب 155 من أبواب مقدمات النكاح، ح 1.
(3) الوسائل 1: 270 ب 12 من أبواب الوضوء، ح 4.
515

وأما الرابع والعشرون: فاستدل عليه الأصحاب بخبر أبي بصير عن أبي
جعفر (عليه السلام) بقوله: " فمرها قبل أن تصل إليك أن تكون متوضية ثم أنت لا تصل إليها
حتى تتوضأ " (1)، والخبر على ما في الوسائل غير واف بالمطلوب وهو استحباب
الوضوء للزوجين معا لمحض الزفاف، لأنه نقله في رجل مسن تزوج بكرا صغيرة
فأظهر لأبي جعفر (عليه السلام) خوفه كراهتها إياه إذا رأته مختضبا شيبا كبير السن
فأمره (عليه السلام) بأن يأمرها بالوضوء ويتوضأ هو ويصلي ركعتين ويمجد الله ويصلي
على محمد وآله ويدعو الله ويأمر من معها أن يؤمنوا على دعائه ويسأل الله أن
يرزقه الفها وودها ورضاها، وأين هو من استحباب الوضوء له للزفاف نفسه؟!
اللهم إلا أن يتمسك له بدلالة الخبر على وضوئها من غير صلاة، فإذا ثبت
استحبابه فيها ثبت فيه، لعدم القول بالفصل ثم يؤيد بثبوته للمجامع حتى في صورة
عدم رفعه لحدثه كالمحدث بالأكبر لقضية الأولوية، مضافا إلى أنه أمر عظيم
يناسبه الوضوء كالحاجة وما ضاهاها.
وبالجملة يمكن استفادة مطلوبيته لهما مطلوبيته لسائر المهام والحوائج
والامور العظيمة المطلوبة لأجلها الوضوء، إلا أنه ليس بحيث يمكن الاعتماد عليه
في إثبات الحكم الشرعي، ولعله لذا خصه السيد في الدرة بزوجة زفت إلى من
قد خطب.
وأما الخامس والعشرون: " توضأ إذا أدخلت " فلم يظفر في كشف اللثام بنص
له بخصوصه، والمناسبات المذكورة في متلوه تقتضي ثبوته فيه سيما وأن الجلوس
فيه جلوس في محل النبي (صلى الله عليه وآله) والوصي، وابراز قائم مقامية عنهم (عليهم السلام) فليتلبس
بما يناسب تلك المنزلة.
وأما السادس والعشرون: ففي الموثق عن محمد بن مسلم عن أبي
عبد الله (عليه السلام) في حديث قال: " توضأ إذا أدخلت الميت القبر " (2). وتوهم وجوبه

(1) الوسائل 14: 81 ب 55 من أبواب مقدمات النكاح، ح 1.
(2) الوسائل 2: 877 ب 53 من أبواب الدفن، ح 1.
516

مع الغض عن عدم ظهوره فيه مدفوع بما في صحيح محمد بن مسلم عن
أحدهما (عليهما السلام) في حديث، قال: " قلت له: من أدخل الميت القبر عليه وضوء؟ قال:
لا " (1)، لظهور أن الوضوء المنفي هو الواجب كما يعطيه كلمة عليه، فيتمحض الأمر
به للندب، هذا.
وترى ما فيه من عدم اختصاص مطلوبيته، بخصوص الغاسل.
وأما الوضوء لتكفينه فلم أجد عليه نصا لا للغاسل ولا لغيره، ولكن أكثر
الأصحاب قالوا به لخصوص الغاسل مخيرين بينه وبين الغسل وأثبته في الروضة
لغيره بالأولوية، وفيهما نظر بين.
وأما السابع والعشرون: فاستدل له بمرسل ابن أبي عمير: " كل غسل قبله
وضوء إلا غسل الجنابة " (2).
وفيه ما لا يخفى فإنه لبيان الحاجة إلى الوضوء، وعدم كفاية غير غسل
الجنابة بلا وضوء لصحة الدخول في المشروط بالطهارة، وتوقف إباحته له على
الوضوء وأين هو من مطلوبية الوضوء في نفسه قبل تلك الأغسال؟!
وأما الثامن والعشرون - وهو آخر الغايات المندوبة فيها الوضوء في
الرسالة -: فللأخبار (3) الواردة فيه الآمرة بايجاده قبله وبعده، وهي كثيرة بالغة حد
الاستفاضة، ومع هذا معللة بأنه ينفي الفقر ويزيد في الرزق والعمر، وصاحبه
يعيش في سعة ويعفى من البلاء في جسده ويكثر خير بيته وأنه يجلو البصر، وله
يميط الغمر من الثياب، ويثبت النعمة، وينفي الهم.
ولكنه عندي منظور فيه، لقوة احتمال غسل اليد من الوضوء في المقام،
لشيوع استعماله فيه، مضافا إلى أنه قد فسر به في جملة من أخبار الباب، فلذا
لا تنهض لاستحباب خصوص الوضوء، ففي رواية هشام بن سالم المعتبرة عن

(1) الوسائل 2: 877 ب 53 من أبواب الدفن، ح 2.
(2) الوسائل 1: 516 ب 35 من أبواب الجنابة، ح 1.
(3) الوسائل 1: 257 ب 1 من أبواب الوضوء.
517

الصادق (عليه السلام) عن آبائه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: قال (عليه السلام): " من سره أن يكثر خير
بيته فليتوضأ عند حضور طعامه، ومن توضأ قبل الطعام وبعده عاش في سعة من
رزقه وعوفي من البلاء في جسده ". وفي الوسائل: وزاد الموسوي في حديثه
يعني به جعفر بن محمد العلوي الذي روى هذا الحديث هو وأحمد بن زياد، عن
عبد الله بن أحمد بن نهيك، عن محمد بن أبي عمير، عن هشام بن سالم قال هشام:
قال لي الصادق (عليه السلام): " والوضوء هنا غسل اليدين قبل الطعام وبعده " (1).
ومع هذا يؤيده تعليل استحباب الغسل في تلك الأخبار أيضا بما علل به
استحباب الوضوء من إماطة الغمر وزيادة العمر ونفي الفقر وجلاء البصر ونحوها،
فإنه أيضا مما يعطي اتحادهما. ويفصح عن الاتحاد أيضا استحباب غسل الأيدي
في إناء واحد، فإن أكثر أخباره أيضا ورد بلفظ الوضوء.
تنبيه: اعلم أن في كل موضع نفينا فيه استحباب الوضوء إنما نفيناه
لخصوصية، لأ نا نريد أن نرتب عليه رفع الحدث إذا اتي به بداعي الأمر في المحل
القابل كما أفاده السيد بحر العلوم في الدرة بقوله:
وكل ما لم يجتمع بالأكبر * فهو طهور رافع للأصغر
بعد قوله في الوضوء التجديدي:
فإن يصادف حدثا أو خللا * أغنى فلا تعد لذاك العملا
فإذا لم يثبت كونه مأمورا به لم يترتب عليه الأثر وهو الرفع، ولذا لم نجر في
أمثال ذلك المشكوك قاعدة التسامح، لأنها عندنا لا تثبت الاستحباب الشرعي،
وإلا فنحن نكتفي بها في إثبات الاستحباب بمعنى حسن الفعل وترتب الثواب
عليه، ونحكم بجريان القاعدة لمحض العمل بالخبر الضعيف، بل وفتوى الفقيه.
وحينئذ فالأحسن الإتيان بالوضوء في تلك الموارد المشكوكة بداعي الكون
على الطهارة، فافهم.

