الكتاب: حصر الاجتهاد
المؤلف: آقا بزرگ الطهراني
الجزء:
الوفاة: ١٣٨٩
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق: محمد علي الأنصاري
الطبعة:
سنة الطبع: ١٤٠١
المطبعة: مطبعة الخيام - قم
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

تأليف العلامة المغفور له
الشيخ آغا بزرگ الطهراني
تاريخ
حصر الاجتهاد
تحقيق
محمد علي الأنصاري
1

مطبعة الخيام - قم
(1401 ه‍)
2

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل النبيين،
وعلى آله الطيبين الطاهرين، الهداة المعصومين.
3

تقديم
حدد العلماء للاجتهاد علوما أدبية وغير أدبية، بها
يتمكن الفقيه من استخراج الأحكام الشرعية واستنباطها من
الكتاب والسنة وباقي الأدلة التي تعود في الحقيقة إليهما.
فالمجتهد إذا أتقن هذه العلوم ومارس الكتاب والسنة حصلت
له ملكة يقتدر بها على استنباط الفروع الفقهية وما يحتاج
إليه من المسائل والأحكام، وإذا حصلت له هذه الملكة وجب
عليه العمل بما يستنبطه ولا يجوز له الرجوع إلى غيره.
أما العامي الذي لم تتوفر له أسباب الاجتهاد أصلا،
أو توفر له طرف منها ولكن لم يبلغ مرتبة الاستنباط، فيجب
عليه الرجوع إلى المجتهد العادل الجامع للشرائط لأخذ
5

ما يحتاج إليه من الأحكام الفقهية.
هذا ما ذهب إليه الشيعة في المجتهد والمقلد، وأما أهل
السنة فقد حصروا الاجتهاد في أربعة من الأئمة زعموا
أن التقليد لا يصح إلا من هؤلاء ولا يجوز العمل إلا برأيهم،
وهم: الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي (ت 150)
والإمام مالك بن أنس الأصبحي (ت 179) والإمام محمد
ابن إدريس الشافعي (ت 204) والإمام أحمد بن حنبل
الشيباني (ت 241).
سد أهل السنة باب الاجتهاد على أنفسهم وأصبحوا
يقلدون هؤلاء الأئمة منذ قرون، بالرغم من وجود مجتهدين
آخرين قبلهم ومعاصرين لهم وبعدهم. فما هي الأسباب
والدواعي التي أوجبت حصر الاجتهاد فيهم، ومتى تم هذا
الموضوع، وعلى يد من تم؟ فهذه أسئلة تدور على كثير من
الألسن ويطلب لها الجواب.
لقد أجاب على هذه الأسئلة العلامة الراحل المتتبع
المؤرخ الشيخ آغا بزرك الطهراني - عطر الله مرقده - في
رسالته القيمة " توضيح الرشاد في تاريخ حصر الاجتهاد "،
فإنه درس هذا الموضوع من جوانبه المختلفة باختصار
واستيعاب، وأعطى صورة واضحة أغنى الباحث عن الفحص
في الموسوعات وأشتات الكتب.
وقد استحصلت " مدرسة الإمام المهدي عليه السلام "
6

بخونسار على صورة من هذه الرسالة بخط المؤلف من العلامة
الحجة السيد محمد حسين الجلالي، وقد أحسنت الاختيار
إذ جعلته ضمن الرسائل والكتب التي سعت في تحقيقها ونشرها
فإنها بهذا العمل المشكور وفرت كثيرا من الجهد على العلماء
والمعنيين بالبحوث التاريخية الدينية.
وإنني أبارك فضيلة الأستاذ المحقق الشيخ محمد على
الأنصاري على توفيقه في تحقيق هذا الأثر لقيم وعلى دراسته
المختصرة الممتازة التي قدم بها الرسالة حول الاجتهاد والأدوار
التي مر بها، وأسأل الله تعالى له اطراد التوفيق في احياء آثار
أخرى من تراثنا الإسلامي، وهو عز وجل ولي التوفيق
التسديد.
قم: 12 ذق 1401 ه‍ السيد أحمد الحسيني
7

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على صفوة خلقه
الرسول الأمين، وآله الغر الميامين.
بين يدي رسالة في " تاريخ حصر الاجتهاد " عند إخواننا السنة،
حررت بيد العلامة الكبير آية الله الشيخ آغا بزرك الطهراني تغمده
الله برحمته. وقد استعرض فيها تاريخ حصر الاجتهاد، ووجوب
تقليد أحد المذاهب الأربعة لا غير، والأسباب التي دعت إلى ذلك
وقد ساعدني التوفيق في صيف سنة 1398 هجرية، حيث
سنحت لي فرصة قصيرة في مؤسسة ولي العصر عجل الله تعالى فرجه
بمدينة خوانسار، فقمت فيها بتحقيق هذه الرسالة وتقديمها. ورأيت
من المناسب أن أكتب باختصار حول الأدوار التي مر بها الاجتهاد
في كل من مدرستي الشيعة والسنة.
وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.
العبد الراجي عفو ربه
محمد على الأنصاري الشوشتري
9

الاجتهاد لغة واصطلاحا
قبل الدخول في البحث عن الأدوار التي مر بها الاجتهاد، من
اللازم أن نبين ما هو المراد من الاجتهاد الذي نريد أن نستعرض
أدواره، فنقول:
الاجتهاد في اللغة مأخوذ من " الجهد " بالضم بمعنى الطاقة،
أو بالفتح بمعنى المشقة ويأتي بمعنى الطاقة أيضا. فالاجتهاد لغة هو:
" بذل الوسع والطاقة " (1).
وأما في مصطلح الفقهاء والأصوليين فيطلق على معنيين: عام،
وخاص.

(1) راجع كلا من: لسان العرب والصحاح والنهاية ومجمع البحرين
وغيرها من كتب اللغة.
11

المعنى الخاص للاجتهاد:
أما المعنى الخاص فهو المرادف للقياس عند الشافعي، حيث
يقول: " فما القياس؟ أهو الاجتهاد أم هما مفترقان؟ قلت: هما
اسمان بمعنى واحد " (1) ونفي أن يكون الاستحسان من الاجتهاد (2)
ويقول السيد المرتضى (قده): " وفي الفقهاء من فصل بين
القياس والاجتهاد، وجعل القياس ما تعين أصله الذي يقاس عليه،
والاجتهاد ما لم يتعين.. وفيهم من أدخل القياس في الاجتهاد
وجعل الاجتهاد أعم منه " (3).
وربما جعلوا الاجتهاد مرادفا للاستحسان، والرأي، والاستنباط
والقياس، بجعلها أسماء لمعنى واحد. يقول مصطفى عبد الرزاق:
" فالرأي الذي نتحدث عنه هو الاعتماد على الفكر في استنباط
الأحكام الشرعية، وهو مرادنا بالاجتهاد والقياس، هو أيضا مرادف
للاستحسان والاستنباط " (4).
هذا، ولا يمكن تحديد مفهوم الاجتهاد بمعناه الخاص تحديدا

