الكتاب: الطهارة الكبير
المؤلف: السيد مصطفى الخميني
الجزء: ٢
الوفاة: ١٣٩٨
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: جمادي الثاني ١٤١٨
المطبعة: مطبعة مؤسسة العروج
الناشر: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني
ردمك:
ملاحظات:

تحريرات في الفقه
كتاب الطهارة
تأليف
العلامة المحقق آية الله المجاهد الشهيد السعيد
السيد مصطفى الخميني (قدس سره)
الجزء الثاني
مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني (قدس سره)
بمناسبة الذكرى السنوية العشرين
لشهادة العلامة المجاهد آية الله
السيد مصطفى الخميني (قدس سره)
1

هوية الكتاب
* اسم الكتاب: كتاب الطهارة (ج 2) *
* المؤلف: السيد مصطفى الخميني (قدس سره) *
* تحقيق ونشر: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني (قدس سره) *
* سنة الطبع: آبان 1376 - جمادى الثاني 1418 *
* الطبعة: الأولى *
* المطبعة: مطبعة مؤسسة العروج *
* الكمية: 3000 نسخة *
* السعر: 12500 ريال *
جميع الحقوق محفوظة للناشر
2

بسم الله الرحمن الرحيم

1 - تهذيب الأحكام 1: 378 / 1168، وسائل الشيعة 1: 149، الطهارة، أبواب الماء
المطلق، الباب 7، الحديث 4.
2 - الفقه المنسوب للإمام الرضا (عليه السلام): 86 / 4، مستدرك الوسائل 1: 194 - 195، كتاب
الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 2.
3

المبحث السابع
في ماء الحمام
والكلام في المقام يتم في مواقف:
1

الموقف الأول
في المراد من " ماء الحمام "
فالذي هو المعروف وعليه الشواهد، أنه ما في الحياض الصغار.
وأما احتمال كون ما في الخزانة مستقلا من ماء الحمام، أو كون ما في
الحياض مع ما فيها ماء الحمام، فهو في حد نفسه غير بعيد، إلا أن
الاستعمالات في السنة تورث تعين ما أرسله المشهور، ضرورة أن رواية
ابن حبيب " ماء الحمام لا بأس به إذا كانت له مادة " (1) وغيرها - مثل ما في
" فقه الرضا " (2) - كالصريح في ذلك.
وقد يشكل: أن تنزيله منزلة الجاري، يعطي أن المجموع ماء
الحمام، لأن مادة الجاري من الجاري، فكما أن الماء الموجود بعنوان
3

" المادة " و " السائل على الأرض " هماهو الجاري، كذلك ما نحن فيه.
ويدفعه: ما في " التهذيب " عن موسى بن جعفر (عليهما السلام) في الحمام أنه
قال: " إذا علم أنه نصراني اغتسل بغير ماء الحمام، إلا أن يغتسل وحده على
الحوض فيغسله، ثم يغتسل " (1).
فإن المتفاهم منه، أنه هو الموجود في الحوض.
هذا مع أن الخزائن البعيدة عن الحمام، ليست من تبعات الحمام،
ولا يكون مياهها من ماء الحمام أيضا.
وأما ما في البالوعة، فهو وإن يصدق عليه " أنه ماء الحمام "
ولكنه خارج عن مصب المآثير والأخبار.
بل لو كان المنصرف من " ماء الحمام " ما يستحم به في الحمام،
فهو ينحصر بما في الحياض الصغار، فالمراد من " ماء الحمام " هو
الموجود في محيطه المهيأ للاستحمام به، وهو المراد في الروايات
قطعا.
وأما الماء المنبسط في أرض الحمام المتصل بالحوض المتصل
بالمادة، فهو أيضا من ماء الحمام عرفا، وبه قال الأستاذ في " مفتاح
الكرامة " (2).

1 - تهذيب الأحكام 1: 223 / 640.
2 - مفتاح الكرامة 1: 64 / السطر 5.
4

الموقف الثاني: فيما كان المتعارف من بناء الحمامات في
القديم ولدى عصر المآثير والأخبار
وهذا على ما يظهر من الأخبار ومن الأمر المفروغ عنه، أن بناءها لما
كانت على وجود المخازن الثلاثة:
أحدها: الكبير الموجود فيه الماء الكثير، وكان الحمامي يهتم
بحفظ المياه فيه، ويحتاج الحمام في تلك العصور إليه، لقلة المياه
وصعوبة الوصول له، وربما كان في بلد حمام واحد، كما هو الآن كذلك في
القرى وكثير من القصبات.
وثانيهما: الصغير الموجود في داخل المحيط المتصل بطريق خاص
إلى الحياض الكبيرة، من غير لزوم كونه في السطح الأدنى منه، فإن
الثقب الموجودة بينها وبين تلك الحياض الكبيرة، كافية في إيصال الماء
إليها، من غير الاحتياج إلى اختلاف السطوح، مع أن ذلك مما يحتاج إلى
إعمال المصارف الكثيرة في بناء الحمام، فلعل الأظهر أن سطوح هذه
الحياض والمخازن، كانت واحدة.
واحتمال كون المخازن على سطوح الحمام، لأنها كانت من الأواني
الكبيرة المنصوبة عليها، بعيد جدا.
وتوهم تقريبه بالاحتياج إليها في تسخين المياه في الشتاء، مدفوع
بإمكان ذلك في الخزائن المساوية سطحها معها أيضا، كما لا يخفى.
وأما الأنبوب المتوسط بين الخزائن الكبار والحياض الصغار،
فليس سعته وضيقه معلومين إلا بالحدس، وأن تلك الطرق كانت مثل ما هو
5

الآن موجود، أو قريبة منه، فإن من المحتمل قويا كونها ضيقة، للاحتياج
إلى تقليل المصارف، لقلة المياه في مدينة الأخبار وبلاد المآثير، فإن
رواياتها كلها - إلا نادرة منها - عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) (1) فاحتمال
سعة تلك الطرق بعيد جدا، مع الحاجة إلى سدها مرارا في أثناء
الاستحمام، ولا يمكن ذلك إلا في الثقب الضيقة.
وأما الحياض الموجودة في محيط الحمام، فلا يبعد كون بعضها
أحيانا بالغا إلى الكر، ولكن الظاهر انتفاء الكرية في الأثناء، ولذلك
كانت مورد السؤال وجعلت معتصمة مثلا كما يأتي.
وأما الخزائن، فلا دليل على وحدتها في كل حمام، فإن من المحتمل
تعددها، واتصال قسم من الحياض الصغار ببعض منها، لاختلاف جوانب
الحمام مع وجود الحياض الصغار في أكثر الجوانب، فالاحتمال المزبور
قوي جدا، ولا شاهد على كون تلك الخزينة تسع الأكرار من الماء، وتكون
دائما مملوءة من الكر.
فكون حمام المدينة في السابق، مثل بعض حمامات المنازل
في اليوم، قوي جدا، وذلك لعدم تمكن الحمامي من المياه الكثيرة، حتى
يحتاج إلى الخزينة الكبيرة، بل احتياج الناس إلى الاستحمام كان كثيرا،
وإذا يوجد ماء في الحمام يشد إليه الرحال، وكثيرا ما يتفق مراجعتهم إلى
الحمامات الفارغة عن المياه وعما يحتاجون إليه، وكل ذلك يعلم من

1 - وسائل الشيعة 1: 148 - 150، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7،
الحديث 1 - 8.
6

التدبر في حمامات البلدان النائية عن العواصم في اليوم، ومن النظر
إلى حمامات القرى، وكثير من القصبات، فلاحظ وتدبر.
فتحصل: أن تعيين بعض الخصوصيات - كما يتراءى من كلمات جمع
من الأعلام (1) - غير قابل للتصديق جدا.
ثم إن المحكي من بعض المشايخ المعاصرين أنه يقول: " بناء
الحمام في تلك الأعصار، كان ما يسمى ب‍ " الدوش " في هذا العصر " (2)
انتهى.
أقول: هذا في حد نفسه مما لا بأس به، إلا أنه دعوى بلا بينة
وبرهان، ويشهد لذلك اختلاف الفقهاء من العصر القديم في الشرائط
الآتية، وهو لا يمكن في هذه الصورة، فتدبر.
الموقف الثالث: في نقل الأقوال في المسألة
ففي " المعتبر " عن أصحاب أبي حنيفة، عنه أنه قال: " هو بمنزلة
الجاري، لأن النجاسة لا تستقر مع اتصال الأجزاء " (3).
وعن أحمد بن حنبل أنه قال: " قد قيل: إنه بمنزلة الجاري " (4).

1 - التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 280، مهذب الأحكام 1: 219.
2 - لم نعثر عليه.
3 - المعتبر 1: 42، بدائع الصنائع 1: 72، شرح فتح القدير 1: 69.
4 - المعتبر 1: 42، المغني، ابن قدامة 1: 31 / السطر 13.
7

وفي " المنتهى " مثل ذلك عن الأول والثاني (1)، وما وجدنا في
" الخلاف " تعرضا لماء الحمام.
وأما أصحابنا، فقد أنهيت أقوالهم إلى خمسة أو ستة، فالذي هو
المشهور المعروف، وعليه دعاوى الاجماعات، بل يعد من الضروري، أنه
بمنزلة الجاري إذا كانت له المادة (2)، فما يظهر من " المقنعة " من عدم
تعرضها للاتصال بها (3)، محمول على إهمال القيد الواضح.
وفي اشتراط كرية ما في المخازن قولان، المعروف وهو المشهور
اعتبارها، كما في " الذخيرة " وهو ظاهر " المجمع " (4) وفي " المدارك ":
" أنه مذهب أكثر المتأخرين " (5).
وفي " المعتبر " وتبعه جماعة ك‍ " الدلائل " و " الذخيرة " و " حاشية
المدارك " عدم اعتبارها (6)، ولعله يظهر - كما قيل - من إطلاق " الوسيلة "
و " المراسم " و " الشرائع " (7).
وفي اشتراط كرية مجموع ما في الخزائن والحياض قولان،

1 - منتهى المطلب 1: 6 / السطر 24.
2 - لاحظ جواهر الكلام 1: 95.
3 - لم نعثر على مباحث ماء الحمام في المقنعة، انظر مفتاح الكرامة 1: 64 / السطر 14.
4 - ذخيرة المعاد: 120 / السطر 17، مجمع الفائدة والبرهان 1: 258.
5 - مدارك الأحكام 1: 34.
6 - المعتبر 1: 42، لاحظ مفتاح الكرامة 1: 64 / السطر 20، ذخيرة المعاد: 120 /
السطر 21.
7 - مفتاح الكرامة 1: 64 / السطر 19، الوسيلة: 72 / السطر الأخير، المراسم: 37، شرائع
الاسلام 1: 4.
8

المحكي عن بعض المتأخرين، الاجماع على اعتبارها (1)، وهو المحكي عن
" فوائد القواعد " للشهيد الثاني (2)، وهو مختار " الروض " و " الكفاية " (3).
وفي تقريرات درس المحقق الوالد - مد ظله - نفي اعتبارها فيه
أيضا (4).
وعن أستاذه في " مفتاح الكرامة " أنه قال: " يشترط بلوغ المجموع
كرا في عدم قبول النجاسة " أي الدفع " وكون المادة كرا في التطهير إذا
تنجس ما في الحياض " أي الرفع الخاص (5).
وقيل: باعتبار كرية المادة في رفع النجاسة على الاطلاق، من غير
فرق بين نجاسة ما في الحياض وعدمه، وعدم اعتبارها في الدفع، بل
يكفي كرية المجموع.
وهذا التفصيل هو الظاهر بين المتأخرين إلا بعضهم (6)، وبه صرح
الفقيه اليزدي في " العروة " (7).
وقد حكي تفصيل آخر، وهو ما إذا تساوى سطوح المجموع أو
اختلفت، ففي الأول يكفي بلوغ المجموع كرا، وفي الثاني يعتبر كرية المادة

1 - ذخيرة المعاد: 120 / السطر 31.
2 - مفتاح الكرامة 1: 64 / السطر 20.
3 - روض الجنان: 137 / السطر 15، كفاية الأحكام: 10 / السطر 2.
4 - الطهارة (تقريرات الإمام الخميني (قدس سره) الفاضل اللنكراني: 14 (مخطوط).
5 - مفتاح الكرامة 1: 64 / السطر 24.
6 - لاحظ مفتاح الكرامة 1: 64 / السطر 27.
7 - العروة الوثقى 1: 41، فصل في ماء الحمام.
9

وحدها (1).
وعن " تحرير " العلامة اعتبار زيادة المادة على الكرية، ولم يعين
مقدارها، ولكن لا يبعد عدم كفاية الزيادة اليسيرة (2)، كما لا يخفى.
وفي المسألة احتمالات أخر، ربما كانت أقرب إلى الأدلة والاعتبار
من المذكورات، ومن تلك الاحتمالات سقوط خصوصية الحمام ولزوم
العمل بالأدلة المقتضية لانفعال الماء القليل.
أو إدراج المسألة في عمومات الماء الجاري واقعا، لا تنزيلا وادعاء،
ولعله الأقرب.
الموقف الرابع: فيما ورد عن العترة الطاهرة في المسألة
وهي روايات وطوائف: الطائفة الأولى:
ما تدل على أن ماء الحمام بمنزلة الجاري، من غير قيد وشرط:
فمنها: ما في " التهذيب ": أحمد بن محمد، عن عبد الرحمن بن أبي
نجران، عن داود بن سرحان قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما تقول في ماء
الحمام؟
قال: " هو بمنزلة الماء الجاري " (3).

1 - جامع المقاصد 1: 112، مفتاح الكرامة 1: 65 / السطر 4.
2 - تحرير الأحكام: 4 / السطر 23، مفتاح الكرامة 1: 67 / السطر 1.
3 - تهذيب الأحكام 1: 378 / 1170.
10

وتوهم إضافة " الوافي " شيئا إلى هذه الرواية غفلة.
نعم، في " الوافي " و " الوسائل " أن أحمد بن محمد هو ابن عيسى (1)،
ولكن " التهذيب " خال عن الاشعار به.
نعم، في القديم كنا نقوي، أن المراد من " أحمد بن محمد " في
" الكافي " و " التهذيبين " دائر بين الثقات، ولعله كذلك في " الكافي "
ولكنه في " التهذيبين " مشكل، لتعرض الشيخ في مشيخة الكتابين
لسنده إلى أحمد بن محمد بن خالد، وأحمد بن محمد بن عيسى، ولجماعة
أخرى من المسمين بذلك (2)، من غير قرينة على واحد منهما، وكونه أحدهما
- كما هو المتفق عليه ظاهرا - غير واضح، لوجود أحمد بن محمد الكوفي
المجهول في هذه الطبقة، وقد روى بتوسط العدة عنه في " الكافي " كما
في ذيل ترجمة محمد بن الحسن بن جمهور القمي] العمي [(3)، فراجع وتدبر.
فصحة الرواية اصطلاحا، محل إشكال. نعم لا يبعد اعتبارها.
ومنها: ما في " قرب الإسناد " بسنده عن إسماعيل بن جابر، عن أبي
الحسن الأول (عليه السلام) قال: ابتدأني فقال: " ماء الحمام لا ينجسه شئ " (4).
ولا يخفى ما قد يشكل في أصل الكتاب.

1 - الوافي 6: 52 / 7، وسائل الشيعة 1: 148، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 7، الحديث 1.
2 - تهذيب الأحكام 10: 5 - 44، من المشيخة، الإستبصار 4: 297 - 306.
3 - جامع الرواة 2: 90.
4 - قرب الإسناد: 309 / 1205، وسائل الشيعة 1: 150، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المطلق، الباب 7، الحديث 8.
11

وأما أيوب بن نوح أخو جميل، فهو ثقة.
وأما صالح بن عبد الله، فقد يشكل كونه الخثعمي الكوفي، حتى
يقال: بدلالة رواية ابن أبي عمير عنه على اعتباره أو حسنه، مع أن ذلك
أيضا غير واضح.
فالاتكال على مثلها غير جائز، إلا على مذهب في حجية خبر الواحد.
ومنها: ما رواه " الكافي " عن بعض أصحابنا، عن ابن جمهور، عن
محمد بن القاسم، عن ابن أبي يعفور، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قال:
" لا تغتسل من البئر التي يجتمع فيها غسالة الحمام، فإن فيها غسالة ولد
الزنا... ".
إلى أن قال: قلت: أخبرني عن ماء الحمام، يغتسل منه الجنب
والصبي واليهودي والنصراني والمجوسي.
فقال: " إن ماء الحمام كماء النهر، يطهر بعضه بعضا " (1).
وابن جمهور هذا، هو الحسن بن محمد بن جمهور، أو أبوه محمد بن
الحسن بن جمهور البصري، وقضية ما في " النجاشي " - من " أنه كان
أوثق من أبيه " - وثاقتهما، ومجرد كونه يروي عن الضعفاء، ويعتمد
المراسيل، لا يضر بذلك، خصوصا بعد قوله: " ذكره أصحابنا بذلك، وقالوا:
كان أوثق من أبيه وأصلح " (2) انتهى.

1 - الكافي 3: 14 / 1، وسائل الشيعة 1: 150، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 7، الحديث 7.
2 - رجال النجاشي: 62 / 144.
12

ولعله هو الابن، لروايته عنه عن أبيه، وقد عبر عنه ب‍ " ابن جمهور ".
ويشكل دركه بواسطة واحدة، لما في ذيل ترجمة محمد بن الحسن
في " جامع الرواة " قال: " محمد بن يعقوب، عن عدة من أصحابنا، عن أحمد
بن محمد الكوفي، عن ابن جمهور، عن أبيه " (1) وإن كان في رواية الكليني
عن أحمد بن محمد بلا وساطة العدة (2) - كما في ذيل ابن جمهور - شهادة
على إمكانه وقربه، فليتدبر جيدا، والمسألة لا تخلو من غموض.
وأما محمد بن القاسم، فهو في هذه الطبقة ينحصر بابن الفضيل من
أصحاب الرضا (عليه السلام) الثقة الفاضل.
فالسند على ما بنينا عليه - من أن تعبير الكليني عن رجل بقوله:
" بعض أصحابنا " يدرجه في المعتبرين - معتبر، خصوصا بعد كون الرواية
مشهورة، موافقة لفتوى الأصحاب، ومورد الاستدلال، فإن كل ذلك يستلزم
كون الرواة - بعدما عرفتهم - من المعتبرين.
بحث دلالي للطائفة الأولى
وبالجملة: هذه الطائفة ظاهرة في أن ماء الحمام - من غير شرطية
شئ آخر - مطهر ومعتصم.
نعم، في نفس التنزيل دلالة على أن المادة المتصل بها ماء الحمام

1 - جامع الرواة 2: 90.
2 - الكافي 3: 147 / 3.
13

لازمة، ولا سيما بعد كون المتعارف وجودها كما عرفت (1)، فكما أن الماء
الجاري معتصم من غير شرط، كذا إطلاق التنزيل والتشبيه يقتضي ذلك.
وأما التمسك بخصوصيات الحمامات في عصر الصدور (2)، فمع عدم
إمكان الاطلاع على جميع الجوانب والجهات، لا يليق بالفاضل، فضلا عن
الفقيه العامل.
وتوهم: أن التنزيل من جهة، أو بعض الجهات، دون مطلقها، فلعله
كان لأجل توهم الناس، عدم تقوم السافل بالعالي (3)، لا يخلو من تأسف،
لأن الاحتمال لا يورث قصورا في الاطلاق، خصوصا مثل هذا التنزيل
والتشبيه، ولا سيما بعد كون الحكم في موقف التسهيل.
ودعوى الخزينة الواحدة المملوءة من المياه البالغة نوعا إلى
الأكرار (4)، بلا بينة وبرهان، كما عرفت منا من الاحتمالات في المخازن،
وعدم قيام الشواهد على أحدها، بل الاستظهار يناسب تعدد المخازن،
وتكون هي غير كبيرة.
فجميع ما سمعت من الأقوال - حسب هذه الطائفة - ساقط
جدا، إلا ما عن الوالد المحقق - مد ظله - (5)، تبعا " للحدائق " (6) بل

1 - تقدم في الصفحة 5.
2 - دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلد الأول: 238 و 239.
3 - نفس المصدر: 237.
4 - مصباح الفقيه، الطهارة: 13 / السطر 25، دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من
المجلد الأول: 239، مهذب الأحكام 1: 218.
5 - تقدم في الصفحة 9.
6 - الحدائق الناضرة 1: 204 - 205.
14

و " الكفاية " (1) وفي المحكي عنه: " أنه مختار جملة من المتأخرين
ومتأخريهم " (2).
ماء الحمام هو تمام الموضوع للحكم بالمطهرية والاعتصام
ومما مر يظهر: أن ما هو تمام الموضوع للحكم بالمطهرية والاعتصام،
هو عنوان " ماء الحمام " سواء كان في الحياض الصغار - على المتعارف
المذكور في الكتب الفقهية، ويستفاد أحيانا من حواشي الأخبار - أو كان
في الدوشات المتعارفة في العصر، فإن مخازن الحمامات إذا كانت
عاليات وفي السطوح، فالاستفادة منها بالدوش ممكنة، من غير الحاجة
إلى الحوض الصغير، وهذا هو أولى بالمطهرية والاعتصام من غيره،
لمساعدة العرف على عدم انفعال هذا الماء، لكونه كالمطر تكوينا
وحقيقة.
ودعوى: أن ما هو كالجاري طبعا وتكوينا، معتصم حكما، دون ما هو
كالمطر، غير مسموعة بعد الاطلاق المذكور.
وما في كتب بعض فضلاء العصر، من الإطالة حول القضية
الحقيقية أو الخارجية وغير ذلك (3)، فهو من اللغو المنهي جدا، لعدم
الحاجة في فهم المسألة إلى تلك الإطالة الفاسدة، كما لا يخفى.

1 - كفاية الأحكام: 10 / السطر 2.
2 - مستمسك العروة الوثقى 1: 187، الحدائق الناضرة 1: 205.
3 - مستمسك العروة الوثقى 1: 188.
15

فلا ينبغي الخلط بين الحقائق والمجازات، فلو كان المتعارف في
البيوع أمرا خاصا، فهو غير موجب لصرف الاطلاقات إليها، أو إلى
المبيعات المعينة والأثمان المخصوصة، فالمدار على ما صدق عليه
" ماء الحمام " بشرط كونه متصلا بالمادة، ولو كان من قبيل الدوشات في
اليوم، وإن كانت المادة قليلة.
ولو كان الأمر كما توهم، لزم العسر والحرج في حمامات البلاد،
وفي حمامات المنازل، فيما كانت الأواني الفوقانية غير متصلة بالمياه
الكبار، كالفرات ونحوه، ويلزم اختصاص الحكم بحمام البلد، دون
القرى، أو بحمام البلدان والقرى، دون المنازل.
ولو لم يكن إطلاق، وكان الشرع يرى ما يصنع في الحمامات،
وأمضاه بالسكوت، فيعلم منه أن الأمر أوسع، لالغاء الخصوصية عرفا عما
اشتملت عليه الحمامات، لاختلاف حالات مياه الحمام حسب الأيام
وأوقاتها قطعا، بعد النظر إلى وهنها في تلك الأدوار والأعصار، فلا تخلط.
أجنبية حديث تقوي السافل بالعالي وغيره
وأما حديث تقوي السافل بالعالي، وبالعكس، وعدمه مطلقا، أو
أصلا دون عكس، كما قيل بكل ذلك (1)، فهو الأجنبي عما نحن فيه، لأن ذاك
في الماء الراكد المتصل بالأنبوب مثلا، دون الماء الجاري من الفوق
إلى التحت، ومنه إلى البالوعة، ضرورة أن العرف يجد مطهريته، لأن

1 - لاحظ الرسائل الفشاركية: 201، مهذب الأحكام 1: 221.
16

حقيقة التطهير ليست إلا تعانق الماء مع النجس، وحمله إلى خارج محل
النجاسة وموضعها.
وإذا كان ما في الحياض غير جار إلى البالوعة، فهو أيضا عندهم
طاهر ومعتصم، لما فيه من الجريان والتلاطم، كماء النهر، واختلاف
المادة الطبيعية والصناعية، لا يورث اختلافا في الحكم عندهم
بالضرورة، كما سيأتي تفصيله من ذي قبل (1).
ثم إن تفصيل البحث حول دلالة بعض هذه المآثير على اعتبار
الكرية في الماء الجاري - فضلا عن دلالتها على عدم اعتبار الكرية في
ماء الحمام - قد مضى، وقد نقلنا هناك ما أفاده الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره)
في المسألة، وذكرنا ما حوله من الخلط، فليراجع (2).
ومنها: ما رواه " التهذيب " بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن ابن أبي
عمير، عن فضالة، عن جميل بن دراج، عن محمد بن مسلم، قال: رأيت أبا
جعفر (عليه السلام) جائيا من الحمام، وبينه وبين داره قذر.
فقال: " لولا ما بيني وبين داري ما غسلت رجلي، ولا يخبث ماء
الحمام " (3).
وفي نسخة: " لا يجنب ".
وفي ثالثة: " لا تجنبت ".

1 - يأتي في الصفحة 31.
2 - تقدم في الجزء الأول: 198 - 201.
3 - تهذيب الأحكام 1: 379 / 1173، وسائل الشيعة 1: 148 - 149، كتاب الطهارة،
أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 3.
17

وفي رابعة: " نحيت " والكل قريب.
والظاهر منه: أنه بصدد إفادة طهارة ماء الحمام، والذي هو الأظهر
- وهو المناسب للصدر - أن يكون قوله (عليه السلام): " لا يخبث " أو " لا يجنب " دفاعا
عن توهم ابن مسلم، ومناسبا للابتداء به بعد تمامية الجملة السابقة، كما
لا يخفى، وسندها معتبر، فما يظهر من الأصحاب، من اختصاص الاعتبار في
أخبار المسألة بالأولى، وهي معتبر ابن سرحان (1)، في غير محله.
ولعله يدل على أن مجرد الاتصال، يورث رفع خباثته، لأنه بالاتصال
يصير ماء الحمام المقصود في الأخبار، وظاهر قوله: " لا يخبث " ينافي بقاء
خباثته بعد الاتصال، فتأمل.
ومنها: ما في " التهذيب " عن أحمد بن محمد، عن أبي يحيى
الواسطي، عن بعض أصحابه، عن أبي الحسن الهاشمي، قال: سئل عن
الرجال يقومون على الحوض في الحمام، لا أعرف اليهودي من
النصراني، ولا الجنب من غير الجنب.
قال: " يغتسل منه، ولا يغتسل من ماء آخر، فإنه طهور " (2).
وأما أبو يحيى، سهيل بن زياد، فلا يبعد اعتباره، لقول النجاشي:
" شيخنا المتكلم " ولقول بعض الأصحاب في " النجاشي ": " إنه ليس بكل

1 - الحدائق الناضرة 1: 204، الطهارة (تقريرات الإمام الخميني (قدس سره) الفاضل اللنكراني: 13
(مخطوط)، دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلد الأول: 235.
2 - تهذيب الأحكام 1: 378 / 1171، وسائل الشيعة 1: 149 - 150، كتاب الطهارة،
أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 6.
18

الثبت في الحديث " (1) فإنه يورث ثباته، إلا أنه لمكان تكلمه كان يحكي
بعض ما لا يقبله أرباب الخبر. هكذا ظني فيه.
وبعد التدبر في كلام الغضائري: " أن حديثه نعرفه تارة، وننكره
أخرى، ويجوز أن يخرج شاهدا " (2) انتهى، يعلم حسن حاله جدا، ولا سيما أنه
سبط مؤمن الطاق، فلاحظ.
وقال في " جامع الرواة ": " لا يبعد كون بعض أصحابنا في المواضع
المذكورة، هو هشام بن سالم، أو حماد بن عثمان " (3) انتهى.
ولو فرضنا عدم صحة ما أفاده، ولكن الظاهر أنه من المعتبرين،
لاصراره على إخفائه، وذلك لإكثاره في الروايات هذه الكلمة، وفي ذلك
شهادة على حسن حاله، كما يشهد على حسن حال المروي عنه بتعبيره:
" عن بعض أصحابنا ".
وفي قول النجاشي: " لقي أبا الحسن العسكري (عليه السلام) " مع روايته
بواسطة واحدة عن أبي عبد الله (عليه السلام) في " التهذيب " دلالة على أنه عمر،
والله العالم.
وأما أبو الحسن الهاشمي، فهو من المهملين، ويحتمل كونه كناية
عن موسى بن جعفر (عليهما السلام) لأن ظاهر حال الراوي ابتلاؤه بالتقية شديدا.
ودلالتها واضحة، لما عرفت من أن التوصيف ب‍ " الطهور " يدل على

1 - رجال النجاشي: 192 / 513.
2 - لاحظ مجمع الرجال 3: 181.
3 - جامع الرواة 2: 425.
19

زيادة على أصل الطهارة، وهي صفة المطهرية (1)، وأما عدم انفعاله فيعلم
بقرينة المقام، لأن النجاسة ترد عليه كما لا يخفى.
الطائفة الثانية
ما دلت على أن ماء الحمام، معتصم إذا كان له المادة
فمنها: ما رواه " الكافي " عن العدة، عن أحمد بن محمد، عن الحسين
بن سعيد، عن صفوان بن يحيى، عن منصور بن حازم، عن بكر بن حبيب، عن
أبي جعفر (عليه السلام) قال: " ماء الحمام لا بأس به إذا كانت له مادة " (2).
ومثله ما في " الفقه الرضوي ": " ماء الحمام سبيله سبيل الجاري إذا
كانت له مادة " (3).
ودلالتها على كفاية وجود المادة من غير الشرط الآخر - من
الكرية وغيرها - أوضح، ضرورة أن تنوين التنكير يقتضي ذلك.
وقد عرفت: أن الطائفة الأولى، تدل على اعتبار المادة والاتصال بها،
فلا حاجة إلى تنقيح سند هذه الرواية: إما بالالتزام بأن منصور بن حازم، قد
عمر حتى تمكن من الرواية عن بكر بن حبيب المازني، المتوفى سنة

1 - تقدم في الجزء الأول: 24.
2 - الكافي 3: 14 / 2، وسائل الشيعة 1: 149، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 7، الحديث 4.
3 - الفقه المنسوب للإمام الرضا (عليه السلام): 86، مستدرك الوسائل 1: 194 - 195، كتاب
الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 2.
20

248 ه‍. أو الالتزام بأن بكرا كان من المعمرين.
فيكون المراد من " أبي جعفر " على الأول هو محمد بن علي التقي.
وعلى الثاني، محمد بن علي الباقر عليهم الصلاة والسلام.
والظاهر تعددهما، فما يظهر من الشيخ الأنصاري (رحمه الله) (1) لا يخلو من
تأسف.
وأما الاكتفاء برواية صفوان في الوثوق بالرواية - لكونه مورد
الاجماعين (2)، إجماع الكشي (3)، وإجماع الشيخ في " العدة " (4) - فهو غير
واضح، بل الذي حققناه أن إجماع الشيخ في " العدة " ليس إجماعا على حدة،
بل هو نفس إجماع الكشي (5)، فراجع.
الطائفة الثالثة
ما يظهر منها أن ماء الحمام من المياه الجارية موضوعا
ويشهد لذلك قوله: " كماء النهر، يطهر بعضه بعضا " (6).

1 - الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 100.
2 - جواهر الكلام 1: 96.
3 - رجال الكشي 2: 830.
4 - عدة الأصول: 63.
5 - لعله في قواعده الرجالية وهي مفقودة.
6 - الكافي 3: 14 / 1، وسائل الشيعة 1: 150، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 7، الحديث 7.
21

وقوله: " سبيله سبيل الجاري " (1).
ويدل عليه قوله: " فإنه طهور " (2).
فإن الحمل ظاهر في أنه طهور حقيقة، لا بالتنزيل والادعاء.
ويدل عليه فهم العرف وبناء العقلاء في المطهرات، ضرورة عدم
الفرق عندهم بين ماء النهر وهذا الماء، فإن كون المخزن في الأول طبيعيا،
وفي الثاني صناعيا، لا يورث الفارق بينهما حكما بالضرورة والوجدان،
ومياه الدوشات مثل مياه المطر في ذلك الأمر واقعا.
وقد عرفت في الماء الجاري: أن المراد من " المادة " في صحيحة
ابن بزيع أعم من المادة الخاصة، أو المواد المعينة والمشهورة عند
العرف (3)، فعلى هذا تسقط خصوصية الحمام، وتندرج المسألة في
البحث السابق، وهو الماء الجاري.
ويدل عليه ما رواه " الكافي " (4) و " التهذيب " (5) عن محمد بن
إسماعيل، عن حنان (6)، قال: سمعت رجلا يقول لأبي عبد الله (عليه السلام): إني أدخل
الحمام في السحر، وفيه الجنب وغير ذلك، فأقوم فأغتسل، فينتضح علي

1 - الفقه المنسوب للإمام الرضا (عليه السلام): 86، مستدرك الوسائل 1: 194 - 195، كتاب
الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 2.
2 - تهذيب الأحكام 1: 378 / 1171، وسائل الشيعة 1: 149 - 150، كتاب الطهارة،
أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 6.
3 - انظر ما تقدم في الجزء الأول: 183 و 195.
4 - الكافي 3: 14 / 3.
5 - تهذيب الأحكام 1: 378 / 1169.
6 - كذا في نسخة (منه (قدس سره).
22

بعدما أفرغ من مائهم.
قال: " أليس هو جار؟ ".
قلت: بلى.
قال: " لا بأس ".
فإنه كالنص في أنه لمكان كونه جاريا موضوعا، نفي عنه البأس،
وقد مر ما يتعلق بها سندا ودلالة في الماء الجاري، فراجع (1).
وتوهم دلالة صحيحة ابن سرحان (2) على التنزيل (3)، في محله، لأمر
فتوى أبي حنيفة وأصحابه بأنه بمنزلة الماء الجاري كما عرفت (4).
وفي قوله: " إذا كانت له مادة " (5) دلالة على أن المراد من " المادة "
في الشرع ليس مادة خاصة، فالمدار على كون الماء ذا مادة، وإذا كان
سائلا فهو الجاري موضوعا، فيدل على اعتصام ماء الحمام، جميع ما دل
على اعتصام الماء الجاري، ويشترك معه في الأحكام الآتية في محلها إن
شاء الله تعالى (6).

1 - تقدم في الجزء الأول: 199 - 200.
2 - تهذيب الأحكام 1: 378 / 1170، وسائل الشيعة 1: 148، كتاب الطهارة، أبواب
الماء المطلق، الباب 7، الحديث 1.
3 - الحدائق الناضرة 1: 204.
4 - تقدم في الصفحة 7.
5 - تهذيب الأحكام 1: 378 / 1168، وسائل الشيعة 1: 149، كتاب الطهارة، أبواب
الماء المطلق، الباب 7، الحديث 4.
6 - يأتي في الصفحة 31 - 32.
23

الموقف الخامس: في علاج المعارضة بين أخبار الكر مفهوما
وروايات المسألة
أما أصل التكاذب، فهو معلوم على ما بنى عليه الأصحاب، من أن ماء
الحمام قليل لا ينفعل، وخارج عن أدلة انفعال الماء القليل بالنص
الخاص (1).
ويورد عليهم: بأن النسبة بين الأدلة عموم من وجه، وذلك لأن من
الممكن قويا، اتحاد سطوح المخازن والحياض الصغار، وكونها في سطح
أعلى ليس من الأمر الواضح، حتى يقال: بأن أدلة ماء الحمام واردة على
الماء القليل غير المتقوي بشئ، ففيما كان ما في الحياض والمخازن كرا
يتفق الطائفتان، وفيما كان أقل تقع المعارضة بين الطائفتين.
وعلاجها بإنكار كون النسبة عموما من وجه، كما يظهر منهم، ظنا أن
ماء الحياض والمخازن متعدد عرفا، فيكون خارجا عن أدلة الكر منطوقا
ومفهوما، والوحدة في الحقيقة أو تسامحا غير كافية كما لا يخفى (2)، مدفوع
بما مر.

1 - جواهر الكلام 1: 96.
2 - مصباح الفقيه، الطهارة: 13 / السطر 31.
24

وهكذا علاجها بأن ترجيح أخبار الحمام متعين، للزوم لغويتها في
العكس، لما عرفت في ماء المطر (1).
وقد يتوهم حكومة هذه المآثير على تلك الطائفة، لأن المراد من
التنزيل هو الادراج في الكثير ادعاء، لأن الجاري وكل ما لا ينفعل يكون من
الكثير، فيخرج عن مفهوم أخبار الكر بالحكومة.
وما فيه غير خفي، لأن اطلاع الكثير على الماء المعتصم، ممنوع
لغة، وغير ثابت في الشرع، فكون الجاري وماء المطر كرا حقيقة أو في
مصطلح الشرع، واضح المنع، فلا حكومة.
ودعوى: أن ترجيح أخبار الكر، يستلزم التخصيص المستهجن، ولا
عكس، للزوم خروج نوع الحمامات، لاختلاف سطوح مياه الحياض
الصغار مع ما في المخزن (2)، غير مسموعة، لعدم اطلاعنا على وضع
الحمامات في العصر الأول، وقد مر أن الأوفق بوضع الأسبق اتحاد
السطوح (3)، فلا تغفل.
فعلى هذا، إن تم ما ذكرناه: من أن ماء الحمام من الماء الجاري
موضوعا، واختلاف مآثير الماء الجاري والكر مرفوع، وقد مر تفصيله في
محله (4)، فهو، وإلا فتصل النوبة إلى العمل بأخبار العلاج، وحيث أن
أخبار ماء الحمام مورد الشهرة وموافقة لمذهب العامة، يشكل الأمر

1 - تقدم في الجزء الأول: 397 - 398.
2 - مصباح الفقيه، الطهارة: 13 / السطر 34.
3 - تقدم في الصفحة 5.
4 - تقدم في الجزء الأول: 206 - 210.
25

حولها.
فإن قلنا: بأن الشهرة في الأخبار العلاجية هي الشهرة الروائية،
فلا ترجيح، لاشتهار الطائفتين، فتصل النوبة إلى الترجيح بمخالفة
العامة، فيتعين العمل على طبق مآثير انفعال القليل.
وإن قلنا: بأن المراد منها هي الشهرة الفتوائية، كما هو الأظهر، ففي
كون المسألة من مصاديق الخبرين المتعارضين إشكال، بل منع جدا.
ومقتضى القاعدة سقوط الاطلاقين، والرجوع إلى العام الفوقاني
أو الأصول العملية.
وقد مضى التحقيق في هذه المواقف في المسائل السابقة كرارا.
الموقف السادس: هل يختص ماء الحمام بالتقوي بالمادة
ظاهر الأكثر عدم اختصاص الحكم بالحمام، معللين: " بأن العرف
لا يجد خصوصية في ذلك " (1).
وظاهر الوالد المحقق مد ظله، عدم جواز التعدي، لاحتمال كون
الأمر مبنيا على المساهلة، للزوم الهرج والمرج والمشقة والكلفة،
ومع هذا الاحتمال القوي وجدانا، لا يمكن إلغاء الخصوصية (2).
وقضية ما سلف منا، عدم اختصاص الحمام بحكم، إلا من باب أنه

1 - العروة الوثقى 1: 41، فصل في ماء الحمام، مستمسك العروة الوثقى 1: 192، دروس
في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلد الأول: 240.
2 - الطهارة (تقريرات الإمام الخميني (قدس سره) الفاضل اللنكراني: 14 (مخطوط).
26

أحد مصاديق الماء الجاري موضوعا (1)، ولو ثبت هذا فهو، وإلا فالتجاوز
ممنوع.
وتوهم: أن الاحتمال المذكور يورث كون ماء الحمام من باب العفو،
لا الطهارة، في غير محله، لأن الطهارة العرفية في ماء الحمام حاصلة،
والعفو ينحصر بوضع لا يساعده العرف، كما في ماء الاستنجاء، فعليه لا بأس
بالالتزام بطهارة ماء الحمام، واختصاص الحكم به.
ثم إنه دام ظله بنى على التجاوز، ظنا أن نصوص الحمام تدل على
إناطة الحكم بالمادة المتصلة، فلو كان الماء القليل متصلا بمادة
مشابهة لمادة الحمام، فهو أيضا بمنزلة الجاري.
وأنت خبير بما فيه:
فأولا: لعدم وجود التعليل في مآثير الحمام، ومجرد قوله: " إذا كانت
له مادة " لا يدل عليه، بل هو قيد مأخوذ لطهارة الماء في الحمام، لأنه
لا يورث المشقة والكلفة الخارجة عن المتعارف.
وثانيا: التصريح ب‍ " المادة " ليس في الأخبار المعتبرة عندهم.
نعم، بناء على ما سلكناه، تكون هذه الأخبار شواهد على أن " المادة " في
صحيحة ابن بزيع، أعم من المادة الطبيعية والصناعية.
وقد يقال: بأن كلمة " ماء الحمام " من العناوين المشيرة إلى أن
الماء الذي مثله - وهو ما كان له المادة الكذائية - بمنزلة الجاري،

1 - تقدم في الصفحة 10.
27

وتكون لفظة " الحمام " من باب أخذ المعرف (1).
وفيه ما لا يخفى بعدما عرفت: من احتياج ذلك إلى التوسعة والاغماض
حفظا على أصل المذهب، وهي كونه على السهلة السمحة، فليتدبر.
الموقف السابع: هل أن ماء الحمام مطهر عام أو خاص؟
الظاهر من الأعلام، وإرسالهم كالمسلمات، وعدم تعرضهم للمسألة،
أن ماء الحمام مطهر ومعتصم كالماء الجاري على إطلاقه (2).
ومن المحتمل قويا كونه - كالشمس - مطهرا خاصا، فكما أن
الشمس لا تطهر النواقل، كذلك الحمام لا يطهر إلا المتنجسات الآتية من
قبل الاستحمام، ضرورة أن ذلك منصرف الأدلة والمفهوم العرفي منها،
فمطهريته لغير المستحم ممنوعة جدا، إلا على ما سلكناه من أنه الماء
الجاري موضوعا.
وأما على ما سلكه القوم، من الالحاق والتنزيل، وهو الظاهر من
الكل (3)، فلا يبعد صحة دعوى الانصراف.
بل المراجعة إلى الأخبار الخاصة الكثيرة في المسألة، تعطي

1 - مصباح الفقيه، الطهارة: 15 / السطر 4، دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلد
الأول: 240.
2 - العروة الوثقى 1: 41، فصل في المياه، ماء الحمام.
3 - مصباح الفقيه، الطهارة: 15 / السطر 4، العروة الوثقى 1: 36، فصل في الماء الراكد،
مستمسك العروة الوثقى 1: 192، دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلد
الأول: 240.
28

ذلك، كما بنى عليه الأصحاب في كثير من المواقف، وقضية الأخذ
بالخصوصيات في الحمامات - ومنها كون المادة كرا، أو كون مجموع
المادة وما في الحياض كرا، وغير ذلك - عدم جواز التعدي عن تلك
الخصوصيات، ومنها ذلك بلا شبهة، فلا يمكن الجمع بين هذين الرأيين
المشهورين بين الفقهاء قديما وحديثا، وهو لزوم كرية المادة (1)، ومطهريته
لكل متنجس (2).
هذا مع أن " ماء الحمام " ربما كان بنحو الإضافة البيانية، أي الماء
الذي يستحم به، ولو شك في ذلك فالمرجع العام الفوقاني، أو الأصول
العملية، كما أشير إليه (3).
مسألة: في كيفية تطهير ما في الحياض ونحوها
لو تنجس ما في الحياض، فهل يطهر بمجرد الاتصال بالمادة، أو لا بد
من الامتزاج؟
كل إلى مسلكه في تلك المسألة.
وقضية ما سلف منا في محله، أن الماء المتنجس إذا كان تنجسه
من قبل تغيره، فيطهر بزوال وصف التغير، وإن تنجس بالملاقاة فلا يطهر إلا

1 - مجمع الفائدة والبرهان 1: 258، ذخيرة المعاد: 120 / السطر 17، مفتاح الكرامة 1:
64 / السطر 17.
2 - تقدم في الصفحة 28.
3 - تقدم في الصفحة 26.
29

بالاستهلاك (1)، ويدل على كل ذلك صحيحة ابن بزيع (2).
وربما يخطر بالبال، دعوى اختصاص المسألة بأن ماء الحمام
لا يخبث، فلا يتنجس ما في الحياض، لوجود المادة وإن كانت منقطعة في
بعض الأحيان، ضرورة عدم الدليل على اشتراط الاتصال في جميع الساعات
والأحوال.
ولك دعوى انصراف أدلة انفعال القليل عن مياه الحياض الصغار
فيما نحن فيه.
والانصاف: أن الالتزام بذلك، أقرب إلى الصواب من الالتزام بتنجسه،
ثم طهارته بمجرد الاتصال، الذي لا يقول به ولا يفهمه أحد من العقلاء،
الذين هم المرجع في هذه المسائل، لعدم كونها من المسائل ذات الأسرار
والخفيات كالعبادات.
ثم إن ظاهر " العروة الوثقى " حيث قال: " وإذا تنجس ما فيها يطهر
بالاتصال بالخزانة، بشرط كونها كرا وإن كانت أعلى وكان الاتصال بمثل
المزملة " (3) انتهى، اختصاص ذلك بما في الحياض.
وأنت قد أحطت خبرا، بقصور الأدلة عن إثبات الشرطية المزبورة،
وأن قضية ما سلف منهم عدم اختصاص ذلك بما في الحياض، بل المياه
الواقفة في سطح الحمام، إذا اتصلت بما في الحياض بعد اتصالها

1 - تقدم في الجزء الأول: 149 - 153.
2 - الإستبصار 1: 33 / 87، وسائل الشيعة 1: 173، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 14، الحديث 6.
3 - العروة الوثقى 1: 41 - 42، فصل في المياه، ماء الحمام.
30

بالمادة تطهر (1).
بل الأمر كذلك في مطلق المياه المتنجسة ولو كانت من غير الحمام،
فلو تنجس ما في حوض الدار، ثم اتصل بمادة الحمام، فإنه - على ما يظهر
منهم - يطهر.
وأنت خبير بما فيه بعدا، وهذا شاهد على ما سلكناه، من أن روايات
الحمام، ناظرة إلى اختصاص الحكم بمواقف معينة، وأما على ما اخترناه
فمادة الحمام بالاتصال بكل ماء كان، لا تورث الطهارة.
وربما يشهد لما هو الحق، بناء الأصحاب على تخلية ما في
الحياض أولا، ثم فتح الأنبوب ثانيا، أو يفتحونه أولا، ويصبون الماء
الموجود في الحياض في البالوعة، ثم يستحمون، وما ذلك إلا
لارتكازهم على عدم طهارة تلك المياه بمجرد الاتصال، والخروج عن
المرتكز العرفي بإطلاق أو استظهار، غير ممكن جدا.
بحث حول عدم اشتراط كرية مجموع ما في الحياض والمادة
قضية ما سلف منا، عدم اشتراط كرية ما في المادة، ولا المجموع (2).
وأيضا: مقتضى ما مر منا في الماء الجاري، أن " المادة " في صحيحة
ابن بزيع، أعم من المادة الطبيعية والصناعية (3)، فعليه تكون جميع المياه

1 - تقدم في الصفحة 26.
2 - تقدم في الصفحة 13 - 14.
3 - انظر ما تقدم في الجزء الأول: 183 و 195.
31

الصغار المتصلة بالمادة الجعلية، معتصمة بتلك المادة ولو كانت أقل
من الكر.
وأيضا: يلزم ذلك ولو كانت سطوح المخازن والحياض متساوية.
والالتزام بذلك مشكل، ضرورة أنه في صورة اختلاف السطوح، يمكن
اعتبار كون ما في الحوض ذا مادة، ويكون ما في المخزن الأعلى مادته،
فيخرج عن أدلة انفعال القليل، وأما في صورة وحدة السطوح فلا يعتبر
المادة، وذو المادة، وعند ذلك لا بد من الالتزام بكرية المجموع في
الاعتصام، كما لا يخفى.
ويندفع الاشكال على ما تقرر منا أيضا سابقا: بأن الوحدة العرفية
ليست دائرة مدار اتحاد السطوح، بل هي دائرة مدار الاتصال العرفي الذي
يختلف ذلك باختلافه (1).
مثلا: إذا كان العالي والداني متصلا بالأنبوب الوسيع والطريق
الواسع، فإنهما يعدان واحدا، بخلاف ما إذا كان بين الماءين في الإناءين
المتساويين في السطح، اتصال قصير بأنبوب ضيق غايته، فإنه لا يحكم
عليهما بالوحدة.
فإذن لا بأس بإمكان اعتبار المادة وذي المادة، بين ما في الخزانة
وما في الحياض، فيندرج تحت صحيحة ابن بزيع وأخبار المسألة (2)، ومن
هنا يظهر ما يتوجه إلى الأعلام المتأخرين في ماء الحمام.

1 - تقدم في الجزء الأول: 268.
2 - وسائل الشيعة 1: 148 - 150، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7.
32

المبحث الثامن
في ماء البئر
والكلام يتم حوله في ضمن أمور:
33

الأمر الأول
في تعريف البئر
قد عرفت في " غاية المراد ": " بأنها مجمع ماء نابع من الأرض،
لا يتعداها غالبا، ولا يخرج عن مسماها عرفا " (1).
وتبعه " كشف الالتباس " و " الروضة " (2).
ووجه الحاجة إلى التعريف - بعد اختصاص البئر بالأحكام
الخاصة الاستحبابية أو الوجوبية - واضح، فلا وجه لتوهم سقوط
التقاسيم في المياه، ظنا أن المدار فيها على كونها ذا مادة في عدم الانفعال،
أو كثيرة.
ويلحق المطر بها أيضا، فلا خصوصية لعنوان " الحمام " و " البئر "
و " الجاري ".

1 - غاية المراد 1: 65.
2 - مفتاح الكرامة 1: 77 / السطر 7، الروضة البهية 1: 13 / السطر 23.
35

ثم إن المفهوم العرفي منها واضح لا شبهة فيه، وقضية القواعد كون
المطلقات ناظرة إليه.
ولكن الظاهر: أن المقصود من " البئر " في المآثير، ما كان له مادة،
فلو كان كثيرا بلا مادة فإنه لا ينفعل، ولا ينزح شئ منه، استحبابا كان، أو
وجوبا، وهذا لا يرجع إلى القول بالحقيقة الشرعية، كما لا يخفى.
وتوهم اختصاص المفهوم عرفا بما كان لها النبع والمادة، منقوض
بالبئر التي كانت لها المادة، ولكنها تمت، ولا ينبع فيها الماء، فإنها تعد بئرا
عرفا بلا خفاء.
ثم إن أخذ النبعان - قيدا، أو شرطا - غير صحيح، لعدم شرطيته قطعا،
بل المدار على المادة، فإنها أعم منه كما لا يخفى، فما صنعه " العروة
الوثقى " (1) تبعا للآخرين (2)، غير مقبول.
ومما ذكرنا يظهر: أن الماء النابع الخارج ليس بئرا، فقوله: " غالبا "
غير سديد، مع أنه لا معنى للأمر بالنزح بالنسبة إلى الماء النابع
بطبعه، أي الماء الذي خرج من البئر، وجرى على وجه الأرض،
المسمى ب‍ " ماء العين ".
وقضية ما سلف منا - في عدم اعتبار اتصال المادة ودوامها، بل
المناط صدق كون الماء ذا مادة - عدم شرطية دوام النبعان، بل قد مضى

1 - العروة الوثقى 1: 42، فصل في ماء البئر.
2 - غاية المراد 1: 65، الروضة البهية 1: 13 / السطر 23، جواهر الكلام 1: 188.
36

عدم شرطية عنوانه، فما في " الجواهر " في المقام (1) لا يخلو عن
مسامحات، والأمر سهل.
الأمر الثاني: حول أقوال العلماء قديما وحديثا في حكم البئر
كانت الآبار قبل الاسلام، فإذا طلع فهل تعامل معها معاملة الطهارة، بعد
وقوع النجاسات الكثيرة فيها؟ وكونها في معرض الحوادث والقذارات مما
لا يكاد ينكر.
أو تعامل معها معاملة النجاسة، فأمر بالاجتناب عنها؟
والذي يمكن أن يتوهم: أن الأمر لو كان على الاجتناب لتبين من
الأول، لشدة الابتلاء بها.
نعم، يمكن أن يدعى: أن الحكم بالانفعال كان صعبا، فجاء به الاسلام
بعد مضي مدة، أو هو كالقليل إذا كان قليلا، وكالكثير إذا كان كثيرا، ولأجله
لا يكون عند الأصحاب والتابعين ذا حكم خاص.
ولكنها غير مسموعة، لما قال السيد في " الإنتصار ": " ومما انفردت
به الإمامية القول: بأن ماء البئر ينجس بما يقع فيها من النجاسة، ويطهر
عندنا ماؤها بنزح بعضه.
وهذا ليس بقول لأحد من الفقهاء، لأن من لم يراع في الماء حدا إذا
بلغ إليه لم ينجس بما يحله من النجاسات - وهو أبو حنيفة - لا يفصل في
هذا الحكم بين الماء وغيره، كما فصلت الإمامية.

1 - جواهر الكلام 1: 188 - 190.
37

ومن راعى حدا في الماء إذا بلغه لم يقبل النجاسة - وهو الشافعي
في اعتبار القلتين - لم يفصل بين البئر وغيرها، وفصلت الإمامية، وانفردت
بذلك من الجماعة ".
ثم قال: " ويفيد ذلك: أنه لا خلاف بين الصحابة والتابعين، في أن
اخراج بعض ماء البئر يطهرها، وإنما اختلفوا في مقدار ما ينزح، وهذا يدل
على حكمهم بنجاستها من غير اعتبار لمقدار مائها، وأن حكمها في أن اخراج
بعض مائها يطهرها " (1) انتهى.
وقال الفقيه في " الأمالي ": " إنه من دين الإمامية " (2).
وعليه فتوى الفقهاء من زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى يومنا هذا (3).
وعن " كشف الرموز ": " أنه لو لم ينجس لكان اتفاقهم من زمن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على إلزام المشاق من غير فائدة " (4).
وفي " المعتبر " نقله عن جماعة من الصحابة والتابعين (5).
وهو المشهور، بل كاد يكون إجماعا (6).

1 - الإنتصار: 11.
2 - الأمالي: 514.
3 - مفتاح الكرامة 1: 78 / السطر 15.
4 - مفتاح الكرامة 1: 78 / السطر 16، كشف الرموز 1: 49.
5 - المعتبر 1: 55.
6 - مفتاح الكرامة 1: 78 / السطر 21.
38

ذهاب العامة إلى نجاسة البئر
فبالجملة: يعلم من هذه التعابير: أن المسألة كانت معنونة من الزمن
الأول، وكان المعروف في الطبقة المتأخرة القول بالنجاسة، ولكنه
أخص مما هو المعروف عن الصحابة والتابعين، لأن وجوب النزح
لا يستلزم نجاستها.
اللهم إلا أن يقال: بظهور الجمل السابقة ونص بعضهم في
النجاسة (1)، كما هو غير خفي، فما نسب إلى الفقهاء من اختيارهم طهارة
ماء البئر (2)، غير صحيح، لما مر منا (3) أن أبا حنيفة كان يقول في الماء
القليل بالحد، وقضية ما حكى عنه " الخلاف " (4) وغيره (5)، نجاسة البئر
عنده ولو بلغ ما بلغ، فهو والصحابة والتابعون على النجاسة، وهكذا
الشافعي فيما إذا كان قليلا (6)، فما في " المعتبر " من نسبة النجاسة إلى
الجمهور في محله.
إلا أن ظاهر تحديد أبي حنيفة، عدم اختصاص النجاسة بالقليل،
فلا يكون العامة مقابل الخاصة في هذه المسألة، فليكن ذلك في ذكرك.

1 - مستمسك العروة الوثقى 1: 193 - 194.
2 - الإنتصار: 11.
3 - تقدم في الصفحة 230.
4 - الخلاف 1: 192.
5 - تذكرة الفقهاء 1: 19.
6 - تذكرة الفقهاء 1: 27، المغني، ابن قدامة 1: 24 / السطر 13.
39

ولنعم ما قال الأستاذ كما في " مفتاح الكرامة ": " إن التنجس مذهب
العامة، بقرينة جواب الإمام (عليه السلام) لابن يقطين (1) وابن بزيع: " فإن ذلك
يطهرها " وهما وزيران، فتأمل " (2) انتهى.
نعم، الشافعية والحنابلة قالا به حال القلة (3)، وعن الشافعية
تفصيل آخر (4)، والأمر سهل.
مختار فقهائنا في حكم البئر
ثم إن اشتهار النجاسة ووجوب النزح لأجلها، كان إلى زمن
المؤلفين والمحققين من المذهب، كالصدوق والمفيد والسيد والشيخ
وأضرابهم (5) إلى العصور المتأخرة، حتى وصلت النوبة إلى
المتوسطين، فأخذوا من زمان مفيد الدين محمد بن الجهم جانب
الطهارة (6)، فأفتى العلامة في كتبه بها تبعا لشيخه (7)، فاشتهر ذلك إلى أن

1 - تهذيب الأحكام 1: 237 / 686، وسائل الشيعة 1: 182 - 183، كتاب الطهارة،
أبواب الماء المطلق، الباب 17، الحديث 2.
2 - مفتاح الكرامة 1: 79 / السطر 8.
3 - تذكرة الفقهاء 1: 27، المغني، ابن قدامة 1: 24 / السطر 12 - 13.
4 - المغني، ابن قدامة 1: 25 / السطر 4.
5 - الأمالي، الصدوق: 514، المقنعة: 64، الإنتصار: 11، المبسوط 1: 11، المراسم: 34،
المهذب 1: 21.
6 - غاية المراد 1: 71، مفتاح الكرامة 1: 79 / السطر 16.
7 - تذكرة الفقهاء 1: 25، قواعد الأحكام: 5 / السطر 6، منتهى المطلب 1: 10 /
السطر 3.
40

قيل: " إن القول بالنجاسة بعد ذلك صار عزيزا " ولا حكاية إلا عن الشهيد
الثاني في " الروضة " و " اللمعة " (1).
وفي " شرح الإرشاد " له: " أن المسألة من أشكل أبواب الفقه، غير
أن المعتبر في المصير إلى مثل هذه الأحكام رجحان ما لا حدهما على
ضده، وكأنه هنا موجود في جانب النجاسة " (2) انتهى.
هذا، وفي كون المسألة اتفاقية وإجماعية في العصر الأول إشكال،
لما نسب إلى العماني القول بالطهارة (3)، وهكذا ابن الغضائري على ما
حكى عنه أبو يعلى الجعفري (4)، وقد نسبه " المختلف " إلى الشيخ (5)، بل
ربما يستظهر من " الهداية " لعدم تصريحه بالنجاسة (6)، وعن " تهذيب "
الشيخ عبارة ظاهرة في مصيره إلى الطهارة (7)، فتكون النسبة في غير
محلها.
فتوهم (8): أن هذا القول من مبدعات العلامة وشيخه ابن الجهم
- على ما حكى عنه الشهيد في " غاية المراد " بتوسط أستاذه عميد الدين

1 - الروضة البهية 1: 13 / السطر 23.
2 - روض الجنان: 147 / السطر 7.
3 - مختلف الشيعة: 4 / السطر 26.
4 - غاية المراد 1: 71.
5 - مختلف الشيعة: 4 / السطر 26.
6 - الهداية، ضمن الجوامع الفقهية: 48 / السطر 18.
7 - مستند الشيعة 1: 67، تهذيب الأحكام 1: 232.
8 - الطهارة (تقريرات الإمام الخميني (قدس سره) الفاضل اللنكراني: 33 (مخطوط).
41

عن مجلس درسه (1) - غير صواب.
وظاهرهم وصريح المتأخرين، عدم الفرق بين كونه قليلا أو كثيرا (2).
وقد حكي عن الشيخ أبي الحسن محمد بن محمد البصروي،
التفصيل بين القليل والكثير (3)، واستظهر ذلك من العلامة، حيث اعتبر
الكرية في الجاري (4)، فهذا أولى به، وعن " حاشية المدارك " ما يقرب
من ذلك (5).
وأما القول الرابع، فهو التفصيل المحكي عن الجعفي قال في
" الذكرى ": " إنه يعتبر فيها ذراعان في الأبعاد الثلاثة، فلا تنجس " (6).
ولكنك تعلم: أنه أخذ ببعض أخبار الكر، وليس قولا في هذه
المسألة، فلا تخلط.
وأما القول الخامس وهو الطهارة ووجوب النزح (7)، فهو أيضا
ليس من الأقوال في المسألة، كما لا يخفى.
فتحصل إلى هنا: أن الاستدلال لطهارة ماء البئر بالسيرة القطعية،

1 - غاية المراد 1: 71.
2 - الأمالي، الصدوق: 514، لاحظ المقنعة: 64، المهذب 1: 21، السرائر 1: 69،
الوسيلة: 74.
3 - غاية المراد 1: 72، مدارك الأحكام 1: 54.
4 - مدارك الأحكام 1: 55، تذكرة الفقهاء 1: 16 - 17.
5 - مفتاح الكرامة 1: 80 / السطر 8.
6 - ذكرى الشيعة: 9 / السطر 37.
7 - منتهى المطلب 1: 12 / السطر 9، مدارك الأحكام 1: 54.
42

وبأن الأمر لو كان على النجاسة لما خفي على الفقهاء (1)، ليس في
مقامه، بل الظاهر أن اشتهار النجاسة والطهارة في المسألة تابعة لآراء
أهل النظر.
ودعوى: أن انقلاب السيرة السابقة إلى اللاحقة في غير محله،
قريبة، لعدم صحة الاستناد إلى الرواية في مقابل هذه الشهرة العظيمة
من المخالف والمؤالف.
الأمر الثالث: في تحقيق حكم البئر
قد تبين مما مضى في مباحث الكر: أن القليل ينفعل، دون الكثير، من
غير فرق بين أنحاء الكر (2)، فماء البئر إذا كان كرا، يكون مشمول تلك الأدلة
بالضرورة، واحتمال عدم شمولها له غير جائز، فلا حاجة إلى ذكر الأدلة
الخاصة على عدم تنجسه حال كريته.
وحيث أن الملازمة قطعية، والتفكيك غير صحيح، فيعلم عدم
انفعاله في حال القلة أيضا.
وما مر من القول بالتفصيل، لا يرجع إلى محصل، لأن أخبار
المسألة بين طائفتين، والأصحاب على رأيين: إما الطهارة مطلقا، أو
النجاسة مطلقا.
وتوهم انصراف أدلة الكر عما نحن فيه، لزيادة المادة عليه،

1 - لاحظ مصباح الفقيه، الطهارة: 35 / السطر 31.
2 - تقدم في الجزء الأول: 255.
43

ولاستلزامه كونه ماء ذا مادة، وهو مقابل الكر، غير سديد، لأن موضوعها
الماء البالغ كذا.
إن قلت: قضية ما سلف نجاسة القليل أيضا، فيلزم نجاسة البئر القليل.
قلت: كلا، لما مر في ماء الحمام: أن الماء القليل الذي له المادة
- أصلية كانت، أو جعلية وصناعية - غير منفعل (1)، بل ماء الحمام لكونه
بمنزلة الماء الجاري، لا يصير منفعلا، والجاري لكونه ذا مادة، لا ينفعل
بحكم العرف القطعي.
توهم دلالة موثقة عمار على اعتبار كرية البئر وجوابه
إن قيل: التفكيك بين القليل والكثير فيما نحن فيه، مفاد بعض
المآثير، ومنها موثق عمار، قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن البئر يقع فيها زبيل
عذرة يابسة أو رطبة.
فقال: " لا بأس إذا كان فيها ماء كثير " (2).
قلنا: لا وجه للتفكيك، لأن هذه الرواية قاصرة دلالة: إما لأجل أن
الظاهر منها هي الكثرة العرفية، لمكان قوله: " ماء كثير " ولا يقول:
" الماء الكثير " أو لأجل أن الكثرة الشرعية أعم من الكثير الراكد،
فيكون البئر لمكان المادة، من الكثير أيضا. وأما المآثير الأخر الواردة في

1 - تقدم في الصفحة 27.
2 - تهذيب الأحكام 1: 416 / 1312، وسائل الشيعة 1: 174 - 175، كتاب الطهارة،
أبواب الماء المطلق، الباب 14، الحديث 15.
44

البئر، فأمرها دائر بين ترجيح جانب النجاسة، أو الطهارة، أو القول
بسقوطهما للتعارض، فتصل النوبة إلى الاطلاقات التي ذهبنا إليها في ماء
الحمام (1)، وذكرنا أن المستفاد من أخبارها، أن ما هو تمام الموضوع، هو
كونه ذا مادة شبيهة بالجاري (2)، وماء البئر أولى بذلك بالقطع، فتدبر جيدا.
هذا مع إمكان المراجعة إلى ما ورد من الكتاب (3) والسنة النبوية
والعلوية (4) في عدم انفعال مطلق الماء، على إشكال مضى تفصيله (5).
كفاية صحيحة ابن بزيع على اعتصام البئر مطلقا
فتحصل: عدم الحاجة إلى ذكر الروايات الخاصة في هذه
المسألة على الطهارة، مع أن في كثير منها إشكالا سندا ودلالة، ولكن يكفي
صحيحة ابن بزيع (6)، خصوصا بناء على ما حررناه حولها في المسائل
السابقة، وبينا أن التعليل فيها، مخصوص بالصدر، وأجنبي عن الذيل (7).

1 - تقدم في الصفحة 23 - 27.
2 - تقدم في الصفحة 22 - 23.
3 - الأنفال (8): 11، الفرقان (25): 48.
4 - المعتبر 1: 40، وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1،
الحديث 9، المحاسن: 570 / 4، وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المطلق، الباب 1، الحديث 7.
5 - تقدم في الجزء الأول: 118 - 119.
6 - الإستبصار 1: 33 / 87، وسائل الشيعة 1: 172، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 14، الحديث 6.
7 - تقدم في الجزء الأول: 158 - 161.
45

والاشكال في حجيتها وحجية جميع ما يوافقها في المضمون، بدعوى
إعراض الأصحاب عنها، قد مضى أيضا، وذكرنا أن المسألة ليست من
صغريات تلك القاعدة، لعدم ثبوت الشهرة المعرضة صغرى في خصوص
هذه المسألة (1)، مع الاشكال في إمكان تحقق الصغرى لمثل هذه القاعدة
رأسا، ولعدم ثبوت الاعراض، ضرورة أن الجمع بين الأدلة، كالجمع بين
العام والخاص ليس من الاعراض عن العام، والترجيح بالمرجحات
أيضا لا يعد من ذلك، فليتأمل.
هذا، وسيجئ زيادة توضيح حول التفصيل المزبور إن شاء الله تعالى (2).
المآثير المستدل بها على النجاسة
إذا عرفت ذلك، فالذي لا بد من الغور فيه، ذكر الروايات التي
استدل بها على النجاسة، أو يمكن الاستدلال بها عليها، وهي كثيرة، نذكر
مهماتها طي طوائف، فإن لم يتم دلالتها على النجاسة فهو، وإلا فتمس
الحاجة إلى نقل المآثير المستدل بها على الطهارة، كما لا يخفى.
الطائفة الأولى: ما تدل على النجاسة نصا أو كالنص
فمنها: معتبر ابن بزيع في " الكافي " قال: كتبت إلى رجل أسأله أن

1 - تقدم في الجزء الأول: 174.
2 - يأتي في الصفحة 56 - 57.
46

يسأل أبا الحسن الرضا عليه الصلاة والسلام عن البئر تكون في المنزل
للوضوء، فتقطر فيها قطرات من بول أو دم، أو يسقط فيها شئ من عذرة
كالبعرة ونحوها، ما الذي يطهرها حتى يحل الوضوء منها للصلاة؟
فوقع (عليه السلام) في كتابي بخطه: " ينزح دلاء منها " (1).
فإنها لتقريره (عليه السلام) كالنص في أنها تنجس، ويطهرها النزح مثلا،
ولأجل اشتمالها على النزح، تندرج في بعض الطوائف الآتية.
ومنها: صحيحة ابن يقطين في " التهذيبين " عن أبي الحسن موسى بن
جعفر (عليهما السلام) قال: سألته عن البئر، تقع فيها الحمامة أو الدجاجة أو
الفأرة أو الكلب أو الهرة.
فقال: " يجزيك أن تنزح منها دلاء، فإن ذلك يطهرها إن شاء الله
تعالى " (2).
وهذا نص في النجاسة.
وقريب منها ما في ذيل خبر عمار الساباطي قال: " ينزفون يوما إلى
الليل وقد طهرت ".
ومنها: معتبر عبد الله بن يعفور وعنبسة بن مصعب، عن أبي
عبد الله (عليه السلام) قال: " إذا أتيت البئر وأنت جنب، ولم تجد دلوا، ولا شيئا تغترف

1 - الكافي 3: 5 / 1، وسائل الشيعة 1: 176، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 14، الحديث 21.
2 - تهذيب الأحكام 1: 237 / 686، وسائل الشيعة 1: 182، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المطلق، الباب 17، الحديث 2.
47

به، فتيمم بالصعيد، فإن رب الماء ورب الصعيد واحد، ولا تقع في البئر،
ولا تفسد على القوم ماءهم " (1).
وهي مثلها في الظهور في النجاسة، ضرورة أن الماء لا يفسد بدخول
الجنب مع احتمال كونه نظيفا عرفيا، فيعلم من ترك التفصيل، أن المقصود
هو الفساد الشرعي، كما هو الظاهر في غيرها كصحيحة ابن بزيع.
وأما ما اشتهر بين المتأخرين: من أن هذه الطائفة إما مجملة، لقيام
الشواهد على أن المراد من " الطهارة " و " النجاسة " والمقصود من
" الفساد " ليس الأمر الشرعي والطهارة الشرعية، فإن تمت هي فهو، وإلا
فتصير مجملة.
أو ظاهرة في الدلالة على الطهارة، لتمامية تلك الشواهد، وظهور
بعض العبائر فيها على أن البئر لا ينجس (2).
فهو غير سديد، لأن المستفاد من طريقتهم كأنهم بنوا على تأويل أخبار
تدل على النجاسة، وهذا كيف يمكن تصديقه مع ذهاب أرباب الفهم
والنظر إليها؟! ولو كان الأمر كما تخيلوه، يلزم كون اتفاقهم كاشفا عن رأي
المعصوم (عليه السلام) ويكون الحكم مما تلقاه عن الواقفين والمطلعين عليه.
فما في تقريراتهم: " من أن الأمر بنزح الدلاء من غير تعيين، شاهد

1 - تهذيب الأحكام 1: 149 / 426، وسائل الشيعة 1: 177، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المطلق، الباب 14، الحديث 22.
2 - الحدائق الناضرة 1: 358 - 360، مستند الشيعة 1: 73، مستمسك العروة الوثقى 1: 195.
48

على أن الطهارة فيها هي الطهارة العرفية " (1) في غاية الوهن، لأن ما هو
المطهر واضح، وهو مقدار عرفي كسائر العناوين المذكورة في الأخبار
الموكول فهمها إلى العرف، وما ورد في سائر الأخبار من التعيين، فهو
محمول على الاستحباب.
وما في كتبهم: " من أن كلمة " البعرة ونحوها " في الأولى، وكلمة
" لا تقع في البئر " في الثانية، تشهد على ما مر، وذلك لأن " البعرة " ليست
من النجاسات، والدخول في البئر لا يفيد تنجس الماء بالجنابة " (2) غير
قابل للشهادة، ضرورة أن قيام الدليل على عدم نجاسة البعرة، لا يضر
بظهورها الاطلاقي حسب الصناعة القطعية، وأحسنية استناده (عليه السلام) إلى
عدم تمكنه من الغسل، لا يورث الاشكال فيما هو ظاهر الرواية، ولو فرضنا
عدم تنجس البئر بها لكان يتعين عليه الغسل، لأنه واجد للماء
بالضرورة، فمنه يعلم النجاسة الشرعية.
الاشكال على معتبرة ابن يعفور وجوابه
وأما الاشكال على الأخيرة: بترك الاستفصال عن حال الجنب، مع كثرة
اتفاق كون أبدانهم طاهرة، فتكون هي ظاهرة في النظافة العرفية (3)، فهو

1 - الحبل المتين: 118 / السطر 16، جواهر الكلام 1: 200، شرح تبصرة المتعلمين، المحقق
العراقي 1: 111، الطهارة (تقريرات الإمام الخميني (قدس سره) الفاضل اللنكراني: 32 (مخطوط).
2 - شرح تبصرة المتعلمين، المحقق العراقي 1: 111، الطهارة (تقريرات الإمام
الخميني (قدس سره) الفاضل اللنكراني: 32 (مخطوط).
3 - مصباح الفقيه، الطهارة: 34 / السطر 18، الطهارة (تقريرات الإمام الخميني (قدس سره) الفاضل
اللنكراني: 32 (مخطوط).
49

واضح الدفع، لما مضى أن مع النظافة العرفية لا يفسد الماء بوقوعه
فيه، فيعلم من ذلك أن المفروض هو الابتلاء بالنجاسة الخبثية، وهو
المتعارف في تلك الأعصار والأمصار.
هذا مع أن الجهة الأخيرة، ليست علة للنهي عن الوقوع في البئر،
بل الظاهر أنه يتعين عليه التيمم، فلا يجب عليه الوقوع، ولا يجوز عليه
إفساد مائهم شرعا أو إرشادا، ولمكان ترتبه على الاغتسال نوعا، جئ به
للارشاد إلى أمر يصدقه الارتكاز.
هذا كله إذا نظرنا إليها مع قطع النظر عما ورد في سائر المآثير، ومع
عدم التوجه إلى سائر الخصوصيات المحفوفة بها.
وأما مع النظر إلى سائر الروايات الواردة في المسألة، ولا سيما
مع إباء ما ورد من التعليل في أخبار الحمام (1) وفي خصوص صحيحة ابن
بزيع الماضية عن التقييد والتخصيص، فلا محيص إلا من دعوى أنها
ليست دالة على نجاسة البئر.
هذا وظهور التطهير في الطهارة الشرعية، غير ثابت في عصر
الأئمة (عليهم السلام) فتصير الرواية مجملة، أو ظاهرة في الطهارة العرفية.
هذا مع أن قياس هذه الصحيحة الأخيرة (2) بصحيحة ابن بزيع، في
غير محله، ضرورة أن تلك تدل على أن البئر لا يفسد بشئ، ولو كان المراد

1 - وسائل الشيعة 1: 148 - 150، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7،
الحديث 1 و 4 و 7.
2 - تقدم في الصفحة 47، الهامش 2.
50

من " الفساد " فسادا عرفيا فهو كذب، وهذه تدل على أن البئر يفسد، فيعلم
منه أنه الفساد العرفي.
فبالجملة: لو أمكن الالتزام بأن من مسوغات التيمم، لزوم
المحافظة على ماء القوم من النجاسة العرفية فهو، وإلا فهي تشهد على
النجاسة، فليتأمل.
الطائفة الثانية: المآثير الواردة في فصل البئر عن البالوعة
فإنها بجملتها تدل على أن الأمر بالفصل، كان بالنظر إلى حفظ البئر
عن القذارة.
ولكن الكلام في أن النظر إلى انحفاظها عن القذارة العرفية، أو
الشرعية، ولو لم يكن فيها بعض المآثير كان الأقرب هو الأول، ولكن
لتلك الروايات ربما يتوهم تعين الثاني.
فمنها: ما في الكتب المعتبرة، عن الفضلاء: زرارة، ومحمد بن مسلم،
وأبي بصير - وهي معتبرة - قالوا: قلنا له: بئر يتوضأ منها، يجري البول قريبا
منها، أينجسها؟
قال فقال: " إن كانت البئر في أعلى الوادي، والوادي يجري فيه البول
من تحتها، وكان بينهما قدر ثلاثة أذرع أو أربعة أذرع، لم ينجس ذلك شئ،
وإن كان أقل من ذلك ينجسها... " (1).

1 - الكافي 3: 7 / 2، وسائل الشيعة 1: 197، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 24، الحديث 1.
51

فإنها ظاهرة بل صريحة، في تنجس البئر بالبول الوارد عليها،
والحدود المأخوذة من الأمارات الشرعية عند الشك في الملاقاة.
وما قيل في المقام حول دلالتها: من أن التقارب من المنجسات (1)،
لا يخلو عن التأسف جدا.
وخلو غير " الكافي " من قوله: " وإن كان أقل من ذلك ينجسها " (2)
لا يضر.
اللهم إلا أن يقال: بأن في بقية هذه الرواية، شهادة على توجه
المعصوم (عليه السلام) إلى سد باب الاستدلال بها على النجاسة الشرعية، لأنه
قال بعدما ذكرنا صدره: " وإن كانت البئر في أسفل الوادي، ويمر الماء عليها،
وكان بين البئر وبينه تسعة أذرع، لم ينجسها، وما كان أقل من ذلك فلا يتوضأ
منه... ".
فإن النهي عن الوضوء، لا يستلزم النجاسة الشرعية، كما لا يخفى.
هذا مع أن ظهور النجاسة في الشرعية بدون القرينة، ممنوعة في
عصر المآثير، خصوصا في رواية الصادقين (عليهما السلام).
ولا يخفى: أن الرواية مضمرة، إلا أن الاضمار من هؤلاء لا يورث وهنا.
روايات الفصل إرشاد إلى أمر تكويني لا تشريعي
والذي يظهر لي: أن هذه المآثير بأجمعها، ليست أخبار الفقه

1 - التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 301.
2 - تهذيب الأحكام 1: 410 / 1293، الإستبصار 1: 46 / 128.
52

وروايات التشريع الاسلامي، بل هي أخبار ترشد إلى مصا لح الأمة،
ولأجل أنهم (عليهم السلام) ملجأ الأنام وملاذ المسلمين والإسلام، يرجع إليهم كل أحد
فيما يحتاج، من السياسة، مدنية كانت أو منزلية، إلى المقاصد الأخر
العالية، فلا ينبغي الخلط، ولا يصح إدراجها في كتاب " الوسائل " فلا تغفل.
ومن هذا القبيل، المآثير الواردة في مسألتنا هذه، فإن من تأمل في
صدرها وذيلها، وجميع الخصوصيات الواردة فيها - مع تخالفها في
الحدود، وتشتت مضامينها - يجد أن المراجعة إليهم فيها، ليس لأجل
الاطلاع على مسألة شرعية، ولو كانت المراجعة إليهم لذلك - لما عن
العامة القول بنجاستها - ولكن جوابهم (عليهم السلام) عن هذه الأسئلة المختلفة
بألسنة مختلفة، ليس جواب المفتي والفقيه، بل الظاهر أنهم (عليهم السلام) بصدد
ذكر مصالح العباد وتحفظهم عن الوقوع في المهالك المحتملة، ولقد
تقرر في محله، أن الماء الراكد مجمع المفاسد، وكان النظر في النزح
والاخراج إلى تلك الجهة.
ومما يشهد على ذلك، الاكتفاء في بعض الأخبار عن النزح بتحرك
الماء بدخول الدلو فيه، ففي " الوسائل " عن جابر بن يزيد الجعفي، قال:
سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن السام أبرص يقع في البئر.
فقال: " ليس بشئ، حرك الماء بالدلو في البئر " (1) ومثله في

1 - تهذيب الأحكام 1: 245 / 708، وسائل الشيعة 1: 189، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المطلق، الباب 19، الحديث 8.
53

" الكافي " (1).
فعلى ما عرفت منا، تقدر على حل معضلة البئر ومشكلة المسألة.
الطائفة الثالثة: المآثير الآمرة بنزح البئر كله
فإنه لولا النجاسة لما كان وجه لذلك.
فمنها: معتبر عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " إن سقط في
البئر دابة صغيرة، أو نزل فيها جنب، نزح منها سبع دلاء، فإن مات فيها ثور، أو
صب فيها خمر، نزح الماء كله " (2).
ومثلها موثقة معاوية بن عمار (3).
وهكذا رواية أبي خديجة، إلا أن المفروض فيها أنه " إذا انتفخت فيه
أو نتنت نزح الماء كله " (4).
وبمثابتها جميع المآثير المشتملة على الأمر بالنزح بمقدار قلما
يتفق احتواء البئر عليه كالسبعين دلوا (5)، أو المائة دلو، كما في بعض

1 - الكافي 3: 5 / 5.
2 - الإستبصار 1: 34 / 93، وسائل الشيعة 1: 179، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 15، الحديث 1.
3 - تهذيب الأحكام 1: 241 / 696، وسائل الشيعة 1: 179 - 180، كتاب الطهارة،
أبواب الماء المطلق، الباب 15، الحديث 4.
4 - تهذيب الأحكام 1: 239 / 692، وسائل الشيعة 1: 188، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المطلق، الباب 19، الحديث 4.
5 - تهذيب الأحكام 1: 234 / 678، وسائل الشيعة 1: 194، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المطلق، الباب 21، الحديث 2.
54

الأخبار (1)، فإن المستظهر من الكل نجاسة البئر، وإلا فلا بد من كفاية
بعضه، أو كفاية ذهاب الريح.
الطائفة الرابعة: الروايات الكثيرة الآمرة بالنزح
الظاهرة في أن تلك الأوامر لتطهير الماء المتنجس، والآبية عن
قبول حملها على الارشاد إلى النظافة العرفية، أو على الوجوب
التعبدي النفسي، أو الشرطي لجواز الاستعمال الخاص، كالوضوء
والغسل والشرب، أو على الاستحباب، لما فيها من الشواهد المختلفة:
فمنها: ما مر في الطائفة الأولى، من أن الأمر بالنزح لحصول
الطهارة (2)، ومثلها ما ورد في رواية عمار الساباطي من قوله (عليه السلام):
" فينزفون يوما إلى الليل وقد طهرت " (3).
ومنها: ظهور الطائفة الثانية في نجاستها (4).
ومنها: ارتكاز المتشرعة في غير المقام، فلقد ذهب الأصحاب (رحمهم الله)
إلى نجاسة كثير من الأشياء، للنهي عن الآثار المخصوصة بالطاهر،

1 - تهذيب الأحكام 1: 231 / 667، وسائل الشيعة 1: 196، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المطلق، الباب 22، الحديث 7.
2 - تقدم في الصفحة 47.
3 - تهذيب الأحكام 1: 284 / 832، وسائل الشيعة 1: 196، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المطلق، الباب 23، الحديث 1.
4 - تقدم في الصفحة 51.
55

كالشرب والوضوء والاغتسال، من غير احتياجهم هناك إلى تصريح
بالنجاسة بالضرورة.
ومنها: ما اشتملت على ترخيص الوضوء بعد النزح، كما في رواية
العمركي (1) وغيرها (2).
إبطال التمسك بالطائفة الثالثة والرابعة على النجاسة
أقول: لو سلمنا دلالة هاتين الطائفتين على النجاسة، فهي دلالة
اقتضائية، أي ليست مستندة إلى المدلول المطابقي، والدلالة
الاقتضائية ترفع بالقرائن المضادة، أو تصير المآثير من هذه الجهة غير
قابلة للاستظهار.
وأنت خبير: بأن الروايات العامة والخاصة على الطهارة صريحة،
فلا وجه للاستدلال بمثلها كما لا يخفى.
بل قد عرفت عدم الحاجة إلى الأدلة الخاصة، لإباء الأدلة
العامة عن تخصيصها بماء البئر (3)، ضرورة أن الماء إذا كان ذا مادة
لا ينجس، ولا يتمكن العرف من قبول التعبد الشرعي في هذه الأخبار، حتى
يجمع بينها وبين عموم التعليل بالتخصيص، فلا تغفل.