(1) الوسائل 16: 473 ب 49 من أبواب المائدة، ح 16 و 17.
518

قوله (قدس سره): (وأما سننه) وآدابه المطلوبة المحافظة عليها عند الوضوء، بل
كون تركها وإخلاء الوضوء عنها جفاء به، بل استخفافا بالشرع لو صدر عن تهاون
وعن عدم مبالاة الشخص بشأنها فعشر:
الأول: (وضع الإناء الصالح لأن يغترف منه على اليمين، وإن كان
أعسما) أي مشلول اليمنى بحيث لا يقدر على أن يغسل وجهه بها أو يعسر عليه،
فلا يكون في وضع الإناء المغترف منه على يمينه فائدة، حيث ذكر تيسر وضوئه
من الوجوه المسببة لاستحباب وضع هذا الإناء على اليمين، ولذا فرع في الجواهر
على زيادة هذا القيد باستحباب وضعه على اليسار لو كان ضيق الرأس بحيث
لا يغترف منه، بل يصب منه على اليد اليمنى، ونبه أيضا على استحباب جعله على
اليمين حتى في الأيسري، أي المتعود بايقاع أفعاله بيساره.
وإن كان ما ذكره من التعميم هنا وما نبه عليه في جواهره من التعميم
للأيسري لا يجتمع مع ما ذكره وجها للاستحباب من الأسهلية مفرعا عليه أنه
يجعل ما يصب منه على اليمين ويصب منه على اليسار، لأنه أسهل لإيقاع الوضوء.
وكيف كان فالمشهور هو القول باستحباب الوضع على اليمين إما مطلقا كما
هو ظاهر إطلاق الأكثر أو مع قيد إمكان الاغتراف كما هو صريح جمع، حتى أنهم
احتملوه في مثل الحوض، بل مالوا اليه، وإن كان فيه ما لا يخفى، خصوصا مع
تعليل الحكم بالأسهلية، والوجه فيه بعدما ذكر وبعد الشهرة عند من يعتبرها وبعد
قاعدة التسامح عند من يثبت بها الاستحباب الشرعي هو النبوي العامي " أنه (صلى الله عليه وآله)
يحب التيامن في طهوره وشغله وشأنه كله " (1). وفي الجواهر عن طرق الخاصة:
" أنه (صلى الله عليه وآله) يحب التيامن في أفعاله كلها " (2). ونقض عليه باستحباب الاستنجاء
باليسار، ودفعه واضح، لأنه من التخصيص بالمنفصل، وهو غير ضائر في العمل
بالعموم لحجية العام المخصص وإن خصص بمتعدد.

(1) صحيح البخاري: باب التيمن في الوضوء ج 1 ص 53.
(2) عوالي اللئالي: باب الطهارة ح 101 ج 2 ص 200.
519

فإذن لا غرو في أن نقول بالاستحباب لإمكان جبر السند بالعمل، وكفاية
قاعدة التسامح في مقام العمل برجاء المثوبة، ولكنه لا يثبت في أزيد من الإناء
المغترف منه لسعة رأسه فيمن أمكنه الاغتراف منه، لصحة يده، فلا يشمل الأعسم
لكونه من الفرد النادر ولا مثل الحوض قطعا، لأن الجلوس على وجه يقع هو في
الطرف الأيمن لا دليل يدل عليه أبدا، فيعمل فيه على المتعارف من جعله قدام
الوجه، كما أن جعل ما يصيب منه على اليسار لذلك لا للاستحباب الخاص.
والتمسك في المقام بأفعالهم (عليهم السلام) بجعلهم آنية الوضوء في الطرف الأيمن
لا يثبت إلا استحباب جعل ما يغترف منه على الأيمن، لأنه الغالب في أواني
وضوئهم، ولعدم ثبوت جعلهم ضيق الرأس أيضا في الطرف الأيمن.
وتوهم أنهم لو وضعوه في اليسار يثبت به استحباب التفصيل مدفوع، بأنه من
الأفعال المتعارفة بعد ثبوت مطلوبية قرار الماء في اليمنى وايقاع الغسل بها،
فلا دلالة فيه على مطلوبية الخصوصية.
فإذن لا استحباب فيه، كما أن استحباب الوضع على الأيمن أيضا مخصوص
بالأواني الصغار الصالحة للاغتراف منها فيمن يتمكن من أخذ ما فيها بيمناه.
ولا ينافيه ما ورد من " أنه (عليه السلام) أتى بقعب ليتوضأ به فجعله بين يديه " (1). لأنه
متروك العمل بظاهره، على أنه لا يكافؤ ما تقدم، لما معه من المرجح.
الثاني: من الآداب والسنن ما ذكره (قدس سره) بقوله (قدس سره): (والاغتراف بها حتى في
غسلها) لما ذكر في الأول من الوجه ولخصوص ما ورد من أن العاليات لليمنى
والسافلات لليسرى، تشريفا لها عليها. ومن أجله جعل الاستنجاء باليسرى
والوضوء باليمنى، ولبعض الوضوءات البيانية، ولقوله (عليه السلام) في حكاية وضوء
رسول الله (صلى الله عليه وآله) في العرش: " إنه يلقى الماء بيمينه، فلأجل ذلك صار الوضوء
باليمين " (2)، ولعموم ما ورد من استحباب الوضوء والطهور باليمنى.