(1) الرسالة للشافعي: 477.
(2) نفس المصدر: 504.
(3) الذريعة إلى أصول الشريعة: 2 / 188.
(4) تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية: 138 كما عن مقدمة النص
والاجتهاد.
12

دقيقا، ولعل ذلك من جهة اختلاط بعض المفاهيم العامة بمصاديقها.
والذي يظهر من تتبع كلماتهم أن الاجتهاد بمعناه الخاص
مرادف للرأي، وأن القياس والاستحسان والمصالح المرسلة ونظائرها
إنما هي من قبيل المصاديق لهذا المفهوم (1).
ومهما يكن من أمر فإن الاجتهاد بهذا المعنى استمر من القرن
الأول حتى القرن الخامس - تقريبا - فحينما كان يطلق الاجتهاد،
كان يراد منه هذا المعنى الخاص. وفي حوالي القرن الخامس أخذ
الاجتهاد مفهوما أوسع من ذلك.
والذي لا بد أن نشير إليه هو أن أئمة الشيعة عليهم السلام كانوا
يعارضون الاجتهاد بهذا المعنى، وذلك لبطلان القياس والاستحسان
وغيرها عندهم. واستمرت هذه المعارضة من عصر الأئمة - عليهم
السلام - حتى القرن السابع الهجري حيث تغير مفهوم الاجتهاد
الخاص إلى مفهوم أوسع منه فتقبله الشيعة برحابة صدر، مع حذف
ما يخالف مبادئهم الفقهية كالقياس والاستحسان وأمثالها عنه، فالنصوص
الكثيرة الواردة عن العلماء في هذه القرون تدلنا على المعارضة
الشديدة من قبل مدرسة أهل البيت - عليهم السلام - ضد الاجتهاد
بمفهومه الخاص، حتى صنف العلماء والكتاب كتبا على رد الاجتهاد
بهذا المعنى، فقد صنف عبد الله بن عبد الرحمن الزبيري كتابا سماه
" الاستفادة في الطعون على الأوائل والرد على أصحاب الاجتهاد

(1) مقدمة النص والاجتهاد: 5 بقلم العلامة السيد محمد تقي الحكيم.
13

والقياس " (1) وصنف أبو القاسم علي بن أحمد الكوفي كتابا سماه
" الرد على أصحاب الاجتهاد في الأحكام " (2).
وأخذت المعارضة تستمر حتى أواخر القرن الرابع، حيث ألف
الشيخ المفيد " قده " كتابا سماه " النقض على ابن الجنيد في اجتهاد
الرأي " (3).
وقد كان ابن الجنيد متهما بالعمل بالقياس والاجتهاد في الرأي،
كما سينبه عليه المؤلف " قده " وسوف نتعرض لذكره هناك.
ومما يدل على ذلك ما نقله المحقق الشيخ محمد حسن النجفي
صاحب الجواهر في جواز قضاء الحاكم بعلمه عن السيد المرتضى
في الانتصار بقوله:
" فإن قيل: كيف تستجيزون ادعاء الاجماع وأبو علي ابن الجنيد
يصرح بالخلاف ويذهب إلى أنه لا يجوز للحاكم أن يحكم بعلمه
في شئ من الحقوق والحدود؟ قلنا: لا خلاف بين الإمامية في هذه
المسألة، وقد تقدم اجماعهم ابن الجنيد وتأخره وإنما عول ابن الجنيد
على ضرب من الرأي والاجتهاد، وخطؤه ظاهر.. " (4).
وهكذا نرى السيد المرتضى أيضا يهجم على الاجتهاد بهذا

(1) رجال النجاشي في ترجمة عبد الله بن عبد الرحمن: 152.
(2) نفس المصدر في ترجمة علي بن أحمد: 189.
(3) رجال النجاشي في ترجمة الشيخ المفيد: 287.
(4) جواهر الكلام: 40 / 89.
14

المعنى وإن كان يميل إلى قبوله في الموضوعات الخارجية - لا الأحكام -
مثل الاجتهاد في تعيين القبلة وأمثالها (1).
وكذلك نرى الشيخ الطوسي " قده " في أواسط القرن الخامس
يقول عندما يذكر صفات المفتي: " وقد عد من خالفنا في هذه
الأقسام أنه لا بد أن يكون عالما بالقياس والاجتهاد.. وقد بينا
نحن فساد ذلك وأنها ليست من أدلة الشرع " (2).
وكذا في أواخر القرن السادس يستعرض ابن إدريس في مسألة
تعارض البينتين من كتابه " السرائر " عددا من المرجحات لإحدى
البينتين على الأخرى ثم يعقب ذلك قائلا: " ولا ترجيح بغير ذلك
عند أصحابنا، والقياس والاستحسان والاجتهاد باطل عندنا " (3).
وهكذا استمر هذا الرفض العنيف للاجتهاد بمفهومه الخاص
إلى أوائل القرن السابع لأنه كان يعطي مفهوم القياس والاستحسان
والرأي - أو كانا من مصاديقه الممقوتين لدى أئمة الشيعة عليهم
السلام - حتى تطور الاجتهاد من مفهومه الخاص إلى مفهوم
أوسع منه.
المعنى العام للاجتهاد:
وبعد أن كان الاجتهاد عند السنة منحصرا في الرأي والقياس

(1) الذريعة إلى أصول الشريعة 2 / 308.
(2) عدة الأصول 293.
(3) السرائر لابن إدريس، كما عن المعالم الجديدة للسيد الصدر.
15

والاستحسان - على اختلاف في قبول بعضها - تطور مفهومه وأخذ
يعطي معنى أوسع من معناه الأول الخاص. فهذا الغزالي المتوفى
سنة 505 يعرف الاجتهاد بأنه: " عبارة عن بذل المجهود واستفراغ
الوسع في فعل من الأفعال.. ولكن صار اللفظ في عرف العلماء
مخصوصا ببذل المجتهد وسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة " (1).
وعرفه الآمدي بأنه: " استفراغ الوسع في طلب الظن بشئ
من الأحكام الشرعية على وجه يحس من النفس العجز عن المزيد
فيه " (2) وعرفه من المتأخرين محمد الخضري بك بأنه: " بذل الجهد
في استنباط الحكم الشرعي مما اعتبره الشارع دليلا " (3).
ومن خلال هذه النصوص نرى كيف تحول مفهوم الاجتهاد من
معناه الخاص إلى معنى أوسع منه عندما لبس ثوبه الجديد، وذلك
حوالي القرنين الخامس والسادس تقبله الشيعة.
وأقدم نص يدل على قبول الاجتهاد بمفهومه الجديد لدى علماء
الشيعة هو النص الوارد عن المحقق الحلي " قده " المتوفى سنة
676 في كتابه المعارج حيث كتب تحت عنوان الاجتهاد يقول:
".. وهو في عرف الفقهاء بذل الجهد في استخراج الأحكام الشرعية. وبهذا الاعتبار يكون استخراج الأحكام من أدلة الشرع