1 - تهذيب الأحكام 1: 409 / 1288، وسائل الشيعة 1: 193، كتاب الطهارة، أبواب
الماء المطلق، الباب 21، الحديث 1.
2 - مسائل علي بن جعفر: 198 / 422، وسائل الشيعة 1: 190، كتاب الطهارة، أبواب
الماء المطلق، الباب 19، الحديث 14.
3 - تقدم في الصفحة 45 - 46.
56

إن قلت: ليس هذا إلا الجمع المعروف بين أهله، وهو الجمع
العقلائي المدعى بين النص والظاهر، أو الظاهر والأظهر، وفي كونه هنا
عقلائيا إشكال، وذلك لأن كثيرا من موارد أخبار النزح، شاملة لصورة
التغير، التي لا شبهة في لزوم النزح لحصول الطهارة، وفي بعض
الموارد فصل بين صورة التغير وغيرها، بحيث يكون مساق الصورتين
واحدا من حيث الحكم، فهل تجد من نفسك الحمل على الاستحباب، مع
عدم الاستفصال من حيث التغير وعدمه، وفي مورد التفصيل حمل أحد
الحكمين على اللزوم الشرطي، لحصول الطهارة المعهودة بين
المتشرعة، دون الآخر، مع وحدة السياق؟!
قلت: نعم، هكذا أفيد، ولكن من العجيب غفلته عن عدم اشتراط
النزح لحصول الطهارة حتى في صورة التغير!!
نعم، المستعجل لتحصيل الطهارة، لا بد له من النزح، وإلا إذا زال
تغيره بنفسه مع اتصاله بالمادة، يكفي في طهارته، فليتدبر.
عدم استحباب نزح البئر حتى في صورة التغير
ومما ذكرناه إلى هنا يظهر، عدم تمامية استحباب النزح حتى في
صورة التغير، بل هو مأمور به بعنوان المقدمة لأمر آخر هو المطلوب، ولو
حصل زوال التغير بنفسه فلا ينزح شئ، ولا يستحب، وكذلك إذا لاقاها
النجاسات، ضرورة أن قضية الجمع بين المآثير المختلفة في الحكم
على موضوع واحد - بشهادة ما ورد من كفاية التحريك الحاصل من وقوع
57

الدلو (1) - هو أن المقصود الأصلي عدم استعمال الماء بعد وقوع النجاسة
فيه إلا بذلك، وإلا إذا مضت مدة وزمن طويل، وورد على ماء البئر المياه
الطيبة من الخارج، فلا ينزح شئ.
وهذا عندي قطعي، ولا تعبد في هذه المسألة، ولا يناسب المقام إعمال
التعبدات والالزامات الشرعية، فلا تخلط.
تذييل: في أن تعارض الطائفتين تعارض الحجة مع اللا حجة
لو سلمنا دلالة طائفة من الأخبار على النجاسة، فلا شبهة في
دلالة كثير منها على الطهارة، وقد عدها " الوسائل " في بابها قائلا: " باب
عدم نجاسة البئر بمجرد الملاقاة من غير تغير " وقد أنهى رواياتها إلى
الاثنين والعشرين رواية (2)، ولا قصور في بعضها من جهة الدلالة والسند
على الحكم المزبور.
وعلى هذا، يبقى الكلام في أن المسألة من باب تعارض الحجة مع
اللا حجة، لاعراض المشهور عن الثانية، أو من باب تعارض الحجتين.
والذي يقوى في بادئ النظر هو الأول، لصراحة أخبار الطهارة،
وكثرتها، وعدم صراحة أخبار النجاسة، مع كونها بالنسبة إليها في غاية
القلة.

1 - تقدم في الصفحة 53.
2 - وسائل الشيعة 1: 170 - 177، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 14،
الحديث 1 - 22.
58

وتوهم دلالة أخبار النزح عندهم على النجاسة (1)، في غاية
الوهن، لأنهم كيف ذهلوا عن الجمع بحملها على الاستحباب، مع توغلهم في
الجموع العجيبة بين الأخبار؟! فمن راجع كتب القدماء - ولا سيما
" الإستبصار " - يطمئن بذلك قطعا، فدعوى أكثرية الطائفة الأولى على
الثانية (2)، غير مسموعة.
واحتمال الجموع الأخر غير صحيح، لأن أحسن الجموع العقلائية
ما صنعه المتأخرون، وليس هذا من الجمع المغفول عنه عادة، حتى يقال:
بغفلة هؤلاء الأعلام والأعاظم عنه في العصور الكثيرة، مع نهاية دقتهم في
هذا الأمر، ومع تمام توجههم إلى أن هذا أمر مشكل صعب، يورث الالتزام
بالمشقة المخالفة لأصل الدين.
فما أفاده " كشف الغطاء ": " أن المسألة واضحة، ولا تحتاج إلى
الرواية بعد التوجه إلى أن البئر لا تبقى على الطهارة " (3) في غير محله،
لأن هذا أمر في زمن السابقين كان أوضح، ومع ذلك التزموا بالنجاسة،
فيعلم من ذلك قوة مدركهم، كما أن ضعف الطائفة الأولى في الدلالة يقوي
مدركهم.
فلا يمكن الالتزام على الوجه الصحيح، بأن الأصحاب - رضي الله
عنهم - ما أعرضوا عنها، وقد عملوا بها جمعا أو ترجيحا، لعدم الوجه له،

1 - الطهارة، الشيخ الأنصاري: 26 / السطر 5.
2 - مستمسك العروة الوثقى 1: 194.
3 - كشف الغطاء: 193 / السطر 26.
59

فعليه يلزم سقوط تلك الأدلة عن الحجية، ولا أقل من الشك المستند،
أي الشك الذي له المنشأ العقلائي.
ولعمري، إن طهارة البئر بحسب الأخبار، غير قابلة للانكار، وغير
مخفية على أحد، فكيف التزموا بالنجاسة، فهل هذا إلا لأمر آخر وصل
إليهم، من البناء العملي للسالفين، المنتهي إلى رأي المعصوم صلوات
الله تعالى عليه، وكان لا يقاومه الرواية والروايات، ولو كانت صريحة
كما ترى؟!
فما ذكرناه في مطاوي الكلمات سابقا - مماشاة مع الأعلام - غير راجع
إلى التحصيل، حسب ما يؤدي إليه النظر البدوي.
وجه لالتزام الأصحاب قديما بالنجاسة واعراضهم عن أخبار الطهارة
نعم، والذي يخطر بالبال، ولعل به ينحل الاشكال، أن يقال: إن فتوى
الجمهور - كما عرفت - على النجاسة، وهذا هو الرأي المعروف بينهم من
العصور السابقة إلى عصر الأئمة المتأخرين، - سلام الله تعالى
عليهم -، وقد نفذ في المسلمين وأعلامهم هذا الرأي السخيف، وكانت فتوى
المعصوم (عليه السلام) على خلافه، ولكن عملهم وعمل أتباعهم على التحرز عند
التنجس تقية، وهذا العمل الخارجي من الأئمة (عليهم السلام) وأتباعهم، قد حكي
للمتأخرين، من غير التوجه إلى جهة ذلك وسره، فاشتهر بين العصور
المتأخرة هذا، حتى ظنوا ذلك، واعتقدوا بها، وعند ذلك لم يمكن لهم
التجاوز عنه بالرواية الظاهرة في الطهارة، لكونها خلاف عملهم
60

المحكي لهم، ولا معنى للجمع بين العمل والرواية - بحمل العمل على
التقية - لعدم تحقق التعارض الذي هو موضوع في الأدلة العلاجية.
فبالجملة: مع الاطمئنان بخطأ المعرضين، لا يمكن ترك العمل
بالطائفة الدالة على الطهارة، بل مع الاحتمال العقلائي لا يصح ذلك، فما
سلكه الفضلاء في هذه المسألة - من زمن العلامة وشيخه ابن الجهم
إلى زماننا هذا - لا يوافقه النظر الدقيق.
والذي هو التحقيق الحقيق بالتصديق: تمامية إعراضهم عنها،
والفرار عن ذلك:
إما بإنكار كاسرية الاعراض، وإن قلنا: بجابريته.
أو إنكار تحقق إعراض المشهور مطلقا، لعدم إمكان نيل ذلك على ما
قررناه (1).
أو إنكار تحققه في خصوص هذه المسألة، لذهاب بعض إلى
الطهارة (2).
أو إثبات خطأ المعرضين.
لا سبيل إلا إلى الأخير. هذا كله ما هو الظاهر في المسألة.
وجوه الجمع العرفي بين أخبار النجاسة والطهارة
ولو فرضنا التعارض بين الطائفتين اللتين فرغنا عن اعتبارهما فرضا،

1 - تحريرات في الأصول 6: 402.
2 - الطهارة (تقريرات الإمام الخميني (قدس سره) الفاضل اللنكراني: 34 (مخطوط).
61

فالجمع بينهما ممكن عرفا، وذلك بوجوه:
فتارة: بدعوى قصور الطائفة الأولى والثانية دلالة، فيتعين حمل
أخبار سائر الطوائف على الندب، فتصير النتيجة الطهارة.
وأخرى: بدعوى قصور ما يدل بالخصوص على الطهارة، لوجوه
مذكورة، فيحمل غيرها على ترخيص الاستعمال بعد النزح (1).
وثالثة: بدعوى المراتب في الطهارة والنجاسة، فيؤخذ بالكل.
وإلى ذلك يرجع كلام الشيخ في بعض كتبه: " إن ما يدل على عدم
نجاسة البئر، يدل على أنها لا تنجس بنجاسة لا يمكن رفعها ولو بالنزح " (2).
مع أن مفهوم صحيحة ابن بزيع (3) وغيرها (4) - مما يدل على حصر
تنجس البئر بالتغير - قابل للتقيد بما يدل على نجاسته بالملاقاة، كما قيد
مفهوم النبوي (5) بمفهوم أخبار الكر (6)، فتصير النتيجة هي النجاسة.
ولعمري، إن هذا الجمع أقرب إلى أفق التحقيق والصناعة، ولكنه
ليس جمعا عرفيا، فتصير المسألة مندرجة تحت عمومات الأخبار العلاجية.

1 - لاحظ المهذب البارع 1: 85.
2 - الإستبصار 1: 33 ذيل الحديث 8.
3 - الإستبصار 1: 33 / 87، وسائل الشيعة 1: 172، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 14، الحديث 6.
4 - الكافي 3: 8 / 4، وسائل الشيعة 1: 171، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 14، الحديث 4.
5 - المعتبر 1: 40، وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1،
الحديث 9.
6 - وسائل الشيعة 1: 158 - 164، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9.
62

ورابعة: بما يأتي من ذي قبل، إن شاء الله تعالى (1).
وعند ذلك يتعين القول بالطهارة، لموافقتها مع الكتاب، ومخالفتها
مع العامة، ولو استشكل في الأول يكفينا الثاني.
وهذا من غير فرق بين القول: بأن الموافقة مع الكتاب والمخالفة
مع العامة، من المرجحات (2)، أو قلنا: بأنهما أيضا من المميزات (3)، كما هو
الأظهر عندنا.
ومع فرض التعارض والتساقط، يتعين الطهارة أيضا، لما مر في أول
البحث (4)، فتدبر جيدا.
تنبيه: حول التفصيل بين قلة ماء البئر وكثرته
من هنا يعلم وجه التفصيل بين القلة والكثرة (5)، فإن هاتين
الطائفتين إذا تساقطتا، فلا يبقى في خصوص ماء البئر نص ولا تعليل، وحيث
أن في أخبار الحمام إشكالا - من جهة أن استفادة العلية قابلة للخدشة
كما مضى (6) - يتعين المراجعة إلى أخبار الكر، فما في كتب الأصحاب من

1 - يأتي في الصفحة 67 - 68.
2 - فرائد الأصول 2: 804 و 818.
- كفاية الأصول: 505 - 506.
4 - تقدم في الصفحة 44 - 45.
5 - لاحظ غاية المراد 1: 72.
6 - تقدم في الصفحة 26 - 27.
63

التوهين الصريح لصاحب هذا الرأي (1)، في محله إذا أراد التمسك
بأخبار البئر، بالجمع بينها بذلك.
وأما إذا كان نظره إلى ما ذكر فلا يستبعد، ولكنه غير صحيح، لما
عرفت.
وأما إذا كان نظرهم إلى أن قضية الجمع بين أخبار البئر، هو
التفصيل، بحمل ما يدل على النجاسة على القليل، وما يدل على الطهارة
على الكثير، بشهادة بعض المآثير التي أشرنا إليها، ولاقتضاء أخبار الكر
ذلك، فهو غير سديد، ضرورة أن الشهادة بعدما مضى ساقطة، ومفروضية
النزح في الآبار، دليل كثرة مياهها، فلا معنى لحمل تلك الطائفة الكثيرة
على القلة.
بل لا يعقل، لأن الأمر بالنزح سبعين دلوا (2)، أو أربعين دلوا (3)، أو ثلاثين
دلوا (4)، لا يساعد على كونها قليلة، بعد كون " الدلو " ما هو المكيال
المعروف، ولو كان الأمر بالنزح لتطهير تلك المياه به، لكان ذلك غير
مختص بالبئر، فيعلم من ذلك أن المطهر ليس هو النزح، بل هو مقدمة

1 - مستمسك العروة الوثقى 1: 196، التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 284، مهذب
الأحكام 1: 224.
2 - تهذيب الأحكام 1: 234 / 678، وسائل الشيعة 1: 194، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المطلق، الباب 21، الحديث 2.
3 - تهذيب الأحكام 1: 244 / 702، وسائل الشيعة 1: 191، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المطلق، الباب 20، الحديث 1.
4 - تهذيب الأحكام 1: 413 / 1300، وسائل الشيعة 1: 181، كتاب الطهارة، أبواب
الماء المطلق، الباب 16، الحديث 3.
64

لتطهير الآبار بالمادة التي توجد فيها تدريجا، وتوجب زوال تغيرها، أو
حصول طهارتها بالماء الخارج.
هذا مع أن صحيحة ابن بزيع، لا تساعد ذلك الجمع، من غير فرق بين
كون القليل علة للحكم في الصدر، كما هو المختار (1)، أو علة لما في
الذيل، كما عليه الأكثر.
ومما يدل على فساده، الأوامر الصادرة بالنزح في غير النجاسات،
كالعقرب (2) والبعرة (3) والحية (4) وغير ذلك (5).
التمسك برواية الثوري على التفصيل السابق وإبطاله
إن قلت: صريح رواية الحسن بن صالح الثوري، عن أبي
عبد الله (عليه السلام) التي ذكرناها في أخبار الكر، أنه (عليه السلام) - على ما فيها - قال: " إذا
كان الماء في الركي كرا لم ينجسه شئ ".

1 - تقدم في الجزء الأول: 159 - 160.
2 - تهذيب الأحكام 1: 238 / 690، وسائل الشيعة 1: 188، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المطلق، الباب 19، الحديث 5.
3 - الكافي 3: 5 / 1، وسائل الشيعة 1: 176، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 14، الحديث 21.
4 - الفقه المنسوب للإمام الرضا (عليه السلام): 94، مستدرك الوسائل 1: 205، كتاب الطهارة،
أبواب الماء المطلق، الباب 18، الحديث 2.
5 - الكافي 3: 6 / 9، وسائل الشيعة 1: 189، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 19، الحديث 9.
65

قلت: وكم الكر؟... (1).
وتوهم إعراض القدماء والمتأخرين عنها، غير تام، لذهاب المشهور
إلى الافتاء بها في اعتبار حد الكر، الصريحة في الأبعاد الثلاثة، والالتزام
بالتفكيك بين الصدر والذيل، غير مساعد مع بناء العقلاء، فكون الحسن
بتريا زيديا متروك الحديث (2)، لا يضر به هنا.
قلت: أولا: يشترط في الانجبار الشهرة العملية، ومجرد الوفاق في
المضمون غير كاف، وتلك الشهرة غير ثابتة، بعد وجود الروايات الأخر
موافقة لفتوى المشهور في تلك المسألة.
وثانيا: كون " الركي " و " الركية " مراد في " البئر " غير واضح، وبعد
المراجعة إلى قلة استعمالهما، وكثرة استعمال " البئر " مع التوجه إلى
أن الحفرة لحفظ الماء في ذلك الزمن، كانت مورد الحاجة اتفاقا - لعدم
وجود الآبار ذات المادة في جميع المحال - يحصل الاحتمال العقلائي دفعا
للترادف البعيد في نفسه.
على أن " الركي " هو البئر بدون المادة، ويشهد لذلك المراجعة
إلى المشتقات الأخر من هذه المادة، ففي " أقرب الموارد " قال: " ركا
الأرض حفرها، والمركو الحوض الكبير " (3) انتهى.

1 - الكافي 3: 2 / 4، وسائل الشيعة 1: 160، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 9، الحديث 8.
2 - تهذيب الأحكام 1: 408، ذيل الحديث 1282.
3 - أقرب الموارد 1: 430.
66

فما في كتب اللغة: من تفسير " الركية " بالبئر (1)، لا يستلزم كونها
البئر المقصودة في المآثير، واستعمالها في رواية الحسين بن أبي العلاء
في أبواب التيمم (2)، لا يضر بالاحتمال المزبور، كما لا يخفى.
بحث وتحقيق: في أوامر نزح البئر
نسب إلى الشيخ، القول بالطهارة ووجوب النزح تعبدا (3)،
والمحكي عن " المنتهى " (4) و " الموجز " وغيرهما (5) اتباعه.
والمشهور هو الاستحباب (6)، وظاهرهم الاستحباب النفسي.
والذي هو الأقرب: أن تلك الأوامر إرشادية إلى أمر يحصل أحيانا
بطول المدة، وورود الماء على البئر، وقد مضى منا الايماء إليه (7).
وضعف القول الأول لا يحتاج إلى مزيد تأمل، لما ورد في المآثير
الكثيرة ما يكون قرينة قطعية عليه: من الاكتفاء بالحركة الحاصلة من الدلو (8).

1 - الصحاح 6: 2361، القاموس المحيط 4: 338، مجمع البحرين 1: 195.
2 - الكافي 3: 64 / 7، وسائل الشيعة 3: 345، كتاب الطهارة، أبواب التيمم، الباب 3،
الحديث 4.
3 - المهذب البارع 1: 85، تهذيب الأحكام 1: 232.
4 - مفتاح الكرامة 1: 79 / السطر 25، منتهى المطلب 1: 11 / السطر 2.
5 - مستمسك العروة الوثقى 1: 195.
6 - الحدائق الناضرة 1: 350، جواهر الكلام 1: 203، مهذب الأحكام 1: 224.
7 - تقدم في الصفحة 58.
8 - تهذيب الأحكام 1: 245 / 708، وسائل الشيعة 1: 189، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المطلق، الباب 19، الحديث 8.
67

ومن الاختلاف الشديد في تلك المآثير بأنفسها.
ومن أنه أمر بعيد قطعا، لا يمكن الالتزام به جدا.
ومن ذهاب الكل إلى خلافه.
ومن التعابير المشتملة على الخطاب المخصوص بالمكلفين،
التي هي ظاهرة في عدم الوجوب، ولا يناسب ذلك مع الوجوب الشرعي،
كقولهم (عليهم السلام): " يكفيك خمس دلاء " (1).
أو " يجزيك أن تنزح منها دلاء " (2).
أو " يكفيك " كذا وكذا، على ما في المآثير المختلفة.
بل قضية رواية أبي بصير حيث قال: " فإن سقط فيها كلب فقدرت أن
تنزح ماءها فافعل " (3) عدم النجاسة، وعدم الوجوب، فليتدبر.
وأما ضعف الاستحباب، فهو - مضافا إلى بعض الاستبعادات المشار
إليها - يخص بأمر آخر، وهو سقوط هذه الطائفة بالمعارضة.
اللهم إلا أن يقال: بأحد الأمرين، عدم سقوطها إلا من جهة دلالتها على
النجاسة، أو عدم كونها من الأخبار المعارضة لأخبار الطهارة، والأول غير

1 - تهذيب الأحكام 1: 237 / 684، وسائل الشيعة 1: 184، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المطلق، الباب 17، الحديث 7.
2 - تهذيب الأحكام 1: 237 / 686، وسائل الشيعة 1: 182 - 183، كتاب الطهارة،
أبواب الماء المطلق، الباب 17، الحديث 2.
3 - الكافي 3: 6 / 6، وسائل الشيعة 1: 185، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 17، الحديث 11.
68

صحيح، والالتزام بالثاني قريب، لولا الذي مر منا تفصيله (1).
وجه التقريب: أن النزح يلازم سراية النجاسة إلى النازحين
وأطراف البئر، وهذا يستلزم السؤال منهم (عليهم السلام) فيعلم من ذلك عدم
الملازمة بينه وبين النجاسة، وهذا التقريب مما يشهد في نفسه على
طهارة مياه الآبار، فلاحظ وتدبر جيدا.
عدم إرادة التحديد الشرعي من الدلاء المذكورة في الأخبار
ثم إن الظاهر أن المقادير المعينة في المآثير - من المائة،
والسبعين... إلى السبع، ودلو واحد (2) - ليست على التحديد الشرعي، بل
قضية اختلافها من تلك الجهة، أن الأمر فيها بني على النظر إلى الكثرة
المناسبة للنجس الواقع في البئر، ولذلك ورد بنحو كلي للانسان الذي
هو الأكبر سبعون، وللعصفور واحدة (3)، ولما بينهما ما يناسبه.
وأنت خبير: بأن كلمة " المائة " و " السبعين " و " الأربعين " و " السبع "
كلها كلمات جئ بها في شتى الأخبار، كناية عن الكثرة العرفية، من غير
النظر إلى الحد الخاص.
ويؤيد ذلك، الأمر بنزح دلاء غير معينة (4)، وحملها على جمع القلة

1 - تقدم في الصفحة 60 - 61.
2 - وسائل الشيعة 1: 179 - 196، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 15 - 23.
3 - تهذيب الأحكام 1: 234 / 678، وسائل الشيعة 1: 194، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المطلق، الباب 21، الحديث 2.
4 - الكافي 3: 5 / 1، وسائل الشيعة 1: 176، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 14، الحديث 21.
69

- وهي العشرة (1) - لا يورث قصورها عن الشهادة على ما هو المطلوب.
ويدل عليه، اختلاف الأمر بالنزح في الموضوع الواحد (2)، فلا تغفل
جدا.
ولعمري، إن اللازم على علماء الاسلام وفقهاء المذهب، حذف هذه
المباحث عن الكتب الفقهية، وإيكالها إلى بعض الكتب الأخر، كيف؟!
والديانة العظمى أعظم شأنا من ذلك، والواجب علي تهذيب الفقه، ولكن
المجال غير واسع.
تنبيه: في استحباب كون ماء الوضوء أو الشرب طيبا
بعدما أحطت خبرا بما في روايات البئر، فاعلم: أن المتفاهم من بعضها
استحباب كون ماء الوضوء والشرب طيبا غير متنفرة عنه الطباع، ففي
صحيحة الفضلاء - زرارة، ومحمد بن مسلم، ويزيد بن معاوية - عن أبي
عبد الله (عليه السلام) وأبي جعفر (عليه السلام): في البئر يقع فيها الدابة والفأرة والكلب
والخنزير والطير فيموت.
قال: " يخرج، ثم ينزح من البئر دلاء، ثم اشرب وتوضأ " (3).

1 - تهذيب الأحكام 1: 245، ذيل الحديث 705.
2 - وسائل الشيعة 1: 179، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 15، الحديث 2 و 3.
3 - تهذيب الأحكام 1: 236 / 682، وسائل الشيعة 1: 183 - 184، كتاب الطهارة،
أبواب الماء المطلق، الباب 17، الحديث 5.
70

ومثلها غيرها (1).
وتوهم حرمة الاستعمال الخاص، كالشرب والتوضي والاغتسال،
لما في بعض الأخبار، ممنوع بالنصوص المرخصة.
ودعوى الجمع بينهما، بحمل الثانية على ما بعد النزح، غير قابلة
للاصغاء إليها.
مسألة: في كيفية تطهير ماء البئر عند تغيره
لو تغير ماء البئر بالنجس الواقع فيه، فهل يطهر بالنزح المؤدي
إلى زواله (2)؟
أو لا بد من نزح مائه كله (3)؟
أو لا يشترط النزح، بل يكفي زواله من قبل نفسه مع الاتصال
بالمادة (4)؟
أو يكفي ذاك، ويعتبر الامتزاج (5)؟
وجوه وأقوال. ومن الممكن دعوى أن النزح المخصوص غير كاف،
بل لا بد من نزح مائه كله، لما ورد في كثير من الروايات التي ذكرناها في

1 - تهذيب الأحكام 1: 237 / 685، وسائل الشيعة 1: 184، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المطلق، الباب 17، الحديث 6.
2 - مستند الشيعة 1: 84.
3 - المبسوط 1: 11.
4 - مدارك الأحكام 1: 102، العروة الوثقى 1: 42، فصل في ماء الحمام.
5 - العروة الوثقى 1: 42، فصل في ماء الحمام، الهامش 1.
71

الطائفة الثالثة (1).
ولكنها لا تنهض لذلك، لأنها إذا كانت دلالتها تامة على نجاسة البئر،
وأن المفروض مثلا فيها تغير الماء، ونجاسة الباقي بالملاقاة مع الماء
المتغير، فهو، وإلا فلا يستفاد منها إلا مثل ما يستفاد من غيرها، ولا سيما مع
ورود النصوص الصحيحة على عدم لزوم نزح كله، بل فيها: " ينزح حتى
يذهب النتن " (2) و " يؤخذ منه حتى يذهب الريح " كما في صحيحة الشحام،
عن أبي عبد الله (عليه السلام) (3).
وأما لزوم النزح وعدمه، فقد مضى تفصيله في المباحث السابقة،
وأنكرنا رأسا بقاء نجاسة الماء المتغير بعد زوال تغيره ولو لم يكن اتصال
بالمادة، فضلا عن اعتبار الامتزاج، وذكرنا هناك: أن التعليل في صحيحة ابن
بزيع راجع إلى الصدر، ولا يحتاج إليه في الذيل، بل لا معنى لرجوعه
إليه، فلا تخلط (4).

1 - تقدم في الصفحة 54.
2 - تهذيب الأحكام 1: 236 / 681، وسائل الشيعة 1: 183، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المطلق، الباب 17، الحديث 4.
3 - تهذيب الأحكام 1: 237 / 684، وسائل الشيعة 1: 184، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المطلق، الباب 17، الحديث 7.
4 - تقدم في الصفحة 45 وما بعدها.
72

دلالة أخبار النزح على كفاية زوال التغير
وأما دلالة أخبار النزح على كفاية زوال التغير، لعدم تذيلها بذيل
التعليل، ولظهورها في أن المدار والغاية هو زوال تلك الحالة، فهي مما
لا مجال للخدشة فيها.
ودعوى: أن موردها البئر، والنزح يستلزم الامتزاج بالمادة، أو أن
الاتصال مفروغ عنه، غير مانعة عن الرجوع إلى ما هو الظاهر في الأخبار،
بعد مساعدة الاعتبار، ضرورة أن النجاسة معلول التغير، ولا معنى لبقائها
بدون علتها.
مع أنك أحطت خبرا: بأن قوله (عليه السلام) في صحيحة ابن بزيع: " حتى
يذهب ريحه، ويطيب طعمه " ناظر إلى أن تمام الطهارة هو حصول الطيب،
وليس وراء الطيب العرفي طهارة أخرى شرعية، فنحتاج في حصولها إلى
الاتصال أو الامتزاج، بل الطهارة المقصودة الممضاة في الشريعة هي هذه،
فلا ينبغي الاشكال بعد ذلك الوضوح في هذا المقال.
رجوع التعليل في صحيحة ابن بزيع إلى الصدر
ومن العجيب، ما التزموا به في صحيحة ابن بزيع، من أن التعليل
في الذيل، راجع إلى جملة محذوفة، وهي هذه: " فإذا ذهبت ريحه، وطاب
طعمه يطهر، لأنه له مادة "!! وهل هذا إلا الجزاف، وهل هي إلا الغفلة عن
المرام؟! وليس سبب هذا الالتزام، إلا أنهم رأوا أنه لا يناسب قوله: " حتى
73

يطيب طعمه " فإذن لا بد من ذلك.
ولكنك إذا راجعت ما شرحناه حولها سابقا (1)، وتأملت في الصحيحة
صدرها وذيلها، تجد أن رجوع التعليل إلى حلية الصدر - التي هي محط
نظر المتكلم في الرواية قطعا - من الضروريات الأولية، فلا تغتر بما في
الكتب المطبوعة.
مسألة: في الشك في صدق " البئر "
لو شك في صدق " البئر " فعلى القول بسقوط الأحكام الخاصة، فلا
ثمرة عملية، لأن اعتصامه من أحكام كونه ذا مادة، سواء كان بئرا، أو لم
يكن، وسقوط تلك الأحكام، لا يكون لأجل العمل بصحيحة ابن بزيع، كما
توهم (2).
مع أن المستفاد من أخبار الحمام (3) أيضا، هو علية المادة
للاعتصام، فلا حاجة إليها كما لا يخفى.
وعلى القول بثوبتها من وجوب النزح أو استحبابه، فإن كان منشأ
الشبهة أمرا خارجيا، فلا مانع من التمسك بالاستصحاب الموضوعي إذا
كانت لها الحالة السابقة.

1 - تقدم في الجزء الأول: 159 - 160.
2 - التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 126.
3 - تهذيب الأحكام 1: 378 / 1168، وسائل الشيعة 1: 149، كتاب الطهارة، أبواب
الماء المطلق، الباب 7، الحديث 4.
74

وإذا لم تكن لها الحالة السابقة، أو كانت الشبهة مفهومية،
وقلنا: بعدم جريان الاستصحاب الموضوعي في الشبهة المفهومية، وأنه
لا تجري الاستصحابات التعليقية الاختراعية الحكمية، فلا يترتب الآثار
الخاصة.
وأما انفعاله بالملاقاة، فهو أيضا بلا وجه، لما ذكرناه، فما في بعض
كتب أهل العصر من تقوية القول بالانفعال (1)، في غاية الضعف، لأن
مفروضية انفعال البئر بالأدلة الخاصة، لا تستلزم انفعال كل ذي مادة وإن
لم يكن بئرا.
وتوهم اختصاص دليل عدم انفعال ذي المادة بالصحيحة، في غاية
الوهن والسخافة، فلا تخلط.

1 - التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 122.
75

المبحث التاسع
في الماء المستعمل
في الأحداث والأخباث
والكلام حوله يتم ضمن فصول:
77

فصل
في طهارة المستعمل ومطهريته
حسب القواعد
حكم المستعمل في الحدث
قضية ما مر في أول الكتاب من الكتاب والسنة، طهارة جميع
المياه ومطهريتها (1).
ومقتضى إطلاق تلك الأدلة، عدم الفرق بين الحالات الطارئة
عليها، ما دام لم يدل دليل على خروجها عن الحكم المزبور، فالماء
المستعمل في الحدث، صغيرا كان أو كبيرا، أو المستعمل لتحصيل الطهارة
المعنوية مثلا - كما في الأغسال المندوبة، والوضوء التجديدي - طاهر
ومطهر، من غير فرق بين كونه مستعملا في جميع الأعضاء أو بعضها، مرة أو
مرات، ما دام صدق " الماء " عليه، ولم ينجس بملاقاة النجس، ومن غير فرق

1 - تقدم في الجزء الأول: 20 - 38.
79

بين القليل والمعتصم، وكونه واردا أو مورودا.
وتوهم: أن اعتبار المستعمل في الحدث، كاعتبار المستعمل في
الخبث، فكما أن الثاني يحمل النجاسة مثلا، ويكون متنجسا، كذلك الأول،
فإنه يذهب بالجنابة والحدث، فتكون هذه الحالة قائمة به بعد ذلك،
فيعد ماء خبيثا غير نظيف، وغير طيب، ولا يكون عند ذلك مطهرا، ولا طاهرا، في
غير محله كما لا يخفى.
هذا بناء على تصديق الكبرى المزبورة.
وأما على الاشكال فيها فيشكل الأمر هنا، لأن الشك في زوال الحدث
به، يقتضي البناء على بقائه، فلا بد من التماس الدليل الخاص في
المسألة.
نعم، قد مر منا إمكان التمسك باستصحاب الطهارة والمطهرية
المنجزة، لا المعلقة، فإن المطهرية من الأوصاف التنجيزية للماء (1).
أو يقال: بأن الطهارة الشرعية في الماء، تلازم المطهرية عرفا.
وأيضا: مر منا في بعض المواقف، الاشكال بأن الطهارة الشرعية
تثبت بالاستصحاب أو قاعدتها، والمطهرية تثبت بالاستصحاب، ولكن ذلك
غير واف، لأن المطلوب إثبات أن هذا الماء الطاهر مطهر، وهو لا يثبت
بذلك (2).
اللهم إلا أن يقال: " كان هذا الماء طهورا، وهو الآن كذلك " ورجوع

1 - تقدم في الجزء الأول: 104 - 106.
2 - نفس المصدر.
80

" الطهور " إلى الأمرين، لا يستلزم الانحلال في موضوع الدليل الاجتهادي،
فلا تخلط.
حكم المستعمل في الخبث
ومن هنا يظهر النظر في مقتضى القاعدة في المستعمل في الأخباث،
شرعية كانت، أو عرفية، وهي الطهارة والمطهرية.
نعم، بناء على عدم الفرق في انفعال القليل بين النجس الوارد
والمورود، تكون الغسالة نجسة.
ثم إن في جريان استصحاب النجاسة بعد الاغتسال بالماء
المستعمل، إشكالا ينشأ من المباني في حقيقة النجاسة والطهارة.
فصل
في طهارة المستعمل في الوضوء الرافع دون مطهريته
المستعمل في الوضوء طاهر ومطهر للحدث والخبث، بلا خلاف بين
الإمامية (1)، وهو المحكي عن أكثر العامة (2)، وقد نطقت به الآثار

1 - المعتبر 1: 85، تذكرة الفقهاء 1: 34، مدارك الأحكام 1: 126، جواهر الكلام 1: 358.
2 - تذكرة الفقهاء 1: 34.
81

المروية خصوصا (1)، وضعف سندها غير مضر. وفي جبرانه بالعمل إشكال،
لعدم قيام الشهرة العملية عليها.
بل في كفاية الشهرة العملية لجبران ضعفها في خصوص المقام
شبهة: وهي أن الحكم المتلقى من القواعد العامة، لا يحتاج إلى النص،
والتمسك بالنص لا يدل على حصر السند به، وهذا - وهو الانحصار -
شرط في الجبر (2)، فما ظنه كثير من الأصحاب في المقام، لا يرجع إلى
محصل.
كما أن توهم ذهاب أبي حنيفة (3) وغيره إلى نجاسته نجاسة مغلظة،
غير موافق لما وصل إلينا منه في الكتب المفصلة (4).
نعم، عندي في المسألة شبهة: وهي أن من المحتمل شرطية
النظافة العرفية في مطهرية الماء للأحداث، ويشهد لذلك النواهي
المشار إليها في البئر، الظاهرة في لزوم كون ماء الوضوء نظيفا، ولا أقل
من استحبابه وكراهة التوضي، بناء على ما مر من ورود الترخيص
بالتوضي قبل النزح (5).

1 - وسائل الشيعة 1: 209 - 210، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 8.
2 - تحريرات في الأصول 6: 388 وما بعدها.
3 - المجموع 1: 151 / السطر 6، مدارك الأحكام 1: 126، مستمسك العروة
الوثقى 1: 219.
4 - اللباب في شرح الكتاب 1: 23.
5 - تهذيب الأحكام 1: 246 / 709، وسائل الشيعة 1: 172، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المطلق، الباب 14، الحديث 8.
82

ويدل عليه ما مر في الماء إذا تغير لونه وريحه وطعمه، بناء على
ما أسسناه هناك، من أن النهي عن الشرب والتوضي والغسل، لا يستلزم
النجاسة (1)، وغايته شرطية نظافته في ذلك، وهذا هو رأي الأوزاعي
وأحمد ومحمد، وهو القول الثاني للشافعي، والرواية الأخرى عن مالك،
وهو المشهور عن أبي حنيفة (2).
فبالجملة: لا منع من الالتزام بالتفكيك بين طهارته ومطهريته، فنلتزم
بالأولى دون الثانية، وهذا هو الموافق لذوق العقلاء وروح الشريعة.
أو الالتزام بعدم مطهريته مع وجود المياه النظيفة، ولعل إليه يرجع
ما عن المفيد، فقال: " الأفضل تحري المياه الطاهرة التي لم تستعمل في
أداء فريضة، ولا سنة " (3) انتهى.
فصل
في حكم المستعمل في الغسل الندبي والوضوء التجديدي
المستعمل في الأغسال المندوبة والوضوءات التجديدية،
كالمستعمل في الأشياء النظيفة العرفية، بل وكالمستعمل لغسل اليد في

1 - تقدم في الجزء الأول: 116 - 117.
2 - المغني، ابن قدامة 1: 18 / السطر 16 - 17، المجموع 1: 151 / السطر 4، و 153 /
السطر 4، تذكرة الفقهاء 1: 34.
3 - مفتاح الكرامة 1: 87 / السطر 29، المقنعة: 64.
83

الأكل قبله وبعده، وغير ذلك من السنن والآداب، ولا ينسب إلى أحد إشكال
فيه (1)، وما ربما يمكن تخيله في المستعمل في الأحداث، غير لازم هنا كما
لا يخفى.
ولا فرق بينما صار واجبا بالعرض كالمنذور وشبهه، وبين غيره.
وقال الصدوق في " المقنع " و " الفقيه ": " لا بأس أن تغتسل المرأة
وزوجها من إناء واحد، لكن تغتسل بفضله، ولا يغتسل بفضلها " (2).
وعن أحمد في تطهير الرجل بفاضل طهارة المرأة روايتان: المنع،
والكراهة (3).
وحكي عن المفيد أفضلية التحري كما عرفت (4)، وأما استحباب
التنزه عن المستعمل في الأغسال المندوبة والوضوء، فهو غير ثابت
نسبته إليه، والأمر على كل تقدير سهل.
وسند الصدوق في التفصيل غير معلوم لي، ومستند المفيد واضح،
لأن هذا خلاف النظافة التي هي " من الايمان ".
ومن العجب تمسك " الحبل المتين " (5) بفتوى المفيد برواية ابن
جعفر، عن الرضا (عليه السلام) في حديث، قال - كما في " الوسائل " -: " من اغتسل

1 - تذكرة الفقهاء 1: 36، الحدائق الناضرة 1: 438، مستمسك العروة الوثقى 1: 219.
2 - المقنع: 40، الفقيه 1: 12، ذيل الحديث 22.
3 - المغني، ابن قدامة 1: 214 / السطر 8، تذكرة الفقهاء 1: 38.
4 - تقدم في الصفحة 83.
5 - الحبل المتين: 116 / السطر 19.
84

من الماء الذي اغتسل فيه فأصابه الجذام، فلا يلومن إلا نفسه " (1)!!
وأعجب منه قول " الحدائق ": " بأن هذا الحديث مقتضى ذيله
مربوط بماء الحمام " (2)!!
ضرورة أن رأي المفيد كما مر، أعم من الحديث مفادا، وذيل الحديث
وإن يورث اختصاص المورد بالحمام، ولكن العرف لا يجد خصوصية في
ذلك، فما هو المحكي عن الشيخ المذكور - المحقق الواقف على أسرار
المذهب وروح الشرائع - في غاية المتانة، لما عرفت منا، ولا حاجة
إلى الفحص عن مستنده، كما لا يخفى.
وغير خفي أيضا: أن ما ذكرناه في الفصل السابق من الشبهة في
المطهرية (3)، يأتي هنا أيضا.
فصل
في طهارة المستعمل في رفع الحدث الأكبر
المستعمل في الحدث الأكبر، كالجنابة والحيض والنفاس، وهكذا
المستعمل في الاستحاضة ومس الميت، وهكذا المستعمل في الوضوء

1 - الكافي 6: 503 / 38، وسائل الشيعة 1: 219، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف،
الباب 11، الحديث 2.
2 - الحدائق الناضرة 1: 437.
3 - تقدم في الصفحة 82 - 83.
85

المرفوع به الحدث الأكبر مع دخالته جزء في ذلك، طاهر بلا خلاف
أيضا، وعليه الاجماعات المنقولة (1). ومن قال من العامة بنجاسته في
المسألة السابقة - كأبي يوسف (2) - قال به هنا، كما في " مفتاح
الكرامة " (3).
وربما ينسب إلى ابن حمزة نجاسته (4)، وهو في غير محله، قال في
" الوسيلة " بعد أن قسم المياه إلى عشرة:
" وأما المستعمل فثلاثة أضرب: مستعمل في الطهارة الصغرى،
ومستعمل في الطهارة الكبرى، ومستعمل في إزالة النجاسة:
فالأول: يجوز استعماله ثانيا في رفع الحدث وفي إزالة النجاسة.
والثاني والثالث: لا يجوز ذلك فيهما، إلا أن يبلغ كرا فصاعدا بالماء
الطاهر " (5) انتهى.
وأنت خبير: بقصور عبارته عن اختياره نجاسته.
الاستدلال على نجاسة المستعمل في رفع الحدث الأكبر
وكيف كان: يمكن دعوى النجاسة، لطائفة من المآثير التي استدل
بها على ممنوعية مطهريته، بدعوى أن نفي الجواز يرشد إلى النجاسة

1 - المعتبر 1: 86، قواعد الأحكام 1: 5 / السطر 17، كشف الرموز 1: 58.
2 - الخلاف 1: 172، المبسوط، السرخسي 1: 46 / السطر 16.
3 - مفتاح الكرامة 1: 88 / السطر 10.
4 - مستمسك العروة الوثقى 1: 219.
5 - الوسيلة: 74.
86

عرفا، فمن منع مطهريته فعليه منع طهارته، كما أن من منع صحة الصلاة
في عرق الجنب من الحرام منع طهارته، للملازمة العادية والعرفية،
ولو سلم الالتزام بالتفكيك في المثال المزبور - كما التزم به جمع من
الأعلام (1)، لوقوعه في الشريعة في أوبار ما لا يؤكل لحمه مع طهارتها -
فلا يسلم ذلك هنا.
فما في رواية ابن سنان الآتية من قوله: " الماء الذي يغسل به الثوب،
ويغتسل به الرجل من الجنابة، لا يجوز يتوضأ منه وأشباهه " (2)، وفي رواية
حمزة بن أحمد: " ولا تغتسل من البئر التي يجتمع فيها ماء الحمام، فإنه يسيل
فيها ما يغتسل به الجنب " (3) وفي غيرهما، دليل على النجاسة، للتلازم
العقلائي المركوز عليه.
نعم، بناء على ما يأتي في الفصل الآتي حولها من الاشكالات
السندية والدلالية، فلا يتم القول بالنجاسة هنا.
ويمكن دعوى: أن نفي الوضوء غير الأمر بالغسل، فإن الثاني يشهد
على اعتبار النجاسة، بخلاف الأول، لأن ذلك أعم عرفا، كما في الماء
المغصوب، ولا سيما مع قوة احتمال شرطية النظافة أو استحبابها فيما

1 - العروة الوثقى 1: 71، الحادي عشر من النجاسات.
2 - تهذيب الأحكام 1: 221 / 630، وسائل الشيعة 1: 215، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المضاف، الباب 9، الحديث 13.
3 - تهذيب الأحكام 1: 373 / 1143، وسائل الشيعة 1: 218، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المضاف، الباب 11، الحديث 1.
87

يتوضأ به، فلا منع من التفكيك، كما عن جمع من الأقدمين (1).
المستعمل في الحدث الأكبر على الوجه الذي مر، مطهر من
الأخباث، ولعل هذا هو الأمر المفروغ عنه في معاقد الاجماعات المحكية
عن جماعة من الأصحاب (2).
وعن " الذكرى " بعد أن نقل عن الشيخ الجواز، قال: " وقيل: لا " (3)
وظاهره وجود المخالف، وهو ابن حمزة الطوسي على ما عرفت من
العبارة المحكية عن " وسيلته " سابقا (4)، الظاهرة في نفي جواز استعماله
في الحدث والخبث، وعن " المقنع " ما هو القريب منه (5).
وربما يشكل استفادة نفي المطهرية من عبارتهما، لأن نفي جواز
الاستعمال، غير ملازم لذلك، كما في المغصوب.
وبالجملة: على القول بنجاسته فهذا الحكم واضح، وأما على القول
بطهارته فيحتاج إلى الدليل، وما يأتي من الأدلة على نفي مطهريته من
الحدث، غير وافية لذلك كما ترى.
نعم، بناء على ما أشرنا إليه: من أن القذارات الشرعية والعرفية،
ليست مختلفة في الحقيقة، وأن مطهرية المياه ليست شرعية، بل هي

1 - الفقيه 1: 10، المقنعة: 64، المبسوط 1: 11.
2 - إيضاح الفوائد 1: 19، مفتاح الكرامة 1: 88 / السطر 15، مستند الشيعة 1: 100،
مستمسك العروة الوثقى 1: 220.
3 - لاحظ ذكرى الشيعة: 12 / السطر 15.
4 - تقدم في الصفحة 84.
5 - مفتاح الكرامة 1: 88 / السطر 18، المقنع: 41.
88

طبيعية عقلية (1)، ولا حقيقة شرعية في معنى مطهرية المياه وإن قلنا بها
في النجاسة والطهارة، فإذا راجعنا العرف في مطهرية الماء المستعمل
في رفع الحدث، الملازم قهرا لبعض الأقذار العرفية، فلا نجد إلا تنفرهم
واستقذارهم، فتكون الأدلة منصرفة عنه.
بل في شمولها لها إشكال، للشك في مطهريته، مع انصراف أدلة
الاستصحاب عند العرف عن شمول هذه المواقف.
أو يقال: إن الأماكن والأمصار والأعصار، مختلفة في ذلك، ففي بعض
منها لا يجد فيه القذارة، ويراه مطهرا من كل شئ، وفي بعض منها ينعكس
الأمر، فيكون الحكم تابع موضوعه حسب تشخيص المكلفين، كما في سائر
الموارد والمواضيع، فلا تخلط، ولا تغفل.
ولعمري، إن ذهاب المشهور إلى المطهرية، منشؤه الغفلة عن أن
المطهرية غير الطهارة والنجاسة، فإن فيهما اختلافا من القديم: في
كونهما من الحقائق المنكشفة بالشرع، أو من المجعولات الشرعية، أو
هي عرفية إمضائية إلا في مواضع خاصة، وأما عنوان " المطهرية " فليس
فيه خلاف، وأنه من قبيل سائر العناوين العرفية، موكول إلى العرف
سعة وضيقا، ومحول إليهم مفهوما وصدقا، على ما تقرر في محله (2)، وفيما
نحن فيه لا يعد الماء المزبور مطهرا.
ولو سلمنا أن الشرع تصرف في المطهرات، فلا نسلم تصرفه في

1 - تقدم في الجزء الأول: 21 و 23.
2 - نفس المصدر.
89

مطهرية الماء، فإنها بيد العرف والعقلاء، ولا دليل شرعي لفظي على أن
كل ماء طاهر شرعا مطهر، حتى يتمسك به، فتدبر جيدا.
فصل
في مطهرية المستعمل في الحدث الأكبر
المستعمل في الحدث الأكبر مطهر من الأحداث الصغيرة والكبيرة.
والمراد من " الحدث الأكبر " كل ما يوجب الغسل، سواء أوجب
الوضوء، أم لم يوجب.
أو يقال: سواء كان غسله كافيا عن الوضوء كالجنابة، أو لا.
وإن شئت قلت: المراد من " الحدث الأكبر " ما يقابل الأصغر، فيشمل
الحدث الكبير، فإن الأحداث ثلاثة: حدث صغير وهو ما يوجب الوضوء،
وكبير وهو ما يوجب الغسل، وأكبر وهو ما يوجبهما، فتكون الجنابة كبيرة.
وهنا بيان آخر لأكبريتها، ليس هنا محله.
حول الأقوال في المقام
وعلى كل تقدير: مطهرية الماء المستعمل فيه، هي المشهورة بين
الفقهاء حديثا، وفي " الروض " و " الدلائل ": " أنه المشهور " (1) وإليه

1 - روض الجنان: 158 / السطر 8، مفتاح الكرامة 1: 88 / السطر 21.
90

ذهب طائفة من القدماء، كالسيد وأبي يعلى، والسيد حمزة ابن زهرة (1).
وخالفهم في ذلك جمع، كالصدوقين والشيخين والقاضي
والطوسي (2)، وجماعة من أتباعهم المتوسطين كالمحقق (3)، وعن
" الخلاف ": " هو مذهب أكثر أصحابنا " (4).
وظاهر ما نسب إلى أهل الخلاف في " الخلاف " أنهم قائلون: " بأن
الماء المستعمل طاهر ومطهر " (5) ولا يستفاد منه التفصيل بين أنحاء
المستعملات. وعن " حاشية المدارك ": " أنه المشهور بين القدماء " (6).
وهنا قول ثالث ظاهر من " المبسوط " حيث قال: " ما استعمل في
غسل الجنابة والحيض، فلا يجوز استعماله في رفع الأحداث وإن كان
طاهرا، فإن بلغ ذلك كرا زال حكم المنع من رفع الحدث، لأنه قد بلغ حدا
لا يحتمل النجاسة " (7) انتهى.
وقضية هذه العبارة جواز التطهير بالمتمم كرا.
وأما توهم التفصيل بين الكر والجاري مثلا، فهو في غير محله،
ولا يظهر من أحد من الأصحاب منع استعمال هذه المياه.

1 - رسائل الشريف المرتضى 3: 22، مفتاح الكرامة 1: 88 / السطر 19، الغنية، ضمن
الجوامع الفقهية: 490 / السطر 20.
2 - الفقيه 1: 10، المقنعة: 64، المبسوط 1: 11، جواهر الفقه: 8، الوسيلة: 74.
3 - شرائع الاسلام 1: 8.
4 - الخلاف 1: 172.
5 - الخلاف 1: 172، المحلى بالآثار 1: 182.
6 - مفتاح الكرامة 1: 88 / السطر 25.
7 - المبسوط 1: 11.
91

فالذي هو محل الكلام، هو القليل المستعمل، والقليل المتمم،
فظاهر إطلاق المانعين المنع مطلقا، وصريح الشيخ الجواز.
ولعمري، إنه لا إطلاق في كلماتهم من هذه الجهة، فلا يرجع هذا
القول إلى أمر ثالث في المسألة، فتأمل.
وفي قوله: " لا يحتمل النجاسة " شهادة على أنه في مسألة القليل
المتمم يقول بالطهارة، ويريد هنا إثبات جواز الاستعمال بالأولوية.
فما عن " المعتبر " و " الذخيرة " و " الدلائل " من الحكم ببقاء المنع
بعد بلوغه كرا (1)، لا يورث ظهور كلمات القدماء في الاطلاق، فتأمل.
هذا، وقد نسب هذا القول إلى " الوسيلة " (2) وتردد فيه " الخلاف "
و " الذكرى " (3).
هذه هي الأقوال المعروفة في المقام وقد حكي تفاصيل أخر:
كالتفصيل بين الجنابة وغيرها (4).
وكالتفصيل بين غسل الأموات وغيره (5)، وهذا هو في " المهذب
البارع " إلا أنه قال بنجاسته بها، ومنعه الفاضل العجلي (6).

1 - المعتبر 1: 89، ذخيرة المعاد: 143 / السطر 1، مفتاح الكرامة 1: 88 /
السطر 30.
2 - الوسيلة: 74.
3 - الخلاف 1: 173، ذكرى الشيعة: 12 / السطر 9.
4 - مستند الشيعة 1: 105.
5 - المهذب البارع 1: 117.
6 - لاحظ المهذب البارع 1: 117، السرائر 1: 61.
92

وكالتفصيل بين الأغسال الواجبة والمندوبة (1).
مقتضى الصناعة ومفاد الأخبار في المطهرية من الحدث
وحيث أن المسألة ذات آراء لا يركن إليها، فلا بد من النظر إلى
أخبارها، وقضية ما مضى أولا المطهرية حسب الصناعة الأولية،
ومقتضى ما شرحناه ثانيا عدمها، من غير الحاجة في الأولى والثانية إلى
الأدلة الخاصة، ولكن لما كان المعول النصوص الخاصة، فلا بد من
ذكرها، وهي على طوائف:
الطائفة الأولى: ما يستدل بها على المنع
وهي كثيرة:
فمنها: وهي عمدتها، ما رواه " التهذيبان " بإسناده عن عبد الله بن سنان،
عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " لا بأس بأن يتوضأ بالماء المستعمل ".
وقال: " الماء الذي يغسل به الثوب، أو يغتسل به الرجل من الجنابة،
لا يجوز أن يتوضأ به وأشباهه، وأما الماء الذي يتوضأ الرجل به، فيغسل به
وجهه ويده في شئ نظيف فلا بأس أن يأخذه غيره ويتوضأ به " (2).
وفي سنده أحمد بن هلال الضعيف المطعون المنسوب إلى الجعل

1 - الحدائق الناضرة 1: 438، جواهر الكلام 1: 364.
2 - تهذيب الأحكام 1: 221 / 630، وسائل الشيعة 1: 215، كتاب الطهارة، أبواب
الماء المضاف، الباب 9، الحديث 13.
93

والوضع (1)، ولا ريب في أن مورده الماء القليل لكلمة " باء ".
ومنها: معتبر ابن مسلم، عن أحدهما (عليهما السلام) قال: سألته عن ماء الحمام.
فقال: " ادخله بإزار، ولا تغتسل من ماء آخر، إلا أن يكون فيهم جنب، أو
يكثر أهله، فلا يدرى فيهم جنب أم لا " (2).
ومنها: ما رواه الشيخ بإسناده عن حمزة بن أحمد، عن أبي الحسن
الأول (عليه السلام) قال: سألته أو سأله غيري عن الحمام.
قال: " ادخله بمئزر، وغض بصرك، ولا تغتسل من البئر التي يجتمع فيها
ماء الحمام، فإنه يسيل فيها ما يغتسل به الجنب، وولد الزنا، والناصب لنا أهل
البيت، وهو شرهم " (3).
ومنها: معتبر ابن مسكان، قال: حدثني صاحب لي ثقة، أنه سأل أبا
عبد الله (عليه السلام) عن الرجل ينتهي إلى الماء القليل في الطريق، فيريد أن
يغتسل، وليس معه إناء، والماء في وهدة (4)، فإن هو اغتسل رجع غسله في
الماء، كيف يصنع؟
قال: " ينضح بكف بين يديه، وكفا من خلفه، وكفا عن يمينه، وكفا عن

1 - الفهرست، الشيخ الطوسي: 36 / 97.
2 - تهذيب الأحكام 1: 379 / 1175، وسائل الشيعة 1: 149، كتاب الطهارة، أبواب
الماء المطلق، الباب 7، الحديث 5.
3 - تهذيب الأحكام 1: 373 / 1143، وسائل الشيعة 1: 218 - 219، كتاب الطهارة،
أبواب الماء المضاف، الباب 11، الحديث 1.
4 - الوهدة: المنخفض من الأرض (منه (قدس سره).
94

شماله، ثم يغتسل " (1).
ومنها: ما رواه - الكليني - بإسناده عن محمد بن إسماعيل، عن
حنان (2)، قال: سمعت رجلا يقول لأبي عبد الله (عليه السلام): إني أدخل الحمام في
السحر، وفيه الجنب وغير ذلك، فأقوم فاغتسل، فينضح علي بعدما أفرغ من
مائهم.
قال: " أليس هو جار؟ ".
قلت: بلى.
قال: " لا بأس " (3).
فإنه يعلم من ارتكاز ذلك ممنوعيته كما في الرواية الأولى.
ومنها: غير ذلك من الروايات المستدل بها في الكتب المفصلة (4).
عدم دلالة الطائفة الأولى على الجواز
ولعمري، إن الناظر فيها لا يحتمل دلالتها على المطلوب، فإن
المنصف الخبير والمتوجه البصير لأطراف القضايا، لا يجد منها رائحة

1 - تهذيب الأحكام 1: 417 / 1318، وسائل الشيعة 1: 217 - 218، كتاب الطهارة،
أبواب الماء المضاف، الباب 10، الحديث 2.
2 - كذا في نسخة (منه (قدس سره).
3 - الكافي 3: 14 / 3، وسائل الشيعة 1: 213، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف،
الباب 9، الحديث 8.
4 - تهذيب الأحكام 1: 39 / 107، وسائل الشيعة 1: 158، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المطلق، الباب 9، الحديث 1.
95

الدلالة، ولا ينقضي تعجبي من المطنبين في هذه المسألة، ولا أجد ذلك
صحيحا.
هذا مع أن كثيرا منها ضعيف السند، غير قابل لدعوى الانجبار، لما
عرفت من الاختلاف.
والذي يقوى في النظر: أن هذه المسألة ليست من المسائل التي
تتدخل فيها الشريعة بعنوان الديانة والتقنين، لأن النفوس البشرية
تأبى عن استعمال تلك المياه طبعا، ولا يحتاج إلى إعمال التعبد زائدا على ما
ذكرناه، وهذه الأخبار كلها راجعة إلى المستعمل في القذارات الشرعية
والعرفية، من غير احتمال الاطلاق فيها، كما لا يخفى، ولقد تقرر في محله:
أن ترك الاستفصال يدل على الاطلاق، فيما إذا لم يكن انصراف وغلبة إلى
الصورة الخاصة، فما في كتب القوم من التمسك بهذه المآثير، غير راجع
إلى محصل.
الطائفة الثانية: الروايات المستدل بها على مطهرية الماء المستعمل
في الجنابة
وذلك لأجل نفي البأس فيها عن وقوعها في الإناء.
وهذه الطائفة أجنبية بالمرة عما نحن فيه، ضرورة أن البحث في
المطهرية، لا ينافي الالتزام بطهارته، والذي هو محل الكلام، هو القليل
المجتمع من غسالة الجنب مثلا في إناء أو مكان، وأنه هل يجوز رفع
الحدث به أم لا؟ ومثل ذلك القليل الذي يدخل فيه الجنب، ويتطهر به،
96

مع عدم نجاسة بدنه، والمراجع إلى المآثير والأخبار، لا يجد نصا يدل
على جواز ذلك، وسيأتي أن هذه الطائفة تدل على طهارة الغسالة إن شاء
الله تعالى.
الطائفة الثالثة: وهي التي تدل على ترخيص ذلك إذا كان كرا
منها: صحيحة ابن مسلم الماضية في أخبار الكر، عن أبي
عبد الله (عليه السلام): وسئل عن الماء تبول فيه الدواب، وتلغ فيه الكلاب،
ويغتسل فيه الجنب.
قال: " إذا كان الماء قدر كر لا ينجسه شئ " (1).
وهذه الطائفة تدل على النجاسة، وحيث قد عرفت فساده، فهي
لا تشهد على شئ هنا، كما لا يخفى.
فتحصل إلى هنا: أن القاعدة الأولية الصناعية هي المطهرية، ولكن
النظر الثانوي إلى الجهات المشار إليها، يؤدي إلى ترك ذلك جدا.
ولا يخفى: أن مقتضى ما احتملناه في المسألة - من الاشكال في
مطهرية المياه المستعملة القليلة - عدم اختصاص الشبهة بالقليل،
وعدم سريانها في جميع المياه القليلة، فيكون هذا رأيا جديدا في
المسألة.

1 - تهذيب الأحكام 1: 39 / 107، وسائل الشيعة 1: 158، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المطلق، الباب 9، الحديث 1.
97

فصل
في المستعمل في رفع الخبث
والمراد من " الماء المستعمل فيه " ليس القليل الوارد عليه
النجس، فإنه خارج عن هذا النزاع، ضرورة أن نجاسته واضحة على
القول بانفعال الماء القليل، فما في بعض كتب الأصحاب من الاستدلال
ببعض الأخبار الخاصة (1) في تلك المسألة (2)، غفلة وذهول.
وهكذا ليس المراد منه ولا ينبغي أن يكون، الماء الذي يزول به
عين النجاسة الموجودة في المحل، والباقية بعد الزوال في الماء
المستعمل، لأن معناه التفصيل في انفعال القليل بين الوارد والمورود، وقد
مر أنه منسوب إلى السيد في " الناصريات " (3) وعرفت ضعفه (4)، فهذا
القول أيضا خارج عن محط البحث هنا.
والذي هو محل الكلام ويساعده الاعتبار، هو الماء المستعمل في إزالة
الخبث والنجاسة التي لا عين منها في المحل، ولا أثر لها في المغسول،

1 - وسائل الشيعة 1: 152 و 154 - 156، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 8،
الحديث 3 و 4 و 11 و 14.
2 - مستند الشيعة 1: 90.
3 - الناصريات، ضمن الجوامع الفقهية: 215، المسألة الثالثة.
4 - تقدم في الجزء الأول: 269 - 271.
98

فما يظهر من جمع في المقام (1) غير صحيح.
وهكذا ليس المراد منه الماء المعتصم المستعمل الوارد على
المغسول، فإنه لاعتصامه لا يتنجس قطعا، فالقطرات المنقطعة من
المغسول لا تنجس، إلا إذا انقطعت قبل الملاقاة، وأما ما هو المتعارف من
الرشح فهو طاهر قطعا، فيكون البحث هنا حول الماء الوارد على
المتنجس، غير الملاقي مع النجس الباقي بعد الزوال في الغسالة،
ويكون غير معتصم، كماء الإبريق المستعمل لرفع نجاسة دموية، وزالت
عينها قبل الغسل، أو كان بحيث ينعدم بجريان الماء على المغسول، ولا
يبقى منه أثر فيه بعد الغسل، كالمتنجس بالبول عادة.
فما يظهر أيضا من الأصحاب من النزاع في الغسلة الأولى، في محله
إذا أرادوا الغسلة التي ليست النجاسة باقية.
ولعل إلى ما ذكرناه يرجع ما في " المنتهى " من تقصير النزاع على
الغسلة الثانية (2)، لأنه بالغسلة الأولى لا تفنى النجاسة الزائلة إلا
في بعض الصور.
ومما شرحناه ينقدح: أن " الغسلة المزيلة " التي وقعت في كلمات
القوم ومنهم " العروة الوثقى " (3) وأتباعه (4)، داخلة في محل النزاع في

1 - العروة الوثقى 1: 47، فصل في المياه، الماء المستعمل في الوضوء، المسألة 2،
مستمسك العروة الوثقى 1: 229.
2 - منتهى المطلب: 24 / السطر 16.
3 - العروة الوثقى 1: 46 - 47، فصل في المياه، الماء المستعمل في الوضوء.
4 - مستمسك العروة الوثقى 1: 229، التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 369 - 370،
مهذب الأحكام 1: 262.
99

فرض، وخارجة في فرض.
حول الأقوال في غسالة الخبث
إذا عرفت ذلك، فالأقوال في نجاستها وطهارتها كثيرة:
منها: أنها نجسة مطلقا، وهو الأشهر، والمشهور بين المتأخرين (1)،
وإليه " المبسوط " و " الخلاف " (2) بل وهو ظاهر " المقنع " و " الوسيلة " (3).
ومنها: أنها طاهرة مطلقا، وهو المنسوب إلى أكثر المتقدمين (4)، وقد
نسب إلى شيوخ المذهب، كالسيد، والشيخ في مسألة الولوغ من
" المبسوط " (5) وإلى أبناء إدريس وحمزة وأبي عقيل (6).
ومنها: التفصيل بين الغسلة الأولى والثانية، فتكون نجسة في
الأولى، وطاهرة في الثانية، وهذا هو المنسوب إلى " السرائر " و " مبسوط "
الشيخ و " خلافه " في موضع آخر (7).

1 - جامع المقاصد 1: 128 - 129، مفتاح الكرامة 1: 90 / السطر 4، مستند الشيعة 1:
89 - 90.
2 - المبسوط 1: 11، الخلاف 1: 179، المسألة 135.
3 - المقنع: 18، الوسيلة: 74.
4 - مفتاح الكرامة 1: 90 / السطر 21.
5 - جامع المقاصد 1: 128، مفتاح الكرامة 1: 90 / السطر 22، المبسوط 1: 15.
6 - السرائر 1: 61، مفتاح الكرامة 1: 90 / السطر 19 و 23، لاحظ الوسيلة: 74.
7 - مفتاح الكرامة 1: 90 / السطر 8 - 9، السرائر 1: 180، المبسوط 1: 36، الخلاف
1: 179، المسألة 135.
100

ومنها: ما حكي عن الأستاذ الشريف في " مفتاح الكرامة " بأن
الغسالة كالمحل بعدها، فإن كان المحل مما يطهر بالأولى كان المستعمل
طاهرا، وإن كان مما يطهر بالثانية، كان المستعمل في الأولى نجسا (1)، وهو
المحكي في " الدروس " عن بعض (2)، وقد احتمله " نهاية الإحكام " 3).
وفي كونه قولا آخر إشكال، لأن القائل بالتفصيل يكون محل كلامه
النجاسة المحتاجة إلى التكرار في التطهير، فلعله يقول بطهارة
الغسالة الأولى فيما لا يحتاج إلى التكرار، فتدبر.
وفي المسألة احتمال آخر: وهو نجاسة غسالة المتنجس
بالنجس، كالبول وعرق الجنب مثلا وهكذا، وطهارة غسالة المتنجس
مع الواسطة، فلو أصاب قطرة من غسالة النجاسة البولية،
فغسالته طاهرة.
إن قيل: هذه المسألة من صغريات المسألة الآتية، وهي
تنجيس المتنجس، فإن قلنا به يستلزم نجاسة الغسالة، وإن لم نقل
بذلك فهي طاهرة.
قلنا: نعم، هذا بحسب الموضوع، ولكن لا منع من التفكيك حسب
اقتضاء الأدلة، فيقال: " بأن المتنجس نجس في غير الغسالة ".
نعم، مع الالتزام بعدم تنجيسه يشكل الالتزام بنجاسة الغسالة، كما

1 - مفتاح الكرامة 1: 90 / السطر 14 - 16.
2 - الدروس الشرعية 1: 122، ولاحظ مفتاح الكرامة 1: 90 / السطر 14.
3 - نهاية الإحكام 1: 244.
101

هو الظاهر.
إن قلت: ما الفرق بين هذه المسألة والمسألة السابقة، التي نفينا
فيها عدم الفرق بين الوارد والمورود؟
قلت: قد مر منا أن المراد في تلك المسألة من " الماء الوارد " هو
الماء الوارد على عين النجس، أو الماء المزيل للنجاسة الباقية في
الغسالة (1)، والمراد من " الماء الوارد " هنا هو المستعمل لتطهير
المحل، من غير كون عين النجاسة مورودة وباقية بعد الورود، وإلى هذا
يرجع ما في " ناصريات " السيد (2)، وإلا فهو سخيف جدا.
مفاد الأدلة الشرعية في غسالة الخبث
ثم إن المهم في المقام المراجعة إلى الأدلة الشرعية، لعدم
إجماع صحيح في المسألة، ولا شهرة كافية، ولما كان قضية القواعد
بقاءها على الطهارة الشرعية، فلا بد من التماس دليل على نجاستها، وهو
وجوه:

1 - تقدم في الصفحة 98 - 99.
2 - الناصريات، ضمن الجوامع الفقهية: 215، المسألة الثالثة.
102

الوجه الأول: ارتكاز العرف
فإن المغروس في الأذهان أن الماء الوارد يحمل نجاسة المحل
وقذارته، لا أنه ينفيه ويعدمه، وبعد المراجعة إلى تنفر الطباع عن مثله،
يظهر أن بناء العرف والعقلاء على التجنب، وليس النجس إلا ما كان قذرا
عند العرف، ولم يدل دليل على طهارته الشرعية، لأن هذه المفاهيم
موكولة إلى العرف.
فقوله (عليه السلام): " كل شئ طاهر حتى تعلم أنه قذر " (1) دليل على أن كل
قذر يجب الاجتناب عنه بحسب الحكم الواقعي، وأما القذارات العرفية
القائمة على طهارتها النصوص الخاصة، فهي كالقذارات الشرعية
الملحقة بها شرعا للنص.
فبالجملة: مقتضى هذا التقرير، أن كل قذر عرفي نجس شرعا إلا
ما خرج بالدليل.
وأما ما اشتهر " أن كل نجس لا بد فيه من الدليل الشرعي، وإلا فليس
بنجس شرعا، فهو غير تام.
أقول: يرد عليه:
أولا: أن هذا الدليل غير واف بتمام المطلوب، لأن من الغسالة ما
ليس بقذر عرفا، كغسالة النجس الشرعي، ومجرد كون بعض الغسالات

1 - المقنع: 15، مستدرك الوسائل 2: 583، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات،
الباب 30، الحديث 4.
103

من الأقذار العرفية، غير كاف لما هو المقصود.
وثانيا: لا تدل قاعدة الطهارة على أن كل قذر، نجس ويجب الاجتناب
عنه، بل من المحتمل - قويا - كونها ناظرة إلى الأقذار الشرعية، ضرورة
أن في الشرع أقذارا شرعية، وأن النسبة بين القذر الشرعي والعرفي
عموم من وجه حسب الأدلة، فيكون هذا سببا لانصراف القانون إليها، وقد
تقرر منا وجود الحقائق الشرعية في كثير من اللغات (1)، والالتزام بذلك هنا
لا يستلزم الالتزام بها في مثل البيع والإجارة، كما لا يخفى.
وثالثا: لو كان المراد من " القذر " في القاعدة القذر العرفي، فلا
معنى لفرض الشك والجهل، لأن المستقذرات العرفية واضحة، ولا معنى
لفرض الجهل فيها.
ورابعا: قد استدل بالنصوص الكثيرة على طهارة الغسالة، وإن كانت
دلالتها محل إشكال، لأن أحسنها ما رواه في " العلل " عن يونس بن عبد
الرحمن، عن رجل، عن العنزا، عن الأحول محمد بن نعمان: أنه قال
لأبي عبد الله (عليه السلام) في حديث: الرجل يستنجي...
إلى أن قال: " أو تدري لم صار لا بأس به؟ ".
قال قلت: لا والله.
فقال: " إن الماء أكثر من القذر " (2).

1 - تحريرات في الأصول 1: 184 - 185.
2 - علل الشرائع: 287 / 1، وسائل الشيعة 1: 222، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المضاف، الباب 13، الحديث 2.
104

وهذه غير نقية السند، وكون ابن عبد الرحمن من أصحاب الاجماع
غير مفيد، لأن ذلك في مثلها لا يورث الوثوق، لأن لازم الأخذ بعموم العلة
خروج موردها، وهذا لأجل أن مجرد الأكثرية في الوزن غير صحيح،
والأكثرية بحسب الغلبة - وأن الماء الغالب على النجس، لا ينجس
حسب ما تقرر منا في أخبار الكر (1) - يستلزم كون الماء المستنجى به
خارجا، لعدم بقاء عصمة الماء بهذه الملاقاة.
اللهم إلا أن يقال: إن الاستنجاء المسؤول عنه فيها، هو الاستنجاء من
البول، والماء المستعمل يكون أكثر بالمعنى المزبور، فيكون دليلا على
المطلوب، فما في كتب المتأخرين " من أن هذه الرواية مطروحة، للزوم
القول بعدم الانفعال " (2) في غير محله، لما عرفت في محله أن الماء
القليل منفعل، ولكن ليس المراد من " القليل " ما بنوا عليه، فراجع (3).
فبالجملة: الرواية بناء على تماميتها سندا ودلالة، لا تفي بتمام
المقصود وهو طهارة غسالة النجس على الاطلاق، بل المناط كون الماء
المغسول به النجس أكثر وأغلب على المتنجس، بحيث يعتبر عند العرف
فناؤه في جنسه، فلا تخلط.
ثم إنه لا يبعد دعوى: أن ترك الاستفصال يورث الاطلاق، فيكون
موردها الاستنجاء الأكبر أيضا، فيشكل تمامية الدلالة.

1 - تقدم في الجزء الأول: 277 - 286.
2 - لاحظ التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 362.
3 - تقدم في الجزء الأول: 273 - 278.
105

ولكنه ممنوع، لأن كون أكثر المائع السيال من الجامد، غير صحيح،
لعدم الجامع بينهما، فلا بد من كون استنجائه للأصغر وهو البول، فإنه سيال
يقاس فيه الأكثرية والأغلبية، فتأمل.
وغير خفي: أن " الوسائل " ذكر في الباب الثالث عشر هذه الرواية
ثلاث مرات (1)، والظاهر اتحاد الكل، لأن الأحول هو محمد بن نعمان مؤمن
الطاق، وسيأتي تفصيله في ماء الاستنجاء (2).
بعض النصوص الأخر المستدل بها على طهارة الغسالة
ومن تلك النصوص مرسلة الواسطي، عن بعض أصحابنا، عن أبي
الحسن (عليه السلام): أنه سئل عن مجمع الماء في الحمام من غسالة الناس.
قال (عليه السلام): " لا بأس به " (3).
ومنها: رواية صب الماء على الثوب من بول الصبي (4).
ومنها: ما ورد من أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بتطهير المسجد من بول الأعرابي
بصب ذنوب عليه (5)، وهو ماء قليل عند الأصحاب.

1 - وسائل الشيعة 1: 221 - 223، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 13.
2 - يأتي في الصفحة 124 - 125.
3 - الكافي 3: 15 / 4، وسائل الشيعة 1: 213، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف،
الباب 9، الحديث 9.
4 - الكافي 3: 55 / 1، وسائل الشيعة 3: 397، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 3،
الحديث 1.
5 - عوالي اللآلي 1: 62، مستدرك الوسائل 2: 610، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات،
الباب 54، الحديث 4.
106

ومنها: غير ذلك من الأدلة التي لا أساس لها سندا (1)، ولا تفي بتمام
المطلوب دلالة.
ومن العجيب تمسكهم بصحيحة ابن مسلم التي فيها الأمر بالغسل
في المركن (2)، فتكون النجاسة واردة عليه، وتخرج عن المسألة
بالمرة!!
فتحصل إلى هنا: أن الدليل المزبور غير كاف لاثبات النجاسة، وإن
كانت أخبار الطهارة غير ناهضة لاثباتها أيضا.
الوجه الثاني: ما أفاده الوالد المحقق - مد ظله -
على ما في تقريراته غير المطبوعة.
وإجماله: أن العرف يلغي خصوصية الملاقاة، فإذا كان الماء القليل
منفعلا، فلا يجد فرقا بين أنحاء الملاقاة وأطوارها، ولا يتوهم متوهم ذلك في
الدهن الواقع فيه الفأرة، بأن يقول بنجاسته إذا وقعت الفأرة فيه،
وبطهارته في عكسها، ولا يتبادر إلى ذهن أحد التفكيك، بل المتفاهم
العرفي أن ما هو السبب للانفعال، هو الملاقاة فقط، ولا عبرة بأمر آخر
وراءها (3).

1 - وسائل الشيعة 3: 400، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 5، الحديث 2.
2 - تهذيب الأحكام 1: 250 / 717، وسائل الشيعة 3: 397، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات، الباب 2، الحديث 1.
3 - الطهارة (تقريرات الإمام الخميني (قدس سره) الفاضل اللنكراني: 51 (مخطوط).
107

وأنت خبير بما فيه، لما مر منا أن القليل الوارد عليه النجس،
ساكن يغلبه النجاسة في الاعتبار، بخلاف القليل الوارد عليها، فإنه
متحرك ذو قوة، لعلها تمنع عن انفعاله، ويكون الاعتبار هنا بإفنائه
النجاسة، وكأنه معتصم، كيف لا، وأي مدخلية في اعتصام الماء
المباشر مع المفصول عنه المتصل بالمادة؟! مع أن ذلك لا يورث فرقا
حال التطهير به (1).
وبعبارة أخرى: النجس الذي يغسل بالإبريق، لا يطهره إلا الماء
الخارج منه، فأي فرق بينه وبين ما إذا كان الإبريق متصلا بالمادة؟! ضرورة
أن الماء الذي يطهره، ليس إلا القليل الخارج من أنبوب الإبريق، فعلى
هذا لا بد من القول بالطهارة، لأنه كالمغسول بالكر والجاري، ولا أقل
من أنه يورث احتمال الفرق، فلا يمكن إلغاء الخصوصية.
مع أن الخصوصيات الأخر موجودة، مثل عدم إمكان التطهير بالوارد
إذا تنجس، ومثل لزوم العسر والحرج، ومثل لزوم كون الماء الواحد ذا
حكمين، وهو خلاف الاجماع، والاشكال في كل ذلك، لا يستلزم صحة دعوى
إلغاء الخصوصية، فلا منع - على هذا - من الالتزام بانفعال القليل، دون
الغسالة.

1 - لاحظ ما تقدم في الصفحة 98.
108

الوجه الثالث: التمسك بالاطلاق الأحوالي في أخبار الكر
قضية الاطلاق الأحوالي لمفهوم أخبار الكر هي النجاسة.
وتوهم اختصاص المنطوق بالأعيان النجسة، في غير محله،
لظهوره في أن الماء إذا بلغ كرا، لا ينجسه ما يمكن أن يكون منجسا، من غير
فرق بين الأعيان النجسة، أو المتنجسات الملحقة بها حكما.
وقد مر في المقامات الكثيرة، البحث والتحقيق حول مفاد هذه
المآثير منطوقا ومفهوما (1)، ولا نطيل الكلام حولها.
والذي لا ريب فيه: أن الاطلاق الأحوالي فرع العموم الافرادي،
وحيث لا سبيل إلى الثاني، لا يتم التمسك به.
وربما يمكن دعوى: أن المهملة التي في حكم الجزئية، معناها
ثبوت المنجسية لبعض الأشياء، وإذا ثبتت لبعضها، فلا مانع من التمسك
بالاطلاق الأحوالي بالنسبة إلى الفرد المندرج في المفهوم، وحيث
لا تعين لذلك الفرد، فيلزم لغوية الحكم الاجمالي الثابت بالمفهوم،
وقضية الفرار منها إسراء الحكم إلى جميع الأفراد، فيكون كل شئ
لا ينجس الكثير منجسا للقليل، بدلالة الاقتضاء.
أقول: أولا: إثبات المفهوم للقضايا الشرطية ممنوع.
وثانيا: قد تقرر منا في محله، أن المفهوم المتخذ من إثبات العلية

1 - منها ما تقدم في الجزء الأول: 204 - 207 و 362.
109

التامة المنحصرة، حجيته ذاتية، وغير قابلة للتخصيص والتقييد (1)،
ولا ريب أن كثيرا من المياه لا ينجسه شئ وإن لم يبلغ كرا، للنصوص، وهذا
لا يمكن إلا بانكشاف عدم العلية التامة المنحصرة، وعند ذلك لا يبقى
مفهوم حتى يتمسك به، فمفهوم الشرط يكون معارضا لما يدل على عدم
انفعال القليل، وغير قابل للتخصيص والتقييد.
وثالثا: إن الظاهر من المنطوق، هو أن الماء البالغ كرا، لا يمكن أن
ينجسه إحدى الأشياء التي تنجس غيره، وذلك لأن المراد من " شئ "
ليس عنوانا قابلا للانطباق على غير الأنجاس العينية والحكمية.
وأيضا: ليس عنوان المنجس الفعلي، لعدم إمكان الجمع بين سلب
التنجيس من المنجس الفعلي، فيكون المراد قوة التنجيس، فتصير
النتيجة ما ذكرناه، أي لا ينجسه ما يمكن أن ينجس غيره، لا أنه لا ينجسه
المنجس، فإن " المنجس " عنوان اشتقاقي ظاهر في الفعلية.
مع أن المتفاهم العرفي، هو أن المقصود أنه لا ينجسه ما يمكن أن
ينجس غيره، فإذن يصير المفهوم إثبات إمكان تنجيسه بإحدى المنجسات،
وهذا أعم من كونه يتنجس بها إذا لاقته، ضرورة أ إمكان جعل المنجس
للماء القليل، لا يستلزم ذلك، فليتدبر.
ولا تلزم اللغوية التي لا بد من الاحتراز عنها، لأنه بالمفهوم يثبت
القابلية والامكان، وهذه هي غير كافية حسب ما مر: من أن التأثير

1 - تحريرات في الأصول 4: 139.
110

والمؤثرية، شرط في اعتبار نجاسة الملاقي (1)، فلا تخلط.
وفي المقام نكتة
وهي أن قضية التحرير الذي سمعت منا - ولا تسمع من غيرنا - أن
المفهوم داخل في المنطوق، بمعنى أن مفاد كلمة " غيره " في البيان المشار
إليه، أعم من سائر الأشياء والماء القليل، فكأنه قال: " الماء إذا بلغ قدر
كر لا ينجسه ما يمكن أن ينجس غيره " أي غير الماء البالغ كرا، ومنه
القليل.
والذي يتوجه إلينا بعد ذلك: أن الامكان مستفاد من كلمة " شئ "
لكونه كناية عن عنوان النجس، فلا وجه لاسرائه إلى مفاد قوله:
" لا ينجسه " فهذا حكم بتي، أي لا ينجسه ما يمكن أن ينجس غيره، فإذا ثبت
إمكان منجسيته للغير في الجملة، فلا بد من إسرائها إلى جميع الأشياء،
ومنها القليل، وإلا تلزم اللغوية.
نعم، يمكن الفرار عنها، بدعوى وجود القدر المتيقن لها، وهو ما إذا
كانت النجاسة بعضها واردة عليه.
فتحصل إلى هنا: أن التقريب الأول قابل للخدشة، ولكن التقريب
الأخير الذي أشرنا إليه بعنوان النكتة، الراجع إلى استفادة انفعال
القليل من المنطوق، يشكل هدمه، لأن معنى الحديث على الوجه
الأخير، يرجع إلى أن الماء البالغ كرا، لا ينجسه ما ينجس غيره، والمراد

1 - تقدم في الجزء الأول: 94 و 213.
111

من مرجع الضمير هو الماء بقيده، فيكون القليل مندرجا تحت عنوان كلمة
" غيره " فإن كان له الاطلاق فهو، وإلا فالقدر المتيقن منه - بمقتضى الصدر
- هو القليل، أي أن الماء الكر لا ينجسه ما ينجس غير الماء الكر،
فيكون المفروض في المستثنى نجاسة القليل بالملاقاة، وقضية الاطلاق
الأحوالي عدم الفرق بين الحالتين.
أقول: بعد اللتيا والتي، لا يمكن تتميم الاستدلال، ضرورة أن كلمة
" شئ " وإن كانت كناية عن عنوان النجس، ومفهوم النجس وإن كان يقتضي
مفهوم الغير، ومقتضى لزوم الربط بين المستثنى منه والمستثنى وإن كان
هو الضمير العائد إلى المستثنى منه، ولكن الكلام سيق لإفادة أن
ما ينجس غير الكر لا ينجس الكر وأما أن ما ينجس غير الكر أي شئ هو،
وأن غير الكر الذي يتنجس به ما هو؟ فهي ساكتة عنه، ولا بد من
المراجعة إلى الدليل الآخر، فكما لا يستفاد منها عناوين النجاسات، كذلك
لا يستفاد منها ما يتنجس بها من سائر الأشياء، والتي ثبتت بالنصوص غير
القليل، وأما هو فهو أول الكلام.
الوجه الرابع: النصوص المستدل بها عليها
وهي كثيرة:
فمنها: - وهي عمدتها - ما رواه الشيخ في " الخلاف "، والصدوق في
" المقنع " (1) على عادته، والشهيد في " الذكرى "، والمحقق في

1 - الخلاف 1: 179، المسألة 135، المقنع: 18.
112

" المعتبر " (1) عن العيص بن القاسم قال: سألته عن رجل أصابته قطرة من
طشت فيه وضوء.
فقال: " إن كان من بول أو قذر فيغسل ما أصابه ".
وفي " الخلاف ": " وإن كان من وضوء الصلاة فلا بأس " (2).
وقد استظهر الوالد مد ظله، صحة سنده (3)، لظهور رواية الشيخ عن
كتابه، وطريقه إليه حسن، بل صحيح كما يظهر من " الفهرست " وصرح
بحسنه " الحدائق " (4) وغيره (5)، ويؤيده وجود مضمونها في " المقنع " جدا،
فلا يضر إضماره.
والذي هو الأقوى: أن الرواية مطعونة، وذلك لأن الشيخ مع نقلها في
" الخلاف " - وهو الكتاب الذي ألفه في شبابه - أعرض عنها في
" المبسوط " وأفتى بالطهارة كما عرفت (6)، أو فصل بين الأولى والثانية في
موضع آخر منه (7)، ولأنه مع عثوره عليها تركها في " التهذيبين " وهذا شاهد
على عدم وجود الكتاب عنده، بل هو من مسموعاته عن مشايخه، فظاهر
النسبة وإن كان يقتضي كون الرواية من كتابه، ولكنه يضعف بما أشير إليه.