(1) الوسائل 1: 272 ب 15 من أبواب الوضوء، ح 2.
(2) الوسائل 1: 274 ب 15 من أبواب الوضوء، ح 5.
520

ثم إن مقتضى إطلاق الفتاوى والنصوص عموم الحكم لغسل نفسها أيضا
فيغترف بها الماء ثم يصبه في اليسرى فيغسلها به، هذا. مضافا إلى صريح بعض
الوضوءات الحاكية من اغترافه (عليه السلام) باليمنى وصبه في اليسرى ثم غسل اليمنى بها.
ولا ينافيه ما في جملة من الوضوءات البيانية من أنه (عليه السلام) اغترف باليسرى لغسل
اليمنى، فإنه لوقوعه على طبق المعتاد لا يدل على الخصوصية ليحكم بحسنه
ومطلوبيته كما هو شأن العاديات بخلاف الأول، فإنه لكونه على خلاف العادة فيه
دلالة على الحسن والمطلوبية.
الثالث: ما ذكره بقوله (قدس سره): (والتسمية على الوضوء).
(و) الرابع قوله (قدس سره): (الدعاء بالمأثور عندها) أي عند التسمية استحباب
التسمية عند ابتداء كل فعل خصوصا اللواتي لها شأن مورد اتفاق النص والفتوى.
ويدل عليه في خصوص المقام قول النبي (صلى الله عليه وآله): " إذا سميت على وضوئك طهر
جسدك كله " (1). فثبوت استحبابها عنده غني عن الاستدلال، بل هو من المستحب
المؤكد المطلوب تداركه إذا ترك عهدا أو سهوا، كما يشهد له المروي عن: " الذي
توضأ بحضرة النبي (صلى الله عليه وآله) وأمره (عليه السلام) إياه بإعادة وضوئه ثلاثا، فقال له
أمير المؤمنين (عليه السلام): هل سميت على وضوئك؟ قال: لا، قال: سم على وضوئك
فسمى فلم يؤمر بالإعادة " (2).
والاستشكال فيه بعدم شرعية الإعادة لفوات مستحب قد تفصي عنه بأنه
يمكن أنه لما لم يسم نسي بعض الأجزاء، فلما سمى أعاذه الله من حبائل
الشيطان، فلم ينس شيئا. وعن الشيخ حمله على خلو وضوئه عن النية، فكأن
التسمية التي أمره الأمير (عليه السلام) بها هي النية لملازمتها إياها، وهو بعيد غاية البعد.
وكيف كان فلا ريب في تأكد استحبابه كما يفصح عنه ملاحظة موارد
مطلوبيتها وحسن تداركها ولو في الأثناء ممن تركها عمدا أو نسيانا كما في الأكل،

(1) الوسائل 1: 298 ب 26 من أبواب الوضوء، ح 5، وفيه عن أبي عبد الله (عليه السلام).
(2) الوسائل 1: 298 ب 26 من أبواب الوضوء، ح 6.
521

وهذا مما لا خفاء فيه. ولكن الشأن في أنه هل يكفي مجرد ذكر اسم الله في تحقق
الوظيفة كما عن المعتبر أخذا بإطلاق قوله (عليه السلام): " من ذكر اسم الله على وضوئه
فكأنما اغتسل " (1) أو لابد من التسمية بالطريق المتعارف، لظهور لفظ التسمية في
الأخبار في قول: " بسم الله " كما أن الظاهر كفايته وإن لم يتبعه بشيء من
الأوصاف للصدق. وأما استحباب الدعاء عندهابالمأثور فيأتي إن شاء الله. وفي
شرح إرشاد الأستاذ - طاب ثراه - استحباب قراءة الحمد والقدر أيضا، حاكيا إياه
عن المفيد بتوسط الذكرى.
الخامس: قوله (قدس سره): (وغسل اليدين من الزندين على الأظهر قبل
ادخالهما الاناء الذي يغترف منه من حدث مسمى النوم والبول مرة، ومن
الغائط مرتين) استحباب هذا الغسل في الجملة مورد اتفاق النص والفتوى فلا
تأمل فيه من تلك الجهة أبدا، وإنما المحتاج إلى التنقيح أنه مرتين مطلقا كما في
اللمعة، أو مرة واحدة مطلقا كما عن النفلية، أو التفصيل كما هنا، ونسب إلى
المشهور أيضا وأنه مخصوص بالأحداث بالثلاثة المذكورة كما هو المستفاد من
ذكرها بالخصوص في الأخبار وكلمات الأخيار، وهو صريح الروضة أو يعم
الأحداث كلها كما هو ظاهر من جعله من الأجزاء المستحبة للوضوء، فإن من
لوازم الجزئية عدم الاختصاص، وأنه هل هو جزء من الوضوء، أو أنه مطلوب
عنده بالخصوص ولو لدفع النجاسة الوهمية، أو يعم مطلق الاغتراف من الاناء
ولو لا للوضوء؟ وعلى الاختصاص بالوضوء هل هو ثابت في مطلق الوضوء
ولو من الكر والجاري، أو يخص القليل؟ وعلى الاختصاص هل يعم مالا اغتراف
فيه، بل يصب منه على اليد، أو يخص بالمغترف منه؟ وعلى الاختصاص هل يعم
اليدين معا، أو يخص بالمغترف بها فلا يثبت في اليسرى، إلا أن يقال بالاغتراف
بها لغسل اليمنى كما احتمله شيخنا الأستاذ طاب ثراه؟

(1) الوسائل 1: 298 ب 26 من أبواب الوضوء، ح 3.
522

الأقوى التفصيل بما في صريح صحيح الحلبي: " كم يفرغ الرجل على يده
اليمنى قبل أن يدخلها الاناء؟ قال: واحدة من حدث النوم، واثنتان من حدث
الغائط، وثلاث من الجنابة " (1). وفي رواية محمد بن سنان: " اغسل يدك من البول
مرة، ومن الغائط مرتين، ومن الجنابة ثلاثا " (2). ولا يكافؤهما صحيح حريز:
" يغسل يده من النوم مرة، ومن البول والغائط مرتين " (3)، لأرجحيتها بالشهرة
وبمرسل الفقيه (4) المصرح بهذا التفصيل، وظاهرهما نفي مطلوبية الزيادة، فما في
اللمعة من قوله بالمرتين في الثلاثة، وقواه الأستاذ - طاب ثراه - في البول، لتقدم
الصحيحة على رواية ابن سنان وبأنه لدفع نجاسة البول الوهمية كما أفصح عنه
التعليل في النوم بأنه لا يدري أين باتت يده، ومن أجله ألحق هو النوم بالبول
أيضا استظهارا منه أنه فيه أيضا لدفع نجاسة البول الوهمية مؤيدا ذلك بأن المقام
مقام التسامح لا وجه له أبدا، لما ستعرف أنه مستحب عبادي لا أنه غسل قذاري،
ولإشعار التعليل بإرادة البول من النوم في صحيحة الحلبي على نحو الكناية كما
يوضحه مرسل الصدوق، ولذا نعمم ثبوته في تمام الأحداث الصغار كما سيأتي،
فلا يخص مثبته في خصوص الرواية ليرجح عليها صحيحة حريز، لقوة السند هذا،
مع أن في ظهور الصحيحة في خصوص البول ضعفا لقوة احتمال كون مرتين
لاجتماعهما معا كما هو الغالب.
ويوضح هذا الحمل ويقرره من اتحاد البول والنوم في هذا الحكم إطلاق
رواية عبد الكريم بن عتبة الهاشمي، عن أبي عبد الله (عليه السلام): " في رجل يبول ولم
يمس يده اليمنى شيء أيغمسها في وضوئه قبل أن يغسلها؟ قال: لا حتى يغسلها،
قلت: فإنه استيقظ من نومه ولم يبل، أيدخل يده في الاناء قبل أن يغسلها؟ قال: لا،