(1) المستصفى 2 / 350.
(2) الأحكام من أصول الأحكام 4 / 141.
(3) تاريخ التشريع الإسلامي 87.
16

اجتهادا، لأنها تبتني على اعتبارات نظرية ليست مستفادة من ظواهر
النصوص في الأكثر، سواء كان ذلك الدليل قياسا أو غيره، فيكون
القياس على هذا التقرير أحد أقسام الاجتهاد. فإن قيل: - يلزم - على
هذا - أن يكون الإمامية من أهل الاجتهاد؟ قلنا: الأمر كذلك،
لكن فيه ايهام من حيث أن القياس من جملة الاجتهاد، فإذا استثني
القياس كنا من أهل الاجتهاد في تحصيل الأحكام بالطرق النظرية
التي ليس أحدها القياس " (1).
ومن خلال هذا النص نلاحظ أن كلمة " الاجتهاد " لم تزل
مثقلة بتبعة مفهومها الخاص، ولذلك يحاول هذا المحقق أن يفصل
بين المفهومين بفصل القياس وأمثاله من مفهوم الاجتهاد.
ولم يقف الاجتهاد - بمفهومه الجديد لدى الشيعة - عند هذا
الحد، وهو استخراج الأحكام الشرعية من غير ظواهر النصوص،
بل شمل عملية استنباط الحكم من ظاهر النص أيضا، لأن عملية
استنباط الحكم لا تخلو من الجهد العلمي في سبيل معرفة الظهور،
وتحديده، واثبات حجيته، وأمثال هذه الأمور.
ثم أخذ الاجتهاد يتطور أيضا، فشمل كل عملية يمارسها الفقيه
لتحديد الموقف العملي تجاه الشريعة على طريق إقامة الدليل على
الحكم الشرعي، أو تعيين الموقف العملي مباشرة، ولذلك عرفه
من المتأخرين السيد الخوئي - دام ظله - بأنه:

(1) معارج الأصول، الطبعة الحجرية: 117.
17

" بذل الوسع لتحصيل الحجة على الواقع أو على الوظيفة
الفعلية الظاهرية " (1).
وهناك تعاريف أخرى للاجتهاد لا تخلو من مناقشات لا نتعرض
لها لخروجها عن غرضنا المهم في هذه المقدمة.
الآن وبعد أن اتضح لدينا مفهوم الاجتهاد بمعنييه: العام
والخاص، حان لنا أن نستعرض المراحل والأدوار التي مر بها
الاجتهاد في المدرستين: مدرسة أهل البيت - عليهم السلام - ومدرسة السنة.
والمقصود - طبعا - من الاجتهاد الذي نريد أن نستعرض مراحله
هو الاجتهاد بمعناه العام، الذي يشمل كل عملية يمارسها الفقيه
لتحديد الموقف العلمي تجاه الشريعة، سواء كان في صدر الإسلام
أم في يومنا هذا، لأن عملية تحديد الموقف العملي تجاه الشريعة
لم تكن شيئا مستحدثا، بل يمتد إلى تاريخ صدر الإسلام.

(1) الرأي السديد في الاجتهاد والتقليد: 9
18

الاجتهاد وتطوراته في التاريخ
مرت على الاجتهاد مراحل مختلفة، من الصعب تحديدها
تحديدا دقيقا، ولكن يمكن حصرها في كل من المدرستين - السنية
والشيعية - على وجه التقريب حسب ما تقتضيه المقدمة.
أولا - المدرسة السنية ومراحلها التأريخية:
مرت المدرسة السنية بمراحل كثيرة يمكن حصرها تقريبا في
أربعة أدوار:
1 - دور الصحابة والتابعين.
2 - دور الأئمة الأربعة، حتى انسداد باب الاجتهاد.
3 - دور انسداد باب الاجتهاد (عصر التقليد).
4 - دور الدعوة إلى فتح باب الاجتهاد من جديد.
19

الدور الأول: دور الصحابة والتابعين
كان بعض الصحابة إذا عرضت لهم مسألة يحاولون أن يجدوا
حلها من الكتاب أو السنة، فإن وجدوا حلها فيها وإلا كانوا يعملون بما
وصل إليه رأيهم في المسألة - وإن كان هناك من يتوقف من الافتاء
بالرأي - كما تدل على ذلك نصوص كثيرة. ففي حديث ميمون بن
مهران: " كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله، فإن
وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب وعلم عن
رسول الله صلى الله عليه وآله في ذلك الأمر سنة قضى بها، فإن أعياه خرج فسأل
المسلمين فقال: أتاني كذا وكذا، فهل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وآله قضى
في ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع إليه النفر كلهم يذكر عن رسول الله صلى الله عليه وآله
فيه قضايا، فيقول أبو بكر: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ علينا
علم نبينا، فإن أعياه أن يجد فيه سنة عن رسول الله صلى الله عليه وآله جمع رؤوس
الناس وخيارهم فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به " (1).
وفي تعاليم عمر لشريح كما يؤثر عنه: " فإن جاءك ما ليس في
كتاب الله ولم يكن فيه سنة رسول الله صلى الله عليه وآله ولم يتكلم فيه أحد
قبلك، فاختر أي الأمرين شئت، وإن شئت أن تجتهد برأيك لتقدم
فتقدم، وإن شئت أن تتأخر فتأخر، ولا أرى التأخر إلا خيرا لك " (2).

(1) الإنصاف في بيان سبب الاختلاف كما عن دائرة المعارف لفريد
وجدي: 3 / 212.
(2) نفس المصدر.
20

وعن ابن مسعود أنه قال: " من عرض له منكم قضاء فليقض
بما في كتاب الله، فإن لم يكن في كتاب الله فليقض بما قضى فيه
نبيه صلى الله عليه وآله، فإن جاء أمر ليس في كتاب الله ولم يقض فيه نبيه ولم
يقض به الصالحون فليجتهد برأيه، فإن لم يحسن فليقم ولا يستحي " (1).
هذا، وكان في الصحابة من يفتي في المسألة بالرأي مع وجود
النص الصريح فيها، ونحيل من أراد التوسع في ذلك إلى كتاب
" النص والاجتهاد " للعلامة السيد عبد الحسين شرف الدين (قده)
فإنه تناول البحث فيه بصورة مفصلة.
نعم كان الاجتهاد في هذا الدور يتمثل في استنباط الحكم من
الكتاب، فإن لم يوجد فيه فمن السنة، وإن لم يوجد في السنة فمن
قول صحابي له فتوى في تلك المسألة - وبالطبع هذا يتصور
بالنسبة إلى التابعين أو صغار الصحابة - فإن لم يكن هناك فتوى
لصحابي في المسألة، كان المفتي يرى رأيه في اعطاء جواب
المسألة.
ومن خصائص هذا الدور تدوين السنة بأمر عمر بن عبد العزيز (2)
وظهور الاختلاف بين الفقهاء في أواخر هذا الدور، الذي انتهى
إلى انقسامهم إلى مدرستين: مدرسة الرأي، ومدرسة الحديث.