1 - ذكرى الشيعة: 9 / السطر 17، المعتبر 1: 90.
2 - وسائل الشيعة 1: 215، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 9، الحديث 14.
3 - الطهارة (تقريرات الإمام الخميني (قدس سره) الفاضل اللنكراني: 53 (مخطوط).
4 - الحدائق الناضرة 1: 479.
5 - مصباح الفقيه، الطهارة: 61 / السطر 19.
6 - تقدم في الصفحة 100.
7 - مفتاح الكرامة 1: 90 / السطر 9، المبسوط 1: 36.
113

هذا، وفي طريقه إلى العيص، ابن أبي جيد، وهو علي بن أحمد
القمي غير المذكور بمدح ولا ذم صريحا، هكذا أفاده النوري (رحمه الله) في
" الخاتمة " والأردبيلي (رحمه الله) في " جامعه " (1).
وفي فتوى الصدوق بمضمونها قوة، ولكنها غير كافية.
مع أن كثيرا من الأعلام، حملوها على الغسالة التي فيها عين
النجاسة (2)، ولكنها خارجة عن الانصاف، لأن البول إذا يبس ينقلب
بالبخار، ولا يبقى منه الأثر العيني إلا أحيانا، ومقتضى الاطلاق عدم الفرق.
ومنها: معتبر عمار الساباطي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سئل عن
الكوز والإناء يكون قذرا، كيف يغسل، وكم مرة يغسل؟
قال: " ثلاث مرات: يصب فيه الماء فيحرك فيه، ثم يفرغ منه ذلك الماء،
ثم يصب فيه ماء آخر فيحرك فيه، ثم يفرغ ذلك الماء، ثم يصب فيه ماء آخر
فيحرك فيه، ثم يفرغ منه، وقد طهر... " (3).
وقد يشكل في سندها، لأجل أحمد بن يحيى، وفي دلالتها بأن الأمر
بالافراغ في المرة الثالثة، لا يدل على النجاسة، لعدم التزام الأصحاب
كثيرا بوجوب الكيفية المذكورة في غسل الإناء، فلعله للتنزيه غايته،
والتنظيف نهايته.
ولو سلمنا بأن أحمد بن يحيى هو ابن الحكيم الثقة، لامكان ذلك،

1 - مستدرك الوسائل (الخاتمة) 3: 509 / السطر 2، جامع الرواة 2: 509.
2 - التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 375، مهذب الأحكام 1: 261.
3 - تهذيب الأحكام 1: 284 / 832، وسائل الشيعة 3: 496 - 497، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات، الباب 53، الحديث 1.
114

أو المقرئ، لرواية البزنطي عنه (1)، أو قلنا: بأنه محمد بن يحيى، كما في
بعض نسخ " التهذيب " فلا نسلم تمامية دلالتها، لما مر، مع أن صدق
" الغسل " في نظر الشرع، ربما كان متوقفا على الافراغ، فتدبر.
ومنها: ما في " التهذيب " بسند معتبر، عن سماعة، عن أبي
عبد الله (عليه السلام) قال: " إذا أصاب الرجل جنابة فأراد الغسل، فليفرغ على كفيه
فليغسلهما دون المرفق، ثم يدخل يده في إنائه، ثم يغسل فرجه، ثم ليصب على
رأسه ثلاث مرات مل كفيه، ثم يضرب بكفيه من ماء على صدره، وكف بين
كتفيه، ثم يفيض الماء على جسده كله، فما انتضح من مائه في إنائه بعدما صنع
ما وصفت فلا بأس " (2).
تقريب الاستدلال واضح، والجواب أوضح، ضرورة أنه لو كان يأمر
بغسل الفرج وحده، كان لاستفادة النجاسة وجه، وأما الضمائم المزبورة
فتضر بها، كما لا يخفى.
ومنها: ما مر عن عبد الله بن سنان، من الحديث المستدل به على
ممنوعية استعمال المستعمل في الغسل (3)، على التقريب الذي أشرنا
إليه هناك، وذكرنا أن نفي جواز استعماله في الوضوء، وإن كان ظاهرا في
نجاسة غسالة الثوب المفروض فيها، أو غسالة غسل الجنابة، لابتلاء

1 - تهذيب الأحكام 9: 348 / 1251.
2 - تهذيب الأحكام 1: 132 / 364، وسائل الشيعة 1: 212، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المضاف، الباب 9، الحديث 4.
3 - تهذيب الأحكام 1: 221 / 630، وسائل الشيعة 1: 215، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المضاف، الباب 9، الحديث 13.
115

الجنب بالنجاسة غالبا، ولكن ذلك ظهور معلق على عدم وجود القرائن
المتصلة أو المنفصلة، كما في نفي جواز الصلاة في عرق الجنب من
الحرام (1)، فلا تخلط.
ومنها: المآثير الواردة في غسالة الحمام الناهية عن الاغتسال
منها (2)، ولولا نجاستها لما كان وجه للنهي.
وأنت خبير: بأن المراد من تلك " الغسالة " هي الغسالة المجتمعة
في بئر وبالوعة، كما في موثق ابن أبي يعفور، قال: " لا تغتسل من البئر التي
تجتمع فيها غسالة الحمام " (3) لعدم معهودية الاغتسال بغسالة الحمام حال
جريانها على سطحه، وتلك الغسالة من المياه الكثيرة التي أمرها دائر
بين تغيرها بالنجاسة، أو كونها غير نظيفة جدا، فلا يكون النهي عنها مولويا،
ولا إرشادا إلى النجاسة لأجل كونها غسالة، فراجع الباب الحادي عشر
من أبواب الماء المضاف، حتى تكون على بصيرة.
هذا مع أن الغسالة المزبورة لو كانت قليلة، ففيها من أعيان
النجاسة لتعارفها، فلا تفي بالمقصود.
نعم، بناء على كونها هي الماء الجاري على سطوح الحمامات، فإن
من الناس من يأخذها ويغتسل بها، فربما يستظهر منها النجاسة، ولكنها غير
تامة، لأن عدم المطهرية أعم من النجاسة كما عرفت، فلا تغفل.

1 - تقدم في الصفحة 85.
2 - وسائل الشيعة 1: 218، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 11.
3 - الكافي 3: 14 / 1، وسائل الشيعة 1: 219، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف،
الباب 11، الحديث 4.
116

تذنيب: في أدلة أخرى على طهارة الغسالة
تحصل إلى هنا: أن الغسالة طاهرة، من غير فرق بين الأولى
والثانية.
والذي يؤيد ذلك، بل وتدل عليه، الروايات الكثيرة المذكورة في
الباب التاسع من أبواب المضاف والمستعمل، الظاهرة في أن إصابة
الماء لما في الإناء، لا تورث وجوب الاجتناب، مع أن بدن الجنب نجس
غالبا جدا (1).
ومما يشهد لذلك، أن المسألة مما يكثر الابتلاء بها، ولا معنى لخفائها
على الأصحاب الأقدمين، ولا وجه لاثبات مثلها بالروايات النادرة
الضعيفة، فإنه كان ينبغي اشتهارها من الزمن الأول، فهذا شهادة قوية على
طهارتها.
مع أن الالتزام بنجاسة الغسالة، يستلزم بعض ما لا ينبغي، مثلا
في الإناء المذكور إذا كانت غسالتها نجسة، فهي ليست نجسة، وهذا
خلاف القاعدة.
أو هي نجسة، ولكنها مطهرة، وهي خلاف القاعدة.
أو هي إذا خرجت تكون نجسة، والباقي في أطراف الإناء طاهرا.
ومن العجيب التزامهم بأن الغسالة الموجودة في الثوب نجسة،

1 - وسائل الشيعة 1: 211، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 9.
117

فإذا عصر الثوب يخرج النجس من خلاله، ويورث نجاسة المحل، ولا
تورث نجاسة الثوب!!
ولا مانع من أن يقال: بأن الماء يحمل النجاسة من الثوب إلى
المحل، ونتيجة ذلك طهارته، ونجاسة ذاك، ولكن الموضوعات
المستبعدة العرفية، لا تثبت بالمآثير النادرة المزبورة.
نعم، قياس النجاسة الشرعية بالعرفية، يؤدي إلى الالتزام
بنجاسة الغسالة، ولكنه قياس مع الفارق، لأن تنفر الطباع عنها،
لا يستلزم وجوب غسل العباء مثلا من قطرتها المصيبة لها، كما لا يخفى،
وليس عند العقلاء في القذارات ما يجتنبون عنه من جميع الجهات على
الوجه المعتبر في الشرع، ولا دليل شرعي يقتضي كون القذر العرفي
نجسا شرعيا، أي كونه موضوعا لجميع الأحكام الالزامية الشرعية.
هذا، ويؤيد الطهارة، أن تطهير أعلى البدن بالماء القليل غير ممكن،
لسرايتها إلى أدناه، ومن الأدنى إلى الأدنى، فلا بد من تطهير جميع البدن،
ولا سيما في النجاسة البولية مكررا، حتى يطهر نقطة من أعلاه، وهذا
شاهد على ما ذكرناه.
التمسك ببعض أخبار الاستنجاء على طهارة الغسالة
وفي أخبار الاستنجاء ما يدل عليها على التقريب الذي مضى منا (1)،

1 - تقدم في الصفحة 104 وما بعدها.
118

وفيها أيضا معتبر محمد بن النعمان الأحول، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت
له: أستنجي، ثم يقع ثوبي فيه وأنا جنب؟
فقال: " لا بأس به " (1).
ومع المراجعة إلى حال أبي جعفر (شاه) الطاق، محمد بن نعمان
الأحول، الذي يعده المخالفون شيطان الطاق، والشيعة تلقبه ب‍ " مؤمن
الطاق " وأنه كان متكلما حاذقا، حاضر الجواب، صاحب التأليف (2)،
تطمئن النفس بأن المراد من سؤاله، الاستنجاء من المني، وإلا فلا معنى
لقوله: " وأنا جنب " لعدم وجه لتوهم مدخلية حالته النفسانية في
ذلك، فكأنه كان جنبا، وفرجه ملوثا بالمني فبال، فسأل عن ذلك، فأجيب:
بنفي البأس، ولو كان الحكم مخصوصا بالاستنجاء، لما كان وجه لذلك
كما لا يخفى.
فالقول بالطهارة في مفروض المسألة هو الأقوى، والاشكال في كل
واحد من المؤيدات والمذكورات وإن كان ممكنا - خصوصا في روايات
الاستنجاء - ولكن قصور أدلة النجاسة كاف لما هو المختار تبعا
" للجواهر " (قدس سره) (3)، وكفانا فضلا ذهابه إليها، فلا تغفل.

1 - تهذيب الأحكام 1: 86 / 227، وسائل الشيعة 1: 222 - 223، كتاب الطهارة، أبواب
الماء المضاف، الباب 13، الحديث 4.
2 - جامع الرواة 2: 208.
3 - جواهر الكلام 1: 344.
119

الوجه الخامس: دعوى الاجماع والاتفاق
وهي ساقطة لما عرفت، مع أن القدر المتيقن منه، ما إذا كانت
العين القذرة موجودة في الغسالة، وتكون الغسلة المزيلة باقية فيها
العين.
هذا، ومدعيه العلامة (رحمه الله) (1)، والاجماع في كتبهم في غير هذه
المسألة غير نافع، فضلا عن هذه المسألة، مع أنه قوى نجاستها في
" التذكرة " (2) وهو ينافي الاجماع.
وتوهم: أن استثناء الاستنجاء في كلامهم، شاهد على أن الغسالة من
غيره نجسة، في محله، ولكنه ليس في كلام القائلين بالطهارة، مع أن
خصوصية المستثنى، تدل على أن مفروض كلامهم وجود العين النجسة
في الغسالة، فما استشهد به الهمداني (رحمه الله) في المقام (3)، لا يخلو عن غرابة.
تنبيه: في تقديم أخبار طهارة الغسالة على غيرها عند التعارض
لو سلمنا دلالة الأخبار في المسألة على النجاسة والطهارة،
فلا يمكن الجمع بينهما بحمل بعضها على الغسلة الأولى، والآخر على
الثانية، لعدم الشاهد عليه، فتصل النوبة إلى علاجها، ويتعين

1 - تحرير الأحكام: 6 / السطر 9.
2 - تذكرة الفقهاء 1: 36.
3 - مصباح الفقيه، الطهارة: 61 / السطر 11 وما بعده.
120

المراجعة إلى ما يدل على الطهارة، لموافقتها للكتاب، ومخالفتها للعامة،
فإن النجاسة قول أبي حنيفة وبعض الشافعية (1)، بل وهو قول الشافعي،
لذهابه إلى النجاسة في الأولى (2)، وهذا يقتضي نجاستها فيما لا يحتاج
إلى التكرر.
فصل
في ماء الاستنجاء
والمراد منه يأتي تفصيلا في طي المباحث الآتية - إن شاء الله
تعالى. -
والذي ينبغي أن يشار إليه: هو أن القائل بطهارة الغسالة، لا يكون
في مخلص هنا، لأن ماء الاستنجاء الذي هو مورد البحث، الماء الذي
يكون فيه عين النجاسة والقذارة، وقد مر أنه نجس في تلك المسألة (3).
نعم، ربما يخطر بالبال دعوى: أن المراد من " ماء الاستنجاء " هو
المستعمل لرفع خباثة البول أو الغائط الذي استنجي منه بالأحجار
قبله، حتى لا يبقى عين العذرة في الماء، فتكون هذه الغسالة - كغسالة
سائر النجاسات - طاهرة شرعا.

1 - لاحظ المغني، ابن قدامة 1: 21 / السطر 12، المجموع 1: 158 / السطر 15.
2 - تذكرة الفقهاء 1: 37.
3 - تقدم في الصفحة 98.
121

ولكنه مشكل إثباته حسب ما يتراءى من الأدلة كما سيأتي ذكرها،
فما في " العروة الوثقى " من اشتراط الأمر الخامس في طهارة ماء
الاستنجاء (1) - وهو عدم وجود الأجزاء المرئية - في غير محله، وإلا فنحن
في مخلص.
محتملات حكم ماء الاستنجاء
فبالجملة: بناء على الأعم كما هو الأظهر، فهل هو نجس؟ قضاء لحق
القواعد الأولية، ووفاقا لجماعة ك‍ " المعتبر " والشهيد (2)، وإليه كان
يميل الوالد المحقق - مد ظله - وإن أيد القول بالطهارة في
تقريراته (3).
وقضيتها ترتيب جميع آثار النجاسة الشرعية حسب أدلتها، إلا ما
خرج بالدليل، كجواز الصلاة في الثوب الملاقي، وأما طهارة الثوب -
بحيث كان يجوز شرب الماء الملاقي معه - فهي ممنوعة، إلا بدعوى
اقتضاء الأدلة إياها، وهذا هو معنى " العفو " المزبور في كلماتهم.
وأما الاحتمالات الأخر في المراد من " العفو " ككونه معفوا عنه من
جميع الجهات (4)، فهو لا يساعد مع اعتبار النجاسة في الشرع كما لا يخفى.

1 - العروة الوثقى 1: 47 - 48، فصل في المياه، الماء المستعمل في الوضوء، المسألة 2.
2 - المعتبر 1: 90، ذكرى الشيعة: 9 / السطر 9.
3 - الطهارة (تقريرات الإمام الخميني (قدس سره) الفاضل اللنكراني: 55 (مخطوط).
4 - مفتاح الكرامة 1: 94 / السطر 21.
122

أو كونه معفوا عنه في جميع الجهات، إلا رفع الحدث والخبث (1)،
فهو أيضا غير موافق للاعتبار.
أو هي طاهرة شرعا ونتيجتها جواز ترتيب جميع آثار الطهارة
وأحكامها الغيرية والنفسية إلا ما خرج بدليل خاص، كل ذلك بناء على
ثبوت الاطلاق في أدلة أحكام النجاسات، وهذا هو رأي الأكثر، وعليه
الفتاوى بظاهرها من القديم والجديد (2)، وهو المستفاد من كلمات
المخالفين (3).
أو يفصل بين المستعمل في البول فينجس، والمستعمل في الغائط
فيعفو، أو يكون طاهرا على الخلاف في المراد من " الاستنجاء " في الأخبار
وبحسب كتب اللغة وآراء اللغويين.
أو يقال: بالتفصيل الذي احتملناه، وهو أن ماء الاستنجاء إن كان من
قبيل الغسالة فهو طاهر، وإن كان مندرجا في أدلة انفعال القليل - بأن
تكون العين النجسة موجودة فيه - فهو نجس (4)، فلا يكون مخصوصا بحكم
إلا على القول بنجاسة الغسالة.

1 - مدارك الأحكام 1: 125.
2 - شرائع الاسلام 1: 8 تذكرة الفقهاء 1: 37، مجمع الفائدة والبرهان 1: 288 - 289،
مستند الشيعة 1: 96.
3 - المغني، ابن قدامة 1: 21.
4 - تقدم في الصفحة 121.
123

مفاد المآثير الواردة في ماء الاستنجاء
إذا عرفت ذلك، فلا بد من النظر إلى روايات المسألة، حتى يتبين
الحق من بين تلك المحتملات.
فمنها: ما رواه " الكافي " و " التهذيب " بسند معتبر عن الأحول، قال:
قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أخرج من الخلاء، فأستنجي بالماء، فيقع ثوبي في
ذلك الماء الذي استنجيت به.
فقال: " لا بأس به " (1).
ورواه " الفقيه " وزاد: " وليس عليك شئ " (2).
وفي دلالتها على الطهارة إشكال، لأن الظاهر رجوع الضمير في
قوله: " لا بأس به " إلى الثوب، ويؤيده ما في " الفقيه " من قوله: " وليس
عليك شئ " بل ربما يؤيد هذا التعبير نجاستها، كما لا يخفى.
وفي خروجه من الخلاء واستنجائه خارجه، دلالة على أن العين
القذرة ليست في الماء، واحتمال كونها في الموضع وبقائها بعد الزوال في
الماء بعيد، لأن المتعارف في منطقة السائل خلافه، وبالرجوع إلى
وضع حال تلك المنطقة، يظهر أن المحل والمقعد ليس ملوثا بعين
النجس والعذرة، بل من المحتمل قويا بناؤهم على الاستنجاء بالأحجار

1 - الكافي 3: 13 / 5، تهذيب الأحكام 1: 85 / 223، وسائل الشيعة 1: 221 - 222،
كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 13، الحديث 1.
2 - الفقيه 1: 41 / 162.
124

أولا، لئلا تتلوث ثيابهم، ثم التطهير بالماء، فلا يستفاد من ترك الاستفصال
في خصوص هذه الرواية شئ.
ومنها: " العلل " بإسناده عن يونس بن عبد الرحمن، عن رجل من أهل
المشرق عن العنز، عن الأحول (1) - وفي " الوسائل ": عن الغير أو عن
الأحول - قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال: " سل ما شئت " فارتجت
علي المسائل.
فقال: " سل، ما بدا لك ".
فقلت: جعلت فداك، الرجل يستنجي، فيقع ثوبه في الماء الذي
يستنجي به.
فقال: " لا بأس ".
فسكت فقال: " أو تدري لم صار لا بأس به؟ ".
قلت: لا والله جعلت فداك.
قال: " إن الماء أكثر من القذر " (2).
وفي سنده مضافا إلى القطع، اختلاط، ولو كفانا رواية يونس بن عبد
الرحمن - لكونه من أصحاب الاجماع، مع إشكال فيه خصوصا (3) - فهو،
وإلا فالرواية ساقطة، مضافا إلى اشتمالها على التعليل المعرض عنه.
هذا بحسب فهم الأصحاب.

1 - علل الشرائع: 287 / 1.
2 - وسائل الشيعة 1: 222، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 13، الحديث 2.
3 - لاحظ تنقيح المقال 3: 338 / 13357، معجم رجال الحديث 20: 209.
125

وأما على ما شرحناه (1)، فإن هذه الرواية تبعد تعدد سؤال الأحول
منه (عليه السلام) فتكون واحدة، وهو تارة: نقلها بتمامها، وأخرى: نقلها مختصرا مع
حذف بعض الخصوصيات، لرعاية حالات الراوي والسائل عنه، أي
الأحول. فهي معتبرة.
ولكنها قاصرة عن الدلالة على الطهارة، لأن مفروض السؤال
خروجه من الخلاء، وقضية التعليل أنه استنجى من البول، لما مر من أن
أكثرية الماء وزنا ومقدارا، لا تورث رفع النجاسة، فهي الأكثرية بمعنى
الغلبة (2)، وهي لا تتصور إلا في الاستنجاء بالبول، وتكون إشارة إلى
قوله (عليه السلام): " مثلي ما على الحشفة " (3) فإنه كما يشير إلى قاهرية الماء
على ما على الحشفة، فهذه أيضا مثلها، أو تكون الأجزاء الملتصقة بمحل
الغائط، فانية في الماء المستنجى به، فلا يكون الماء الوارد عليه
متنجسا به، كما عرفت في الغسالة (4).
هذا، ونفي البأس الظاهر في نفيه عن المسؤول عنه - وهو الثوب
- أعم من الطهارة.
ومنها: ما رواه " التهذيب " بسند معتبر، عن محمد بن نعمان، عن أبي
عبد الله (عليه السلام) قال قلت له: أستنجي، ثم يقع ثوبي فيه وأنا جنب.

1 - تقدم في الصفحة 105 - 106.
2 - تقدم في الصفحة 105.
3 - تهذيب الأحكام 1: 35 / 93، وسائل الشيعة 1: 344، كتاب الطهارة، أبواب أحكام
الخلوة، الباب 26، الحديث 5.
4 - تقدم في الصفحة 105.
126

فقال: " لا بأس به " (1).
وهذا هو الأحول أيضا، كما عرفت تفصيله.
وفي كونها رواية ثالثة إشكال، لاتحاد الموضوع والسائل
والمسؤول منه، والظاهر وحدتها، وفي قوله: " وأنا جنب " أيضا شهادة على
أن الاستنجاء كان من البول، لما مر تفصيله، مع ما عرفت من قصور دلالتها
على الطهارة (2).
ومنها: ما رواه " التهذيب " بسند معتبر، عن عبد الكريم بن عتبة
الهاشمي، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يقع ثوبه على الماء
الذي استنجى به، أينجس ذلك ثوبه؟
فقال: " لا " (3).
وهي ظاهرة بدوا، في أن الاستنجاء كان من الغائط، وقضية ترك
الاستفصال عدم الفرق بين حالين: حال وجوده في الماء، وعدمه، وظاهر
الذيل طهارة الماء، لأن المتفاهم العرفي أن المنجس ينجس، وإذا قيل:
" هو لا ينجس " فهو كاشف عن انسلاب موضوعه، فيكون طاهرا في نظر
الشرع.

1 - تهذيب الأحكام 1: 86 / 227، وسائل الشيعة 1: 222 - 223، كتاب الطهارة،
أبواب الماء المضاف، الباب 13، الحديث 4.
2 - تقدم في الصفحة 105.
3 - تهذيب الأحكام 1: 86 / 228، وسائل الشيعة 1: 223، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المضاف، الباب 13، الحديث 5.
127

توهم اختصاص الاستنجاء بغسل موضع الغائط وجوابه
إن قلت: الاستنجاء من النجو، وهو ما يخرج من البطن من ريح أو
غائط، فلا وجه لا رادة البول منه، ولذلك ألحقوه به حكما، للغلبة وأمثالها.
قلت: قال في " الأقرب ": " استنجى منه استنجاء خلص، والشجرة
قطعها من أصولها، وحاجته منه استخلصها، والرجل غسل موضع النجو، أو
مسحه بالحجر أو المدر (1).
والأول: مأخوذ من استنجاء الشجرة، لأنه يزيل الأثر.
والثاني: من استنجاء النخلة، لالتقاط رطبها، لأن المسح لا يقطع
النجاسة، بل يبقي أثرها، انتهى ما في " المصباح " انتهى (2).
وبعد المراجعة إلى موارد الاستعمال في الأخبار، يعلم أن الاستنجاء
المستعمل في المآثير، ليس مأخوذا من النجو، أو يكون استعماله في
الأعم إلى حد صار متعارفا، فعن عمار الساباطي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:
سألته عن الرجل إذا أراد أن يستنجي بالماء، يبدأ بالمقعدة أو الإحليل؟
قال: " بالمقعدة، ثم الإحليل " (3).
وعنه أيضا يقول: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " لو أن رجلا أراد أن

1 - أقرب الموارد 2: 1276.
2 - المصباح المنير: 72.
3 - الكافي 3: 17 / 4، وسائل الشيعة 1: 323، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة،
الباب 14، الحديث 1.
128

يستنجي من الغائط... " (1).
وهكذا مما يشهد على الأعمية في محيط الروايات، فتأمل (2).
فتحصل إلى هنا: أن الروايات الثلاث واحدة، ولا ظهور لها في أن
موردها كان من ماء الاستنجاء بالمعنى الأخص الذي هو المقصود هنا من
إثبات طهارته.
عدم شمول معتبر الهاشمي لصورة وجود أجزاء الغائط في الماء
ويبقى المعتبر الأخير، وفي إطلاقه نظر، لأن ترك الاستفصال المؤدي
إلى الاطلاق، مشروط بعدم انصراف، وهذا هنا غير معلوم، لأن احتمال تعارف
كون محل الغائط والاستنجاء متعددا قريب، وقضية التعليل في الرواية
السابقة (3)، ظهور هذه الرواية في الاستنجاء البولي، أو الغائط الذي
غلب عليه الماء، ويكون أكثر منه.
فبالجملة: الذي هو الأوفق بالقواعد، أن غسالة الاستنجاء - كغسالة
سائر النجاسات - تكون طاهرة، بشرط عدم وجود عين النجس في الماء
والغسالة، وإلا فهو نجس، فلا خصوصية لماء الاستنجاء.
وأما اختصاصه بالسؤال، فهو لأجل شدة الابتلاء به ووقوع الثوب

1 - تهذيب الأحكام 2: 201 / 789، وسائل الشيعة 1: 318، كتاب الطهارة، أبواب أحكام
الخلوة، الباب 10، الحديث 3.
2 - تهذيب الأحكام 1: 209 / 606، وسائل الشيعة 1: 357 - 358، كتاب الطهارة، أبواب
أحكام الخلوة، الباب 35، الحديث 2.
3 - تقدم في الصفحة 125.
129

فيه، لعدم الوسائل المتعارفة في اليوم.
تذييل: في أن العفو عن ماء الاستنجاء خاص لا عام
قضية ما تقرر هي النجاسة، وعدم العفو عن الملاقي فيما يشترط
فيه الطهارة، ومع قطع النظر عما أبدعناه، فهل في مفروض المسألة يكون
طاهرا، أو نجسا؟
لا يبعد قوة القول الثاني، مع العفو في خصوص الملاقيات على
وجه خاص، وهو عفوها فيما يشترط فيه الطهارة شرعا كالعبادات.
وأما جواز شرب الماء الملاقي له، أو الملاقي للثوب الملاقي، فهو
أيضا ممنوع، وذلك لأن مقتضى الروايات الثلاث ليس إلا العفو، وقضية
الرواية الأخيرة وإن كانت الطهارة، ولكنها إذا قيست على الأدلة الناطقة
بالنجاسة في القليل، وإذا لوحظت الطريقة العقلائية في القذارات،
لا يستظهر منها إلا نفي الحكم بلسان نفي الموضوع، ضرورة أن الشرع
لا يتخذ سبيلا خاصا في التنجيس، وإذا كانت المياه القليلة - حسب الأدلة
الأولية - نجسة، فلا يستفاد من هذه المآثير الخروج التخصيصي،
لقصورها، بل غاية ما يستفاد منها جواز ترتيب آثار الطهارة، كما لا يستفاد
منها تصرف الشرع في منجسية الأنجاس.
فإذا كانت المسألة على مبنى العفو، فلا يجوز سائر الاستعمالات، من
غير فرق بين نفس الماء، وبين ملاقياته، إلا جواز الاستفادة من ملاقياته فيما
يشترط فيه الطهارة.
130

بل في إلغاء الخصوصية بالنسبة إلى استعمال ملاقيه في رفع
الخبث والحدث إشكال، فضلا عن نفسه.
والظاهر أن هذا العفو مخصوص بالمستنجي، فلا عفو بالنسبة إلى
غيره، لأن المتفاهم العرفي كون الحكم تسهيليا على مبنى قاعدة نفي
الحرج، وهذا مخصوص به، ولا يشمل غيره، فلو أصاب ثوب غيره بماء
استنجى به الآخر، فلا يجوز فيه الصلاة حسب القواعد والصناعة
العلمية بالقطع واليقين.
توهم عموم رواية الكاهلي والجواب عنه
وأما توهم دلالة الرواية التي نقلها " الوسائل " بسند معتبر عن
الكاهلي، عن رجل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت: أمر في الطريق، فيصب
علي الميزاب في أوقات أعلم أن الناس يتوضأون.
قال: " لا بأس، لا تسأل عنه " (1).
بناء على كون المراد من " الوضوء " الاستنجاء كناية، كما أفاده (قدس سره) (2)،
فهو في غاية الوهن، لعدم معلومية وجه نفي البأس، وقد مر أن ذلك كما
يحتمل كونه لأجل طهارته، أو معفويته بالنسبة إلى الكل، يمكن أن
يكون لأجل اشتباهه في الموضوع، فإن المراد من الموضوع ليس
الاستنجاء، بل المراد أنه يلازمه طبعا واستظهارا، فنفى البأس عنه، ونهى

1 - وسائل الشيعة 1: 222، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 13، الحديث 3.
2 - نفس المصدر، ذيل الحديث 3.
131

عن السؤال، لا لقائه في الشبهة، والله العالم.
فما تسلمه الأصحاب (رحمهم الله) على العفو: بأنه معفو مطلقا، أو معفو في
غير استعماله في رفع الحدث، أو هو والخبث (1)، غير متين، بل قضية
العفو هو الجمود على مقدار الدليل، وهو قاصر عن شمول أزيد مما
شرحناه، فتدبر تعرف.
تنبيه: حول مسلك الشيخ الأعظم في نجاسة الماء دون تنجيسه
قد سلك الشيخ الأعظم (قدس سره) مسلكا، صار نتيجته نجاسة الماء، وعدم
تنجيسه الثوب، ونتيجة ذلك طهارة الثوب، فيجوز شرب ما يلاقيه (2)، وأما
على العفو فلا يجوز ذلك أيضا عندنا، كما عرفت.
وغاية ما أفاد: " أن في المسألة عمومات ثلاثة:
أولها: أن النجس منجس.
وثانيها: المتنجس منجس.
وثالثها: الماء القليل يتنجس بملاقاة النجاسة.
ومورد النزاع هو ملاقاة الثوب لماء الاستنجاء، فإن قلنا: بطهارة ماء
الاستنجاء، لزمنا رفع اليد عن العموم الأول، وإن قلنا: بنجاسة الماء
وطهارة الثوب، لزمنا رفع اليد عن العموم الثاني.

1 - لاحظ مفتاح الكرامة 1: 94 / السطر 29، مدارك الأحكام 1: 125، العروة الوثقى 1:
46 - 47 فصل في المياه، الماء المستعمل في الوضوء، الهامش 4 و 5.
2 - الطهارة، الشيخ الأنصاري، 1: 346.
132

وبعد العلم بلزوم رفع اليد عن أحدهما، يقع التعارض بين هذين
العمومين، وبعد التساقط يرجع إلى العموم الثالث، وهو نجاسة الماء
القليل بملاقاة النجاسة.
ومعنى هذا أن ماء الاستنجاء نجس، ولكنه للأدلة الخاصة في
المسألة لا ينجس شيئا " انتهى على ما في تقريرات بعض المعاصرين (1).
مناقشة ما أفاده الشيخ الأعظم (قدس سره)
أقول: ليس الأمر كما أفاده، فإن العموم الثالث لا أصل له، ضرورة
أن معنى عموم منجسية النجس أو المتنجس، هو انفعال الماء القليل
بالملاقاة، لأنه أحد الأشياء التي ينجسها، فهاهنا عمومان طوليان:
أحدهما: أن النجس منجس.
والثاني: أن المتنجس منجس.
ولا ريب: أن تخصيص الأول، لا يستلزم تخصيص الثاني، بل يلزم
التخصص والخروج الموضوعي، فيدور الأمر بين تخصيص كل واحد بأدلة
المسألة بعد العلم بالخروج، وقد تقرر عدم قيام الدليل العقلائي على
تعيين أحد التخصيصين (2).
هذا، بل التحقيق: أنه لا عموم في المسألة إلا واحد، وهو " أن
النجس منجس " والقول بتنجيس المتنجس، يتم على القول: بأن

1 - دليل العروة الوثقى 1: 174 - 175.
2 - تقدم في الصفحة 130.
133

المتنجس هو النجس لغة وعرفا، فيشمله العموم الأول، فينحصر العموم
في المقام بواحد، وهو " أن النجس منجس " فإن ثبتت نجاسة الماء
المستنجى به، فيشمله العموم المزبور، وإلا فلا بد حينئذ من المراجعة
إلى الأدلة المتكفلة لصغرى الكبرى المزبورة.
وتلك الأدلة بين ما يقتضي انفعاله، كأدلة انفعال الماء القليل، وبين
ما يقتضي لا انفعاله، وهي أدلة المسألة، وحيث هي أخص من الأولى، تصير
النتيجة عدم ثبوت الصغرى للعموم المذكور.
نعم، بناء على ما عرفت منا: من أن قضية الجمع بين أدلة انفعال
الماء القليل وما ورد هنا، هو العفو (1)، فيثبت نجاسة الماء المستنجى
به، ويكون منجسا، لاندراجه تحت الكلي المزبور، إلا أن الشرع ألغى
شرطية الطهارة في الثوب ونحوه في الصلاة ونحوها، فيبقى حكم نجاسته
ومنجسية النجس، باقيا على حاله، فالعمومات الثلاثة رجعت إلى
العموم الواحد غير المخصص، والذي هو المخصص عموم شرطية
طهارة الثوب واللباس، فيما يشترط فيه طهارته، فافهم واغتنم.
فما أفاده (رحمه الله) هنا وعقبه أتباعه في كتبهم، كله خال عن التحصيل،
والأمر سهل.

1 - تقدم في الصفحة 130.
134

بحث: هل يجوز رفع الحدث والخبث بماء الاستنجاء بناء على طهارته؟
بناء على نجاسة ماء الاستنجاء، فعدم نفوذ استعماله في الخبث
والحدث واضح، لأن الطهارة شرط في مطهرية المياه، كيف؟! ومعطي
الشئ لا يكون فاقده.
وأما بناء على طهارته، فهل يترتب عليه جميع أحكامها من الشرب
وغيره كما قواه " الحدائق " و " المستند " (1) واحتمله الأردبيلي (رحمه الله) وبعض
آخر (2)؟
أو لا يترتب عليه إلا أحكام خاصة، فلا يجوز رفع الحدث والخبث
به، ولا يجوز استعماله في الوضوء والغسل المندوبين. نعم، لا يجب
الاجتناب عن ملاقياته.
ولا أظن التزام أحد بعدم جواز استعماله في الخبث ثانيا، بل الظاهر
أن ذلك من ثمرات الخلاف في طهارته ونجاسته، كما في " المدارك "
و " المعالم " و " الذخيرة " (3).
أو يفصل بين رفع الخبث والحدث، ويلحق بالثاني الوضوء
والغسل المندوبين؟

1 - الحدائق الناضرة 1: 469 و 477، مستند الشيعة 1: 97.
2 - مجمع الفائدة والبرهان 1: 289، جامع المقاصد 1: 129 - 130، مدارك الأحكام 1: 124.
3 - مدارك الأحكام 1: 126، لاحظ مفتاح الكرامة 1: 95 / السطر 2، ذخيرة المعاد:
144 / السطر 5.
135

وإليه ذهب الأصحاب (1)، وإن كان في الالحاق المزبور خلاف، وقال
" الجواهر " بجواز ذلك (2)، ومنعه الشيخ (3)، وهو الظاهر من " المدارك "
وغيره، لما عرفت أن ثمرة الخلاف عندهم استعماله ثانيا في رفع الخبث،
فيعلم منه ممنوعية ذلك في الطهارة المعنوية مطلقا.
والذي هو الأوفق بالقواعد الصناعية: ما أفاده " الحدائق " (4) لعدم
رجوع الاجماعات المحكية إلى محصل، وما استدل به الفقيه
الهمداني (5) من رواية ابن سنان (6)، لا يرجع إلى ما يركن إليه، مع ضعف
سندها.
وأما الذي هو الأقرب إلى فهم العرف والذوق السليم: أن
النظافة والطهارة المعنوية غير حاصلة بمثله (7).
ولنعم ما أفاده الوالد المحقق - مد ظله - هنا - فيما نسب إليه من
التقرير - " وهو دعوى انصراف أدلة الوضوء والغسل - المشروعين
لحصول التنظيف مقدمة لعبادة المعبود جل اسمه - عن الوضوء
والغسل بماء الاستنجاء، بل ينكرون المتشرعة على القائل به، بحيث

1 - لاحظ العروة الوثقى 1: 47 فصل في المياه، الماء المستعمل في الوضوء، مستمسك
العروة الوثقى 1: 228، مهذب الأحكام 1: 255.
2 - جواهر الكلام 1: 357.
3 - الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 350.
4 - الحدائق الناضرة 1: 477.
5 - مصباح الفقيه، الطهارة: 67 / السطر 2.
6 - تهذيب الأحكام 1: 221 / 630.
7 - والآن هو الليلة التاسعة عشرة من رمضان سنة 1388 (منه (قدس سره).
136

يجعلونه كالأحكام المبتدعة. كما أنه لا يبعد انصراف الأدلة الواردة في
التطهير من النجاسات عن التطهير بهذا الماء وأمثاله " (1) انتهى.
ولقد مضى منا بعض الجهات الأخر المورثة لمنع طهورية الماء
المستعمل في الأحداث، فضلا عن هذا الماء (2).
وأما جواز شربه فهو مشكل، لأنه يعد من (الخبائث).
نعم، في حرمة كل خبيث عرفي إشكال أيضا، فلا تغفل.
فصل
هل يجوز رفع الحدث والخبث بالغسالة بناء على طهارتها؟
بناء على نجاسة الغسالة، فلا ريب في سقوط أحكامها، من رافعيتها
للحدث والخبث.
وأما على القول بطهارتها كما هو الأقرب، فهل هي كغسالة الاستنجاء
على القول بطهارتها، أم هي تختص بدليل؟
الظاهر هو الأول، فتأتي الوجوه المزبورة والأدلة المذكورة هنا من
غير فرق.
نعم، قد يتوهم: أن الاجماعات المحكية عن أساطين الفقهاء - على

1 - الطهارة (تقريرات الإمام الخميني (قدس سره) الفاضل اللنكراني: 58 (مخطوط).
2 - تقدم في الصفحة 93.
137

عدم رافعيتها للحدث - مصبها هذا الماء، فهو القدر المتيقن الذي لا بد من
الالتزام به.
وأنت خبير: بأن هذا التقريب يستلزم وهن الاجماعات المنقولة،
لاحتمال كون ذلك من صغريات الاجماعات على عدم مطهرية المنجس،
ولا يكون مخصوصا بهذه المسألة، وهذا الاحتمال قوي جدا، فلا يقتضي
شئ منها.
ومن العجب، توهم بعض المعاصرين كفاية رواية عبد الله بن سنان
الماضية عنها (1)، لدلالتها على ممنوعية الاستعمال في الحدث - سواء
كانت طاهرة أو نجسة - بإلغاء خصوصية الوضوء (2)!!
وأنت خبير: بأنها - مضافا إلى ضعف سندها بأحمد بن هلال (3)، وعدم
انجبارها بالشهرة العملية - غير تامة دلالة، ضرورة أن ذيلها: " وأما الماء
الذي يتوضأ الرجل به، فيغسل وجهه ويده في شئ نظيف، فلا بأس أن يأخذه
غيره ويتوضأ به " قرينة على أن النظر إلى اعتبار النظافة العرفية في
ماء الوضوء، من دون النظر إلى الاستعمال في الخبث أو الحدث.
مع أن المفروض في صدره أنه قال: " لا بأس بأن يتوضأ بالماء
المستعمل ".

1 - مستمسك العروة الوثقى 1: 220 و 228.
2 - تهذيب الأحكام 1: 221 / 630، وسائل الشيعة 1: 215، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المضاف، الباب 9، الحديث 13.
3 - أحمد بن هلال العبرتائي، كان غاليا، متهما في دينه، وقد روى أكثر أصول أصحابنا.
لاحظ رجال النجاشي: 83 / 199، الفهرست، الشيخ الطوسي: 36 / 97.
138

وقال: " الماء الذي يغسل به الثوب أو يغتسل به الرجل من الجنابة،
لا يجوز أن يتوضأ منه وأشباهه " فإنه ليس ظاهرا في الثوب المفروض
نجاسته، ولا في مفروضية نجاسة البدن.
مع أن كلمة: " أشباهه " ظاهرة في رجوع الضمير إلى " الماء " أي
أشباهه في الكثافة العرفية، فتسقط الرواية عن الاستدلال المقصود
في هذه المواقف جدا.
نعم، هي شاهدة على ما أبدعناه: من قصور أدلة مطهرية المياه عن
إثبات طهورية هذه المياه، بعد كون الموضوعات عرفية.
مع أن دعوى الانصراف التي سمعت من الوالد المحقق قريبة (1)،
فلا ينبغي توهم الملازمة بين الطهارة الشرعية والطهورية العرفية،
ولا يصح نسبة هذا إلى الشريعة المقدسة المنزهة عن جميع الأوساخ
والأنجاس، الظاهرية والباطنية.
فصل
في شروط طهارة ماء الاستنجاء
قد اعتبروا في طهارة ماء الاستنجاء شروطا، نشير إليها إجمالا وإن قد
مضى أن ماء الاستنجاء لا يكون عندنا مخصوصا بحكم (2)، لأن عين القذارة إن

1 - تقدم في الصفحة 136.
2 - تقدم في الصفحة 123.
139

كانت موجودة فهو نجس، قضاء لحق أدلة انفعال القليل.
واحتمال كونه طاهرا، بدعوى التعارف الخارجي بين محل الغائط
والاستنجاء، أو التعارف الخارجي على بقاء عين الغائط في المحل،
وبقائه في الماء، غير بعيد بدوا، ولكن الروايات الثلاث (1) التي عرفتها
- بعد رجوعها إلى واحدة - اشتملت على فرض الخروج عن الخلاء، وهذا
يورث قوة احتمال كون المتعارف في زمن المآثير خلاف ذلك، أو كان كلا
الأمرين متعارفا، فلا يتم التمسك بالاطلاق السكوتي في غيرها لترك
الاستفصال، فتدبر.
وإن كانت غير موجودة، فهو كالغسالة في الأحكام، وعليه تسقط
المباحث الكثيرة التي أشير إليها في الكتب المفصلة والفروع
المختلفة، التي أشار إليها " العروة " وغيره (2). ولكن مع ذلك كله، لا بأس
بالإشارة إلى بعض الجهات اللازمة.
فبالجملة: قد اشترط الأعلام شروطا في المسألة:
فمنها: عدم تغيره بالنجاسة
فإنه مع التغير يصير نجسا.

1 - وسائل الشيعة 1: 221 - 223، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 13،
الحديث 1 و 2 و 4.
2 - العروة الوثقى 1: 47 - 48 فصل في المياه، الماء المستعمل في الوضوء المسألة 2،
مستند الشيعة 1: 96 - 98.
140

وقد يشكل ذلك:
تارة: لأجل ما مر من الاشكال في نجاسة المتغير بالنجس، بمعنى أن
الماء إذا لاقى نجسا ثم تغير، وكان زمان التغير غير زمان الملاقاة، فهل هو
ينجس أم لا؟
ظاهر جماعة نجاسته مع فرض الاستناد (1)، وقضية ما تحرر منا في
محله طهارته (2)، لأن الماء المتغير بالنجس يتنجس، لأجل تغيره به
وملاقاته، وأما نفس التغير المستند إليه - مع عدم الملاقاة حين التغير
وبعده - فلا يورث النجاسة، والملاقاة السابقة غير كافية.
ففي المسألة إذا لاقى ماء الاستنجاء مع نجاسة المحل، ثم بعد ذلك
تغير، فنجاسته ممنوعة، لما عرفت.
وأما توهم: أن المفروض في الشرط هنا، هو كون النجاسة موجودة
فيه حال تغيره، فهو فاسد، لأن ماء الاستنجاء عندهم نجس حينئذ وإن لم
يتغير، كما يأتي في الشرط الخامس (3)، فهذا الشرط لا يكون مفيدا إلا في
الصورة السابقة.
وأما إذا تغير في المحل، وكان ذلك - أي زمان التغير والاتصال
بالنجس - واحدا، فإن كان ذلك متعارفا في الأغلب، فلا بد من الالتزام

1 - العروة الوثقى 1: 31 - 32 فصل في المياه، المسألة 14، التنقيح في شرح العروة الوثقى
1: 103، مهذب الأحكام 1: 152.
2 - تقدم في الجزء الأول: 115 وما بعدها.
3 - يأتي في الصفحة 146 - 147.
141

بطهارته، فرارا عن حمل الأدلة على الأفراد النادرة.
وإن كان ذلك غير متعارف كما هو الظاهر، ففي هذه الصورة يمكن
الالتزام بنجاسته.
وأخرى: لأجل دعوى الاطلاق السكوتي في أخبار المسألة (1).
وتوهم دلالة التعليل على عدم تغيره بها، في محله، ولكنه في محل
المنع سندا ودلالة (2).
وثالثة: لأجل عدم ثبوت نجاسة الماء المتغير بكل نجس، إلا على
القول باعتبار النبوي (3)، وقد مضى سبيله سندا ودلالة (4)، أو القول بإلغاء
الخصوصية، وهو هنا ممنوع، فإن إطلاقات هذه المسألة مانعة عن إلغاء
الخصوصية في تلك المسألة.
فلو سلمنا التعارض بين أدلة نجاسة المتغير، وأدلة طهارة ماء
الاستنجاء، أو سلمنا تقدم تلك الأدلة على هذه الأدلة - لجهات مذكورة في
المفصلات، ومنها: تقدم العموم على الاطلاق، على إشكال فيه أيضا -
فلا نسلم صغرى المعارضة بينهما، فتصير النتيجة العمل بهذه المآثير،
فيكون الماء المتغير في الفرض المزبور طاهرا.

1 - لاحظ التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 381.
2 - تقدم في الصفحة 125.
3 - المعتبر 1: 40، وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 1، الحديث 9.
4 - تقدم في الجزء الأول: 116 و 137 و 189 - 190.
142

ولكن بعد اللتيا والتي، ما هو الأظهر هي النجاسة، لأن الاطلاق
السكوتي في مآثير هذه المسألة محل منع، وذلك لما تقرر أن من شرائطه
عدم الغلبة والانصراف (1)، وهو هنا ممنوع، ضرورة ندرة اتفاق تغير الماء
بمجرد الملاقاة مع نجاسة المحل، فيتعين المراجعة إلى أدلة نجاسة
المتغير، ويتم إلغاء الخصوصية في تلك الأدلة.
ومنها: ما أفاده الشهيد (رحمه الله) في " الذكرى "
وهو ازدياد وزن الماء على وزن النجاسة (2)، وحكاه " المعالم " عن
" نهاية " العلامة (3)، وقربه الشيخ (4)، وذلك لقوله (عليه السلام): " لأن الماء أكثر
من القذر " (5) ولا يتصور الأكثرية إلا بحسب الوزن، فلا بد منها في عدم
الانفعال، ولا يكفي عدم زيادة وزنها عليه، وهذا هو الأنسب بكونه شرطا، لا
الفرض الأخير وإن نسب الثاني إليهم (قدس سرهم).
وأنت خبير: بأن التعليل إما ساقط كما عليه المتأخرون (6)، أو يكون

1 - كفاية الأصول: 288 - 289، تحريرات في الأصول 5: 433.
2 - ذكرى الشيعة: 9 / السطر 11.
3 - لم نعثر على الحاكي، انظر مفتاح الكرامة 1: 95 / السطر 19، نهاية الإحكام 1: 244.
4 - الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 351 - 352.
5 - علل الشرائع: 287 / 1، وسائل الشيعة 1: 222، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المضاف، الباب 13، الحديث 2.
6 - مستمسك العروة الوثقى 1: 225 - 226، التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 362.
143

ناظرا إلى الأكثر في الغلبة، كما هو الأقرب عندنا، وقد مضى وجهه (1).
وهنا وجه آخر: وهو أن التعليل ناظر إلى أن علة عدم تنجسه، عدم
غلبة ريح العذرة على الماء، بل الماء غالب على ريح الجيفة،
فلا يتنجس، فكأن عدم تنجسه بالملاقاة كان مفروضا، وعدم تنجسه بالتغير
معلل بذلك.
فبالجملة: إن الأكثرية لا تتصور بين المتباينين إلا في الوزن، ولكن
مورد التعليل هو الاستنجاء بالبول، لما عرفت (2)، فهذا تعليل لإفادة عدم
انفعال الغسالة، من غير فرق بين الاستنجاء وغيره، لأن الماء غالب على
النجاسة الزائلة به.
ومنها: عدم وصول نجاسة إليه من خارج
وذلك قضاء لحق أدلة انفعال القليل، وعدم ثبوت إطلاق في أدلة
المسألة.
وبعبارة أخرى: روايات المقام متعرضة لحكم حيثي، ولا ينبغي
الخلط بين الحيثيات.
نعم، على فرض الملازمة النوعية الخارجية بين محل الاستنجاء،
وبعض النجاسات الأخر، فلا بد من القول بطهارته، كما في صلاة الجماعة

1 - تقدم في الصفحة 105.
2 - تقدم في الصفحة 105 - 106.
144

الذين كانوا يصلون خلف يهودي من المدينة إلى خراسان، فإن تصحيح
تلك الصلاة يلازم صحتها جماعة، للزوم زيادة الركن في تلك المدة
الطويلة، أو غيره من الوظائف المتخلف عنها المأموم، فإنه لا معنى إلى
أنه حكم حيثي، ضرورة أن المستفتي يريد إعادة صلاته عند التخلف،
وترك الاستفصال يؤدي إلى تركها، كما لا يخفى.
ومنها: عدم التعدي الفاحش على وجه لا يصدق معه " الاستنجاء "
وهذا ليس من الشروط كما هو الواضح، وحكمه واضح. هذا على
القول بنجاسة الغسالة.
وأما على القول بطهارتها، فلا حاجة إلى رعاية هذا الشرط،
لاشتراك ماء الاستنجاء والغسالة في هذه الجهة، بعد لزوم مراعاة الشرط
الآتي.
ولو شك في موضع أنه تجاوز عن المحل أم لا، فإن قلنا: بإطلاق أدلة
الاستنجاء فهو، وإلا فيرجع إلى عموم أدلة الانفعال، وقضية ما سلف منا، أنه
لا إطلاق في أدلة الاستنجاء إلا إطلاقا سكوتيا ناشئا من ترك الاستفصال (1)،
وقد تقرر أن من شرائطه عدم الغلبة والانصراف (2)، وهذا فيما نحن فيه
ممنوع، ضرورة أن الغالب عدم التجاوز إلى حد يشك في ذلك.

1 - تقدم في الصفحة 129 و 140.
2 - تقدم في الصفحة 143، الهامش 1.
145

فما قد يقال: " من المراجعة إلى إطلاقات أدلة الاستنجاء " ناشئ عن
توهم الاطلاقات اللفظية لها، مع أن الأمر ليس كذلك.
ومنها: أن لا يخرج مع البول والغائط نجاسة أخرى مثل الدم
وفي كونه شرطا وراء الشرط الأسبق منع.
ويدل عليه: أن أدلة المسألة قاصرة، فأدلة انفعال القليل محكمة.
وقد يشكل: بأن قضية رواية محمد بن نعمان الأحول الماضية (1)، أن
النجاسة الخارجة ليست مورثة للمنع، لقوله فيها: " وأنا جنب " فإن
المتفاهم العرفي - كما مر وجهه (2) - أنه كان حين البول جنبا، وكان رأس
إحليله ملوثا بالمني، فعند ذلك ومع إلغاء الخصوصية، يكون طاهرا ولو
كان الخارج دما.
نعم، إذا كانت النجاسة من الخارج على الوجه الماضي في
الشرط الأسبق (3)، فلا يمكن الغاؤها، لأن خصوصية التسهيل في اعتبار
طهارة ماء الاستنجاء، ملحوظة ظاهرا.
وقد يقال: بأن الدم الخارج إذا كان يعد من البول والغائط - أي

1 - تهذيب الأحكام 1: 86 / 227، وسائل الشيعة 1: 222 - 223، كتاب الطهارة،
أبواب الماء المضاف، الباب 13، الحديث 4.
2 - تقدم في الصفحة 119.
3 - تقدم في الصفحة 144.
146

يقال: " إن بوله فيه الدم " أو " في غائطه الدم " - فإنه يكون طاهرا (1)،
لاطلاق أدلته، وترك استفصاله عند السؤال، مع أنه لو كان مورثا
لنجاسته، كان عليه ذلك.
وفيه ما عرفت: من أن التعارف شرط في لزوم السؤال (2)، وهو ممنوع
في المثال المزبور، وهكذا إذا كان غائطه دما، لخروجه عن المتعارف،
وعدم ثبوت الاطلاق اللفظي.
ومنها: أن لا يكون فيه أجزاء من الغائط
وفي عده شرطا آخر إشكال، بل منع.
ويدل عليه: أن أدلة المسألة، ناظرة إلى ملاقاة الماء مع النجاسة
في المحل، دون الغائط الخارجي والبول الخارجي، وأدلة انفعال الماء
القليل محكمة، كما عرفت (3).
وقد يشكل: بأن المتعارف وحدة مكان الخلاء والاستنجاء، فلو كان
الماء المزبور نجسا، تلزم لغوية اعتبار طهارته، أو العفو عن ملاقيه،
وكيف ارتضوا بإلحاق ماء الاستنجاء من البول - للغلبة والتلازم الخارجي
- بماء الاستنجاء من الغائط، ولا يكونون راضين بذلك؟! وإليه أشار

1 - العروة الوثقى 1: 47 - 48 فصل في المياه، الماء المستعمل في الوضوء، المسألة 2.
2 - تقدم في الصفحة 129.
3 - تقدم في الصفحة 140.
147

المحقق الوالد - مد ظله - (1).
ويمكن دعوى: أن ما هو اليوم متعارف هي وحدة المكان، ولكن
المتفاهم من قول الأحول: " أخرج من الخلاء فأستنجي " (2) هو أن عادته
كانت على الخروج، ولعل في تلك الأزمنة كانت الحفر المعدة لذلك، غير
مستعدة للاستنجاء عليها بالماء، أو لم تكن حفرة، بل كان يضع على المفازة،
ولا يتمكن من التطهير - متعارفا - إلا بالخروج عن محيط الخلاء، فعليه
لا يمكن التمسك بالاطلاق السكوتي، ولذلك قلنا: بعدم التفاوت بين
الغسالة وماء الاستنجاء، وقلنا: باشتراكهما في الحكم، وسقوط جميع ما
أفاده القوم من رأسه هنا (3).
ومنها: عدم خروج شئ متنجس معه
سواء كان متنجسا بالعذرة، أو كان متنجسا قبل البلع فخرج معها. وهذا
أيضا ليس شرطا على حدة، إلا أن الإشارة التفصيلية إليه لايضاحه
لأرباب الفضل وطلاب العلوم.
واستقواه " الجواهر " وأيده الشيخ (قدس سرهما) (4) ومنعه الآخرون، فقالوا:

1 - الطهارة (تقريرات الإمام الخميني (قدس سره) الفاضل اللنكراني: 57 (مخطوط).
2 - الكافي 3: 13 / 5، وسائل الشيعة 1: 221 - 222، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المضاف، الباب 13، الحديث 1.
3 - تقدم في الصفحة 129.
4 - جواهر الكلام 1: 357 - 358، الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 352.
148

بالطهارة في الفرض الأول، قائلين: " إن المتنجس وإن كان كالمنجس
الأجنبي الذي عرفت نجاسة الماء به، ولكن قصور الأدلة ممنوع عن
شموله:
للغلبة أولا.
ولكونه مغفولا عنه ثانيا.
ولأن النجاسة الآتية من قبل الغائط، ليست أشد منه، فكيف يمكن
الالتزام بأن ملاقاته مع العذرة لا تورث نجاسته، ولكن ملاقاته مع
المتنجس به تورثها؟! " (1).
وأنت خبير: بأن الاطلاق السكوتي، لا يكون سندا إلا في صورة
الملازمة النوعية، وهي ممنوعة جدا كما هو المفروض، وهو كون
الخارج غير ملوث بالعين، بحيث كان هو في الماء، دون الأجزاء العينية
من القذارة، لأنه مع تلاصق تلك الأجزاء بتلك الأجسام الطاهرة الخارجة،
لا يكون الماء عندهم طاهرا، لما مر من الشرط السابق، فعلى ما تقرر يقوى
ما سلكه العلمان في النظر.
وأما كونه مغفولا عنه، فلا يفيد شيئا.
وأما الوجه الثالث الذي استظهرناه من كلام والدي المحقق
- مد ظله - ففيما كان مفروض المسألة ما ذكرناه، فلا معنى للاستبعاد، وفيما
كان مفروض المسألة ملاقاة الماء مع الجسم المتنجس عند التطهير

1 - العروة الوثقى 1: 48 فصل في المياه، الماء المستعمل في الوضوء، المسألة 2،
مستمسك العروة الوثقى 1: 238، مهذب الأحكام 1: 265.
149

والإزالة، بحيث كان مع الجسم أجزاء القذر، حتى يصدق " الاستنجاء " وإلا
فمجرد ملاقاته معه في الباطن، لا يورث - عندهم - قذارته الشرعية.
فبالجملة: مفروض المسألة هو كون ماء الاستنجاء ملاقيا في المحل
للجسم، ولا يبقى فيه من أجزاء العذرة شئ، بل تستهلك فيه، وهذا فرض غير
قابل للاتفاق، وعند ذلك لا معنى للتمسك بتلك الاطلاقات السكوتية، فلا تغفل.
ومنها: سبق الماء على اليد
فلو انعكس فالأدلة قاصرة، وأدلة انفعال القليل محكمة. ووجه
القصور تعارف السبق.
وهذا شرط محكي عن العلامة على ما قيل (1)، ولكن المتأخرين غير
راضين به (2)، لعدم التعارف المزبور إلا بمقدار تعارف عكسه.
والانصاف: خلافه، ضرورة أن المراجعة إلى الوجدان، قاضية بأن
استقذار الطبع، يؤدي إلى الاستباق إلى الماء، وقلما يتفق عكسه، فاليد
المتنجسة بالعذرة تؤثر في نجاسة الماء، لكونها من النجاسة غير
القائم على عفوها دليل.
وهنا وجه آخر لنجاسته: وهو أن اليد السابقة تتلوث بعين

1 - حكي هذا القول عن بعض ولم نعثر على من عزاه إلى العلامة ولا يوجد في كتبه، لاحظ
مشارق الشموس: 254 / السطر 4، الحدائق الناضرة 1: 476، جواهر الكلام 1: 358.
2 - العروة الوثقى 1: 48 فصل في المياه، الماء المستعمل في الوضوء، المسألة 3، التنقيح
في شرح العروة الوثقى 1: 384.
150

العذرة، فلا تكون إزالتها عنها من الاستنجاء وإن كان يستنجى بها أيضا، فكأن
هذه النجاسة من الخارج، فلا يكون هذا الشرط أيضا شرطا مستقلا.
نعم، يخطر بالبال دعوى: أن العرف لا يجد الخصوصية بين
السبقين، وينسب التوهم إلى الوسوسة.
فتحصل: أن قضية الاطلاق السكوتي، هو الأخذ بالقدر المتيقن، إلا
في القيود الغالبية والمتعارفة، وإلا في الموارد التي يصح فيها إلغاء
الخصوصية. ومقتضى القواعد عند الشك في المتعارف، هو الأخذ بالقدر
المتيقن أيضا.
ومما ذكرناه يظهر وجه النظر في صورة تقارن الصب والملاقاة
إشكالا وجوابا، كما أن تمسك الأصحاب (رحمهم الله) طرا بإطلاقات الأدلة (1)، ساقط
وغفلة كلا.
ومنها: قصد الاستنجاء
فلو لاقت يده نجاسة المحل لأجل أمر آخر، ثم طرأ عليه قصد
الاستنجاء، فلا يكون طاهرا، لما مر مرارا.
مع أن هذا ليس شرطا، لأن معنى " الاستنجاء " هو القصد إلى
الخلاص من النجو أو معنى أعم كما مر (2).

1 - لاحظ الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 353، التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 385،
مهذب الأحكام 1: 265.
2 - تقدم في الصفحة 128.
151

ودعوى: أن استباق اليد إلى المحل لأمر آخر في أثناء التخلية أو
بعدها متعارف، لامساس الحاجة كثيرا إليه، أقرب من دعوى استباق اليد
إلى المحل من صب الماء بلا جهة تصفية، مع تنفر الطباع عنه.
فالشرط المزبور الذي صدقه الأعلام كلهم (1)، ممكن إسقاطه إذا
تعقبه قصد الاستنجاء على الفورية العرفية.
بل الأمزجة اليبوسية كثيرا ما تحتاج إلى استعمال اليد في الفراغ،
والمعروف أن أمزجة الحجازيين من أيبس الأمزجة، فعليه يشكل
تصديق الشرط المزبور، ولكنه أحوط جدا.
نعم، الملاقاة بغير التعقب بالاستنجاء، أو مع التعقب المتأخر جدا،
تورث نجاسة الماء، سواء أزال نجاسة يده بماء آخر، أو أزالها بماء
الاستنجاء.
نعم، على القول بطهارة الغسالة، فلا عبرة بهذه الشروط، كما أشير
مرارا (2).
ومنها: عدم الاعراض عن القصد المزبور
فلو أخل باستدامته، فإن رجع فورا فهو، وإلا ففي طهارته ونجاسته

1 - لاحظ جواهر الكلام 1: 358، الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 353، العروة الوثقى 1:
48، فصل في المياه، الماء المستعمل في الوضوء، المسألة 4.
2 - تقدم في الصفحة 140 و 148.
152

وجهان، بل قولان: ظاهر الشيخ في كتابه هو الأول (1)، وصريحه في
" حاشية النجاة " الاشكال فيها، خلافا للمعروف بين المتأخرين (2).
والوجه - طهارة ونجاسة - واضح، لما عرفت (3).
ولو شك في ذلك، فمقتضى ما تقرر هو الأخذ بالقدر المتيقن، إلا على
القول بسراية إجمال المخصص والمقيد إلى العام والمطلق، كما هو
الأقوى.
ولكن ربما يتوهم هنا، جريان استصحاب العفو عن النجاسة، لأنه
إذا قصد الاستنجاء، ولاقت يده نجاسة المحل، فهي نجاسة معفوة غير مؤثرة
في الماء، وإذا أعرض يشك في ارتفاع عفوه (4)، فتأمل.
وغير خفي: أن مقتضيات المباني في معفوية هذه النجاسة أو غيرها
مختلفة، وفي النتيجة يشكل جريانه، كما لا يخفى.
ومما يؤيد طهارته وإن عاد بتأخير إلغاء الخصوصية عرفا، على
الوجه الذي أشير إليه (5)، ويتقوى ذلك بالنظر إلى أن مبنى هذا الحكم،
تسهيل الأمر على العباد، فليتدبر.

1 - الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 353.
2 - العروة الوثقى 1: 48، فصل في المياه، الماء المستعمل في الوضوء، المسألة 4،
مستمسك العروة الوثقى 1: 239، ولاحظ مهذب الأحكام 1: 265.
3 - تقدم في الصفحة 151 - 152.
4 - مهذب الأحكام 1: 265.
5 - تقدم في الصفحة 151.
153

ومنها: أن يكون المخرج طبيعيا بالذات أو بالعرض
والدليل ما أشرنا إليه كرارا، من تمامية أدلة انفعال القليل، وقصور
أدلة المسألة عن شمول المخرج غير المعتاد.
وهذا الشرط هو المصرح به في كلمات جملة من الأساطين، مع
نفيهم الفرق بين الطبيعي وبين غير الطبيعي الذي صار عاديا (1).
وقد يقال: بأن " الاستنجاء " من " النجو " وهو ما يخرج من البطن،
ريحا كان، أو قذرا، فإن كان معناه هو كون المخرج متعارفا (2)، فلا يشمل
العارض غير الطبيعي، وإن كان بالنسبة إلى شخص المستنجي طبيعيا.
وإن كان معناه الأعم - أي الخارج من البطن من غير دخالة المخرج
الخاص في ذلك (3) - فلا فرق بين الطبيعي بالعرض، والحادث في ساعة
لأجل قصه.
أقول: أولا: إن اشتقاق " الاستنجاء " من " النجو " - وهو جامد - خلاف
الأصل، وسيأتي توضيحه في الفصل الآتي (4)، ومضى الايماء إليه (5).
وثانيا: مجرد صدق " الاستنجاء " غير كاف، لعدم الاطلاق اللفظي في

1 - جواهر الكلام 1: 357، العروة الوثقى 1: 48 فصل في المياه، الماء المستعمل في
الوضوء، المسألة 6، مهذب الأحكام 1: 266.
2 - التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 386.
3 - مستمسك العروة الوثقى 1: 239.
4 - يأتي في الصفحة 156 - 157.
5 - تقدم في الصفحة 128.
154

المسألة، والاطلاق السكوتي مشروط بشرط مضى كرارا (1)، وهو هنا مفقود،
فما صنعه المتأخرون - من التمسك بالاطلاق (2) - ذهول وغفلة، فلا تغتر
بما في صحفهم.
والذي هو الدليل الوحيد، إمكان دعوى إلغاء الخصوصية عرفا،
أو الاشكال في صحة التمسك بأدلة انفعال الماء القليل، لما مر (3) وتقرر
منا في محله: من أن القوانين الكلية، تصير معنونة بالقيود اللاحقة،
وتصير قانونا وحدانيا، ويسري من الكل إلى الآخر خصوصيات الكلام، من
الاجمال وغيره، وعند ذلك يتعين القول بالطهارة، إلا في مورد علم بأنه
خارج عن أدلة الاستنجاء، فافهم واغتنم.
وقضية ما ذكرناه إشكالا عليهم، عدم الفرق بين كون المخرج غير
عادي خلقة، أو صار غير عادي بعدا، وهكذا سواء كان منسدا المخرج
الطبيعي، أو كان مفتوحا، والجواب عن الكل أيضا واحد، كما لا يخفى.
ومنها: كون الماء واردا على المحل والمخرج
فإذا وضع مقعده في ماء قليل، ففي كونه طاهرا إشكال وإن صدق عليه
" ماء الاستنجاء " وذلك لأن في المآثير كلا وردت كلمة " باء " الظاهرة في أن

1 - تقدم في الصفحة 143.
2 - جواهر الكلام 1: 357، الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 351، مصباح الفقيه،
الطهارة: 66 / السطر 13.
3 - تقدم في الصفحة 129 - 130 و 134.
155

الماء يصب على المخرج، مع أنه المتعارف، فمجرد صدق " الماء
المستعمل في الاستنجاء " غير كاف لطهارته.
ومن العجيب، عدم تعرض الأصحاب (رحمهم الله) لمثله!! مع أنه شرط
اصطلاحا في المقام، دون المذكورات، ومعتبر حسب الأدلة، وقد مضى أنه
أيضا خارج عن بحث الغسالة موضوعا (1)، فلا ينبغي الخلط.
فصل
في حكم ماء الاستنجاء من البول
لا شبهة في ماء الاستنجاء من الغائط، وأما الاستنجاء من البول فهو -
حسب نص الأصحاب (2) - أيضا مثله، ولكن حسب الدليل مشكل، وذلك
لأن " الاستنجاء " من " النجو " ولا نص في خصوص البول.
وغاية ما قيل في المقام دليلا: " إن الغلبة والتلازم الخارجي،
تستلزم طهارته، وإلا يلزم لغوية طهارة ماء الاستنجاء " (3).
وفيه: أولا: أن ذلك لا يستلزم طهارة الاستنجاء من البول، إذا كان غير
مصحوب مع الآخر، مع أن الفتوى على عدم الفرق بين الحالتين: حالة

1 - تقدم في الصفحة 98.
2 - مدارك الأحكام 1: 124، مستند الشيعة 1: 98، الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 350 -
351، العروة الوثقى 1: 46 - 47، فصل في المياه، الماء المستعمل في الوضوء.
3 - مستمسك العروة الوثقى 1: 224، التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 383 - 384.
156

الانضمام، وحالة الانفراد.
وتوهم إمكان التجاوز من ذلك إلى حالة الانفراد، في غاية الوهن،
لأن الفرار من لغوية طهارة ماء الاستنجاء أو معفويته، لا يقتضي أزيد من
طهارته حال الانضمام.
وثانيا: الغلبة في عصر صدور المآثير ممنوعة جدا، لأن المتعارف
- كما يظهر - هو تعدد مكان الاستنجاء والخلاء، فلا يسري ماء الأول إلى
الثاني، ولا سيما مع قلة الماء المستعمل في البول، وخصوصا إذا كانت
الأرض رخوة، فإنه عندئذ يمنع السراية، فلا ملزم بطهارته.
فالذي هو الأقرب: أن " النجو " وإن كان بمعنى العذرة، أو ما يخرج من
البطن، ولكن كون " الاستنجاء " مشتقا من كلمة " نجو " ممنوع، بل الظاهر أن
المراجعة إلى " المصباح " وغيره - كما مرت عين عبارته (1) - يعطي أن
" الاستنجاء " بمعنى الاستخلاص، ولمشابهة المادة مع مادة " النجو " صار
ظاهرا في ذلك، وإلا ففي المآثير كثيرا ما يستعمل في الأعم.
أو يقال: إن " الاستنجاء " في محيط الأخبار مستعمل في الأعم، وصار
ذلك حقيقة ثانوية لهذه الكلمة (2)، كما قيل بذلك في كلمة " السهو " التي
كثيرا ما استعملت في معنى الشك، حتى صار ظاهرا فيه، ومنسلخا ومهجورا
عن المعنى الأول (3).

1 - تقدم في الصفحة 128.
2 - مصباح الفقيه، الطهارة: 66 / السطر 9 - 10.
3 - مرآة العقول 15: 227، الحدائق الناضرة 9: 293، جواهر الكلام 12: 418، الخلل
في الصلاة، الشيخ الأنصاري: 116.
157

بعض الشواهد من المآثير على استعمال " الاستنجاء " في الأعم
وقد مرت شواهد من المآثير على الدعوى المزبورة (1)، ومنها: ما في
رواية نشيط بن صالح - التي هي مورد العمل - عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:
سألته كم يجزي من الماء في الاستنجاء من البول؟ فقال:... (2).
ومثلها ما عن حريز، عن زرارة قال: " كان يستنجي من البول ثلاث
مرات " (3) وفي ذلك غنى وكفاية.
وفي أحاديث البلل المشتبه - المذكورة في الباب الثالث عشر
من أبواب نواقض الوضوء - روايتان تدلان على أعمية الاستنجاء: ففي
رواية عبد الملك بن عمرو، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الرجل يبول، ثم
يستنجي، ثم يجد بعد ذلك بللا (4).
وفي رواية سماعة - في حديث - قال: " فإن كان بال قبل أن يغتسل
فلا يعيد غسله، ولكن يتوضأ ويستنجي " (5) ولعل المتتبع يجد أكثر من ذلك.

1 - تقدم في الصفحة 128 - 129.
2 - تهذيب الأحكام 1: 35 / 93، وسائل الشيعة 1: 344، كتاب الطهارة، أبواب أحكام
الخلوة، الباب 26، الحديث 5.
3 - تهذيب الأحكام 1: 209 / 606، وسائل الشيعة 1: 344، كتاب الطهارة، أبواب أحكام
الخلوة، الباب 26، الحديث 6.
4 - تهذيب الأحكام 1: 20 / 50، وسائل الشيعة 1: 282 - 283، كتاب الطهارة، أبواب
نواقض الوضوء، الباب 13، الحديث 2.
5 - تهذيب الأحكام 1: 144 / 406، وسائل الشيعة 1: 283، كتاب الطهارة، أبواب نواقض
الوضوء، الباب 13، الحديث 6.
158

فتحصل: أن " الاستنجاء " وإن قيل: " في اللغة بمعنى غسل موضع
النجو أو مسحه " (1)، ولكن في الروايات استعمل في الأعم، بحيث صار
حقيقة فيه، أو مرادا منه.
أو يقال: بأنه ليس بمعنى الغسل من النجو، بل هو بمعنى
الاستخلاص من البول أو الغائط، وقد مضى شطر من البحث حوله (2)،
فلا نعيده.
هذا مع أن قضية ما مضى منا، أن المتبادر من مورد بعض روايات
المسألة، هو الاستنجاء من البول، كما ذكرنا وجهه (3)، فعليه يكون طاهرا.
مع أن مقتضى ما تحرر منا في الغسالة (4) تأكد طهارته، وهذا من غير فرق
بين الغسالة الأولى والثانية، ولعل ما نسب إلى الشيخ من الفرق (5)،
محمول على صورة وجود الأجزاء العينية فيها.
ثم إن هنا فروعا لا نحتاج إلى ذكرها، لوضوحها عند القائلين بطهارة
الغسالة، كما أن إطالة البحث فيما سبق أيضا، غير مناسب على الرأي
المتصور، - والله الهادي إلى سواء السبيل -.

1 - مهذب الأحكام 1: 254.
2 - تقدم في الصفحة 128.
3 - تقدم في الصفحة 129.
4 - تقدم في الصفحة 117.
5 - مفتاح الكرامة 1: 93 / السطر 30، انظر الخلاف 1: 179.
159

فصل
في حكم ملاقي الغسالة
بناء على طهارة الغسالة، يسقط البحث المشهور بين الأعلام حول
حكم ملاقيها.
وأما بناء على نجاستها، فهل حكم الملاقي حكم المحل قبل
الغسل (1)، أو حكم المحل بعده (2)، أو يفصل فملاقي الغسالة الأولى - في
مثل البول مثلا - يحتاج إلى التعدد، وملاقي الثانية لا يحتاج إليه (3)؟
فيه وجوه، بل أقوال لا وجه لنا للغور فيها.
والذي ينبغي: هو الإشارة إلى المسألة ووجوهها، فاعلم: أن هذه
المسألة أيضا تسقط على القول بعدم منجسية المتنجس.
وأيضا لا بد من أن تعلم: أن البحث ليس حول كيفية تطهير المتنجس
بعين النجس، حتى يتمسك بإطلاق صحيحة زرارة في دم رعاف (4) لا ربط
له بهذه المسألة، والعجب من بعض الفضلاء - وإن لا تعجب منه -

1 - لاحظ الدروس الشرعية 1: 122، روض الجنان: 158 / السطر 28.
2 - مفتاح الكرامة 1: 92 / السطر 12.
3 - لاحظ روض الجنان: 159 / السطر 1.
4 - تهذيب الأحكام 1: 421 / 1335، وسائل الشيعة 3: 479، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات، الباب 42، الحديث 2.
160

تمسكه هنا بمثلها (1)!! بل البحث حول ملاقي الغسالة، والعلم بعدم
الفرق بين الموضوعات، منشؤه التمسك بالقياس، أو الأولوية التي يأتي
الايماء إليها (2).
مقتضى الأصل العملي في المقام
فإذا عرفت ذلك، فالذي هو المشهور أن قضية الاستصحاب، هو بقاء
النجاسة إلى أن يعلم المزيل، وبناء على تمامية الشبهة المعروفة عن
النراقي - من معارضة الاستصحابات الحكمية باستصحاب العدم
الأزلي (3) - يشكل جريانه، كما اعتقده الفاضل المزبور (4).
وهذا أيضا من العجائب! وذلك لعدم تمامية الشبهة، كما تقرر في
محلها (5)، ولأن النجاسة ليست من الأحكام الشرعية، وضعية وغير
وضعية، بل هي من الموضوعات العرفية كالبيع، فتارة: أمضاها الشرع،
وأخرى: لم يمضها، وقد مر تفصيل ذلك وخصوص هذه المسألة في
المباحث الماضية (6).
نعم، قد يشكل جريان الاستصحاب، لأجل أن النجاسة والطهارة،

1 - التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 396.
2 - يأتي في الصفحة 164.
3 - مناهج الأحكام والأصول: 237 - 238.
4 - التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 395، مصباح الأصول 3: 36.
5 - تحريرات في الأصول 8: 525 - 529.
6 - تقدم في الجزء الأول: 27.
161

ذات تشكيك اعتباري عرفا وشرعا، حسب اختلاف أحكامهما في الشرع
المقدس، واختلاف العرف في الاهتمام بالتطهير، والذي هو المقطوع به
هي المرتبة التي تزول بالغسلة الأولى، والمرتبة الثانية مشكوكة
الوجود، فيكون من قبيل الأقل والأكثر، وقضية استصحاب العدم النعتي،
عدم تنجس الملاقي إلا بالمرتبة الأولى المعلومة من دليل منجسية كل
متنجس، فالثوب الملاقي للغسالة، مسبوق بعدم تنجسه بنجاسة ضعيفة
وشديدة، والمقدار المنتقض هو تنجسه بالأولى، دون الثانية فليتدبر، فعلى
هذا يشكل ما أفاده القوم هنا.
وأما على تقدير جريان استصحاب النجاسة، فمقتضى الاعتبار أن
الغسالة حاملة للنجس، فإن كانت حاملة للبول فيجب التعدد، بناء على
لزوم تعدده فيه، وإن كانت حاملة لغيره فلا، وعليه لا يجب التعدد في
الملاقي للغسلة الثانية، لأن البول قد زال بالأولى.
نعم، يجب مرة قضاء لحق تنجسه به، كما هو المفروض، ولا يجب
التعفير في ملاقي الغسلة الأولى في ولوغ الكلب، لأن النجاسة زالت
بالتراب.
نعم، إذا لاقى التراب شيئا ونجسه، فلا يبعد كون الاعتبار مساعدا على
وجوب التعفير.
ولكن الأدلة في تلك المسألة، ربما تكون ناهضة لرفع الشك،
لاطلاقها السكوتي، وأما في الغسالة فلا دليل يعتمد عليه إلا رواية
162

العيص بن القاسم (1)، التي قد مضى حالها (2).
مع أن في دلالتها إشكالا، لأجل أن مجرد الأمر بالغسل، غير كاف
لتمامية المطلوب، لامكان إهماله، ضرورة أن المقصود تارة: يكون ذكر
كيفية التطهير، وأخرى: يكون ذكر عدم نجاسة أمر آخر تعرضه، كما في
تلك الرواية، فإن المتفاهم منها، إفادة عدم نجاسة غسالة الوضوء، دون
نجاسة ملاقي غسالة البول، فلا تذهل، فما أفاده القوم من تمامية
الدلالة، غير مقبول جدا (3).
التمسك بالنبوي لنفي تعدد الغسل وجوابه
وقد يتوهم: أن إطلاق النبوي المشهور المثبت لطهورية الماء (4)،
يكون رافعا للشك، لأن كيفية التطهير والتنجس ليست من المخترعات
الشرعية، ولا تصرف للشارع فيهما، فيرجع إلى العرف، وهو القاضي
بالمرة (5).
وفيه: - بعد الغض عن السند - أن المراد من " الطهورية " فيه غير

1 - ذكرى الشيعة: 9 / السطر 17، وسائل الشيعة 1: 215، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المضاف، الباب 9، الحديث 14.
2 - تقدم في الصفحة 113.
3 - مصباح الفقيه، الطهارة: 61 / السطر 17 - 21، مستمسك العروة الوثقى 1: 230.
4 - المعتبر 1: 40، وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1،
الحديث 9.
5 - مستمسك العروة الوثقى 1: 243.
163

واضح، والقدر المتيقن منه هو اعتصام الماء، لقوله: " لا ينجسه شئ " ولو
سلمنا أنه في مقام إفادة أنه إذا كان لا ينجسه شئ فتطهر به عند الملاقاة،
ولكن لا نسلم كونه من هذه الجهة ذا إطلاق رافع لهذه الشكوك، ومجرد
عدم ابتكار الشرع شيئا في كيفية التطهير غير كاف، لأنه مما يصح إذا كان
الأمر كذلك في جميع التطهيرات، ولكن العرف إذا توجه إلى تصرفه في
مواضع غير عديدة في كيفية التطهير، فلا يجد بين تلك الاطلاق والنبوي
تعارضا بدويا، فيجمع بينهما بالاطلاق والتقييد. بل من هنا يتنبه إلى عدم
الاطلاق له من هذه الجهة، كما لا يخفى.
فتحصل إلى هنا، قصور الأدلة عن التعرض لحال ملاقي الغسالة،
وأن الوجوه والاعتبارات الذوقية وإن كانت تقتضي التفصيل، ولكن ذلك
مشكل جدا، كما أن الالتزام بتعدد الغسل في ملاقي غسالة ما لا تعدد فيه، أو
في ملاقي الغسالة الثانية في البول - بل الالتزام بالمرات في ملاقي
الغسلة الأخيرة في ولوغ الكلب - أشد إشكالا.
فدعوى حصول الطهارة في الملاقي للغسالة في المرة الأولى
قريبة، لعدم مساعدة العرف إلا على ذلك، لا للقياس والاستحسان، عدا ملاقي
الغسلة الأولى فيما تحتاج التعدد.
دعوى وضوح حكم الغسالة بين المعاصرين للأئمة (عليهم السلام)
ويمكن دعوى: أن المسألة لو كانت غير واضحة لأرباب الروايات
ولعلماء المذهب، لكانت مورد السؤال، فيعلم منه وضوح حكمها من الأول
164

من غير الحاجة إلى الرواية.
وقد يتمسك (1) بما رواه " الوسائل " عن عمار الساباطي، عن أبي
عبد الله (عليه السلام): أنه سئل عن رجل ليس معه إلا ثوب، ولا تحل الصلاة فيه،
وليس يجد ماء يغسله، كيف يصنع؟
قال: " يتيمم ويصلي، فإذا أصاب ماء غسله، وأعاد الصلاة " (2).
ضرورة أن عدم الحل، أعم من كونه متنجسا بالغسالة أو بغيرها.
وما رواه الكليني (رحمه الله) مرسلا، عن أبي الحسن (عليه السلام) في طين المطر:
" أنه لا بأس به أن يصيب الثوب ثلاثة أيام، إلا أن يعلم أنه قد نجسه شئ بعد
المطر، فإن أصابه بعد ثلاثة أيام فاغسله، وإن كان الطريق نظيفا لم تغسله " (3).
وقضية الاطلاق أعم مما نجسه البول مثلا أو غسالته. والظاهر
أنهما معتبران.
الجواب عن مستندي الدعوى السابقة
ولكن قد تشكل الأولى: بأن كون حكم الغسالة معلوما عند
الساباطي، غير معلوم، فالاطلاق الناشئ من ترك الاستفصال، غير تام. مع أن
من شرائطه - كما مر - عدم الانصراف (4).

1 - التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 396.
2 - وسائل الشيعة 1: 485، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 45، الحديث 8.
3 - الكافي 3: 13 / 4.
4 - تقدم في الصفحة 143.
165

ولو ثبت الاطلاق، يلزم التعارض بينها وبين ما دل على التعدد في
البول. مع أن الذهن العرفي لا يرى خلافا بدويا بينهما جدا.
وتشكل الثانية: بعدم إمكان العمل بجميع مضمونها.
إثبات نجاسة ملاقي الغسالة وكفاية المرة
ولكن الذي يسهل الخطب: أن المراجعة إلى الأدلة في باب غسل
النجاسات، تورث القطع بعدم الخصوصية بين ملاقيها وملاقي غسالتها،
لو لم يحصل الظن بخفة النجاسة.
ويدل على كفاية المرة، ما في " المختلف " عن ابن أبي عقيل، عن أبي
جعفر (عليه السلام) أنه قال: " إن هذا " مشيرا إلى كوز فيه الماء " لا يصيب شيئا إلا
طهره، ولا تعد منه غسلا " (1) (2).