(1) الوسائل 1: 301 ب 27 من أبواب الوضوء، ح 1.
(2) الوسائل 1: 301 ب 27 من أبواب الوضوء، ح 4.
(3) الوسائل 1: 301 ب 27 من أبواب الوضوء، ح 2.
(4) من لا يحضره الفقيه: باب حد الوضوء ح 92 ج 1 ص 46.
523

لأنه لا يدري أين باتت يده، فليغسلها " (1) فإنها ظاهرة في أن النوم أيضا من أجل
البول المتوهم، فإنها ظاهرة في كفاية الوحدة، لصدق الطبيعة ولوجوب تقييده
بما في الرواية ومرسلة الفقيه من الخصوصية.
وأما ما ذكره - طاب ثراه - من قاعدة التسامح فبعيد عن ساحة مثله - طاب
ثراه - حيث لا يراها تامة كافية لإثبات الأحكام الشرعية، بل يجريها في
العمليات لرجاء المثوبة، والمقام ليس من مقولة الفعل والعمل يؤتى به طلبا
للمثوبة، وإنما هو تشخيص لمقدار ما ثبت مطلوبيته بالأدلة المتينة، وليست الزيادة
عملا يرجى فيه الثواب ليشمله أخبار البلوغ فهو على مذاقه - طاب ثراه - سهو
أو طغيان للقلم.
ومما ذكر تبين عدم وجه لما عن البيان والنفلية من الاكتفاء بمرة واحدة في
الثلاثة، وأما الاختصاص فقد يدعى أنه حقيق بأن يقال: لأنها المذكور في الأخبار
على وجه الاقتصار، مضافا إلى أنه المفهوم مما ذكر حكمة للحكم، والحكم أيضا
تعبدي فليقتصر على ما أفاده الدليل على وجه الظهور، وليس هو إلا ذلك المذكور
في الأخبار، هذا.
ولكن الأقوى التعميم كما أفاده في الدرة بقوله: " والغسل استفد في الكل
إلا الريح " والتعليل عم وإن كان في إخراجه الريح من الأحداث ما لا يخفى،
إذ لا وجه له أصلا عدا ما قيل من أنه لم يوجد قول باستحباب الغسل فيه، ولكنه
ليس إجماعا منهم على عدمه، وليس وهم النجاسة علة بحيث يدور الحكم مداره
لاتفاقهم على ثبوت الحكم في الثلاثة وإن قطع معها بطهارة اليد.
نعم عن الحدائق تخصيص الحكم بخصوص النوم ولا يتأتى معه القطع
بالطهارة، ولكن قوله مردود لمخالفته النص والإجماع، وأيضا لو كان الوهم علة
لوجب أن يحكم بعكس ما في أخبار الباب، إذ الغسل في متحقق الحدثين البول

(1) الوسائل 1: 301 ب 27 من أبواب الوضوء، ح 3.
524

والغائط بعكس ما هناك، وأيضا يلزم أن يفرقوا بين القليل وغيره، مع أن المعروف
ثبوت الحكم في الكثير والجاري، إذ لم ينقل الفرق إلا عن المنتهى حيث حكي
عنه تخصيص الحكم بالقليل، وعن نهاية الإحكام أنه إن قلنا: إن العلة وهم
النجاسة اختص الحكم بالقليل، وإلا فلا، وعن ظاهر بعض الاقتصار على ما يفهم
من الأخبار في بدو النظر من قصر الحكم على القليل المغترف منه، وعدم ثبوته
في ضيق الرأس والكثير والجاري، وسيتضح أن الحق الحقيق خلافهما.
وحينئذ فالأقوى التعميم حتى فيها، كما أن الأقوى عمومه لمطلق المياه
ولليدين معا، إذ وهم النجاسة علة لتشريع الحكم لا له نفسه، إذ المستفادمن أقوال
المحققين ومن أدلة الباب أنه مستحب خاص ومن أجزاء الوضوء، ولذا يصح
تقديم النية عنده كما عليه القوم.
نعم الذي ينبغي أن يقال هو إلحاق الأحداث الموجبة للغسل بالجنابة في
تثليث الغسل كما يومئ اليه استحباب تثليث غسل يدي الميت قبل غسله،
وتخصيص هذا التفصيل بالأحداث الصغار الموجبة للوضوء، والحكم بكون
الغسل هنا من الزندين كما عن الحدائق نسبته إلى الأصحاب، وثمة من المرفقين
أو من نصف الذراع كما يفيده بعض أخباره أو من الزند كما في جملة من نصوص
الجنابة التصريح بالكف، فعلى ما هو الحق من الاستحباب والجزئية كما هو
ظاهرهم، وهو صريح العلامة في المنتهى والنهاية على ما حكي من عبارته، وهو
المستفاد من النصوص أيضا بعد التأمل الدقيق فيها لا يبقى للاختصاص لا في
المياه ولا في الأواني ولا في اليد ولا في الموجبات وجه، هذا.
مع أن توهم اختصاصه باليد المغترف بها وبالآنية الواسعة الرأس بناء على
كونه لوهم النجاسة لا وجه له أبدا كما صدر عن بعضهم، إذ هذا الغسل لا يوجب
تطهيرا للمغسول على فرض نجاسته في الواقع، وعلى فرض حصول الطهر به
وكون مطلوبيته لأجله حفظا للطهارة الواقعية للمحل عليهم أن يقولوا بعدم
التفاوت الحال بين اليسرى واليمنى، ويحسن غسل كلتيهما قبل الوضوء تحصيلا
525