(1) تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية: 177 كما عن مقدمة النص
والاجتهاد.
(2) تاريخ التشريع الإسلامي: 111.
21

الدور الثاني: دور الأئمة الأربعة
ويمتد هذا الدور من أوائل القرن الثاني إلى منتصف القرن
الرابع، وكان من ظواهر هذا الدور: اتساع الحضارة ونمو الحركة
العلمية في الأمصار الإسلامية، وازدياد حفاظ القرآن والعناية بأدائه
وتدوين السنة وأصول الفقه، وظهور المصطلحات الفقهية، وظهور
المذاهب الأربعة وغيرها من المذاهب المنقرضة، والنزاع في
مادة الفقه - السنة والاجماع والقياس وغيرها - وانشقاق المدرسة
إلى مدرستي الرأي والحديث.
ونحن نشير إلى الظاهرة الأخيرة، وهي انشقاق المدرسة فقط
لأن التوسع في ذلك يخرجنا عن الغرض من هذه المقدمة.
(ظهور مدرستي الرأي والحديث):
إن من أهم مظاهر هذا الدور: اتساع الشقة بين مدرستي الرأي
والحديث اللتين ظهرتا في أواخر الدور الأول، فتميزت المدرستان
بكل وضوح.
1 - مدرسة الرأي:
وكان مركز هذه المدرسة الكوفة، وأعظم روادها أبو حنيفة.
ولبعد الكوفة عن المدينة - مركز الحديث والسنة - أثر كبير
في ظهور هذه المدرسة، حيث كان الطابع العام لهذه المدرسة
22

التشدد في قبول السنة ورفض كثير منها، والاعتماد على القياس
والاستحسان وأمثالهما.
وصار لهذه المدرسة صدى كبير يومذاك في العالم الإسلامي،
فكان علماء المسلمين بين مؤيدين لها ومخالفين. وممن وقف أمام
هذه المدرسة وزيفها أئمة أهل البيت - عليهم السلام - إذ أنهم
كانوا يرفضون العلم بالرأي والقياس كما سنبينه إن شاء الله تعالى.
2 - مدرسة الحديث:
ومن مظاهر هذه المدرسة الاعتماد على القرآن والسنة فقط
ورفض القياس والاستحسان، ولذلك وقف بعض رواد هذه المدرسة
موقفا عنيفا أمام مدرسة الرأي، فرفضوها رفضا شديدا.
ومن الصعب تحديد موقف هذه المدرسة أمام مدرسة الرأي،
ولكن يبدو أن الإمام، مالك بن أنس أحد أئمة المذاهب الأربعة كان
من المسارعين والدعاة إلى هذه المدرسة (أي مدرسة الحديث)
ثم تم تشييدها بيد داود بن علي الظاهري - إمام المذهب الظاهري -
فكان مالك يهتم بالحديث ولم يعمل بالقياس إلا قليلا، حتى
أنه بكى حين موته وود أنه ضرب في مقابل كل مسألة أفتى
فيها برأيه سوطا! كما ذكر ذلك ابن خلكان في تاريخه (2). وكان
داود بن علي الظاهري يرى العمل بظاهر الكتاب والسنة ويرفض

(1) تاريخ ابن خلكان: 4 / 137.
23

القياس رفضا باتا، لأن في عموم الكتاب والسنة - بحسب رأيه -
ما يفي بجواب كل مشكلة.
وأما باقي الأئمة الأربعة - أي الشافعي وأحمد بن حنبل -
فكانوا حدا وسطا بين هاتين المدرستين، فالشافعي بينما كان يعمل
بالقياس كان يرفض الاستحسان رفضا باتا (1).
وبعد الصراع العنيف الذي كان بين المدرستين كان الفوز
لمدرسة الرأي.
وعلى أي حال كان الاجتهاد في هذا الدور يعتمد على الكتاب
والسنة والقياس والاستحسان والاجماع. وقد اختلفوا في كيفية
الاجماع ومدى حجيته، فإن الشافعي كان يرى أن الاجماع المعتبر
هو اجماع جميع العلماء في البلدان كلها، وأنكر على المالكية
قولهم أن المعتبر هو اجماع أهل المدينة كلهم، وألزمهم بالمخالفات
الكثيرة التي خالفوا فيها الصحابة كأبي بكر وعمر (2).
(المذاهب المنقرضة):
وظهرت في هذا الدور أيضا مذاهب متعددة أخرى قد انقرضت
ولم يبق منها إلا الاسم، وكانت كثيرة، مثل مذهب سفيان الثوري
والحسن البصري والأوزاعي وابن جرير الطبري وغيرهم، ولم

(1) تاريخ التشريع الإسلامي: 148.
(2) تاريخ الفقه الإسلامي: 240، 248 كما عن المبادئ العامة
للفقه الجعفري 265.
24

يبق منها بعد القرن الرابع إلا مذهب داود بن علي الظاهري حيث
بقي حتى القرن الثامن (1).
الدور الثالث: دور التقليد
وهو دور حصر الاجتهاد والدعوة إلى التقليد، ولا يمكننا تعيين
بداية هذا الدور على التحديد، وذلك أن المحاولات لتحديد دائرة
الاجتهاد كانت كثيرة وفي أزمنة مختلفة، فكانت هذه المحاولات في
فترة بين الرابع والسابع الهجري، حتى تم ذلك - كما عن خطط
المقريزي - في سنة 665 على يد " بيبرس البندقداري " حيث ولى
مصر أربعة قضاة: شافعي، ومالكي، وحنفي، وحنبلي. فاستمر
ذلك حتى لم يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يعرف من
مذاهب الإسلام سوى هذه الأربعة، وعودي من تمذهب بغيرها (2).
وفيما بين القرنين الخامس والسادس لم يدع أحد الاجتهاد
بمعناه الكامل، وإنما وجد فقهاء ذوو اقتدار على الاستنباط في حدود
مذاهبهم، ومن أواخر القرن السابع لم يوجد غير فقهاء ذوي
فتاوى وترجيحات، وبذلك ضاقت مجالات الاجتهاد حتى ذهب
الظن ببعض الناس إلى أن باب الاجتهاد قد أغلق (3).