1 - جامع الأحاديث أبواب المياه، الباب 1، الحديث 4،] 2: 5 [وفي هذا الباب ما يكفي
الفقيه قطعا لرفع شبهته، وأن مجرد الغسل وغلبة الماء، كاف في حصول الطهارة (منه (قدس سره).
2 - مختلف الشيعة: 3 / السطر 4.
166

المبحث العاشر
في الماء المشتبه
من حيث الطهارة والنجاسة
ويتم مباحثه في فصول:
167

فصل
هل يجوز استعمال الماء المشتبهة نجاسته؟
لا شبهة في أن الماء المتنجس لا يزيل الحدث والخبث، ولو سلم
إمكان إشكال في المسألة، من حيث الأدلة عموما أو إطلاقا، ولكنه أمر
مفروغ عنه، وعليه الاجماع والاتفاق بين الفرق، ويساعده الاعتبار.
فإذا كانت النجاسة معلومة، أو قامت الحجة الشرعية العقلائية
أو التأسيسية - كالاستصحاب - عليها، فلا يجوز استعماله، وإلا ففي جواز
استعماله وعدمه وجهان:
من أن الطهارة المشروطة غير محرزة، مع لزوم ذلك قطعا، وإلا
فقضية الاستصحاب عدم إزالة النجاسة عن المحل.
ومن أن مقتضى الاستصحاب هي الطهارة، ضرورة أن الماء - بل كل
شئ - حسب الخلقة طاهر، لشهادة الوجدان، ولمراجعة الشرع بعد
تحديد النجاسات في عدد معين.
وفيما إذا احتمل اقتران النجاسة مع وجوده - بمعنى أنه وجد
169

متنجسا - يرجع إلى قاعدة الطهارة الناطقة بها الروايات:
ففي موثق عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال: " كل شئ نظيف
حتى تعلم أنه قذر، فإذا علمت فقد قذر، وما لم تعلم فليس عليك " (1).
وفي " الفقيه " قال: قال الصادق (عليه السلام): " كل ماء طاهر إلا ما علمت أنه
قذر " (2).
وفي " الكافي " وغيره، عن حماد بن عيسى، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:
" الماء كله طاهر حتى يعلم أنه قذر " (3).
وإرسال الصدوق كإسناده عند جماعة من المحققين (4)، خلافا
للتحقيق.
ورواية ابن عيسى غير معتبرة، لما في سندها الحسن بن الحسين
اللؤلؤي (5)، ورواها في موضع آخر أخذ منه (6) " الفقيه " وفي سنده أبو داود
المنشد الذي لم يثبت اعتباره، وجعفر بن محمد المجهول، فهي - على

1 - تهذيب الأحكام 1: 284 / 832، وسائل الشيعة 3: 467، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات، الباب 37، الحديث 4.
2 - الفقيه 1: 6 / 1.
3 - الكافي 3: 1 / 3، تهذيب الأحكام 1: 216 / 621، وسائل الشيعة 1: 134، كتاب
الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 5.
4 - الحبل المتين: 11 / السطور الأخيرة، لاحظ مقباس الهداية 1: 357، البيع، الإمام
الخميني (قدس سره) 2: 468.
5 - رجال النجاشي: 348 / 939، رجال الطوسي: 469 / 45، معجم رجال
الحديث 4: 308.
6 - الكافي 3: 1 / 3.
170

المشهور - غير معتبرة (1).
الاعتراض على التمسك بقاعدة الطهارة واستصحابها في المقام
وقد يشكل: بأن مفاد قاعدة الطهارة، قاصر عن إحراز الشرط المعتبر
في مطهرية الماء، وهي الطهارة الواقعية حسب الأدلة الأولية،
واستصحاب طهارة الماء لا يحرز قيد الموضوع المركب، إلا على الأصل
المثبت، ضرورة أن موضوع الدليل الاجتهادي هو " أن الماء الطاهر يزيل
الحدث والخبث " وإحراز القيد بالأصل، والمقيد بالوجدان، لا يستلزم
إحراز التقيد، كما مر مرارا (2)، فيتعين الوجه الأول.
وتوهم: أن ذلك يستلزم عدم جريان الاستصحاب فيما كانت حالته
السابقة النجاسة، لا يفيد شيئا، لأن عدم جريانه لا يورث جواز الاستعمال،
ضرورة أن إحراز الطهارة شرط كما هو المتسالم عليه، ولعل لذلك
الاشكال سكت " العروة الوثقى " عن حكم طهورية الماء المشتبه، وقال:
" الماء المشكوك نجاسته طاهر، إلا مع العلم بنجاسته سابقا " (3) مع أن
اللازم التعرض لحكم مطهريته، لأنه مورد البحث، وإلا فكل مشكوك
طاهر، من غير الاحتياج إلى عقد بحث له.
والعجب من شراح كلامه، حيث غفلوا عن الجهة المبحوث عنها

1 - لاحظ روضة المتقين 1: 32، ومرآة العقول 13: 6.
2 - تقدم في الجزء الأول: 219.
3 - العروة الوثقى 1: 49 فصل في المياه، الماء المشكوك نجاسته.
171

في المياه، وبنوا كلامهم على إثبات طهارته عند الشك (1)!! وعلى كل تقدير
يسهل الأمر.
تصحيح التمسك بالاستصحاب لاحراز طهارة ما تعلم حالته السابقة
أقول: قد مر منا، أن المطهرية بنفسها قابلة للاستصحاب (2)، ففيما
كانت له الحالة السابقة، فلا حاجة إلى استصحاب القيد وهو الطهارة،
حتى يقال: بأن الموضوع المركب لا يحرز بإحراز بعض أجزائه بالأصل،
وبعضه بالوجدان، بل الماء المشكوك طهارته مشكوك طهوريته،
والطهورية كانت مسبوقة باليقين، فتستصحب.
ولو قيل: إن المطهرية ليست من الأحكام الجعلية.
قلنا: يكفي في ذلك كونها من الأحكام الانجعالية والامضائية، فكما
أن الشرع منع مطهرية الماء المتنجس بنجاسة شرعية، كذلك عليه
إمضاء المطهرية العرفية، فهي تصير قابلة للاستصحاب.
الاستشكال فيما لم تعلم حالته السابقة وجوابه
وفيما لم تكن له الحالة السابقة، فقد يشكل الفرار من الاشكال،
لا لأجل توهم قصور الحاكمية لقاعدة الطهارة على الأدلة الأولية، فإنا قد

1 - مستمسك العروة الوثقى 1: 244، التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 397.
2 - تقدم في الجزء الأول: 32.
172

بينا القول بالأجزاء حتى في الأمارات، بل في القطع (1)، لأنه منها ومثلها في
كونه حجة انجعالية، وليست حجيته ذاتية على ما هو المشهور بين أبناء
العصر (2)، والتفصيل موكول إلى محله (3).
بل لأجل أن موضوع الدليل مركب، وهو " الماء الطاهر " إجماعا،
وقاعدة الطهارة لا تكون متعرضة إلا لكون الماء طاهرا بنحو النسبة
التامة، وأما إرجاع النسبة التامة إلى النسبة الناقصة، فهو بحكم
العقل، فلا يحرز موضوع الأدلة الاجتهادية، فما توهمه القوم وأبناء
التدقيق من كفايتها، في غير محله.
نعم، السيرة القطعية على عدم الاعتناء بمثل هذه الشبهة، ضرورة
أن بناء المتشرعة على التطهير بالمياه. مع أن العلم بطهارتها من الأمر
المعلوم عدمه، فيتعين الوجه الثاني.
التمسك بالنبوي لاثبات طهارة المياه في الشبهات الموضوعية
ثم إن مما خفي عليهم، إمكان التمسك بالنبوي (4) في موارد الشك في
طهارة المياه، معتقدين أن الأدلة الاجتهادية ليست رافعة للشك في

1 - تحريرات في الأصول 2: 301.
2 - فرائد الأصول 1: 4، كفاية الأصول: 297، فوائد الأصول 3: 6، نهاية الأفكار 3: 6.
3 - تحريرات في الأصول 6: 20 وما بعدها.
4 - " خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شئ إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه ".
المعتبر 1: 40، وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1،
الحديث 9.
173

الشبهات الموضوعية، غافلين عن أن الأمر هنا ليس كما توهموه، وذلك
لأن ما هو موضوع النبوي هو " الماء " وهو معلوم، وما هو حكمه هو
الطهورية، وهي مشكوكة، ضرورة أن الشك في طهارته يستلزم الشبهة
في طهوريته، وإذا حكم النبوي بطهورية كل ماء، يلزم منه ارتفاع الشك
في طهارته، للملازمة القطعية.
نعم، بناء على كون موضوعه هو " الماء الطاهر " فلا يمكن التمسك
كما لا يخفى.
وهذا نظير تمسكهم ب‍ (أوفوا بالعقود) (1) لصحة بعض العقود
المستحدثة، قائلين: " إن اللزوم يلازم الصحة عقلا ".
هذا كله حكم الماء المشتبه بالشبهة الموضوعية، وأما
الحكمية فقد مضت أحكامها في أول الكتاب، فراجع (2).
فصل
في حكم الشبهتين المحصورة وغيرها
إذا علم إجمالا: بنجاسة ماء في إحدى الإناءات، ولم يكن لها
الحالة السابقة، أو لو كانت لإحداها الحالة السابقة لم تكن معينة،

1 - المائدة (5): 1.
2 - تقدم في الجزء الأول: 15 وما بعدها.
174

فهل يجب الاجتناب عن الكل، أو لا يجب؟
أو يفصل بين الشبهة المحصورة وغير المحصورة؟
أو يقال: بالتفصيل بين الأحكام، فيجوز شرب الجميع أو واحد منها،
ولا يجوز التطهير به، بل يجب إراقته ويتيمم؟
وجوه، بل وأقوال، تفصيلها في الكتب الأصولية.
والذي ينبغي الايماء إليه: أن النظر هنا إلى مطهرية مثله، دون
الأحكام الأخر المشتركة معه سائر الأشياء، وقد مر ذهول " العروة " عن
ذلك (1)، ولذا فرع عليه المسائل المشتركة فيها جميع الأشياء، ومنها المياه.
جريان الأصول الترخيصية في أطراف العلم الاجمالي
أقول: قضية ما تحرر في الأصول، لزوم الاجتناب في الشبهة
المحصورة، وعدم لزومه في غير المحصورة (2)، ومقتضى ما تحرر منا في
محله: أن أدلة الأصول إذا كانت جارية في أطراف العلم الاجمالي، فلا
مانع من الأخذ بها، وتكون مقدمة على الأدلة الواقعية، بملاك تقدم الأدلة
المتكفلة للأحكام الظاهرية على الواقعية (3).
وتوهم عدم جريانها، لحصول غاياتها، كتوهم تعارضها في أطرافها (4)،

1 - تقدم في الصفحة 171.
2 - فرائد الأصول 2: 407 و 430.
3 - تحريرات في الأصول 7: 331.
4 - مصباح الأصول 2: 346.
175

لأن حصول الغاية ممنوع بالوجدان، والسقوط بالمعارضة، فرع مقاومة
الأدلة الواقعية معها.
على أن المدعى، هو تقدم ملاك الترخيص على ملاك الحكم
الواقعي المعلوم بالاجمال، ضرورة أن هذا هو مقتضى الجريان، وإلا
فالأنسب منع جريانها في أطرافها، فكما أن في الشبهات البدوية، لا يعقل
الترخيص إلا بعد مضي الشرع عن الواقع، وإلا فلو كان ملتزما بحكمه
الواقعي، فلا يعقل منه إرادة الترخيص، كذلك في المقرون بالعلم
الاجمالي، فإن له المضي عن الواقع، وجريان الأصول كاشف عن ذلك،
فلا تصل النوبة إلى الأخذ بالاطلاقات والعمومات، لأنها متوقفة على
كونها منجرة إلى الصغرى المعلومة، والعلم الاجمالي بصغراها، كاف
لولا الأصول المرخصة النافية لأثر تلك الكبريات.
فبالجملة: في المسألة (إن قلت قلتات) تعرضنا لها في كتابنا المحرر
في الأصول، ومن شاء فليأخذ منه، فإن الباب مفتوح (1).
نعم، إذا علمنا إجمالا بروح الحكم، فالترخيص في أحد الطرفين
ممتنع، فلا يجري الأصل. وتوهم مضيه هنا مناف وخلف للمفروض، وهو
العلم بروح الحكم والقطع بإرادة المولى.
فلا منع من مضيه عن حكمه في الشبهات البدوية، لأنها القدر
المتيقن من أدلة الأصول، فلا بد من ذلك قهرا.
وإن شئت قلت: مع قطع النظر عن أدلة الأصول، يجب الاجتناب في

1 - تحريرات في الأصول 7: 320 وما بعدها.
176

الشبهات المقرونة - دون البدوية - عقلا، لتمامية البيان، ومع النظر
إليها فلا بد من الالتزام بمفادها، ونتيجة ذلك مضي المولى عن حكمه - لو
كان - في البدويات، وأما في المقرونة بالعلم فلا يعلم مضيه، وبعد وجود
المطلقات الواقعية لا بد من الأخذ بها.
فعلى هذا، يتم ما أفاده الوالد المحقق - مد ظله -: من جواز جريانها
في الشبهات البدوية، دون المقرونة (1)، ويتم ما استدركناه من فرض
العلم بروح التكليف، أو احتمال التكليف الذي لا يتجاوز عنه. وأما قضية
ما سلف، فهو أن جريان الأصول في الأطراف، يستلزم سقوط الاحتمال
المزبور، فافهم وتدبر جيدا.
الروايات الظاهرة في عدم تنجيز العلم الاجمالي
ثم إن ما ذكرنا مؤيد بروايات كثيرة متفرقة:
منها: ما في " الوسائل " عن " المحاسن " عن أبي الجارود قال: سألت
أبا جعفر (عليه السلام) عن الجبن، فقلت له: أخبرني من رأى أنه يجعل فيه الميتة.
فقال (عليه السلام): " أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة، حرم في جميع
الأرضين؟! إذا علمت أنه ميتة فلا تأكله، وإن لم تعلم فاشتر وبع وكل، والله،
إني لاعترض السوق فأشتري اللحم والسمن والجبن، والله ما أظن كلهم
يسمون، هذه البربر، وهذه السودان " (2).

1 - تهذيب الأصول 2: 264.
2 - المحاسن: 495 / 597، وسائل الشيعة 25: 119، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب
الأطعمة المباحة، الباب 61، الحديث 5.
177

ومنها: معتبر حنان بن سدير قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) وأنا حاضر
عنده، عن جدي رضع من لبن خنزيرة، حتى شب وكبر واشتد عظمه، ثم إن
رجلا استفحله في غنمه، فخرج له نسل.
فقال: " ما عرفت من نسله بعينه فلا تقربنه، وأما ما لا تعرفه فكله، فهو
بمنزلة الجبن، ولا تسأل عنه " (1).
ومنها: معتبر بشير بن سلمة، عن أبي الحسن (عليه السلام) - المروية في
" الوسائل " في باب تحريم الجدي الذي يرتضع من لبن الخنزيرة -
قال (عليه السلام): " هو بمنزلة الجبن، فما عرفت أنه ضربه فلا تأكل، وما لم تعرفه
فكل " (2).
ومنها: معتبر ضريس قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن السمن والجبن في
أرض المشركين بالروم، أنأكله؟
فقال (عليه السلام): " أما علمت أنه قد خلطه الحرام فلا تأكله، وأما ما لم تعلم
فكله، حتى تعلم أنه حرام " (3).
وغير ذلك من المذكورات في " الحدائق " وغيرها (4).

1 - الكافي 6: 249 / 1، وسائل الشيعة 24: 161، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب
الأطعمة المحرمة، الباب 25، الحديث 1.
2 - الكافي 6: 250 / 3، وسائل الشيعة 24: 162، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأطعمة
المحرمة، الباب 25، الحديث 2.
3 - تهذيب الأحكام 9: 79 / 336، وسائل الشيعة 24: 235، كتاب الأطعمة والأشربة،
أبواب الأطعمة المحرمة، الباب 64، الحديث 1.
4 - الحدائق الناضرة 1: 507 - 511، جواهر الكلام 1: 295.
178

ولا ريب في أنها ظاهرة في المحصورة، بل وكلمة " العين " والضمير
في قوله: " أنه ضربه " وفي قوله: " أنه قد خلطه " يفيد أن الواجب الاجتناب
هو المعلوم التفصيلي، دون غيره. وترك الاستفصال بعد قوله: " في غنمه "
شاهد على الأعم، مع أن غنمه ليس خارجا عن الشبهة المحصورة متعارفا.
وأما ما ورد من الأمر بالقرعة في الموطوء المشتبه (1)، فهو - مضافا
إلى أن فيه وهنا، لأجل خروجه عن مصب القرعة عند العقلاء - لا يدل
إلا على أهمية حرمة الموطوء، فلا تخلط.
تنجيز العلم الاجمالي موجب للهرج والمرج في الأسواق والتجارات
فتحصل إلى هنا: أن ما أفاده العلمان المحققان، الخونساري
والقمي (صلى الله عليه وسلم): من جواز الاقتحام في جميع الأطراف، في نهاية المتانة (2).
مع أنه يلزم الهرج والمرج في الأسواق والتجارات، ضرورة أنه
قلما يتفق أن لا يعلم إجمالا بوجود حرام في مال التجار، مع عدم قيامهم
بالوظائف الشرعية، من إعطاء الزكوات والأخماس. وكونها من الشبهة
غير المحصورة، أو من الخارج عن محل الابتلاء، أو أن من شرائط التأثير
عدم لزوم الحرج والضرر، كله خال عن التحصيل من جهات عديدة.
والذي هو حكم العقل، لزوم الاجتناب من غير فرق بين المحصورة

1 - وسائل الشيعة 24: 169، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأطعمة المحرمة، الباب 30،
الحديث 1 و 4.
2 - مشارق الشموس: 281 / السطر 30، قوانين الأصول 2: 25 و 36.
179

وغير المحصورة، والخارج عن الابتلاء وغيره. وأما إذا استلزم الضرر
والحرج، فما هو اللازم منه مرفوع، دون غيره.
وهذا خلاف النصوص في المسألة المتفرقة في الأبواب
المختلفة. واختصاص ما ورد بعنوان " كل شئ فيه حلال وحرام " (1) في
الأموال المختلطة بالربا وأمثال ذلك كما قيل (2)، في غير محله. والأمر بعد
ذلك صار كالشمس وضحاها فلا تكن غافلا.
تنبيه: في الموارد الخاصة التي يجب فيها الاحتياط
هذا كله حكم كلي، وقد خرجنا عنه في مواضع، لأجل النصوص
الخاصة، أو لأجل أهمية وجدناها من الشرع حتى في الشبهات
البدوية، كالأعراض والنفوس.
ومن تلك المواقف: جواز البدار إلى الطهارة الترابية، فيما إذا
كانت أحد الإناءين معلوم النجاسة إجمالا، فإنه بمقتضى النص (3) - يجب
الاهراق، ثم التيمم، وهذا على خلاف القاعدة من غير جهة واحدة، ضرورة
إمكان التوضي بالماءين من غير لزوم نجاسة البدن، إلا احتمالا غير
مسبوق باليقين، كما لا يخفى في بعض صور المسألة.

1 - الفقيه 3: 216 / 1002، وسائل الشيعة 17: 87، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به،
الباب 4، الحديث 1.
2 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي: 33، تهذيب الأصول 2: 175.
3 - الكافي 3: 10 / 6، وسائل الشيعة 1: 151، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 8،
الحديث 2.
180

مع أن إطلاق الأمر قاض بوجوب التيمم مطلقا. وسيأتي زيادة توضيح
حول خصوص المسألة في بعض الفصول الآتية (1).
وربما يخطر بالبال على ما تقرر: أن الشبهات المقرونة بالعلم
الاجمالي، إذا كانت ذات طرفين، أو أطراف ثلاثة، أو أربعة، يجب فيها
الاحتياط، وذلك لخصوص ما في بعض النصوص: من ترتيب آثار العلم،
كما في الإناءين المزبورين، وفي القبلة المشتبهة التي يجب الصلاة فيها
إلى الجوانب الأربعة (2)، فإن من ذلك يعلم أهمية الحكم الواقعي من
الترخيص الظاهري.
ولأن نفوس المتشرعة تجد لزوم الاجتناب في هذه الفروض، وأما
إذا بلغت إلى العشرة وأزيد، فلا تجد لزوم الاجتناب عن الواحد المحتاج
إليه. وليس ذلك لما قيل أو يقال في الشبهة غير المحصورة (3)، لما ذكرنا
في محله: أن قضية القواعد هو الاجتناب من غير فرق بين الصور، حتى
صورة الخروج عن محل الابتلاء (4).
فالسيرة كما هي قائمة على عدم الاعتناء بالخارج عن محل الابتلاء،
كذلك هي قائمة على عدم الاعتناء بالخارج عن مورد الحاجة فعلا، وإن
كان يمكن اتفاق الاحتياج إليه في الزمان المتأخر، فتجويز شرب الإناءين
المعلوم أحدهما نجس أو خمر، غير ممكن حسب المرتكز الاسلامي

1 - يأتي في الصفحة 193 - 194.
2 - وسائل الشيعة 4: 310، كتاب الصلاة، أبواب القبلة، الباب 8.
3 - فرائد الأصول 2: 430، مصباح الأصول 2: 376.
4 - تحريرات في الأصول 7: 503.
181

والمغروس في أذهان المؤمنين، ويعد هذا من المنكر القطعي، فعليه يجب
الاحتياط في كل موضع يكون كذلك، على خلاف الأصل الأولي.
والاشكال في استفادة الأهمية للحكم الواقعي من الأمر بالصلاة إلى
الجوانب الأربعة: بأن ذلك قضية حكم العقل بلزوم الامتثال، مع عدم قيام
دليل مرخص يورث كفاية المأتي به عن المأمور به الواقعي، ضرورة أن
قاعدة الحل، لا تقتضي أزيد من حلية الصلاة إلى طرف، وأما أنها الصلاة
الواجدة للشرط، فلا تدل هي عليها، مثل الاشكال في صحة الصلاة في
الثوب المشتبه، فإن قاعدة الحلية، لا تورث كون الصلاة مع الشرط
المعتبر فيها، مع أن كثيرا من الأصحاب تمسكوا بها عند الشك. ولكنه عندنا
غير تام، فلتكن على ذكر حتى يأتيك بعض ما ينفعك، إن شاء الله تعالى (1).
فذلكة الكلام:
إن قضية العقل تنجز التكليف بالعلم الاجمالي، ومقتضى الجمع
بين الأصول وأدلة الأحكام في موارد العلم الاجمالي، هو الترخيص في
جميع الأطراف، بلا فرق بين المحصورة وغير المحصورة، وقضية السيرة
العملية ومقتضى الأذهان الشرعية وبعض الأدلة الخاصة، هو الاحتياط
في مواقف معينة أشير إليها، فيسقط بحث الشبهة المحصورة وغير
المحصورة، والتفحص عن المراد من الثانية موضوعا، وقد بلغت الأقوال
فيها إلى ستة.

1 - يأتي في الصفحة 188 - 189.
182

فصل
في ملاقي الشبهة المحصورة
إذا لاقى أحد أطراف الشبهة المحصورة شئ، فهل ينجس، ويجب
الاجتناب عنه مطلقا (1)، أو لا ينجس مطلقا (2)؟
أو يفصل بين صورة تقدم العلم على الملاقاة، فلا ينجس، وبين صورة
تقدم الملاقاة على العلم، فينجس (3)؟
أو يقال: بالتفصيل بينما إذا كانا مستصحبي النجاسة فينجس، وما إذا
كان أحدهما مستصحب النجاسة، فلاقى الطرف، أو لم يكن لكل واحد
منهما حالة سابقة، فلا ينجس؟
ويلحق بالصورة الأولى في التفصيل الأخير، ما إذا لاقى الطرف
الذي يجري فيه الاستصحاب.
أو التفصيل بين الطهارة والحلية، فيحكم عليه بالطهارة دون
الحلية، فيجوز استعماله في التطهير دون الشرب؟
أو غير ذلك من المحتملات، كعكس التفصيل الأخير؟

1 - منتهى المطلب: 30 / السطر 31.
2 - العروة الوثقى 1: 52 فصل في المياه، الماء المشكوك نجاسته، المسألة 6.
3 - كفاية الأصول: 411 - 412.
183

تحديد محل النزاع
والذي هو محل النزاع، ومقصود بالكلام هنا: هو ما إذا لم يكن لأحد
الإناءين مثلا، حالة سابقة من النجاسة، حتى إذا قيل بانحلال العلم بذلك -
لجريان الأصل في طرف معين، وقاعدة الطهارة في الآخر - يلزم القول
بطهارة الملاقي على تقدير، ونجاسته على تقدير ملاقاته للطرف المحكوم
بالنجاسة استصحابا.
بل المنظور في هذه المسألة، ما إذا كان الإناءان غير مسبوقين
بالنجاسة معينا أو غير معين، لأن تمام النظر حول حكم الملاقي الذي هو
خارج عن الأطراف، فلا يكون صورة تقدم الملاقاة على العلم، داخلة في
محط الكلام، على ما يتراءى من كلمات الأعلام، فازدياد الصور وتكثيرها
وإن كان في نفسه حسنا، ولكنه لا يصح هنا كما لا يخفى، فالتفاصيل المشار
إليها، كلها خارجة عن محط النزاع ومصب البحث.
لزوم الاجتناب عن ملاقي الشبهة المحصورة
فإذا علمت ذلك، فاعلم: أن التحقيق حسب ما يؤدي إليه النظر
الدقيق، هو الاجتناب، وذلك لأنا لو سلمنا أن الأصول ساقطة، أو ليست
هي جارية، وأن الأصل في الملاقي وإن كان مقدما على الأصل في الملاقي
فلا يعارضه، لسقوطه بالمعارضة.
وأن الأصل في الطرف وإن كان غير مقدم على الأصل في الملاقي، إلا
184

أن ما مع المتقدم متقدم، فلا يكون له المعارض فرضا.
وأن العلم الاجمالي بالتكليف في الأطراف، لا يعقل تنجيزه التكليف
الأول في الملاقي، ولا علم إجمالي آخر بالتكليف الثاني، ضرورة أن من
شرائط تأثيره العلم بحدوث التكليف، مع أن العلم الثاني ليس متعلقا
بتكليف ثان، وأن المتنجز لا يتنجز.
ولكن مع ذلك كله، في المسألة بعض شبهات تورث لزوم الاجتناب،
ضرورة أن نظر العقل الدقيق فيما إذا علمنا إجمالا: بوجوب أحد الشيئين،
ثم توجهنا إلى أن الواجب أحد الثلاثة، هو سقوط الصورة العلمية
الأولية، وحدوث الصورة العلمية الأخرى.
فإذا علمنا: بنجاسة أحد الإناءين، وعلمنا بحرمة شرب واحد غير
معين منهما، ثم حصلت الملاقاة، فيسقط العلم الأول، ويصير ثلاثيا، بمعنى أنا
بعد ذلك نعلم: بأنه إما يكون المبغوض هذا الإناء، أو المبغوض هذا وذاك
معا، فلا ينبغي الخلط بين نظر العقل والعرف.
هذا مع أن فيما سلمناه نظرا، بل أنظارا تأتي تدريجا: وهو أن الحكم
بنجاسة الملاقي غير ممكن، ولا بنجاسة الملاقي، وهذا واضح لا غبار
عليه، ولكن إدراك الملازمة بين الملاقي والملاقى، يستلزم لزوم
الاجتناب، والتفكيك لا يمكن إلا بالأصل التعبدي، فإن ثبت أن الأصل في
الطرف، لا يعارض الأصلين في الملاقي والملاقى معا فهو، وإلا فلا بد من
الاحتياط.
وغاية ما قيل هنا: أن الأصل الجاري في الطرف، مقدم على الأصل
الجاري في الملاقي، لأن الأصل الجاري في الملاقي مقدم عليه، وهو في
185

عرض الأصل الجاري في الطرف، وما هو مع المقدم مقدم (1).
وأنت خبير: بفساد ذلك جدا، لأن ملاك التقدم مفقود هنا، وليس في
الملاكات المذكورة في محلها هذا الملاك التوهمي، فإذن لا وجه
لجريان الأصل المسببي في الملاقي، بعد سقوط الأصل السببي بمعارضته
مع الطرف، لأن الطرف كما هو يعارض الأصل السببي، يعارض الأصل
المسببي في عرض واحد.
فتحصل: أن أصل الملازمة عقلا بين الملاقي والملاقى، واضح
رخصة وعزيمة، فلا بد من التفكيك بالدليل، وهو مفقود كما عرفت.
دعوى سقوط الأصول والتفكيك بين طهارة الملاقي وحليته
ومن هنا يظهر فساد ما قيل: " إن الأصول في الأطراف متساقطة،
موضوعية كانت أم حكمية، سببية كانت أم مسببية، طولية كانت أم
عرضية (2)، ضرورة أن استصحاب عدم الملاقاة مع النجس، معارض بمثله،
واستصحاب طهارة كل واحد معارض بمثله، وقاعدة الطهارة كذلك، وقاعدة
الحل مثلها.
ولكن في الملاقي تسقط الأصول الموضوعية، لأنها في عرض
الأصول الحكمية في الملاقي والطرف.
وهكذا تسقط قاعدة الطهارة، لأن الشك في طهارة الملاقي، مسبب

1 - فرائد الأصول 2: 424.
2 - التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 415.
186

عن الشك في طهارة الملاقي، فيكون في طول قاعدة الطهارة في الملاقي
أو الطرف، وفي عرض قاعدة الحل الجارية فيهما. ولكن قاعدة الحل في
الملاقي تبقى بلا معارض، فيلزم التفكيك بين الطهارة والحلية في
الملاقي ".
وأنت خبير: بأنه أقرب إلى الأحجية من الصواب، ضرورة أن
العرضية والطولية ليست ذوقية، بل لهما الملاك العقلي، وقد عرفت
ذلك منا، فلا تخلط.
وقضية ما مر منا سابقا: هو أن القواعد بالنسبة إلى الأحكام
النفسية في المسألة - كحرمة الشرب - تؤدي فرضا إلى جواز شرب
الملاقي، وأما بالنسبة إلى الأحكام الغيرية - مثل جواز التطهر به - فلا
تؤدي إلى صحة الوضوء والغسل، لما عرفت منا: من قصور قاعدة
الطهارة عن إثبات ذلك حسب الصناعة، فيلزم التفكيك على عكس ما مر
آنفا (1).
وجه آخر لتساقط الأصول في الأطراف
وهنا شبهة ثالثة عقلائية: وهي إنا إذا راجعنا وجداننا، نجد أن كل
واحد من الطرف والملاقى والملاقي مبغوض المولى إجمالا، أي كما نرى
أن الطرف أو الملاقي مبغوضه، كذلك نجد أن الطرف أو الملاقي

1 - تقدم في الصفحة 171.
187

مبغوضه، وهذا علم لا نشك فيه قطعا. وعدم تنجز المتنجز ثانيا وثالثا،
لا ينافي ذلك بعد ملاحظة الأطراف، وعليه تصير الأصول متساقطة، أو غير
جارية، على الخلاف المعروف بين الأفاضل (1).
لا أقول: بأنا نعلم بالمبغوضية في الملاقي مع قطع النظر عن
الملاقاة، بل المقصود أن العلم بالمبغوضية، يصير ذا أطراف ثلاثة: واحد
منها في طرف، واثنان في طرف، ولا يلاحظ العرف ما يلاحظه العقل
الدقيق هنا.
إيقاظ: في معنى تنجيز التكليف
قد يتوهم: " أن معنى تنجيز التكليف، ليس إلا العلم بالتكليف مع
عدم جريان الأصل المؤمن، بمعنى أن نفس العلم ليس منجزا، بل العلم مع
عدم جريان الأصول المؤمنة، ولذلك يجوز شرب الماء إذا كان طرفا للثوب
في العلم بالنجاسة، فإنه لمكان سقوط الأصول الموضوعية
والحكمية، لا يجوز التوضي بالماء، ولا الصلاة في الثوب، ولكن يجوز
شرب الماء، لاختصاصه بقاعدة الحل، دون الثوب، لأن المفروض أنه
ثوب غير مغصوب.
ويترتب على ذلك: أن ملاقي الثوب واجب الاجتناب، لمعارضة
الأصل فيه مع الأصل في الطرف، فلا يبقى الأصل المؤمن فيه " انتهى ما

1 - لاحظ تحريرات في الأصول 7: 380.
188

أردنا ذكره (1).
وفيه أولا: أن معنى تنجيز الحكم لو كان ما ذكره، لما كان الأصل
المزبور مؤمنا من العقاب، لأن لازمه تقيد التكليف الواقعي بعدم
المؤمن، وهذا واضح البطلان، بل هو الدور الصريح، ضرورة أن معنى
" المؤمن " هو أن العقاب مع قطع النظر عنه قطعي، وإذا كان كذلك فالتنجز
يحصل بنفس العلم، كما هو الواضح، والأصول الشرعية أعذار عند
المحققين (2)، وحاكمة على الأدلة الواقعية، بالتوسعة عند بعض منهم (3)،
فالحكم الواقعي الأولي، تنجز بنفس الالتفات إليه والتصديق به، سواء
كان أصل، أو لم يكن.
نعم، لا يمنع العقل من جعل الشارع عذرا، أو من تصرفه في حكمه
الأولي، فإن كان عذرا فهو مؤمن، وإلا فليس إلا تقييدا، لا تأمينا كما لا يخفى.
فإذن في صورة العلم بالنجاسة، تتنجز جميع أحكام النجس، سواء
كانت واحدة، أو كثيرة، وسواء كانت الأطراف متفقة، أو مختلفة، فإذا علم
بنجاسة الماء إجمالا، يحرم عليه كل شئ مشروط بالطهارة احتمالا
منجزا، ويصح عقوبته على جميع الأحكام، لأنه موضوعها. فلو كان يجعل ما
يترتب على تلك المقالة - من الآثار - من التوا لي الفاسدة، كان أولى.
وثانيا: لا يختص الماء في المثال المذكور بأصالة الحل، لأن

1 - التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 415.
2 - كفاية الأصول: 319.
3 - كفاية الأصول: 110.
189

الشك في حليته إن كان ناشئا من الطهارة والنجاسة، فقاعدة الطهارة
كافية، وإلا ففي الثوب أيضا تجري قاعدة الحل.
نعم، لا بد من فرض آخر: وهو كون أحد الطرفين مشتبه النجاسة
والغصبية، والطرف الآخر مشتبه النجاسة، دون الغصبية، والعلم
الاجمالي بالنجاسة لا ينجز حكم الغصب، فتجري في الطرف الأول
قاعدة الحل، وتعارض قاعدة الطهارة في الملاقي، فتأمل جيدا.
إعادة وإفادة
ملخص ما ذكرناه: تعارض الأصول في جميع الأطراف، ولا يكون الأصل
الجاري في الملاقي بلا معارض.
ويتوجه إليه: أن ذلك فرع تنجز الحكم، والتنجز فرع كون العلم
الثاني كافيا فيه، وإذا انتفى ذلك ينتفي ذاك، فلا معارض لذلك الأصل.
ومجرد كونه أحد الطرفين، أو ملازما للطرف الملاقي، غير كاف كما
لا يخفى.
ومحصل ما ذكرناه: أن الصورة العلمية المتعلقة بنحو الاجمال: بأن
هذا إما نجس أو ذاك، إما تكون باقية بعد الملاقاة بشخصها، أو تزول وتحدث
صورة أخرى:
فإن كانت باقية، فلا قصور فيها من حيث تنجز التكليف به في
الملاقي.
وإن كانت تزول، كما هو كذلك عقلا، فتصير كالعلم بعد الملاقاة الذي
190

عليه الأكثر، من كونه منجزا للثلاثة.
فما هو المعروف: من حدوث العلم الآخر بين الطرف والملاقي،
غير تام، بل العلم الحادث متعلق: بأن هذا نجس، أو هذا وذاك، للملازمة
القطعية بينهما في الحكم. فما اشتهر بين المتأخرين: من الحكم بطهارة
الملاقي (1) في غاية الاشكال.
وبعبارة أخرى: لو كان الشك بعد الملاقاة، من الشك البدوي واقعا،
كان للقول المشار إليه وجه واضح معلوم، وأما إذا صار أحد الأطراف،
فلا يعقل بقاء الصورة العلمية السابقة.
إن قلت: فيما إذا تأخر العلم عن الملاقاة، لا يجب الاحتياط عند
الشيخ (2) وبعض تابعيه، كالفاضل النائيني (3)، وتلميذه الشيخ الحلي (4)،
وذلك لأن العلم الاجمالي وإن تعلق بالثلاثة في عرض واحد، ولكن
الترتب العلمي بين الملاقي والملاقى محفوظ، وقضية هذا الترتب تقدم
الأصل الجاري فيه على الجاري في الملاقي، وتساقطه - بالمعارضة -
مع الجاري في الطرف، فيبقى الجاري في الملاقي بلا معارض.
قلت: هذا ممنوع، لأن المفروض تنجز الحكم بالعلم بالنجاسة،
ضرورة أن كبرى المسألة وهي " وجوب الاجتناب عن النجس " كانت
معلومة، ولا بد من ضم الصغرى إليها حتى يتنجز الحكم، وتلك الصغرى

1 - كفاية الأصول: 412، مستمسك العروة الوثقى 1: 257.
2 - فرائد الأصول 2: 424.
3 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 4: 81 - 82.
4 - دليل العروة الوثقى 1: 239 - 240.
191

كما تتنجز بالعلم التفصيلي، تتنجز بالعلم الاجمالي.
وفيما نحن فيه، تعلق الاجمالي بالثلاثة دفعة واحدة، فلو سلمنا
جميع ما أفيد، فلا نسلم سقوط المعارضة بين الأصل الجاري في الملاقي
والطرف، لما عرفت من أن ملاكات التقدم مضبوطة في محلها (1)، وليس
المعية مع المتقدم منها، فعليه يلزم الاحتياط في جميع صور المسألة، من
غير فرق بين هذه الصور المذكورة بالتفصيل في الكتب المفصلة،
وليطلب تمام الكلام في المقام من " تحريراتنا الأصولية " (2).
هذا كله حسب الصناعة الأولية.
قيام السيرة على عدم الاعتناء بملاقيات الأطراف
ولكن بناء المتشرعة والسيرة العملية، قائمة على عدم الاعتناء
بملاقيات الأطراف، خصوصا فيما كانت الأطراف خارجة عن مورد الاحتياج
إليه فعلا وإن كانت قابلة لتصوير الحاجة. وهذا غير الخروج عن محل
الابتلاء.
مثلا: إذا وقعت قطرة، وتردد أمرها بين وقوعها على ثوبه، أو الأرض، أو
ثوب صديقه، لا يعتني بذلك، مع أن العلم الاجمالي بوجوب الاجتناب عنه،
وعنها بترك السجدة عليها، أو التيمم بها، موجود، أو العلم الاجمالي
بوجوب ترك الصلاة فيه وفي ثوب صديقه الذي قد يتفق أن يصلي فيه -

1 - تقدم في الصفحة 185 - 186.
2 - تحريرات في الأصول 7: 349.
192

لأنه محشور معه - موجود، ولكن مع ذلك كله لا يعتنى بمثله، وليس هذا إلا
لأجل ما أسمعناكم في أصل الأطراف في أصل المسألة، فلا تغفل (1).
فصل
في تعين التيمم عند انحصار الماء في مشتبهين
إذا كان عنده إناءان مشتبهان فالمعروف المدعى عليه الاجماع (2)
- ويدل عليه النص - جواز التيمم، بل الظاهر منه تعين ذلك بعد
الاهراق، ففي " الوسائل " بسند معتبر عن سماعة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام)
عن رجل معه إناءان فيهما ماء، وقع في أحدهما قذر، لا يدري أيهما هو، وليس
يقدر على ماء غيره.
قال: " يهريقهما جميعا ويتيمم " (3).
ومثلها في المفاد رواية عمار (4).

1 - تقدم في الصفحة 175 - 180.
2 - مدارك الأحكام 1: 107، مستمسك العروة الوثقى 1: 261 - 262، مهذب
الأحكام 1: 274.
3 - الكافي 3: 10 / 6، وسائل الشيعة 1: 151، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 8، الحديث 2.
4 - تهذيب الأحكام 1: 248 / 712، وسائل الشيعة 1: 155، كتاب الطهارة، أبواب
الماء المطلق، الباب 8، الحديث 14.
193

ويتم البحث هنا ضمن جهات:
الأولى: حول إطلاق الرواية الواردة في المقام
هل أن الرواية لها الاطلاق الذي يرجع إليه في شقوق المسألة،
أم لا؟ ظاهر جماعة هو الأول (1).
وربما يشكل: بأن المتفاهم العرفي، هو كون الماء الموجود قليلا،
بحيث لا يتمكن من الغسل والوضوء، وذلك لأن الإناء المفروض صغير،
وليس ممتلئا من الماء
حسب المتعارف، ولقوله: " فيهما ماء " الظاهر في
أنه قليل جدا.
وهل لها الاطلاق السكوتي من جهة حالات أعضاء السائل من
حيث نجاستها الفعلية وطهارتها؟ فإن الحكم ربما يختلف حسب اختلاف
الأنظار مثلا، بناء على لزوم الأخذ في توارد الحالتين بنقيض الحالة
السابقة، فالأمر بالتوضي بعد الغسل، كان يؤدي إلى صحة الوضوء مع
طهارة البدن، ولو كانت هي طاهرة فيمكن ذلك أيضا، بناء على الأخذ
بالحالة السابقة، دون نقيضها.
فعليه يمكن دعوى الاطلاق السكوتي لها، ونتيجته لزوم الأخذ
تعبدا بالنجاسة في توارد الحالتين، لأن الأمر بالتيمم، لا يمكن إلا لأجل
عدم تمكن المكلف من التوضي الصحيح مع العلم بطهارة بدنه.

1 - مصباح الفقيه، الطهارة: 51 / السطر 11، مستمسك العروة الوثقى 1: 263، مهذب
الأحكام 1: 274.
194

والانصاف: عدم الاطلاق الثاني، ضرورة تعارف نجاسة بدنه، وعليه
يتعين الأخذ بها، لموافقتها لما هو الأظهر في مسألة توارد الحالتين.
ولكن الكلام في تمامية الاطلاق الأول، وأن المقصود من السؤال
كل ماءين قليلين مشتبهين ولو كان كثيرا، بحيث يمكن الغسل والتوضي، أو
أن مورده القليلان غير الكافيين لذلك، وقد عرفت ذلك آنفا. وتوهم إلغاء
الخصوصية، أو قطع العرف بعدم الخصوصية، في غاية الوهن.
فعلى هذا يعلم: أن مفاد الرواية مطابق للقاعدة، لأن مجرد إمكان
الوضوء مع الابتلاء بالخباثة في الأعضاء، ليس كافيا لجواز المبادرة في
مفروض المسألة، فلا بد من التيمم حسب المآثير الشاهدة في خصوص
الطهارة الترابية، وأن المدار في الانتقال، هو العجز عن استعمال الماء
بوجه صحيح شرعي، غير ملازم لمعنى آخر غير شرعي.
فبالجملة: لو كان الماء المفروض قليلا، بحيث لا يمكن غسل
المواضع بعد التوضي، فالأمر بالتيمم مطابق للقواعد، وإلا فيشكل الأمر من
جهتين على سبيل منع الخلو:
الأولى: إمكان تحصيل الطهارة المائية مع طهارة الأعضاء.
وثانيتهما: لزوم نجاسة البدن، سواء كانت الحالة السابقة
طهارتها أو نجاستها.
مع أن الأمر ليس كذلك اتفاقا، وأما على ما استظهرناه، فلا يأتي إشكال.
ثم من المحتمل، كون الأمر بالتيمم ناشئا من ترجيح جانب الطهارة
الترابية على النجاسة، فإن الأمر دائر بين كونه ذا طهارة مائية مع نجاسة
بدنه، وكونه ذا طهارة ترابية مع طهارة بدنه، فعين الأولى لأقوائيتها،
195

فلا يستفاد من الرواية أن سبب الانتقال، تمامية موضوع التيمم، لأن
المناط عجزه عنه، شرعا كان، أو عقلا. فما اتفق عليه الأصحاب هنا: من أن
وجه الانتقال عجزه الأعم (1)، غير سديد، والتفصيل في مباحث التيمم.
فعلى ما حصلناه يعلم: أن الرواية ليست على خلاف القاعدة عند
الكل.
الثانية: في بعض صور الماءين المشتبهين وأحكامها
لو فرضنا شمول الرواية للماءين الكثيرين القابلين للتطهير بهما
والتوضي، بأن يتوضأ أولا، ثم يغسل ثانيا بالماء الثاني، ثم يتوضأ به
ثالثا، فإن كان الماء النجس هو الثاني، فقد تحصل الطهارة، ويكون بدنه
نجسا، وإن كان هو الأول، فقد تحصل الطهارة، ويكون بدنه طاهرا، فهو حينئذ
على طهارة مائية، ومشكوكة نجاسة بدنه.
فهل يبني على الطهارة، أو النجاسة، أو يأخذ بنقيض حالته
السابقة؟ فيه خلاف بين المحققين.
وقد مر منا تفصيل البحث في المسائل السابقة (2)، وذكرنا هناك
قصور شمول أدلة الاستصحاب لمثل هذا الشك واليقين، لا لأجل فقد
الشرط، وهو اتصال زمان الشك واليقين، كما تخيله صاحب

1 - كفاية الأصول: 216، لاحظ مستمسك العروة الوثقى 1: 263 - 265.
2 - تقدم في الجزء الأول: 350.
196

" الكفاية " (1) أو للمعارضة بين الاستصحابين، كما توهمه جمع آخر (2)،
فعليه يتعين المراجعة إلى قاعدة الطهارة مطلقا.
وهنا صور أخرى، وفيها ما يقطع بوقوع صلاته مع الطهارة المائية
وطهارة البدن، وهو بأن يكرر الصلاة عقيب الوضوءين. والتكرار هنا
ليس بأهون من التكرار إلى أربع جهات، لتحصيل القبلة المأمور به
في الروايات.
وغير خفي: أن في صورة كون أحد الماءين كثيرا، يتعين التوضي به
ثانيا، حتى يحصل القطع بفراغ ذمته.
حكم صورة ما لو كان أحد الماءين كثيرا
إذا عرفت ذلك، فهل يتعين عليه التوضي في صورة كون أحد
الماءين كثيرا، لما يظهر من الرواية من اختصاصه بالقليل غير القابل
لاستعماله مرتين، خصوصا إذا كان مشتبها بنجاسة بولية، وقلنا: بتعدد
الغسل في ملاقي غسالته؟
أو يتعين عليه التيمم، لأجل ظاهر الرواية؟
أو هو بالخيار بين الطهارتين: المائية، والترابية.
فقد يقال: بتعين الترابية، وعليه الأكثر (3)، وهو مقتضى إطلاق فتاوى

1 - كفاية الأصول: 480.
2 - فرائد الأصول 2: 667، التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 427.
3 - شرائع الاسلام 1: 7، مدارك الأحكام 1: 107، العروة الوثقى 1: 52 - 53 فصل في
المياه، الماء المشكوك نجاسته، المسألة 7، مهذب الأحكام 1: 274.
197

الأصحاب، وعن بعض الفضلاء تعليل ذلك: بلزوم الجمع بين المتناقضين في
صورة الرخصة، لأن موضوع الترابية هو " العجز عن المائية " وموضوع
المائية هي " القدرة على استعمال الماء " وهما غير قابلين للجمع (1).
وأورد عليه: بأن الأمر كذلك، إلا أن الالتزام بالتخصيص لأجل الدليل،
غير ممنوع عقلا، ومتعارف عرفا، كما في مواقف رخصة الافطار في شهر
رمضان، مع أن المستثنى هو المريض، والمستثنى منه هو الصحيح، وهما
غير قابلين للجمع (2).
والذي يخطر بالبال: أن مبنى هذه المسألة، هو أن الأمر بالاهراق
كان لأية جهة؟
فإن كان فيه جهة لازمة مراعاتها في الانتقال من المائية إلى
الترابية، فهو يشهد على ممنوعية الترابية بدون الاهراق.
وإن كان الأمر لمجرد عدم الابتلاء بالنجس، أو لكونه كالدرهم
المغشوش اللازم إعدامه، فلا يستفاد منه تعين الترابية.
والانصاف: أن الأمر بالاهراق، لأجل حدوث موضوع الانتقال وهو
" فقدان الماء الموجود عنده " فإذا لاحظ الشرع أن الترابية - حسب
الآية الشريفة - موقوفة على فقد الماء، والماء الموجود بين يديه وإن
كان بحسب الواقع كافيا، ولكنه لجهله يشكل عليه تحصيلها، لابتلائه
بنجاسة البدن، فراعى عند ذلك أهمية طهارة البدن مع مراعاة تحصيل

1 - التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 429.
2 - نفس المصدر.
198

موضوع المسألة، فأمر بالاهراق، تحفظا على الواقع اللازم مراعاته
- ولأجل مثله اختار المحقق في " المعتبر " جواز إراقة الماء (1)، ورخص
في الانتقال إلى موضوع التيمم اختيارا - فعلى هذا لا يجوز البدار إلى
الترابية مع وجود الماء المشتبه، لأن موضوع أدلة التيمم ليس
" العجز " بل له مسوغات مختلفة، ومنها: عدم وجدانه الماء، ولكنه هنا
واجد للماء بالضرورة، فليتأمل جيدا.
فتحصل إلى هنا: أن مع فرض شمول الرواية لما إذا كان أحدهما كثيرا
أو كلاهما، لا يجوز الوضوء إلا بعد الاهراق.
توهم عدم وجوب الاهراق ودفعه
ومن هنا يعلم، ضعف توهم عدم وجوب الاهراق، معللا: " بأنه من الأمر
عقيب الحظر " (2) غفلة عن أن ذلك في جملة واحدة، لا في الجمل المتعددة،
مع بعض القرائن الأخر، كما فيما نحن فيه، فإن ذلك بعدما عرفت منا - ولو
احتمالا - متعين، فلا سبيل إلى القول بالتخيير بين الوضوء والتيمم،
ولا سيما بعد قوله: " ويتيمم " الظاهر في تعينه، فلو كان مفاد " يهريقهما " هو
الترخيص بدوا، ولكن مفاد الهيئة الثانية هو العزيمة، ولا وجه لصرف
النظر عن الثاني بالأول، لامكان العكس. بل الظاهر سراية تعيين التيمم
إلى تعيين الاهراق، لعدم إمكان مقاومة العزيمة للرخصة، فلا تغفل.

1 - المعتبر 1: 103.
2 - مستمسك العروة الوثقى 1: 265.
199

هذا مع أن الالتزام بالتخصيص في خصوص هذه المسألة، من
الغفلة والذهول، وذلك لأن هم الفقيه في مباحث مسوغات التيمم،
الجمع بين المسوغات المختلفة، وإرجاعها إلى أمر واحد: وهو عدم
تمكنه من المائية عقلا أو شرعا، فلو كان في مورد يجوز التيمم مع إمكان
المائية شرعا وعقلا، يلزم النقض على ما توهموه جامعا، لا التخصيص،
لعدم وجود عام أو مطلق يفيد ذلك، فلا تخلط.
الثالثة: في أجوبة استصحاب نجاسة بعض الأعضاء غير المعين
بناء على جواز التوضي بالكيفية المزبورة، فلا يشترط عدم وجود
ماء ثالث معلوم الحال، لأن وجه الاشتراط ليس إلا الوجوه المذكورة
في منع تكرار العبادة، أو لزوم تقديم الامتثال التفصيلي على الاجمالي،
وتلك الوجوه خالية عن التحقيق، حسب ما يؤدي إليه النظر الدقيق.
وقد يشكل الامتثال بالكيفية المزبورة التي بنينا فيها على جريان
قاعدة الطهارة بعد عدم جريان الاستصحابين: بأن الاغتسال بالماء الثاني
لا يمكن إلا تدريجا، ضرورة أن الجسم لا يعقل تطهيره إلا بالارتماس، أو إيراد
الماء عليه، والكل يستلزم التدريج عرفا وعقلا، فإذا وقعت يده في الماء
الثاني، أو ورد الماء عليها، يعلم إجمالا: بأن بعض أجزائه وأعضائه نجس،
إما بنجاسة هذا الماء، أو بنجاسة الماء الأول، والتطهير بالماء الثاني
لا يستلزم قصورا في جريان استصحاب نجاسة بعض أعضائه غير المعين (1).

1 - التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 428.
200

وعلى هذا، لا فرق بين كون الماء الثاني كثيرا، بحيث يحيط بالجسم
دفعة، أو تدريجا.
والعجب من الأصحاب - رضي الله عنهم -، حيث توهم جمع منهم
الفرق بين كون الثاني كثيرا أو قليلا! وأعجب من ذلك فرض كون الماء
الثاني كرا أو جاريا (1)!! فإنه خروج عن مفروض البحث، وهو كون
الماءين مشتبهين، وهذا مخصوص بالقليلين الشرعيين.
تارة يجاب: بأن جريان الاستصحابين في العضوين ممنوع، لأنه من
الأصل المحرز، وإحراز نجاسة العضوين مع القطع بطهارة أحدهما، خلاف
ماهية الاستصحاب، فلا يجريان هنا، كما لا يجريان في أمثاله وإن لم يلزم
منه المخالفة العملية.
وفيه: - مضافا إلى فساد المبنى، وأن الاحراز المزبور لا ينافي
التعبدين - أن فيما نحن فيه يمكن إجراء استصحاب واحد في بدنه، بأن
يجعل مصبه نفسه، حتى لا يجوز له الصلاة في تلك الحال.
وأخرى يجاب: بأنه من الاستصحاب في الفرد المردد، لأن النجاسة
إن كانت من الماء الأول، فقد زالت بالماء الثاني، وإن كانت من الماء
الثاني، فهي باقية قطعا (2).
وفيه: أن اليد المتنجسة باقية بالشخص، ومعلوم تنجسها،

1 - العروة الوثقى 1: 53 فصل في المياه، الماء المشكوك نجاسته، المسألة 10،
الهامش 5 و 6.
2 - مستمسك العروة الوثقى 1: 263، لاحظ التنقيح في شرح العروة
الوثقى 1: 425 - 427.
201

ومشكوك زوال نجاستها، فالمصب للاستصحاب هي اليد.
وثالثة يجاب: بأن له التطهير - بعد الوضوء بالماء الثاني - بالماء
الأول، فعند ذلك يعلم قطعا بزوال نجاسة بدنه، لأن العلم الاجمالي
الحاصل من ملاقاته مع الماء الثاني، أمره دائر بين عدم انعقاده من أول
الأمر، أو انتفاء معلومه بعد ذلك، بداهة أن الماء الثاني إن كان نجسا،
فالماء الأول يزيله، وإن كان طاهرا فلا علم له بتلك النجاسة، فلا يعلم بعد
الاستعمال المزبور بنجاسة فعلية، ولا سابقة.
نعم، يحتمل حدوث النجاسة بالماء الأول، المرفوع بقاعدة
الطهارة.
وبعبارة أخرى: الماء الأول إما نجس، أو طاهر:
فإن كان نجسا، فلا علم له بالنجاسة قبل ذلك، لارتفاع نجاسة بدنه
بالماء الأول.
وإن كان طاهرا، فلا بقاء لتلك النجاسة فعلا، فهو عالم بزوال
النجاسة المعلومة بدوا.
وفيه ما عرفت: من حدوث العلم بالنجاسة بمجرد وقوع الماء الأول
أيضا، كما لا يخفى.
ويمكن دعوى القطع التفصيلي بنجاسة العضو المعين، لأن من
شرائط التطهير، إحاطة الماء وانفصاله، فإذا لاقاه الماء الثاني يعلم قطعا
بنجاسة يده بالأول أو بالثاني، ويشك في زوالها به، فيستصحب في العضو
202

الشخصي نجاسته (1).
نعم، هذا أمر عجيب، لأن ما يورث القطع بالنجاسة هو الملاقاة،
التي هي مقدمة للشك في بقائها، وهذا مما لا ضير فيه عقلا.
ورابعة يجاب: بأن الاستصحاب الجاري في العضو المعلوم تأريخه،
معارض باستصحاب الطهارة المجهول تأريخها، لعدم تقوم التعارض
بالجهل بالتأريخين، كما عليه العلامة النائيني (رحمه الله) فيرجع حينئذ إلى
قاعدة الطهارة (2).
ولكنك تعلم: أنه وإن أمكن استصحاب مجهول التأريخ في بعض
الأحيان، بوجه يعارض معلوم التأريخ - كما عرفت تفصيله في الماء
الموصوف بالحالتين: القلة، والكثرة (3) - ولكنه هنا غير قابل لفرضه،
للزوم جواز الصلاة مع أنه عالم بنجاسته الشخصية، وشاك في رفعها،
ولا يعقل استصحاب عدم تقدم حالة طهارته على تلك الحالة، لأنه إن شئت
قلت: يصير معلوم التأريخ من جهة عدم تأخره عنها، لا من جهة زمان حدوثه.
ففي مثل حدوث الكرية في أول الزوال، يمكن استصحاب عدم تقدم
القلة عليها، فيلزم احتمال تأخر القلة عن الكثرة، لمجهولية القلة من
جهتين: جهة زمانها الشخصي، وجهة تقدمها على الكرية وتأخرها. ولكن
الأمر هنا ليس كما توهم، ضرورة أنه بعد إيراد الماء الثاني يعلم بنجاسة

1 - دروس في فقه الشيعة 2: 219.
2 - فوائد الأصول 4: 522 - 528، ولاحظ دروس في فقه الشيعة 2: 220.
3 - تقدم في الجزء الأول: 350.
203

يده الشخصية، ويشك بعد الغسل في زوالها، ولا يحتمل تأخر الطهارة
إلى تلك الحالة.
والعجب من صاحب " الكفاية " وجماعة، من توهم: أن الاشكال
مخصوص بما إذا كان الماء الثاني قليلا (1)!! وقد عرفت عموميته (2)، وأن
فرض كرية الماء الثاني خارج عن مفروض المسألة، لأن الكرية
المشتبهة من حيث النجاسة، غير متصورة إلا في الكر المتمم بالطاهر،
بأن تكون الشبهة حكمية، أو الكر المشتبه من حيث تغيره بالنجس،
والأمر سهل.
خاتمة فيها فائدة
قضية ما مر إلى هنا: أن الانتقال إلى التيمم مطابق للقاعدة، ويكون
التيمم متعينا، ويكون الاهراق لانتفاء موضوع التيمم، على حسب المتفاهم
من الكتاب، وإن كان موضوعه حسب الأخبار منتفيا، ولكن ربما لاحظ
الشرع المتحفظ على الأمة بالسماحة والراحة، مع مراعاة بعض
الجوانب الأخر، فعند ذلك أوجب الاهراق، لما فيه الجمع بين الحقوق.
فما اشتهر: " من أن الاهراق إما واجب تعبدي، أو واجب إرشادي " (3)

1 - كفاية الأصول: 216، دليل العروة الوثقى 1: 246، دروس في فقه الشيعة 2: 218.
2 - لاحظ ما تقدم في الصفحة 201.
3 - مستمسك العروة الوثقى 1: 262، التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 430، مهذب
الأحكام 1: 274.
204

غير سديد، بل هو واجب احتياطي، لا بمعنى " الوجوب الاحتياطي " في
كلمات الفقهاء، كما لا يخفى.
توجيه المحقق الهمداني لكون التيمم موافقا للقاعدة
ولصاحب " المصباح " الهمداني (رحمه الله) كلام حول إثبات أن التيمم مطابق
للقاعدة، لا يخلو عن غرابة: وهو " أن التطهير بالماء النجس، إذا كان محرما
ذاتيا، فلا بد من الطهارة الترابية، فربما يدل على تلك الحرمة هذه
الرواية، فلا وجه لصحة الوضوء بالمردد المشتبه، وإن أمكن عقلا
بالكيفية المذكورة " (1).
وأجيب عنه - فيما وصل إلينا من الوالد المحقق مد ظله -: " بأن
الحرمة الذاتية لا تستلزم حرمة جميع الأطراف، بل هو محرم من باب
المقدمة العلمية، فيلزم التزاحم بين ملاكين: الطهارة المائية، والابتلاء
بحرمة استعمال النجس في الوضوء، وقضية ما ورد في أن " التراب أحد
الطهورين " وقوله: " يكفيك عشر سنين " أهمية ترك الابتلاء بتلك الحرمة
الذاتية " (2).
وأنت خبير أولا: بأن توهم الحرمة الذاتية في مثل المقام، من
الأمر المستنكر القبيح، فضلا عن تصديقه، وفضلا عن كون هذه الرواية (3)

1 - مصباح الفقيه، الطهارة: 51 / السطر 10.
2 - الطهارة (تقريرات الإمام الخميني (قدس سره) الفاضل اللنكراني: 44 (مخطوط).
3 - الكافي 3: 10 / 6، وسائل الشيعة 1: 151، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 8، الحديث 2.
205

دالة عليه، لعدم دليل آخر على ذلك. فغاية ما يمكن توهمه هي
الحرمة التشريعية، وهي خلاف ظاهرها، ولذلك أمر بالاهراق، وإلا فلا
معنى لذلك.
وحمل الأمر بالاهراق على ما هو المتعارف في كلام متعارف الناس،
أو كلام العلماء - من بعض الكلمات الزائدة في جواب الفتوى - في غير
محله، خصوصا بعد تكراره في الروايتين، ومع مساعدة الاعتبار. فعليه يعلم
أن الحرمة الذاتية واضحة المنع جدا.
وثانيا: لا يمكن الفراغ من نجاسة البدن مع تحصيل المائية، فيدور
الأمر بين أن يصلي بالترابية، أو المائية مع نجاسة خبثية مستصحبة،
فيتعين الأول حسب هذه الرواية، وإلا فلا قاعدة من دونها تقتضي تعين الأول،
لاحتمال أهمية المائية على الترابية الكذائية، ولا سيما بعد كون
الاستصحاب دليلا شرعيا، فإنه مع النظر إلى تلك الجهة، لا معنى لدعوى
أن الانتقال مطابق للقاعدة (1)، ضرورة أن معنى " كون شئ مطابقا للقاعدة " أن
هذا الأمر - مع قطع النظر عن النص الوارد فيه - مما يمكن الافتاء به.
وهذا فيما نحن فيه غير ممكن، لأنه إن كان الماءان كثيرين على
الوجه المزبور سابقا، أو كان أحدهما كثيرا، فعليه الوضوء والصلاة، ثم
الوضوء الآخر بعد الغسل بالماء الثاني، ثم الصلاة، كما في مشتبه
القبلة، وفي مشتبه المضاف والمطلق، فإنه قد أفتى الأصحاب بتعدد

1 - مهذب الأحكام 1: 276.
206

الوضوء في الثاني (1)، وتعدد الصلاة في الأول (2) فإذا اتفق هذان الأمران معا
فعليه تكرار الوضوء والصلاة، وهذا مما أفتى به الأصحاب - رضوان الله
عليهم -، فكيف يمكن الالتزام بأن الرواية مطابقة للقاعدة، سواء جرت
قاعدة الطهارة، أو لم تجر؟!
نعم، بناء على جريان قاعدة الطهارة، فعدم كونها مطابقة للقاعدة
أوضح.
وتوهم القطع بعدم وجوب التكرار في خصوص المقام، من
المجازفة، ودون إثباته خرط القتاد.
فتحصل إلى هنا: أن البحث حول قضية الأصول العملية أمر، وكون
الرواية مطابقة للقاعدة أو غير مطابقة، أمر آخر، والثاني على هذه
التقادير، خلاف القاعدة.
وأيضا: لا يتمكن الفقيه من ترخيص إراقة الماء والاقتناء بالترابية،
لما مر أن من الممكن كون المسألة، من قبيل المتزاحمين، وعند ذلك لا
وجه لترجيح أحد الجانبين على الآخر، لعدم إمكان كشف الأهمية من دليل
الترابية - كما سمعته من الوالد - مد ظله - (3) لأن هذا بعد الفراغ عن
تحقق موضوعه، وهو الآن أول الكلام، فهذه الرواية مخا لفة للقاعدة على
جميع الشقوق، ولا سيما على فرض دلالتها على التخيير بين المائية

1 - لاحظ مفتاح الكرامة 1: 128 / السطر 15.
2 - لاحظ مفتاح الكرامة 2: 119 / السطر 27.
3 - تقدم في الصفحة 205.
207

والترابية، فتأمل.
نعم، بناء على ما استظهرناه، تكون موافقة للقاعدة أيضا، أي لو فرضنا
كون المورد المفروض فيها القليلين، بحيث لا يتمكن من تطهير الأعضاء بعد
التوضؤ بالماء الثاني، فلا يتمكن من تحصيل الطهارة المائية، ويلزم
نجاسة بدنه بالعلم التفصيلي، وحيث قد عرفت عدم ثبوت الاطلاق لها
حتى تشمل الكثير والقليل (1)، فينحصر العمل بها في القليلين، وفي غير
هذه الصورة يجب التكرار، بإتيان الصلاتين عقيب الوضوءين.
إن قلت: لا بد من الالتزام بأن موردها أعم من القليل والكثير، لأعميتها
من الوضوء والغسل. وحملها على القليل غير الكافي لتحصيل الطهارة
المائية الوضوئية، إذا كان محتاجا إلى الوضوء، وعلى غير الكافي
لتحصيل الطهارة الغسلية، إذا كان الرجل المفروض جنبا، في غاية
البعد، فيعلم من ذلك أعميتها من تلك الجهة، فمع إمكان القطع بفراغ ذمته
بالتكرار، أمر بالتيمم على خلاف القاعدة.
قلت: الأمر كما حرر، ولكن ملاحظة صدرها ربما يورث الوثوق، بأن
المفروض هو احتياجه إلى الوضوء، ففي " الكافي " عن عثمان بن عيسى،
عن سماعة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن جرة وجد فيها خنفسا قد مات.
قال: " ألقه وتوضأ منه، وإن كان عقربا فألقه فأرق الماء، وتوضأ من
ماء غيره ".

1 - تقدم في الصفحة 194.
208

وعن رجل معه إناءان فيهما ماء، وقع في أحدهما قذر... (1).
مع أن هذا الفرض هو المتعارف، والالتزام بالفرض المزبور غير
بعيد في ذاته.
وهنا شبهة أخرى في الرواية: وهي أن كون المراد من " القذر " هو
النجس الشرعي، غير واضح، لما عرفت من الأمر بإراقته فيما إذا وقع فيه
العقرب، فربما يجوز - حسب النظر البدوي فيها - جواز التيمم فيما إذا كان
الماء مستقذرا عرفا، فتكون الرواية مورد الاعراض، وساقطة عن
الحجية، فتأمل.
الرابعة: في جواز التطهير بهما لرفع الخبث وكيفيته
فعن " نهاية العلامة ": جوازه وصحة الاكتفاء بالمرة (2).
وهذا يتم على ما بنينا عليه في أطراف العلم الاجمالي: من جريان
الأصول المرخصة، وتقدمها على إطلاق دليل الحكم الواقعي (3).
ولعل إليه يرجع ما حكي عنه: من الاستدلال بإطلاقات دليل مطهرية
المياه، وأن ما هو الخارج عنها ما علم بنجاسته تفصيلا. فما في بعض كتب
العصر، من الاشكال على هذا الاستدلال: بأن الطهارة شرط في مطهرية

1 - الكافي 3: 10 / 6.
2 - مفتاح الكرامة 1: 127 / السطر 24، نهاية الإحكام 1: 249.
3 - تقدم في الصفحة 175.
209

الماء، فلا بد من إحرازها (1)، لا يخلو عن غرابة، لأن ما هو الشرط هي
الطهارة المعلومة بالتفصيل.
مع أن الشرط لو كان واجب الاحراز، لما صح له التمسك بقاعدة
الطهارة في صحة التطهير، لعدم كونها من الأصول المحرزة عند الكل.
والالتزام بحكومتها على الدليل الأولي غير هذا، كما لا يخفى. وقد مضى
تفصيل المسألة بشقوقها سابقا، وذكرنا: أن في مثل المفروض في المقام
لا بد من الاحتياط (2).
مختار السيد بحر العلوم وصاحب الجواهر (قدس سرهما)
وعن " منظومة الطباطبائي " وصاحب " الجواهر " (3) بل وجملة من
المحققين (4)، جواز الاكتفاء، ولكن يكرر التطهير بعدد رؤوس الأواني إلا في
الشبهة غير المحصورة، فإنه عند ذلك يعلم بالطهارة، وذلك لأن النجاسة
السابقة مقطوعة الزوال، والنجاسة الأخرى مشكوكة الحدوث،
فيجري استصحاب الطهارة بعد التطهير، ولذلك اشتهر القول بالأخذ بضد
الحالة السابقة (5). والعلم الاجمالي بطرو الحالتين بلا أثر، لأن
النجس لا يتنجس.

1 - الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 288.
2 - تقدم في الصفحة 180.
3 - الدرة النجفية: 8، جواهر الكلام 1: 305.
4 - الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 288، مصباح الفقيه، الطهارة: 51 / السطر 29.
5 - مستمسك العروة الوثقى 1: 264.
210

نعم، إذا كان أحد الإناءين المشتبهين بولا، وقلنا بلزوم التعدد في
ملاقيه، وكان الثوب المفروض غير متنجس به، فللعلم الاجمالي حينئذ
أثر، فالاستصحاب غير جار هنا، فتجري القاعدة.
إشكال على جريان قاعدة الطهارة في المقام
نعم، قد يشكل جريانها، لأجل أن المتفاهم منها صورة عدم العلم
بحالة سابقة للشئ، أو أن قضية الجمع بين دليل الاستصحاب وقاعدة
الطهارة، سراية قيد إلى مصبها، وفيما إذا سقط الاستصحاب - لأجل
المزاحمة، أو المعارضة، أو غير ذلك - يلزم الاجمال في مجرى القاعدة،
لما تقرر منا: من أن القوانين الكلية بعد المقيدات والمخصصات، تجعل
في كيس واحد، ويصير كل من العام والمخصص قيدا للآخر، وتسري جميع
الخصوصيات من أحدهما إلى الآخر. ولذلك ربما يصير قرينة على انصراف
معنى العام إلى معنى آخر بالمرة، بحيث لو لم يكن له مخصص، كان له
معنى آخر حسب المتبادر من ألفاظه.
وهذا الذي ذكرناه يجري في جميع القوانين، سواء كانت بينها التقييد
والتخصيص، أو بينها الحكومة والورود، فليتدبر.
توهم رجوع الاستصحاب في المقام إلى استصحاب الفرد المردد
وأما الاشكالات المتداولة على جريان استصحاب الطهارة في
مفروض المسألة - لا في الفرض الذي ذكرناه أخيرا وآنفا - فتفصيلها
211

في محلها.
ومن المعروف من بينها: أن استصحاب الطهارة من استصحاب الفرد
المردد.
وفيه: أن في مسألة الفيل والبقة، إن أريد استصحاب الفيل أو
البقة فلا يجر، وإن أريد استصحاب الجامع فلا بأس به من هذه الجهة.
ففيما نحن فيه لا أريد إلا استصحاب عنوان طهارة الثوب، فإنه لا تردد فيها،
وإلا فجميع الاستصحابات من الفرد المردد، لأنه مقتضى الشك في البقاء،
ضرورة أن كل شك في بقاء شئ يرجع إلى الأمرين المرددين، فإن أحدث
فهو ليس على طهارة قطعا، وإن لم يحدث فهو طاهر قطعا وهكذا، فلا تغفل.
هذا مع أن في مفروض البحث، لو أشكل جريان الاستصحابين، تجري
القاعدة عند الأصحاب، فتصير النتيجة هو جواز الاكتفاء بالتطهير مرارا.
والذي يتوجه إليهم ما مر: من أن التطهير بالإناء الثاني، يستلزم القطع
بتنجس الجسم المتطهر به، لأن التطهير تدريجي الوجود، فلا يجري
استصحاب الطهارة، ولا قاعدتها (1).
قولان آخران في المسألة
وعن جماعة من الأصحاب: صحة الاكتفاء إذا كان الماء الثاني كرا،
وقد مر ما يتعلق به (2).

1 - تقدم في الصفحة 200 - 201.
2 - نفس المصدر.
212

والقول الأخير: عدم إمكان الفراغ من النجاسة وإن يتمكن من
النجاسة الأولى، فلو كانت هي النجاسة البولية المحتاجة إلى
التعدد، فعليه التطهير، ثم الصلاة في الثوب المتطهر به فيما إذا كان
منحصرا به، بناء على وجوب تخفيف النجاسة الخبثية حين الابتلاء
بصرف وجودها في الصلاة، لأجل مرخص شرعي، فافهم واغتنم.
ثم إنه من الممكن دعوى شمول الروايات السابقة لهذه
المسألة، بدعوى أن المستفاد منها، قصور الماء المشتبه عن إمكان
التطهير به مطلقا، وإن كان في ذيلها الأمر بالتيمم.
وبناء على أعمية موردها من القليلين، يحكم بالاهراق أيضا تعبدا، بناء
على توهم إمكان التطهير.
فصل
في حكم الإناء الباقي بعد إراقة أحد الإنائين المشتبهين
إذا كان إناءان: أحدهما المعين نجس، والآخر طاهر، فأريق أحدهما،
ولم يعلم أنه أيهما، فالمعروف بين أبناء العصر محكومية الباقي
بالطهارة (1).

1 - مستمسك العروة الوثقى 1: 262، التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 430، مهذب
الأحكام 1: 275.
213

وقيل: " هذا فيما إذا لم يكن مثلا موضع الإراقة، مما يصح عليه
السجود، فإنه عند ذلك يعلم إجمالا بحرمة السجدة، وحرمة الاستعمال،
فعليه الاحتياط " (1) وهذا لا ينافي ما أفادوه، لأنه خارج عن منصرف كلامهم.
وقال في " العروة ": " وهذا بخلاف ما لو كانا مشتبهين، وأريق أحدهما،
فإنه يجب الاجتناب عن الباقي. والفرق أن الشبهة في تلك الصورة
بالنسبة إلى الباقي بدوية وفي هذه الصورة مقرونة بالعلم الاجمالي
المنجز (2)، انتهى مراده. وقد سكت الوالد المحقق هنا في تعليقته.
وفي المسألة عندي إشكال: وهو أن ما أفادوه في وجه عدم
الوجوب، فقد شرط التنجيز، وهو الخروج عن محل الابتلاء (3)، وهذا غير
صحيح، لأن الإراقة هي إعدام الموضوع، والخروج عن محل الابتلاء فرع
بقائه، ولذلك قيل في وجه عدم التنجيز: بقبح الخطاب، واستهجان
التكليف، لا انعدام موضوعه (4) كما لا يخفى. هذا إشكال على الأعلام.
وجه عدم وجوب الاجتناب عن الباقي
فيكون وجه المسألة أن الشبهة بدوية، ولا علم بالتكليف،
والعلم بنجاسة إناء وأرض - لا تكون مورد التكليف، ولا الوضع - ليس ذا

1 - الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 280، العروة الوثقى 1: 53، فصل في المياه، الماء
المشكوك نجاسته، المسألة 8، الهامش 4، التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 430.
2 - العروة الوثقى 1: 53، فصل في المياه، الماء المشكوك نجاسته، المسألة 8.
3 - مستمسك العروة الوثقى 1: 262، دروس في فقه الشيعة 2: 224.
4 - فرائد الأصول 2: 420، نهاية الأفكار 3: 338 - 339.
214

أثر، بل المناط هو العلم بالتكليف على الوجه المحرر في محله (1).
إذا عرفت ذلك، ففيما إذا أريق أحد الأطراف بعد العلم بالتكليف، فلا
وجه لتنجيز العلم، لانتفائه، ضرورة أن ما هو الباقي هو العلم بنجاسة
أحد الإناءين بنفسه، وأحد الماءين، وهو ليس مناط تنجيز الحكم
وتصحيح العقوبة، وما هو المناط غير باق، وقد اشتهر بين أعلام العصر: أن
الأثر تابع المؤثر حدوثا وبقاء، وأن التنجيز تابع العلم حدوثا وبقاء، فلا
وجه للاحتياط بعد الإراقة.
ودعوى العلم الفعلي بالتكليف مجازفة، ضرورة أن التكليف متقوم
بالموضوع، وإذا كان موضوعه " الماء المراق " احتمالا، فلا علم به، أي
لا يمكن دعوى وجود الخطاب فعلا.
نعم، إذا قيل: بأن أثر العلم باق بحكم العقل، فهو له وجه بأن يقال:
كما أن العقل حاكم بصحة العقاب على ارتكاب أحد الأطراف - سواء
ارتكب الآخر، أو لم يرتكب - كذلك حاكم بذلك، سواء بقي الطرف، أو
لم يبق.
ولكنه غير وجيه، لأن تنجيز التكليف موقوف على الشكل الأول،
وهو " أن هذه الإناء أو ذاك نجس " " والنجس واجب الاجتناب " " فهذا أو ذاك
واجب الاجتناب " والقضية الأولى منتفية فلا علم بالنتيجة. وتوهم جريان
الاستصحاب التعليقي في الحكم العقلي، فيجب الاجتناب، في نهاية
الضعف كما لا يخفى.

1 - تحريرات في الأصول 7: 401.
215

ولا ينبغي الخلط بين حالة بقاء الطرف وحالة انعدامه، ضرورة
أنه مع بقائه يتم الشكل وينتج، ومع انعدامه لا يجد العقل إلا وجود
التكليف المحتمل. وكفاية العلم السابق لصحة العقاب، وأنه بيان،
غير واضحة جدا.
هذا، ولو فرضنا ذلك، فلا شبهة في عدم قصور شمول أدلة الأصول
لهذه الصورة، مع عدم إمكان المعارضة بينه وبين الأصل الجاري في
المعدوم من صفحة التكوين.
وتوهم سقوط الأصل بالمعارضة، فلا أصل بعد ذلك، مما يضحك
عليه، لأن كل واحد منهما - لأجل المانع - قاصر عن التأمين، وإذا ارتفع
المانع يكون مؤمنا. هذا كله على طريقة القوم.
وأما على طريقتنا في الجمع بين أدلة الأصول والأمارات - وهي إنكار
الحكم الظاهري، وإثبات العموم من وجه بين تلك الأدلة والتزاحم (1) -
فالجواز في جميع الأطراف على حسب القواعد، إلا فيما ذكرناه سابقا (2)،
وهذه المواقف خارجة عن تلك المواضع التي رجحنا فيها الاحتياط على
الاقتحام وارتكاب الأطراف، فليتدبر.
ومما أشرنا إليه يظهر وجه سكوته - مد ظله - هنا، مع أنه يقول: بأن
الخروج عن محل الابتلاء لا يضر بالتنجيز، حسب ما أسسه في القوانين

1 - تحريرات في الأصول 6: 255 - 256.
2 - تقدم في الصفحة 180.
216

الكلية (1). ونعم ما أسس، فإن المسألة ليست من صغريات الخروج عن
محل الابتلاء، كما عرفت (2).
ذنابة: في أن مجرد الإراقة لا تسقط العلم
قد يشكل الأمر في صغرى المسألة المذكورة، لأن إراقة الماء
واجب الاجتناب، لا تورث سقوط العلم، لأن الماء المفروض إذا أريق على
الأرض، أو على شئ آخر، فغايته أنه مع عدم إمكان استعماله في الأكل أو
الشرب، لا يكون غير قابل لذلك اللسان به، فإنه محرم على فرض كونه
نجسا، وهكذا ممنوع ذلك في نفس الإناء أيضا، فيعلم إجمالا بحرمة هذا أو
ذاك، فالإراقة لا تورث الخروج عن دائرة إمكان التكليف.
نعم، إذا أمكن إعدام الإناء وما فيه، فهو من صغريات المسألة
المفروضة. وهنا بعض أمور أخر لا خير في التعرض لها، فتدبر.
فصل
في حكم ما لو توضأ من أحد الإنائين ثم علم بنجاسة أحدهما
إذا كان ماءان، توضأ بأحدهما أو اغتسل، وبعد الفراغ حصل له العلم

1 - تهذيب الأحكام 2: 280.
2 - تقدم في الصفحة 214.
217

بأن أحدهما كان نجسا، ولا يدري أنه هو الذي توضأ به أو غيره، ففي صحة
وضوئه أو غسله إشكال، إذ جريان قاعدة الفراغ هنا محل إشكال، لما قيل
في محله: من اختصاص أدلتها بصورة الشك في التطبيق، دون صورة الشك
في الانطباق (1)، وإلا يلزم فيما اشتبه قيود المأمور به بين كثير، جواز الاكتفاء
بإتيانه مرة واحدة، لأنه إذا أتى مثلا بصلاة إلى طرف في صورة اشتباه
القبلة أو في ثوب، يشك في صحتها وفسادها، فأصالة الصحة إذا كانت
حاكمة بها، فلا وجه لتكرارها. وهكذا فيما إذا اشتبه ماء الوضوء، وغير
ذلك من الصور.
ولا أظن أن يلتزم بذلك أحد من القائلين بجريانها في الصورة
الثانية، فكأن المفهوم من أدلتها - بعد ضرب صدرها بذيلها - لزوم كون
المصلي في مقام الاتيان بما يعتبر فيها، فإذا فرغ منها وشك فلا يعتن به، ويبن
على صحتها، لأجل القاعدة، سواء كانت هي قاعدة التجاوز، أو قاعدة
الفراغ، أو أصالة الصحة، على اختلاف المسالك والتعابير.
وقد يشكل على ما ذكرناه: بأن لازمه عدم جواز إجرائها فيما إذا أتى
الجاهل بالصلاة والوضوء مدة، ثم تبين له بعد تلك المدة اشتراط
المأمور به بأمر، وكان يحتمل إتيانه به حين الاشتغال من باب الصدفة
والاتفاق، أو من باب اعتقاده بأنه مستحب، ولم يكن بناؤه على الاتيان به،
وهذا بعيد جدا، ضرورة أنه إذا توجه إلى تركه لا يكون عليه شئ، بناء
على جريان قاعدة " لا تعاد... " في حق الجاهلين، وإذا كان باقيا على جهله

1 - دليل العروة الوثقى 1: 254.
218

يجب عليه الإعادة، لعدم جريان القواعد المصححة المعول عليها في
مقام الامتثال.
توهم أن الأذكرية علة لجريان قاعدة الفراغ
وفي بعض كتب فضلاء العصر: الاستدلال على لزوم الأذكرية
والأقربية إلى الحق، كما في أخبار المسألة، وأن ذلك علة لا حكمة (1)،
ونكتة إلى أن الحكم الشرعية هي الأمور المترتبة على المجاعيل
الإلهية، كعدم خلط المياه على جعل العدة، وذهاب الأرباح المنتنة في
غسل الجمعة، وأمثال ذلك، وما نحن فيه ليس من هذا القبيل.
وما فيه غير خفي، لأن مفهوم " الحكمة " لو اقتضى ذلك، لكن
المراد أمر آخر، وهو أن الشرع تارة: يجعل حكما مدار أمر حدوثا وبقاء،
وأخرى: لا يكون كذلك، وهذا الأمر كما يمكن أن يكون من قبيل الأمور
الواقعة في سلسلة المعاليل، كذلك يمكن أن يكون واقعا في سلسلة
العلل، وهكذا النكت والحكم، ولا سند من العقل على خلاف ذلك.
وأعجب من ذلك ما قيل في المقام: من التقييد بين المطلقات
والمقيدات (2)!! فإن التقييد فرع ظهور القيد في كونه قيدا في الحكم،
وهذا هنا - لعدم مساعدة فهم العرف - غير واضح. والمسألة بعد تحتاج
إلى التأمل، ولا سيما في مآثيرها.

1 - التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 433.
2 - نفس المصدر.
219

الوجه في عدم صحة الوضوء في المقام
والذي يسهل الخطب: أن المسألة من أجل أمر آخر، يشكل
الحكم فيها بالصحة، وذلك لأن المفروض إناءان: أحدهما صغير مثلا،
والآخر كبير، فتوضأ بالصغير مثلا، ثم علم إجمالا بنجاسة أحدهما، ومقتضى
ذلك هو العلم الاجمالي بنجاسة الكبير والإناء الصغير والأعضاء في
عرض واحد، فيشكل جريان الأصول في الأطراف كلها، أو تتساقط، وذلك
لما مضى: من أن العلم الاجمالي وإن كان حاصلا قبل الملاقاة، ينجز
ملاقي الأطراف، ضرورة أن العلم الثاني وإن لا يكون مورثا لانحلال العلم
الأول، ولا موجبا لاستناد تنجز التكليف إلى مجموع العلمين بقاء، ولكن
يورث حدوث الصور العلمية الحادثة بالتكليف، للملازمة القطعية
بين الملاقي والملاقى، وعند ذلك يتعين الاحتياط، فيكون الوضوء باطلا،
لأجل عدم ثبوت شرط صحته، وهو طهارة الماء.
وما في بعض كتب المعاصرين: من دعوى العلم الاجمالي ببطلان
الوضوء، ونجاسة الكبير في المثال المشار إليه (1)، غفلة وذهول، لأنه
يرجع إلى جواز انحلاله بالأصل المثبت في طرف، والرجوع إلى
القاعدة في الآخر، ضرورة أن قضية الاستصحاب عدم كونه متوضئا، فلا
يلزم المخالفة العملية من إجراء قاعدة الطهارة في الكبير، فما هو
المعلوم بالاجمال هو النجاسة المرددة بين الأعضاء والإناء، وبين الكبير.

1 - دليل العروة الوثقى 1: 253 وما بعدها.
220

تفصيل بين بقاء الماء المتوضأ به وعدمه
ثم إن المسالك في المسألة كثيرة، وآراء الفضلاء هنا متشتتة،
وهي ربما تؤدي إلى التفصيل في المسألة بين بقاء الماء المتوضأ به
وعدمه، فمثل الشيخ الأعظم وبعض أتباعه، ذهب إلى جواز إجراء القاعدة
في الوضوء (1)، لعدم معارض لها، وأن الوضوء كالملاقي، فمع بقاء
الملاقي والطرف يكون الملاقي بلا معارض، لأن ميزان التنجيز ليس
المعية في العلم، بل الميزان هي العلية في المعلوم، فبما أن الملاقي
معلول الملاقي، يكون في التنجيز أيضا متأخرا عنه.
نعم، مع انعدام الملاقي يصير الأصل في الملاقي، والقاعدة في
الوضوء معارضة بالقاعدة في الكبير.
والذي هو الأقرب إلى النظر: هو أن الوضوء إذا كان بنفسه طرف
العلم، فلا منع من إجراء القاعدة في الكبير، لأن من جريان استصحاب عدم
الوضوء والقاعدة في الكبير، لا يلزم مخا لفة عملية، كما عرفت آنفا.
فعلى جميع المسالك، لا بد من الالتزام بطهارة الإناء الكبير في صورة
فقد ماء الصغير، وعدم كون الإناء الصغير طرفا للعلم بأن ينعدم مثلا، فما في
كتب الأصحاب صدرا وذيلا لا يخلو عن تأسف. كما أن التفصيل بين بقاء
الصغير وعدمه، مما لا بد منه في خصوص المقام، لنكتة اختصت به.
نعم، على ما سلكناه يشكل ذلك، كما لا يخفى.