للطهارة الواقعية الحاصلة بذلك الغسل، إذ لا فرق بين الصب والاغتراف في ذلك،
فلو لم يغسل يده اليسرى في غير المغترف منه لم يدفع نجاستها الوهمية، وتبقى
إلى حال الوضوء فينجس ماؤه بها، ولا أراهم يلتزمون به.
فتبين أنه ليس لدفع النجاسة، بل هو تعبد محض كما صرح به العلامة، ومع
ذلك لا يلزم أن لا يتحقق امتثاله إلا بالنية كما عنهم ابتناء لزوم النية على ثبوته
تعبدا، وعدم كونه للعلة المذكورة وهو دفع النجاسة الموهومة. ولذا صرح بعضهم
بأن إزالة النجاسة المتحققة التحققة لا تحتاج إلى النية فكيف متوهمها؟!
ولا يخفى عليك أيضا أن استحبابه وثبوته التعبدي لا يستلزم عباديته كما عن
العلامة القول بثبوته التعبدي والاستحباب ويفيد الحاجة إلى النية، إذ الأصل في
الأوامر من هذه الحيثية التوصلية كما قررناه في الاصول والتعبدية غير العبادية،
إذ الأول هو ثبوت شيء في الشريعة لا لعلة معقولة، والثاني هو كون المطلوب
الشرعي متوقفا على الامتثال، وكون توقف امتثاله على نية القربة والاستحباب
والوجوب لا يختصان بالعبادات، نعم يمكن أن يقال بتوقف امتثاله على النية من
باب كونه جزءا للوضوء، والوضوء مركب عبادي بتمام أجزائه مسلما.
السادس والسابع منها هو قوله (قدس سره): (والمضمضة والاستنشاق، ويستحب
التثليث فيهما، وتقديم المضمضة) ففي الحقيقة هذه تؤول إلى استحباب امور
ستة، إذ التثليث غير معتبر في تحققهما ولا في مطلوبيتهما بعد وجود مطلقات غير
مخصصة، لعدم ثبوت مقيد لها، لعدم فهم الاتحاد الذي هو مناط التقييد لصلوح
المقيد لمطلوبيته بنفسه، بل ظهور أخبار الباب فيه ومثله تقديم الاولى على الثاني.
والأصل في مطلوبيتهما فيه بعد الإجماع، لعدم الاعتداد بخلاف العماني وعدم
صحة دعواه في النفي أنهما عند آل الرسول ليسا بفرض ولا سنة، لاستناده إلى
أخبار اشتبهت عليه السنة في قبال الفرض بمعنى الواجب بالسنة في قبال الفرض
بمعنى الثابت بالكتاب الكريم، فإذن المراد بالسنة هو الثابت وجوبه بالسنة دون
الكتاب، فيكون المراد أن وجوبهما لا يثبته كتاب ولا سنة.
526

وكيف كان المستند لإثبات استحبابهما بعده هي الأخبار المستفيضة، بل فوق
الاستفاضة لدعوى شيخ الجواهر تواترها المثبتة لمطلوبيتهما ومطلوبية تثليثهما
كما في صريح جملة منها، والظاهرة بل الصريحة لكلمة " ثم " في تأخير
الاستنشاق على المضمضة بتمامها وعدم منافاة النافية اياها بوجه من الوجوه وإن
صرحت بأنهما ليسا بفرض ولا سنة فإنها في قبال بعض العامة القائلين بوجوبهما
فيه، ومع ذلك فيها قرينة ورود النفي على الوجوب لائحة لتعليله (عليه السلام) النفي بأنهما
من الجوف ومن الباطن، فعلم أنه (عليه السلام) أراد نفي وجوبه الثابت بالفرض أي
بالكتاب العزيز وبالسنة أي السنة السنية النبوية المثبتة لوجوب ما لا يستفاد
وجوبه من الكتاب.
وأما نفيه (عليه السلام) كونه من الوضوء أي من أجزائه الواجبة. ويحتمل نفي كونهما
منه مطلقا فيكونا فيه كالسواك مطلوبا مستقلا في محل خاص لا أنهما من أجزائه
المستحبة كما في غسل اليدين.
ولكن الأظهر هو الأول، لأنهما لو كانا مطلوبين بحيال أنفسهما لثبتا في غير
حال الوضوء أيضا، مع أنه لم يعهد مطلوبيتهما في غير تلك الحال خصوصا بتلك
الكيفية، فتأمل.
وكيف كان فالظاهر تحققهما بالغرفة والغرفتين والثلاث للإطلاق والصدق.
الثامن منها: وهو أهمها قوله (قدس سره): (والدعاء بالمأثور عندهما وعند غسل
الوجه واليدين، وعند مسح الرأس والرجلين) أول الأدعية على ما عن
الخصال عن علي (عليه السلام) أنه قال: " لا يتوضأ الرجل حتى يسمي ويقول قبل أن يمس
الماء: بسم الله وبالله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين " (1)
أو بزيادة الشهادة بالوحدانية في أوله والحمد لله رب العالمين في آخره كما في
رواية عمار (2) عن الصادق (عليه السلام)، ولم يذكر البسملة. وهناك دعاء أطول لا يناسب

(1) الخصال: باب الواحد إلى المائة ح 10 ص 628.
(2) الوسائل 1: 298 ب 26 من أبواب الوضوء، ح 1، وفيه عن معاوية بن عمار.
527

ذكره هذا المختصر من أراده فليطلبه من محله.
وعند المضمضة ما عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في وضوئه حين تمضمض فقال:
" اللهم لقني حجتك - أو حجتي - يوم ألقاك وأطلق لساني بذكرك، ثم استنشق،
وقال: اللهم لا تحرم علي ريح الجنة، واجعلني ممن يشم ريحها وروحها وطيبها
- إلى أن قال بعد فراغه منه: - من توضأ مثل وضوئي، وقال مثل قولي كان له كذا
وكذا " الخبر.
وعند غسل الوجه بقوله (عليه السلام): " اللهم بيض وجهي يوم تسود فيه الوجوه،
ولا تسود وجهي يوم تبيض فيه الوجوه ".
وعند غسل اليمنى بقوله (عليه السلام): " اللهم أعطني كتابي بيميني والخلد في الجنان
بيساري وحاسبني حسابا يسيرا ".
وعند غسل اليسرى بقوله (عليه السلام): " اللهم لا تعطني كتابي بشمالي ولا من وراء
ظهري ولا تجعلها مغلولة إلى عنقي، وأعوذ بك من مقطعات النيران ".
وعند مسح الرأس بقوله (عليه السلام): " اللهم غشني برحمتك وبركاتك ".
وعند مسح الرجلين بقوله (عليه السلام): " اللهم ثبتني على الصراط يوم تزل فيه
الأقدام، واجعل سعيي في ما يرضيك عني " وتلك الأدعية مروية عن
أمير المؤمنين برواية ابن الحنفية وفي أوله: " بسم الله والحمد لله الذي جعل الماء
طهورا، ولم يجعله نجسا، إلا أنه لم يعلم أنه من أدعية الوضوء، إذ بعده ثم استنجى
ودعا بدعائه " (1) وعن الفقيه بزيادة " يا ذا الجلال والإكرام ". وفيه دلالة على جواز
المقارنة في مسح الرجلين، فتأمل.
التاسع منها: هو قوله: (وتثنية الغسلات) المعلق عليه من الشيخ الأستاذ
- طاب ثراه - بقوله: " الأحوط عدم تثنية غسل اليسرى احتياطا للمسح " خوفا
من كونه ماء خارجا ومن السيد الأستاذ بقوله: " وكذلك اليمنى فيما إذا أراد المسح