(1) أدوار فقه للأستاذ محمود شهابي 3 / 654 (فارسي).
(2) الخطط المقريزية 2 / 44 3.
(3) الاجتهاد والتجديد في التشريع الإسلامي: 258، بتصرف.
25

وتوقف الفقهاء في هذا الدور عن كل حركة علمية، وأعرضوا
عن النظر في الكتاب والسنة، ولبثوا يجترون بعض الكتب الفقهية
القديمة، ولم يجدوا في شئ منها وأغرموا بجدل لا يجدي نفعا،
وخلافات سطحية حول هذه الجملة أو تلك، وانكبوا يعلقون على
هذا الرأي أو ذاك، أو يشرحون هذا المتن أو يحشون هذا الشرح
أو يعلقون على هذه الحاشية أو يذيلون هذا التعليق، وهكذا أفرغوا
جهدهم في مماحكات لفظية وأفنوا كثيرا من وقتهم في خصومات
صاخبة لم تعد على الإسلام والمسلمين بأية فائدة (1).
الدور الرابع: فتح باب الاجتهاد من جديد
وهو دور الدعوة إلى انفتاح باب الاجتهاد من جديد، وفي
الواقع لا ينبغي أن نجعل هذا الدور دورا خاصا، لأن هناك من كان
يدعو إلى فتح باب الاجتهاد والاعتراض على سده منذ القرون التي
أعلن فيها انسداد بابه حتى يومنا هذا، أمثال أبي الفتح الشهرستاني
المتوفى سنة 548 (2)، وأبي إسحاق الشاطبي المتوفى سنة 790 (3)
والسيوطي المتوفى سنة 911، وقد ألف السيوطي رسالة سماها
" الرد على من أخلد إلى الأرض، وجهل أن الاجتهاد في كل عصر
فرض "، وقدم لهذه الرسالة بقوله: " إن الناس قد غلب عليهم

(1) الاجتهاد والتجديد في التشريع الإسلامي: 259.
(2 - 3) المصدر السابق: 74.
26

الجهل، وأعماهم حب العناد وأصمهم، فاستعظموا دعوى الاجتهاد
وعدوه منكرا بين العباد، ولم يشعر هؤلاء الجهلة أنه فرض من
فروض الكفايات في كل عصر، وواجب على أهل كل زمان، أن
يقوم به طائفة في كل قطر " (1).
وقال الشوكاني: " ومن حصر فضل الله على بعض خلقه وقصر
فهم هذه الشريعة على من تقدم عصره، فقد تجرأ على الله عز وجل
ثم على شريعته الموضوعة لكل عباده، ثم على عباده الذين تعبدهم
الله بالكتاب والسنة " (2).
وقال أبو محمد البغوي: " وفرض الكفاية هو: أن يتعلم ما يبلغ
رتبة الاجتهاد ومحل الفتوى والقضاء ويخرج من عداد المقلدين،
فعلى كافة الناس القيام بتعلمه، غير أنه إذا قام من كل ناحية واحد
أو اثنان سقط الفرض عن الباقين، فإذا قعد الكل عن تعلمه عصوا
جميعا، لما فيه من تعطيل أحكام الشرع، قال الله تعالى: " فلولا
نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا
رجعوا إليهم لعلهم يحذرون " (3).
إلى غير هؤلاء من العلماء الكبار الذين كانوا يدعون إلى فتح
باب الاجتهاد، ويقفون أمام غلقه.
واستمر هذا الصمود أمام غلق باب الاجتهاد إلى القرون المتأخرة

(1 - 2) الاجتهاد والتجديد في التشريع الإسلامي: 94.
(3) المصدر السابق: 95، والآية في سورة التوبة: 122.
27

حيث ظهر في العلماء من يدعو إلى فتح بابه من جديد، أمثال السيد
جمال الدين الأسد آبادي (المشهور بالأفغاني) الذي كان يقول:
" ما معنى باب الاجتهاد مسدود؟ وبأي نص سد؟ وأي إمام قال: لا يصح
لمن جاء بعدي أن يجتهد ليتفقه في الدين ويهتدي بهدي القرآن
وصحيح الحديث والاستنتاج بالقياس على ما ينطبق على العلوم
العصرية وحاجات الزمن وأحكامه " (1).
ومثل الشيخ محمد عبده حيث يقول: " إن الحياة الإنسانية
للمجتمع الانساني حياة متطورة، ويجد فيها من الأحداث والمعاملات
اليوم ما لم تعرفه أمس هذه الجماعة، والاجتهاد هو الوسيلة المشروعة
الملائمة بين أحداث الحياة المتجددة وتعاليم الإسلام، ولو وقف
الأمر بتعاليم الإسلام عند تقفه الأئمة السابقين لسارت الحياة الإنسانية
في الجماعة الإسلامية في عزلة عن التوجيه الإسلامي، وبقيت أحداث
هذه الحياة في بعد عن تجديد الإسلام إياها. وهذا الوضع يحرج
المسلمين في إسلامهم " (2).
ومثلهما محمد رشيد رضا حيث يقول: " لا اصلاح إلا بدعوة،
ولا دعوة إلا بحجة، ولا حجة مع بقاء التقليد. فاغلاق باب التقليد
الأعمى وفتح باب النظر والاستدلال هو مبدأ كل اصلاح، والتقليد
هو الحجاب الأعظم دون العلم والفهم " (3).

(1) الاجتهاد والتجديد في التشريع الإسلامي: 356.
(2) المصدر السابق: 377.
(3) المصدر السابق: 390.
28

وهكذا سارت النهضة ضد اغلاق باب الاجتهاد والدعوة إلى
فتحه من جديد، بيد الأعلام والمفكرين من علماء إخواننا السنة،
فنرجو أن تصل هذه النهضة إلى هدفها المنشود.
29

الاجتهاد في مدرسة أهل البيت
(عليهم السلام)
وبعد أن استعرضنا الاجتهاد في المدرسة السنية، حان لنا أن
نستعرض الاجتهاد في مدرسة أهل البيت عليهم السلام، فنقول:
كان المسلمون في راحة في حياة الرسول صلى الله عليه وآله من جهة
التمكن من الوصول إلى الأحكام الشرعية، وذلك لعاملين أساسيين وهما:
1 - وجود الرسول صلى الله عليه وآله بينهم، وهو مصدر التشريع بعد الله
تعالى فكلما واجهتهم مشكلة سارعوا إليه لحلها.
2 - عدم اتساع الدولة الإسلامية وعدم مواجهة المسلمين للمشكلات الكثيرة كما حدث بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله.
ولذلك منذ أن ارتحل الرسول صلى الله عليه وآله وواجه المسلمون مشاكل
30