1 - الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 283، مستمسك العروة الوثقى 1: 259 و 267.
221

تذنيب: فيما لو علم إجمالا بالوضوء من أحدهما ثم علم بنجاسة أحدهما
كان الكلام فيما إذا توضأ بالصغير، ثم توجه إلى نجاسة مرددة
بينه وبين الكبير. والذي قد يفرض أنه توضأ بأحدهما، ثم توجه إلى
نجاسة غير المعين.
وبعبارة أخرى: يعلم إجمالا بالوضوء من أحدهما، ويعلم إجمالا
بنجاسة أحدهما، ولعله هو الظاهر من " العروة " (1) وحكمه عندنا حكم
سابقه علما، وأصلا، وقاعدة.
وهنا صورة أخرى: وهي ما لو علم إجمالا بتوضئه من أحدهما، ثم علم
تفصيلا بنجاسة الصغير، ففي بعض كتب الفضلاء المعاصرين - مد ظله -:
" أنه لا مانع من إجراء القاعدة في الوضوء، بل لك إجراء قاعدة الطهارة
في الماء المتوضأ به، لحكومتها على قاعدة الفراغ " (2).
وفيه: أنه إذا كان غافلا عن شرطية طهارة الماء، ففي جريانها إشكال
مضى (3)، ولقد أفاد هو: " أن المعتبر كون الفاعل في مقام الاتيان بما يعتبر في
المأمور به، وأما الأمور الخارجة عن اختياره - وهو الانطباق واللا
انطباق - فليست مجراها.
هذا، وجريان قاعدة الطهارة في مثل المفروض مشكل أيضا، لانعدام

1 - العروة الوثقى 1: 54، فصل في المياه، الماء المشكوك نجاسته، المسألة 11.
2 - دليل العروة الوثقى 1: 257.
3 - تقدم في الصفحة 220.
222

موضوع القاعدة، بعد ظهورها في الشك في نجاسة شئ وطهارته، وإمكان
الإشارة إلى ما توضأ به، غير كاف حسب الفهم العرفي.
نعم، إذا بقي من الإناء الذي توضأ به شئ من الماء، فإجراؤها في
الموجود ربما يكفي لصحة الوضوء، فلا تصل النوبة إلى قاعدة الفراغ.
مسألة: في حكم الشك في أن الوضوء كان من الطاهر أو النجس
إذا علم: بنجاسة أحدهما المعين، وطهارة الآخر، فتوضأ، وبعد الفراغ
شك في أنه توضأ من الطاهر أو من النجس، فاستظهر في " العروة " صحة
الوضوء، معللا: بجريان القاعدة فيه.
وقال: " نعم، إذا علم أنه كان حين التوضي غافلا عن نجاسة أحدهما،
يشكل جريانها " (1) ووجهه واضح بعدما مر.
وقد يقال: بأن المتفاهم من حسن الحسين بن أبي العلاء، جواز المضي
ولو مع النسيان (2)، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الخاتم إذا اغتسلت.
قال (عليه السلام): " حوله من مكانه ".
وقال: " في الوضوء تديره، فإن نسيت حتى تقوم في الصلاة، فلا آمرك
أن تعيد الصلاة " (3).

1 - العروة الوثقى 1: 54، فصل في المياه، الماء المشكوك نجاسته، المسألة 11.
2 - مستمسك العروة الوثقى 1: 266.
3 - الكافي 3: 45 / 14، وسائل الشيعة 1: 468، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء،
الباب 41، الحديث 2.
223

ولأجل ذلك يتعين حمل ما في الموثق على الحكمة، لا العلة
التي يطرد معها الحكم وجودا وعدما.
وفيه أولا: أن الظاهر منه، أن مع النسيان ولو علم بعدم وصول الماء
إلى محل الخاتم، لا يأمره بالإعادة، وهذا غير مفتى به.
وثانيا: أن الظاهر من قوله (عليه السلام): " تعيد الصلاة " أنه صلى، وبعد ذلك
توجه إلى نسيانه الإدارة حال الوضوء، ولا يعلم منها إجراء القاعدة في
الوضوء، بل الظاهر إجراؤها في الصلاة، وأما صحة الوضوء فهي أمر
آخر، وقد تقرر: أن جريانها في الصلاة لا يستلزم صحته، فلا منع من إجرائها
في الصلاة هنا، ومع ذلك تجب عليه إعادة الوضوء للصلاة الأخرى، لما
تقرر: أنها أصل حيثي (1).
فبالجملة: ما هو الأظهر أن هذه القواعد، شرعت للتصرف في مقام
الامتثال، لتمنع ابتلاء المكلفين بالوسواس وتضييع الوقت، وإن يستلزم
الاكتفاء في مقام الامتثال بالأقل، التصرف في المجعول قطعا بحكم العقل،
ولكن ليس معناه صحة إجرائها في مطلق الشك في الصحة والفساد.
ومما يؤيد ذلك: أن أصالة الصحة من قبيلها، وهي أصل عقلائي، ولا
شبهة أن الأمر عند العقلاء على البناء على الصحة، لبنائهم على الاتيان،
وهذه لا يمكن إجراؤها في الشك في الانطباق، فلا تغفل.

1 - لاحظ الاستصحاب، الإمام الخميني (قدس سره): 342.
224

المبحث الحادي عشر
في الماء المشتبه
من حيث الاطلاق والإضافة
225

تمهيد
قد مر ما يتعلق به في أول مباحث المياه، وذكرنا: أن ما أفاده
الأصحاب الأصوليون: من المراجعة إلى الاستصحاب فيما إذا كانت
حالته السابقة الاطلاق، محل منع (1)، لأن الشك في بقائه على الاطلاق،
يرجع إلى الشك في بقاء موضوع الاستصحاب، ضرورة أن الاستصحاب
لا يمكن في المقام إلا بأن يقال: " كنت على يقين من إطلاق هذا " مشيرا إلى
ما في الخارج، مع أنه يحتمل كونه ليس ماء، لأن الاطلاق ليس من
الأوصاف الزائدة على حقيقته. وهكذا إذا كانت حالته السابقة هي
الإضافة، وشك في انقلابه إلى الماء.
وتوهم إمكان إجرائه لاحراز المائية، بأن يقال: " هذا الموجود كان
ماء " في غير محله، لأنه ربما يشير إلى ما ليس له الوجود في السابق،
لعدم الجامع بين الماءين - المضاف والمطلق - إلا في المادة الأولى
الخارجة عن حقيقتهما، فلا تغفل.

1 - تقدم في الجزء الأول: 100.
227

ثم إنه إذا لاقاه نجس، فلا يحكم بنجاسته إذا كان كرا، والوجه واضح.
حكم اشتباه المضاف في محصور
وإذا اشتبه مضاف في محصور، يجب أن يكرر الوضوء أو الغسل
إلى عدد يعلم استعمال المطلق في ضمنه، فإذا كان اثنين في الثلاثة يجب
استعمال الكل، وإن كان اثنين في أربعة تكفي الثلاثة.
وفيما إذا كان ماء آخر معلوم، يجوز له ذلك أيضا، لعدم الدليل على
المنع إلا ما مر في التقليد من الوجوه المذكورة على المنع من التكرار،
وقد عرفت ضعفها (1).
حكم اشتباه المضاف في غير محصور وضابط الشبهة غير المحصورة
وإذا اشتبه في غير محصور، ففي " العروة ": جواز استعمال كل واحد
منها، كما إذا كان واحدا في الألف.
وقال: " المعيار أن لا يعد العلم الاجمالي علما " (2).
وقال جماعة: بعدم جواز الاكتفاء، معللين: بأن غاية ما يقتضي الاكتفاء،
هو أن كثرة الأطراف توجب ضعف انطباق المعلوم بالاجمال على كل واحد
واحد، وعند ذلك يحصل الاطمئنان بوجود الشرط المعتبر في صحة
الوضوء.

1 - مما يؤسف له فقدان مباحث الاجتهاد والتقليد.
2 - العروة الوثقى 1: 51، فصل في المياه، الماء المشكوك نجاسته، المسألة 2.
228

وهذا غير تام، ومورد إشكال من جهات:
منها: عدم الدليل على حجية كل اطمئنان عقلائي حاصل من أي
سبب، فإن الأمارات حجيتها ليست دائرة مدار تحصيلها الاطمئنان الشخصي،
وغير الأمارات - كالقطع - حجة عقلية أو عقلائية ممضاة، وأما حجية
الاطمئنان الشخصي الحاصل من ضعف الاحتمال المزبور، فهي ممنوعة.
وهكذا دعوى حجية الغلبة حجية نوعية ممنوعة أيضا.
وتوهم: أن هذا كاف لعدم صحة العقوبة، لأنها لا تصح بلا بيان، غير
سديد، لأن بيانية العلم مفروغ عنها عندهم، مع قطع النظر عن قيام
الاطمئنان على خلافه في كل طرف.
ومنها: أن الاحتمالات الموهونة، غير معتنى بها في الأمور الدنيوية،
وأما في المسائل الراجعة إلى العقاب وصحة العقوبة، فهي غير
مدفوعة إلا بحجة شرعية، وإلا يجب التحفظ على الواقع ما دام العقل
يحتمل العقوبة (1).
وفيه: أنه لا عقاب بلا بيان، فإذا صدقه أحد، لسقوط العلم عن
التأثير، فلا فرق بين الدنيوية والأخروية.
ومنها: ما أفاده شيخ مشايخنا الحائري (رحمه الله): من لزوم التنافي بين
الاطمئنان بعدم كون المضاف كل واحد، والعلم بكون واحد منها مضافا (2).
وفيه: أن ما هو المعلوم واحد غير معين، وما هو مورد اطمينان واحد

1 - التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 406.
2 - درر الفوائد، المحقق الحائري: 471.
229

معين، وإلا يلزم التهافت بين العلم والشك في أطراف العلم الاجمالي،
كما لا يخفى.
فلو بلغت الشبهات إلى ملايين الأواني، فلا بد من دليل يدل على
حجية مطلق الاطمئنان.
وتوهم الاجماع على حجيته في خصوص هذه المسألة، أو في
خصوص الشبهات غير المحصورة، غير سديد، ضرورة أن ما هو مورد
الاجماع، هو جواز الاقتحام في الأطراف في الشبهات الالزامية، ونحن
التزمنا بذلك في المحصورة، فضلا عن غير المحصورة، وفيما نحن فيه لا
أصل يعول عليه في الفرض المزبور، حتى يقال: بسقوط الشبهة غير
المحصورة عن الاعتبار مطلقا، كما تخيلناه سابقا، فعليه لا بد لنا أيضا من
البحث عن الشبهة غير المحصورة موضوعا وحكما، والتفصيل في
محله (1)، وما مضى هنا يكفي، لعدم مساعدة الكتاب على أكثر من ذلك.
حكم وجود الحالة السابقة لاشتباه المطلق في الكثير المضاف
وفيما إذا اشتبه المطلق في الكثير المضاف، وكان لكل واحد من
الأواني المشتبهة حالة سابقة، فعلى ما تقرر: من عدم جريان
الاستصحاب (2)، فالحكم واضح. وأيضا بناء على جريانه، ضرورة أن الالتزام
بالترخيص في الكل جائز عندنا، لما مضى: من تقديم أدلة الأصول على

1 - لاحظ تحريرات في الأصول 7: 425.
2 - تقدم في الجزء الأول: 100.
230

الواقعيات (1).
وعليه لا فرق بين كونه بانيا على أن يتوضأ بكل واحد منها لصلاة،
وبين عدمه، خلافا لما عليه الأصحاب من الفرق بين الصورتين (2). مع أنه
بلا وجه، لأن التكليف في الأطراف إذا كان غير منجز، فلا سبيل إلى منعه
عن ارتكاب ذلك.
وإن كان منجزا، فلا وجه لترخيصه في طرف واحد، فإن البناء
القلبي واللابناء، لا يؤثر في فعلية التكليف وعدمه، كما لا يخفى.
وهنا مسلك آخر: وهو جريان الاستصحاب في جميع الأطراف، وتساقط
الكل، ولزوم الاحتياط، لما لا يرون للشبهة غير المحصورة خصوصية في
عدم تنجيز العلم، إلا إذا رجعت إلى الخروج عن محل الابتلاء، أو رجعت
إلى وجود مانع كالحرج والضرر، وغير ذلك مما يمنع عن العلم بالتكليف
مطلقا، أو في بعض الصور (3)، فافهم وتدبر.
تذنيب: هل يحتاج إلى الأصول المرخصة في الشبهة غير المحصورة؟
المسالك في سقوط العلم الاجمالي عن التأثير في الشبهة غير
المحصورة مختلفة، وثمرة الاختلاف جواز الاقتحام في بعض الأطراف، من
غير الاحتياج إلى الأصول المرخصة أو المحرزة، وعدمه إلا معها،

1 - تقدم في الصفحة 209.
2 - كوالده الإمام الراحل (قدس سره) في أنوار الهداية 2: 233.
3 - كفاية الأصول: 407 - 408.
231

ضرورة أن من يقول: بأن وجه السقوط مثلا، لزوم الضرر أو الحرج أو
الاجماع أو النص، فلا بد له من التمسك بها، وإلا لو لم يكن أصل لا يجوز
البدار، كما فيما نحن فيه.
وبالاصطلاح: يصير العلم كلا علم، لا الشبهة كلا شبهة.
ومن يقول: بضعف الاحتمال، وقيام الأمارة على الخلاف، فلا يحتاج
إليها، لأجل دليل حاكم عليها، فيجوز البدار فيما نحن فيه. فعدم جريانها
على هذا المسلك، ليس لاشكال في جريانها ذاتا، كما يوهمه عبارات
أصدقائنا الأفاضل، بل لحكومة في البين.
نعم، إذا حصل الاطمئنان الشخصي لأحد في طرف، فله دعوى
الورود، لأن موضوع أدلة الأصول هو الشك، لا الاحتمال الموهون غير
الخاطر في الأذهان إلا من شذ.
وربما يمكن دعوى: أن سقوط العلم الاجمالي بالاجماع بعد وجود
الاطلاق في معقده، أو لوجود المانع كالضرر أو الحرج، يستلزم كون
الشبهة أيضا كلا شبهة، للزوم الخلف، ضرورة أن وجوب الاحتياط بعد
ذلك، أيضا ينافيه أدلة الضرر والحرج، وهكذا ينافيه إطلاق الاجماع،
للزوم لغويته، فليتأمل جيدا.
كما يمكن دعوى: أن المسلك الأخير وهو ضعف الاحتمال، يورث
سقوط العلم عن التأثير، ولا يستلزم جواز الاكتفاء باستعمال واحد منها في
الوضوء، أو الغسل، أوا لغسل، لأن الاطمئنان بعدم انطباق المعلوم
بالاجمال على الطرف الواحد، يورث عند العقل أو العقلاء سقوط أثر
العلم، ولكن لا دليل على حجيته شرعا حتى يكون حاكما على الأصول،
232

وأمارة على الواقع.
وبعبارة أخرى: قصور هذا العلم عن كونه بيانا للواقع مسألة، وحجية
الاطمئنان الحاصل من الغلبة مسألة أخرى، لا تلازم بينهما، فالاطمئنان
المزبور ربما يوجب سقوط بيانية العلم، أو الشك في كونه كافيا لها،
ولكن لا يورث جواز الاكتفاء بواحد من الأواني في مقابل التكليف المعلوم.
وهنا إن قلت قلتات لا يسعه المقام.
فصل
صور الشك في الإضافة والاطلاق وأحكامها
إذا لم يكن عنده إلا ماء مشكوك إطلاقه وإضافته، فإن تيقن في
السابق إطلاقه أو إضافته، فالمشهور على إجراء الاستصحاب (1)، وقد مر
منا منعه، لرجوع الشك فيهما إلى الشك في الموضوع بقاء (2).
وهنا شبهة أخرى: وهي أن موضوع الوضوء هو " وجدان الماء " أو
" التمكن من الماء " واستصحاب الاطلاق مثبت، لعدم إحراز الموضوع
المزبور به، كما فيما إذا شك المأموم أنه أدرك الإمام أم لا، فإن استصحاب
بقاء الإمام في ركوعه إلى أن ركع مثبت، لعدم إحراز الموضوع - وهو إدراك

1 - مهذب الأحكام 1: 271.
2 - تقدم في الجزء الأول: 100.
233

الركوع - به وإن كان هو معارضا بمثله أيضا. نعم، يجري استصحاب
واجديته للماء، إلا أنه لا يحرز أيضا مائية المشكوك.
وإجراء الاستصحابين أيضا مشكل، لأن التقيد الذي هو المعنى
الحرفي والنسبة الناقصة، لا يحرز باستصحاب الجزءين، ولا شبهة في
أن الموضوع مركب بنحو يكون بينهما ربط ناقص، ولذلك قلنا: بأن ما اشتهر
بين المحصلين: من إحراز أحد الجزءين بالأصل، والجزء الآخر
بالوجدان، مما لا أساس له (1).
وتوهم خفاء الواسطة، ممنوع كبرى، بل وصغرى. فما ترى هنا في
كلمات هؤلاء (2)، لا يخلو عن تأسف.
نعم، بناء على القول: بأن موضوع الوضوء ليس " واجد الماء " ولا
" المتمكن من الاستعمال " بل الوضوء واجب على المكلف كما هو ظاهر
الكتاب، والتيمم موضوعه " العجز " الأعم من الشرعي والعقلي،
فلجريانه وجه.
ولكنه قد يشكل: بأن المتفاهم العرفي بعد ملاحظة القوانين، كون
الموضوع المقابل للتيمم ما يقابل موضوعه، فهو القدرة الأعم من
الشرعية والعقلية، والاهمال الثبوتي ممتنع، والاستظهار الاثباتي بنظر
العرف ممكن، فلا تغفل وتأمل.

1 - تقدم في الجزء الأول: 350 - 351، ولاحظ الطهارة (تقريرات المحقق الحائري)
الأراكي 1: 253.
2 - لاحظ مستمسك العروة الوثقى 1: 248، مهذب الأحكام 1: 271.
234

حكم تيقن واجدية الماء في السابق
وإن لم يتعين أنه كان في السابق مطلقا، فإن كان على يقين من
حالته السابقة من الواجدية، فالمذكور في بعض كتب الفضلاء: هو
الرجوع إلى الاستصحاب (1).
وأنت خبير بما فيه، ضرورة أن هذا لا يحرز به حال المشكوك. وإن
شئت قلت: الشك هنا يرجع إلى الشك في الماء، لأن ما هو موضوعه هو
" التمكن مثلا من الماء " والآن شاك في مائية ما في الخارج، وهذا من قيود
الموضوع اللازم إحرازها قبله أو معه.
وجريان الاستصحاب في نفس ما في الخارج، من الكلي غير
الجاري فيه الأصل. مع أنه لو قلنا بجريانه في القسم الثالث، لا يجري
هنا، لاشتراط إحراز الموضوع في جميع الاستصحابات، فلا تخلط.
وأما توهم ترتب الأثر على الاستصحاب المزبور - وهو لزوم
الاحتياط - فسيأتي توضيحه (2). مع أنه من الممكن دعوى لزومه من غير
حاجة إليه، كما لا يخفى.
حكم ما إذا لم تكن حالة سابقة مثلا
وإن لم يكن على حالة سابقة، أو كان ولم يكن الأصل جاريا، أو كان

1 - مستمسك العروة الوثقى 1: 249.
2 - يأتي في الصفحة 238.
235

ولم يكن فيه الفائدة المزبورة، ففي " العروة " أفاد لزوم الترابية للصلاة
ونحوها، واحتاط - استحبابا - بالجمع بين الترابية والمائية (1)، وذلك إما
لأجل جريان أصل العدم الأزلي، لأن المشكوك اتصاف المائع بالاطلاق،
وحيث إن الاطلاق وصف وجودي، كنا على يقين من عدمه، وكان هو غير
موصوف به قبل وجوده، ونشك في اتصافه به حين حدوثه، فالاستصحاب
ناف لاتصافه به (2).
وفيه: أنا لو سلمنا جريان الأصل في الأعدام الأزلية، فهو إما
مخصوص بالأوصاف الزائدة على الذوات العارضة عليها حين حدوثها،
كالقرشية والهاشمية والتذكية، كما اختاره العلامة الأراكي صاحب
" المقالات " (3) أو هو يجري في الأوصاف الزائدة على الذوات والعارضة
عليها من أول تقررها، كالقابلية للتذكية مثلا.
وأما جريانه في نفس الذوات، وفي نفس الصور النوعية المقومة
كالمائية مثلا، فهو من الأمر المرمي باللغو، ضرورة أن " المائعية " من
الأوصاف الانتزاعية المتأخرة عن ذات الماء، فكيف يجعلها موضوعا
للاستصحاب؟! والأمر بعد ذلك لا يحتاج إلى التأمل.
مع أن أصل جريانه، ناشئ من عدم نيل بعض المسائل العقلية.
أو لأجل أن العلم الاجمالي بوجوب المائية أو الترابية وإن كان

1 - العروة الوثقى 1: 51، فصل في المياه، الماء المشكوك نجاسته، المسألة 3.
2 - التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 407.
3 - مقالات الأصول 2: 167.
236

منجزا، ولكن جريان الأصل النافي في طرف فقط، كاف لانحلاله حكما، وهو
استصحاب عدم كونه واجدا للماء (1).
وتوهم: أن ذلك مخصوص بما إذا كان موضوع الوضوء عنوان " وجدان
الماء " مثلا، وأما إذا كان مطلقا فلا بد من الاحتياط، لأن الأصل المزبور وإن
اقتضى وجوب التيمم، ولكن حكم العقل بالاحتياط في موارد الشك في
القدرة، مفروغ عنه عند الأصحاب، في غير محله، ضرورة أن الاحتياط
متقوم باحتمال العقاب، وهو مسدود بعد وجود البدل شرعا للمكلف به، وما
فيه كثير، لأن العلم الاجمالي هنا ليس منجزا، بداهة أن المائية
والترابية من التكاليف الغيرية.
فالعلم الاجمالي لا بد أن يرجع إلى وجوب الاحتياط، بدعوى أن مع
الترابية، يشك في سقوط التكليف المعلوم أولا المتقيد بالمائية. فما
ترى في كتبهم صدرا وذيلا - من مفروغية تنجيز مثل هذا العلم (2) - غفلة
وذهول.
هذا أولا.
واستصحاب عدم وجدان الماء وإن كان نافيا للوضوء، ومثبتا للترابية،
بمعنى أن الأصول العدمية المضافة إلى موضوعات الأحكام، إذا كانت
تلك الأعدام بنفسها، أيضا موضوعات لأحكام أخر ك‍ " الوجدان " و " عدم
الوجدان " فيما نحن فيه، فيحرز بها نفي حكم، وإثبات حكم يقابله، ولكن

1 - مستمسك العروة الوثقى 1: 248.
2 - التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 411، مهذب الأحكام 1: 271.
237

بعد مفروضية الاطلاق في دليل الوضوء، فلا يعقل نفي الوضوء به، لعدم
كونه موضوعه.
وهذا ثانيا.
والاهمال في موضوع الوضوء بعد ثبوت الموضوع للترابية، غير
ممكن ثبوتا، وممكن إثباتا. ولكن قد مضى عدم سكوت العرف هنا (1)، بل
المتفاهم من الأدلة أن له أيضا موضوعا خاصا، كالترابية، فالاطلاق
المفروض غير قابل للتصديق.
هذا، واستصحاب عدم الوجدان، لا يجري فيما إذا كان واجدا للماء قبل
هذا الماء المشكوك، كما هو المتعارف. وإذن لا ينفع استصحاب الوجدان
لصحة الاكتفاء بالوضوء بهذا المشكوك حاله، كما مضى تفصيله (2).
ولكن يضر بأصالة عدم وجدانه الماء، فلا يجري الأصلان: لا الأصل
المحرز به موضوع المائية، لأنه مثبت، ولا الأصل المحرز به الترابية،
لعدم الحالة السابقة له، فتعين الاحتياط، فلا يتم ما في " العروة "
إطلاقا (3). بل فرض عدم الحالة السابقة لواجدية الماء، نادر جدا،
ولذلك احتاط بعض الأعلام وجوبا في المسألة (4).
وربما يتوهم عدم جريان الأصول العدمية المضافة إلى موضوعات

1 - تقدم في الصفحة 234.
2 - تقدم في الصفحة 237.
3 - العروة الوثقى 1: 51، فصل في المياه، الماء المشكوك نجاسته، المسألة 3.
4 - العروة الوثقى 1: 51، فصل في المياه، الماء المشكوك نجاسته، المسألة 3، الهامش 12.
238

الأحكام، لأنها من المثبتات، فلا ينفع الأصل المزبور لنفي الوضوء (1).
وفيه: أنه لو سلمنا ذلك فهو كاف، لأنه إذا كان ينفع لاثبات الترابية،
فلا حاجة إلى نفي المائية كما لا يخفى.
فتحصل إلى هنا: أنه بعد سقوط العلم الاجمالي، لأجل أن متعلقه من
الأحكام الغيرية لا النفسية، وبعد عدم وجود أصل يصح الاتكاء عليه إلا
في فرض نادر، يتعين الاحتياط، لأن التكليف بالمائية معلوم، والشك في
القدرة لا يورث قصورا فيه على ما تقرر (2)، فلا بد من المائية، ثم تحصيل
الترابية، حتى يقطع بسقوط التكليف الصلاتي، فيظهر أن لزوم الاحتياط،
لا يتوقف على ثبوت العلم الاجمالي المزبور.
أو لأجل أن سبب الانتقال من المائية إلى الترابية، هو عدم القدرة
والتمكن من استعماله، الأعم من كونه لأجل عدم الاستطاعة العقلية، أو
الشرطية (3)، أو لعدم العلم بالماء، وإذا شك في مائع أنه ماء يجب
التيمم، لعدم تمكنه من استعمال الماء، فنفس الشك كاف للقطع بالترابية،
فالاحتياط بالمائية حسن إذا لم يكن تشريع في البين (4).
وفيه: أن الأدلة في الترابية قاصرة عن إثبات شرطية الاحراز، بنحو
الجزئية كان، أو بنحو تمام الموضوع، ضرورة أن كون الموضوع عدم
الوجدان، أو عدم التمكن، لا يستلزم شرطية الاحراز، بل هما من العناوين

1 - مهذب الأحكام 1: 272.
2 - تقدم في الصفحة 237.
3 - مهذب الأحكام 1: 271.
4 - دروس في فقه الشيعة 2: 195.
239

الواقعية، يتعلق بهما العلم تارة، والجهل أخرى. وما ترى في كتاب شيخنا
المعاصر الحلي - مد ظله -، في غاية الوهن.
كما أن ما سلكه في هذه الصفحات لا يخلو عن اغتشاش، خصوصا
فيما نسبه إلى ماتنه من المناقضة في فتاويه (1)، فإنه لعدم تأمله فيما
أفاده في كتاب التيمم، ظن التناقض، فراجع.
فبالجملة: إنه توهم اقتضاء كون الموضوع عدم التمكن من ذلك
الشرط، وهذا بديهي البطلان، ولا دليل على خلافه. بل قضية ما ورد في
الأخبار: من إيجاب الإعادة على ناسي الماء (2)، هو عدم كونه موضوعا، ولا
شرطا، فتأمل جيدا.
فرع في حكم دوران المائع بين الإضافة والاطلاق
إذا دخل الوقت، ولم يكن عنده إلا مائع مردد بين المضاف والمطلق،
فلا يبعد عدم وجوب الاحتياط، لعدم علمه بالتكليف الصلاتي بالمائية،
لاحتمال حدوث التكليف بالترابية، فلا شك في السقوط، بخلاف الفرض
السابق.
اللهم إلا أن يقال: بأن التكا ليف قبل الوقت تعليقيات، كما لا يبعد في
الجملة.

1 - دليل العروة الوثقى 1: 213 - 217.
2 - الكافي 3: 65 / 10، وسائل الشيعة 3: 367، كتاب الطهارة، أبواب التيمم، الباب 14،
الحديث 5.
240

وربما يشكل جريان استصحاب عدم الوجدان، لدعوى انصراف أدلة
الاستصحاب عن مثل هذه الصورة، وهي ما إذا كان قبل الوقت غير واجد،
وفي الوقت مرددا، فإن من شرائط جريانه، كون اليقين في ظرف وجوده ذا
أثر شرعي، وهنا ليس كذلك كما لا يخفى.
وفيه منع كبروي، بل وصغروي، فلا تخلط، ولا تغفل.
241

المبحث الثاني عشر
في الماء المشتبه
من حيث الحرمة والإباحة
243

تمهيد
الكلام في المقام بعد مفروغية اعتبار الإباحة والحلية في
الطهارات مثلا، وإلا فعلى القول بصحتها فلا ثمرة وضعية فيه. وأما جواز
الشرب وسائر الاستفادات، فهو بحث موكول إلى كتاب الأطعمة والأشربة.
وأيضا: ليس البحث هنا في الإباحة المسببة عن الشك في
النجاسة والطهارة، لارتفاعها بجريان الأصل في منشئها، فإذا شك في
مشروعية الوضوء وحليته بالماء المشكوكة طهارته، فإن جرت
قاعدتها يلزم منه حلية التوضؤ ومشروعيته.
فبالجملة: البحث حول هذه المسألة يتم في ضمن مسائل:
المسألة الأولى: في حكم التصرف لماء مع الشك في رضا صاحبه
إذا كان الماء مملوكا ومشكوكا جواز التصرف فيه، لعدم إحراز طيب
المالك، أو كان موقوفا ومشكوكا حدود الوقف وهكذا، فهل يجوز
التصرف، ويباح التوضي، أم لا؟ وجهان.
245

ظاهر القوم هو الثاني (1)، ومقتضى الصناعة العلمية هو الأول،
لعمومات الحل (2) والبراءة (3)، بعد قصور الأدلة الأولية عن تحريم
الشبهات الموضوعية. والاستناد في التحريم إلى شهادة الحال، وقرائن
المحال، خروج عن الجهة المبحوث عنها.
وتوهم: أن الظاهر من الآية (ولا تأكلوا أموالكم...) (4) ومن
الرواية " لا يحل مال امرئ " (5) هو لزوم الاحراز كما عليه بعض
الفضلاء (6)، فسخيف مضى سبيله مرارا.
ومن هذا القبيل التمسك بما يأتي تفصيله في المسائل الآتية، وهو
ما ورد في رواية " لا يحل مال إلا من وجه أحله الله " (7) وذلك لأن المستثنى
تابع المستثنى منه، فإن أريد منه نفي الحلية الواقعية والظاهرية،
فيكون الاستثناء أعم، وتكون أصالة الحل من تلك الوجوه وإن أريد منه
الحلية الواقعية كما هو الظاهر فلا يبق وجه للتمسك، فلا تخلط.

1 - العروة الوثقى 1: 224، فصل في شرائط الوضوء، المسألة 6.
2 - الكافي 5: 313 / 40، وسائل الشيعة 17: 89، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به،
الباب 4، الحديث 4.
3 - التوحيد: 353 / 24، الخصال: 417 / 9، وسائل الشيعة 15: 369، كتاب الجهاد،
أبواب جهاد النفس، الباب 56، الحديث 1.
4 - البقرة (2): 188.
5 - عوالي اللآلي 1: 222 / 98.
6 - التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 402.
7 - الكافي 1: 460 / 25، وسائل الشيعة 27: 156، كتاب القضاء والشهادات، أبواب
صفات القاضي، الباب 12، الحديث 8.
246

نعم، ربما يظهر من الكتاب في سورة النور: (ليس على الأعمى
حرج...) إلى قوله تعالى: (ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت
آبائكم...) إلى آخر الآية: (أو صديقكم) (1) أنه في غير هذه المواقف،
ممنوع الأكل والتصرف عند الشبهة، ضرورة أن الآية سيقت لإفادة
الترخيص في موارد الشبهة، وإلا فيجوز مع العلم بالرضا الأكل من بيوت
الأعداء، ولو كان سائر البيوت مثلها في جواز الأكل - اتكالا على عمومات
الحل والبراءة - لما كان وجه لذكرها بهذا النحو من التفصيل الطويل.
بل الكتاب جعل هذه العناوين أمارات طيب النفس والتصرفات
المتعارفة، لا مطلق التصرف كما لا يخفى. ففي غير هذه العناوين إما تكون
الأمارات على خلاف الطيب، أو لا بد من الأخذ بنتيجة ذلك، وهو المنع من
الأكل والشرب وسائر التصرفات، ومنها التوضي، والله العالم بحقائق
آياته.
ومما يشهد على أن هذه العناوين أمارات حصول الرضا والإذن، عطف
البيوت الأجنبية على بيوت أنفسهم، فليتدبر حقه. وسيأتي زيادة توضيح
حول هذه المسألة في طي المسائل الآتية، إن شاء الله تعالى.
ثم إن من المحتمل انصراف أدلة الحل عن موارد الشك في الحلية
والحرمة غير الثابتتين، كحلية مال الغير وحرمته اللتين هما تابعتان
للإذن وعدمه، بخلاف الحلية والحرمة الثابتتين للماء والخمر، فافهم.
هذا، ويمكن التمسك باستصحاب عدم الطيب إذا شك في تحققه.

1 - النور (24): 61.
247

وتوهم أنه غير واف بتمام المقصود، لأنه من استصحاب العدم النعتي،
وربما لا يكون له الحالة السابقة، في محله، إلا أنه يتم باستصحاب
العدم الأزلي بناء على جريانه.
المسألة الثانية: في حكم التصرف بالماء مع الشك في مملوكيته
إذا شك في مملوكيته، وأنه حازه أحد أم لا، ولم يكن أمارة على ذلك،
لا من ناحية نفسه بأن يكون في يد الغير مع احتمال كونه له، ولا مسبوقا
بالملكية لزيد، فيكون تحت استيلائه بالاستصحاب، ويكون ملكا له،
لعموم دليل قاعدة اليد، أو لم يكن أصل موضوعي يقتضي ذلك، ولا أمارة
على ملكيته من ناحية المظروف، بأن يكون في إناء زيد، أو في أرض عمرو،
أو تحت سلطان خالد، فهل عند ذلك يجوز التصرف والتوضي، أم لا؟ بعد
عدم كونه من المباحات الأصلية التي تجري فيه الأصول النافية
المفيدة لجواز الحيازة والتملك، فضلا عن جواز التصرف.
فيه أيضا كما سبق وجهان. إلا أن الاشكال في تصوير صغرى
المسألة، ضرورة أنه إما يدور الأمر بين قيام الأمارات والظنون العقلائية
على إباحته، أو على ملكيته، وقلما يتفق الشق الثالث، والأمر سهل.
ومحل البحث في هذا الفرض، هو ما إذا كان على تقدير مملوكيته
للغير غير مورد للطيب، وغير مأذون من قبل صاحبه ومالكه بالقطع
واليقين، وإلا فتكون حاله حال المسألة الأولى.
248

والذي يظهر: أن الاستدلال بالآية السابقة (1) غير آت هنا، كما
لا يخفى. ولو سلمنا قصور أدلة الحل - لما مضى (2) - عن شمول هذه
المواضيع، فلا قصور في عمومات البراءة الشرعية، بعد ثبوت إطلاقها
للشبهات الموضوعية.
اللهم إلا أن يقال: بأن صحة التصرف الأكلي تثبت بها، ولا تثبت صحة
التصرف الوضوئي، لأن اللازم إثبات التعبد بالحلية، بناء على اشتراط
كون الماء مباحا في صحة الوضوء، ورفع الحرمة لا يثبت عنوان الإباحة
والحلية، كما هو الواضح. وعدم جواز المؤاخذة على التصرف عقلا،
لا يورث صحة الوضوء، فالبراءة العقلية والنقلية قاصرتان عن إثبات
المقصود، وهو صحة الوضوء بالماء المشكوكة إباحته. وسيأتي زيادة
توضيح في المسألة الآتية، إن شاء الله تعالى.
المسألة الثالثة: في حكم الماء المردد بين كونه مال نفسه أو غيره
إذا كان الماء مرددة ملكيته بين زيد وعمرو، ولم يكن أصل يقتضي
ملكيته لأحدهما، ولا أمارة قائمة على لحوقه بملك أحدهما، بأن يكون في
إناء أحدهما، أو تحت سلطانهما وهكذا، فهل يجوز التوضي به وسائر
الاستعمالات المشروطة بالإباحة وضعا وتكليفا، أو لا يجوز مطلقا؟
أو يفصل بين الاستعمالات الموقوف جوازها على رفع المنع شرعا،

1 - تقدمت في الصفحة 246.
2 - تقدم في الصفحة 246 - 247.
249

وبين الاستعمالات الموقوفة صحتها على إثبات عنوان الإباحة؟ وجوه.
قد يقال: بأن الأصل في الشبهات المهتم بها غير جار، ومن تلك
الشبهات الشبهة في مال أنه مال نفسه أو مال غيره، فإنه لا بد من
الاحتياط، فلا يصح الطهارات، ولا يجوز سائر التصرفات. هذا ما أفاده
الشيخ في بعض كتبه (1).
والمعروف بين أبناء الفضل جواز التصرفات، وصحة الوضوء،
لعدم ثبوت هذا الاستثناء وهو الاحتياط في الشبهات المهتم بها، بعد
الاطلاق في أدلة الحل والبراءة.
وما مر في المسألة الأولى من الوجوه المحتمل نهوضها للمنع (2)،
غير تامة صناعة. مع عدم جريان الاستدلال بالآية الشريفة هنا أيضا، لأن
المفروض فيها صورة العلم بالمالك الشخصي، ففيما لم يكن دليل، ولا
أصل يقتضي المالكية لشخص معين، فقضية الصناعة جواز التصرفات
غير الموقوفة على الملك. وأما جواز حيازته باستصحاب عدم المالك
له عدما أزليا، فهو ممنوع.
والذي هو الأقرب: أن الطريقة العقلائية وبناء المتشرعة، على
عدم الاقدام على التصرف في موارد الشبهة والشك، وأن السيرة من
القائلين بأصل المالكية واحترام أموال الغير، على التحرز ما دام لم
يثبت بإحدى الأدلة العقلائية أو الشرعية، جواز التصرف. ولعل نظر

1 - لاحظ فرائد الأصول 1: 375 - 376.
2 - تقدم في الصفحة 246 - 247.
250

الشيخ الأعظم (رحمه الله) كان إلى ذلك، لا إلى قصور في الأدلة ثبوتا أو إثباتا.
وتوهم: أن تلك السيرة قابلة للردع بعمومات الحل والبراءة، في غير
محله، لما تقرر منا: أن المغروسات الذهنية والبناءات القديمة
العقلائية، غير قابلة للردع إلا بإعمال القوة والتشديد في الردع،
ولا يمكن الالتزام بجواز اتكاء المقننين في ردع هذه المسائل، على الاطلاق
أو العموم، كما ذكرناه في حجية خبر الواحد وسائر الأمارات والطرق (1)،
فعليه تصبح أدلة الحل والبراءة قاصرة من تلك الجهة، فلا تخلط.
فتحصل إلى هنا: أن التحقيق في محل النزاع هو المنع، خلافا لما
يظهر من جملة من الأفاضل والأعلام (2)، وفيهم الفقيه اليزدي حيث قال:
" والمشكوك إباحته محكوم بالإباحة، إلا مع سبق ملكية الغير، أو كونه
في يد الغير المحتمل كونه له " (3) انتهى.
وقضية إطلاق كلامه جواز التصرف في هذه المسألة أيضا. اللهم إلا
أن يحمل كلامه على الصورة الثانية الماضية في المسألة الثانية (4)،
والأمر بعد ذلك سهل.
تذنيب: وفيه عودة إلى حكم المسألتين: الأولى والثانية
قد عرفت: أن مصب البحث حول الفروض التي لا تكون الأصول

1 - تحريرات في الأصول 6: 501 - 502.
2 - مستمسك العروة الوثقى 1: 244، مهذب الأحكام 1: 269.
3 - العروة الوثقى 1: 49، فصل في المياه، الماء المشكوك نجاسته.
4 - تقدم في الصفحة 248.
251

الشرعية ولا الطرق العقلائية، مقتضية للمنع أو الجواز، فما ترى في
المقام من فرض الحالة السابقة، وتصوير الصور، خارج عن محط
الكلام.
وبناء على ما عرفت منا في المسألة الثالثة، يظهر وجه المنع في
المسألتين: الأولى، والثانية أيضا، فإن الطريقة الثابتة من العرف
والشرع، قائمة على لزوم إحراز السبب المحلل والمرخص، حتى فيما
إذا شك في أنه له مالك أم لا، وكان الشك عقلائيا ذا منشأ عقلائي،
ولا يكفي للمنع مجرد الشك الفرضي والتخيلي، فليتدبر.
ولعمري، إن الدليل الوحيد ذلك. ولعل الكتاب والسنة أيضا لو
كان فيهما ما يدل على المنع، ناظر إلى تلك الطريقة.
إن قلت: قضية معتبر مسعدة بن صدقة (1)، هو الرجوع إلى الإباحة
في الشبهات المهتم بها، لما فيها من فرض الشبهة في العرض والمال،
ومع ذلك رخص الارتكاب عند الشك والشبهة، ومجرد كون المفروض
مثالا فيها مورد الأمارة والأصل العقلائي والشرعي، لا يورث ضررا في أن
المستفاد منها جريان أدلة الإباحة والحل في الشبهات المهتم بها، كما
لا يخفى.
قلت: - مع الغض عما في السند (2) - إن إلغاء الخصوصية من

1 - الكافي 5: 313 / 40، وسائل الشيعة 17: 89، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به،
الباب 4، الحديث 4.
2 - لاحظ تحريرات في الأصول 7: 27.
252

الأمثلة صحيح إذا أريد التجاوز منها إلى أمثالها، وأما إذا أريد التجاوز منها
إلى غير ما عليه الأمثلة من الجهة المشتركة، فهو ممنوع، وذلك لأن
المفروض فيها أنه لا يعتنى باحتمال الحرمة الجائي من قبل احتمال بطلان
العقد، لأن احتمال رضاعة المعقود عليها أو أختيتها وهكذا في غيره ملغى.
وأما استفادة جواز عدم الاعتناء باحتمال بنتية أو أمية أو أختية من
في البيت، لوجود الظلمة، فهو ممنوع جدا، ولا أظن التزام أحد بذلك، وإن
كان قضية عموم الحل في صدرها وذيلها، هي الإباحة مطلقا عند الشبهة،
ولكن النظر فيها إلى ذلك قطعا.
فإذا أحرزت زوجية زوجة بالأصول العقلائية، ثم احتمل أحد
الموجبات للحرمة، أو احتمل حين إرادة التزويج، ذلك مجرد الاحتمال غير
العقلائي، فلا يبعد جواز الاقدام، وأما مع الاحتمال العقلائي ومع الشك في
الزوجية فلا. وعليه يقاس الشك في النفوس والأموال فلا دلالة لها على
التوهم المزبور جدا.
مع أن الالتزام بمفادها غير ممكن، للزوم جواز البدار إلى وطء المرأة
المرددة بين كونها زوجه، أو أمه وأخته وخالته وغيرهن من المحارم.
بل قضية عمومها جواز البدار إلى قتل من شك في مهدورية دمه، مع عدم
الحالة السابقة لحرمته، وهو أيضا غير قابل للتصديق، فلا تغفل.
253

فروع
الفرع الأول: في تردد الماء بين الإضافة والغصب
إذا علم إجمالا: بأن هذا الماء إما مضاف أو مغصوب، فالمعروف بينهم
جواز شربه، وعدم جواز التوضي به، لعدم الوجه للمنع عنه، وجريان
قاعدة الحل (1).
وأنت خبير: بأن إطلاقه ممنوع قطعا فيما إذا كان للغصبية حالة
سابقة، وأما إذا كانت حالته السابقة غير معلومة، أو كانت حالته
السابقة من حيث الإضافة معلومة، حتى تقع المعارضة بين الأصول،
فيصبح الماء مشكوكة إباحته، غير مسبوق بملكيته لأحد، أو بعدم إذن
مالكه، أو غير ذلك مما يورث المنع عن التصرف، فإنه في هذه الصورة
يمكن الترخيص في التصرف فيه، بناء على عدم تمامية أصالة الحرمة
في الأموال. ولكنك عرفت منا أنها قوي جريانها، وعليه السيرة العرفية
والعقلائية الشرعية بلا شبهة واشكال (2).
نعم، إذا كان مسبوقا بالإباحة المطلقة، فإنه يجري الاستصحاب،
فيجوز شربه، ولا يجوز التوضي به، لعدم الأصل المحرز إطلاقه، وفي

1 - العروة الوثقى 1: 52، فصل في المياه، الماء المشكوك نجاسته، المسألة 4، مستمسك
العروة الوثقى 1: 249، مهذب الأحكام 1: 272.
2 - تقدم في الصفحة 250.
254

العكس بالعكس.
وغير خفي: أن ما ذكروه وذكرناه، يجري في الماءين المرددين بين
الإضافة والغصب، كما لا يخفى.
وما قد يتوهم: من أن وجه عدم الترخيص في التوضي تنجيز العلم
الاجمالي هنا، لتمامية شرائطه، ومنها كون المعلوم تكليفا على كل
تقدير (1)، فهو فاسد، بل الوجه أن الشبهة البدوية من جهة الإضافة
مورد المنع، وأنه لا يجوز ولا يصح الوضوء معه، فالعلم الحادث بعد ذلك
لا يورث التنجيز، فتجري أصالة الحل في سائر التصرفات.
نعم، بناء على لزوم الاحتياط فيها أيضا، فهي أيضا ممنوعة الجريان.
وبعبارة أخرى: من شرائط تأثير العلم الاجمالي، عدم كون الشبهة
غير المقرونة بالعلم مقتضية للاحتياط، فإذا كان الأمر فيما نحن فيه
كذلك، لعدم جواز الاكتفاء بالتوضي بالماء المشتبه - إضافة وإطلاقا - في
الخروج عن التكليف المعلوم، وهو الأمر بالوضوء للصلاة وغيرها، فلا
يؤثر العلم في شئ، كما لا يخفى.
هذا فيما كان إحدى الشبهتين كافية للاحتياط.
وأما إذا كانت كل واحدة منهما مع قطع النظر عن الاقتران بالعلم
كافية، فهو أولى، كما نحن فيه على مسلكنا، من جريان أصالة الحرمة في
البدويات (2)، فما ترى في كتب الأصحاب حول شرح ما في " العروة

1 - مستمسك العروة الوثقى 1: 249.
2 - تقدم في الصفحة 250.
255

الوثقى " (1) من التمسك بالعلم الاجمالي (2)، في غير محله.
إيقاظ: في حكم الوضوء بالماء المردد
إذا قلنا: بأن التوضي بالمضاف والمغصوب محرم شرعا تشريعا،
فلا بد من تركه، وإلا فله ذلك، فلا منع من نفي الجواز التكليفي، فإذا توضأ
بالماء المزبور يحدث له العلم الاجمالي: بأنه إما يكون الأمر بالوضوء
باقيا، أو يجب عليه جبران خسارة المالك، وقضية الاستصحاب في طرف
انحلال العلم حكما، فتجري البراءة في الطرف الآخر.
وبالجملة: لو سلمنا وجود العلم الاجمالي فهو غير منجز، لانحلاله
بالأصل الجاري في طرف المثبت للتكليف.
وتوهم: أن الاستصحاب لا يورث الانحلال، لأنه من الأصول المحرزة،
فاسد كما تحرر في محله. مع أنه لا حاجة إليه، بل مقتضى قاعدة
الاشتغال بالتكليف تنجزه، فليتدبر جيدا.
ثم إنه ربما يمكن أن يقال: بصحة الوضوء، لأجل عدم الدليل على
شرطية إباحة الماء، فإذا كان الأمر كذلك، فلك إجراء أصل العدم الأزلي،
بجعل مجراه المائع، والمشكوك وصف " الإضافة " مع ضم دعوى خفاء
الواسطة لاثبات الاطلاق، فإنه إذا تعبد الشرع بأن هذا المائع ليس

1 - العروة الوثقى 1: 53، فصل في المياه، الماء المشكوك نجاسته، المسألة 4.
2 - مستمسك العروة الوثقى 1: 249، التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 408، مهذب
الأحكام 1: 272.
256

مضافا، يثبت الاطلاق، لأنه ليس وصفا وجوديا.
وأنت خبير بما فيه من الجهات العديدة، ولا أظن التزام أحد بذلك
التوهم الذي أبدعناه.
وربما يخطر بالبال دعوى: أن قاعدة الحل كما يرجع إليها لتصحيح
الصلاة في الثوب المشكوكة إباحته، وتصحيح الوضوء بالماء
المشكوكة حليته، لأن " الحلية " فيها أعم من التكليف، يصح الرجوع
إليها لتصحيح البيع المشكوكة حليته وصحته، وهكذا لتصحيح
الوضوء بالماء المشكوك إطلاقه، فإنه إذا ورد: " بأنه يصح الوضوء به "
فلا حالة انتظارية لأمر آخر حتى يقال: بأنه مثبت، فتكون حينئذ حاكمة
على دليل شرطية الاطلاق، كما تكون قاعدة الطهارة حاكمة.
فبالجملة: إذا أريد من " الحلية " ما ينطبق على عنوان " الصحة " فيلزم
صحة الوضوء به.
وغير خفي: أنه على تقدير صحة المخطور بالبال، يلزم تعارض
الأصول، ويشكل جواز التصرف ولو للتبريد، بناء على مسلك القوم في هذه
المسألة. وأما على مسلكنا، فقد عرفت ممنوعية التصرف من غير
الحاجة إلى العلم الاجمالي (1).
الفرع الثاني: في تردد المائع بين النجاسة والغصب
إذا علم إجمالا: بأن هذا المائع نجس، أو مغصوب، فالمعروف

1 - تقدم في الصفحة 250.
257

المشهور ممنوعية الوضوء والشرب (1)، والوجه واضح.
وقال في " العروة ": " والقول بأنه يجوز التوضي به ضعيف
جدا " (2).
وقيل: هو مختار بعض الأعلام، كالشيخ علي ابن الشيخ باقر آل
" الجواهر " تبعا للعلامة الشيخ محمد طه نجف (3).
واحتاط المحقق الوالد - مد ظله - في الحاشية (4)، وكأنه كان
يرى قوة الجواز.
ويحتمل العكس، فيكون الوضوء باطلا، ولكنه يجوز شربه. ويحتمل
جواز الشرب والوضوء، كما يأتي وجهه.
وبالجملة: البحث هنا يتم في ضمن جهات:
الجهة الأولى: في شربه
وهذا هو المتفق عليه، سواء قلنا: بأن العلم الاجمالي منجز، أم لا،
ضرورة أن حرمة ذلك معلومة بالتفصيل.
اللهم إلا أن يقال: هذا غير ممكن، لأن حرمة النجس غير حرمة شرب
المغصوب جعلا ودليلا، ولا يرجعان إلى الحرمة الواحدة.

1 - العروة الوثقى 1: 52، فصل في المياه، الماء المشكوك نجاسته، المسألة 4، مستمسك
العروة الوثقى 1: 249، مهذب الأحكام 1: 272.
2 - العروة الوثقى 1: 52، فصل في المياه، الماء المشكوك نجاسته، المسألة 4.
3 - لاحظ التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 408.
4 - العروة الوثقى 1: 52، فصل في المياه، الماء المشكوك نجاسته، المسألة 4، الهامش 4.
258

نعم، إن قلنا: برجوع العنوان إلى الجهة التعليلية، يمكن دعوى
القطع بالحرمة، فإن شرب هذا الماء حرام، إما لأنه نجس، أو لأنه
مغصوب، فيكون الترديد في العلة.
وأنت خبير بما فيه، فالحرمة معلومة بجنسها تفصيلا، وبنوعها
إجمالا، وما هو منشأ الأثر هو الثاني، دون الأول.
وعلى هذا، يمكن دعوى: أن هذا العلم ليس منجزا، لما مر من أصالة
الحرمة في الأموال (1)، فتكون الشبهة البدوية منجزة، ولا تجري أصالة
الحلية في ناحية الغصب، فتكون قاعدة الطهارة في الطرف الآخر بلا
معارض، فيجوز شربه، بمعنى أنه يجوز شربه ذاتا، ولا يكون من شرب
النجس، ولا يجوز ذلك، لأجل أنه من التصرف في مال الغير احتمالا منجزا.
وتظهر الثمرة في صحة الوضوء، فإنها وإن كان تصرفه فيه
بالتوضي محرما، ولكنه صحيح، لعدم تمامية دليل اعتبار الإباحة في
صحته وضعا. ولعل لمثل ذلك اختار الأعلام - عفي عنهم - ذلك (2).
وربما يخطر بالبال دعوى أن يقال: بأن تقدم المنجز زمانا ورتبة،
كاف في اسقاط تأثير المنجز الآخر مثلا، لما اشتهر: " أن المتنجز لا يتنجز "
وأما إذا كان مثل ما نحن فيه فلا، ضرورة أن العلم الاجمالي بالنجاسة
والغصبية حصل، ولا تكون شبهة الغصبية متقدمة عليه، بل هي من
محصلات العلم، ويكون العلم قائما بها، فلا وجه لعدم استناد التنجيز إلى

1 - تقدم في الصفحة 250.
2 - العروة الوثقى 1: 113، (طبعة مؤسسة النشر الاسلامي).
259

العلم. ومجرد إمكان أن الشبهة كافية، لا يستلزم قصورا فيه.
نعم، إذا فرضنا أنه كان يحتمل غصبية الماء أولا، ثم علم إجمالا بها
وبالنجاسة، فلك دعوى قصوره عن تنجيز جميع الأطراف.
هذا مع أن حديث " أن المتنجز لا يتنجز " مما لا برهان عليه، لامكان
استناد التنجز بقاء إلى العلتين، لا العلة الأولى، والتفصيل في مقامه (1).
ثم إن قضية ما نسب إلى " الحدائق ": من أن ما هو الموضوع في
خطاب: " اجتنب عن النجس " هو النجس المعلوم (2)، هو أنه يجوز شرب
هذا الماء، والوضوء به:
أما جواز شربه، فلعدم تحقق موضوعه، لا بالعلم التفصيلي، ولا
بالاجمالي.
وأما جواز التوضي، فلقاعدة الحل، بناء على ما هو المشهور من
جريانها في البدويات.
وبالجملة: لا علم إجمالي بالتكليف الفعلي، حتى يلزم من جريان
الأصول في الأطراف، مخالفة عملية قطعية.
الجهة الثانية: في التوضي به
وقد عرفت: أنه باطل عند الجمهور، وخالفهم بعض الأعلام (3). وما

1 - تحريرات في الأصول 7: 186، 192 - 193 و 505.
2 - الحدائق الناضرة 1: 133 وما بعدها.
3 - تقدم في الصفحة 257 - 258.
260

يمكن أن يكون وجها لذلك أمور:
أحدها: ما مر منا في الجهة الأولى: من أنه يصح الوضوء، ولا يجوز
التصرف، لما تقرر من إمكان الاجتماع (1).
ثانيها: أن المستفاد من الأدلة، أن ما هو الموضوع لخطاب:
" لا تتوضأ " هو المغصوب المعلوم إجمالا أو تفصيلا، وعليه لا علم
إجمالي في البين يؤثر في تنجيز الحكم المعلوم، حتى يقال: " بأن جريان
الأصول في الأطراف، يورث المخالفة القطعية " (2) أو يقال: " إن مجرد
إمكان اجتماع الأمر والنهي، غير كاف لصحة العبادة، لأن في خصوص
العبادات تكون الغلبة مع جانب النهي، كاشفة عن القيد في المأمور به
عرفا، بل وعقلا " (3) فإن هذه الكلمات من أرباب الفضل حول هذه
المسألة، غفلة محضة، فلا تغفل، ولا تخلط.
بل بعد الفراغ عن قبول المبنى المزبور، فهو كمبنى " الحدائق " في
النجاسات، فلا تكليف معلوم أصلا بالنسبة إلى التوضي، فتكون قاعدة
الطهارة من هذه الجهة جارية، فيصح التوضي، لأنه بالنسبة إلى
المغصوب الواقعي لا تكليف قطعا، لعدم تمامية موضوعه، نظير العلم
الاجمالي: بأنه إما يجب عليه الأداء في الوقت، أو القضاء خارجه، فإنه
لا يورث التنجيز إلا على تقدير ترك الطرف، لأن موضوع القضاء هو

1 - تقدم في الصفحة 259.
2 - الطهارة (تقريرات المحقق الحائري) الأراكي 1: 276.
3 - التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 410.
261

" الفوت " وإذا أتى بها في الوقت لا يحرز ذلك حتى يجب، فليتدبر.
نعم، لو قلنا: بأن المبنى فاسد، أو قلنا: بأن الموضوع هو المغصوب
المنجز إجمالا، يمكن دعوى بطلان الوضوء، لأن حكم الغصب بالنسبة
إلى شرب الماء منجز. بل يلزم الاحتياط - على رأينا - حتى في الشبهة
البدوية، كما عرفت (1). ومن هنا يظهر خلط الأعلام، وإطالة الأفاضل حوله
بما لا طائل تحته، وكأنهم ذهلوا عما تعلموه في الأوائل.
ثالثها: أن شرطية إباحة ماء الوضوء، غير ظاهرة رأسا، فلو تصرف
فيه بالتوضي، فإن قلنا: بحرمة جميع التصرفات، فتكون المسألة من
صغريات مسألة اجتماع الأمر والنهي، على إشكال فيه. اللهم إلا أن يتوضأ
بالاغتراف والارتماس. وهكذا حكم غسله.
وإن قلنا: بجوازها فلا وجه لبطلانه، كما لا يخفى. ويأتي حكم سائر
التصرفات من ذي قبل، إن شاء الله تعالى.
ولعل وجه احتياط الوالد المحقق ذلك، لا الذي مر آنفا. كما أن
وجه فتوى العلمين المذكورين، هو الثاني، على ما هو المشهور بين
أفاضل العصر في النجف الأشرف.
والذي هو غير خفي: أن المسألة لا يتفاوت حكمها في مفروض
البحث مع ما لو كان هناك ماءان، أحدهما: مغصوب والآخر: نجس.
نعم، بناء على رجوع العلم الاجمالي إلى التفصيلي، فهو من
خصائص هذا الفرض، دون ذاك، كما يخفى.

1 - تقدم في الصفحة 250.
262

ثم إنه قد يتوهم بعض الوجوه الرديئة من عدم تنجيز العلم
الاجمالي في المسألة، كما عن " الحدائق " (1) وغيره (2)، ولكنه في غير
محله.
الجهة الثالثة: في بيان حكم سائر التصرفات
وأنه هل هو جائز، أم لا؟ وجهان:
من أن العلم الاجمالي بالغصبية، يورث تنجز جميع أحكام
الغصب. مع أن قضية أصالة الحرمة، هو المنع عنه.
ومن أن العلم الاجمالي المزبور لا يورث في مورده شيئا، لأن
التوضي بالماء النجس، ليس من المحرمات الشرعية، فيرجع ذلك
إلى العلم الاجمالي ببقاء وجوب الوضوء عليه إذا توضأ به، وحرمة
التصرف، وحيث إن قضية الاستصحاب بقاء الأمر، ينحل العلم بالنسبة
إلى الطرف، وتصير النتيجة جواز التصرف حتى التصرف الوضوئي، إلا
أنه لا يصح الاكتفاء به.
والذي عرفت منا حسب اقتضاء القواعد: حرمة التصرف، من غير
الحاجة إلى العلم المزبور (3)، فتدبر.
وأما توهم عدم إمكان انحلال العلم بالأصل المحرز، فقد مر دفعه:

1 - الحدائق 1: 517، ولاحظ فرائد الأصول 2: 408 و 416، فوائد الأصول 3: 50.
2 - لاحظ دليل العروة الوثقى 1: 221، التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 409.
3 - تقدم في الصفحة 250 - 251.
263

بأن قاعدة الاشتغال تكفي له، لأن وجه الانحلال عدم حدوث التكليف
الالزامي بالعلم الاجمالي، وهو بعد ثبوت التكليف قبل العلم حاصل (1)،
فتأمل جدا.
ومن عجيب ما سطر في المقام، توهم التعارض بين قاعدة الطهارة
والحل، بناء على جريان الأخيرة (2)!!
فإنك خبير: بأن المعارضة بين الأصول في الأطراف عرضية، لا
ذاتية، فيكون وجه ذلك وجود الجامع المناقض للأصلين، وهو العلم
الاجمالي بالحكم المخالف مع مفادهما، وحيث لا علم إجمالي إلا
بالنسبة إلى الشرب، فأي معارضة بينهما؟!
نعم، بالنسبة إلى التصرفات الناقلة - بناء على كون الماء
النجس كالأعيان النجسة حكما - يشكل تنفيذها وتجويزها، لأنه يعلم
إجمالا بحرمتها، إما لأجل نجاسته، أو لأجل مغصوبيته. ولكن مع ذلك إنشاء
المعاملة ليس محرما، لأن إنشاءها على مال الغير، لا يعد من " التصرف "
عرفا، على ما تقرر في الفضولي (3).
الجهة الرابعة: في حكم ملاقي المردد بين الغصب والنجاسة
وقد تعرض لها شيخنا الأستاذ الحلي - مد ظله -، واستظهر فيها أن

1 - تقدم في الصفحة 256 - 257.
2 - التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 410.
3 - البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 2: 136، لاحظ تحريرات في الفقه، كتاب البيع، الشرط
الرابع من شرائط المتعاقدين، الوجه العقلائي لبطلان الفضولي.
264

ملاقي هذا الماء المشتبه، طاهر على جميع التقادير (1).
وأنت خبير بما فيه، لأنه كملاقي الشبهة المحصورة بناء على تنجيز
العلم الاجمالي بالنسبة إلى الطرفين، وعدم جريان أصالة الحرمة،
وسقوط أصالة الحل بالمعارضة، لأنه بعد الملاقاة يعلم إجمالا بنجاسة
الملاقي - بالكسر - أو حرمة التصرف في الملاقي - بالفتح - وهذا
العلم الثاني محل البحث تنجيزه، فمن قال: بأن حديث " أن المتنجز
لا يتنجز " لا أصل له، لامكان استناد تنجز الملاقي - بالفتح - بقاء إلى
العلتين، يقول: بسقوط الأصل الجاري في الملاقي - بالكسر - فلا تغفل.
ثم إن قضية بعض المباني طهارة الملاقي هنا، وإن كانت نجاسته
متعينة في المحصور بالنجس، وذلك بناء على ما نسب إلى " الحدائق " من
أخذ قيد العلم في موضوع وجوب الاجتناب، كما أشرنا إليه سابقا (2).
الجهة الخامسة: هل يكتفي بالتطهير به أم لا؟
في جواز الاكتفاء بالتطهير به وعدمه وجهان، يظهران مما سبق.
والذي يختص بهذه الجهة: أنه بناء على جريان قاعدة الطهارة من
هذه الحيثية - لعدم تنجيز العلم زائدا على الحكم المشترك بين الطرفين
- لا يمكن إحراز المطهرية بها، كما سبق منا في المباحث السابقة.
واستصحاب النجاسة فيما يتطهر به محكم.

1 - دليل العروة الوثقى 1: 230 - 231.
2 - تقدم في الصفحة 260.
265

اللهم إلا أن يقال: إن العرف والعقلاء والشرع، على ثبوت الملازمة
في الماء بين الطهارة والمطهرية، وكأن المطهرية من آثار الطهارة الأعم
من الواقعية، ومن الممكن إجراء استصحاب المطهرية التي هي من آثاره
الطبيعية.
وأنت خبير بما فيه، لانقطاع صفة " المطهرية " شرعا بزوال الطهارة.
نعم، إذا كانت حالته السابقة هي الطهارة، فإجراء الأصل لاحراز
المطهرية - لأنها من الأوصاف الجعلية المعتبرة في الماء، باعتبار
الأحكام والآثار الخاصة - ممكن، سواء رجعت إلى أمر تعليقي، أو كانت
أمرا فعليا منجزا.
الفرع الثالث: في حكم ضمان المردد عند التصرف
لو تصرف في أحد المشتبهين بالغصبية، أو في أحد المشتبهين
بالنجاسة والغصبية، أو في المردد بين النجاسة والغصبية، فهل عليه
الضمان؟
أو لا يكون عليه شئ إلا بعد العلم: بأن ما استعمله هو المغصوب،
كما هو مختار الأكثر (1)، معللين: بأن تنجيز الغصب بحسب الأحكام التي
موضوعها " الغصب " لا يستلزم تنجيز سائر الأحكام التي موضوعها " إتلاف

1 - العروة الوثقى 1: 54، فصل في المياه، الماء المشكوك نجاسته، المسألة 12، التنقيح في
شرح العروة الوثقى 1: 434، مهذب الأحكام 1: 278.
266

مال الغير والتصرف فيه " وأمثاله مما لا يتحقق بذلك العلم الاجمالي (1)؟
أو يقال: بالتفصيل، كما عن بعض الأعلام، فإنه إن كان العلم
الاجمالي متقدما على الاستعمال والتصرف، لا يحكم عليه بالضمان، وإن
كان بعده يحكم عليه بالضمان، لأنه يعلم إجمالا بحرمة التصرف في
الطرف، وبالضمان لأجل التصرف في الآخر، ولا أصل في أحد الطرفين
حتى ينحل به العلم (2)؟ هذا نظير العلم الاجمالي الحاصل بعد الملاقاة،
وبعد انعدام الملاقي بالفتح.
فالمسألة بناء على هذا، ذات احتمالات ثلاثة: الضمان مطلقا،
وعدمه مطلقا، والتفصيل بين صور المسألة. وما هو الوجه للضمان مطلقا،
ما مر منا من جريان أصالة الحرمة، وأن الاحتمال منجز (3).
نعم، جواز أخذ الطرف بعنوان الدين مشكل، بل ممنوع، لأصالة
الحرمة في ذلك أيضا، فلا بد من التصالح، أو يجب على المتصرف إرضاء
من يحتمل مالكيته على أي تقدير، حذرا من العقوبة المنجزة، فلا تخلط،
ولا تغفل.
ثم إن من الممكن توهم انحلال العلم الاجمالي - بالضمان
والحرمة - بإجراء استصحاب عدم تحقق سبب حلية التصرف في الباقي،
فتبقى أصالة البراءة بالنسبة إلى الضمان، سليمة عن المعارض.

1 - التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 434.
2 - مستمسك العروة الوثقى 1: 267.
3 - تقدم في الصفحة 250 - 251.
267

وأنت خبير: بأن هذا خلف المفروض في المسألة، وهو حرمة
التصرف عند الشك، فإن بناءها على جريان أصالة الحل في المشكوكة
إباحته، كما مضى في أول البحث (1).
هذا مع أن هذا الاستصحاب في الماء التالف يجري، وثمرته
ضمانه، فليتدبر.
ومن العجب توهم: أن الماءين المشتبهين إن كانا تحت اليد، يكون
تلف كل واحد منهما مورثا للضمان، لأن التالف إن كان للغير يجب دفع
قيمته، وإن كان الباقي للغير يجب عليه الرد!!
وأنت خبير: بأن هذا ليس لأجل قاعدة اليد كما توهمه، بل هو لأجل
العلم الاجمالي. مع أنه فيما نحن فيه مثلي لا قيمي، فإذا علم إجمالا: بأن
الماء المستعمل إما للغير، فيكون ضامنا، أو الموجود للغير، فيجب الرد،
فيحتاط برد الموجود بعنوان قابل للانطباق على أداء المثل إن كان الواجب
عليه المثل، وعلى أداء العين، فلا تغفل.
والذي هو المحرر صناعة: أن الضمان ثابت على جميع التقادير،
لعدم فرق بين سبق العلم ولحوقه، لما مر مرارا: أن المتنجز بقاء يستند
إلى العلم الحادث، سواء كان الماء المستعمل تالفا كله، أو كان مقدار
منه باقيا.
مع أنه في صورة تلف الكل، لا يبقى العلم الأول، ويكون العلم
الثاني سببا لتنجيز الحكم في الطرف، وإلا فيجري الأصل بلا شبهة عندنا.

1 - تقدم في الصفحة 254 - 255.
268

فبالجملة: إذا علم إجمالا بغصبية أحد الإناءين، فتصرف في الماء،
وتلف الماء كله، فلا يبقى علم بالتكليف، لعدم إمكان الخطاب بالاجتناب
عن المعدوم فعلا، فيصير الطرف الآخر مجرى الأصل، بخلاف ما إذا كان
التالف ذا أثر شرعي كالنجاسة والضمان، فإنه بعد ذلك يعلم إجمالا
بضمانه، أو حرمة التصرف في الآخر، وهذا واضح جدا.
وهذا إذا كان الماء كله تالفا بالاستعمال والتصرف.
ولو بقي منه شئ، فإن قلنا: بإمكان استناد تنجز التكليف في الطرف
الآخر بقاء إلى العلم الثاني، فيحصل أثره بالنسبة إلى الملاقي
والضمان. وهذا هو الأقوى في نظري حسب الصناعة العلمية.
وأما حكم المسألة حسب النظر الفقهي، فهو الضمان أيضا،
لأصالة الحرمة كما عرفت تفصيلها (1). وليس هذا إلا ضمان الاحتياط،
بمعنى تنجز التكليف عليه، لا أنه ضامن، بمعنى جواز التقاص منه، كما
لا يخفى.
ثم إنه غير خفي: أن العلم الاجمالي المزبور، لا يأتي في المردد
بين الغصبية والنجاسة، لانحلاله كما مضى تفصيله (2).
وإجماله: أنه بعد استعمال الماء، يعلم إجمالا: بأنه إما يجب عليه
غسل الأعضاء أو يجب عليه أداء الدين، ولكنك تعلم أن غسل الأعضاء
ليس من التكليف النفسي، فيرجع إلى بقاء الأمر بالنسبة إلى ما اشترط

1 - تقدم في الصفحة 250.
2 - تقدم في الصفحة 256.
269

به الطهارة، وهو قضية الأصل وقاعدة الاشتغال، فتجري البراءة في الطرف الآخر.
والحمد لله أولا وآخرا، وظاهرا وباطنا، وقد تم ما يتعلق بهذه
المباحث يوم الاثنين من شهر ربيع الأول من السنة 1389 في النجف
الأشرف، على صاحبها آلاف التحية والسلام.
270

المبحث الثالث عشر
في الأسئار
271

تمهيد
اعلم: أن المراجعة إلى كتب العامة والخاصة قديما وجديدا،
والنظر في أخبار المسألة الواردة من طرقنا ومن طريق الآخرين، والتدبر
حولها حق التدبر والتفكر، يعطي سقوط هذا البحث، وأنه لا وجه لا طالة
الكلام حول مفهوم " السؤر " سعة وضيقا كما ترى، ولا في خصوصيات
المسألة من أسئار الحيوانات المختلفة، ضرورة أن الشواهد القطعية في
المآثير المروية عن الأئمة الأطهار - عليهم صلوات الله المتعال - قائمة
وناهضة على أن هذه المسألة من صغريات بحث انفعال الماء القليل، وأن
هذه الروايات سيقت مساق تلك المسألة:
فما كان من الحيوانات النجسة، يكون سؤره نجسا. ولا يلتزم القائل
بعدم انفعال الكر بانفعال سؤر هذا الحيوان، إما لأجل قصور الدليل، أو
لأجل عدم صدق " السؤر " على الكثير.
وما كان من الحيوانات الطاهرة، يكون سؤره طاهرا.
ومما يأتي من الشواهد في الأخبار يعلم: أنه لا يمكن التفكيك بين
حكم انفعال القليل وحكم هذه المسألة، من جهة لزوم الاجتناب على
273

تقدير القلة، وعدم لزومه على تقدير الكثرة. فإطالة البحث حول مفهوم
" السؤر " ينحصر ثمرته بفهم مواقف كراهية الاستعمال، وهو عندي غير مهم
جدا.
وأما ذهاب مثل " المبسوط " و " السرائر " و " المهذب " (1) إلى إنكار
الملازمة بين طهارة الحيوان، وجواز استعمال سؤره، حيث منعوا استعمال
سؤر ما لا يؤكل لحمه من الحيوان الحضر غير الآدمي والطيور، إلا ما لا
يمكن التحرز عنه، كالهرة والفأرة والحية، بل عن الحلي (رحمه الله) التصريح
بنجاسته (2)، معللين: بمفهوم رواية عمار بن موسى (3)، وصحيحة ابن سنان (4)،
فهو مما لا يمكن الاصغاء إليه بالضرورة، بعدما ورد النص بنفي البأس،
كما هو الواضح عند الكل.
وبالجملة: إمكان الالتزام بالتفكيك غير كاف، بعد أن تكون الأخبار
ناظرة إلى تلك المسألة.
ومما يمكن أن يتوهم: الالتزام بنجاسة الكر، لصدق " السؤر " عليه،
وإمكان الالتزام بنجاسة الجمادات الباقية، لشمول المفهوم لها كما لا
يخفى، فتأمل. مع اقتضاء مفهوم " السؤر " ذلك.

1 - المبسوط 1: 10، السرائر 1: 85، المهذب 1: 25.
2 - التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 438، السرائر 1: 85.
3 - الكافي 3: 9 / 5، وسائل الشيعة 1: 230، كتاب الطهارة، أبواب الأسئار، الباب 4،
الحديث 2.
4 - الكافي 3: 9 / 1، وسائل الشيعة 1: 231، كتاب الطهارة، أبواب الأسئار، الباب 5،
الحديث 1.
274

ولكنه غير صحيح، فلا وجه لأحداث البحث حول هذه المسألة.
وكان ينبغي ذكرها طي مباحث انفعال القليل، بأنه لا يفرق بين أنحاء
الملاقاة، وعدم انفعال الكر كذلك.
شواهد على سقوط بحث الأسئار
وأما الشواهد من المآثير الدالة على ما أبدعناه في المسألة،
واعتقدنا سقوطها لأجلها، فهي كثيرة:
فمنها: ما مر من اتفاقية الحكم بالطهارة إذا كان سؤر الحيوان
الطاهر، واتفاقية الحكم بالنجاسة إذا كان سؤر النجس (1). والمسائل
الخلافية في السؤر من حيث الطهارة والنجاسة في مثل المسوخ، فهو
لأجل الخلاف في نجاستها وطهارتها، ولذلك ادعي الاجماع على طهارته إذا
قلنا بطهارة المسوخ (2).
ومنها: التعليل الوارد في معتبر الفضل أبي العباس (3)، ومعتبر
معاوية بن شريح (4)، في النهي عن سؤر الكلب: بأنه " رجس نجس ".
ومنها: التعليل الوارد في معتبر ابن مسلم في طهارة سؤر السنور:

1 - تقدم في الصفحة 273.
2 - مستمسك العروة الوثقى 1: 271.
3 - تهذيب الأحكام 1: 225 / 642، وسائل الشيعة 1: 226، كتاب الطهارة، أبواب
الأسئار، الباب 1، الحديث 4.
4 - تهذيب الأحكام 1: 225 / 647، وسائل الشيعة 1: 226، كتاب الطهارة، أبواب
الأسئار، الباب 1، الحديث 6.
275

بأنه " إنما هي من السباع " (1) فإنه ليس تعليلا بسبعيته، بل هو تعليل بأنه
من الحيوانات الطاهرة، فإن السباع منها، وهو من السباع. ومثله غيره.
ومنها: معتبر عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) المشتمل على ترخيص
السؤر من الطير...
إلى أن قال: " كل شئ من الطير يتوضأ مما يشرب منه، إلا أن ترى في
منقاره دما، فإن رأيت في منقاره دما، فلا توضأ منه، ولا تشرب " (2).
فإنه كالنص في أن المسألة دائرة مدار حكم الحيوان الملاقي
للماء، سواء كان اللقاء بالفم أو غيره، وسواء كان ذلك يعد " سؤرا " أم لا يعد،
بل المناط على أمر واحد، وهو عدم ملاقاته للنجاسة، لعدم خصوصية
للدم، وللطائر، ولا لمنقاره بالضرورة.
ومنها: ما ورد منه وهو مثله، فراجع الباب الرابع، وسائر الأبواب
المتفرقة المتضمنة لأخبار هذه المسألة من " الوسائل " (3).
ومنها: ما ورد في طريقنا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " قال رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كل شئ يجتر فسؤره حلال، ولعابه حلال " (4).

1 - تهذيب الأحكام 1: 225 / 644، وسائل الشيعة 1: 227، كتاب الطهارة، أبواب
الأسئار، الباب 2، الحديث 3.
2 - الكافي 3: 9 / 5، وسائل الشيعة 1: 230، كتاب الطهارة، أبواب الأسئار، الباب 4، الحديث 2.
3 - وسائل الشيعة 1: 228، كتاب الطهارة، أبواب الأسئار، الباب 2، الحديث 4 و 6،
والباب 5، الحديث 5، وسائل الشيعة 3: 413 - 414، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات،
الباب 11، الحديث 1 و 3.
4 - تهذيب الأحكام 1: 228 / 658، وسائل الشيعة 1: 232، كتاب الطهارة، أبواب
الأسئار، الباب 5، الحديث 5.
276

فإن المراد من " الاجترار " على ما أفهم، هو الرعي، وهو كناية عن
الحيوانات الطاهرة. وتوهم أن الخنزير أيضا يرعى، فهو إما ممنوع صغرى،
أو خارج عنه للنص.
وبالجملة: هي ناظرة إلى أن المناط على طهارة الشارب ونجاسته،
فتأمل.
ويحتمل أن يراد من " الاجترار " ما يعبر عنه بالفارسية " نشخوار ".
ومنها: وهو كالنص، ما رواه العيص بن القاسم في الصحيح في
مسألة سؤر الحائض، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " لا توضأ منه، وتوضأ من
سؤر الجنب إذا كانت مأمونة، ثم تغسل يديها قبل أن تدخلهما الإناء " (1).
فإن التقيد المزبور، أحسن شاهد على أن حكم هذه المسألة، ناشئ
عن أمر آخر، ولا خصوصية لها. وفي هذا الباب وهو الباب السابع بعض
ما يؤيد مسلكنا، فراجع (2).
ومنها: المآثير الواردة في الباب الثامن، الناطقة بالنهي عن
التوضي بما بقي من سؤر الحائض، مع الترخيص في جواز شربه، وفيها مع
التقييد المذكور في السابق ما يجوز التوضي أيضا (3).
ولعل النهي عن التوضي إذا لم تكن مأمونة، لأجل أنه إذا تذكر

1 - الكافي 3: 10 / 2، وسائل الشيعة 1: 234، كتاب الطهارة، أبواب الأسئار، الباب 7،
الحديث 1.
2 - وسائل الشيعة 1: 234، كتاب الطهارة، أبواب الأسئار، الباب 7.
3 - وسائل الشيعة 1: 237 - 238، كتاب الطهارة، أبواب الأسئار، الباب 8، الحديث 5 و 9.
277

نجاستها يشكل الأمر عليه، للزوم الإعادة، بخلاف الشرب.
فبالجملة: مع هذه الشواهد يحصل القطع: بأن هذه المسألة كمسألة
الاستنجاء ساقطة، وكما أن تلك المسألة من صغريات بحث الغسالة، كما
عرفت منا تحقيقه (1)، كذلك هذه المسألة من صغريات مسألة انفعال
القليل (2)، ولا أظن من يقول - كالفيض مثلا - بعدم انفعال القليل بانفعاله
هنا، بل الحكم عند الطرفين على حد سواء، لأن علته سواء.
إيقاظ: في عدم دلالة رواية الوشاء على خلاف ما أبدعناه
في الباب الثالث رواية عن الوشاء، عمن أخبره، عن أبي
عبدا لله (عليه السلام): أنه كره سؤر ولد الزنا، وسؤر اليهودي والنصراني
والمشرك، وكل من خالف الاسلام، وكان أشد ذلك عنده سؤر الناصب (3).
فإنها ظاهرة في خصوصية للمسألة، ولا سيما مع ذكر ولد الزنا،
فإنه طاهر.
ولكنك تعلم: أن الرواية مع إرسالها، غير معمول بها، وليس ذلك إلا
لأجل أن ولد الزنا طاهر، فكيف يكون سؤره نجسا؟! ويمكن حمل
" الكراهة " على الأعم، فافهم.

1 - تقدم في الصفحة 129 و 140.
2 - الوافي 6: 18 - 19.
3 - الكافي 3: 11 / 6، وسائل الشيعة 1: 229، كتاب الطهارة، أبواب الأسئار، الباب 3،
الحديث 2.
278

فتحصل إلى هنا: أن هذه المسألة ليست ذات خصوصية، حتى يمكن
التجاوز بأخبارها عن مفاد روايات الكر منطوقا ومفهوما، فإنه ليس لأحد
دعوى حرمة سؤر طاهر العين، ولا لأحد دعوى نجاسة سؤر نجس العين
وإن كان كرا، ولذلك ترى أن أخبار هذا الباب، مأخوذة من روايات الأبواب
الأخر، فطائفة منها من أخبار مسألة انفعال القليل، وطائفة منها من روايات
مسألة نجاسة كذا وكذا وهكذا، فراجع وتأمل حقه، وثالثة منها مأخوذة
من أخبار تدل على طهارة جماعة من الحيوانات والحشرات والمسوخ.
نعم، لهذه المسألة خصوصية، وهي كراهة سؤر بعض الحيوانات،
دون بعض، وحيث أن الكراهة في هذه المسألة كالكراهة في مسألة
منزوحات البئر، ترجع إلى بيان الآداب والنظافة، ولا أظن كونها من
المكروهات أو المستحبات الوارد فيها النهي أو الأمر المولوي التنزيهي
أو الاستحبابي، فلا حاجة إلى إطالة البحث تارة: حول مفهوم " السؤر "
وأخرى: حول خصوصيات المسألة، فافهم واغتنم، وكن على بصيرة من
أمرك.
تنبيه: في المراد من كراهة سؤر الحائض وشمولها للمتهم
لا يبعد دلالة الأخبار الكثيرة الواردة في ترخيص الشرب من سؤر
الحائض دون التوضي (1)، على أن " الكراهة " المقصودة فيها هي

1 - وسائل الشيعة 1: 236، كتاب الطهارة، أبواب الأسئار، الباب 8.
279

الكراهة الشرعية. وغير خفي أن ذلك - حسب ما يستظهر من الأخبار - لا
يختص بسؤر الحائض، بل هو حكم مطلق ما يباشره المتهم وغير المأمون
كما لا يخفى، فعليه أيضا لا تصل النوبة ولا تمس الحاجة إلى البحث
عن مفهوم " السؤر " لعدم اختصاصه بحكم معين، فليتدبر.
280

المقصد الثاني
في النجاسات وأحكامها
والبحث حولها يقع في مقامين:
281

وقبل الورود فيهما لا بأس بالإشارة إلى مقدمة
مقدمة
وهي مشتملة على نكات:
الأولى: في بيان حقيقة الطهارة والنجاسة العرفيتين
لا شبهة في أن النجاسة والطهارة، ليستا مندرجتين تحت إحدى
المقولات الواقعية بعنوانهما، كما هو الظاهر على أهله، وليستا من الأمور
الاعتبارية المحضة، بحيث اعتبرها العقلاء سياسة تحفظا على نظام مدنهم
وثبات معاشهم، وتحرزا عن الوقوع فيما يورث الهلكة والاختلال، والهرج
والمرج والوبال، كالملكية والسلطنة والمبادلة وأمثالها، وإن كانت
لها مصاديق واقعية بحسب المفاهيم الأولية، حسب ما تقرر منا في الأصول
من الضابطة الكلية. على أن كل أمر اعتباري مأخوذ من الأمر الواقعي
الخارجي.
283

فهما من العناوين الانتزاعية، ومنشأ الانتزاع موافقة الطباع وتنفرها،
وربما تختلف الأعصار والأمصار في ذلك، حسب اختلاف الأنام في المعاش
والأحكام، كما نجد ذلك واضحا بين أهل النجف والعراق الذي هو عندنا
مرحاض الشرق، وبين أهل الغرب، فلا يمكن دعوى أن النجس هو القذر
العرفي المتنفرة عنه طباع الناس بنحو العموم والكلي.
فبالجملة: النجاسة العرفية والطهارة والنظافة العرفيتين، ما هي
الموافقة للطبع، والمخالفة له المختلفة بحسب الأزمنة والأمكنة،
وليستا على هذا أمرين وجوديين إذا لوحظا في ذاتهما، وهما أمران وجوديان
إذا لوحظا قياسا إلى منشأ الانتزاع، وهو تنفر الطبع، وملائمة الطبع
ومساعدته.
وربما يمكن تصوير الحد الوسط في هذه الملاحظة، وهو ما لا يلزم
منه التنفر ولا الالتذاذ، كنوع الأشياء، فإنها لا يطلق عليها " النظيف " حسب
مرتكزنا، فإن " النظيف " ما يلتذ منه الطبع، ولا مشاحة في ذلك.
وإطلاقهما على الروحية السالمة والخبيثة، ليس للوضع
الأولي، بل هو في الابتداء كان بالتوسع، حتى صار أحيانا مندرجا في
الموضوع له. وإذا لاحظناهما بالقياس إلى النفوس البشرية فهما
وجوديان أيضا، لأن صفاء النفس ليس عدم تلوثها بالقذارة، فإن صفاء نفس
الصبي غير صفاء نفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
وتوهم: أنهما من الأمور التكوينية في هذه النظرة، في غير محله،
كما لا يخفى على الدقيق البصير.
ومن هذه الأساطير، ومن التدبر فيها، تظهر مواقف الاشتباه في كلمات
284

القوم (رحمهم الله) حتى الوالد المحقق - مد ظله - (1).
الثانية: في حقيقة الطهارة والنجاسة الشرعيتين
اختلفت كلمات الأعلام وآراء الأفاضل في الطهارة والنجاسة
الشرعيتين، فالمعروف عن الشيخ الأعظم: أنها من الحقائق المكنونة،
كشف عنها الشرع الأقدس (2).
ولا أظن أن يرخص أحد نسبة ذلك إلى مثله، ولو كان منه فهو
الخطأ الواضح، كيف؟! وأن السنخية معتبرة في العالم بين الأشياء
المرتبط بعضها ببعض، فلو كان الأمر كذلك، يلزم كون الارتداد علة لتحقق
النجاسة الواقعية، والإسلام علة للطهارة الكذائية، وغسل الميت سببا
لزوال عين النجاسة الواقعية، وهكذا مما لا يمكن أن يلتزم به. ومجرد
بعض التسويلات الواهية لاثبات السنخية، أو إيجاد احتمالها، غير كاف
كما لا يخفى.
والمشهور عن جماعة: أنها من الأمور الاعتبارية الجعلية (3)، إلا أن
سبب الجعل مختلف:
فتارة: يجعل النجاسة والطهارة مستقلتين.
وأخرى: تبعا للحكم، فتكونان منتزعتين من الأوامر والنواهي الواردة

1 - الطهارة، الإمام الخميني (قدس سره) 3: 3.
2 - فوائد الأصول 4: 401، منتهى الأصول 2: 403، مصباح الأصول 3: 84.
3 - فوائد الأصول 4: 401، الطهارة، الإمام الخميني (قدس سره) 3: 7، مصباح الأصول 3: 85.
285

في الشريعة المقدسة.
ولذلك ترى في المآثير والأخبار (1) - بل والكتاب - جعلها مستقلا،
وتبعا، من غير لزوم إشكال، لما تقرر في محله: من إمكان ذلك بلحاظ الأثر
المقصود (2).
ففي مثل الأبوال والأرواث والمني مثلا وغيرها، تكون مجعولة
بالعرض، وفي مثل الكلب والخنزير والمرتد وغيرها، مجعولة بالذات.
والكل يرجع إلى أمر واحد، وهو جعليتهما كما لا يخفى.
والمسطور في كتاب الوالد المحقق هو التفصيل، بأن القذارات
على قسمين:
طائفة منها عرفية لا تحتاج إلى الجعل، وهي ما يتنفر منه الطبع.
وطائفة منها ملتحقة بها موضوعا، كنجاسة الكفار والخمر
والكلب.
وربما يستثني الشرع طائفة من النجاسات العرفية، كالوذي
والمذي والنخامة موضوعا، أو حكما (3).
هذا من غير حاجة إلى التثبت بالجعل في الأولى. مع أن مناشئ هذه
المجعولات - بحسب السياسة - مختلفة، كما هو الظاهر.