(1) الوسائل 1: 282 ب 16 من أبواب الوضوء، ح 1.
528

بها من دون أن يعملها في الوضوء بعد غسلها " للخوف المذكور لما عن جمع من
نفى شرعيتها كما في أخبار بقوله (عليه السلام): " لم يؤجر " (1)، أو " كونها بدعة " كما في
بعضها الآخر (2)، ولذا عن كاشف اللثام تقوية النفي بعد حكايته عدم الأجر عن
البزنطي والكليني والصدوق، ولكن مع ذلك ثبوتها هو المشهور، بل عن الغنية
والسرائر الإجماع عليه.
ويدل على ثبوتها وأن الفضل في فعلها لا الاقتصار على الواجب كما في
الدرة: " وثن بالغسل فذاك الأفضل " المستفيضة المقاربة من التواتر كصحيح
معاوية بن وهب عن الصادق (عليه السلام): " عن الوضوء فقال: مثنى مثنى " (3)، ومثله خبر
صفوان (4) عنه، وفي خبر ابن أبي مقدام تعجب الصادق (عليه السلام) عمن رغب أن يتوضأ
اثنتين اثنتين قال: " وقد توضأ رسول الله (صلى الله عليه وآله) اثنتين اثنتين " (5)، ومثل خبر
صفوان خبر زرارة (6) مع زيادة قوله: " من زاد لم يؤجر عليه " ويفصح عن مخالفة
التثنية لما عليه العامة خبر ابن يقطين المعروف حيث: " أمره أبو الحسن
موسى (عليه السلام) بالتثليث في وضوئه فلما سلم من امتحان الرشيد وسعاية الواشين
أمره (عليه السلام) بأن عد إلى ما في كتاب الله فريضة، وهو الغسل مرة وأن اغسل ثانية
إسباغا فقد زال ما كنا نخافه عليك " (7)، وهذا الغسل الثانوي الاسباغي مما أضافه
رسول الله (صلى الله عليه وآله) لضعفاء الناس كما عن الصادق (عليه السلام) في خبر داود الرقي (8).
وعندي أن المراد غير المبالين كأكثر العوام فإن في الغسلة الاولى يبقى من
أعضاء وضوئهم غالبا شيئا، ولو مثل رؤوس الابر، ومكان الشعرة غير مغسول

(1 و 2) الوسائل 1: 307 ب 31 من أبواب الوضوء، انظر الباب.
(3) الوسائل 1: 310 ب 31 من أبواب الوضوء، ح 28.
(4) الوسائل 1: 310 ب 31 من أبواب الوضوء، ح 29.
(5) الوسائل 1: 309 ب 31 من أبواب الوضوء، ح 16.
(6) الوسائل 1: 307 ب 31 من أبواب الوضوء، ح 5.
(7) الوسائل 1: 312 ب 32 من أبواب الوضوء، ح 3.
(8) الوسائل 1: 312 ب 32 من أبواب الوضوء، ح 2.
529

سيما في أياديهم، لخشونة أيدي أكثرهم فأضاف (صلى الله عليه وآله) تلك الغسلة الثانية تتميما
لوضوئهم في نفس الأمر، ومنه يعلم وجه تسميتها إسباغا.
ولا تكافئها الأخبار النافية للأجر سيما مرسل ابن أبي عمير حيث إنه بعد نفي
الأجر عن الثانية ذكر أن الثالثة بدعة، فعلم أن الثانية ليست ببدعة، والعبادة متى
ثبت شرعيتها ثبت صحتها وفضلها، فنفي الأجر حينئذ يحتمل أن يكون لمن اعتقد
كونها فريضة، كما أنه هو الوجه لتركها في الوضوءات البيانية، فإنه لأجل أن لا
يعتقد كونها من الواجب سيما مع قوله (عليه السلام) بعد الفراغ: " هذا وضوء لا يقبل الله
الصلاة إلا به " (1). واشتمالها على جملة من المستحبات لا يضر، لإمكان اقترانها
بقرائن فهمت منها ندبيتها، أو أنها كانت معلومة من الخارج.
ومن تمام ما ذكر يعلم عدم دخولها في التعدي وعدم كونها من أحداث
المحدثين، وإلا لزم كون الامام (عليه السلام) منهم فإنه أمر به، وأنه لا ينافيه أيضا
أمرهم (عليهم السلام) بعض أصحابهم بأن الوضوء مرة مرة فإنه لنفي اعتقاد وجوب التعدد.
فإذا لا ضير في فعلها مع لزوم وقوع المسح بفضل الوضوء وبنداوته.
العاشر: وهو آخر ما في الرسالة من السنن هو قوله (قدس سره): (وأن يبدأ الرجل
بظاهر ذراعيه في الغسلة الاولى وفي الثانية بباطنهما، والمرأة بالعكس)
ثبوت هذه السنة وأن وظيفة الرجل الابتداء بالظهر ووظيفة المرأة الابتداء بالبطن
مورد اتفاق النص والفتوى، بل عن الغنية والتذكرة الإجماع عليه، لكن على ما
فصل في المتن، ولا وجه للتفصيل المزبور إلا الإجماع المذكور، ودعوى انصراف
الاطلاق في خبر ابن بزيع من قول الرضا (عليه السلام): " إن الله فرض على النساء في
الوضوء للصلاة أن يبتدئن بباطن أذرعهن، وفي الرجال بظاهر الذراع " وخبر
الجعفي المروي في الخصال عن الباقر (عليه السلام): " المرأة تبدأ في الوضوء بباطن الذراع
والرجل بظاهره " (2) إلى الغسل الواجب بضميمة أن الغسلة الثانية لما كانت

(1) الوسائل 1: 308 ب 31 من أبواب الوضوء، ح 11.
(2) الوسائل 1: 328 ب 40 من أبواب الوضوء، ح 1.
530