كثيرة لاتساع الدولة الإسلامية، احتاجوا إلى الفحص عن أحكام
المشاكل الجديدة وحلها.
القرآن والعترة:
ولكن الرسول صلى الله عليه وآله العالم بما ستواجه به الأمة من بعده
جعل مصدرين مهمين يلجأ إليهما المسلمون لحل مشاكلهم، وقد
صرح بذلك في طول حياته أكثر من مرة، حيث قال: " إني مخلف
فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي لن تضلوا ما تمسكتم بهما
وأنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض " (1) فحرض المسلمين
باتباع هذين الثقلين وجعلهما في عرض واحد.
وبذلك أشار إلى أن القرآن - وإن كان هو المصدر الوحيد
والأصيل للتشريع - لكنه يحتاج إلى مفسر، فجعل عترته الطاهرة وهم
الذين تربوا في حجره وفي بيته الذي نزل فيه القرآن، مفسرين له.
وبعد أن واجه المسلمون قضية الخلافة حصل الانشقاق بينهم،
فصاروا فريقين: فريق اتبعوا قول الرسول صلى الله عليه وآله فتمسكوا بالكتاب
والعترة، وفريق رفضوا العترة وقالوا " حسبنا كتاب الله " (2) وسمي

(1) حديث الثقلين حديث مستفيض بل متواتر المعنى عن الرسول صلى الله عليه وآله
تناقله المحدثون وأصحاب الصحاح والمسانيد والمعاجم والتواريخ والسير
وسنأتي على ذكر بعض مصادره عند ذكر صاحب الكتاب له.
(2) هذا ما قاله عمر بن الخطاب عند مرض الرسول صلى الله عليه وآله الذي توفي
فيه حينما قال " هلم أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده ". وهذه قضية مشهورة *
31

الفريق الأول بالشيعة لأنهم شايعوا أهل البيت، والثاني بالسنة، وكان
لهذا الانشقاق أثر كبير في كيفية التفكير، وحل المشكلات.
ونحن حينما نبحث عن الاجتهاد وأدواره عند الشيعة نقصد

* تناقلها المؤرخون وأصحاب الصحاح والمسانيد. فراجع على سبيل المثال:
صحيح البخاري، باب قول المريض " قوموا عني " من كتاب المرضى أو
الطب، وباب مرض النبي صلى الله عليه وآله، وباب العلم، وراجع صحيح مسلم في
آخر الوصايا، ومسند أحمد بن حنبل من حديث ابن عباس.
وإليك بعض ما أخرجه البخاري بسنده إلى عبيد الله بن عبد الله بن مسعود
عن ابن عباس قال: لما حضر رسول الله صلى الله عليه وآله وفي البيت رجال فيهم عمر
ابن الخطاب قال النبي صلى الله عليه وآله: هلم أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده. فقال
عمر: إن النبي قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله
فاختلف أهل البيت فاختصموا، منهم من يقول قربوا يكتب لكم النبي
كتابا لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغو
والاختلاف عند النبي قال لهم صلى الله عليه وآله: قوموا - قال عبيد الله - فكان ابن عباس
يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم
ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم ".
وفي بعض الروايات توجد عبارة " إن الرجل ليهجر " بدل عبارة
" قد غلب عليه الوجع ".
ونص هذا الحديث - كما قلنا - في كتاب الطب أو المرضى باب
قول المريض " قوموا عني ".
32

الاجتهاد عند الشيعة لا أئمتهم، لأنهم عليهم السلام كانوا امتدادا
للنبوة، فكانت الأحكام الشرعية كلها مكشوفة لديهم وهم عالمون بها
من دون اجتهاد، وهذا ما تقتضيه الإمامة، والبحث عن ذلك
موكول إلى محله في بحث علم الإمام.
الأدوار التي مر بها الاجتهاد في مدرسة أهل البيت " ع ":
والأدوار التي مر بها الاجتهاد الشيعي حتى عصر الغيبة يمكن
تحديدها على نحو التقريب في ثلاثة أدوار هي:
1 - من بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله إلى بداية حياة الصادقين
عليهما السلام.
2 - من بداية حياة الإمامين الصادقين (ع) حتى نهاية الغيبة
الصغرى.
3 - من بداية الغيبة الكبرى حتى يومنا هذا.
وتركنا الأدوار التي مر بها الاجتهاد بعد الغيبة الكبرى على
التفصيل لعدم سعة المقدمة لذلك.
الدور الأول:
ويبتدئ هذا الدور من زمن وفاة الرسول صلى الله عليه وآله حتى انتهاء
القرن الأول. وتشمل هذه الفترة حياة أئمة أربعة من أئمتنا، وهم
علي بن أبي طالب والحسن والحسين وعلي بن الحسين عليهم
السلام
33

(مصادر الشريع):
وكان مصدر التشريع عند الشيعة آنذاك الكتاب والسنة، ويعنون
بالسنة قول النبي صلى الله عليه وآله أو الإمام (ع) أو فعلهما أو تقريرهما.
أما القياس والرأي فقد رفضه الشيعة رفضا باتا، وقد روي عن
علي (ع) أنه قال: " لو كان الدين يؤخذ قياسا لكان باطن الخف
أولى بالمسح من ظاهره " (1).
وأما الاجماع - مهما فسرناه - لم يكن مصدرا للتشريع لدى
الشيعة، لأنه لا يفيد إلا الظن " وإن الظن لا يغني عن الحق شيئا ".
نعم صار مصدرا عندهم حينما اعتبر كاشفا عن رأي المعصوم (ع)،
بمعنى أنه لو اتفق العلماء على رأي وانكشف منه أن ذلك الرأي
مطابق لرأي الإمام (ع) فهو صواب يجب الأخذ به.
وللعلماء مناقشات كثيرة حول الاجماع، فمن أراد المزيد من
الاطلاع عليها فليرجع إلى مضانها.
وعلى أي حال كان الاجتهاد عند الشيعة آنذاك هو الأخذ بظواهر
الكتاب والسنة، ولم يتسع ذلك الاتساع بحيث تدون قوانين
وأصول يعتمد عليها في استنباط الحكم، بل كانوا يرجعون فيما
يحدث لهم من المشاكل إلى الأئمة عليهم السلام.
هذا، وقد كان للأئمة عليهم السلام دور هام في بيان الأحكام في
هذه المرحلة، ولا سيما الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، حيث