1 - وسائل الشيعة 3: 404 - 405، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 8،
الحديث 1 و 2 و 3، و 415 - 416، الباب 12، الحديث 2 و 6، وسائل الشيعة 18: 443،
كتاب الصلح، أبواب الصلح، الباب 3.
2 - تحريرات في الأصول 8: 429 - 432.
3 - الطهارة، الإمام الخميني (قدس سره) 3: 3.
286

أقول: هذه الأقوال كلها غير قابلة للتصديق، وخالية عن التحقيق،
ضرورة أن ما هو النجس في الشرع هو البول والعذرة، سواء تنفر عنه
الطباع، أو رغبت فيها النفوس، كما في العراق أحيانا، فليس التنفر علة،
بل هو ربما كان نكتة في بدو التشريع.
ثم إن ما هو تحت إرادة الشرع وسلطانه، ليس إلا الأمر والنهي، ولو
كان في رواية: " إن الشئ الكذائي نجس " فلا يريد منه إلا انتقال الناس
منه إلى ما هو حكم القذر عندهم، من التجنب، فلا يجعل النجاسة لا
مستقلا، ولا تبعا، بل هذه الاستعمالات الكثيرة، كلها توسعات لانتقال
النفوس والأمة الاسلامية إلى ما هو المقصود الجدي، وهو التجنب، من
غير التدخل في أمر خارج عن حكومته وسلطنته.
ومجرد تنفر الطباع التابعة للشريعة المقدسة، بالتلقينات
الكثيرة الموروثة عن الآباء والأمهات، لا يكفي لكونها من الجعل، وإلا
يكون هو جعلا تكوينيا، كما ليس يخفى.
فهذا المجعول التكويني معلول تلك المجاعيل الاعتبارية، من الأمر
والنهي، وقد تقرر منا: أن الأمور الاعتبارية في كل آن وحين، منشأ للمقاصد
الواقعية التكوينية (1)، فلا تخلط.
فعلى ما تقرر، النجاسة والطهارة مخصوصتان بالعرف واللغة، ولا
يوصفان بالشرع رأسا، حتى يقع النزاع في معناهما بعد تسلم التوصيف، بل

1 - تحريرات في الأصول 1: 275 - 276.
287

التوصيف على التوسع والمجاز بالوجه المحرر في مقره (1).
فعلى هذا يقال: إن ما اشتهر " من أن النجاسات - مثلا - عشرة " معناه أن
ما يجب الاجتناب عنه في مواقف معلومة عند الشرع عشرة، ويكون
التوصيف للانتقال إلى الأحكام العقلائية المشتركة مع بعض الأحكام
الشرعية في بعض النجاسات، كما في المجازات، فقولهم: " الكافر نجس "
كقولنا: " زيد أسد " ولا يكاد ينقضي تعجبي من غفلة المدققين عن هذه
المسألة، فوقعوا فيما لا يعني!! وإن كان ذلك منهم ليس بعجيب.
فبالجملة: بعد ما عرفت أن الطهارة والنجاسة العرفيتين ليستا
اعتباريتين محضا، فهما في الشرع ليستا من الانتزاعيتين، للزوم الاقتصار
على حال التنفر، وهو واضح المنع، ولا من الاعتبارية، لأن الاعتبارية بيد
المعتبرين والآمر، دون الشرع، فإنه خارج عن سلطانه.
نعم، بعد الأمر والنهي، ربما يحصل التنفر التكويني، وهو خارج عن
الاعتبار.
ومن هنا يظهر مواقف الاشتباه - صدرا وذيلا - في كلمات الأعلام (قدس سرهم).
ومن ذلك البيان الذي علمناكم، ظهر أن مناشئ الأحكام السلبية
المخصوصة بالنجاسات، مختلفة، إلا أنها نكت، لا علل، فالقاذورات
العرفية والمنفورات الطبعية، تكون فيها علة الاجتناب واضحة أكلا
وشربا، لا علة الاجتناب عنها في الصلاة والطواف، ولا عن ملاقيها حتى في
الشرب والأكل، على وجه لا يكون مع الجزء الملاقي جزء منها. وفي

1 - تحريرات في الأصول 1: 144 - 146.
288

الخمر والكافر والمشرك والمرتد وعرق الجنب عن حرام - بناء على
نجاسة الكل - تكون علتها سياسية، وهكذا الدم.
وربما لا يمكن الاطلاع على جهتها، كما في الدم والميتة، وأمثالهما
مما لا يساعد عليه العرف. وربما تكون المضرات النفسانية أو المزاجية
والروحية، مورثة لذلك، فلا يتمكن عقل الانسان من الاطلاع على الأحكام
الصادرة عن بيوت الوحي والتنزيل، الراجعة إلى الرب الجليل.
الثالثة: هل النجاسة من الأمور المشككة؟
بناء على ما سلكناه: من أن النجاسات الشرعية ليست من الأمور
الاختراعية، ولا الوضعية الجعلية الاعتبارية، ولا الانتزاعية، ويكون
إطلاق " النجس " على شئ - كإطلاق " الأسد " على الرجل الشجاع - من
الادعاء والمجازية، تندفع شبهة ترد على بعض المسالك: وهي أنه قد
ورد في بعض المآثير مثلا: " إن ناصبنا أهل البيت أنجس من الكلب " (1)
والأمور الاعتبارية لا تجري فيها التشكيكات العامية، ولا الخاصية، ولا
تقبل الاشتداد والضعف.
وجه الاندفاع: أن المراد من هذا التعبير هو الانتقال إلى اشتداد
الحكم فيهم، وأن الاجتناب هناك أقوى مثلا من الحكم في الكلب، فكما أن
في القذارات العرفية التي هي أمور انتزاعية، مراتب عرفية، ويكون تنفر

1 - علل الشرائع: 292، وسائل الشيعة 1: 220، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف،
الباب 11، الحديث 5.
289

الطبع من النخامة أكثر من البول مثلا، ومن الكلب العقور أكثر من
الخنزير، كذلك الشرع - لانتقال الأمة الاسلامية إلى هذه النكتة -
استعمل أفعل التفضيل لإفادة ذلك.
هذا، وقضية ما تحرر منا في محله: أن الأمور الاعتبارية تسري فيها
المراتب الشديدة والضعيفة، إلا أن الاشتداد والضعف فيها، ليس من
الاشتداد التكويني، بل هو أيضا اعتباري من سنخ الطرفين، فقولهم:
" الملكية الشديدة والضعيفة " شاهد على ذلك، وإن كان في صغرى
المسألة إشكال، تفصيله في محله.
ومثلها السلطنة المطلقة، في قبال ما يقال: " لفلان السلطنة
الضعيفة " أو يقال: " لفلان سلطنة ما على أمر كذا ".
وهذا التشكيك عامي باعتبار الآثار والأحكام، لا بمعنى أن في نفس
هذا المفهوم الاعتباري اشتدادا وضعفا، فإنه غير مقصود للقائل به، فلا
تخلط.
وليس بخفي على أهله: أن التشكيك بأقسامه من خواص الأمور
الخارجية، ولا يسري إلى المفاهيم، ولو قيل أو سمع ذلك في بعض كتب
الفضلاء، فهو لعدم اطلاعهم على المبادئ العلمية المقررة عندنا في
القواعد الحكمية (1).
ومما يشهد ويدل على اعتبار الاشتداد فيها: اختلاف أحكامها في
الغسل بحسب المرة والتكرار، فإنه لا بد أن يلتزم بأن النجاسة تصير بعد

1 - القواعد الحكمية للمؤلف (قدس سره) (مفقودة).
290

الغسلة الأولى، أخف وأقل، وإلا يلزم إما لغوية الغسالة الأولى، أو
الثانية، كما لا يخفى.
الرابعة: الثمرات المترتبة على اختلاف المسالك في الطهارة والنجاسة
تظهر ثمرات عديدة على اختلاف المسالك المشار إليها في
الطهارة والنجاسة ونواحيها:
مثلا: على القول بأنهما من الأمور الواقعية التي كشف عنهما
الشرع الأقدس، لا يمكن اختيار مقالة صاحب " الحدائق " من أخذ العلم
في موضوع دليل وجوب الاجتناب (1)، ضرورة أنه يلزم كون الشئ الواحد
نجسا وطاهرا، باختلاف حالتي العلم والجهل بالنسبة إلى شخصين في
آن واحد.
ومن ثمرات تلك الاختلافات: أنه على القول: بأنهما أمران وجوديان،
لا يمكن إجراء استصحاب عدم إحداهما، وإثبات الأخرى، لكونه من الأصل
المثبت، بخلاف ما إذا قلنا: بأن الطهارة عدم النجاسة، لا شئ آخر.
ومنها: أن في الشبهات الحكمية في مسألة الحاجة إلى التعدد
في زوالها، يمكن إجراء الاستصحاب على القول: بأنهما تقبلان الشدة
والضعف، ولا يمكن الاجراء على القول: بأنهما أمر بسيط، فإنه في أول
المرتبة من الغسل يزول قهرا، قضاء لحق مطهرية الماء في الجملة،
فافهم واغتنم.

1 - تقدم في الصفحة 260.
291

ومنها: أنه على القول بأنهما كما تكونان عرفيتين، تكونان شرعيتين،
يجري الاستصحاب لابقاء عنوانهما، وترتيب الآثار عليهما، بخلاف ما إذا قلنا:
بأنهما عرفيتان فقط، فلا يستصحب العنوان العرفي، لعدم الأثر الشرعي
له، فتنحصر الفائدة فيه بالحكمي، فيستصحب عند الشك وجوب
الاجتناب السابق، أو جواز الشرب.
نعم، إذا شك في بقاء بول على صفة البولية، يمكن الاستصحاب، أما
استصحاب عنوان النجاسة فلا.
اللهم إلا أن يقال: بأن التطبيق الوارد في المآثير ولو كان بنحو
المجازية والادعاء، كاف لاجرائه، فليتأمل.
292

المقام الأول
في عدد النجاسات
وهي على ما في " الوسيلة " واحد وعشرون (1)، وعند المشهور
عشرة (2)، وقيل: " أحد عشر " (3) وقيل: " اثنا عشر " (4) والأمر بعد كون المدار
على الدليل، سهل.
وفي المروي عن بعض نسخ الدعوات، عن ولي سيد الكائنات،
عليه أفضل الصلوات والتحيات: أنه أجاب رجلا سائلا عن عدد
النجاسات: " بأنه الغب مع الميمات، والدف مع الحيوانات ".
وهي عليه عشرة، فإن كل واحد من " الغين " و " الباء " وثلاث ميمات،
" والدال " و " الفاء " وثلاثة حيوانات، رمز لها باسمها، والمراد من
الحيوانات: الكافر، والكلب، والخنزير، والله العالم.

1 - الوسيلة: 77.
2 - مفتاح الكرامة 1: 136، مستند الشيعة 1: 24، جواهر الكلام 5: 273.
3 - وسيلة النجاة: 57.
4 - العروة الوثقى 1: 55، فصل في النجاسات.
293

الأول: البول
وهو من الحيوان النجس العين من النجاسات بالضرورة، وعليه
المسلمون أجمعهم (1). وأما في غيرها فهو مورد الخلاف.
والبحث حوله يتم في ضمن مسائل:
المسألة الأولى: في نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه من ذي النفس
بول الحيوان غير المأكول لحمه ذي النفس السائلة، نجس
بالاتفاق (2)، ولا حاجة إلى الاستدلال. والمخالف من المخالفين
النخعي، حيث قال بطهارة أبوال جميع البهائم والسباع (3) (4).
ويدل عليه معتبر عبد الله بن سنان في " الوسائل " قال: قال أبو
عبد الله (عليه السلام): " اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه " (5).

1 - المعتبر 1: 410، الحدائق الناضرة 5: 2، المجموع 2: 548 - 550.
2 - المعتبر 1: 410، تذكرة الفقهاء 1: 49، مستند الشيعة 1: 137.
3 - الظاهر أن الفراغ من هذا التسويد، كان في النصف الثاني من العشر التاسع من القرن
الحاضر 1394 بيد أقل العباد، مصطفى بن روح الله الموسوي الخميني عفي عنهما،
نجف...] منه (قدس سره) [.
4 - المجموع 2: 548 / السطر 18.
5 - الكافي 3: 57 / 3، وسائل الشيعة 3: 405، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 8،
الحديث 2.
294

والقدر المتيقن منه ما كان منها ذا نفس سائلة.
والاشكال في قصورها وقصور ما هو مثلها عن إثبات النجاسة، كتوهم
اختصاص النجاسة بالثوب، واختصاصها بثوب ابن سنان.
هذا مع أنك قد عرفت: أنه لا حاجة إلى إثبات اعتبار النجاسة،
بل المقصود إثبات أن هذا الأمر ليس مولويا، بل هو إرشاد إلى لزوم
الغسل فيما يشترط بالطهارة، سواء كانت النجاسة منتزعة عن هذا الأمر،
أم لا، فلا تخلط.
ويمكن الاشكال في الاستدلال بهذه الأخبار: بأن المراد من قوله (عليه السلام):
" ما لا يؤكل لحمه " أعم من الحيوانات المحرمة وما لا يؤكل عادة، كما يأتي
في المسألة الثالثة، وإخراج الطائفة الثانية للقرينة، يورث القصور
عن إثبات النجاسة بها، كما لا يخفى.
ثم إنه ربما يمكن توهم انصراف هذه الروايات عن بول الانسان، كما
في لباس المصلي (1). ولكنه ولو تم لا يستلزم طهارته، لاطلاق الأوامر
بالغسل من البول المصيب للثوب مع ترك الاستفصال.
بل والقدر المتيقن منه هو ثوب الانسان، لكثرة الابتلاء به، مع ما
ورد في الباب المزبور من معتبر سماعة، قال: سألته عن أبوال الكلب
والسنور والحمار.
فقال: " كأبوال الانسان " (2).

1 - لاحظ مهذب الأحكام 1: 284.
2 - تهذيب الأحكام 1: 422 / 1336، وسائل الشيعة 3: 406، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات، الباب 8، الحديث 7.
295

وإضماره غير مضر كما تحرر (1)، وشموله للحمار لا يورث قصورا في
أصل الدلالة، كما لا يخفى.
ويحتمل أن يراد منه: أن أبوالها كأبوالهم، في أنها طاهرة ونجسة،
فإن من أبوال الانسان ما هو طاهر، بل أطهر من كل شئ، كما لا يخفى على
أهله، فليتدبر.
هذا مع قيام السيرة القطعية عليه، لأن حكم هذه الموضوعات
يؤخذ من الآباء والأجداد يدا بعد يد. ويشهد لذلك ما ورد في الاستنجاء، على
ما مر منا في محله: من إثبات أعمية " الاستنجاء " فراجع (2).
ثم إن الظاهر عدم الحاجة إلى دعوى الانصراف، لأن كلمة " ما "
لغير ذوي العقول، فالتعميم يحتاج إلى الدليل، فاغتنم.
المسألة الثانية: طهارة بول ما لا يؤكل إن لم يكن ذا نفس سائلة
بول ما لا يؤكل لحمه، وليس له نفس سائلة، طاهر لا يجب
الاجتناب عنه بلا خلاف صريح من أحد (3)، إلا المحقق، فإنه قد تردد في
" الشرائع " ابتداء، وصرح بالطهارة بعد ذلك (4).

1 - لعله في قواعده الرجالية وهي مفقودة.
2 - تقدم في الصفحة 128 - 129.
3 - الحدائق الناضرة 5: 13.
4 - شرائع الاسلام 1: 43.
296

وقال في " المعتبر ": " إنه نجس " (1).
وقال أبو حنيفة والشافعي وأبو يوسف: " إنه نجس " (2).
وقد استشكل في دليله، لعدم النص عليه (3)، مع إطلاق ما يدل على
نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه، بل وعموم خبر عبدا لله بن سنان في الباب
المزبور، عن أبي عبدا لله (عليه السلام) قال: " اغسل ثوبك من بول كل ما لا يؤكل
لحمه " (4).
وعليه لا فرق بين السمك المحرم لحمه وغيره، وبين الملحقاة
وسائر الحيوانات البحرية مما لا نفس لها، وغيرها من البهائم والسباع.
ومجرد كون الحيوانات البرية غير ذات اللحم إذا كانت غير ذات نفس، لا
يكفي، لوجود الحيوانات البحرية التي هي ذات لحم، وغير ذات نفس.
وتوهم: أنها خارجة عن الابتلاء (5)، غير نافع.
وربما يقال: بانصراف الرواية الأولى عن بول ما لا نفس له، لطهارة
ميتته ودمه، بل وخرئه، وتلك كافية لكونها منشأ للانصراف (6).
وأما الخبر الثاني، فهو مرسل، لأن الكليني يرويه بواسطة علي بن

1 - المعتبر 1: 411.
2 - الخلاف 1: 486، المجموع 2: 548 / السطر 17، المحلى بالآثار 1: 169.
3 - التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 461.
4 - الكافي 3: 406 / 12، وسائل الشيعة 3: 405، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات،
الباب 8، الحديث 3.
5 - مهذب الأحكام 1: 296.
6 - مدارك الأحكام 2: 264، مهذب الأحكام 1: 296.
297

محمد، عن عبد الله بن سنان، وهو غير ممكن كما هو الظاهر. فما له
الاطلاق غير واف، وما له العموم غير مسند.
وأما إطلاق سائر المآثير المشتملة على الأسئلة والأجوبة، أو الأمر
بغسل البول (1)، فهو - إنصافا - بعيد عن شمول هذه الأبوال، ولا معنى لالغاء
الخصوصية، بعد ما ترى من الخصوصيات في ميتتهم ودمهم وهكذا.
ويمكن أن يستدل على طهارة ما لا نفس له من ذوات اللحوم التي
لا يؤكل لحمها: بمعتبر حفص بن غياث في " الوسائل " عن جعفر بن محمد،
عن أبيه (عليهم السلام) قال: " لا يفسد الماء إلا ما كانت له نفس سائلة " (2).
فإن قضية إطلاقه حسب المفهوم، نجاسة الماء بالنفس السائلة،
سواء كانت ميتتها أو بولها. نعم خرج منه جثتها حال الحياة.
ومثله ما ورد في الباب المزبور ذيل معتبر الساباطي، حيث قال:
" كل ما ليس له دم فلا بأس " (3).
فإنه أعم من الميتة وبولها.
وأنت خبير: بأن هذه الاستدلالات غير وافية، فكأن الأفاضل والأعلام
لما بنوا على تمامية الحكم، اشتهوا الاستدلال، فتارة: يستدل بقصور الأدلة

1 - وسائل الشيعة 3: 404، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 8.
2 - تهذيب الأحكام 1: 231 / 669، وسائل الشيعة 3: 464، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات، الباب 35، الحديث 2.
3 - تهذيب الأحكام 1: 230 / 665، وسائل الشيعة 3: 463، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات، الباب 35، الحديث 1.
298

وانصرافها (1)، وأنت تعلم أنه لو كان الأمر كما قيل، لكان انصرافها عن بعض
أصناف الحيوانات التي لها النفس أولى كالسباع، لعدم الابتلاء بها إلا نادرا.
وأخرى: من جهة تقديم لسان مفهوم هاتين الروايتين، على ما يدل
على نجاسة بول مطلق ما لا يؤكل لحمه (2)، مع أنك تعلم أن مثل هذين
المفهومين، قاصران عن إثبات شئ. مع أن الوجدان حاكم بأن فتوى
المشهور، ليست مستندة إلى مثل ذلك.
وتوهم: أن " البول " غير صادق على أبو إلها (3)، كتوهم أنه لا بول لها
رأسا (4).
نعم لو شك في ذلك فمقتضى الأصول هي الطهارة.
وأما دعوى الاجماع والاتفاق (5)، فهي قريبة جدا، فإنه بعد ما نجد
قصور الأدلة عن إثبات القيد الثاني، بل ودلالتها على نجاسة مطلق البول،
يظهر لنا أن المسألة كانت واضحة عند الأوائل، لدلائل أخر، فافهم وتدبر.
فاحتمال كون مستندهم هذه الأمور، في غاية البعد جدا، لجلالة شأنهم عن
هذه التشبثات في المسائل الفقهية.
وأما إطلاق معاقد جملة من الاجماعات، كإجماع السيد أبي المكارم
في " الغنية " (6) فهو محمول على غيره، كما لا يخفى.

1 - مهذب الأحكام 1: 296.
2 - التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 462.
3 - المعتبر 1: 411، جواهر الكلام 5: 285.
4 - مهذب الأحكام 1: 296.
5 - الحدائق الناضرة 5: 13.
6 - الغنية، ضمن الجوامع الفقهية: 488 / السطر 27.
299

وأما توهم الاتفاق على طهارة أبوال الحيوانات الصغيرة، كالذباب
والخنافس، فهو لا يضر بهذه المسألة، لخروجها عن الأدلة موضوعا،
لعدم كونها ذوات اللحوم واقعا أو عرفا.
وتوهم: أن الموضوع المأخوذ في الأدلة، معنى سلبي يجامع سلب
الموضوع (1)، في غير محله، كما هو الظاهر. ولكنه بعد اللتيا والتي، تحتاج
المسألة إلى التأمل والتتبع.
المسألة الثالثة: في طهارة بول ما يؤكل لحمه
أبوال ما يؤكل لحمه طاهرة عند الأكثر من أصحابنا (2).
وعن ابن الجنيد، والشيخ في " النهاية ": القول بالنجاسة (3)،
وإليه مال الأردبيلي (4)، وتلميذه صاحب " المدارك " (5) وصاحبا " الدلائل "
و " المفاتيح " قالوا بنجاستها (6)، وهكذا " الحدائق " (7).
ومن المخالفين: أبو حنيفة، والشافعي، وأبو يوسف، وأبو ثور،

1 - لاحظ الطهارة، الإمام الخميني (قدس سره) 3: 29.
2 - الخلاف 1: 485، تذكرة الفقهاء 1: 50، العروة الوثقى 1: 55 فصل في النجاسات،
التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 455.
3 - لاحظ مختلف الشيعة: 56 / السطر 14، النهاية: 51.
4 - مجمع الفائدة والبرهان 1: 301.
5 - مدارك الأحكام 2: 302 - 303، مستمسك العروة الوثقى 1: 283.
6 - لاحظ مفتاح الكرامة 1: 153 / السطر 15، مفاتيح الشرائع 1: 65.
7 - الحدائق الناضرة 5: 21.
300

وجماعة آخرون، ذهبوا إلى النجاسة (1).
ولعل هذا الاختلاف ناشئ من الخلاف في حرمة اللحم وحليته،
فتصير المسألة تابعة لتلك المسألة.
وبالجملة: مذهب الجمهور والمعروف منهم نجاستها، فإذن يتمكن
الفقيه من الحمل على التقية، إذا كانت في أخبارنا رواية تدل عليها،
كما يأتي.
وعلى كل حال تبين: أن المسألة خلافية، فلا بد من النظر في
أخبارها. والشهرة بين المعاصرين على الطهارة، أو الاتفاق منهم عليها، لا
يورث شيئا.
ثم إنه لا فرق على هذا، بين ماله النفس وغيره.
اعلم: أن روايات هذه المسألة على طائفتين:
الأولى: تدل على النجاسة استظهارا (2).
والثانية: تدل على الطهارة صراحة (3).
وقضية الجمع العقلائي هو الأخذ بالثانية، وحمل الأوامر على
الاستحباب، وأنها ليست نجسة، ولكنها يكره استعمالها فيما يشترط فيه
الطهارة.

1 - المجموع 2: 549 / السطر 1، المغني، ابن قدامة 1: 732.
2 - وسائل الشيعة 3: 406 و 408 و 409، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 9،
الحديث 1 و 8 و 11 و 13 وذيل الحديث 5.
3 - وسائل الشيعة 3: 407 - 410، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 9،
الحديث 4 و 6 و 10 و 12 و 17.
301

هذا مع أن شهرة الأصحاب مع الثانية، والاشتهار بين العامة مع
الأولى، وكل واحد منهما يكفي لترجيح الثانية على الأولى.
مع أنه قد ادعى الوالد المحقق - مد ظله -: " أن السيرة القطعية،
والمراجعة إلى كثرة الابتلاء، تعطي الطهارة بلا شبهة " (1).
فأقوائية إسناد الطائفة الأولى من الثانية، لا تورث في المسألة
شيئا. فعلى جميع التقادير، لا بد من المراجعة إلى رواية تحكي الطهارة،
كما لا يخفى.
إن قلت: معتبر سماعة في " الوسائل " الماضي آنفا، الناطق
بالتسوية بين أبوال الكلب والسنور والحمار وأبوال الانسان (2)، صريحة
في النجاسة حسب الفهم العرفي، فلا جمع عقلائي بين الأخبار، فتكون
المعارضة بينها واضحة.
قلت: قد عرفت منا معنى هذه الرواية (3)، فلا يثبت ظهورها في
النجاسة. ولو سلمنا فقضية المعارضة هو الترجيح أولا، ثم السقوط،
والمرجح مع الثانية. ولو وصلت النوبة إلى السقوط، فالمرجع قاعدة
الطهارة أيضا.
ثم إن الظاهر، أن ما يؤكل لحمه على طائفتين:
الأولى: ما خلق للأكل، كالشاة ونحوها.

1 - الطهارة، الإمام الخميني (قدس سره) 3: 20.
2 - تهذيب الأحكام 1: 422 / 1336، وسائل الشيعة 3: 406، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات، الباب 8، الحديث 7.
3 - تقدم في الصفحة 295 - 296.
302

والثانية: ما خلق للركوب، ويكره أكله.
فما كان من الأولى، لا يكون بوله مكروها بالمعنى الذي مر تفسيره.
وما كان من الثانية، يكون مكروها.
ويدل على التفصيل معتبر عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: سألت
أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل يمسه بعض أبوال البهائم، أيغسله، أم لا؟
قال: " يغسل بول الفرس والحمار والبغل، فأما الشاة وكل ما يؤكل
لحمه، فلا بأس ببوله " (1).
فإنه مع النظر إلى الرواية الآتية، يظهر معناه، وهي ما رواها
" الوسائل " عن القاسم بن عروة - وهو عندي معتبر - عن بكير بن أعين، عن
زرارة، عن أحدهما: في أبوال الدواب تصيب الثوب: فكرهه.
فقلت: أليس لحومها حلالا؟!
فقال: " بلى، ولكن ليس مما جعله الله تعالى للأكل " (2).
فإنه بالنظر إلى هاتين الروايتين، يظهر حكم هذه المسألة أيضا،
من أنها طاهرة، ولكن لمكان أن لحومها تكون مكروهة، تكون أبوالها
مكروهة، فكأن الأبوال هنا كالأسئار في تلك المسألة، في كونها بحسب
الحكم تابعة اللحم.
وبذلك قال بعض العامة، كما في " البداية " لابن رشد، فإنه يحكي

1 - تهذيب الأحكام 1: 247 / 711، وسائل الشيعة 3: 409، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات، الباب 9، الحديث 9.
2 - الكافي 3: 57 / 4، وسائل الشيعة 3: 408، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات،
الباب 9، الحديث 7.
303

عن قوم قالوا بتبعية الأبوال للحوم (1)، وبه قال مالك (2).
إلا أن التفصيل المشار إليه لا يتراءى منهم، بل هو من خصائص
مذهبنا ظاهرا، والله العالم.
ثم إنك قد أحطت خبرا في المسألة الأولى: بأن رواياتها مورد
الخدشة في دلالتها على نجاسة أبوال ما لا يؤكل لحمه، لظهورها في أن
المراد من " ما لا يؤكل لحمه " أعم من المحرم، والمطرود عادة، والمكروه
شرعا، بشهادة ما مضى، فيكون الدليل الوحيد السيرة القطعية والاجماع
المسلم، والله الأعلم.
المسألة الرابعة: في نجاسة أبوال الطيور المحرمة
أبوال الطيور المحرمة نجسة، على المشهور شهرة عظيمة كادت
تكون إجماعا (3).
وقد خالفهم منا جماعة من الأقدمين، على المحكي عنهم،
كالعماني، والجعفي، والصدوق، والشيخ في " المبسوط " (4) ومن

1 - بداية المجتهد 1: 82.
2 - نفس المصدر.
3 - السرائر 1: 80، جواهر الكلام 5: 275.
4 - مستمسك العروة الوثقى 1: 275، لاحظ مختلف الشيعة: 56 / السطر 6، ذكرى
الشيعة: 13 / السطر 7، الفقيه 1: 41 ذيل الحديث 164، المبسوط 1: 36 و 39.
304

المتوسطين العلامة في " المنتهى " (1) ومن المتأخرين شارح
" الدروس " (2) و " كاشف الأسرار " (3) والمجلسي في " شرح الفقيه " (4) ومن
متأخري المتأخرين " الحدائق " و " المفاتيح " و " كشف اللثام "
و " المدارك " (5) وهو مشهور بين المعاصرين (6)، إلا السيد الأستاذ
البروجردي (رحمه الله) فإنه أفتى بالنجاسة (7)، ومثله الوالد المحقق
- مد ظله - (8).
ومنشأ الاختلاف يمكن أن يكون أمورا، تظهر خلال البحث عن
المآثير في المسألة.
والذي هو المعروف عنهم: أن قضية المطلقات، بل وعموم خبر ابن
سنان (9)، نجاسة جميع غير المأكولات من الطيور وغيرها. وما ورد عن

1 - منتهى المطلب 1: 160 / السطر 3.
2 - مشارق الشموس: 295 / السطر 25.
3 - لاحظ جواهر الكلام 5: 275.
4 - روضة المتقين 1: 210.
5 - الحدائق الناضرة 5: 7، مفاتيح الشرائع 1: 66، كشف اللثام 1: 46 / السطر 24،
مدارك الأحكام 2: 262.
6 - العروة الوثقى 1: 55، فصل في النجاسات، مستمسك العروة الوثقى 1: 275، التنقيح
في شرح العروة الوثقى 1: 449، مهذب الأحكام 1: 291.
7 - العروة الوثقى 1: 120، فصل في النجاسات، الهامش 1. (طبعة مؤسسة النشر
الاسلامي).
8 - الطهارة، الإمام الخميني (قدس سره) 3: 16 - 17.
9 - الكافي 3: 57 / 3، وسائل الشيعة 3: 405، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات،
الباب 8، الحديث 2.
305

أبي بصير من طهارة بول الطيور على الاطلاق (1)، غير قابل للعمل به،
لاعراض المشهور عنه، كما نص عليه " السرائر " وغيره (2)، فعلى تمامية
سنده يشكل الاعتماد عليه، كما هو الظاهر.
والذي ألجأهم إلى الخلاف: أن قضية الصناعة العلمية، هو الجمع بين
الأخبار، والتوفيق بين الآثار.
وما اشتهر: " من عدم عمل أحد من الأصحاب بمعتبر أبي بصير " (3) غير
صحيح، لذهاب جل من الأقدمين إليه، كما أشير إليه، ويكفي مثل
الصدوق، ولا سيما في " الفقيه " (4) فما أفاده ابن إدريس في " السرائر " غير
موافق للواقع.
ولعله لما كان يرى عدم جواز العمل بالخبر الواحد، أسند الأمر
إليهم بنحو ذلك، كما لا يخفى.
فعليه يتعين العمل بما رواه " الوسائل " صحيحا، عن أبي بصير، عن
أبي عبدا لله (عليه السلام) قال: " كل شئ يطير، فلا بأس ببوله وخرئه " (5).
وبما رواه " المستدرك " عن " البحار " قال: وجدت بخط الشيخ

1 - الكافي 3: 58 / 9، وسائل الشيعة 3: 412، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات،
الباب 10، الحديث 1.
2 - السرائر 1: 80، تذكرة الفقهاء 1: 49.
3 - نفس المصدر.
4 - الفقيه 1: 41، ذيل الحديث 164.
5 - وسائل الشيعة 3: 412، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 10،
الحديث 1.
306

محمد بن علي الجبعي، نقلا عن " جامع البزنطي " عن أبي بصير، عن أبي
عبد الله (عليه السلام) قال: " خرء كل شئ يطير وبوله، لا بأس به " (1).
والظاهر اتحاد الخبرين.
أقول: في أن قضية الصناعة هي الطهارة أو النجاسة إشكال،
ضرورة أن النسبة بين الروايتين - أي ما تدل على نجاسة بول ما لا يؤكل
لحمه (2)، وما تدل على طهارة بول الطائر - عموم من وجه، والتعارض في
الطائر المحرم أكله، وحيث لا ترجيح لإحداهما على الأخرى قيل: " يتعين
الرجوع إلى المطلق الفوقاني، وهي الأوامر الناطقة بوجوب الغسل
عند إصابة البول (3)، التي تكون نسبتها إلى كل واحدة من الروايتين
عموما مطلقا.
ولكنه محل خدشة، ضرورة إمكان انقلاب النسبة، بدعوى تقييد
تلك المطلقات بمعتبر أبي بصير (4) أولا، ثم بعد ذلك تصير تلك المطلقات بعد
التقييد، متوافقة مع معتبر ابن سنان (5)، ضرورة أن مفادها هو نجاسة ما عدا

1 - بحار الأنوار 77: 110 / 14، مستدرك الوسائل 2: 560، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات والأواني، الباب 6، الحديث 2.
2 - الكافي 3: 57 / 3، وسائل الشيعة 3: 405، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات،
الباب 8، الحديث 2.
3 - وسائل الشيعة 3: 395 - 397، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 1 و 2.
4 - الكافي 3: 58 / 9، وسائل الشيعة 3: 412، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات،
الباب 10، الحديث 1.
5 - الكافي 3: 57 / 3، وسائل الشيعة 3: 405، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات،
الباب 8، الحديث 2.
307

الطيور ولو كانت محرمة " (1).
وأنت خبير بما فيه، من أن التقييد المزبور لا يستلزم الانقلاب،
لبقاء النسبة - وهي العموم من وجه - بعد التقييد بين المقيدات، ومعتبر
ابن سنان قهرا، كما لا يخفى. فما ترى من شيخنا الحلي - مد ظله - (2)، خال
عن التحصيل.
والذي هو الاشكال في المقال: هو أن معتبر ابن سنان، قاصر دلالة
عن إثبات نجاسة " ما لا يؤكل لحمه " لما عرفت منا: أن هذا العنوان -
حسب ما فسر في الأخبار - عنوان مشير إلى ما لا يؤكل، سواء كان محرما، أو
لا يؤكل، لأجل عدم كونه مخلوقا للأكل (3)، فحينئذ يكون دليل نجاسة ما لا
يؤكل - لأجل حرمة لحمه - الاجماع والسيرة، ولا إطلاق في معقدهما بعد
ما عرفت الخلاف في ذلك، وعنده يتعين العمل برواية أبي بصير.
بل يمكن دعوى سقوط المطلقات عن المرجعية بعد التساقط، لأنها
تكون مقيدة بالمآثير الدالة على طهارة بول الحيوان المأكول لحمه (4)،
فتكون بعد ذلك معارضة لمعتبر أبي بصير، كرواية ابن سنان.
هذا كله بناء على عدم ثبوت الترجيح لأحدهما على الآخر.
ولكن المعروف بين الأصحاب المدققين: أن الترجيح مع خبر
أبي بصير، وذلك لأنه إذا انعكس الأمر، يلزم لغوية أخذ قيد الطير في

1 - دليل العروة الوثقى 1: 274 - 275.
2 - نفس المصدر.
3 - تقدم في الصفحة 304.
4 - وسائل الشيعة 3: 406 - 412، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 9.
308

موضوع الدليل (1).
وأنت خبير بما فيه، وقد مر منا مرارا: أنه لا دليل شرعي ولا عرفي ولا
عقلي على لزوم الجمع بين العامين من وجه، حتى يقال: بأنه في صورة
عدم الترجيح يتساقطان، وفي صورة الترجيح يتقدم ذو المزية على غيره،
بل المناط كون الجمع عقلائيا، فإن أمكن على تلك الطريقة فهو، وإلا
فيتعارضان، أو يكون بالتخيير، فلاحظ واغتنم.
وربما يتخيل: أن التقييد من جانب رواية ابن سنان، يستلزم كون أفراد
معتبر أبي بصير نادرة، لما قيل: " إن الحيوانات المأكولة الطائرة ليست
ذات بول " (2).
وأنت خبير بما فيه، لما مضى أولا، ولما أنه ليس بتام ثانيا.
هذا، وقد أفاد السيد الوالد - مد ظله -: " أنه لا تعارض بين
الطائفتين، لأن رواية ابن سنان يستظهر منها النجاسة، للأمر في مورد
التعارض، ورواية أبي بصير نص في عدم النجاسة " (3).
وبعبارة مني: كما يجمع بين المتعارضات في تمام المدلول بهذه
الطريقة، وعليه ديدن الأصحاب، لا بأس بذلك في العامين من وجه.
ثم بعد ذلك أشار إلى الوجه الذي قدمناه في المسألة الأولى: من

1 - مستمسك العروة الوثقى 1: 276، التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 452، الطهارة،
(تقريرات المحقق الحائري) الأراكي 1: 336.
2 - مستمسك العروة الوثقى 1: 276.
3 - الطهارة، الإمام الخميني (قدس سره) 3: 18.
309

قصور معتبر ابن سنان عن إثبات النجاسة (1).
واستشكل على الوجه الأول: بلزوم التفكيك في مفاد الهيئة
باختلاف الموارد، فأجاب: بجواز ذلك.
وكيف لم يتذكر لهذا التفكيك في الوجه الثاني؟ وليس هذا إلا
لعدم مساعدة العرف على مثله، فإن الهيئة وإن كانت موضوعة للتحريك
الاعتباري، وهو بعد باق على حاله، ولكن بعد قيام القرينة على إرادة
المعنى الندبي في مورد، يصير ذلك من الصالح للقرينة، فتصير المسألة
- بحسب فهم العقلاء - عندي مشكلة، فليتدبر.
وربما يمكن دعوى تقديم معتبر أبي بصير على معتبر ابن سنان، لأن
الأول عام، دون الثاني، والعام مقدم على الاطلاق، كما تحرر، لأنه في حكم
البيان له (2)، فليتدبر.
ولعمري، إن المسألة حسب القواعد الاجتهادية الصناعية، تؤدي
إلى الطهارة، وحسب المراجعة إلى البناءات العقلائية، تصير مشكلة،
وتؤدي إلى الطهارة الظاهرية إن قلنا: بجريان قاعدة الطهارة في الشبهة
الحكمية، فتأمل جيدا.
هذا، وغير خفي: أن قضية ما سلكه السيد الوالد - مد ظله -، هي
المراجعة إلى تلك القاعدة. اللهم إلا أن يتمسك بإطلاق معاقد الاجماعات،
فإنها ظاهرة في أن المراد من " غير مأكول اللحم " هو المحرم لحمه فقط.

1 - تقدم في الصفحة 294 - 295.
2 - لاحظ فرائد الأصول 2: 792.
310

ثم إنه يمكن أن يستدل على نجاسة بول الطيور المحرمة: بما رواه
" الوسائل " عن " مختلف العلامة " نقلا عن " كتاب عمار بن موسى " عن
الصادق (عليه السلام) قال: " خرء الخطاف لا بأس به، هو مما يؤكل لحمه، ولكن كره
أكله... " (1).
حيث يكون الظاهر تعليله الطهارة بالجملة الثانية، ولكنه محل منع.
فذلكة الكلام في المقام
وبالجملة: أن المآثير في المسألة على أربع طوائف:
الأولى: تدل على نجاسة مطلق البول (2).
الثانية: تدل على نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه (3).
الثالثة: تدل على طهارة بول ما أكل لحمه (4).
الرابعة: تدل على طهارة بول الطيور ولو كانت محرمة (5).
والنسبة بين الأولى وسائر الطوائف، عموم وخصوص مطلق، وحيث
أن الحكم واحد في الأولى والثانية، تصير الأولى مقيدة بالثانية أيضا، فإن

1 - مختلف الشيعة: 679 / السطر 2، وسائل الشيعة 3: 411، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات، الباب 9، الحديث 20.
2 - وسائل الشيعة 3: 395 - 397، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 1 و 2.
3 - وسائل الشيعة 3: 404 - 406، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 8.
4 - وسائل الشيعة 3: 406 - 412، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 9.
5 - الكافي 3: 58 / 9، وسائل الشيعة 3: 412، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات،
الباب 10، الحديث 1.
311

قدمنا التقييد بين الأولى والثانية والثالثة، تصير النتيجة نجاسة بول
ما لا يؤكل، وطهارة بول المأكول، وتقع المعارضة بين المقيد والطائفة
الرابعة، لأن النسبة حينئذ تكون عموما من وجه.
وإن قدمنا تقييد الأولى بالرابعة، فيكون مفادها بعد التقييد: أن بول
غير الطائر نجس، وتكون النسبة بعد ذلك بين الأول بعد التقيد مع الثانية،
عموما من وجه، فلا مخلص على جميع التقادير.
نعم، يمكن دعوى: أن مفاد الطائفة الثانية لا يكون أصيلا، بل هو
موافق مع الأولى، فتكون النتيجة أن البول نجس إلا من الطائر، وما أكل
لحمه، فلا تكون معارضة. ولو كان المناط في الجمع بين الأخبار
المتعارضة مجرد الامكان، فهذا الجمع متعين، وإلا فحكم المسألة يعرف
مما سبق تفصيله، فليتدبر جيدا.
المسألة الخامسة: في حكم بول الصبي
بول الرضيع حسب ما مر من الاجماعات والاطلاقات، نجس (1).
وفي " التذكرة " عن داود " أنه طاهر، والرشح استحباب " (2).
وقال ابن الجنيد من أصحابنا - كما في " المختلف " - بطهارته، حيث
قال: " بول البالغ وغير البالغ من الناس نجس، إلا أن يكون غير

1 - تقدم في الصفحة 294.
2 - تذكرة الفقهاء 1: 53.
312

البالغ صبيا ذكرا، فإن بوله ولبنه ما لم يأكل اللحم ليس بنجس " (1).
وهذا هو المحكي عنه، ولا يوجد حكاية القول بطهارة بول الرضيع
عنه، كما يعرب عنه ما استدل به على ذلك، أو يستدل له.
نعم، ما حكي عن داود هي طهارة بول الصبي ما لم يتغذ بالطعام، وما
حكي عنه (قدس سره) طهارته ما لم يأكل اللحم، وهذا غير موافق لما استدل به، أو
استدل له، كما لا يخفى.
والذي هو الاشكال: أن الاجماعات غير مطلقة معاقدها لشموله،
وإجماع السيد (2) في خصوصه منقول، ومستنده إطلاق الأخبار، أو إلغاء
الخصوصية، وفي إطلاقها إشكال، لانصراف كلمة " ما لا يؤكل " عن الانسان.
نعم، المطلقات الآمرة بالغسل إما منصرفة إلى بول الانسان، أو هو
القدر المتيقن منها، وكثرة الابتلاء ببول الصبي، تورث ظهورها في شموله.
بل المسألة لا تحتاج إلى الدليل، لأنه لو كان طاهرا لكان بينا،
فما قد يتمسك ببعض الأخبار في المسألة (3)، لو سلمنا نقاوة أسنادها
وسلامة دلالتها، لما كان كافيا. والشبهة في تلك المطلقات من ناحية أنها
في مقام بيان حكم النجس، مندفعة بترك الاستفصال مع كثرة الابتلاء.
وتوهم تمامية سند طائفة منها، وسلامة دلالتها، مثل ما رواه

1 - مختلف الشيعة: 56 / السطر 28.
2 - الناصريات، ضمن الجوامع الفقهية: 217 / السطر 8.
3 - تهذيب الأحكام 1: 250 / 718، مختلف الشيعة: 56 / السطر 31، وسائل الشيعة
3: 398، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 3، الحديث 4.
313

" الوسائل " في الباب الثالث من الروايات المتكفلة لبيان حكم بول
الصبي (1): من الأمر بالصب، وعدم لزوم الغسل، فإنها كناية عن عدم
نجاسته (2)، فهو في محله.
ودعوى: أنها لا تنافي ما يدل على نجاسته، لأن من الممكن اختلافه
مع سائر الأبوال في سرعة الزوال، لعدم غلظته بالاغتذاء (3)، غير مسموعة،
لعدم مساعدة العرف على مثلها. مع أنه يستلزم كون النجاسة ذات مراتب،
فلو كانت مرتبة منها تزول بالصب، لكان ذلك من التعبد البعيد في هذه
المواقف. وعليه يمكن دعوى نجاستها بمقدار لا يمنع عن الصلاة والطواف،
ولا من الشرب إلا بنحو الكراهة، فإن تجويز الاختلاف في الحكم هنا،
يستلزم ذلك في سائر الأحكام، فليتأمل.
ثم إن في الباب المزبور معتبر سماعة قال: سألته عن بول الصبي
يصيب الثوب.
فقال: " اغسله... " (4).
فإنه حسب الصناعة، شاهد على أن الصب أيضا غير واجب، لأنه
كالأمر بالنضح في مورد الشك، والله العالم.

1 - وسائل الشيعة 3: 397، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 3، الحديث 1 و 2.
2 - لاحظ مختلف الشيعة: 56 / السطر 35.
3 - نفس المصدر.
4 - تهذيب الأحكام 1: 251 / 723، وسائل الشيعة 3: 398، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات، الباب 3، الحديث 3.
314

فالذي هو الدليل الفريد ما عرفت منا، من عدم احتياج هذه
المسائل إلى الرواية والحديث (1)، وإلا فلا يبعد اقتضاء الصناعة
طهارته.
ومما يشهد له ما رواه في الباب الرابع، من عدم وجوب غسل
المربية ثوبها من بوله (2)، فإنه من الأمارات على عدم نجاسته، إلا أنه
لمكان القذارة العرفية أمر بالغسل مرة واحدة في اليوم. ومع الغض عن
رواية السكوني المزبورة في الباب الثالث (3)، لا فرق - بعد اقتضاء
الصناعة طهارته - بين الصبي والصبية، لأن بول المرأة كبول المرء لو
فرضنا كون السؤال عن بوله، كما في سائر الأحكام إلا مع القرينة.
المسألة السادسة: في حكم بول الخفاش
بول الخفاش - وهو الوطواط، وقد يعبر عنه ب‍ " الخشاف " كما
يجمع على " الخشاشيف " فإن الجمع يرد الأشياء إلى أصولها - نجس
على المشهور (4)، حتى عند الشيخ القائل بطهارة بول الطيور

1 - تقدم في الصفحة 313.
2 - تهذيب الأحكام 1: 250 / 719، وسائل الشيعة 3: 399، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات، الباب 4، الحديث 1.
3 - تهذيب الأحكام 1: 250 / 718، وسائل الشيعة 3: 398، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات، الباب 3، الحديث 4.
4 - مختلف الشيعة: 56 / السطر 7، الحدائق الناضرة 5: 14.
315

المحرمة (1).
ويمكن دعوى طهارته ولو قلنا بنجاسة بول الطيور المحرمة. كما
يمكن ذلك سواء كانت له النفس السائلة أم لم تكن، للنص الخاص
فيه (2)، فتوهم الملازمة في المسألة ممنوع جدا.
ولا رأي لمخالفينا في خصوصه (3)، كما هو المعروف بين
المتأخرين (4)، فإنهم نفوا الخصوصية له، فمن قال بطهارة بول الطيور
المحرمة من ذي نفس قال بما فيه، ومن قال بنجاسته فهو مثله.
والذي هو الاشكال في المسألة: أن ما رواه في " الوسائل " في
الباب العاشر عن موسى بن عمر، عن يحيى بن عمر، عن داود الرقي قال:
سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن بول الخشاشيف يصيب ثوبي، فأطلبه ولا أجده؟
قال: " اغسل ثوبك " (5).
لا يكون نقي السند، لأن ابني عمر غير وارد فيهما التوثيق من أحد،
ومع ذلك أفتى بمضمونه الشيخ في " المبسوط " واستثناه من مطلق

1 - المبسوط 1: 39.
2 - تهذيب الأحكام 1: 266 / 778، وسائل الشيعة 3: 413، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات، الباب 10، الحديث 5.
3 - لاحظ الفقه على المذاهب الأربعة 1: 12.
4 - مستمسك العروة الوثقى 1: 278، التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 453.
5 - تهذيب الأحكام 1: 265 / 777، وسائل الشيعة 3: 412، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات، الباب 10، الحديث 4.
316

الطيور (1)، وطرح العمل بما رواه في الباب السابق عن غياث، عن جعفر،
عن أبيه (عليهما السلام) قال: " لا بأس بدم البراغيث والبق وبول الخشاشيف " (2).
مع أنه بناؤه على الجموع التبرعية، وهاتان الروايتان بينهما الجمع
العقلائي، لمنصوصية الثانية في الطهارة، فتحمل عليها الأولى، فإنه يعلم
من ذلك: أن الحكم في الخفاش كان عند الأصحاب مفروغا عنه، وكان هذا
الخبر - أي الأول - عنده شاذا كما صرح به (3) والمراد من " الشذوذ " عند
القدماء ما يؤدي إلى الوهن الكثير فيه، فعليه يتعين المراجعة إلى ما
يدل على نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه، لأنه يقوي العمل بالأول.
ولك دعوى: أن عمل الشيخ لا يفيد شيئا، بل المناط - بعد وضوح
السند - مفاد الأخبار، وأنت ترى أن الخبر الأول ضعيف سندا، والثاني
معتبر، لأن غياث هو ابن إبراهيم البتري الثقة، واحتمال كونه غياث الضبي
بعيد جدا، مع أنه عندنا معتبر، فيكون الخفاش طاهر البول، سواء كانت
الطيور المحرمة طاهرة الأبوال، أم نجسة، فإنه أخص منها بناء على الأخذ
برواية أبي بصير، على ما عرفت تفصيله (4). ومجرد نسبة الشيخ إلى
الشذوذ مع اضطراب كلماتهم في كتبهم في الفتوى والروايات غير مضر
وغير موهن جدا.

1 - المبسوط 1: 39.
2 - تهذيب الأحكام 1: 266 / 778، وسائل الشيعة 3: 413، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات، الباب 10، الحديث 5.
3 - تهذيب الأحكام 1: 266، ذيل الحديث 778.
4 - تقدم في الصفحة 307.
317

وأما توهم: أن التخصيص مستهجن، لأنه هو القدر المتيقن منه، فيكون
بينهما المعارضة أيضا، كما قيل، ففي غير محله، لعدم ثبوت الاستهجان.
ثم إن قضية ما سلف في الوجه الأول، هي الخصوصية لبول
الخفاش (1) وإن كان غير ذي نفس سائلة، لأن التخصيص في الأدلة أمر
دائم لا معنى للفرار منه بعد اعتبار الدليل المخصص.
هذا مع أنك قد عرفت قصور الأدلة عن إثبات شرطية الدم السائل في
نجاسة البول في الحيوانات المحرمة (2)، ولعل الاختبار المعروف في عصرنا
عن الفضلاء، دليل على أن النجس هي الأبوال مما لا يؤكل لحمه وإن لم تكن
ذات نفس سائلة، كما هو معقد طائفة من الاجماعات التي عرفت سابقا (3).
وبعبارة أخرى: عدم كون الخفاش من ذوات النفس، شاهد على أن
الشرط المعروف غير تام، كما مضى في المسائل السابقة، فليتدبر جيدا.
أقول: ما اشتهر (4) " من أن ابن إدريس والعلامة (5) قالا بعدم عمل أحد
من العصابة برواية أبي بصير (6) " في محله، ولكنه لا يستلزم سقوط خبر

1 - تقدم في الصفحة 316.
2 - تقدم في الصفحة 298 - 299.
3 - تقدم في الصفحة 299 - 300.
4 - مستمسك العروة الوثقى 1: 276.
5 - السرائر 1: 80، تذكرة الفقهاء 1: 49.
6 - الكافي 3: 58 / 9، وسائل الشيعة 3: 412، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات،
الباب 10، الحديث 1.
318

الخفاش (1) وإن لم يفت به حتى الشيخ، لأن الاجماع المدعى على
الاعراض مخصوص بالأول، ولعل الشيخ لم يفت بمضمون رواية الرقي،
لما كان يرى في سندها إشكالا، ضرورة أن الرقي مما ضعفه النجاشي وابن
الغضائري وغيرهما تضعيفا بينا (2)، وما ترى في كتاب السيد الوالد من عدم
توثيق موسى بن عمر ويحيى (3)، في غير محله، فإن الأول مشترك بين ابن بزيع
وهو ثقة، وبين ابن يزيد (4)، فإنه عندنا معتبر، لرواية الأجلاء عنه،
والثاني لا يبعد اعتباره عندنا. وقول الشيخ بوثاقة الرقي في بعض كتبه (5)
ينافي ذلك.
نعم، أفتى بما عنده من الشهرة والتلقي من الأصحاب، ولذلك يشكل
التجاوز عما كان مشهورا بين القدماء في المسائل المبتلى بها كثيرا.
نعم، يمكن دعوى: أن ذلك مخصوص فيما إذا كان خصوص بول
الخفاش مورد الفتوى، لا الكلي المنطبق عليه، كما لا يخفى.
هذا، وإذا تم ما احتملناه من قصور الاجماع المزبور على الاعراض،

1 - تهذيب الأحكام 1: 266 / 778، وسائل الشيعة 3: 413، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات، الباب 10، الحديث 5.
2 - رجال النجاشي: 156 / 410، مجمع الرجال، القسم الثاني من المجلد الأول: 290،
تنقيح المقال 1: 414 / 2861.
3 - الطهارة، الإمام الخميني (قدس سره) 3: 22.
4 - هداية المحدثين: 262.
5 - رجال الطوسي: 349.
319

وعدم تمامية سند خبر الرقي، يتعين طهارة بول الخفاش، لرواية غياث (1).
ومن العجب أنه ضعفها جماعة من الأصحاب (رحمهم الله) (2)!! مع أنه غير واقع في
محله حسب الصناعة، لأن كونه بتريا لا ينافي وثاقته المصرح بها في
كلام جمع (3).
نعم، في " الجعفريات ": " أن عليا (عليه السلام) سئل عن الصلاة في الثوب الذي
فيه أبوال الخفاش ودماء البراغيث ".
فقال: " لا بأس بذلك " (4).
وفي نسخة أخرى: بدل " الخفاش " " الخنافس " (5) فإنه يناسب
البراغيث، ولعل ذلك يورث الشبهة في رواية غياث أيضا، من حيث
احتمال الاشتباه في النقل هناك، فتأمل.
فما ترى من ذهاب السيدين العلمين: البروجردي، والخميني - عفي
عنهما - إلى نجاسة الطيور حتى الخفاش (6)، في غير محله، لامكان

1 - تهذيب الأحكام 1: 266 / 778، وسائل الشيعة 3: 413، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات، الباب 10، الحديث 5.
2 - منتهى المطلب 1: 160 / السطر 4، قال: " وفي الطريق نظر فإن الراوي إن كان
غياث بن إبراهيم فهو بتري ".
3 - رجال النجاشي: 305 / 833، ولاحظ تنقيح المقال 2: 366 / 9380، معجم
الرجال 13: 231 / 9280.
4 - الجعفريات: 50، مستدرك الوسائل 2: 559، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات
والأواني، الباب 6، الحديث 1.
5 - لاحظ جامع أحاديث الشيعة 2: 92 / 27.
6 - العروة الوثقى 1: 120، الهامش 1. (طبعة مؤسسة النشر الاسلامي)، الطهارة، الإمام
الخميني (قدس سره) 3: 21.
320

الالتزام بطهارة الخفاش، لا لأجل الاشكال في كونه من ذوات الدم، بل للاشكال
في سند المسألة، ففرض المعارضة بين رواية الرقي وخبر غياث، أو بين
رواية أبي بصير وخبر غياث، بدعوى استهجان التخصيص، غير لازم.
مع أنه على تقدير المعارضة، ليس العام الفوقاني مرجعا، لأنه
معارض برواية أبي بصير لما يقيد إطلاقه بما يدل على طهارة بول ما أكل
لحمه، كما مضى سبيله (1)، فيكون المرجع قاعدة الطهارة.
وأما توهم وجود الاجماع في " المختلف " على تخصيص رواية الطير
بالخفاش (2)، فهو لا يرجع إلى محصل، فلاحظ وتأمل.
المسألة السابعة: في حكم بول الخطاف
بول الخطاف طاهر على المشهور (3)، لأنه مما يؤكل لحمه حسبما
تحرر في الأطعمة (4). ولو سلمنا ما ادعاه ابن إدريس في " السرائر " (5) تبعا
للشيخ في " النهاية " (6) من الاجماع على حرمة لحمه كما هو قوي جدا،
لأن " النهاية " معدة لنقل الفتاوى المتلقاة عن الأئمة المعصومين (عليهم السلام)
والشيخ مع توجهه إلى ذيل معتبر عمار بن موسى، عن أبي عبدا لله (عليه السلام):

1 - تقدم في الصفحة 306 - 307.
2 - رياض المسائل: 345، مختلف الشيعة: 56 / السطر 10.
3 - الطهارة، الشيخ الأنصاري: 344 / السطر 17، مصباح الفقيه، الطهارة: 519 / السطر 12.
4 - مجمع الفائدة والبرهان 11: 183، جواهر الكلام 36: 312.
5 - السرائر 3: 104.
6 - النهاية: 577.
321

عن الرجل يصيب خطافا في الصحراء ويصيده، أيأكله؟
فقال: " هو مما يؤكل ".
وعن الوبر، يؤكل؟
قال: " لا، هو حرام " (1).
ولكنه مع ذلك حمل جملة: " هو مما يؤكل لحمه " على الانكار
والاعجاب، لمعلومية المسألة عنده (2).
ولكن لا تسلم نجاسته، لما عرفت من الاشكال في الاطلاقات في
مسألة نجاسة الأبوال (3)، فإن مثل صحيحة ابن مسلم (4) لا تشمل مطلق
البول، بل هي منصرفة إلى الأبوال المتعارفة. وقيل: " هو بول الانسان ".
ومثل معتبر ابن سنان (5) قاصر دلالة عن إثبات نجاسة كل ما لا يؤكل
لحمه. وتمامية إطلاق معاقد الاجماعات غير مسلمة، مع أنها مستندة إليها.
وأما ما رواه " المختلف " عن " كتاب عمار بن موسى " عن
الصادق (عليه السلام) قال: " خرء الخطاف لا بأس به، وهو مما يحل أكله، ولكن كره

1 - تهذيب الأحكام 9: 21 / 84، وسائل الشيعة 23: 394، كتاب الصيد والذبائح، أبواب
الصيد، الباب 39، الحديث 6.
2 - تهذيب الأحكام 9: 21، ذيل الحديث 84.
3 - تقدم في الصفحة 294 - 295.
4 - تهذيب الأحكام 1: 250 / 717، وسائل الشيعة 3: 397، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات، الباب 2، الحديث 1.
5 - الكافي 3: 57 / 3، وسائل الشيعة 3: 405، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات،
الباب 8، الحديث 2.
322

أكله لأنه استجار بك، وآوى في منزلك، وكل طير يستجير بك فأجره " (1).
فهو قاصر سندا، ولا ملازمة بين الخرء والبول.
نعم، يمكن التمسك بما رواه عمار في رواية طويلة في " التهذيب "
في باب تحريم الجري من أبواب الأطعمة المحرمة محذوفا عنه كلمة
" خرء " (2) فإن إطلاق نفي البأس يقتضي طهارة كل شئ منه حتى الميتة.
ولكنه بمعزل عن التحقيق والصواب.
ومن العجيب إطالة الكلام في المقام عن شيخنا الأستاذ الحلي
- مد ظله - حول تعليل ما في " المختلف " وكيفية الجمع بين علية حلية
الأكل للطهارة، وعلية الطيران لها (3)!! مع أن النسخ المعروفة مشتملة
على كلمة " الواو " فيكون هو كلاما مستقلا، ولو سلمنا ذلك ليس هذه
العناوين عللا حقيقية في هذه المواقف، بل هي أشباه الحكم والنكت،
فراجع كتابه وتأمل، مع ما فيه من المناقشات البنائية والمبنائية،
والعدول عنها أجدر وأحرى.
المسألة الثامنة: في حكم بول الحيوان المحرم بالعارض
أبوال الحيوانات المحرم أكلها بالعارض، تكون نجسة كغيرها

1 - مختلف الشيعة: 679 / السطر 2، وسائل الشيعة 3: 411، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات، الباب 9، الحديث 20 (مع تفاوت يسير).
2 - تهذيب الأحكام 9: 80 / 345، وسائل الشيعة 23: 393، كتاب الصيد والذبائح،
أبواب الصيد، الباب 39، ذيل الحديث 5.
3 - دليل العروة الوثقى 1: 281 - 285.
323

مطلقا، أو هي طاهرة مطلقا.
أو يفصل تارة: بين ما كان محرما بالعارض، كالجلال والموطوء
للانسان، والغنم الذي شرب لبن خنزيرة، وبين ما كان محرما بالعارض
كالمضر والمغصوب والمنذور ترك أكله.
وأخرى: بين موطوء الانسان، فيكون هو ملحقا بالمحرم الذاتي،
وبين غيره.
وثالثة: غير ذلك من الصور والاحتمالات، ومنها: الحاق الجلال
والموطوء فقط - دون غيره - بالمحرم الذاتي.
ومنها: الحاق الجلال العرضي كالذي يؤكل في المجاعة وعند
الاضطرار بالمحلل الذاتي.
أقول: إن كان المستند هو الاجماعات المدعاة في " الغنية " (1)
و " المختلف " و " التنقيح " و " الذخيرة " (2) و " الدلائل " (3) بل في " التذكرة "
و " المفاتيح " نفي الخلاف في الحاق الجلال من كل حيوان والموطوء بغير
المأكول في نجاسة البول (4)، ويظهر من " التذكرة " أن المخالفين أيضا
لم يفرقوا بين العرضي والذاتي فراجع (5)، فهو لا يتم في المأكول الذي

1 - الغنية، ضمن الجوامع الفقهية: 488 / السطر 27.
2 - مختلف الشيعة: 55 / السطر 37، التنقيح الرائع 1: 142، ذخيرة المعاد: 145 /
السطر 15.
3 - لاحظ مفتاح الكرامة 1: 136 / السطر 12، الطهارة، الإمام الخميني (قدس سره) 3: 14.
4 - تذكرة الفقهاء 1: 51، مفاتيح الشرائع 1: 65.
5 - تذكرة الفقهاء 1: 51.
324

شرب لبن الخنزيرة مع أنه - كما قيل - مورد تسلم الأصحاب (1).
ولكنه غير تام، لأن جميع كلمات القوم واردة في غيره، ومخصوصة
بهما ظاهرا، فما ترى في " العروة الوثقى " (2) غير قابل للتصديق. وفي كون
المستند هذه الاجماعات إشكال واضح، لأن المسألة مأخوذة من أخبار
الباب وإطلاقاتها كما يأتي. وإن كان المستند روايات المسألة فهي طوائف:
الأولى: ما تدل على طهارة ما يؤكل لحمه (3)، وهي بإطلاقها تشمل
المأكول الذاتي بالفعل، والذاتي المحرم عرضيا.
الثانية: ما تدل على نجاسة ما لا يؤكل لحمه (4)، وهو أيضا أعم من
المحرم الذاتي والعرضي.
الثالثة: ما تدل على طهارة أبوال أنواع خاصة من الحيوانات،
كالحمار والفرس والبقر والشاة والإبل وغير ذلك (5)، فإنها بإطلاقها تدل
على طهارة الأبوال ولو صارت محرمة بالعرض.
فإن التزمنا بإطلاق الطوائف الثلاث، فتقع المعارضة بين الأولى
والثانية وبين الثانية والثالثة بالعموم من وجه، فيكون مورد

1 - مستمسك العروة الوثقى 1: 281.
2 - العروة الوثقى 1: 55، فصل في النجاسات.
3 - وسائل الشيعة 3: 407، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 9، الحديث 4 و 6
و 10 و 12 و 17.
4 - وسائل الشيعة 3: 404 - 406، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 8.
5 - وسائل الشيعة 3: 407 و 410، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 9، الحديث 2
و 5 و 14 و 18.
325

التعارض في الفرض الأول موطوء الانسان والجلال، بناء على كونهما
محرما لحمهما، كما هو المفروض المتفق عليه في الأطعمة (1)، وإن يظهر
عن الإسكافي - بل والشيخ - كراهة لحم الجلال (2)، وعهدة هذه المسألة
على ذلك الكتاب، فيكون البحث من هذه الجهة هنا من الأصول
الموضوعة، فلا تخلط.
ومورد المعارضة في الفرض الثاني الغنم الجلال والموطوء،
وهكذا الحيوان الذي شرب لبن الخنزيرة واشتد عظمه، كما قيل (3)، أو
مطلقا كما في " العروة " وهو المعروف بين الأصحاب (4) للنصوص
الخاصة (5)، وإن كانت قاصرة عن إثبات الاطلاق، والتفصيل في مقامه (6).
ويمكن رفع المعارضة، بدعوى أقوائية ظهور الطائفة الثانية في
مورد التعارض عرفا.
وقد يقال: بأن المراد من عنوان " ما يؤكل لحمه " و " ما لا يؤكل " إما
يكون الأنواع، أو يكون الأفراد، فإن كان الأنواع فلا تشمل الأولى مورد
المعارضة، لعدم كونه من أنواع ما يؤكل، بخلاف الطائفة الثانية،

1 - جواهر الكلام 36: 272 و 284.
2 - مختلف الشيعة: 676 / السطر 35، الخلاف 6: 85، مسألة 16.
3 - العروة الوثقى 1: 55، فصل في النجاسات، الهامش 12.
4 - العروة الوثقى 1: 55، فصل في النجاسات، مستمسك العروة الوثقى 1: 280.
5 - وسائل الشيعة 24: 161 - 162، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأطعمة المحرمة،
الباب 25، الحديث 1 و 3.
6 - جواهر الكلام 36: 282.
326

فإنها تشمل المورد، لأن عنوان " الموطوء " و " الجلال " من أنواع
المحرمات وما لا يؤكل.
وإن كان الأفراد فلا تشمل الثانية، لأن الفرد الموطوء محرم، ولا
يكون محللا (1).
وفيه: أنه لا يبعد أن يراد منه العنوان المشير إلى العناوين
الذاتية المحرمة والمحللة، ولكن ليس منها عنوان " الموطوء "
و " الجلال " وإلا يلزم اندراج عنوان " المضر " و " المغصوب " أيضا كما لا يخفى.
ومما يشهد على انصراف هذه العناوين إلى الأنواع، روايات ذكرها
" الوسائل " في الباب التاسع:
ومنها: ما رواه في " المعتبر " عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال:
سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل يمسه بعض أبوال البهائم، يغسله أم لا.
قال: " يغسل بول الفرس والحمار والبغل، فأما الشاة وكل ما يؤكل لحمه
فلا بأس ببوله " (2).
فإنه يورث ظهور هذا العنوان في العموم الأنواعي، فترتفع
المعارضة، ويبقى حكم المسألة بلا دليل اجتهادي، فيرجع إلى قاعدة
الطهارة إن قلنا بجريانها في الشبهات الحكمية، أو إلى البراءة في بعض
أحكامها، كما لا يخفى فليتدبر.

1 - الطهارة، الإمام الخميني (قدس سره) 3: 14.
2 - تهذيب الأحكام 1: 247 / 711، وسائل الشيعة 3: 409، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات، الباب 9، الحديث 9.
327

إن قلت: قضية الطائفة الثالثة هي الطهارة.
قلت: هي أيضا ظاهرة في إفادة حكم النوع دون الفرد، فالاطلاق
الافرادي في الكل ممنوع.
اللهم إلا أن يقال: إن قضية الأصل الأولي هو العموم الافرادي، وفي
الأولى والثانية - للقرينة العقلائية - يرفع اليد عنه. ولكنه لا يتم في
الثالثة، فعليه يتعين طهارة بول الجلال والموطوء.
ومما ذكرناه يظهر حال ما إذا فرضنا العموم الافرادي للطائفة الأولى
دون الثانية، وبالعكس، وهكذا الثالثة، والأمر - بعد ما أشير إليه - سهل.
والذي هو الاشكال الآخر في المسألة ما مر منا: وهو أن روايات
نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه، قاصرة دلالة عن إثبات ذلك على الاطلاق،
لأن عنوان " ما لا يؤكل لحمه " أعم من المحرم الذاتي، والمحرم العرفي،
أي: المتروك طبعا أكله، كما أشير إليه (1) في الأخبار الكثيرة (2)، ولا عموم
فوقاني يرجع إليه، كما مر مرارا (3)، فيتعين طهارة بول الجلال والموطوء،
إلا خوفا من مخا لفة الاتفاق والاجماع، فقضية الصناعة من جميع
الجوانب هي الطهارة قويا، فلاحظ وتأمل.

1 - تقدم في الصفحة 304.
2 - وسائل الشيعة 3: 408 - 409، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 9،
الحديث 7 و 9.
3 - تقدم في الصفحة 321.
328

تذنيب: حول رواية النميري الدالة على نجاسة الجلال
قد ورد في الباب الرابع والعشرين من أبواب الأطعمة المحرمة
في " الوسائل " رواية مرسلة عن موسى بن أكيل النميري، عن الباقر (عليه السلام):
في شاة شربت بولا ثم ذبحت.
فقال: " يغسل ما في جوفها، ثم لا بأس به، وكذلك إذا اعتلفت بالعذرة،
ما لم تكن جلالة " (1).
فإن الظاهر منها نجاسة الجلال، فيكون بوله نجسا إما بالذات، أو
للملاقاة بالخروج، ولا يمكن الالتزام به، لعدم إفتاء الأصحاب بذلك.
هذا مع أن المراد من " الجلال " لغة غير ما هو المقصود في
المتون، وحمل الرواية على الأول متعين، وحيث لا ثمرة مهمة في بحثها
نحيله إلى مقام آخر.

1 - الكافي 6: 251 / 5، وسائل الشيعة 24: 160، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب
الأطعمة المحرمة، الباب 24، الحديث 2.
329

الثاني: الخرء من كل حيوان نجس العين
فإنه نجس بالضرورة (1)، وقضية الاجماعات الكثيرة الصريحة في
عدم الفرق بين البول والغائط في الحكم، أنه نجس في الحيوان الذي
يكون بوله نجس، وطاهر من الحيوان الذي بوله طاهر ففي " الناصريات "
و " الروض " و " المدارك " و " الذخيرة " نقل الاجماع على عدم الفرق (2).
وهذا هو مقتضى الاجماعات في كتب الأولين والآخرين من عد الخرء
والبول معا في عداد النجاسات، ولم يفتحوا بابا على حدة لنجاسة الخرء.
ولكن من المخالفين كما في " التذكرة " (3) محمد بن الحسن ولعله
الشيباني المعروف، قد فرق وقال: " بول ما يؤكل لحمه طاهر، وروثه نجس ".
وعن المفيد (4) بل وتلميذه الشيخ في الكتابين: " التهذيب "
و " الإستبصار " القول بنجاسة خرء الدجاجة (5)، فإن استثناء الخرء يقتضي
بقاء البول في المستثنى منه.
اللهم إلا أن يقال: بأن مخرج بوله وخرئه واحد، ولا يخرجان إلا معا،

1 - المعتبر 1: 113، المجموع 2: 548 - 550، الحدائق الناضرة 5: 2.
2 - الناصريات، ضمن الجوامع الفقهية: 216 / السطر الأخير، روض الجنان: 162 /
السطر 12، مدارك الأحكام 2: 259، ذخيرة المعاد: 145 / السطر 20.
3 - تذكرة الفقهاء 1: 51، المجموع 2: 549 / السطر 5.
4 - مستند الشيعة 1: 147، المقنعة: 71.
5 - تهذيب الأحكام 1: 266، الإستبصار 1: 178، لعل " الإستبصار " سهو من قلمه
الشريف، لاحظ المبسوط 1: 36.
330

فتكون الملازمة بينهما خارجية كما لا يخفى.
وأنت خبير: بأن نجاسة خرء طائفة من الحيوانات المبتلى بها،
وطهارة الأخريات منها، واضحة من غير الحاجة إلى الاجماع أو الدليل
اللفظي، ولا إجماع على الملازمة، بمعنى أن من يقول فرضا بنجاسة أبوال
ما يؤكل لحمه، لا بد وأن يقول بنجاسة خرئه، ومن يسقط شرطية النفس
السائلة في نجاسة البول، لا بد وأن يسقط في خرئه.
فما يظهر من جمع من توهم الملازمة شرعا بينهما بالاجماع وغيره (1)،
فهو ممنوع.
والذي هو المهم بالبحث، الفحص عن دليل يورث نجاسة الخرء
على الاطلاق من كل حيوان، أو من ذي نفس سائلة، فإن ثبت فهو، وإلا ففي
موارد الشبهة يرجع إلى الأصل الأولي وهو عدم النجاسة، فليتدبر.
الروايات العامة الدالة على نجاسة مطلق الخرء
وهذه مآثير وروايات في الأبواب المتفرقة نشير إليها إجمالا:
الأولى: معتبر زرارة، عن أبي عبدا لله (عليه السلام) في أبواب لباس المصلي،
فإنه مع طوله مشتمل على تجويز الصلاة في الروث والبول مما يؤكل
لحمه، ومنعه عما لا يؤكل لحمه (2)، ودلالته على طهارة ونجاسة البول

1 - مستمسك العروة الوثقى 1: 274، مهذب الأحكام 1: 285.
2 - الكافي 3: 397 / 1، وسائل الشيعة 4: 345، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلي،
الباب 2، الحديث 1.
331

والخرء محل منع، لظهوره في المانعية لأجل أمر آخر، لا للنجاسة، فما
ترى من ذكر " الوسائل " في هذه الأبواب هذه الرواية، غير وجيه.
الثانية: معتبر عبد الرحمن بن أبي عبدا لله، عن أبي عبدا لله (عليه السلام)
الماضي آنفا، فإنه (عليه السلام) قال في ذيله: " فأما الشاة وكل ما يؤكل لحمه فلا
بأس ببوله " (1).
وقضية المفهوم بضميمة الملازمة بين البول والخرء، ثبوت
البأس، وهو ظاهر في وجوب الاجتناب الملازم للنجاسة.
ولكن عدم تمامية إحدى هذه المقدمات المشار إليها، كاف في عدم
تمامية الاستدلال. مع إنك قد عرفت: أن عنوان " ما يؤكل " و " ما لا يؤكل " أعم
من المحرم الشرعي ظاهرا (2)، والتفكيك في الهيئة قد عرفت حاله،
والرواية في الباب التاسع (3).
الثالثة: معتبر مصدق، عن عمار في الباب المزبور، عن أبي
عبد الله (عليه السلام) قال: " كل ما أكل لحمه فلا بأس بما يخرج منه " (4). فإن قضية
مفهومه ثبوت البأس بما يخرج، وهو أعم من البول.

1 - تهذيب الأحكام 1: 247 / 711، وسائل الشيعة 3: 409، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات، الباب 9، الحديث 9.
2 - تقدم في الصفحة 304.
3 - الكافي 3: 57 / 4، وسائل الشيعة 3: 408، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 9،
الحديث 7.
4 - تهذيب الأحكام 1: 266 / 781، وسائل الشيعة 3: 409، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات، الباب 9، الحديث 12.
332

وقد عرفت جهات الشبهة في استفادة الحكم من أمثاله (1)، ومنها: أن
الوصول ربما يكون عنوانا مشيرا إلى العناوين الخارجية، فينحل إلى
قضايا جزئية، فلا يكون ذا مفهوم. مع أن إثبات البأس بنحو الاهمال يجامع
كون البأس في خصوص البول، أو في بعض الخرء، فلا يثبت المقصود،
وهو إثبات البأس على الاطلاق في الخرء، ولا شبهة في لزوم تقييد المفهوم
بالنفس السائلة، وهذا دليل قوي على أن كلمة الموصول تشير إلى أنواع
الحيوانات المحرمة، واللاتي ذوات النفس السائلة، فافهم واغتنم.
الرابعة: معتبر علي بن رئاب في الباب المزبور، عن " قرب الإسناد "
قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الروث يصيب ثوبي وهو رطب.
قال: " إن لم تقذره فصل فيه " (2).
فإن هذه الجملة كناية عن أنه قذر، أي استنكار منه (عليه السلام) على ذلك،
فيعلم منه أن القذر لا يصلى فيه، وحيث أن الأرواث قذرة نوعا مع كونها
رطبة فلا يصلى فيها، وذلك للنجاسة، لا للمانعية، لفهم العرف ذلك كما في
عرق الجنب.
وأنت خبير بما فيه، هذا مع أن: " الروث " فضلة الأنعام، ولا يطلق
على العذرة، فتكون هذه الرواية معارضة بما يدل على طهارته تعارض
الظاهر والنص.

1 - تقدم في الصفحة 331 و 332.
2 - قرب الإسناد: 163 / 597، وسائل الشيعة 3: 410، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات، الباب 9، الحديث 16.
333

ومثلها الروايات الأخر التي تجمع مع غيرها جمعا عقلائيا. كما أن مثل
الثالثة بعض الأخبار الأخر التي يستدل بمفهومها على المطلوب، وقد
عرفت وجه الاشكال فيها (1).
ومنها: ما عن أبي البختري، عن جعفر، عن أبيه (عليهما السلام): " أن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لا بأس ببول ما أكل لحمه " (2).
بناء على تمامية الملازمة.
الخامسة: ما رواه " الوسائل " في الباب المزبور عن " المختلف " عن
عمار بن موسى في كتابه، عن الصادق (عليه السلام) قال: " خرء الخطاف لا بأس به،
هو مما يؤكل لحمه... " (3).
وقد مر سابقا بعض البحث حوله (4)، وذكرنا هناك: أن هذه الرواية
مذكورة في " جامع الأحاديث " من غير " واو " (5) فقال: " لا بأس به، وهو مما
يحل أكله " وليس هذا رواية مستقلة ظاهرا، بل هو قطعة مما رواه
" التهذيب " عن عمار في رواية طويلة في أبواب الأطعمة المحرمة،
وليس هناك لفظة " خرء " (6) وعلى هذا يكون سنده معتبرا.

1 - تقدم في الصفحة 331.
2 - قرب الإسناد: 156 / 573، وسائل الشيعة 3: 410، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات، الباب 9، الحديث 17.
3 - مختلف الشيعة: 679 / السطر 2، وسائل الشيعة 3: 411، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات، الباب 9، الحديث 20.
4 - تقدم في الصفحة 321 - 322.
5 - جامع أحاديث الشيعة 2: 91، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 2، الحديث 24.
6 - تهذيب الأحكام 9: 80 / 345.
334

ولو سلمنا أنها تكون هكذا: " الخطاف لا بأس به، وهو مما لا يؤكل
لحمه " لتقدم أصالة عدم الزيادة على أصالة عدم النقيصة، ويكون
ظاهرا في أن نفي البأس بلحاظ ما يخرج منه، لا بلحاظ لحمه، للزوم
التكرار، ويكون تعليلا للصدر، فلا يتم الاستدلال أيضا، لعدم تمامية
المفهوم المقصود في المقام، وهو إطلاقه لا إهماله، فإنه ربما كان من
المفاهيم العرفية، وإن لم تساعده القواعد الأدبية ولا العقلية، كما تقرر
في محله.
مع أن الجملة الثانية إذا كانت مع " الواو " ليست ظاهرة في
التعليل إلا بلحاظ أشير إليه، وهو غير ثابت جدا، فالرواية من جهتين
محل الكلام متنا.
مع أن الالتزام بتعددهما يستلزم عدم تمامية سند " المختلف " فلا
طريق إلى الاستدلال بها على الوجه الصحيح، كما لا يخفى.
السادسة: المآثير الكثيرة المشتملة على مفروغية نجاسة العذرة
المذكورة في الأبواب المتفرقة، كأبواب المياه والبئر (1)، وأبواب
المطاعم (2)، وغير ذلك (3) مما يطلع عليه المتتبع، فإنه بعد العثور عليها لا

1 - وسائل الشيعة 1: 147، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 7 و 9،
والباب 8، الحديث 13، والباب 14، الحديث 8.
2 - وسائل الشيعة 24: 169، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأطعمة المحرمة، الباب 29،
الحديث 1.
3 - وسائل الشيعة 3: 444، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 26، الحديث 14،
والباب 32، الحديث 6، والباب 37، الحديث 3.
335

يبقى شبهة في نجاسة العذرة، بل هي من الضروريات، ولا تحتاج إلى
الاستدلال.
وإنما الاشكال في مفادها لغة، والقدر المسلم منه مدفوع الانسان،
وهو الظاهر من اللغة، كما في " أقرب الموارد " حيث فسر الروث من ذي
الحافر: بمثل الغائط من الانسان، ثم فسر العذرة: بالغائط (1). ولا أقل من
الشبهة، فلا يتم المطلوب.
ومجرد إطلاقها على ما يخرج من غير الانسان، كما في صحيحة
عبد الرحمن بن أبي عبد الله في " الوسائل " (2) فإنه غير كاف. مع أن فيه
السؤال عن عذرة من انسان، أو سنور، أو كلب، فإنه ربما كان ذلك لمعلومية
المقصود، ولعدم اللفظة الخاصة لما يخرج منهما.
هذا مع أن في كتب اللغة التصريح - ومنها أول كتاب " المنجد " - بأن
الخصوصيات المأخوذة في تفسير اللغات ليست دخيلة في الموضوع
له، بل هي لبيان الاستعمال، وقد مثل لذلك ب‍ " الروث " إذا قيل: " روث
الفرس " (3) وإذا صح إطلاق العذرة - بناء عليه - على مطلق ما يخرج كما لا
يبعد ذلك في الغائط، فلا بد من أن يكون المراد منه الأخص في الأخبار
حسب الاستعمال، ولا شاهد على كونها موضوعة أو منصرفة إلى ما يخرج

1 - أقرب الموارد 1: 442، 2: 757.
2 - تهذيب الأحكام 2: 359 / 1487، وسائل الشيعة 3: 475، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات، الباب 40، الحديث 5.
3 - المنجد، الاصطلاحات، الصفحة ه‍.
336

من خصوص غير مأكول اللحم من السنور والكلب والسباع وغيرها.
وفي كتاب المكاسب المحرمة فصل طويل حول روايات تحريم بيع
العذرة، وما يتضمن نفي البأس عنه (1)، فراجع.
والذي هو الظاهر منهم كما استظهره الوالد المحقق - مد ظله -: أن
مراد الفقهاء في متونهم من " العذرة " أعم من مدفوع الانسان، ومخصوص بما
يحرم أكله (2).
ولكنه غير كاف لتمامية الاستدلال بتلك المآثير، على ما ترى من
لغة العرب في الاستعمالات المجازية، خصوصا في الموضوعات التي
تصحبها القرائن الخارجية والداخلية، فتأمل.
بعض الروايات الخاصة الدالة على نجاسة الخرء
هذا كله حول مفاد الروايات المستدل بها لنجاسة خرء مطلق
الحيوان المحرم أكله، وطهارة ما يحل أكله.
وفي المقام بعض النصوص الخاصة، ولعله هو مستند المفيد
والشيخ في قولهما بالنجاسة في ذرق الدجاج، وهو ما رواه " الوسائل "
في الباب العاشر بسند ضعيف، عن فارس قال: كتب إليه رجل يسأله عن
ذرق الدجاج، يجوز الصلاة فيه.