للاسباغ وتدارك غسل ما لعله بقي غير مغسول في الاولى، فناسب أن يبتدأ في
الغسلة الثانية بعكس ما ابتدأ به في الاولى ليتم انغسال الأعضاء بتمام أبعاضها في
نفس الأمر، هذا مع إمكان تتميم المطلب بعد الاجماع المنقول بقاعدة التسامح.
بقي من السنن جملة اخرى مر ذكر بعضها في طي الفروض، وأهمل المصنف
ذكر بعضها كالسواك، وكون مائه مقدار مد، وفتح العين عند غسل الوجه، وغير
ذلك مما يوجد في كلمات بعضهم، وإلا يصير السواك مستحبا مستقلا مطلوبا في
حد نفسه فلا يناسب عده من مستحبات الوضوء لإمكان أن يكون له في الوضوء
خصوصية كما في الصوم والصلاة، وفي بعض الأحوال، مضافا إلى ثبوت
الخصوصية بالإجماع، وطائفة مستفيضة من الأخبار مثل قوله (عليه السلام): " السواك شطر
من الوضوء " (1).
ويدل على كمال الاهتمام به في الوضوء قوله (عليه السلام): " التسويك بالابهام
والمسبحة عند الوضوء سواك " (2). فإنه لبيان أنه لو شق عليك تحصيل عود
السواك عنده فيمكنك العمل بوظيفة الاستحباب بهذا النحو، وأصرح منه في
الدلالة على الاهتمام به عنده رواية معلى بن خنيس من أن " ناسيه قبل الوضوء
يستاك ثم يتمضمض " الدالة على أن محله قبل الوضوء أيضا، مع أن ما عن
أمير المؤمنين (عليه السلام): " من أن أفواهكم طرق القرآن فطهروها بالسواك " (3) أيضا دال
على الأمرين، إذ الدعاء كالقرآن محتاج إلى تطهير طريقه قبل فعله.
كما لا يضر في مطلوبيته فيه ترك غيره مما هو مسلم عندهم كونه من آدابه
وسننه واستفاضت به الأخبار منهم (عليهم السلام) أيضا، ككون مائه مدا وهو رطل ونصف
بالمدني ورطلان وربع بالعراقي، وهو مائتان واثنان وتسعون درهما ونصفا، ومائة
واثنان وخمسون مثقالا وربعا وشيئا بالصيرفي من قبيل الوارد فيه منه (صلى الله عليه وآله) أنه

(1) الوسائل 1: 354 ب 3 من أبواب السواك، ح 3.
(2) الوسائل 1: 359 ب 9 من أبواب السواك، ح 4.
(3) الوسائل 1: 358 ب 7 من أبواب السواك، ح 3.
531

قال: " الوضوء مد والغسل صاع، وسيأتي بعدي أقوام يستقلون ذلك فأولئك على
خلاف سنتي، والثابت على سنتي معي في حظيرة القدس " (1). وورد: " أنه (صلى الله عليه وآله)
توضأ بمد واغتسل بصاع " (2).
والاستشكال بعدم بلوغ ماء الوضوء بهذا المقدار كما عن الذكرى مدفوع،
ببلوغ ماء الوضوء الاسباغي الجامع للغسلات المستحبة بهذا المقدار قطعا، فإنه
ثلاث أو أربع عشرة غرفة وكل غرفة يأتي أحد عشر مثقالا، هذا فيما لو اقتصر في
الغسلات الثلاث على غرفة واحدة، وإلا فلو عمل فيه على ما تعوده تمام الناس
المتعارفين من ايجادهم كل غسلة منها باثنتين وثلاث، فلا يزيد المقدار المذكور
عن مائه قطعا، فلا يحتاج إلى إصلاحه بضم الاستنجاء اليه كما عن بعضهم بمعونة
صحيحة الحذاء (3) من فعل أمير المؤمنين (عليه السلام) عند إتيان محمد بن الحنيفة له بالماء،
لأن الاستنجاء البولي وحده كما هو ظاهر الرواية لا يصلحه، وكلاهما لا يسعه هذا
المقدار من الماء غالبا، كما أن ضعف السند أيضا ليس له بعذر لمشيه على قاعدة
التسامح في غير مورد، والسلوك معه سلوك الاستحباب.
فيكفي حينئذ في استحباب فتح العين عنده ما عنه (صلى الله عليه وآله): " افتحوا عيونكم عند
الوضوء لعلها لا ترى نار جهنم " (4). ولا ينافي حسن الفعل ولو تسامحا ما عن
خلاف الشيخ من دعوى الإجماع على عدم استحباب ايصال الماء إلى داخل
العين، لعدم التلازم بينه وبين الفتح كما لا ضير فيما رواه الصدوق عن
الصادق (عليه السلام): " إذا توضأ الرجل فليصفق وجهه بالماء فإنه إن كان نائما استيقظ
وإن كان بردا لم يجد البرد "، لإمكان منع معارضته بما عن التهذيب: " لا تضربوا
وجوهكم بالماء إذا توضأتم " (5) المسلم عندهم كراهته ظاهر لإمكان الجمع بينهما

(1) الوسائل 1: 339 ب 50 من أبواب الوضوء، ح 6.
(2) الوسائل 1: 338 انظر باب 50 من أبواب الوضوء.
(3) الوسائل 1: 275 ب 15 من أبواب الوضوء، ح 8.
(4) الوسائل 1: 341 ب 53 من أبواب الوضوء، ح 1.
(5) تهذيب الاحكام: ح 1072 ج 1 ص 357.
532