(1) عدة الأصول: 274.
34

كان الصحابة يرجعون إليه في كل مشكلة تواجههم ولم يصلوا إلى
حل لها.
ومن وقف على قضاياه يرى أنه عليه السلام لم يعمل بالقياس
ولم ير للاجماع - بالمعنى المشهور في عصره - أية قيمة، بل كانت
أقواله تستند إلى الكتاب الذي تفقهه في حجر النبي صلى الله عليه وآله والسنة
التي اقتبسها هو منه.
الدور الثاني:
ويبتدئ هذا الدور من أوائل القرن الثاني حتى أواخر القرن
الثالث، أي من بداية أمامة الإمام محمد بن علي الباقر (ع) حتى
نهاية الغيبة الصغرى.
الوضع السياسي:
ومن خصائص هذا الدور فسح المجال - في بدايته - لأئمة
الشيعة كي يمارسوا أعمالهم العلمية، وذلك لأن الفترة التي عاش
فيها الإمامان محمد بن علي الباقر وولده جعفر بن محمد الصادق
عليهما السلام كانت فترة انتقال الحكم من الأمويين إلى العباسيين،
ولذلك كان الخلفاء مشغولين عن أهل البيت عليهم السلام بالحروب
الداخلية، فانصرفوا عنهم نوعا ما، فاغتنم الإمامان الصادقان عليهما
35

السلام هذه الفرصة وبدأوا في ايجاد حلقات للدرس انضم إليها
الكثيرون.
ولكن سرعان ما واجهت هذه المدرسة الضغط السياسي الشديد
بعد انتقال الحكم إلى العباسيين، فزجوا أئمة الشيعة في السجون
والمعتقلات، وفقدوا بذلك الفرصة المناسبة لبث علومهم.
مصادر التشريع في هذا الدور:
ومصادر التشريع في هذا الدور تتمثل أيضا في الكتاب والسنة
بالمعنى الذي ذكرناه مسبقا.
وأما الاجماع فلم تكن له قيمة علمية لدى الشيعة - كما ذكرناه.
وأما القياس والاستحسان فكذلك، وكانت للأئمة مواقف حاسمة
ضد القياس والاستحسان.
موقف الإمام الصادق عليه السلام من القياس:
وكان الإمام الصادق عليه السلام من المنكرين على القياس
والناهين عن العمل به.
يحدثنا أبو نعيم أن أبا حنيفة وعبد الله بن شبرمة وابن أبي ليلى،
دخلوا على جعفر بن محمد الصادق (ع) فقال لابن أبي ليلى:
من هذا الذي معك؟
قال: هذا رجل له بصر ونفاذ في أمر الدين.
36

قال: لعله يقيس أمر الدين برأيه؟.
قال: نعم.
فقال [الإمام] جعفر لأبي حنيفة: ما اسمك؟:
قال: نعمان.
قال: يا نعمان هل قست رأسك؟
قال: كيف أقيس رأسي؟
قال: ما أراك تحسن شيئا.
ثم جعل يوجه إليه أسئلة، فكان جواب أبي حنيفة عدم الجواب
عنها! فأجابه الإمام (ع) عنها.. ثم قال: يا نعمان حدثني أبي
عن جدي أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: " أول من قاس أمر الدين برأيه
إبليس، قال الله تعالى له: " اسجد لآدم، فقال: أنا خير منه خلقتني
من نار وخلقته من طين " فمن قاس الدين برأيه قرنه الله تعالى يوم
القيامة بإبليس لأنه اتبعه بالقياس "!
قال ابن شبرمة: ثم قال جعفر: أيهما أعظم قتل النفس أو الزنا؟
قال أبو حنيفة: قتل النفس.
قال الصادق (ع): فإن الله عز وجل قبل في قتل النفس شاهدين
ولم يقبل في الزنا إلا أربعة.
ثم قال: أيهما أعظم الصلاة أم الصوم؟
قال أبو حنيفة: الصلاة.
قال الصادق (ع): فما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي
37

الصلاة؟! فكيف ويحك يقوم لك قياسك؟! اتق الله ولا تقس
الدين برأيك " (1).
وقال عليه السلام لأبي حنيفة مرة أخرى: " اتق الله ولا تقس،
فإنا نقف غدا بين يدي الله تعالى فنقول: قال الله، وقال رسوله،
وتقول أنت وأصحابك: سمعنا ورأينا " (2).
وعن أبان بن تغلب (3) قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام:
ما تقول في رجل قطع إصبعا من أصابع المرأة كم فيها؟ قال:
عشرة من الإبل.
قلت قطع اثنين؟
قال عشرون.
قلت: قطع ثلاثا؟
قال: ثلاثون.
قلت قطع أربعا؟
قال عشرون.
قلت: سبحان الله يقطع ثلاثا فيكون عليه ثلاثون، ويقطع
أربعا ويكون عليه عشرون؟! إن هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنبرأ
ممن قال ونقول: الذي جاء به شيطان. فقال: مهلا يا أبان، هذا

(1) حلية الأولياء 3 / 196.
(2) ابطال القياس لابن حزم: 71.
(3) أبان بن تغلب من كبار أصحاب الأئمة عليهم السلام، قال عنه
38

حكم رسول الله صلى الله عليه وآله، إن المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الدية،
فإذا بلغت الثلث رجعت إلى النصف، يا أبان إنك أخذتني بالقياس،
وإن السنة إذا قيست محق الدين " (1).
إلى غير ذلك من القضايا الكثيرة التي تدل على رفض القياس
لدى أئمة الشيعة. وهكذا استمرت معارضة القياس حتى أصبح

النجاشي في ترجمته إياه: " أبان بن تغلب بن رياح أبو سعيد البكري..
عظيم المنزلة في أصحابنا، لقي علي بن الحسين وأبا جعفر وأبا عبد الله
عليهم السلام، روى عنهم وكانت له عندهم منزلة وقدم، وذكره البلاذري
قال: روى أبان عن عطية العوفي، وقال له أبو جعفر عليه السلام: اجلس
في مسجد المدينة وافت الناس، فإني أحب أن يرى في شيعتي مثلك.
وقال أبو عبد الله عليه السلام لما أتاه نعيه: أم والله لقد أوجع قلبي موت
أبان. وكان قارئا من وجوه القراء، فقيها لغويا، سمع من العرب وحكى
عنهم.. " (رجال النجاشي بترجمة أبان بن تغلب).
وترجمه الذهبي في ميزانه فقال: أبان بن تغلب الكوفي جلد لكنه
صدوق، فلنا صدقه وعليه بدعته. (قال): وثقه أحمد وابن معين وأبو حاتم.
وعده الذهبي ممن احتج بهم مسلم وأصحاب السنن الأربعة أبو داود
والترمذي والنسائي وابن ماجة.
توفي رحمه الله سنة إحدى وأربعين ومائة (141 ه‍).
راجع المراجعات: 70.
(1) وسائل الشيعة: 19 / 268 باب 44 من أبواب الديات.
39

انكاره من ضروريات مذهب أهل البيت - عليهم السلام - ولهم
أدلتهم على ذلك ليس هنا محل ذكرها.
وعلى أي حال لو قطعنا النظر عن القياس والاستحسان وأمثالهما
كانت عملية استنباط الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة - بالمعنى
الذي ذكرناه - أمرا رائجا بين الشيعة، خاصة الذين تربوا في
مدرسة الإمامين الصادقين عليهما السلام أمثال زرارة بن أعين.
ومحمد بن مسلم، وأبان بن تغلب، وغيرهم من خريجي هذه
المدرسة.
حتى أن الأئمة عليهم السلام كانوا يأمرون بعض أصحابهم
باستنباط الأحكام وافتاء الناس، كما أمر الإمام الباقر عليه السلام أبان
ابن تغلب أن يجلس في مسجد الرسول صلى الله عليه وآله ويفتي الناس حيث
قال له: " اجلس في مسجد المدينة وافت الناس فإني أحب أن
يرى في شيعتي مثلك " (1).
أو كما قال الإمام الصادق عليه السلام لسائل سأله عن المسح
على مرارة وضعها على ظفره المقطوع: " يعرف هذا وأشباهه من
كتاب الله عز وجل، قال الله تعالى: " ما جعل عليكم في الدين من
حرج " أمسح عليه " (2).