1 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 4 / السطر 13.
2 - الطهارة، الإمام الخميني (قدس سره) 3: 12.
337

قال: " لا " (1).
وأنت خبير بقصورها دلالة أيضا بعد ورود النص في خصوص
الدجاج ونفي البأس عن خرئه (2)، فيكون هذا شاهدا على أن سندهما غير
ذلك قطعا، فكان عندهما ما لا يذكر في كتبهما، والله العالم.
وفي نفسي أن أصل النسبة غير ثابت (3)، فراجع حتى تعرف صدق
دعوانا.
وربما يتوهم دلالة معتبر فضل أبي العباس بن عبد الملك المروي في
الباب الحادي عشر قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن فضل الهرة والشاة
والبقر والإبل والحمار والخيل والبغال والوحش والسباع، فلم أترك
شيئا إلا سألته عنه. فقال: " لا بأس به " حتى انتهيت إلى الكلب فقال:
" رجس نجس... " (4)، على طهارة ما يخرج منها، أو خصوص الفضلة، لأن
الفضل بمعنى الزيادة، وإذا قيل: " فضول الانسان " فيراد منها العرق
وأشباهه ولكنه اصطلاح في الطب، فعلى هذا يكون الخبر نصا في طهارة
خرء هذه الحيوانات.
وأنت خبير: بأن منشأ هذا التوهم نقل " الوسائل " هذا الحديث
هنا، ولو ذكره في الأسئار لما كان لذلك الوهم وجه، فقال (عليه السلام) في ذيله:

1 - وسائل الشيعة 3: 412، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 10، الحديث 3.
2 - تهذيب الأحكام 1: 283 / 831، وسائل الشيعة 3: 412، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات، الباب 10، الحديث 2.
3 - تهذيب الأحكام 1: 266، المبسوط 1: 36.
4 - وسائل الشيعة 3: 413، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 11، الحديث 1.
338

" رجس نجس، لا تتوضأ بفضله، واصبب ذلك الماء، واغسله بالتراب أول
مرة، ثم بالماء " (1).
فعليه تصير أجنبية عن هذه المسألة وعن عنوان الباب الحادي
عشر في " الوسائل " فاختبر.
فذلكة البحث
إن الأدلة اللفظية قاصرة عن إثبات نجاسة مطلق الخرء من غير
المأكول، فيبقى معتبر أبي بصير في الطيور (2) فارغة عن المعارض في
خصوص الخرء.
نعم، بناء على معاقد الاجماعات الماضية، وبناء على الاجماع
المدعى على الاعراض عن رواية أبي بصير كما عن " السرائر " (3) وفي
" التذكرة " يشكل التمسك (4).
ولكنك عرفت: أن هذه الاجماعات ليست مبتنية على نصوص أخرى
غير ما وصلت إلينا (5)، فلا منع من الالتزام بطهارة خرء لا يعد من العذرة
عرفا.

1 - تهذيب الأحكام 1: 225 / 646.
2 - الكافي 3: 58 / 9، وسائل الشيعة 3: 412، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات،
الباب 10، الحديث 1.
3 - مستمسك العروة الوثقى 1: 276، السرائر 1: 80.
4 - تذكرة الفقهاء 1: 49.
5 - تقدم في الصفحة 301 و 308.
339

فروع
الفرع الأول: حول نجاسة البول والغائط في الباطن
بعد الفراغ عن نجاسة البول والغائط، فهل هما نجسان على
الاطلاق، أو هما نجسان إذا كانا ظاهرين وخارجين من الداخل والباطن؟
فإن قلنا بالثاني، فلا فرق بين أنحاء الملاقاة بعد كونهما في الباطن،
لعدم تحقق الملاقاة مع النجس، وما ترى في بعض كتب أهل العصر من
المنتسبين إلى الفضل من إنكار النجاسة قبل خروجهما، ومن الحكم
بنجاسة الملاقي، فهو من الجهالة.
نعم، يمكن التفصيل بين النجاسات الباطنية كالدم وغيره، بأن
الدم ما دام في العروق لا يكون نجسا، وإذا ورد في الفم أو الأنف يعد نجسا،
ولكنه لا يورث النجاسة بالملاقاة.
فبالجملة: البحث حول الدم يأتي في محله، ولا منع من الالتزام
بالتفكيك بين أنواع النجاسات من تلك الجهة، لأن الميزان الروايات
الواردة عن الأئمة المعصومين (عليهم السلام) ومقدار دلالتها.
فعلى هذا يمكن أن يقال: إن قضية الاطلاق الأحوالي، أو مقتضى فهم
العرف بعد ثبوت أصل النجاسة، عدم الفرق بين أنحاء الأحوال
بالضرورة، وقد قيل: " إنه هو المشهور بين الأصحاب " بل هو المتسالم
عليه عندهم، فما ترى من الشبهة في ذلك، لأجل الاشكال في الاطلاق
340

الأحوالي (1)، لا يضر بتمامية المقصود.
كما أن توهم: أن جعل النجاسة للبواطن والنجاسات في الداخل -
بعد عدم تنجس الملاقي - لغو، في غير محله، لأن لغوية الاطلاق جائزة،
ضرورة أن الدليل المتكفل لنجاسة العذرة، لو كان مخصوصا بها في
الداخل، لكان ذلك من اللغو غير الجائز، وأما إذا كان متكفلا لنجاستها من
غير النظر إلى الحالات خصوصا، فهو جائز، وإلا يلزم دعوى عدم نجاسة
ما هو الخارج عن محل الابتلاء، وهكذا مما هو الواضح منعه، فتدبر.
هذا مع أنه يظهر الثمرة في بلع الحيوان الذي في جوفه العذرة
والبول، كما لا يخفى.
فتحصل: أنه بعد ثبوت نجاسة شئ، لا يحتاج في إثبات إطلاقها إلى
الاطلاق الأحوالي، بل فهم العرف وعدم وجود الخصوصية بين أنحاء
الحالات، كاف بلا شبهة واشكال، فما ترى في بعض الكتب: من قصور
الأدلة عن إثبات نجاستهما في الباطن، من اللغو المنهي عنه (2)، وإلا يلزم
الاشكال في نجاستهما إذا كان في حال آخر، لعدم الفرق بين الحالات.
فعلى ما استظهرناه، فنجاستهما على الاطلاق من الأمر الواضح جدا،
فلو بلع الحيوان المحرم لحمه وفي جوفه البول والغائط يعاقب مرات،
لأكله النجاسات والمحرمات، فلا تخلط.
نعم، ربما يمكن الاشكال في ذلك لأجل عدم صدق " أكل البول

1 - مستمسك العروة الوثقى 1: 286.
2 - التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 467.
341

والغائط " كما قيل في بلع السمك وفي جوفه الدم (1)، فافهم.
ثم إنه ربما يتوهم دلالة أخبار المسألة الآتية (2) على عدم نجاسة
الأعيان في الجوف، ضرورة أنه إذا كانت الملاقاة غير مورثة للنجاسة،
فهو شاهد على عدم كونها نجسة، ويكون نفي الحكم كناية عن نفي
الموضوع، لئلا يلزم التخصيص (3).
وأنت خبير بما فيه، فإنه في حد ذاته تقريب قريب، إلا أنه بعد
المراجعة إلى فهم العرف غير كاف، لأن إثبات الخصوصية مشكل جدا،
بخلاف نفي التنجس بملاقاتهما في الداخل. مع أن من الممكن كون زوال
العين في الداخل من المطهرات، ولكنه كلام غير تام كما لا يخفى، وإن كان
عن الشهيدين (رحمهما الله) (4).
تنبيه
بناء على طهارة البول والغائط في الباطن، فالظاهر اختصاص ذلك
بما لم يخرج بعد، وأما لو خرجا، ثم دخلا في الجوف، بأن أكل العذرة
وشرب البول، فإنهما لا يصيران طاهرين، لعدم ورود " الباطن " و " الظاهر "

1 - وسيلة النجاة 3: 56، المسألة 34.
2 - الكافي 3: 39 / 1، وسائل الشيعة 1: 276، كتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء،
الباب 12، الحديث 2، الكافي 3: 54 / 5، وسائل الشيعة 3: 427، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات، الباب 17، الحديث 5.
3 - التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 465.
4 - الروضة البهية 1: 26 / السطر 3.
342

في الدليل المخصوص في هذه المسألة، بل من يريد إثبات طهارتهما
يستدل بقصور الأدلة، ولا أظن التزام أحد بذلك في مفروض المسألة.
الفرع الثاني: في حكم ملاقاة الأخبثين في الباطن
بناء على نجاستهما في الباطن، فهل يترتب عليهما جميع أحكامهما،
من حرمة الأكل والشرب، ومن تنجس ملاقيهما ولو كانت الملاقاة في
الباطن، أم لا؟
لا شبهة في جواز الصلاة والطواف معهما مع كونهما في الباطن،
وهكذا لا يتنجس الباطن والمسير بملاقاتهما، أو لو كانا متنجسين يكون
معفوا عنهما فيما يشترط بالطهارة. وهذا مما لا شبهة فيه، ولا يحتاج إلى
الدليل، كما هو الواضح الجلي.
فالاستدلال بطهارة المذي والوذي، لأن المسير لو كان نجسا لكانا
نجسين، غير تام، لأن من الممكن عدم تنجيس البول إلا ما يلاقيه،
ولا ينجس مع الواسطة شيئا آخر، كما قيل في الوسائط (1)، فما ترى في كتب
الأصحاب (2) من الاستدلال بهذه الأخبار (3)، من الغفلة عن الحال.

1 - تحرير الوسيلة 1: 123، المسألة 9.
2 - مستمسك العروة الوثقى 1: 284، التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 465، مهذب
الأحكام 1: 298.
3 - الكافي 3: 54 / 5، وسائل الشيعة 3: 427، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات،
الباب 17، الحديث 1 و 5.
343

وأما ما ورد في بعض الأخبار الأخر التي تأتي في محال آخر، من نفي
وجوب غسل الباطن، كما في أخبار الباب الرابع والعشرين من أبواب
النجاسات (1)، فهو لا يدل على عدم التنجس بالملاقاة، بل ربما كان ذلك
عفوا في الصلاة، فعدم وجوب غسل الباطن لا يدل على ما توهموه وتخيلوه
- رضي الله عنهم -.
ثم إنه لا ينبغي أن يستدل بأخبار وردت في الدم والفم، وإسراء
الحكم إلى سائر النجاسات، لامكان اختلافها في بعض الأحكام، كما ترى
في أحكام الاستنجاء وغيرها.
مع أن المآثير الواردة في مسألة طهارة بزاق فم شارب الخمر،
المروية في الباب التاسع والثلاثين (2) وغيرها (3)، لا تدل على عدم تنجس
الملاقي - بالفتح - بل غايتها العفو، فعليه يجب الاجتناب في سائر الصور
المتصورة في المسألة، لعدم الدليل على العفو المطلق، ولعدم الدليل
على طهارة الباطن الملاقي بالنجس الباطني، أو النجس الخارجي
الداخل في الفم وهكذا.
فما ترى من بناء الأصحاب على الطهارة في نوع صور المسألة (4)،

1 - وسائل الشيعة 3: 437، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 24.
2 - وسائل الشيعة 3: 473، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 39.
3 - تهذيب الأحكام 9: 115 / 489، وسائل الشيعة 25: 377، كتاب الأطعمة والأشربة،
أبواب الأشربة المحرمة، الباب 35، الحديث 1.
4 - مستمسك العروة الوثقى 1: 284، مهذب الأحكام 1: 297.
344

فهو لأجل الغفلة عن أطراف المسألة، ولذلك قلما يتفق جواز تقليد مجتهد
إلا إذا بنى على المراجعة إلى الأفكار المختلفة، حتى يحصل له
الإحاطة الكاملة، فتدبر.
فعلى ما تقرر، يشكل الحكم بطهارة الدرهم الذي يبلع ويخرج بعد
العلم بملاقاته، وبطهارة الحيوان المتكون في المعدة إذا خرج من
المقعدة، وأما إذا خرج من الفم كالقئ فهو لا يكون نجسا، لأن ما في
البطن لا يعد عذرة، ولا يكون فيه سائر النجاسات، خلافا لما توهمه بعض
المنتسبين إلى الفضل في العصر، وبطهارة رأس شيشة الاحتقان وهكذا،
وكالأسنان الصناعية.
ولما كان لكل واحد من النجاسات بحث خاص يمكن أن يؤدي إلى
التفصيل بينها، فالأولى إحالة هذه المسألة الأخيرة إلى بحث نجاسة
الدم، وهكذا مسألة ملاقاة رأس الإبرة، والله العالم.
وفي حكم شيشة الاحتقان، ما يدخل من مخرج البول حتى يصل إلى
المثانة والخزانة، في عدم الدليل على العفو بعد ثبوت الملاقاة مع
النجس، فتدبر.
ومما حصلناه يظهر سقوط الاستدلال لكلي المسألة بالأخبار الواردة في بعض النجاسات، مثلا لا معنى للتمسك بما ورد من جواز
استرضاع اليهودية والنصرانية (1) لطهارة الباطن، فإن اللبن من الباطن،

1 - وسائل الشيعة 21: 464، كتاب النكاح، أبواب أحكام الأولاد، الباب 76.
345

أو لطهارة ملاقي النجس في الباطن، وأن اللبن من ذلك، على اختلاف
الاحتمالين في اللبن، ضرورة أن ذلك - لو تم - ربما كان يختص باللبن،
لخصوصية في المسألة وهو جواز سقي الأطفال ذلك، أو لخصوصية في
اللبن، لأنه لا يعد من الأجزاء الكافرة، بخلاف سائر ما يتصل به، كما في
لبن جوف الحيوان الميت.
وأما إذا قلنا بتنجس اللبن فيه، فلا يبعد أن يسقي الأطفال بالمتنجس
في هذه المواقف، لا مطلقا، وهكذا.
الفرع الثالث: بيان مقتضى الأصول العملية عند الشك في حلية اللحم
قال في " العروة ": " إذا لم يعلم كون حيوان معين أنه مأكول اللحم أو
لا، لا يحكم بنجاسة بوله وروثه " (1) انتهى.
ومقتضى إطلاقه طهارتهما مطلقا، سواء كانت الشبهة حكمية، أو
موضوعية، وسواء كانت الحرمة الذاتية مشتبهة، أو العرضية، وسواء
كانت الشبهة الموضوعية مما تزول بأدنى تأمل ونظر، أو لا تكون كذلك،
وسواء في ذلك المجتهد والمقلد قبل الفحص وبعده، وسواء كان الشك في
قابليته للتذكية وعدمها. وهذا الاطلاق يمكن إتمامه بحسب الظاهر إلا في
الشبهات الحكمية للمقلد وللمجتهد قبل الفحص.
وربما يشكل أولا: في جريان قاعدة الطهارة في الشبهات الحكمية

1 - العروة الوثقى 1: 57، فصل في النجاسات، المسألة 3.
346

من المسألة إذا شك في القابلية (1)، لأن من المقرر في محله عند
المشهور جريان استصحاب عدم القابلية (2)، وقضية ذلك هو حرمة
لحمه، فيكون مقدما على القاعدة، لما ينقح به موضوع الدليل، وهو
نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه وخرؤه.
وفيه أولا: أن جريانها ممنوع، وفي النسبة إشكالا، لأن من القائلين
بجريان الأعدام الأزلية، من استشكل في خصوص جريان هذا الأصل (3).
وثانيا: لا يحرز بذلك عنوان هذه المسألة. ومجرد كون اللحم محرما،
غير كاف كما لا يخفى، فلو فرضنا أصالة الحرمة عند الشك في القابلية
- كما عليه الأكثر إلا الوالد - مد ظله - (4) فهو لا يكون منقحا لدليل هذه
المسألة، فليتدبر.
وربما يشكل ثانيا: في جريانها، لأجل أن الأصل في اللحوم هي
الحرمة (5)، على ما تحرر في محله (6).
وأنت خبير بما فيه من الأصل أولا، ومن أن على فرض تماميته
لا يثبت به موضوع البحث، وهو كون الحيوان مما لا يؤكل لحمه واقعا، أو
بدليل ظاهري يحرز به ذلك كالاستصحاب، وأما الأصل المزبور فلا يكفي.

1 - مستمسك العروة الوثقى 1: 291.
2 - لاحظ تحريرات في الأصول 8: 486 - 489.
3 - مصباح الأصول 3: 117.
4 - الاستصحاب، الإمام الخميني (قدس سره): 102 و 106.
5 - مستمسك العروة الوثقى 1: 288.
6 - تحريرات في الأصول 8: 486 وما بعدها.
347

إن قلت: هذا الأصل هو استصحاب عدم التذكية، أو استصحاب
حرمته حال الحياة.
قلت: أما الاستصحاب الأول فهو لا ينفع لبوله وخرئه حال الحياة،
ضرورة أن الشك في التذكية واللا تذكية، لا يكون فعليا إلا بعد عروضها
على الحيوان في الخارج. والتفصيل بين بوله وخرئه حال الحياة وحال
الممات، من المجمع عليه بطلانه.
مع أن بذلك أيضا لا يحرز موضوع الدليل الاجتهادي، وسر ذلك أن
مجرى الاستصحاب، إما يكون من القضية السالبة المحصلة، أو
الموجبة المعدولة المحمول، أي يقال: " ما كان هذا مذكى، والآن كذلك "
أو يقال: " كان هذا غير مذكى " وموضوع الدليل الاجتهادي قضية سا لبة
المحمول، أي " لا بأس ببول الحيوان الذي لا يؤكل لحمه " وإحراز ذلك
بذاك غير ممكن إلا بالأصل المثبت.
وأما الاستصحاب الثاني، فتفصيله في محله (1)، وإجماله أن حرمة
الحيوان قبل التذكية وحال الحياة غير واضحة، وقد اشتهر عن شيخ
مشايخنا ترخيص بلع الشاة حية. وأما الاشكالات الأخر المتوجهة إلى هذا
الاستصحاب، فهي كلها قابلة للدفع.
نعم، بناء على ما استظهرناه في موضوع الأدلة في المقام لا ينفع
الاستصحاب أيضا، لأن الاستصحاب لا يثبت به إلا حال الشخص، وموضوع

1 - تحريرات في الأصول 8: 486 - 488.
348

الأدلة هي المحرمات النوعية، فتأمل.
إن قلت: قضية الأدلة الاجتهادية حرمة كل حيوان إلا ما خرج
بالدليل، فعليه ترتفع الشبهة الحكمية، ويصير الحيوان مما لا يؤكل
لحمه، فالأصل الذي يتمسك به هي القاعدة الاجتهادية.
وتوهم: أنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، في غير
محله، بل هو من الشك في التخصيص، لأن مورد الشبهة حيوان لم يعلم
حكمه في الشرع مثلا، كالأرنب.
نعم، إذا كانت الشبهة الحكمية لأجل الشك في طرو الحرمة
العرضية، فقضية الاستصحاب بقاء الحلية، وتصير النتيجة هي الطهارة.
إلا أن في كفاية ذلك لاحراز عنوان الدليل لما مر إشكال.
وعلى أي تقدير: جريان قاعدة الطهارة في هذه الصورة بلا مزاحم (1).
قلت: هذه المسألة طويلة الذيل، وقد اختلفت كلماتهم، فالمعروف
بين الأخباريين هي الحرمة، وفي خصوص اللحم أيضا هو المحكي عن
جماعة عن الأصوليين ومنهم " العروة الوثقى " ولكنه مع ذلك اختار
الطهارة (2)، وكأنه (قدس سره) اعتمد في حرمة اللحم على الأصل دون الدليل، كما
لا يخفى.
والذي يسهل الخطب: أن على تقدير دلالة الأخبار على حرمة كل
حيوان - مع أن المعروف أيضا دلالة الآية الشريفة: (قل لا أجد في ما

1 - مهذب الأحكام 1: 300.
2 - العروة الوثقى 1: 57، فصل في النجاسات، المسألة 3.
349

أوحي إلي...) (1) إلى آخره، وكثير من المآثير على أصالة الحلية (2) -
لا يمكن الحكم بالنجاسة، لما تقرر منا: أن الأدلة اللفظية قاصرة عن
إثبات نجاسة بول مطلق ما لا يؤكل لحمه (3)، فتكون القاعدة بلا مزاحم.
وربما يشكل ثالثا: بأن قضية المطلقات نجاسة البول، وقد خرج
منها بول ما يؤكل لحمه، وحيث يمكن اخراج مورد الشبهة عن تحت
المخصص باستصحاب العدم الأزلي، يتمسك بالاطلاق، فيلزم التفصيل بين
البول والغائط عند الشك، لعدم الاطلاق في أدلته (4) كما عرفت. نعم يمكن
الحاقه به للاجماع عليه، فتدبر.
وتوهم: أن جريان الاستصحاب بحسب مقام الجعل، يختص بما إذا كان
المشكوك فيه من الأحكام الالزامية، دون الترخيصية كالإباحة
والحلية، فإنها غير محتاجة إلى الجعل، بل يكفي في ثبوتها عدم
الجعل (5)، فهو فاسد جدا، ضرورة أن عدم الحاجة إلى الجعل لا ينافي
شمول إطلاق دليل الجعل لمثله، فتكون الحلية مجعولة بعد إمكان جعلها.
وهذا نظير عدم الحاجة في موارد حكم العقل بالاشتغال إلى جعله،
ولكنه مع ذلك يصح التمسك باستصحاب الاشتغال وجعل الشارع بعد

1 - الأنعام (6): 145.
2 - وسائل الشيعة 25: 9، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأطعمة المباحة، الباب 1.
3 - تقدم في الصفحة 304.
4 - لاحظ دروس في فقه الشيعة 2: 302.
5 - دروس في فقه الشيعة 2: 303.
350

إمكانه، فلا تكن من الخالطين.
وأنت خبير بما فيه أولا: من قصور تلك الاطلاقات التوهمية، كما
مضى سبيله (1).
وثانيا: أن الأعدام الأزلية لا تجري فيها الأصول إلا في مورد كان الأثر
لنفس التعبد به، لا لأمر آخر وراءه.
وربما يشكل رابعا: بأن في الشبهات الموضوعية لا بد من الاحتياط
إذا كان تحصيل العلم بها سهلا، فإن أدلة الأصول تقصر عن شمول ذلك، لعدم
استقرار الشك إلا مع عسر الاطلاع على الواقع.
وهذه الشبهة محكية عن شيخنا العلامة الحائري (قدس سره) ولكنه (قدس سره)
استثنى في باب النجاسات ذلك (2)، لصحيحة زرارة الناطقة بعدم لزوم
النظر إلى ثوبه لرفع ريبه (3).
ولكنك تعلم: أنها كما لا تختص بنجاسة الدم من ثوب زرارة، كذا هي
ليست تعبدا في الشبهات الموضوعية، بل هي - لمكان شمول الأدلة
وصدق الشبهة والشك - تعرضت لذلك، فالعرف لا يجد فارقا بين
المواقف والموارد، فيعلم منها عدم قصور في أدلة الأصول.

1 - تقدم في الصفحة 313 و 322.
2 - لم نعثر عليه في هذه العجالة.
3 - تهذيب الأحكام 1: 421 / 1335، وسائل الشيعة 3: 402، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات، الباب 7، الحديث 2.
351

وأما حال ما نسب إلى " الجواهر " (1) في المسألة الآتية، وهي
الشك في أن الحيوان ذو نفس سائلة، أم لا، فهو إشكال على جريان
الأصول في الشبهات الموضوعية، ومخصوص بتلك المسألة، فلا تغفل.
الفرع الرابع: بيان مقتضى الأصل العملي عند الشك في أنه ذو نفس سائلة
إذا لم يعلم: أنه من ذي نفس سائلة أم لا - بناء على اعتبار هذا القيد
في نجاستهما - فحكمه يعلم مما مضى، والأمر هنا أسهل، لعدم إمكان توهم
أصل يقتضي الحرمة، لأن المفروض حلية لحمه، ومشكوكية حال
دمه.
وأما الاشكال الصغروي: بأن كل حيوان حلال اللحم، له الدم
السائل إذا كان بريا، فهو في غير محله كما لا يخفى.
وأما ما أفاده " الجواهر " في المقام، فيظهر مما ذكره الأصحاب إيرادا
عليه، فلا نطيل المقام بذلك الكلام، فراجع (2).
وربما يتخيل أن استصحاب العدم الأزلي، لا ينفع لاحراز عنوان العام
باخراج الفرد المشكوك عن عنوان الخاص، لأن العنوان المجعول
مخصصا لعموم ما دل على نجاسة البول والخرء، أمر عدمي لا وجودي،
والأصل المزبور يفيد على الثاني لا الأول. بل قضية الأصل في الأمر

1 - جواهر الكلام 5: 289، لاحظ دروس في فقه الشيعة 2: 300.
2 - مستمسك العروة الوثقى 1: 295، دروس في فقه الشيعة 2: 300.
352

العدمي، هو الخروج عن تحت العام، والدخول تحت الخاص، فلاحظ (1).
وفيه أولا: لو كان الأمر كما قيل لكان هذا معينا، ولا نحتاج إلى إجراء
قاعدة الطهارة حتى يشكل جريانها في الشبهة الحكمية.
وثانيا: الأمر العدمي بحسب الواقع ونفس الأمر، لا يعقل أن يكون
مورد الحكم إلا بنحو يرجع إلى المعنى الوجودي.
وبعبارة أخرى: العناوين العدمية مشيرة إلى خصوصيات وجودية.
نعم، إذا كان العنوان العدمي مأخوذا في الدليل، فلا بد من تبعيته،
ولكن الأمر هنا ليس كذلك، لما عرفت: من أنه لا دليل شرعي لفظي على
اعتبار هذا القيد في نجاسة البول والغائط (2)، فعليه يمكن قلب هذا
العنوان العدمي إلى الوجودي، ثم إجراء الأصل.
والذي يسهل الخطب، عدم تمامية كبرى هذه المسألة - على ما
تقرر منا في محله - إلا في صورة واحدة أشير إليها، وتفصيلها في محلها (3).
ثم اعلم: أنه سيأتي في ذيل مباحث المني ما به يتم مباحث هذه
المسألة، فراجع (4).

1 - دروس في فقه الشيعة 2: 316.
2 - تقدم في الصفحة 299 و 318.
3 - تحريرات في الأصول 7: 101 - 102 و 8: 55 - 56.
4 - يأتي في الصفحة 356.
353

تذنيب: في حكم الرجيع المردد
هذا تمام الكلام فيما تردد الأمر في الحيوان.
وأما لو تردد الأمر في رجيعه بأنه رجيع المحرم، أو المحلل، أم
السائل، أو غير السائل، فجريان قاعدة الطهارة بلا معارض.
وأما توهم استصحابها فهو مشكل، لعدم العلم بالحالة السابقة. مع
لحاظ حفظ الموضوع وحدة وعنوانا، ومع الشك في انحفاظ الموضوع أيضا
يتعين القاعدة.
وهكذا إذا تردد أنه من الأرنب أو الشاة، وتردد في حكم الأرنب، فإن
البناء على حرمته لا يقتضي نجاسته.
إيقاظ: حول ثبوت النفس السائلة للحية والتمساح
قد تعرض الأصحاب (رحمهم الله) لحال الحية والتمساح، واختلفت كلماتهم
في أنهما من ذوات النفس أم لا (1).
والمحكي عن الشهيد أن جميع الحيوانات البحرية غير ذات
النفس، واستشكل الآخرون في ذلك (2)، مع أن في " حياة الحيوان " أن للحية
مائتي لغة، ولها الأصناف الكثيرة (3).

1 - مدارك الأحكام 1: 93، مستمسك العروة الوثقى 1: 296، دروس في فقه
الشيعة 2: 317.
2 - جواهر الكلام 5: 296، العروة الوثقى 1: 57 - 58، فصل في النجاسات، المسألة 4.
3 - حياة الحيوان، الدميري 1: 391.
354

وعن " المبسوط " في خصوص الأفاعي: " أنها إذا قتلت نجست " (1).
وفي " المعتبر " و " المنتهى ": " أنها من ذوات النفس، وأن ميتتها
نجسة " (2) انتهى.
وحيث إن التمساح من ذوات الناب، فكأنه من السباع البحرية،
فيبعد أن لا يكون له دم سائل.
وربما يستظهر أن الحيوانات التي تأكل اللحوم بالخضم من ذوات
النفس، بخلاف الحيوانات التي تبلع الحيوان وإن كانت برية، كالحية
ونحوها، والله العالم.
وفي نجاسة هذه الأنواع خلاف ظهر مما مر، فإن من يقول: بأن مجرد
حرمة الأكل كاف في الحكم بالنجاسة في مخلص، كما أن الذي اختار ما
ذكرناه - من أن الأدلة قاصرة عن إثبات نجاسة رجيع كل حيوان ذي نفس، بل
المقدار الثابت منه ما تعارف منه في البلاد، فمثل التمساح وأمثاله وإن
كانت ذات نفس، يشكل نجاسة رجيعها. وإطلاق معاقد الاجماعات مسلم،
ولكنه مستند إلى الاطلاقات التوهمية للأخبار والمآثير، كما لا يخفى -
في مخلص أيضا.
وحيث لا يجب الفحص والاحتياط في الشبهات الموضوعية،
فالمشهور أيضا يرجعون إلى القاعدة، فلا خير في تعقيب هذه المسألة
جدا.

1 - المبسوط 2: 186.
2 - المعتبر 1: 75، منتهى المطلب 1: 16 / السطر 20.
355

الثالث: المني
وفي نجاسته من الحيوان النجس العين اتفاق من المسلمين، ولما
كانت المسألة في سائر الصور مورد الاشكال والخلاف بينهم، فلا بأس
بتنقيحها ضمن مسائل:
المسألة الأولى: في حكم مني الآدمي
مني الآدمي فإنه نجس بالضرورة، ولا يحتاج إلى رواية، وهو القدر
المتيقن من المآثير (1)، وقد خالفنا من المخالفين الشافعي فقال: " إنه
من الآدمي طاهر " وهذا هو قوله في الجديد، وفي القديم ذهب إلى
نجاسته (2)، والحنابلة على ما في المجلد الأول من " الفقه على المذاهب
الأربعة " (3) وهو اشتباه لذهاب أحمد في إحدى الروايتين إلى طهارته، كما
في " المعتبر " و " التذكرة " (4).
وبالجملة: الطهارة قول سعد بن أبي وقاص، وابن عمر (5).

1 - وسائل الشيعة 3: 423، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 16.
2 - المجموع 2: 553 / السطر 15، منتهى المطلب 1: 161 / السطر 23.
3 - الفقه على المذاهب الأربعة 1: 13.
4 - المعتبر 1: 415، تذكرة الفقهاء 1: 53.
5 - المجموع 2: 554 / السطر 4.
356

وأما استفادة النجاسة من إيجاب الإعادة، كما في كلمات جمع (1)، أو
استفادة الطهارة من الآخرين بعدم إيجاب إعادة الصلاة (2)، فهو ممنوع كما
هو الظاهر. فعد نجاسة المني من الآدمي من ضروريات الاسلام (3)، لا يخلو
عن غباوة.
وربما يشكل نجاسته، لعدم نص يدل عليه إلا الأخبار الآمرة
بالغسل والإزالة، وهي - بعد إمكان كونها لأجل مانعيته في الصلاة، وأن
الأجزاء الصغار منه لا تزول بالدلك - لا تدل عرفا على النجاسة
المقصود إثباتها.
هذا مع توهم دلالة بعض الأخبار على طهارته (4)، كرواية زيد
الشحام المروية في " الوسائل " (5) ورواية أبي أسامة زيد الشحام في
" الجامع " (6) وغيرهما (7) مما يشعر بذلك، لأجل أن مجرد إصابة المطر
والبل ذلك، لا يكفي للطهارة على ما تقرر في ماء المطر، فلاحظ (8) وتدبر.

1 - دليل العروة الوثقى 1: 328، دروس في فقه الشيعة 2: 319.
2 - الفقه على المذاهب الأربعة 1: 13.
3 - التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 491.
4 - الحدائق الناضرة 5: 34.
5 - الكافي 3: 53 / 5، وسائل الشيعة 3: 446، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات،
الباب 16، الحديث 7.
6 - جامع أحاديث الشيعة 2: 95 / 10.
7 - تهذيب الأحكام 1: 421 / 1332، وسائل الشيعة 3: 446، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات، الباب 27، الحديث 7.
8 - تقدم في الجزء الأول: 401.
357

وأما دعوى حملها على التقية (1)، فهي ساقطة، لاختلاف عصري
الصادق (عليه السلام) ومن قال من العامة بالطهارة وهو الشافعي، وخصوصا مع
مخا لفته مع أبي حنيفة (2)، فما ترى في بعض الكتب محمول على
القصور (3)، ولا سيما مع ملاحظة ما في ذيل كلامه.
وأما ما أفاده الآخر: من أن هذه المآثير دالة على النجاسة، لما يعرف
منها مفروغيتها (4)، فهو غير بعيد ذاتا، ولكنه بعد لا يخلو من شبهة، فتدبر.
وما قد يقال (5) بدلالة مرسلة شبيب بن أنس المشتملة على قول
الصادق (عليه السلام) لأبي حنيفة: " أيهما أرجس؟ " ودلالة رواية " العلل " عن
الفضل بن شاذان، عن الرضا (عليه السلام) المشتملة على قوله: " وإنما أمروا
بالغسل من الجنابة، ولم يؤمروا بالغسل من الخلاء وهو أنجس من الجنابة
وأقذر " المرويتين في أبواب الجنابة الباب الثاني (6)، فهو قريب، ولكنه
لا يتم، لاحتمال إرادة الرجس بمعنى الآخر في الأولى، واحتمال كون
التفصيل فرضيا، كما هو المتعارف في الاستعمال:
ففي رواية " الدعائم " قوله: " أيهما أطهر المني أو البول؟ " قال:

1 - مصباح الفقيه، الطهارة: 521 / السطر 24، دروس في فقه الشيعة 2: 320.
2 - المجموع 2: 554 / السطر 5.
3 - دروس في فقه الشيعة 2: 322.
4 - مهذب الأحكام 1: 302.
5 - لاحظ الطهارة، الإمام الخميني (قدس سره) 3: 39.
6 - علل الشرائع: 90 و 257، وسائل الشيعة 2: 179 - 180، كتاب الطهارة، أبواب
الجنابة، الباب 2، الحديث 4 و 5.
358

المني (1).
مع أن مطلق الخلاء ليس أنجس من المني.
والذي يسهل الخطب ما ذكرناه، من عدم حاجة المسألة إلى
الرواية (2)، بل كلما ازدادت على طهارته ازداد فيها الضعف والفتور.
نعم، في أبواب حرمة القياس، عن محمد بن مسلم قال: " يا أبا حنيفة،
الغائط أقذر أم المني؟ ".
قال: بل الغائط (3).
وفي أبواب المياه رواية أبي بصير قال: " فإن أدخلت يدك في الإناء
وفيها شئ من ذلك " أي قذر بول أو جنابة " فأهرق ذلك الماء " (4).
وغير ذلك في الأبواب المتفرقة روايات تشهد على المدعى، فراجع
" جامع الأحاديث " (5).
ولا شبهة في أن المراد من " الجنابة " في هذه المآثير إما ينحصر بمني
الانسان، أو يكون هو القدر المتيقن كما لا يخفى.
وأيضا غير خفي: أن إثبات نجاسة مني المرأة بمثل ما مر، دونه

1 - دعائم الاسلام 1: 91، مستدرك الوسائل 1: 450، كتاب الطهارة، أبواب الجنابة،
الباب 2، الحديث 2.
2 - تقدم في الصفحة 356.
3 - الإختصاص: 189، مستدرك الوسائل 17: 266، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي،
الباب 6، الحديث 36.
4 - الكافي 3: 11 / 1، وسائل الشيعة 1: 152، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 8، الحديث 4.
5 - جامع أحاديث الشيعة 2: 93.
359

خرط القتاد.
المسألة الثانية: في حكم مني ما لا يؤكل لحمه وله نفس سائلة
المني من كل حيوان ذي نفس سائلة مما لا يؤكل لحمه، نجس
عندنا حسب الاجماعات المحكية (1)، وقضية إطلاق معاقدها أنه منه
نجس، من غير فرق بين ما تعارف منه في البلاد، وما كان خارجا عنه،
كالسباع البعيدة، والحيوانات البحرية.
والمخالف في هذه المسألة هو الشافعي، فإن له في غير الآدمي
ثلاثة أقوال، منها طهارته (2)، ولم يظهر لي من وافقه منهم إلا أحمد، فإن
الظاهر أنه في إحدى روايتيه قال بطهارته (3)، فليست المسألة ضرورية
في الاسلام. بل واختلاف أقوال هؤلاء الجهلة، شاهد على أن المسألة ما
كانت ضرورية في أعصارهم.
وربما يشكل نجاسته، لأجل الاشكال في دليله، وانحصار المستند
في الاجماع المعلوم سنده، وذلك لأن ما يدل على نجاسة المني، مورد
الخدشة من جهات:
فتارة: ما أفاده " المدارك " من انصرافها إلى مني الانسان (4).

1 - تذكرة الفقهاء 1: 53، مفتاح الكرامة 1: 136 / السطر 26.
2 - تذكرة الفقهاء 1: 53، المجموع 2: 555.
3 - بداية المجتهد 1: 84.
4 - مدارك الأحكام 2: 266.
360

وأخرى: ما أفاده " الجواهر " من أن المتبادر - لأجل كلمة " الثوب "
ولندرة الوجود - مني الانسان (1).
وثالثة: ما ذكرناه من أن معتبر محمد بن مسلم في الباب السادس
عشر وغيره المشتمل على ذكر المني (2)، ليس في مقام بيان حكم المني
من حيث نجاسته ولا نجاسته، بل كلها في مقام بيان أمر آخر، من أشدية
نجاسة البول على نجاسة المني، ومن لزوم غسل كل ما يصيبه المني،
وذلك لأن نجاسته الاجمالية كانت واضحة في عصر هذه الأخبار، فلا
حاجة إلى السؤال عن تلك الجهة.
ورابعة: ما أفاده " القاموس " بل و " الصحاح " " من أن المني ماء
الرجل والمرأة، أو هو ماء الرجل فقط " (3) فلا يتم الاطلاق السكوتي أيضا.
فبالجملة: يحصل من هذه الأمور بأجمعها، أن الاطلاق لهذه المآثير
غير واضح، وحيث كان المجمعون مستندين إليها فلا سند لهم غيرها، فيرجع
إلى الأصول بعد هذا القصور.
وما ترى من تصدي السيد المحقق الوالد - مد ظله - لاثبات
الاطلاق بكثرة وجود المني من الحيوانات مورد الابتلاء (4)، لا يفي لاثبات
ذلك، ولا يندفع به جميع ما سبق منا.

1 - جواهر الكلام 5: 290.
2 - تهذيب الأحكام 1: 252 / 730، وسائل الشيعة 3: 424، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات، الباب 16، الحديث 2.
3 - القاموس المحيط 4: 394، الصحاح 6: 2497.
4 - الطهارة، الإمام الخميني (قدس سره) 3: 38.
361

المسألة الثالثة: في حكم مني ما يؤكل لحمه مما له نفس سائلة
مني ما يؤكل لحمه وله الدم السائل نجس عند أصحابنا، وعليه
الاجماعات الكثيرة (1)، وهو مقتضى الاطلاقات في المسألة الأولى بناء
على تماميتها.
والمخالف من المخالفين أيضا هو الشافعي (2). وهو قضية منطوق
موثق عمار عنه (عليه السلام) قال: " كل ما أكل لحمه فلا بأس بما يخرج منه " (3).
ومعتبر ابن بكير في أبواب لباس المصلي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في
حديث قال: " إن كان مما يؤكل لحمه فالصلاة... " إلى قوله: " وكل شئ منه
جائز... " (4).
ولو استشكل في الأولى: بظهورها في البول والغائط، لخروج مثل
الدم عنه (5)، وفي الثانية: بعدم دلالتها على الطهارة، لاحتمال كونها في

1 - مدارك الأحكام 2: 265، مفتاح الكرامة 1: 136 / السطر 26، مستمسك العروة
الوثقى 1: 296.
2 - المجموع 2: 555.
3 - تهذيب الأحكام 1: 266 / 781، وسائل الشيعة 3: 409، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات، الباب 9، الحديث 12.
4 - الكافي 3: 397 / 1، وسائل الشيعة 4: 345، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلي،
الباب 2، الحديث 1.
5 - جواهر الكلام 5: 292، الطهارة، الإمام الخميني (قدس سره) 3: 40.
362

مقام بيان الحكم الحيثي (1)، لأمكن الاشكال في بعض المطلقات السابقة
أيضا: بأنها قاصرة عن إثبات نجاسة مني الحيوان الطاهر بوله وخرؤه،
وخصوصا معتبر ابن مسلم قال: " ذكر المني وشدده، وجعله أشد من البول " (2)
فإنه لا معنى لأشدية المني - من الحيوان الطاهر بوله - من بوله.
فيعلم من ذلك: أن هذه القضية مجملة، وليست في مقام إثبات أشدية
طبيعة على طبيعة، حتى يلزم نجاسة المني الصناعي والبول الصناعي،
كما يأتي تفصيله (3).
ثم إنه لو فرضنا الاطلاق للطائفتين، فإن لاحظنا الطائفة الدالة
على نجاسة المني بالظهور العرفي، فيمكن الجمع بينها وبين هذه
الطائفة.
وإذا لاحظناها مع ما يدل على نجاسته بالنص كما مر (4)، فالجمع
مشكل، لأن النسبة عموم من وجه، ضرورة أن معنى موثق عمار: " كل ما
أكل لحمه فلا بأس بما يخرج منه " (5) وهو أعم من عنوان " المني " والمني
أعم منه أيضا، لشمول دليله لمني ما لا يؤكل لحمه.
فما ترى من توهم: أن مع قبول إطلاق هذه الطائفة، كان المتعين

1 - دروس في فقه الشيعة 2: 326.
2 - تقدم في الصفحة 361.
3 - يأتي في الصفحة 369 - 370.
4 - تقدم في الصفحة 359.
5 - تهذيب الأحكام 1: 266 / 781، وسائل الشيعة 3: 409، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات، الباب 9، الحديث 12.
363

القول بالطهارة في هذه المسألة (1)، لا يخلو من تأسف. وما أفاده العلامة
الوالد - مد ظله - من حكومة هذه الطائفة، أو تقدمها بنحو الاجمال (2)،
غير وجيه أيضا.
نعم، يمكن دعوى: أن مع حفظ لسان الرواية، يمكن تقديم العرف
هذه الطائفة، ضرورة أنه إذا فرضنا دلالة الطائفة الأولى على أن المني
مما يؤكل وما لا يؤكل نجس، وكان في الطائفة الثانية ما يدل على الطهارة
بهذا التعبير: " كل ما أكل لحمه فلا بأس بما يخرج منه " فإن ما يخرج منه من
توابع الحكم عرفا، وتكون النسبة بين الموضوعين عموما مطلقا، فعليه
لا بد من حفظ لسان الأخبار، ويعلم منه عدم جواز نقل المعاني بالألفاظ
الأخر، لاختلاف فهم العقلاء في الجمع، فليتدبر.
ولو أشكل الأمر جمعا، فالمرجع هي الطهارة. ولعمري إن الافتاء
بالنجاسة حسب هذه الاجماعات، مشكل جدا.
المسألة الرابعة: في حكم مني ما ليست له نفس سائلة
مني ما لا نفس له فيه قولان، فالمشهور بين القدماء حسب
الاطلاقات هي النجاسة (3)، وقد خالفهم المحقق (4)، ولعله أول من تعرض

1 - دروس في فقه الشيعة 2: 326.
2 - الطهارة، الإمام الخميني (قدس سره) 3: 40.
3 - الإنتصار: 15، المبسوط 1: 36، الغنية، ضمن الجوامع الفقهية: 488 / السطر 36.
4 - شرائع الاسلام 1: 43.
364

لخصوص هذه المسألة، وتبعه جمع آخر من الأعلام (1).
وربما يشكل في إطلاق معاقد الاجماعات تارة: بأنها في قبال فتوى
العامة القائلين بالطهارة مثلا (2).
وأخرى: باستدلالهم بالآية الشريفة (3) التي تعرضنا لحدودها في
مباحث المياه (4)، وهي على فرض دلالتها على نجاسة المني، تكون أخص
من المدعى (5).
ولو فرضنا تمامية المعاقد إطلاقا، خصوصا معقد " الخلاف " (6) بل
ومعقد إجماع السيد وابن زهرة (7)، فلا نسلم حجيته في المقام، لأن
مستندهم - قويا - ينحصر بالأخبار، ولا نص عندهم وراء ذلك، وليست
المسألة واضحة كليتها حتى يقال: بأنها من الأصول المتلقاة، فما ترى من
جد السيد الوالد - مد ظله - لاثبات إطلاق المعقد (8)، غير واف
بالمطلوب.
ثم إنه لا فرق فيما لا نفس له بين أن يكون ذا لحم، أو بلا لحم.

1 - تذكرة الفقهاء 1: 55، ذكرى الشيعة: 13 / السطر 12، مفتاح الكرامة 1: 137 /
السطر 5.
2 - جواهر الكلام 5: 292.
3 - الأنفال (8): 11.
4 - تقدم في الجزء الأول: 25 - 26.
5 - مشارق الشموس: 301 / السطر 24.
6 - الخلاف 1: 489.
7 - الإنتصار: 16، الغنية، ضمن الجوامع الفقهية: 488 / السطر 36.
8 - الطهارة، الإمام الخميني (قدس سره) 3: 41.
365

ومما يؤيد الطهارة هنا، طهارة بوله وخرئه ودمه وميتته.
نعم، قد مر الاشكال في ذي اللحم المحرم مما لا نفس له (1)، ولكنه
منحل بما عرفت بما لا مزيد عليه.
وربما يتمسك كما عرفت سابقا (2)، بروايات الباب الخامس
والثلاثين، ومنها: معتبر عمار الساباطي قال (عليه السلام) في ذيله: " كل ما ليس له
دم فلا بأس " (3).
والعدول عن خصوصية السؤال وهو الميتة، يؤكد العموم على ما
تقرر. ومنها غير ذلك (4).
والتمسك في غير محله، كما مر مرارا. ولو صح التمسك كان الأولى
الاستدلال بذيل الحديث المزبور المحذوف فيه الضمير المشير حذفه
إلى إفادة عموم الأجزاء في المنطوق، فيكون الحكم في المفهوم كذلك مثلا.
وأما قوله: " لا يفسد الماء إلا ما كانت له نفس سائلة " فهو ظاهر في أن
الفساد مستند إلى جثمان ذي النفس وجرثومته، لا جزئه البولي أو
المنوي منه، ولذلك ذكر الأصحاب هذه المآثير في باب نجاسة الميتة،
فلا تخلط.

1 - تقدم في الصفحة 298 - 299.
2 - نفس المصدر.
3 - تهذيب الأحكام 1: 230 / 665، وسائل الشيعة 3: 463، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات، الباب 35، الحديث 1.
4 - تهذيب الأحكام 1: 231 / 669، وسائل الشيعة 3: 464، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات، الباب 35، الحديث 2.
366

إيقاظ: حول حكم مني الصبي غير البالغ
قضية ما مر من قصور الأدلة عن إثبات نجاسة كل مني، ومقتضى ما
في " القاموس " و " الصحاح ": " من أن المني ماء الرجل والمرأة، أو هو
ماء الرجل " (1) الاشكال في نجاسته من الصبي كالمرأة، على ما أشير
إليه في المسألة الأولى (2)، فلو فرضنا خروج المني من الصغير لعلة
ومرض - كالفتور المستولي على الأعضاء - فإنه ليس من علائم البلوغ
مطلقا، فإنه في نجاسته إشكال وشبهة، وما في " مفتاح الكرامة ": " من أن
تفسيرهما محمول على التمثيل " (3) غير وجيه إلا في بعض الألفاظ.
اللهم إلا أن يقال: هو لازم إلغاء الخصوصية، فتأمل.
بحث وتفصيل: اشتراط الخروج من المخرج الطبيعية وبالنحو المتعارف
كما يشترط في نجاسة البول والغائط كونهما من محرم الأكل، وفي
نجاسة المني كونه من ذي النفس، على ما هو المشهور والمعروف، فهل
يشترط كون الثلاثة من المخرج الطبيعي، وكونها بنحو الخروج
المتعارف، أم لا؟

1 - القاموس المحيط 4: 394، الصحاح 6: 2497.
2 - تقدم في الصفحة 358 - 359.
3 - مفتاح الكرامة 1: 137 / السطر 3.
367

وتظهر الثمرة فيما تعارف في عصرنا من أخذ المني بتوسط الإبرة من
مخزنه، ومن اخراج البول من المخارج غير الطبيعية خروجا غير طبيعي.
ظاهر الأصحاب (رحمهم الله) هو الثاني.
ويشكل ذلك: بأن إطلاق كلماتهم ومعاقد إجماعاتهم، ممنوع من بعض
الجهات الماضية، فضلا عن هذه الجهة الحادثة. مع أن مستند إطلاقه
إطلاق الأخبار، وقد عرفت الشهبة فيه مرارا (1).
هذا مع أن الظاهر من موثقة عمار الماضية (2)، أن نفي البأس
مخصوص بما يخرج، لا بما يخرج بالاخراج الصناعي قال: " كل ما أكل لحمه
فلا بأس بما يخرج منه ".
وبالجملة: إن قلنا بنجاستها في الباطن - كما عرفت منا قوة ذلك (3) -
فلا فرق بين الصورتين، وإن قلنا بطهارتها ففي نجاستها هنا إشكال قوي.
وتوهم دلالة هذه الموثقة على أن البأس مخصوص بالخارج،
مدفوع بأن صيغة المضارع تفيد الشأنية، ولا يلزم فعلية الخروج في
ثبوت البأس، فلا تخلط. بل هي للاستدلال بها على نجاستها في الباطن
أولى وأحسن، كما لا يخفى.

1 - تقدم في الصفحة 365.
2 - تقدم في الصفحة 362.
3 - تقدم في الصفحة 340 - 341.
368

المسألة الخامسة: في حكم البول والغائط والمني الصناعية
لا شبهة في أن الأبوال والغائط الصناعية طاهرة، لما يظهر من
الأخبار أنهما مما لا يؤكل لحمه نجس، فيكون من شرائط نجاستهما كونهما
من الحيوان.
وتوهم: أن قوله (عليه السلام): " اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه " (1) وإن
كان ظاهرا في القضية الموجبة السالبة المحمول، أو الموجبة
المعدولة، أو السالبة المحصلة المفروض موضوعها، ولكن الصناعة
قاضية بأنها من السالبة المحصلة المجامعة مع انتفاء الموضوع، فإذا
خلقت الأبوال والغائط بالمكائن، فهي مما لا يؤكل لحمه وإن كان لعدم
اللحم له.
في غير محله كما ترى. مع أنه لو سلمنا ذلك فعند المشهور يعتبر
كونهما من ذي النفس، وهو لا يصدق. اللهم إلا أن يلغى هذا الشرط، كما
عرفت الاشكال فيه (2).
وأما الاشكال في صدق " البول " عليها بل و " الغائط " بعد كونهما مثل
ما يخرج من الحيوان في جميع الجهات، فهو مندفع بالتبادر والعرف. هذا
حكم الرجيعين.

1 - الكافي 3: 57 / 3، وسائل الشيعة 3: 405، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات،
الباب 8، الحديث 2.
2 - تقدم في الصفحة 299 و 318.
369

وأما المني الصناعي فربما يقال بنجاسته، لاطلاقات ادعاها جماعة
من الأفاضل في خصوصه، كما عرفت (1)، فكما لا يخص ذلك بالإنسان كذلك
الأمر هنا، وكما يحمل كلام اللغويين على التمثيل هناك، يحمل عليه هنا.
اللهم إلا أن يقال: بشرطية كونه من ذي النفس في نجاسته، وقد
مضى أنه شرط اختلقه المتأخرون، كالمحقق ومن تبعه، فلاحظ (2) وتدبر
جيدا.
المسألة السادسة: في حكم المني وهو في الباطن
قضية ما مر في البحث السابق، نجاسة المني ولو كان في الباطن،
لعدم الخصوصية عرفا، والاشكال عليها بجوابه يأتي هنا أيضا.
ثم إنه على تقدير طهارته، يشكل الحكم بنجاسته إذا خرج بطريق
غير متعارف، كما هو الممكن ويتفق في هذا العصر أحيانا.
تذنيب: في حكم المذي والوذي والودي
المذي والوذي والودي طاهر كلها عند أصحابنا، وعليه الاجماعات
المحققة والمنقولة (3)، ولنعم ما أفاده العلامة في " المختلف " وهو قد يعد
دليلا خامسا في الفقه، وقد اشتهر في هذه الأعصار الاستدلال به، فقال بعد

1 - تقدم في الصفحة 363.
2 - تقدم في الصفحة 364.
3 - تذكرة الفقهاء 1: 54، جواهر الكلام 5: 293، دروس في فقه الشيعة 2: 327.
370

الاستدلالات المختلفة: " ولأنه مما يعم به البلوى، فلو كان نجسا لكان
حكمه منقولا بالتواتر " انتهى. وفي كونه شديد الابتلاء إشكال.
وقال أحمد بن الجنيد المتوفى سنة (381 ه‍): " ما كان من المذي
ناقضا لطهارة الانسان، غسل منه الثوب والجسد، ولو غسل من جميعه
كان أحوط " (1).
ويظهر منه على ما هو المحكي، أنه جعل المذي ما خرج عقيب
شهوة. وفي " الخلاف ": " هذا هو قول جميع الفقهاء " (2). وهو المحكي عن
الكتب الفقهية الأخرى منهم (3).
واستثنى في " المعتبر " مالكا في أحد قوليه (4)، وفي " التذكرة " أحمد
في إحدى روايتيه (5)، وأصحابنا أعرف بفتوى المخالفين منهم.
وبالجملة: المسألة بحسب الفتوى بين شهرتين: شهرة الخاصة
على الطهارة، وشهرة العامة على النجاسة، فلو كانت رواية عن الأئمة
المعصومين (عليهم السلام) المعاصرين لتلك الشهرة، فهي قابلة للحمل على
التقية.
ومن العجيب أن فتواهم بالنجاسة في هذه الثلاثة أشهر، ومورد
الاتفاق كما أشير إليه، وفي المني من يقول منهم بطهارته!! بل ربما يظهر من

1 - مختلف الشيعة: 57 / السطر 16 - 22، تذكرة الفقهاء 1: 54.
2 - الخلاف 1: 118.
3 - دروس في فقه الشيعة 2: 328.
4 - لم نعثر عليه لعله من سهو القلم والصحيح أحمد في إحدى روايتيه، المعتبر 1: 417.
5 - تذكرة الفقهاء 1: 54.
371

بعض العبارات أن الشافعي كان يقول بطهارة مني الحيوان النجس العين،
لاستثنائه الكلب والخنزير في بعض أقواله دون بعض (1)، وإذا كان هؤلاء
متصدين للافتاء فلا يحصل منهم إلا منع السماء بركتها، كما في الرواية (2)
ومن ذلك ما في " الفقه على المذاهب الأربعة " قال:
" الحنفية قالوا: إن ما يسيل من البدن غير القيح والصديد، إن كان
لعلة ولو بلا ألم فنجس، وإلا فطاهر، وهذا يشمل النفط، وهي القرحة التي
امتلأت وحان قشرها، وماء السرة، وماء الإذن، وماء العين، فالماء الذي
يخرج من العين المريضة نجس ولو خرج من غير ألم، كالماء الذي يسيل
بسبب الغرب، وهو عرق في العين يوجب سيلان الدمع بلا ألم " (3) انتهى.
ثم إن المذي: هو الماء الخارج عقيب الثوران والشهوة.
والودي: ما يخرج عقيب البول.
والوذي: ما يخرج من الأدواء، كما عن مرسل ابن رباط (4).
فبالجملة: كل ما يخرج من الانسان والحيوان حسب القواعد طاهر،
إلا البول والغائط على ما مر، والمني إجمالا، والدم على ما يأتي، فلا
حاجة إلى الأدلة الخاصة والصريحة في طهارة الثلاثة، ولقد مر أنه

1 - المجموع 2: 555 / السطر 9.
2 - الكافي 5: 290 / 6، وسائل الشيعة 19: 119، كتاب الإجارة، الباب 17، الحديث 1.
3 - الفقه على المذاهب الأربعة 1: 12.
4 - تهذيب الأحكام 1: 20 / 48، وسائل الشيعة 1: 278، كتاب الطهارة، أبواب نواقض
الوضوء، الباب 12، الحديث 6.
372

لو كانت هي نجسة، لبانت نجاستها، ولتواترت قذارتها (1).
وتوهم نجاستها العرضية، لملاقاتها مجرى البول والمني (2)، غير
سديد، لما عرفت من طهارة المجاري (3)، ولما أنه اتحاد المجرى غير
واضح، بل قيل باختلافه.
ثم اعلم: أن الروايات متظافرة على طهارتها نصا، وهي كثيرة ربما تبلغ
حد التواتر، ومتشتتة في الأبواب المتفرقة (4)، فلو سلمنا دلالة طائفة
على نجاستها، فهي بالنسبة إلى ذاك محجوجة من جهات عديدة، وجميع
المرجحات والمميزات متفقة على الأخذ بهذه الطائفة، مع أنها قاصرة
دلالة، وقابلة للجمع العقلائي مع غيرها.
مع أن في سند ما يدل على النجاسة إشكالا، لوجود الحسين بن أبي
العلاء فيه، ونحن وإن ذكرنا اعتباره حسب بعض القرائن العامة (5)، ومما
يمكن أن يقال في المسألة: إن لهذا الرجل نسبه خاص معين، روايات
ثلاثة كلها عن أبي عبد الله (عليه السلام) (6) والمسؤول عنه فيها واحد حسب
الظاهر وهذا يورث الاستبعاد فيكون احتمال الاشتباه قويا جدا.

1 - تقدم في الصفحة 370 - 371.
2 - لاحظ التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 498.
3 - تقدم في الصفحة 343.
4 - تهذيب الأحكام 1: 19 / 47، وسائل الشيعة 1: 270، كتاب الطهارة، أبواب نواقض
الوضوء، الباب 9، الحديث 2 و 276 - 286، الباب 12 و 13، وسائل الشيعة 3: 427،
كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 17، الحديث 5.
5 - لعله (قدس سره) ذكره في فوائده الرجالية وهي مفقودة.
6 - وسائل الشيعة 3: 426، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 17، الحديث 2 و 3 و 4.
373

فقوله في بعضها: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المذي يصيب الثوب.
قال: " إن عرفت مكانه فاغسله، وإن خفي مكانه عليك فاغسل الثوب كله " (1)
محمول على أن المسؤول عنه هو المني، ولقرب اللفظتين كتابة أو لأمر
آخر، اشتبه على النساخ والقارئين.
ومما يشهد لذلك: أن هذا الجواب بهذه الطريقة مذكور في روايات
المني مرارا (2)، فراجع.
وأما روايته الأخيرة المشتملة على الأمر بالغسل وعدم التوضي (3)،
فهي مخا لفة للكل من فرق المسلمين، لما يرون الملازمة كما في بعض
أخبارنا، فلا تحمل هي على التقية (4)، ولكنها لمكان قوله: " فيلتزق به "
أمره بالغسل استحبابا لشواهد عرفت، والله العالم.

1 - تهذيب الأحكام 1: 253 / 731، وسائل الشيعة 3: 426، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات، الباب 17، الحديث 3.
2 - وسائل الشيعة 3: 423 - 426، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 16.
3 - وسائل الشيعة 3: 427، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 17، الحديث 4.
4 - كما احتمله صاحب الوسائل (رحمه الله)، راجع نفس المصدر، ذيل الحديث.
374

الرابع: الميتة
فإنها عند أصحابنا (1) بل وعند المخالفين نجسة، إلا الشافعي في
أحد قوليه (2).
وقال في " المعتبر ": " الميتة مما له نفس سائلة نجسة، وهو إجماع
الناس، والخلاف في الآدمي، وعلماؤنا مطبقون على نجاسة عينه، كغيره
من ذوات الأنفس السائلة.
وقال الشافعي في الأصح عندهم: هو طاهر تكرمة له إكراما، ولأنه
لو كان نجس العين لما طهر بالغسل " (3) انتهى.
فيعلم من ذلك اتفاق جميع المذاهب على نجاستها من غير الآدمي، وأما
حكم الآدمي فيأتي في محله إن شاء الله تعالى.
ومن عدم تعرض السيد والشيخ في " الإنتصار " و " الخلاف "
والعلامة في " المختلف " لحكم أصل المسألة، يعلم اتفاقية ذلك
عندهم وعندنا.
فبالجملة: كانت المسألة عند الكل واضحة، حتى وصلت نوبة
الاجتهاد إلى علمين من عشيرة واحدة: " المدارك " و " المعالم " فاستشكل

1 - منتهى المطلب 1: 164 / السطر 2، مشارق الشموس: 309 / السطر 26، مستند
الشيعة 1: 160.
2 - المجموع 2: 560.
3 - المعتبر 1: 420.
375

الثاني في دلالة الأخبار وسند ما يدل، وقال: " إن الدليل ينحصر
بالاجماعات المحكية " (1).
والأول في الكل وقال: " والمسألة قوية الاشكال وأنه لم يقف
على نص يعتد به يدل على النجاسة، ثم استظهر أن عدم التنجيس مذهب
الصدوق، لأنه روى مرسلة تدل على الطهارة، وهو يعمل بمراسيله، لأنها
حجة عنده على ما صرح في أول الكتاب " (2). بل قد صرح في " الخاتمة "
بأن مراسيله كمراسيل ابن أبي عمير (3)، وما قيل: " من أنه لم يف بعهده " (4)
من الباطل الذي لا شاهد عليه.
هذا، ولقد اختار ذلك في " المقنع " (5) أيضا، فراجع.
هذا، واعترض عليه الأصحاب تارة: بأن المسألة غير محتاجة إلى
الدليل اللفظي واللبي، بل الحكم من الضروريات الواضحة، وعليه
السيرة العملية، فكما أن الأحكام الواضحة لا تحتاج إلى الرواية
والاجماع، هكذا هي، لما أنها منها، ولذلك تكون الروايات كلها - إلا ما شذ -
في مقام إفادة الأمر الآخر، بعد مفروغية النجاسة عند السائل في الجملة (6).

1 - لاحظ مشارق الشموس: 309 / السطر 29.
2 - مدارك الأحكام 2: 268.
3 - مستدرك الوسائل (الخاتمة) 3: 547 / السطر 9.
4 - الطهارة، الشيخ الأنصاري (الطبعة الحجرية): 340 / السطر 18، الطهارة، الإمام
الخميني (قدس سره) 3: 50.
5 - المقنع: 18.
6 - جواهر الكلام 5: 300.
376

وقيل: " ليس في الفقه في الفرعيات ما يشبه هذا الفرع في الاتفاق
والاجماع، وفي كثرة الروايات والأخبار " (1).
وأخرى: بدلالة المآثير الكثيرة على النجاسة (2).
والأول في محله، والثاني غير صريح، وذلك لأن هذه الطوائف التي
أشير إليها في الكتب الاستدلالية ومنها " الجواهر " (3) كلها مشتملة على
الأمر بالغسل، أو الأمر بالاجتناب عما لاقاه، أو تغير بها، وهذا غير كاف
لاثبات النجاسة إلا بدعوى فهم العرف وضم الوجدان إليه.
نعم، في بعض المآثير ما يدل مفهوما على نجاستها:
فمنها: ما في " الوسائل " عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال قلت له:
راوية من ماء...
إلى أن قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): " إذا كان الماء أكثر من راوية لم ينجسه
شئ، تفسخ فيه، أو لم يتفسخ " (4).
ومنها: في حديث " الجعفريات " في الماء الجاري يمر بالجيف
والعذرة والدم: " يتوضأ منه ويشرب منه، ليس ينجسه شئ " (5).

1 - التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 499.
2 - التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 500.
3 - جواهر الكلام 5: 297 - 299.
4 - وسائل الشيعة 1: 139، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 8.
5 - الجعفريات: 11، مستدرك الوسائل 1: 191، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 5، الحديث 2.
377

وعن " الدعائم " مثله (1).
وفي معتبر حفص بن غياث عن جعفر بن محمد، عن أبيه (عليهما السلام) قال:
" لا يفسد الماء إلا ما كانت له نفس سائلة " (2).
فإن الافساد هو التنجيس الشرعي، كما مر في ذيل صحيحة ابن
بزيع (3)، وهذا يدل منطوقا على نجاستها.
والاشكال في سند الأول، لما فيه علي بن حديد وهو لم يوثق (4)،
وفي الثاني، لعدم اعتبار " الجعفريات " و " الدعائم " وفي الثالث، لعدم
توثيق حفص مع أنه عامي (5)، أوقع العلمين فيما وقعا فيه، وحيث إن مستند
المجمعين ليس أمرا آخر وراء هذه المآثير استشكل " المدارك " في أصل
الحكم (6)، وعن الكاشاني اختيار نجاستها (7)، بمعنى الخبث الباطني، هكذا
في " الجواهر " (8).
وتوهم دلالة الآية الشريفة (إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو

1 - دعائم الاسلام 1: 111.
2 - تهذيب الأحكام 1: 231 / 669، وسائل الشيعة 3: 464، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات، الباب 35، الحديث 2.
3 - تقدم في الجزء الأول: 115 و 158 و 160.
4 - رجال النجاشي: 274 / 717، الفهرست: 89 / 372، معجم رجال الحديث 11: 302.
5 - رجال الشيخ: 118، الفهرست: 61 / 232.
6 - مدارك الأحكام 2: 268.
7 - لاحظ مفاتيح الشرائع 1: 66.
8 - جواهر الكلام 5: 346.
378

لحم خنزير فإنه رجس) (1) على نجاستها لأنها المراد من " الرجس " بعد
اشتراك الكل في ذلك (2)، غير سديد.
ويتلوه في الضعف التمسك بذيل رواية جابر (3)، الواردة في الفأرة
الواقعة في السمن فماتت فيه، فإنه قال: فقال أبو جعفر (عليه السلام): " إنك لم
تستخف بالفأرة، إنما استخففت بدينك، إن الله حرم الميتة من كل شئ " (4).
لأن المراد من التحريم هو التنجيس حتى يناسب التعليل، فتدبر.
ولكن الانصاف بعد اللتيا والتي: أن المسألة في الجملة مما لا تكون
خفية على الأصاغر، فضلا عن الأكابر، فلا تجادل.
هذا، وربما يمكن دعوى دلالة بعض المآثير على طهارتها:
ومنها: الطائفة الكثيرة التي تشير إلى جواز الانتفاع منها (5)، فإن
الظاهر هو الملازمة بين الحكمين: النجاسة، وممنوعية الانتفاع، فإذا
جاز ذلك فيعلم منه الطهارة.
وأنت خبير: بأن قضية بعض الاجماعات وإن كان ذلك، حيث ادعي عدم

1 - الأنعام (6): 145.
2 - الطهارة، الشيخ الأنصاري (الطبعة الحجرية): 340 / السطر 5، الطهارة،
الإمام الخميني (قدس سره) 3: 48.
3 - دروس في فقه الشيعة 2: 339.
4 - تهذيب الأحكام 1: 420 / 1327، وسائل الشيعة 1: 206، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المضاف والمستعمل، الباب 5، الحديث 2.
5 - وسائل الشيعة 1: 175، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 14، الحديث 16،
وسائل الشيعة 17: 173، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 38، الحديث 4،
وسائل الشيعة 24: 72، كتاب الصيد والذبائح، أبواب الذبائح، الباب 30، الحديث 4.
379

جواز الانتفاع بالنجس (1)، ولكنه لا يورث التلازم الواقعي، لقصور
السند، كما التزم بذلك جمع من الأصحاب - رضي الله عنهم (2) - ومنهم
الوالد المحقق - مد ظله (3) - فراجع.
ومنها: ما في " التهذيب " و " الإستبصار " بسند معتبر عندنا، عن علي بن
جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن الرجل وقع ثوبه على
كلب ميت.
قال: " ينضحه بالماء ويصلي فيه ولا بأس " (4).
وحمله على الوقوع بغير رطوبة (5) لا يناسب التشديد الواقع في
ذيله، كما لا يخفى.
ومنها: ما مر عن " الفقيه " سئل الصادق (عليه السلام) عن جلود الميتة
يجعل فيها اللبن والماء والسمن، ما ترى فيه؟
فقال: " لا بأس بأن تجعل فيها ما شئت من ماء أو لبن أو سمن، وتتوضأ
منه وتشرب، ولكن لا تصل فيها " (6).
وفي " الفقيه ": سأل علي بن جعفر أخاه موسى بن جعفر (عليه السلام) عن

1 - التنقيح الرائع 2: 5، مفتاح الكرامة 4: 13 / السطر 26.
2 - لاحظ المكاسب، الشيخ الأنصاري: 5.
3 - المكاسب المحرمة، الإمام الخميني (قدس سره) 1: 80 - 83.
4 - تهذيب الأحكام 1: 277 / 815، الإستبصار 1: 192 / 674.
5 - ملاذ الأخيار 2: 418.
6 - الفقيه 1: 9 / 15، وسائل الشيعة 3: 463، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات،
الباب 34، الحديث 5.
380

الرجل، فذكر مثله (1).
فلو كانت الأولى من المرسلات غير المعتبرة، لعدم الاسناد فيها إلى
المعصوم، فلا تشكل الثانية، لاسنادها إلى علي بن جعفر (عليهما السلام) الذي هو
دون المعصوم، فعلى ما تقرر يجمع بين جميع ما سرده الأصحاب وذكروه بين
هاتين جمعا عقلائيا، فيحمل الظاهر على النص، والله العالم.
وأنت خبير بما فيه جدا.
وأما ما في " الوسائل " من حملها على التقية (2)، فلا يخلو من تأسف
بعد ما عرفت من فتواهم.
ومنها: الطائفة القاضية بعدم البأس في أكل الخبز الذي كان
عجن بماء ماتت فيه الفأرة، وكانت فيه الميتة، معللا بأن " النار أكلت ما
فيه " (3) فإن التعليل يناسب طهارة الميتة، كما لا يخفى.
والاشكال في سندها بعد كون الراوي مثل ابن أبي عمير، لما قال فيه
النجاشي (4)، لا يضر، ولا سيما بعد إفتاء الشيخ على طبقها بجعل النار من
المطهرات في الجملة (5) على ما ببالي، والأمر - بعد ما أحطت به خبرا -
واضح لا سبيل إلى إنكاره جدا.

1 - انظر الفقيه 1: 43 / 169.
2 - وسائل الشيعة 3: 463، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 34، ذيل الحديث 5.
3 - تهذيب الأحكام 1: 414 / 1304، وسائل الشيعة 1: 175، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المطلق، الباب 14، الحديث 18.
4 - رجال النجاشي: 326 / 887.
5 - النهاية: 8.
381

إذا علمت ذلك، فالبحث حول خصوصيات المسألة يتم في ضمن جهات:
الجهة الأولى: في حكم ميتة مأكول اللحم
قضية الاجماعات الكثيرة والأخبار على كثرتها، عدم الفرق بين
الميتة من مأكول اللحم ومحرمه، ومن استشكل فيها أو في أصل الحكم،
لم يفصل بين الفرضين.
ويمكن الشبهة بدعوى: أن الأخبار الدالة على نجاسة الميتة غير
مطلقة، لكونها إما مشتملة على قضايا خارجية، أو تكون في مقام آخر كما
أشير إليه. وإثبات الاطلاق السكوتي بترك التفصيل والاستفصال في عبارة
الوالد المحقق - مد ظله (1) - غير ممكن، لمعلومية حكم المسألة عند
السائل، ولكنه عندنا غير واضح أن ما هو الواضح عنده هو نجاسة مطلق
الميتة، أو الميتة من غير المأكول لحمه.
وأما الأخبار التي ذكرناها (2)، فهي قاصرة عن إثبات نجاسة الميتة
إلا إجمالا، لأن أقواها دلالة معتبر حفص: " لا يفسد الماء إلا ما كانت له نفس
سائلة " (3).
وهو مهمل في المستثنى، دون المستثنى منه، وما حكي عن الشيخ

1 - الطهارة، الإمام الخميني (قدس سره) 3: 45.
2 - تقدم في الصفحة 377 - 380.
3 - تهذيب الأحكام 1: 231 / 669، وسائل الشيعة 3: 464، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات، الباب 35، الحديث 2.
382

من دعوى الاطلاق (1)، غير متين جدا، فتأمل جيدا.
فتحصل: أن للتفصيل مجالا وإن سكت عنه المتقدم والمتأخر، ولا
يحتمله أحد، وذلك لأن القدر المتيقن من تلك الأخبار ميتة المأكول، لأنها
المتعارف في الابتلاء بها.
اللهم إلا أن يقال: بعدم دلالة أخبار الماء المتغير على النجاسة، كما
ذكرنا سببها (2)، وهكذا روايات البئر، لأن الحكم إذا كان هناك استحبابيا، فلا
يستفاد منه نجاسة الواقع في البئر، بل ربما كان الأمر بذلك للتنزه كما هو
الظاهر، فما ترى في الباب الخامس عشر من إرداف الحمار والبعير
والجمل بسائر النجاسات (3)، لا يفيد شيئا أصلا كما توهم.
أو يقال: بأن المتعارف هو الابتلاء بالميتة والجيفة مما لا يؤكل
لحمه شرعا وعادة، كالحمار ونحوه، وأما الابتلاء بمثل الشاة والغنم فهو
نادر جدا، فعلى هذا لولا مخافة مخالفة الاجماعات المتكررة والاطلاق
في معاقدها كان لهذه الشبهة قدم راسخ في البحث.
ولو قيل: جلود الميتة من مأكول اللحم أولى بالنجاسة، لأنها
المتعارف في الأسواق، وبها ينتفع، وهي تستعمل عادة.
قلنا: لو سلمنا ذلك كما هو غير بعيد، فيلزم الشبهة في نجاسة
الطائفة الأخرى. ولكن الجواب: أن تلك الأخبار قاصرة عن إثبات

1 - الطهارة، الإمام الخميني (قدس سره) 3: 49.
2 - تقدم في الصفحة 377.
3 - وسائل الشيعة 1: 179، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 15.
383

النجاسة، كما عرفت.
وأما الأخبار الدالة على النهي عن استعمال أواني أهل الذمة، إذا كانوا
يشربون ويأكلون منها الخمر ولحم الخنزير والميتة (1)، فهي قريبة في
الدلالة على نجاستها من مأكول اللحم، لأن المقصود منها هنا غير المذكى
من الحيوانات المأكول لحمها، لأنها أكثر ابتلاء من غيرها.
إلا أن في تلك الأخبار خدشات في محلها، لأن الظاهر منها النهي عن
مطلق الأواني وإن كانت مشكوكة الاستعمال، وهو خلاف الأصل، فيحمل على
التنزيه. ولأن الصريح منها طهارة أهل الكتاب، وهو خلاف الحق، فربما
كان التعرض للميتة لأجل قول العامة بنجاستها. ولأن من الممكن - كما
قيل - وجود الأجزاء الصغار منها فيها، ويكون أكلها محرما، فلا يثبت بها
النجاسة (2)، فليتدبر.
فبالجملة: بعد ما تقرر من الشبهة في استفادة النجاسة من تلك
الأخبار الكثيرة في أصل المسألة، واستفادتها من الأخبار التي ذكرناها في
خصوص هذه المسألة، تصبح هذه المسألة بلا سند إلا الاجماع، وهو
المعتمد، فتدبر.
الجهة الثانية: في حكم ميتة ما لا نفس سائلة له
ظاهر الأصحاب قدست أسرارهم أن الميتة من ذي النفس نجسة،

1 - وسائل الشيعة 24: 210، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأطعمة المحرمة، الباب 54.
2 - مدارك الأحكام 2: 268.
384

وعن السيد الاشكال في صدق " الميتة " على ميتة غير ذي النفس (1)، وهو
مقتضى معتبر حفص (2). ولو استشكل في السند (3) فهو من تلك الجهة منجبر
بعمل الأصحاب (قدس سرهم) وهذا هو الأمر المتسالم عليه، ومن المسلمات
المفروغ عنها، ولا ينظر فيها.
نعم، يمكن الخدشة: بأن قضية الروايات حسبما يفهمها المشهور،
نجاسة الميتة والجيفة ولا قيد فيها، ولا تعرض في إحداها إلا في رواية
حفص بن غياث الماضية مرارا: " لا يفسد الماء إلا ما له نفس سائلة " (4) بناء
على إرادة الدم السائل منها.
ومثلها ما عن محمد بن يحيى، رفعه عن أبي عبد الله (عليه السلام).
وأنت خبير: بأن مستندهم لا يمكن أن يكون مثله، فيعلم اشتهار الحكم
بينهم من باب آخر. ومن المحتمل انصراف الأخبار بكثرتها إلى تلك
الطائفة، وأن الغالب من الحيوانات المبتلى بها في الطريق وفي
الأسئلة ما كانت لها الدم، فكأنهم من الأخذ بالقدر المتيقن أفتوا بذلك،
وهو غير كاف لنا، فيرجع إلى تلك المطلقات، وقد بلغني عن شيخ مشايخنا
العلامة الحائري (قدس سره) أنه كان يشكل في الجمع بين المطلقات الكثيرة

1 - الناصريات، ضمن الجوامع الفقهية: 218 / السطر 6 - 7.
2 - تهذيب الأحكام 1: 231 / 669، وسائل الشيعة 3: 464، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات، الباب 35، الحديث 2.
3 - تقدم في الصفحة 377 - 378.
4 - الكافي 3: 5 / 4، وسائل الشيعة 3: 464، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات،
الباب 35، الحديث 5.
385

والمقيد الواحد.
فعليه لو سلمنا اعتبار خبر حفص كما هو الأقوى، فيحمل على أن
الميتة من ذي النفس إذا غيرت الماء ينجس ويفسد، ولا يثبت به أن
الميتة النجسة هي ذلك، كما لا يخفى.
وأما البحث الصغروي عن الحيوانات التي لها النفس، وما ليس
لها، فقد مضى تفصيله (1).
إن قلت: كيف لا يكون هذا القيد في رواية، وقد نطقت به معتبرة عمار
الساباطي في الباب الخامس والثلاثين، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سئل
عن الخنفساء والذباب والجراد والنملة وما أشبه ذلك، يموت في البئر
والزيت والسمن وشبهه.
قال: " كل ما ليس له دم فلا بأس " (2).
وفي الباب المزبور أيضا معتبر ابن مسكان قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام):
" كل شئ يسقط في البئر ليس له دم - مثل العقارب والخنافس وأشباه ذلك -
فلا بأس " (3).
وفيه أيضا بعض المآثير المتعرضة للصغريات والأسئلة

1 - تقدم في الصفحة 294 - 297.
2 - تهذيب الأحكام 1: 230 / 665، وسائل الشيعة 3: 463، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات، الباب 35، الحديث 1.
3 - تهذيب الأحكام 1: 230 / 666، وسائل الشيعة 3: 464، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات، الباب 35، الحديث 3.
386

الجزئية (1)، فراجع.
قلت: نعم، ولكنها عندنا أجنبية عن هذه المسألة، فإن الحيوانات
بعضها ماله الدم السائل، وبعضها ماله الدم غير السائل، وربما كان دمه
أكثر مرارا من الدم السائل في بعض، وبعضها ما لا دم له أصلا، أو يعد عرفا
مما لا دم له، وهذا المآثير تثبت طهارة ما لا دم له رأسا، وأما فهم
الأصحاب (رحمهم الله) منها غير ذلك، فلمغروسية أذهانهم بالاجماعات والمتون، فمع
الغض عما في سند بعضها، ودلالة الآخر، لا تكون هذه الطائفة مرتبطة
رأسا بهذه المسألة أصلا، فلا تغفل ولا تخلط، واغتنم.
ودعوى: أن الجزئيات المذكورة في الروايات، من ذوات الدم، غير
مسموعة، فإن النملة بلا دم بلا شبهة، بل والعقرب والوزغ. مع أنه لو
كان فيها الدم فهو في غاية القلة، بحيث لا تعد من ذي الدم عرفا.
ولعل إلى ذلك يرجع ما عن " الوسيلة " و " المهذب " من الاشكال في
طهارتهما (2)، وهكذا ما عن الشيخين في " المقنعة " و " النهاية " (3) وعن
الصدوق في بعض كتبه (4).
وأما توهم معارضة هذه الأخبار مع ما يدل ظاهرا على نجاسة
العقرب والوزغ في أخبار البئر وغيرها (5)، فهو في غير محله، لما مر في

1 - وسائل الشيعة 3: 463، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 35.
2 - المهذب 1: 53، الوسيلة: 78.
3 - المقنعة: 70، النهاية: 54.
4 - المقنع: 35، جواهر الكلام 5: 295.
5 - التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 527، مهذب الأحكام 1: 320.
387

محله (1)، ولأن قضية الجمع العقلائي بين النص والظاهر، حمل الثانية
على الأولى.
ولعمري، لولا الشبهة التي ألقيناها على الاطلاقات التخيلية في
المسألة، كان عليهم إلغاء هذا القيد. بل قضية المفهوم من الطائفة
المسبوق ذكرها (2)، أن ما له الدم فيه البأس، سواء كان سائلا، أو غير
سائل، فيكون الطاهر ما لا دم له حقيقة أو عرفا.
وتوهم: أن الضرورة والسيرة العملية كما تكون قائمة على نجاسة الميتة
الكذائية، ناهضة على طهارتها إذا كانت من غير ذي النفس، واضح المنع.
الجهة الثالثة: في حكم ميتة حيوان البحر
قضية الاطلاقات ومعاقد الاجماعات نجاسة الميتة البحرية
كالبرية، وعن " المنتهى " وفي " التذكرة " عبارتان لا تخلوان من
اضطراب (3)، فلا يعلم من يقول بالتفصيل بين البحرية والبرية منا، ولا من
أهل الخلاف، فما قد يتوهم من ذهاب أبي حنيفة إليه (4) غير سديد.
هذا مع أن من الممكن ذلك لهم ولنا:
أما لهم، فلما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في " الخلاف " في المسألة

1 - تقدم في الصفحة 44 - 46.
2 - تقدم في الصفحة 386.
3 - لاحظ منتهى المطلب 1: 164 / السطر 35، تذكرة الفقهاء 1: 61.
4 - نفس المصدر.
388

الثانية: أنه سئل عن التوضي بماء البحر.
فقال: " هو الطهور ماؤه، والحل ميتته " (1).
وقضية ذلك طهارة الميتة البحرية ولو كانت ذا نفس سائلة.
وأما لنا، فلما روى " الوسائل " في كتاب الصيد والذباحة في
الباب الواحد والثلاثين، عن ابن أبي عمير، عن ابن المغيرة، عن رجل، عن
أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " الحوت ذكي حيه وميته " (2).
وفي الباب المزبور، عن عمر بن هارون الثقفي، عن أبي
عبد الله (عليه السلام) قال: " قال أمير المؤمنين (عليه السلام): الجراد ذكي كله، والحيتان ذكي
كله، وأما ما هلك في البحر فلا تأكل " (3).
فإن النهي الأخير لا يضاد كون الحيتان طاهرة كما لا يخفى. وحيث إن
النسبة بينهما عموم من وجه، فإما يرجع إلى الأصول العملية وهي
الطهارة، أو إلى الجمع العقلائي، ولا يبعد تقديم هذه الطائفة، لصراحتها
في أن الميتة ذكية، وفي صورة المراجعة إلى المرجحات فالتقديم
لتلك الطائفة، لموافقتها مع الشهرة.
نعم، ربما يمكن دعوى: أن المراد من " الذكي " - بالذال - هو المذكى،
قبال الميت، كما في رواية أخرى في الباب المزبور: " أن عليا (عليه السلام) كان
يقول: الجراد ذكي، والحيتان ذكي، فما مات في البحر فهو ميت " (4).