بأن يراد من الثاني لطمه به على نحو ما هو متعارف عند غيرنا من الصفق من وسط
الوجه، وغسله به بإدارة اليد يمينا وشمالا ونكسا فإن فاعله منا يمكنه أن يقصد
الغسل من الأعلى عند اصعاده الماء بيده اليه، فإنه حينئذ وإن أصلح وضوءه بذلك.
لكنه مذموم في غير حال التقية لتشبهه حينئذ بفعل من امروا بالمشي على خلافهم
وأن يراد بالأول صفقه به من أعلاه كما هو متداول عند عوام الشيعة في قبال
وضعه من أول الأعلى بلا صفق، فيسيل منه إلى السافل بنفسه ولو لم يعنه اليد.
ومما ذكرنا تعرف تصحيح استحباب ايقاعه مستقبل القبلة فإن إجراء قاعدة
التسامح قد اكتفي فيه بفتوى الفقيه، مضافا إلى ما ورد عنهم (عليهم السلام) من: " أن أفضل
المجالس ما استقبل به القبلة " (1)، فإن الوضوء بأن يستقبل به أحق من غيره مما
ليس بعبادة.
فإذا تم الآداب الوجودية الموجبة للكمال أتبعه بالآداب التركية أي ترك
فعلها يوجب نقصه، ومرجوحيته مرجوحية حقيقية عبادية أعني مرجوحية الفرد
بخصوصه. ورجحان تركه على فعله وإن كان الفعل واجدا للرجحان من حيث
انطباق الطبيعة عليه الراجحة بجميع مصاديقه التي منها هو ايضا المشتمل على
النقص بلحاظ نفسه وبما لحقه من الخصوصية.
ولعل هذا هو مراد من قال بأن المرجوحية في العبادة عبارة عن قلة الثواب
كما يشهد له كلام المحقق القمي (رحمه الله) في القوانين، حيث جعل لأصل الطبيعة مقدارا
قد نقص في الأفراد المرجوحة وزاد في الأفراد الراجحة، وهو بحاله في غيرهما.
قوله (قدس سره): (ويكره الإعانة فيه بالصب في اليد أو على العضو ونحو ذلك
من المقدمات القريبة) الخارجة من أصل الفعل لئلا تنافي المباشرة اللازمة
ولا البعيدة الممحية، لصدق الإعانة عليه في العرف والعادة لكي يصح إطلاق
الاشراك عليه كما هو مناط الكراهة في المقام على ما استدل به القوم، واشير اليه

(1) الوسائل 8: 475 ب 76 من أبواب احكام العشرة، ح 3.
533

في مسألة التولية من قوله (عليه السلام): " ولا يشرك بعبادة ربه أحدا " (1)، فإن الاشراك
الحقيقي في المقام غير حاصل قطعا، فيكون المراد الاشراك المجازي بايجاد
العمل بمشاركة الغير الذي منه ما لا ينافي صدق التولية من إعانته عليه في
المقدمات القريبة المصححة لأن يقال عليه في العرف أنه أوجد وضوءه بشركة
الغير كما لو شاركه الغير في ايجاد بعض الفروض.
قوله (قدس سره): (والأفضل له إبقاء البلل على أعضائه) فيكون هو حينئذ من
السنن السابقة، لكنه ذكره هنا باعتبار قوله: (بل المعروف كراهة التمندل) أي
تجفيف ما على الأعضاء بالمنديل، (بل قيل: مطلق مسح البلل، والأمر
سهل) لما عنده من قاعدة التسامح.
ولعل وجه ترديده بين الاستحباب والكراهة ما يمكن أن يستدل به للمقام من
خبر محمد بن حمران عن أبي عبد الله (عليه السلام): " من توضأ وتمندل كانت له حسنة،
وإن توضأ ولم يتمندل كان له ثلاثون حسنة " (2). من الاحتمالين في الخبر وهو أن
يكون أصل ثواب الوضوء الحسنة الواحدة وبترك التمندل يزيد ثوابه، فيكون ابقاء
بلله من الآداب المستحبة، فترك التمندل مقدمة له، ومنه يتضح وجه التعميم لمطلق
المسح، بل مطلق التجفيف كما عن بعض. وكونه من السنن حينئذ واضح لصيرورته
بناء عليه قيدا للوضوء.
والاحتمال الآخر أن يكون تمام الثلاثين ثوابا لأصل الوضوء، وبالتمندل
ينقص منه تسعة وعشرين ويبقى واحدة.
فالكراهة حينئذ بمعنى قلة الثواب متعقل فيه حتى على الاحتمال الأول كما
عليه بعضهم من عدم تصوره الكراهة في العبادات.
وأما على ما اخترناه من تصور الكراهة الاصطلاحية حقيقة فيها، فتصورها
في خصوص الفرع مشكل، إذ ما وقع لا يتغير عما وقع عليه، والوضوء قد تم

(1) الوسائل 1: 335 ب 47 من أبواب الوضوء، ح 1 و 2.
(2) الوسائل 1: 334 ب 45 من أبواب الوضوء، ح 5.
534

بالفراغ منه، والتمندل أمر مستقل خارج منه ليس له دخل فيه شطرا أو لا شرطا،
فما معنى صيرورته مكروها حقيقيا بهذا الفعل المباين المستقل؟ ولكن يمكن
التفصي عنه وتصحيح صيرورته مكروها اصطلاحيا بأن يقال: إن مسح بلله مرتبط
به نظير ارتباط العجب المتعقب بالعبادات بها، إذ لما كان وجوده سببا لنقص
الوضوء عما يقتضيه وجوده الخالي عن اقترانه بهذا المنقص فصح أن يعد هذا من
قيوده، لصدق أن الوضوء المتلو بالتمندل قد نقص عما تقتضيه ذاته، فترك مثله
أرجح من فعله بتبديله بفرد آخر خال عن هذا النقص وواجد لما تقتضيه طبيعته
بما هي هي، فكما أن العجب المتعقب يحبط ثواب العبادة رأسا، ويصح من أجله
أن تتصف العبادة المتلوة به بالحرمة، فكذا هذا الوضوء لذهاب عمدة ثوابه بهذا
الفعل يصح أن يتصف بالكراهة الاصطلاحية، إذ إدخال النقص في العبادة بفعل
اختياري مثل ايجادها ناقصة في كون كلتيهما مرجوحتين ناقصتين بفعل العابد.
فتنقح أنه صح تصور الكراهة حتى لو قيل بكون ترك التمندل مستحبا، إذ
استحباب الترك بما هو ترك مستلزم لكراهة الفعل، وما قدمناه من إدخالنا إياه في
السنن إنما هو باعتبار الإبقاء وجعل الترك مقدمة له لا مطلوبيته بنفسه.
وكيف كان فالأصل عندهم في هذا الحكم كونه على خلاف من جعل الرشد
في خلافهم من مداومتهم عليه، ومنه يتضح محمل ما ورد عنهم (عليهم السلام) من المسح
والتمندل أو الأمر به سيما على ما عليه أبو حنيفة، وهو أعظم الأربعة حيث يرى
ماء الوجه نجسا.
ومما ذكروه من مكروهاته: كراهة الكلام في أثنائه بغير الذكر والدعاء، ويمكن
أن يكون وجهه منافاته للأدعية المطلوبة فيه. ومنها: لطم الوجه بالماء كما تقدم.
والحمد لله أولا وآخرا.
إلى هنا انتهى الجزء الأول - حسب تجزئتنا - ويتلوه الجزء الثاني
- إن شاء الله تعالى - أوله: المقصد الثاني في الغسل إلى آخر كتاب الطهارة
535