1 - الخلاف 1: 52، سنن الترمذي 1: 47، الباب 52، الحديث 69.
2 - وسائل الشيعة 24: 74، كتاب الصيد والذبائح، أبواب الذبائح، الباب 31، الحديث 5.
3 - نفس المصدر، الحديث 7.
4 - نفس المصدر، الحديث 6.
389

فإنه دليل على ذاك الاحتمال.
اللهم إلا أن يقال: تنصيصه في الرواية الأولى على أن ميته ذكي
ينافي ذلك الاحتمال، فيحمل على أن المراد من " الذكي " فيها هو الطاهر،
ومن " الذكي " في الأخرى هي الذكاة، فعلى هذا ما أرسله الأصحاب إرسال
المسلمات من نجاسة الميتة البحرية، وادعى على خصوص ذلك في
" التذكرة " الاجماع، مع أنه مضطرب العبارة (1) فراجع، غير راجع إلى
محصل، بل يستظهر من الشيخ في " الخلاف " - كما في " مفتاح الكرامة "
قال: " وربما يظهر من " الخلاف " طهارة ميتة الماء، ولعله محمول على
الغالب من كونه غير ذي النفس " (2) انتهى - أن المسألة ليست
إجماعية، والحمل المزبور بلا شاهد.
هذا مع أن دعوى قصور الأدلة عن إثبات نجاستها، قريبة جدا، من غير
الحاجة إلى الأدلة الخاصة كما ترى.
الجهة الرابعة: في بيان المراد من " الميتة "
قال في " العروة ": " المراد من الميتة أعم مما مات حتف أنفه، أو
قتل أو ذبح على غير الوجه الشرعي " (3) انتهى.
اعلم: أن البحث هنا مقصور على حكم الميتة بحسب النجاسة

1 - تذكرة الفقهاء 1: 61.
2 - الخلاف 1: 189، مفتاح الكرامة 1: 138 / السطر 18.
3 - العروة الوثقى 1: 60، فصل في النجاسات، الرابع الميتة، المسألة 5.
390

والطهارة، من غير النظر إلى سائر الأحكام، من جواز الصلاة ولا جوازها،
ومن جواز الانتفاع وعدمه، ومن جواز المعاملة عليها، وغير ذلك، فلا ينبغي
الخلط. ولا برهان على الملازمة في تلك الأحكام، فيمكن أن نلتزم بأعمية
المراد في سائر الأحكام، دون هذا الحكم، فالبحث في غيره يطلب من
محال أخر، للاحتياج إلى التتبع والغور في الأخبار الكثيرة المتشتتة.
إذا عرفت ذلك فاعلم: أن كلمة " الميتة " - بالفتح والسكون - كانت
تستعمل في الجاهلية وقبل الكتاب، ويستعملها القرآن العزيز، ويراد منها
المعنى الأعم، كما هو غير خفي على أهله: (وآية لهم الأرض الميتة
أحييناها...) (1).
ومثلها كلمة " الميت " (... سقناه لبلد ميت) (2).
ولا معنى لتوهم: أن الكلمة وضعت لمعنى شرعي، كما يظهر من
بعض أصحابنا (3)، ومن " المنجد " (4) قائلا في تفسيرها: " الميتة: الحيوان
الذي مات حتف أنفه، أو على هيئة غير شرعية " بل هي تستعمل في
الشرائع إما مجازا، أو حقيقة لغوية.
ولنعم ما قال " الأقرب ": " والمراد بالميتة في عرف الشرع، ما مات
حتف أنفه، أو قتل على هيئة غير مشروعة إما في الفاعل، أو في

1 - يس (36): 33.
2 - فاطر (35): 9.
3 - دروس في فقه الشيعة 2: 388.
4 - المنجد: 779.
391

المفعول " (1) انتهى.
فإن المستفاد من اللغة بعد التدبر، أن هذه الكلمة موضوعة
لمعنى أعم مما يكون فيه الحياة الحيوانية والنباتية فزالت، أو كانت
فاقدة لآثار الحياة والحركة الطبيعية والآثار المقصودة. ولو سلمنا
مجازية الاستعمال في الفرض الأخير، ولكن التحقيق عدم مجازيته في
غيره.
ومن يشك فيما نردفه ونسرده، فليراجع موارد الاستعمال والكتب
الموضوعة في اللغات، ولولا مخافة الإطالة المزعجة لسرنا لكم من
اللغة ما يحصل به الظن القوي جدا، فإذا كان الحيوان زاهقة روحه
بالوجه الشرعي، فهو أيضا ميتة حسب اللغة قطعا وبلا شبهة، ولكنه
خارج عن هذه الأخبار، لما نعلم من الخارج ذلك كما لا يخفى.
ومما ذكرنا يظهر الخدشة فيما توهمه الأصحاب (رحمهم الله) مستدلين
بالأخبار المتضمنة لمقابلة الميتة بالمذكى مثلا (2)، فإن ذلك في محيط
الشرع لإفادة الحكم الخاص، ولا يستفاد من الاستعمالات المزبورة
المعاني الحقيقية كما تقرر (3).
وأما بناء على اختصاص مفهوم " الميتة " بما مات حتف أنفه - حسب
اللغة، كما عرفت عن بعضهم - فلا يمكن استفادة العمومية من هذه

1 - أقرب الموارد 2: 1251.
2 - دروس في فقه الشيعة 2: 388.
3 - تحريرات في الأصول 1: 169 - 170.
392

الأخبار (1) التي استدل بها الشيخ الأعظم (قدس سره) وتبعه جماعة من الفضلاء (2)،
وذلك لأن من الممكن قريبا إفادة عدم اختصاص الحكم المخصوص
بالميتة بها، بل يعم غيرها مما لا يذكى شرعا، فهذا من قبيل الحكومة
الاصطلاحية، فإذا قيل عن الجاهل: " هو عالم " لا يدل ذلك على أعمية
الموضوع له، بل هو لغرض آخر، فتدبر.
وحيث إن ظاهر الأصحاب (رحمهم الله) بناؤهم على أن المعنى اللغوي للميتة
ما مات حتف أنفه، ولا يطلق على المقتول ولا المذبوح بذبح غير شرعي،
فيشكل الأمر عليهم، لعدم ثبوت الاطلاق في دليل الحاكم، فلو ورد في دليل
استعمال " الميتة " في مقابل المذكى، فإن كان ذلك مورد النظر مستقلا فهو،
وإلا فينحصر التنزيل والحكومة بمورد خاص.
وبعبارة أخرى: تصير الحكومة حيثية، لا مطلقة، فلا تخلط.
وإني بعد ما راجعت المآثير، رأيتها - على ما تتبعت - ناظرة إلى
التنزيل الخاص، لتعرض الروايات لحكم خاص، مثل عدم جواز الصلاة
فيها، أو عدم جواز الانتفاع بها.
هذا، ولكنا في مخلص من الشبهة، لما عرفت من عمومية معناها،
فقوله (عليه السلام) في موثقة سماعة في الباب التاسع والأربعين: " إذا رميت

1 - وسائل الشيعة 3: 489، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 49، الحديث 1 و 2
والباب 50، الحديث 4.
2 - دروس في فقه الشيعة 2: 388.
393

وسميت فانتفع بجلده، وأما الميتة فلا " (1) وقوله في خبر علي بن أبي حمزة
قال: " وما الكيمخت؟ " قال: " جلود دواب منه ما يكون ذكيا، ومنه ما يكون
ميتة "، فقال: " ما علمت أنه ميتة فلا تصل فيه " في الباب الخمسين (2) وغير
ذلك (3)، لا يدل على أن حكم الميتة المفروغ عنها - وهي النجاسة - ثابت
لمطلق غير المذكى، فافهم واغتنم.
ثم، أن صحة التنزيل والاستعمال المجازي والحكومة
المصطلحة، تتوقف - فيما إذا كان للمنزل عليه أحكام مختلفة - على
ثبوت الاطلاق في دليل المنزل عليه، وإلا فلا يثبت المقصود.
مثلا: إذا كانت لعنوان " الميتة " أحكام خاصة، مثل عدم جواز
الانتفاع بها، وعدم جواز الصلاة فيها، وعدم صحة المعاملة عليها،
ونجاستها، وكان دليل نجاسة الميتة مهملا، فمجرد إطلاق " الميتة " على
غير المذكى لا يكفي في سراية الأحكام مطلقا إليها، لكفاية ترتيب بعض
الآثار للفرار عن اللغوية، وحيث قد عرفت منا الخدشة في إطلاق أدلة
نجاستها (4)، فلا يمكن إثبات الحكم المقصود هنا.

1 - تهذيب الأحكام 9: 79 / 339، وسائل الشيعة 3: 489، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات، الباب 49، الحديث 2.
2 - تهذيب الأحكام 2: 368 / 1530، وسائل الشيعة 3: 491، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات، الباب 50، الحديث 4.
3 - الكافي 3: 407 / 16، وسائل الشيعة 3: 489، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات،
الباب 49، الحديث 1.
4 - تقدم في الصفحة 382 - 383.
394

ومما حصلناه إلى هنا، تظهر الخدشة في الاستدلال (1) بما ورد في
كتاب الذباحة من إطلاق " الميتة " على الأليات المقطوعة، فإنها بزمرتها
ناظرة إلى منع الانتفاع منها (2)، فراجع.
وما ترى في خبر علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي
عبد الله (عليه السلام) أنه قال في أليات الضأن تقطع وهي أحياء: " إنها ميتة " (3) لا
يكفي كما لا يخفى.
ثم إن قضية ما ورد في بعض الروايات من السؤال عن الجيفة (4) -
بناء على تمامية الاستدلال بها - هو نجاسة غير المذكى، لأن الجيفة أعم
من الميتة من هذه الجهة.
نعم، أعمية الميتة من الجيفة من وجه آخر، لا يضر بالمقصود،
ضرورة أن الحيوان الحي المتعفن نادر الوجود، وغير مقصود في هذه
المآثير بالضرورة.
فعلى ما تحرر إلى هنا، عرفت نجاسة الحيوان غير المذكى شرعا
أيضا، لأنه أيضا ميتة لغة.

1 - دروس في فقه الشيعة 2: 389.
2 - وسائل الشيعة 24: 71، كتاب الصيد والذبائح، أبواب الذبائح، الباب 30.
3 - الكافي 6: 255 / 2، وسائل الشيعة 24: 72، كتاب الصيد والذبائح، أبواب الذبائح،
الباب 30، الحديث 3.
4 - تهذيب الأحكام 1: 231 / 667، وسائل الشيعة 1: 196، كتاب الطهارة، أبواب الماء
المطلق، الباب 22، الحديث 7.
395

الجهة الخامسة: في الأجزاء المبانة من الميتة
الأجزاء المبانة من الميتة - حسب الاجماعات المحكية (1)
والشهرات المحققة - نجسة عندنا، بل المسألة اتفاقية بين المسلمين
إلا في بعض العناوين الخاصة، وأما هذا العنوان العام الكلي فليس
معنونا في كلمات القدماء، وكأنه لعدم الحاجة إليه عندهم بعد ثبوت
نجاسة الميتة، فكما لا معنى لتوهم نجاسته وطهارة أصل الميتة، كذلك
الأمر هنا، وكأن العرف - حتى الأعلام (رحمهم الله) - كانوا يرون المناقضة والجزاف
بين المسألتين، أي لا يمكن الالتزام بالتفكيك بين حكم الكل وحكم
الجزء.
والشبهة الصناعية - كما ربما كانت في ذهن " المدارك "
و " المعالم " و " الذخيرة " (2) ولعلها كانت من الأردبيلي (قدس سره) ألقاها على
تلامذته (3) - تؤدي إلى طهارة ميتة الكلب والخنزير، لأن ما هو
النجس هو الحيوان، فالذي مات وزهقت روحه ليس حيوانا،
ضرورة أن شيئية الشئ بصورته، فهو ليس كلبا، فلا يدل دليل نجاسة
الكلب على نجاسة ميتته، فما ترى في كتب المتأخرين ك‍ " الجواهر " (4)

1 - مستند الشيعة 1: 171، الحدائق الناضرة 5: 72، مهذب الأحكام 1: 308.
2 - مدارك الأحكام 2: 272، منتقى الجمان 1: 85، ذخيرة المعاد: 147 / السطر 30.
3 - لاحظ مجمع الفائدة والبرهان 1: 305.
4 - جواهر الكلام 5: 312.
396

وغيره (1): من المقايسة بين المسألة ومسألة الكلب، في غير محله.
والذي قد عرفت منا: أن " الميتة " و " الموت " و " الإماتة " وجميع
المشتقات منها، أعم مما تخيله القوم، ولا تكون الاستعمالات المتعارفة
في الكتاب والسنة مجازية، حسبما يتراءى من اللغة، بل الموضوع له
معنى يشمل الأرض الميتة وغيرها (2).
وأما على ما يتراءى منهم، فيمكن تثبيت الشبهة: بأن الميتة من
العوارض اللاحقة للحيوان كالتذكية، فكما لا يطلق " الذكي " على
الجزء، كذلك مفهوم " الميتة " فالنجاسة بالنسبة إلى الجزء المنفصل
منه، تحتاج إلى ضم المقدمة الأخرى إليها: وهي دعوى القطع
بالملاك (3)، أو إلغاء الخصوصية عرفا (4)، أو سريان الحكم إلى الجزء
عند العقلاء (5)، كما في عبارات الأقوام والأعلام حسب اختلاف أذواقهم.
وأنت خبير بما فيه من استشمام القياس بعد تعدد الموضوع عرفا،
وعدم الاطلاع على عدم الخصوصية مثلا، فليتدبر.
ومن الممكن دعوى: أن جزءه المتصل إذا لوحظ مستقلا، لا يطلق
عليه " الميتة " كما لا تطلق " الصلاة " على الركوع إذا لوحظ بحيا لها،
فعليه لا يتنجس ملاقيه.

1 - دروس في فقه الشيعة 2: 343.
2 - تقدم في الصفحة 391 - 392.
3 - جواهر الكلام 5: 312.
4 - دروس في فقه الشيعة 2: 342، الطهارة، الإمام الخميني (قدس سره) 3: 83.
5 - مهذب الأحكام 1: 308.
397

نعم، لو لاقى جميع الأجزاء أو معظمها ينجس، وهكذا في سائر
الأحكام لو كان الدليل هناك كالدليل هنا، كما لا يخفى. ومن هنا يعلم وهن
الشبهة في الحكم ولو كانت هي تامة موضوعا.
وبعبارة أخرى: تارة يشير إلى يده بحيال جثمانه، وأخرى: يشير إلى
يده الفانية في الكل، أي إلى جثمانه وإن كانت يده طرف الإشارة خارجا،
ففي الفرض الأول يشكل الحكم بنجاستها، بناء على ما سلكه الأصحاب
في مفهوم " الميتة ".
نعم، ربما يتخيل دلالة النصوص في الأبواب المتفرقة عليها (1)،
ولا سيما ما ورد في كتاب الذباحة في الباب الرابع والعشرين من إطلاق
" الميتة " على ما ينفصل من الحي (2).
ولكنها قاصرة عن إثبات عموم التنزيل، كما عرفت منا وجهه (3)، فما
ترى في " الجواهر " (4) وتبعه بتفصيله الوالد المحقق - مد ظله - من
الاصرار على إثبات الاطلاق في الاستعمال والتنزيل (5)، غير قابل للتصديق،
وسيأتي زيادة بحث في الجهات الآتية حولها.
وأضعف منها صحيحة الحلبي في الباب الثامن والستين من
النجاسات المشتملة على نفي البأس بالصلاة فيما كان من صوف

1 - جواهر الكلام 5: 314.
2 - وسائل الشيعة 23: 376، كتاب الصيد والذبائح، أبواب الصيد، الباب 24.
3 - تقدم في الصفحة 394.
4 - جواهر الكلام 5: 314.
5 - الطهارة، الإمام الخميني (قدس سره) 3: 85.
398

الميتة: " إن الصوف ليس له روح " (1) فإن مفهومه " أن ما فيه الروح
ويكون مبانا من الحي، يجوز فيه الصلاة إجمالا " وأين هذا من نجاسة
الجزء المبان من الميتة؟! فلا تخلط.
ومن هنا تظهر سائر الاستدلالات في المقام. ولعمري إن المسألة بعد
المراجعة إلى ما أشرنا إليه، من البديهيات جدا.
ثم إنه ربما يستدل على النجاسة بالاستصحاب (2)، ولكنه - مضافا
إلى أخصيته من المدعى، كما هو غير خفي، لعدم الحالة السابقة في
بعض الصور - محل إشكال، لأن ما هو المعلوم سابقا هي نجاسة عنوان
" الميتة " أي أن ما هو النجس في السابق ما كان موصوفا بالميتة، ومورد
الشك هوا لجزء المباين معها موضوعا، فلا يجري الاستصحاب، كما لا
يمكن التمسك بالدليل الاجتهادي المثبت نجاسة الميتة لاثبات نجاسة
الجزء.
وفيه: أن الموضوع ومصب الاستصحاب نفس الجزء الخارجي،
فيقال بعد ثبوت نجاسة الميتة: " إن هذا الجزء كان نجسا، والآن كما كان "
من غير الحاجة إلى سائر التشبثات في إجرائه.
اللهم إلا أن يقال: بأن الجزء حال الاتصال إذا لوحظ بحيال الكل، لا
يحكم عليه بالنجاسة كما عرفت، فتدبر جيدا.

1 - تهذيب الأحكام 2: 368 / 1530، وسائل الشيعة 3: 513، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات، الباب 68، الحديث 1.
2 - جواهر الكلام 5: 312، الطهارة، الإمام الخميني (قدس سره) 3: 83.
399

تذنيب
ظاهر الأصحاب (رحمهم الله) أن حكم النجاسة بالنسبة إلى الأجزاء
الصغار من الميتة إجماعي (1)، لأن ما كان كثيره نجس فقليله نجس، وإلا
يلزم عدم نجاسة الكثير منه كما لا يخفى.
نعم، لو شك في صدق " الميتة " عليه، لما أنه في غاية الصغر،
فالقاعدة تقتضي طهارته.
الجهة السادسة: في حكم الأجزاء التي لا تحلها الحياة
الأجزاء التي لا تحلها الحياة طاهرة عند المسلمين إجمالا،
والخلاف بينهم في خصوص بعض منها كما يأتي، وقد عدها الأصحاب إلى
عشرة وعليها الاجماعات المحكية عن " كشف اللثام " و " المدارك "
و " الذخيرة " (2) وفي بعض منها الاتفاق المحصل، كالشعر والصوف،
وعليه الاجماع في " الغنية " وفي " المنتهى " (3) دعوى الاجماع على
خصوص العظم.
وقال الشيخ في " الخلاف ": " لا بأس باستعمال أصواف الميت

1 - مستند الشيعة 1: 171، الحدائق الناضرة 5: 72، جواهر الكلام 5: 311.
2 - كشف اللثام 1: 49 / السطر 7، مدارك الأحكام 2: 272، ذخيرة المعاد: 147 /
السطر 38.
3 - الغنية، ضمن الجوامع الفقهية: 489 / السطر 5، منتهى المطلب 1: 164 / السطر 25.
400

وشعره ووبره إذا جز وعظمه، وبه قال أبو حنيفة.
وقال الشافعي: شعر الميت وصوفه وعظمه نجس، وبه قال عطا.
وقال الأوزاعي: الشعور كلها نجسة، لكنها تطهر بالغسل، وبه قال
الحسن البصري، والليث بن سعد.
وقال مالك: الشعر والريش والصوف لا روح فيه، ولا ينجس
بالموت كما قلناه، والعظم والقرن والسن يتنجس.
وقال أحمد: صوف الميتة وشعرها طاهر " (1) انتهى.
وحيث يرجع فتوى القائل بزوال النجاسة بالغسل إلى النجاسة
العرضية ظاهرا، ينحصر المخالف بالشافعي وعطا في الشعر
والصوف، ويلحق بهما مالك في المذكورات، مع ما في عبارته من سوء
التعبير (2)، فراجع.
وحيث إن المسألة ذات الرواية عموما وخصوصا، فلا حاجة إلى
تلك الإطالة. مع أنك عرفت إمكان وجود التقية في الجملة لو فرضنا
صدور رواية دالة على طهارة بعض المذكورات.
إذا عرفت ذلك فاعلم: أن قضية القاعدة نجاسة جميع أجزاء الميتة،
قضاء لحق ما دل على نجاستها، فإن ما يورث سرايتها من الميتة إلى سائر
الأجزاء، يستلزم ذلك بالنسبة إلى جميعها وإن لم تحلها الحياة.
وربما يستظهر من السيد الوالد - مد ظله - أن ما يدل على نجاسة

1 - الخلاف 1: 66.
2 - المجموع 1: 231 / السطر 17 و 236 / السطر 12 - 13، بداية المجتهد 1: 80.
401

الجيفة، قاصر عن إثبات نجاستها، لعدم سريان الانتان والتجيف إليها،
لما ليس فيها الروح مثلا، وأن ما يدل على نجاسة الميتة لا يورث لحوق
الأجزاء بها.
نعم، العرف كان قاضيا بذلك، وهو يخص مصب حكمه وقضائه بغير
تلك الأجزاء، ولا أقل من الشبهة والشك (1).
وأنت خبير: بأن ذلك منقوض أولا، بما ورد في أخبار لزوم الغسل على
من مس الميت (2)، بأنه لو كان الأمر كما توهم لما كان يجب عند إمساس
الشعر، فهو شاهد على لحوقه بها عرفا.
وثانيا: قد عرفت أن " الميتة " معنى أعم مما تخيلوه (3)، وتصدق على
الأجزاء إذا سقطت عن الآثار المرغوبة فيها فتأمل، ففي الباب الثامن
والستين من أبواب النجاسات، عن قتيبة بن محمد قال قلت: " إنا نلبس
الطيالسة البربرية، وصوفها ميت " (4) فراجع.
وثالثا: كما لا يجد العرف فرقا بين الدم والعظم، وبين اليد
وا لرجل، كذلك لا يجد ذلك فيما نحن فيه بالوجدان.
ولو قطعنا النظر عما ورد في خصوص هذه المسألة من الدليل اللبي
واللفظي، لما ظننت التزام أحد بالطهارة بعد ما وردت المآثير على نجاسة

1 - الطهارة، الإمام الخميني (قدس سره) 3: 99.
2 - وسائل الشيعة 3: 289، كتاب الطهارة، أبواب غسل المس، الباب 1.
3 - تقدم في الصفحة 391 - 392.
4 - وسائل الشيعة 3: 514، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 68، الحديث 7.
402

الميتة، فما ترى في " الجواهر " من إنكار الحاجة إلى التخصيص
والتقيد (1)، في غير محله جدا.
نعم، لو شك في ذلك فقضية الاستصحاب هي الطهارة الثابتة حال
الحياة المشكوك زوا لها بالموت. ولو كان دليل نجاسة الأجزاء المبانة
من الميتة الاجماعات المحكية، كان للقول المزبور وجه كما لا يخفى.
وأمثال هذه الالتحاقات عرفا في الفقه غير عزيزة، فإن الأصحاب (رحمهم الله)
جوزوا أكل دم السمك إذا كان يبتلع السمك (2)، وما ذاك إلا لهذا.
إذا اطلعت على ما أسمعناك خبرا، فالكلام يتم في مرحلتين:
المرحلة الأولى: حول هذا العنوان العام، وأنه هل يمكن إثباته
حسب ما وصل إلينا، أم لا؟
المرحلة الثانية: حول خصوص الأخبار الواردة في خصوص الأشياء
المستثناة من نجاسة الميتة.
أما المرحلة الأولى:
فيدل عليه - مضافا إلى الاجماعات المحكية المذكورة (3) على
العنوان المزبور - معتبر الحلبي في " الوسائل " عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

1 - جواهر الكلام 5: 321.
2 - جواهر الكلام 36: 170.
3 - تقدم في الصفحة 400.
403

" لا بأس بالصلاة فيما كان من صوف الميتة، أن الصوف ليس فيه روح " (1).
وفي الباب المزبور عن " مكارم الأخلاق " للطبرسي، عن قتيبة بن
محمد قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنا نلبس هذا الخز وسداه إبريشم...
إلى أن قال قلت: إنا نلبس الطيالسة البربرية وصوفها ميت.
قال: " ليس في الصوف روح، ألا ترى أنه يجز ويباع وهو حي؟! " (2).
وتوهم أجنبيتها عن الدلالة على الطهارة والنجاسة، بأن الأولى
بصدد ترخيص الصلاة من أجل أنه ذكي، لا مطلقا، وأن الثانية في مقام
تجويز الانتفاع بالميتة، في محله بالنسبة إلى الأخيرة. مع عدم
وضوح سندها.
وأما الأولى، فالحكم فيها ليس حيثيا أصلا، فيعلم منه: أن كل ما كان
غير ذي روح فهو طاهر، ويثبت المطلوب.
نعم، خصوص " الدم نجس " استثناء، وتوهم أنه ذو روح في غير
محله، لما أن المراد من " الروح " هو الروح الحساس الحيواني لا
الروح النباتي، ولا روح الحيوانات الدموية.
وأما الأجزاء الزائدة إذا كانت خلية عن الروح، أو كانت إحدى
الأعضاء غير ذات روح نقصانا في الخلقة، ففي نجاستها إشكال.
اللهم إلا أن يقال: النظر في الرواية إلى الجهة النوعية، لا

1 - تهذيب الأحكام 2: 368 / 1530، وسائل الشيعة 3: 513، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات، الباب 68، الحديث 1.
2 - مكارم الأخلاق: 107، وسائل الشيعة 3: 514، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات،
الباب 68، الحديث 7.
404

الشخصية.
وربما يدل عليه معتبر حماد، عن حريز - في الأطعمة المحرمة -
قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) لزرارة ومحمد بن مسلم: " اللبن والبيضة... " إلى
أن قال: " وكل شئ يفصل من الشاة والدابة فهو ذكي... " (1).
ومعتبر الحسين بن زرارة - وهو عندي غير بعيد اعتباره - عن أبي
عبد الله في الباب المذكور قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): " العظم والشعر
والصوف والريش كل ذلك نابت لا يكون ميتا " (2).
وأنت خبير: بأن المراد من " الذكي " وإن كان الذكاة، ولكنه يستلزم
الطهارة قهرا، وأن المراد من " الشئ المفصول " ما كان من هذه
المعدودات التي لا تحلها الحياة ظاهرا، فثبت عموم المدعى، وهكذا فإن
المراد من " النابت " ما لا تحله الحياة الحيوانية.
ومثلهما الروايات الأخر التي لا تخلو من إشكال (3)، وسيأتي تفصيلها
في البحث الآتي.
وبالجملة: لا يبعد ثبوت هذا العنوان بنفسه، أو بما يلازمه كما

1 - الكافي 6: 258 / 4، وسائل الشيعة 24: 180، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب
الأطعمة المحرمة، الباب 33، الحديث 3.
2 - الكافي 6: 258 / 3، وسائل الشيعة 24: 181، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب
الأطعمة المحرمة، الباب 33، الحديث 12.
3 - الفقيه 3: 219 / 1011، وسائل الشيعة 24: 182، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب
الأطعمة المحرمة، الباب 33، الحديث 9.
405

عرفت (1). وتوهم دلالة ذيل معتبر حريز على نجاستها مطلقا، في غير محله
كما يأتي.
ولكنك تعلم: أن عنوان " النابت " لا يشمل مثل البول والعذرة
والمني، بخلاف عنوان " الشئ المفصول " و " ما ليس فيه الروح " وهذا
لا يضر بالمقصود بعد انصرافها منها، أو تخصيصها بأدلتها، كما يخصص بأدلة
نجاستها الكلب والخنزير والكافر والميت قبل الغسل وبعد البرد، إن لم
نقل بقصور موضوعها عن شمول هذه الأمور كلها.
إن قلت: قوله (عليه السلام): " لا يكون ميتا " معارض مع ما مر من إطلاق
" الميتة " على تلك الأجزاء (2).
قلت: نعم، ولكن التضاد والتمانع يرتفع بأن إطلاق " الميتة " حقيقة،
ونفي الاسم مجاز بلحاظ نفي الحكم كما هو الشائع.
وأما المرحلة الثانية:
فقضية ما مر طهارة تلك الأجزاء، سواء جزت، أو قلعت.
نعم، في صورة القلع ربما يحتاج إلى الغسل لما لاقى الميتة
برطوبة. وربما يمكن دعوى وجوب الغسل مع الاحتمال المزبور، قضاء
لحق بعض الأخبار الآتية، فتكون العلة والحكمة احتمال التلوث (3).

1 - تقدم في الصفحة 401 - 402.
2 - تقدم في الصفحة 402.
3 - مشارق الشموس: 319 / السطر 3.
406

ويظهر من الشيخ في " الخلاف " و " النهاية " بل و " المبسوط "
اختصاص الطهارة بصورة الجزء (1). ويمكن حمل كلامه على أن في صورة
القلع لا بد من الغسل، فلا يقول بنجاستها العينية، خلافا لما يظهر من
" خلافه " من أهل الخلاف القائلين بنجاستها العينية (2).
ولكنه خلاف التحقيق، فالنسبة على كل تقدير غير واضحة،
فلاحظ وتدبر.
وأما توهم نصوصية عبارة " النهاية " في ذلك، لما قال: " ولا يحل
شئ منها إذا قلع منها " (3) فهو فاسد، لأن ذلك أعم من النجاسة، ولعله كان لا
يرى جواز الصلاة فيها كما لا يخفى، والأمر بعد ذلك سهل.
وهو (قدس سره) وحيد في هذا الرأي والافتاء، ويشهد لما ذهب إليه بعض
النصوص، مثل ما مر من معتبر حريز، عنه (عليه السلام) قال: " وإن أخذته منه بعد أن
يموت، فاغسله وصل فيه " (4).
فإن المراد من " الأخذ " هو القلع حتى يتم رأيه، ولو كان الأعم
فيكون دليلا على نجاستها.
وهو محجوج بما مر، ضرورة أن الأمر بالغسل - بعد النص الثابت
على طهارته - لا يشهد على النجاسة بالضرورة. مع أنه مخا لف له

1 - الخلاف 1: 66، النهاية: 585، المبسوط 1: 15.
2 - الخلاف 1: 66.
3 - دروس في فقه الشيعة 2: 350.
4 - الكافي 6: 258 / 4، وسائل الشيعة 24: 180، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب
الأطعمة المحرمة، الباب 33، الحديث 3.
407

ولغيره، ولم يذهب أحد إليه، فهذا الأمر تنزيهي، لما فيه بعد الموت من
القذارة العرفية طبعا، ولا حاجة إلى حملها على الوجوب لنجاستها
بالقلع، حتى يتوسل بارتكاز العرف على فهم تحقق الملاقاة مع الرطوبة،
كما صنعه الوالد المحقق - مد ظله - (1).
فبالجملة: يتم الاستدلال بمثله، بناء على حمله على القلع، وحمل
الهيئة على الوجوب، من غير اشتراط المباشرة برطوبة، فيكون الغسل
واجبا.
ويمكن دعوى نجاسته العينية الزائلة بالغسل، كما تزول بالغسل
في أموات المؤمنين.
وفيه ما لا يخفى، مع أن قضية بعض الاطلاقات طهارة المنتوف، ففي
الباب المزبور عن " قرب الإسناد " قال: " لا بأس بما ينتف من الطير
والدجاج ينتفع به... " (2).
فروع
يذكر فيها ما يتعلق بتلك الأشياء المستثناة من الميتة خصوصا:
الفرع الأول: في حكم الصوف
لا شبهة عندنا في طهارة الصوف، وهو قول أكثر أهل العلم إلا

1 - الطهارة، الإمام الخميني (قدس سره) 3: 101.
2 - قرب الإسناد: 136 / 480، وسائل الشيعة 24: 183، كتاب الأطعمة والأشربة،
أبواب الأطعمة المحرمة، الباب 33، الحديث 13.
408

الشافعي في أحد قوليه، وهو مضطرب الرأي في هذه المسائل (1).
ويظهر من بعض الأخبار نجاسته، فعن " قرب الإسناد " في " جامع
الأحاديث " قال: قال جابر بن عبد الله الأنصاري: " إن دباغة الصوف والشعر
غسله بالماء، وأي شئ أطهر من الماء؟! " (2).
وعنه فيه، عن جعفر، عن أبيه (عليه السلام): " أن عليا (عليه السلام) قال: غسل صوف
الميت ذكاته " (3).
ولكنه لا يقاوم الأخبار الأخر، مع ما في دلالتها، والطهارة مقتضى
الجمع بينها.
الفرع الثاني: في حكم الشعر
ومثله الشعر قولا وخلافا، واستظهارا من الرواية الأولى المزبورة آنفا.
الفرع الثالث: في حكم الوبر
والوبر طاهر عند المسلمين بلا خلاف. نعم يظهر من تعليل الشافعي

1 - المجموع 1: 236 / السطر 7.
2 - قرب الإسناد: 76 / 246، جامع أحاديث الشيعة 2: 124، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات، الباب 9، الحديث 16.
3 - قرب الإسناد: 153 / 560، جامع أحاديث الشيعة 2: 125، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات، الباب 9، الحديث 17.
409

أن النابت نجس نجاسة (1).
ولعمري، إنه أخذ من رواياتنا الدالة على أن النابت طاهر عنادا
وظلما، كما هو دأبهم في فتاويهم على ما يظهر للمتتبع في الآثار، وقد نص
عليه " الكافي " في الرواية السابقة، عن الحسين بن زرارة في الباب
المزبور، عنه (عليه السلام) قال: " الشعر والصوف والوبر والريش وكل نابت، لا يكون
ميتا... " (2).
وفي الكتاب العزيز: (ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا
إلى حين) (3).
وتوهم عدم دلالة الأولى على الطهارة، بل هو حكم حيثي لأجل
التذكية، غير نافع كما عرفت مرارا.
الفرع الرابع: في حكم العظم
والعظم طاهر عند الكل إلا الشافعي، فإنه صرح بنجاسته معللا
بنموه (4).
وفي المآثير في الباب المزبور رواية الحسين بن زرارة، وفيها

1 - بداية المجتهد 1: 80.
2 - الكافي 6: 258 / ذيل الحديث 3، وسائل الشيعة 24: 181، كتاب الأطعمة والأشربة،
أبواب الأطعمة المحرمة، الباب 33، الحديث 12.
3 - النحل (16): 80.
4 - المجموع 1: 238 / السطر 4.
410

التصريح بطهارة العظم، معللا بأنه من النابت (1)، وفي بعضها الآخر ذكر
عظام الفيل لما فيها الحاجة، فأجيب: بعدم البأس به، وأنه ذكي (2).
نعم، ربما يستظهر من رواية " الكافي " في الباب المزبور، عن
إسماعيل بن مرار، عن يونس، عنهم (عليه السلام) قالوا: " خمسة أشياء ذكية مما فيها
منافع الخلق: الإنفحة، والبيضة، والصوف، والشعر، والوبر " (3) أن العظم
نجس، لعدم عده من الخمسة، وظاهرها حصر الأشياء الطاهرة بها.
وأنت خبير بما في الدلالة، مع إمكان الجمع العرفي على إشكال، مع
أنها ضعيفة اصطلاحا، لعدم توثيق إسماعيل (4) مع عدم مقاومتها لما يدل على
ذكاة العظام.
اللهم إلا أن يقال (5): بدلالة الآية الكريمة (من يحيي العظام...) (6)
على حياتها، ومنعها واضح.

1 - تهذيب الأحكام 9: 78 / 332، وسائل الشيعة 24: 183، كتاب الأطعمة والأشربة،
أبواب الأطعمة المحرمة، الباب 33، الحديث 12.
2 - الفقيه 3: 216 / 1006، وسائل الشيعة 24: 182، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب
الأطعمة المحرمة، الباب 33، الحديث 10.
3 - الكافي 6: 257 / 2.
4 - تنقيح المقال 1: 144، معجم رجال الحديث 3: 183.
5 - المجموع 1: 238 / السطر 3، لاحظ جواهر الكلام 5: 322.
6 - يس (36): 78.
411

الفرع الخامس: في حكم القرن والمنقار والظفر والمخلب والريش
والظلف والسن
القرن والمنقار والظفر والمخلب والريش والظلف والسن، كلها
طاهرة عندنا (1)، ولا مخالف فيها إلا الشافعي في بعضها نصا (2)، وفي بعضها
حسبما يعلل به (3).
وفي المآثير النص على طهارة القرن والسن والناب والحافر
والريش (4)، وربما يستظهر نجاستها، لما سمعت آنفا، والجواب الجواب.
الفرع السادس: في حكم البيض المأخوذ من الميتة
البيض من مأكول اللحم إذا كان ميتة، أو مطلق بيضة غير مأكول
اللحم، طاهر، أم نجس، أو يفصل، فيه خلاف:
فقال العلامة في " التذكرة ": " البيضة في الميتة طاهرة إن اكتست
بالجلد الفوقاني، وإلا فلا، وقال الشافعي: إنها نجسة، ورواه الجمهور عن

1 - مدارك الأحكام 2: 272، الحدائق الناضرة 5: 77، مستند الشيعة 1: 175.
2 - المجموع 1: 236 / السطر 7.
3 - تذكرة الفقهاء 1: 62، بداية المجتهد 1: 80.
4 - وسائل الشيعة 24: 180، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأطعمة المحرمة،
الباب 33، الحديث 3 و 9.
412

علي (عليه السلام) والمشيمة نجسة " (1) انتهى.
وفي " الفقه على المذاهب " قال: " إن المالكية قالوا بنجاسة
جميع الخارج من الميتة.
والحنفية قالوا بطهارة ما خرج منها والبيضة رقيقة القشر
وغليظتها طاهرة، بعد كونها طاهرة حال الحياة.
والحنابلة قالوا بنجاسة الخارج منها، إلا البيضة إذا تصلب
قشرها سواء كانت من ميتة ما يؤكل لحمه، أو غيره، فإنها طاهرة " (2) انتهى.
وأما أصحابنا (قدس سرهم) فهم مختلفون حسب التعبير عن القيد المعتبر، من
كون القشر صلبا، كما عن " كشف الالتباس " (3) وعرفت من " التذكرة " تعبيرا
آخر، وعن بعض المتقدمين و " النهاية " الجلد الغليظ (4)، وفي آخر القشر
الأعلى (5)، وقد ادعى الاجماع على الطهارة في هذه الصورة (6).
وقد نص الشهيد على عدم الفرق بين بيض المأكول وغيره (7)،
والعلامة في " المنتهى " و " النهاية " قوى نجاسة بيض الجلال وما لا

1 - تذكرة الفقهاء 1: 63.
2 - الفقه على المذاهب الأربعة 1: 11.
3 - لاحظ مفتاح الكرامة 1: 147 / السطر 16.
4 - لاحظ ذخيرة المعاد: 148 / السطر 13 - 14، نهاية الإحكام 1: 270.
5 - البيان: 90، روض الجنان: 162 / السطر 24.
6 - مفتاح الكرامة 1: 147 / السطر 10.
7 - لاحظ مفتاح الكرامة 1: 147 / السطر 17.
413

يؤكل (1)، انتهى.
والذي ينبغي أن يكون محلا للنظر أمور:
أحدها: في طهارة البيضة واقعا مع قطع النظر عن كونها في جوف شئ
أن البيضة من الأعيان النجسة، أو الطاهرة، مع قطع النظر عن
كونها في جوف شئ.
الظاهر أنها من الطاهرة، لعدم الدليل على عدها من الأعيان
النجسة بعنوانها الذاتي. وربما يستكشف مما سبق في أول مباحث
النجاسات، أنها محصورة بعدد خاص (2)، فيكون القول بطهارتها الواقعية
قويا، فتأمل.
ثانيها: في تبعية البيضة لما أخذت منه في النجاسة
أنها في الأعيان النجسة تكون تابعة أم لا.
حسب الفهم العرفي أنها تابعة، فلو فرضنا دلالة دليل على نجاسة
الجلال من الطير، أو نجاسة طير بعنوانه الذاتي، فلا يسأل عن الأجزاء
الوجودية المتعلقة به، وإلا فكل جزء منه يمكن دعوى طهارته، من غير
فرق بين الأجزاء المتصلة والمنفصلة، ومن غير الحاجة إلى الدليل

1 - منتهى المطلب 1: 166 / السطر 8، نهاية الإحكام 1: 270.
2 - تقدم في الصفحة 293.
414

الخاص في الحاق الأجزاء.
وهذا يعلم في جانب الطهارة، مثلا إذا حكم الشرع بطهارة الدجاج،
فلا يبقى شك في طهارة البيضة منه، لأنها من توابعه، كما في سائر
المسائل والموضوعات.
ولعمري، إن البيضة من الدجاج كالبيضة من الانسان، في أنها
خارجة ومنفصلة، ولكن لا يبقى شك في نجاستها إذا كان الميت نجسا،
فعليه فمقتضى القاعدة نجاستها العينية إذا كانت الميتة نجسة، لأنها
كسائر أجزائها، وإلا فكثير من الأجزاء الداخلة في الباطن طاهرة، لأجل
انفصالها عن البدن، فمجرد الانفصال الوجودي غير كاف لتوهم الطهارة.
ومما يشهد لذلك ما في رواية أبي حمزة الثمالي، من شهادة قتادة
على أنها من الميتة حسب الفهم العرفي، المروية في الباب التاسع من
" جامع الأحاديث " (1).
ثالثها: في بيان شبهة على طهارة بيضة الميتة
قضية الأخبار الكثيرة المشار إليها سابقا، طهارة البيضة من
الميتة (2)، وهو مورد الاتفاق، ولا مخالف منا في طهارتها الذاتية. ومقتضى
إطلاقها عدم الفرق بين كون الميتة مما كان يؤكل لحمه، أو لا، وهذا هو

1 - جامع أحاديث الشيعة 2: 123، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 9، الحديث 14.
2 - تقدم في الصفحة 411 و 416 و 418.
415

الأمر المفروغ عنه في كلماتهم.
ولكن للاشكال مجالا واسعا، وذلك لأن تلك المآثير والأخبار
مخدوشة سندا، أو سندا ودلالة، أو دلالة فقط:
أما رواية ابن بكير (1) وصفوان بن يحيى، فهي مروية عن الحسين بن
زرارة (2)، وقد مر أنه لم يوثق (3)، وهي ثلاث روايات في الباب التاسع من
النجاسات.
وأما رواية زرارة المروية في الباب المزبور، عن أبي عبد الله (عليه السلام)
قال: سألته عن الإنفحة تخرج من الجدي الميت.
قال: " لا بأس به ".
قلت: اللبن يكون في ضرع الشاة وقد ماتت.
قال: " لا بأس به ".
قلت: والصوف والشعر والعظام وعظام الفيل والجلد والبيض
يخرج من الدجاجة.
فقال: " كل هذا ذكي لا بأس به " (4).

1 - الكافي 6: 258 / 3، وسائل الشيعة 24: 180، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب
الأطعمة المحرمة، الباب 33، الحديث 4.
2 - تهذيب الأحكام 9: 78 / 332، وسائل الشيعة 24: 183، كتاب الأطعمة والأشربة،
أبواب الأطعمة المحرمة، الباب 33، الحديث 12.
3 - تقدم في الصفحة 405.
4 - الفقيه 3: 216 / 1006، وسائل الشيعة 24: 182، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب
الأطعمة المحرمة، الباب 33، الحديث 10.
416

فهي وإن كانت معلقة حسب الاصطلاح، ولكنها لا يبعد اعتبارها، إلا أن
ظهورها في أن المقصود من " الدجاجة " هي الميتة منها غير مبرهن.
وتوهم: أن المراد من " الذكي " هو ذكاته حسب حلية الأكل، فلا
تدل على الطهارة، في محله، إلا أن ذلك يستلزم ذاك كما مر مرارا.
وحمل هذه المآثير الواردة في مقام الأجوبة على الحكم الحيثي
والإضافي، غير صحيح أصلا.
ومثلها دلالة رواية إسماعيل بن مرار (1)، مع أنه لم يوثق (2).
وأما معتبر حماد، عن حريز، المروي في الباب المزبور (3)، فهو
بحسب الدلالة مخدوش، لأن قوله في ذيله: " وإن أخذته منه بعد أن
يموت، فاغسله وصل فيه " يورث ظهور الصدر في اختصاص السؤال بحال
الحياة، وقضية الذيل هي طهارة ما يصلى فيه متعارفا، كالوبر والصوف،
فلا يدل على طهارة غير ذلك من الميتة، كما لا يخفى.
وأما مرسل " الفقيه " ومسند " الخصال " عن ابن أبي عمير مرفوعا
إلى أبي عبد الله (عليه السلام) (4) فهو بحسب السند محل الشبهة عند بعض، بل لا
يخلو من غلق، فراجع.

1 - الكافي 6: 257 / 2، وسائل الشيعة 24: 179، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب
الأطعمة المحرمة، الباب 33، الحديث 2.
2 - تقدم في الصفحة 411.
3 - الكافي 6: 258 / 4، وسائل الشيعة 24: 180، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب
الأطعمة المحرمة، الباب 33، الحديث 3.
4 - الفقيه 3: 219 / 1011، الخصال: 434 / 19.
417

وأما رواية غياث بن إبراهيم، عن أبي عبدا لله (عليه السلام) في بيضة خرجت
من است دجاجة ميتة.
فقال: " إن كانت البيضة اكتست الجلد الغليظ، فلا بأس بها " (1).
فهي وإن كانت بحسب السند مورد طعن " المدارك " (2) و " المعالم " (3)
ولكنها بحسب الدقة معتبرة، لأن ابن إبراهيم ولو كان بتريا، ولكنه موثق،
والمراد من محمد بن يحيى الراوي عنه هو الخزاز ظاهرا، ولو كان هو
الخثعمي فهو أيضا معتبر (4).
ولكن الاشكال في دلالتها، لأنه لا يستفاد منها طهارتها الذاتية قبل
الاكتساء، ضرورة أن احتمال كونها قبل الاكتساء تعد من أجزاء الميت، وبعده
تعد مستقلة وخارجة عن تحت العنوان المزبور، قوي.
وأما رواية الثمالي (5)، فهي وإن دلت على الطهارة، لأجل أن تجويز
الأكل يستلزم ذلك، ولكن في سندها محمد بن علي المشترك بين جماعة (6)،
ويشكل العثور على أنه أي واحد منهم، فليتدبر.

1 - الكافي 6: 258 / 5، وسائل الشيعة 24: 181، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب
الأطعمة المحرمة، الباب 33، الحديث 6.
2 - مدارك الأحكام 2: 273.
3 - لاحظ الحدائق الناضرة 5: 91.
4 - رجال النجاشي: 359، هداية المحدثين: 258، دروس في فقه الشيعة 2: 348.
5 - الكافي 6: 256 / 1، وسائل الشيعة 24: 179، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب
الأطعمة المحرمة، الباب 33، الحديث 1.
6 - هداية المحدثين: 244.
418

بقي شئ: في الاستدلال على الطهارة بقوله (عليه السلام): " إن الصوف ليس فيه
روح " مثلا
وهو أن الطهارة مقتضى قوله (عليه السلام) في ذيل معتبر الحلبي: " إن الصوف
ليس فيه روح " (1) ومقتضى قوله (عليه السلام): " كل ذلك نابت لا يكون ميتا " في ذيل
رواية الحسين بن زرارة (2).
وفيه: أن النظر في ذلك إلى أمثال الوبر والصوف مما ليس فيه
الروح، ولا يشمل حتى مثل العظم، مما فيه الإحساس والوجع إذا كان
يقطع، فليتدبر.
فالطهارة مستندة إلى الاتفاق المستند إلى المآثير المزبورة.
ولكن هذه المناوشات قبال الأمور الواضحة، غير مسموعة، لما أنا بنينا
على العمل بمثل هذه الأخبار وإن كانت أسانيدها مشتملة على مثل ابن زرارة.
رابعها: حول اشتراط طهارة البيضة بالاكتساء بالقشر مثلا
بعد البناء على طهارته الذاتية وجواز أكله، فهل يشترط الطهارة
وجواز الأكل بشئ آخر كالاكتساء، أم لا؟ فيه وجهان:

1 - تهذيب الأحكام 2: 368 / 1530، وسائل الشيعة 3: 513، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات، الباب 68، الحديث 1.
2 - تهذيب الأحكام 9: 78 / 332، وسائل الشيعة 24: 183، كتاب الأطعمة والأشربة،
أبواب الأطعمة المحرمة، الباب 33، الحديث 12.
419

قضية القواعد وإطلاقات الأدلة عدم الاشتراط، ومقتضى معتبر غياث
بن إبراهيم الماضي آنفا هو الاشتراط، وهو مذهب الأكثر (1)، بل عليه دعوى
الاتفاق (2).
وربما يشكل ذلك - كما عن " المدارك " و " المعالم " (3) - سندا، فيكون
الاطلاق ثابتا.
وفيه ما أشير إليه، وأنهما كأنما كانا يعتبران الزائد على الوثاقة في
العمل بالرواية، ولعل هذا كان ميراث الأردبيلي (قدس سره) وقد وصل إليهما في
الدرس لالقاء شبهة منه عليهما.
والذي هو الاشكال: أن تقييد المطلقات الكثيرة بقيد واحد مشكل،
ويقوى في النظر أن اعتبار الاكتساء كان لأجل عدم تلوثه بالملاقاة مع
الباطن، فيكون قيدا مندوبا، وإلا فلو خرجت بلا اكتساء، ثم غسلت بالماء فلا
يبعد طهارتها وجواز أكلها.
ومما يشكل عليه: أن الظاهر من رواية غياث أن جواز الأكل
مشروط، وهذا لا يستلزم اشتراط الطهارة بالاكتساء رأسا.
وأنت خبير بما فيه وهنا من عدم دلالتها على الأكل جوازا ومنعا،
ومجرد نقل الأصحاب في كتاب الأطعمة لا يورث ذلك، مع أن " جامع

1 - دروس في فقه الشيعة 2: 347، مهذب الأحكام 1: 310.
2 - الحدائق الناضرة 5: 91، جواهر الكلام 5: 322.
3 - مدارك الأحكام 2: 273، لاحظ الحدائق الناضرة 5: 91.
420

الأحاديث " ذكرها في هذه المسألة (1) فقوله (عليه السلام): " لا بأس بها " يشمل
الحلية والطهارة.
نعم، تقييد تلك المطلقات بمفهوم الشرط مع إهماله - لأنه لا سبيل
إلى تعيين الاطلاق في ناحية المفهوم - مشكل آخر في المسألة.
فعلى ما تقرر، القول بطهارته وجواز أكله من غير لزوم الاكتساء
قوي جدا، ولا إجماع في المسألة إلا وهو معلل بتلك الرواية.
خامسها: في وجوب غسل البيضة
بعد البناء المزبور، فهل يجب غسلها إذا خرجت، أم لا؟ فيه وجهان:
من أنها لاقت النجس.
ومن أن الملاقاة في الباطن لا توجب النجاسة، خصوصا إذا كان
الملاقي والملاقى من الباطن.
نعم، إذا لاقى ظاهر الميتة عند الخروج وكانت رطبة، فلا بد من
الغسل.
سادسها: في وجه اشتراط طهارة البيض بكونه من مأكول اللحم
قد عرفت أن العلامة - بل المحكي عن " النهاية " - اعتبر في طهارة

1 - جامع أحاديث الشيعة 2: 120 - 126، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 9.
421

البيض كونه من مأكول اللحم (1)، والمعروف عنهم أنه بلا وجه (2).
والذي أظنه وجها: أن قاعدة تبعية الأجزاء تقتضي النجاسة، كما
أشير إليه (3)، والمخرج قاصر عن شمول بيض غير المأكول، لأن الأخبار
المتكفلة لحكم البيض بين ما يشكل سندا وإن كان يتم إطلاقه (4)، وبين ما
يتم سندا، ولكن مخصوص بالمأكول (5)، فالاطلاق الذي ابتلي به
المتأخرون في التمسك به لدفع شهبة العلامة (6)، قابل الخدشة.
نعم، إذا قلنا: بأن الطهارة قضية القاعدة، فهي مندفعة بها كما لا
يخفى.
الفرع السابع: في حكم الإنفحة
وقد اختلفت آراء الخاصة والعامة في طهارتها الذاتية
والعرضية ونجاستها، فعن المالكية والشافعية والحنابلة نجاستها،
وظاهرهم العينية (7).

1 - تقدم في الصفحة 413.
2 - جواهر الكلام 5: 324.
3 - تقدم في الصفحة 401.
4 - تقدم في الصفحة 415.
5 - تقدم في الصفحة 416.
6 - دروس في فقه الشيعة 2: 349، مهذب الأحكام 1: 310.
7 - منتهى المطلب 1: 165 / السطر 35، المغني، ابن قدامة 1: 61 / السطر 11،
المجموع 2: 570 / السطر 6.
422

وعن الحنفية طهارتها (1).
وعليها الاجماعات المحكية عن كتبهم المختلفة (2)، إلا أن بعضا
منهم اعتبر وجوب الغسل، معللا بنجاستها العرضية، وهم " الذكرى "
و " كشف الالتباس " و " المدارك " (3) وهو مورد ميل " الروضة "
و " الذخيرة " (4) وهو المحكي عن " نهاية العلامة " لايجابه ذلك في
البيضة (5).
المراد من " الإنفحة " وأنها المظروف
وحيث إن قضية الصناعة السابقة نجاستها، لأنها من الميتة إن
كانت كرشا وفي حكم المعدة - بل ولو كانت هي الماء الأصفر الموجود
فيه، لأن دليل طهارة ما لا تحله الحياة قاصر عن شمول مثله، بل تلك
الأدلة على تقدير تماميتها، ناظرة إلى ما ينبت من الحيوان، كالصوف
والوبر والريش والظفر وأمثالها، ولا تشمل مثل الدم رأسا حتى يحتاج
إلى التخصيص، فما في كتاب السيد العلامة الوالد - مد ظله - من

1 - نفس المصادر، المغني، ابن قدامة 1: 61 / السطر 12.
2 - مفتاح الكرامة 1: 155 / السطر 25، منتهى المطلب 1: 165 / السطر 35، مدارك الأحكام 2: 273.
3 - ذكرى الشيعة: 14 / السطر 3، لاحظ مفتاح الكرامة 1: 155 / السطر 29، مدارك الأحكام 2: 274.
4 - الروضة البهية 2: 277 / السطر 13، ذخيرة المعاد: 148 / السطر الأول.
5 - مفتاح الكرامة 1: 155 / السطر 30، نهاية الإحكام 1: 270.
423

الاستناد إلى تلك الكلية (1)، فهي عندنا غير مسلمة كما عرفت - فلا بد من
النظر إلى ما هو المراد من " الإنفحة " في الأخبار.
وغير خفي: أن مقتضى القواعد عندنا هي الطهارة عند الشك في
المراد منها، لأن إجمال دليل المخصص يسري إلى العام عندنا، فإذا ثبت
أن الإنفحة هي الماء في الكرش وهو نفس المظروف فهو، وإلا فإذا شك
واشتبه الأمر حسب المفهوم اللغوي فيكون مجملا.
نعم، بناء الأصحاب (رحمهم الله) على التمسك بالعام، وما ترى في كتب بعض
الأفاضل من التعجب من التمسك بقاعدة الطهارة، لوجود الدليل
الاجتهادي (2)، في غير محله، لأن المسألة من صغريات التمسك بالعام في
الشبهة المصداقية الناشئة عن الشبهة المفهومية.
ولعمري، إن الخروج عن الاختلاف الكثير المتراءى من اللغويين
والفقهاء إلى أمر معلوم ومفهوم واضح بين، في غاية الاشكال.
ولا يبعد كون الإنفحة حسب فهم الفقهاء نفس الظرف، كما عرفت في
كلماتهم السابقة من اعتبارهم الغسل، للسراية والملاقاة، وإلا فالماء
الأصفر الداخل في جوفه غير قابل للغسل، لاستلزامه سقوطه عن
خاصيته، فتأمل.
وأما حسب الأخبار، فلا يبعد كونها المظروف، ففي خبر الحسين بن
زرارة السابق قال: وسأله أبي عن الإنفحة تكون في بطن العناق أو

1 - الطهارة، الإمام الخميني (قدس سره) 3: 108.
2 - مستمسك العروة الوثقى 1: 309، دروس في فقه الشيعة 2: 358.
424

الجدي وهو ميت.
فقال: " لا بأس به " (1).
وفي خبر يونس الماضي عنهم (عليهم السلام) قالوا: " خمسة أشياء ذكية مما
فيها منافع الخلق: الإنفحة والبيضة... " (2).
فإن ما هو مورد الانتفاع هو المظروف الذي يعبر عنه في الفارسية
ب‍ (مايه پنير) دون الظرف، فإن له منفعة جزئية مشتركة فيها سائر الأجزاء.
وفي رواية أبي حمزة الثمالي المفصلة قال قتادة: وربما جعلت
فيه إنفحة الميت.
قال: " ليس بها بأس، إن الإنفحة ليست لها عرق، ولا فيها دم، ولا لها
عظم، إنما تخرج من بين فرث ودم... " (3).
فإنه كالنص في أنها المظروف، وإلا فالظرف فيه العروق الصغار،
وفي كل عرق دم سائل، فهي كاللبن.
ولعمري، إن من تدبر في الآثار حسب الاستعمال، وتوجه إلى
خصوصية الحكم الكلي البالغ - وهو أن ما هو المستثنى من الميتة ما
لا روح فيه ولا نفس له - يتوجه إلى أن الإنفحة تكون منها، لا من الأجزاء

1 - تقدم في الصفحة 419.
2 - الكافي 6: 257 / 2، وسائل الشيعة 24: 179، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب
الأطعمة المحرمة، الباب 33، الحديث 2.
3 - الكافي 6: 256 / 1، وسائل الشيعة 24: 179، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب
الأطعمة المحرمة، الباب 33، الحديث 1.
425

الباطنية كالأمعاء والمعدة. ويؤيد ذلك كلام جمع من اللغويين.
ومن العجيب ما يظهر من " القاموس " و " محيط المحيط "
و " الأقرب " (1) المتفقة على عبارة واحدة من المناقضة، فإن ظاهرهم أن
الإنفحة هي المظروف، والمظروف يصير ظرفا إذا كان يأكل وخرج عن
الرضاعة!! فهذا قول ثالث، ولكنه مفيد لما نحن فيه كما لا يخفى.
وقد حكي عن بعض الخبراء: " أنها هي المادة المنجمدة في جوف
الكرش صفراء يجبن بها " واختاره السيدان الأصفهاني (رحمه الله) والوالد
المحقق - مد ظله - في " الوسيلة " و " تحريرها " (2).
ومما يؤيد ذلك بل يدل عليه، المآثير المذكورة في الشبهة غير
المحصورة، وقد ذكرها الوالد المتتبع حفظه الله تعالى هنا (3)، ومن
العجب خلو " جامع الأحاديث " منها!! وهي كثيرة تأتي من ذي قبل، فإنها
بكثرتها ظاهرة في أن الإنفحة هي المادة، لا الظرف.
ولعمري، إن الشبهة مرتفعة بعد ذلك قطعا. هذا كله حول الموضوع.
في طهارة الإنفحة
وأما حكم المسألة، فقد عرفت بما لا مزيد عليه من الأخبار ما يدل
على طهارتها وجواز أكلها، ولكن هناك بعض ما يدل على نجاستها:
فمنها: ما رواه " الوسائل " في الباب الحادي والستين من أبواب

1 - القاموس المحيط 1: 262، محيط المحيط: 906، أقرب الموارد 2: 1326.
2 - وسيلة النجاة 1: 104، تحرير الوسيلة 1: 115.
3 - الطهارة، الإمام الخميني (قدس سره) 3: 104.
426

الأطعمة المباحة عن " المحاسن " بإسناده المعتبر عن بكر بن حبيب قال:
سئل أبو عبد الله عن الجبن، وأنه توضع فيه الإنفحة من الميتة.
قال: " لا تصلح " ثم أرسل بدرهم فقال: " اشتر من رجل مسلم، ولا تسأله
عن شئ " (1).
وتوهم الحمل على التقية (2) بعد ما عرفت من رأي الحنفية
بالطهارة (3)، في غير محله، لأن رأيه كان مشهورا في عصره (عليه السلام) وكان ينبغي
أن يتقى منه، فما يدل على الطهارة أولى بالحمل على التقية عند
المعارضة.
وأما بكر بن حبيب، فهو وإن لم يوثق في المتون الرجالية (4)،
ولكنه عندنا حسب التحقيق معتبر، ولا سيما بعد انضمام رواية صفوان، عن
منصور بن حازم، عنه، فهو يورث الوثوق بأصل الرواية.
وأما ما أفاده الشيخ كما ذكرناه سابقا من بكر بن محمد بن حبيب، فهو
غير بكر بن حبيب، فإن ذاك هو المازني النحوي المتوفى (248 ه‍) ولا
يتمكن من الرواية عن الباقر والصادق (عليهما السلام)، فلا تخلط.
ومنها: ما رواه في الباب المزبور عن الكتاب المذكور، عن أبيه،
عن محمد بن سنان، عن أبي الجارود قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الجبن،

1 - المحاسن: 496 / 598، وسائل الشيعة 25: 118، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب
الأطعمة المباحة، الباب 61، الحديث 4.
2 - مصباح الفقيه، الطهارة: 532 / السطر 27، الطهارة، الإمام الخميني (قدس سره) 3: 105.
3 - تقدم في الصفحة 422.
4 - معجم رجال الحديث 3: 343.
427

فقلت له: أخبرني من رأى أنه يجعل فيه الميتة.
فقال: " أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة، حرم في جميع
الأرضين؟!... " (1).
ومنها: غير ذلك مما ذكر في الباب المذكور (2).
وأما الاشكال عليها سندا بمحمد بن سنان (3)، وأبي الجارود، ولا سيما
في خصوص رواية ابن سنان عن أبي الجارود، مما نص ابن الغضائري على
" أن حديثه في حديث أصحابنا أكثر منه في الزيدية، وأصحابنا يكرهون ما
رواه محمد بن سنان عنه، ويعتمدون ما رواه محمد بن أبي بكر الأرجني " (4)
انتهى.
فهو قابل للدفع، لما أن جمعا من الأعلام اعتبروا أحاديثهما.
ولكن الكلام في عدول الإمامية عنها، وذهابهم إلى طهارة الإنفحة.
والجمع بينهما بحمل الطائفة الأولى على المظروف، وهذه على
الظرف، أو الحمل على أن الاستدلال كان من الأخذ بما التزموا به، وإيجاد
الشبهة إثباتا على تقدير نجاستها ثبوتا (5)، من المحامل البعيدة عن أفق

1 - المحاسن: 495 / 597، وسائل الشيعة 25: 119، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب
الأطعمة المباحة، الباب 61، الحديث 5.
2 - المحاسن: 496 / 599، وسائل الشيعة 25: 119، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب
الأطعمة المباحة، الباب 61، الحديث 6.
3 - مهذب الأحكام 1: 312.
4 - مجمع الرجال 3: 74.
5 - مصباح الفقيه، الطهارة: 532 / السطر 17.
428

الاعتبار. بل هذا غير صحيح، لما عرفت من ذهاب أبي حنيفة إلى
الطهارة (1).
أو الحمل على أن المقصود إطلاق لفظة " الميتة " عليه، لما أن
قتادة قال: " إنها من الميتة " (2) فإنه أيضا غير مقبول، لأنه من أرباب
الفتاوى غير المعروفة، فلا يتقى منه، فلا تصل النوبة إلى المعارضة،
لعدم حجية هذه الطائفة بعد الاعراض عن المضمون.
ولو سلمنا المعارضة - كما عليه جمع، حسب اقتضاء الصناعة
ذلك - فالترجيح مع طائفة الطهارة، لأكثريتها عددا، وأشهريتها رواية،
وأظهريتها دلالة، وأصحيتها سندا.
تذنيب: حول قضية الصناعة عند الشك في مفهوم " الإنفحة "
وكون الظرف مورد الشك
قد عرفت قضية الصناعة عند الشك في مفهوم " الإنفحة " بعد
البناء على أن المظروف يكون خارجا، والظرف مورد الشك، فإنه يرجع
إلى إجمال عنوان المخصص مع تردد أمره بين الأقل والأكثر، من غير فرق
بين أن نقول: بأن المظروف طاهر ذاتا وعرضا، أو قلنا: بأنه طاهر ذاتا،
واحتاج إلى الغسل لو كان الظرف خارجا عن مفهوم " الإنفحة ".

1 - تقدم في الصفحة 424.
2 - مصباح الفقيه، الطهارة: 532 / السطر 18.
429

بقي بحث في مقتضى الصناعة عند الشك في مفهوم الإنفحة
حول الشك في أن الإنفحة مرددة بين كونها نفس الظرف، وبين كونها
نفس المظروف، أو هما معا، وعلى تقدير كونها نفس المظروف بين كونها
قابلة للتطهير بالملاقاة، أو ليست قابلة له، لأنها مائع كاللبن، ولا دليل على
الاستثناء، فهل قضية القواعد الرجوع إلى الأدلة الاجتهادية لرفع
الشبهة، أو تصل النوبة إلى الأصول العملية؟
لا شبهة في أن أصالة الاطلاق والعموم، تقضي بالنجاسة بالنسبة
إلى جميع الأجزاء، والتي هي الخارجة عنها ما لا تحلها الحياة، ولا
شبهة في أن مقتضى ذلك الاطلاق والعموم، منجسية الميتة لكل ما
لاقاها، سواء كانت الملاقاة في الباطن، أو الظاهر، ولا شبهة في أنا نعلم
إجمالا بخروج الظرف، أو المظروف، أو هما معا من أحد الاطلاقين
والعمومين، لأنه يعلم إجمالا إما بطهارة الظرف، وهو مما تحله الحياة، أو
نجاسته وطهارة المظروف، فتكون الملاقاة غير منجسة، لأن الالتزام
بالطهارة مع النجاسة، خلاف ظاهر الأدلة إذا كانت جامدة، أو يلزم اللغوية
إذا كانت مائعة.
وأما إذا كانت الإنفحة هما معا، كما استند إلى " العروة الوثقى "
اختياره (1)، فالخروج الأول يستلزم عدم ورود التخصيص والتقييد على

1 - دروس في فقه الشيعة 2: 365، لاحظ العروة الوثقى 1: 58، فصل في
النجاسات، الرابع.
430

دليل منجسية الملاقاة، لأنه لاقى الطاهر وهو الظرف، فلا يصير نجسا بها،
فعلى هذا لا يمكن دعوى: أن الأولى هو الالتزام بتقييد الاطلاق الأول أو
الثاني.
ومن الممكن دعوى تقييد أدلة حرمة أكل النجس، فيكون
المظروف أو الظرف باقيا على حالهما، ولكن يستثنى من تلك الأدلة، أو
يقال بالعفو، فلا يعلم إجمالا بالتقييد أو التخصيص في الطائفتين
المزبورتين.
وتوهم: أن العلم الاجمالي ينحل إلى العلم التفصيلي والشك
البدوي، في غير محله، لما عرفت: من أن كل واحد من الظرف
والمظروف، يمكن أن يكون هو القدر المتيقن.
نعم، بناء على الالتزام بطهارة المظروف على جميع التقادير ينحل،
ولكنه قد عرفت حكمه فيما سبق، وهذا واضح.
وبالجملة: في المسألة (إن قلت قلتات) ولكن بعد ما عرفت منا حقيقة
الأمر في المقام - من اتضاح معنى الإنفحة - لا تصل النوبة إلى بسط
الكلام حول هذه التوهمات غير المنتهية إلى معنى مسلم عند العقلاء،
فليتدبر جيدا.
تنبيه: حول حكم الإنفحة الجامدة والسائلة
بناء على ما هو المختار، من أن الإنفحة هي المظروف، فإن خرج
مائعا، وكان بالطبع ونوعا مائعا، فلا شبهة في جواز استعمالها حتى حال
431

الجمود من غير الحاجة إلى التغسيل، لاطلاق أدلتها، وتقدمها على دليل
حرمة أكل النجس، أو على دليل منجسية الأنجاس.
وأما استفادة طهارته على الاطلاق، حتى يترتب عليه جميع أحكامها،
فهو موقوف على دعوى: أن العرف ينتقل منها إليها، وإلا فمن الممكن
دعوى: أنه معفو عنه، لما فيه المنافع الكثيرة، كما عرفت من المآثير (1).
وهكذا استفادة طهارة الظرف باطنه وظاهره، أو خصوص ظاهره،
فإنه بعد سكوت الأدلة مشكل، لعدم الملازمة بين طهارة المظروف
والظرف بعد إمكان تخصيص دليل منجسية النجس، خصوصا فيما إذا كانت
الملاقاة في الباطن مع الباطن، فإنه حينئذ يمكن إنكار أصل نجاسة
المائع، ولكنه لا ينتهي إلى طهارة الظرف.
ولو خرج مائعا، ولكن كانت مصاديق الإنفحة بين الحالتين نوعا، ولا
غلبة لإحداهما على الأخرى، فلا يبعد دعوى: أنه مثل ما مضى في الحكم.
نعم، لو كانت مصاديقها نوعا جامدة، فإن قلنا بلزوم غسلها، فلا بد من
الاجتناب عنها إذا كانت مائعة، لعدم ثبوت العفو عنها بعد القول بنجاستها
حسب الأدلة.
نعم، على القول بعدم حاجة الجامد منها إلى الغسل، لأنه يستلزم
سقوطها عن الخاصية المنتظرة منها، أو لأن إطلاق أدلتها يؤدي إلى ذلك
كما لا يبعد، فلا يجب إراقتها كما لا يخفى.

1 - تقدم في الصفحة 418 و 425.
432

مسألة: في حكم إنفحة ما لا يؤكل لحمه
إنفحة غير المأكول، أو إنفحة المأكول ذاتا وغير المأكول عرضا
كالجلال، أو إنفحة المأكول غير المتعارف، كالحمار والفرس، أو إنفحة
غير المتعارف في الاستفادة، كإنفحة البقر والإبل، طاهرة كإنفحة الجدي
والحمل، أم هي نجسة، بناء على كونها مع قطع النظر عن هذه الأخبار
الواردة في خصوصها نجسة.
فالكلام هنا حول ما إذا كانت الإنفحة مع قطع النظر عن هذه الأخبار،
نجسة ذاتا أو عرضا، وإلا فلو كانت هي طاهرة فلا حاجة إلى إدراجها تحت
مفادها.
إذا عرفت ذلك فربما يقال: بأن بعد فرض كون الإنفحة من الميتة
حسبما عرفت منا (1)، والميتة من النجاسات العينية، فالاستثناء منها
يقتضي طهارتها، من غير النظر إلى أن هذه الميتة قبل الموت كانت
مأكولة اللحم، أو غير مأكولة اللحم، لاشتراك ميتة الكل في النجاسة
وهي المستثناة من الميتة، لا من الحيوان الكذائي الطاهر العين حتى
يختلف بين أنواع الحيوان (2).
وأما اشتمال بعض الأخبار على أنها مما يكثر انتفاع الخلق منها (3)،

1 - تقدم في الصفحة 423.
2 - مصباح الفقيه، الطهارة: 532 / السطر 28.
3 - الكافي 6: 257 / 2، وسائل الشيعة 24: 179، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب
الأطعمة المحرمة، الباب 33، الحديث 2.
433

وهذا يختص بطائفة دون طائفة، فهو لا يورث تفصيلا في المسألة، لأن ذلك
مما يعد حكمة في الحكم، وإلا يلزم القول بنجاسة الإنفحة مما لا يؤكل
عادة كالحمار، وبطهارة ما يجعل في الجبن مما لا يؤكل مطلقا، لأن الميزان
هو المتعارف في الانتفاع من الإنفحة، لا من حيوانها كما لا يخفى.
فالقول بأن الإنفحة من الكل في حد واحد، قوي جدا، وما ترى في
كتب الأصحاب من الاغتشاش، ناشئ من الغفلة عن حقيقة الحال.
هذا، وحيث عرفت: أن الإنفحة هي المظروف (1)، وعرفت الاشكال في
شمول دليل طهارة ما لا تحله الحياة لمثله (2)، فيشكل طهارتها الذاتية،
لأنها من الميتة عرفا، وملحقة بها حكما، فلولا ما ذكرناه يكون القول
بنجاستها الذاتية قويا جدا.
وأما توهم عدم صدق " الإنفحة " على غير المأكول لحمه، مستدلا
بالرواية كما في " المصباح " (3) فهو - مضافا إلى ضعف الاستدلال - يورث
الحصر بمورده.
الفرع الثامن: في حكم اللبن في ضرع الميتة
كان إلى زمان ابن إدريس مشهورا بين الأصحاب - رضي الله عنهم -

1 - تقدم في الصفحة 424 - 425.
2 - تقدم في الصفحة 423.
3 - مصباح الفقيه، الطهارة: 532 / السطر 29.
434

وعن " الغنية " و " الخلاف " دعوى الاجماع عليه (1)، وهو المعروف عند
المتأخرين كما في " المسالك " (2) وما رأيت حكاية النجاسة عن أحد
من القدماء إلا " المراسم " (3).
ومع ذلك قال ابن إدريس: " إنه نجس بغير خلاف عن المحصلين من
أصحابنا " (4) ولعله ناظر إلى نفي التحصيل عن القائلين بالطهارة.
وقال " المنتهى " و " جامع المقاصد ": " إنه المشهور " (5) وعن الأخير
" أنه الموافق لأصول المذهب " (6).
والذي هو الظاهر: أن كل أحد إذا كان يؤدي نظره إلى طرف، نسبه
إلى الشهرة والأكثر، أو ادعى الاتفاق والاجماع، وهذا مما يظهر بعد
المراجعة إلى " مفتاح الكرامة " (7) والمتون الأخر في الأطعمة
والأشربة.
وعلى هذا، ففي المسألة قولان: الطهارة، ولعله كان عند القدماء (8)

1 - مفتاح الكرامة 1: 154 / السطر 27، الغنية، ضمن الجوامع الفقهية: 557 / السطر 7،
الخلاف 1: 519.
2 - مسالك الأفهام 2: 194 / السطر 43.
3 - لاحظ المهذب البارع 4: 214، المراسم: 211.
4 - السرائر 3: 112.
5 - منتهى المطلب 1: 165 / السطر 21، جامع المقاصد 1: 167.
6 - مفتاح الكرامة 1: 154 / السطر 19، جامع المقاصد 1: 167.
7 - انظر مفتاح الكرامة 1: 154 - 155.
8 - الهداية، ضمن الجوامع الفقهية: 62 / السطر 28، المقنعة: 583، النهاية: 585،
الخلاف 1: 519، الوسيلة: 361 - 362، المهذب 2: 441.
435

والمتأخرين (1) أشهر، بل المشهور، والنجاسة وهو عند المتوسطين من
عصر ابن إدريس إلى العلامة (2)، ومن بعده إلى عصر " المسالك "
والأردبيلي (3)، والأخير كأنه مردد في المسألة (4) وإن مال إلى الطهارة،
فالمتبع بعد ذلك هو الدليل، ولا سيما بعد عدم تعرض بعض من القدماء،
كالسيد في " الناصريات " و " الإنتصار " واتباعه (5).
ويظهر التفصيل بين لبن الجارية الميتة وغيرها، فيقال بطهارته
منها (6). وربما يستظهر من الصدوق العكس (7)، فيكون هو من النجاسات إذا
كان عن جارية، ومن الطاهرات إذا كان عن شاة مثلا، وهو المحكي عن
الإسكافي (8)، والله العالم.
ثم إن أبناء العامة قد اختلفت آراؤهم حسب الكتب، فيظهر من
" منتهى العلامة " أن النجاسة قول مالك، والشافعي، وأحمد في رواية،
والطهارة قول أبي حنيفة، وداود، وأحمد في رواية أخرى ضعيفة (9).

1 - مسالك الأفهام 2: 194 / السطر 42، مدارك الأحكام 2: 274، كفاية الأحكام: 11 /
السطر الأخير، ذخيرة المعاد: 148 / السطر 17.
2 - شرائع الاسلام 3: 175، منتهى المطلب 1: 165 / السطر 21.
3 - المهذب البارع 4: 213، جامع المقاصد 1: 167.
4 - مجمع الفائدة والبرهان 1: 305.
5 - جواهر الكلام 5: 331.
6 - مفتاح الكرامة 1: 155 / السطر 5.
7 - مفتاح الكرامة 1: 155 / السطر 8، المقنع: 15.
8 - مختلف الشيعة: 56 / السطر 36.
9 - منتهى المطلب 1: 165 / السطر 22.
436

ويظهر من " الفقه على المذاهب " أن النجاسة قول الكل إلا
الحنفية (1)، وهذا هو الظاهر من الشيخ (2)، إلا أنه قال في مقام حمل رواية
وهب بن وهب (3) على التقية: " بأنها موافقة لمذاهب العامة، لأنهم
يحرمون كل شئ من الميتة، ولا يجيزون استعمالها على حال " (4) انتهى،
وهذا ينافي ما سبق بعمومه، والأمر سهل.
بيان مقتضى القواعد في لبن الجارية
أقول: ربما يشكل الطهارة، لأن مقتضى القواعد هي النجاسة، لعدم
الفرق - على ما مر - بين الملاقاة مع الباطن في الباطن، أو مع الظاهر،
بعد قيام الدليل على منجسية النجس في الجملة عرضا، وإن اختلفت
آراؤهم طولا.
اللهم إلا أن يقال: إن دليل " ما لا تحله الحياة لا ينجس " يشمل اللبن،
وفرارا من اللغوية لا بد من القول بالطهارة. بل يمكن استكشاف طهارة
الضرع باطنه وظاهره (5).
وفيه: أن لغوية إطلاق الدليل مما لا يجب الفرار منها، وما هو يفر

1 - الفقه على المذاهب الأربعة 1: 11.
2 - الخلاف 1: 519.
3 - تهذيب الأحكام 9: 76 / 325، وسائل الشيعة 24: 183، كتاب الأطعمة والأشربة،
أبواب الأطعمة المحرمة، الباب 33، الحديث 11.
4 - تهذيب الأحكام 9: 77، ذيل الحديث 325.
5 - دروس في فقه الشيعة 2: 361.
437

منه لغوية ذات الدليل وتمام المدلول، فعند ذلك تقع المعارضة بين إطلاق
ما دل على طهارة ما لا تحله الحياة، وإطلاق دليل نجاسة الميتة وهو منها،
وإطلاق دليل منجسية النجس.
وتوهم عدم شمول الدليل الثاني لما نحن فيه، مدفوع بما عرفت.
وتوهم اختصاص منجسية النجس بما إذا كانت الملاقاة بعد
النجاسة، وبعبارة أخرى: المعتبر هو الملاقاة بمعناها المصدري، وهي هنا
غير متحققة، غير مرضي.
نعم قضية ما سلف (1)، أن أدلة طهارة ما لا تحله الحياة، تقصر عن
شمول المائعات، كالأعراق واللبن والدم، وتختص بالنابتات في البدن،
كالشعر والصوف والظفر، وأمثالها مما عد في كثير من المآثير، وفي ذيلها
العمومات الواردة المقتضية لطهارة ما لا تحله الحياة (2)، فراجع وتأمل
حتى يظهر لك ما خطر بالبال، فعليه تبقى قاعدة نجاسة اللبن - ذاتية
وعرضية - باقية على حالها.
هذا، ولو فرضنا المعارضة بين قاعدة طهارة ما لا تحله الحياة،
وقاعدة نجاسة المائع بملاقاة النجس، فهي بالعموم من وجه، ولا ترجيح،
إلا أن الدليل الأول - لمكان تعرضه لطهارته الذاتية - لا يقاوم الثاني،
والثاني يقدم عليه.

1 - تقدم في الصفحة 423.
2 - وسائل الشيعة 24: 179، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأطعمة المحرمة،
الباب 33.
438

وبعبارة أخرى: لا معارضة بعد ذلك، لعدم المنافاة بين الطهارة
الذاتية ونجاسته العرضية، ولا يلزم عند ذلك الالتزام بطهارته فرارا من
اللغوية، لما عرفت.
نعم، لو سلمنا ذلك فتصل النوبة إلى قاعدة الطهارة، بل واستصحابها.
اللهم إلا ترجح إحداهما على الأخرى بالمرجحات، والترجيح مع
قاعدة منجسية النجس، لأنها أقوى، وقد عدت من أصول المذهب (1). مع أن
استقذار العقلاء والعرف من أسباب رجوعهم إلى نجاستها، والأخذ بما يدل
عليها، وطرح الآخر.
هذا كله حول قضية القواعد في اللبن.
مقتضى المآثير الواردة في لبن الميتة
وربما يشكل طهارته بعد هذا، لأجل الشبهة فيما يدل عليها سندا
ودلالة، كما عرفت في الإنفحة (2)، وهو هنا أقوى، وقد تعرض لها الوالد
المحقق - مد ظله - ولقد أجاد فيما أفاد (3)، وبمثل ذلك يفوق الآخرين.
فبالجملة نقول: روايات اللبن بين ما تضعف سندا، كرواية الحسين بن
زرارة (4)، مع أنها في نسخة " الكافي " خالية من كلمة " اللبن " وهذا هو

1 - جامع المقاصد 1: 167.
2 - تقدم في الصفحة 428 - 429.
3 - الطهارة، الإمام الخميني (قدس سره) 3: 112 - 114.
4 - على ما في وسائل الشيعة 24: 180، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأطعمة
المحرمة، الباب 33، الحديث 4، انظر الكافي 6: 258 / 3.
439

المهم هنا، وإلا فالحسين بن زرارة عندنا معتبر كما عرفت (1).
وفي حكمها ما رواه " التهذيب " و " الإستبصار " و " الفقيه " عن
الحسن بن محبوب (2)، وأنت خبير بأنه بلا واسطة غير ممكن، وثبوت كتابه
عندهما - على وجه معتبر - غير معلوم، فعد رواية زرارة صحيحة - كما
صنعه الأعلام كلهم (3)، حتى الوالد مد ظله (4) - محل المناقشة، لما
أشير إليه.
وبين ما هو ضعيف دلالة، وهو معتبر حريز (5)، ولكنه مخصوص -
بمقتضى ذيله - بحكم اللبن حال الحياة، فراجع ولا نكررها.
وأما مرسل الصدوق في " الفقيه " (6) فهو وإن كان من المعتبر عند
بعض (7) خلافا لنا، ولكنه مخدوش لخصوصية في المقام، وهي أن
الصدوق صرح بأنه مسند في " الخصال " (8) وسنده في " الخصال "

1 - تقدم في الصفحة 405.
2 - تهذيب الأحكام 9: 76 / 324، الإستبصار 4: 89 / 339، الفقيه 3: 216 / 1006.
3 - مصباح الفقيه، الطهارة: 533 / السطر 13، مستمسك العروة الوثقى 1: 310، مهذب
الأحكام 1: 313.
4 - الطهارة، الإمام الخميني (قدس سره) 3: 111.
5 - الكافي 6: 258 / 4، وسائل الشيعة 24: 180، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب
الأطعمة المحرمة، الباب 33، الحديث 3.
6 - الفقيه 3: 219 / 1011.
7 - لاحظ مستدرك الوسائل (الخاتمة) 3: 547 / السطر 9، الطهارة، الإمام
الخميني (قدس سره) 3: 114.
8 - الفقيه 3: 219، ذيل الحديث 1011.
440

مغشوش، فعليه يشكل الاعتماد عليه (1) فليراجع، فما يدل على الطهارة غير
متين.
ولا حاجة إلى إثبات نجاسته بمثل رواية وهب بن وهب (2)، حتى
يقال: " هو أكذب البرية " (3) مع أنه يقصر دلالة عن النجاسة، لأن
الحرمة أعم منها، فاللبن محرم ولا يكون نجسا. مع أن من المحتمل رجوع
كلمة " ذاك " فيها إلى الشاة، أي أن الشاة حرام محضا، لا غيرها من اللبن
وغيره.
ولا بمثل رواية الفتح بن يزيد، عن أبي الحسن (عليه السلام) المروية في
أبواب الأطعمة المحرمة (4)، حتى يقال بالاشكال في سندها ودلالتها (5)، بل
المعروف أن إسنادها مدخول.
ولا بمثل خبر يونس (6) حتى يقال بضعف سنده ودلالته (7)، لأن الحصر
بالخمسة لا يستفاد منه، بل المستفاد منه هو أن الخمسة التي فيها

1 - الخصال: 434 / 19.
2 - تهذيب الأحكام 9: 76 / 325، وسائل الشيعة 24: 183، كتاب الأطعمة والأشربة،
أبواب الأطعمة المحرمة، الباب 33، الحديث 11.
3 - رجال الكشي: 309 / 558.
4 - الكافي 6: 258 / 6، وسائل الشيعة 24: 181، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب
الأطعمة المحرمة، الباب 33، الحديث 7.
5 - دروس في فقه الشيعة 2: 362.
6 - الكافي 6: 257 / 2، وسائل الشيعة 24: 179، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب
الأطعمة المحرمة، الباب 33، الحديث 2.
7 - الطهارة، الإمام الخميني (قدس سره) 3: 102 و 115.
441

منافع الناس كذا وكذا، وليس لبن الميتة منها، ضرورة أن الطباع تتنفر
منه طبعا. وربما يؤيد النجاسة هذا الأمر الارتكازي، وأن الالتزام بالطهارة
الشرعية لأجل سائر الأحكام في غاية الندرة، فالقول بطهارته مشكل
جدا، لإباء النفوس عنه، وانزجار الطباع من مثله. وأمثال هذا لا يثبت
طهارته مع الخلاف الجلي الذي عرفت (1).
هذا، وما يدل على الطهارة موافق للتقية، لأن الرأي العام في عصر
الصادق (عليه السلام) وفي بلاط الخلفاء، رأي أبي حنيفة، وهو يقول بالطهارة (2)،
وما تدل عليها في أخبارنا كلها عن أبي عبد الله (عليه السلام) وقد عاصره أبو حنيفة،
فما ترى من حمل أخبار النجاسة على التقية (3)، غير صحيح حسب
التأريخ، فلا تخلط.
بل النجاسة مقتضى الكتاب، لما عرفت (4): من أن الأجزاء داخلة
في حكم الميتة، بناء على أعمية الحرمة من النجاسة، لاستناد
الحرمة إلى الذات، فلا بد من ممنوعية الذات بجميع آثارها البارزة
والظاهرة، فلا تكن من الغافلين.

1 - تقدم في الصفحة 435 - 436.
2 - الفقه على المذاهب الأربعة 1: 11.
3 - تهذيب الأحكام 9: 77، جواهر الكلام 5: 329، مهذب الأحكام 1: 313.
4 - تقدم في الصفحة 401.
442