(1) رجال النجاشي في ترجمة أبان بن تغلب: 7.
(2) وسائل الشيعة: 1 / 327.
40

وهكذا نرى كيف يعلم الإمام عليه السلام هذا السائل كيفية
استنباط الحكم الشرعي من الكتاب. والموارد من هذا القبيل كثيرة
حيث كان علماء الشيعة يستندون في استنباط الأحكام الشرعية على
كتاب الله وسنة نبيه التي تصل إليهم بواسطة الأئمة عليهم السلام.
هذا، وقد ضمت مدرسة الإمام الصادق عليه السلام حوالي
أربعة آلاف من حملة العلم، وقد ألف أربعمائة منهم أصولا يعتمد
عليها في الفقه الجعفري تسمى ب‍ " الأصول الأربعمائة " جمعت
في أربع موسوعات روائية هي " الكافي " للشيخ أبي جعفر محمد
ابن يعقوب الكليني المتوفى سنة 329 و " من لا يحضره الفقيه "
للشيخ الصدوق أبي جعفر محمد بن علي القمي المتوفى سنة 381،
وكتابا " التهذيب " و " الاستبصار " لشيخ الطائفة أبي جعفر محمد
ابن الحسن الطوسي المتوفى سنة 460.
وضع القواعد العامة للفقه:
وفي هذا الدور وضعت نواة القواعد العامة للفقه الجعفري،
ونقلت إلينا بشكل روايات، ثم وضعت على طاولة البحث العلمي،
فكانت نتيجة ذلك بروز القواعد الأصولية والفقهية التي يعتمد عليها
الاجتهاد حتى اليوم من: الاستصحاب، والبراءة الشرعية، وقاعدة
اليد، وترجيح الروايات المتعارضة، والعمل بالخبر الواحد،
وأمثال ذلك. وهذه كلها لها أهميتها الخاصة التي تميز المذهب عن
41

غيره، وتجعله غنيا يماشي احتياجات كل عصر من دون تحريف.
ولو قارنا مذهب أهل البيت عليهم السلام مع غيره من المذاهب
لرأينا فرقا كبيرا من جهة توفر القواعد الفقهية والأصولية فيه وعدم
توفرها في غيره.
الدور الثالث:
ويبتدئ هذا الدور من انتهاء الغيبة الصغرى، ولا يمكننا تحديد
نهاية هذا الدور الآن، إذ لسنا في صدد التوسع فيه، لأن ذلك يستلزم
ذكر الأدوار الأخرى التي مر بها الاجتهاد.
خصائص هذا الدور:
ومن خصائص هذا الدور انتقال الزعامة من الأئمة إلى العلماء
والفقهاء بأمر من الإمام المنتظر (عج) عند بداية الغيبة الكبرى،
كما يدل على ذلك التوقيع المشهور:
" وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم
حجتي عليكم وأنا حجة الله " (1).
فكان العلماء هم المرجع الوحيد لحل المشاكل التي كانت
تواجه الشيعة منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا.

(1) وسائل الشيعة: 18 / 101.
42

أصول الاجتهاد:
وكان الاجتهاد في هذا الدور يعتمد على الكتاب أولا والسنة
- بالمعنى الذي ذكرناه - ثانيا. أما القياس فقد قلنا إنه كان مرفوضا
لدى الشيعة وحتى اليوم، وأما الاجماع فقد كان مقبولا بالمعنى
الذي ذكرناه.
ومما كان دخيلا في عملية الاستنباط هي القواعد التي مهدها
الأئمة عليهم السلام في الدور الثاني، فكانت هذه القواعد مبثوثة
في الكتب الفقهية أو الروائية وتذكر حسب الحاجة إليها، ولكن
سرعان ما التفت إلى ضرورة استخراجها بشكل منفصل، فقد ألف
السيد المرتضى (قده) المتوفى سنة 436 كتابه " الذريعة إلى أصول
الشريعة " حيث بحث فيه عن أمهات القواعد الأصولية.
ومما تجدر الإشارة إليه هو: أن الكتب الفقهية كانت على شكل
كتب روائية، ثم أخذت تتسع شيئا فشيئا فظهرت بشكل كتب فقهية
مبوبة واستدلالية مبتنية على القواعد العامة، وممن كان لهم الأثر
الكبير في هذه المحاولة: الشيخ محمد بن محمد بن النعمان المفيد
المتوفى سنة 413 وتلميذه الشريف " السيد المرتضى علم الهدى "
المتوفى سنة 436، وكان أكثرهم جهدا في هذه العملية شيخ الطائفة
" محمد بن الحسن الطوسي " المتوفى سنة 460، فقد ألف عدة
كتب فقهية وروائية وأصولية منها " الخلاف " و " النهاية " و " المبسوط "
43

في الفقه، و " التهذيب " و " الاستبصار " في الحديث، و " العدة "
في الأصول.
ويشير هو إلى هذا التحول العظيم في الفقه في مقدمة كتابه
المبسوط فيقول: " أما بعد فإني لا أزال أسمع معاشر مخالفينا من
المتفقهة والمنتسبين إلى علم الفروع يستحقرون فقه أصحابنا الإمامية
ويستنزرونه، وينسبونهم إلى قلة الفروع وقلة المسائل، ويقولون:
إنهم أهل حشو ومناقضة، وإن من ينفي " القياس " و " الاجتهاد " (1)
لا طريق له إلى كثرة المسائل، ولا التفريع على " الأصول "، لأن
جل ذلك وجمهوره مأخوذ من هذين الطريقين، وهذا جهل منهم
بمذاهبنا وقلة تأمل " لأصولنا "، ولو نظروا في أخبارنا وفقهنا لعلموا
أن جل ما ذكروه من المسائل موجود في أخبارنا.. ".
ثم يقول بعد ذلك: " وأما ما كثروا به كتبهم من مسائل الفروع
فلا فرع من ذلك إلا وله مدخل في أصولنا ومخرج على مذاهبنا،
لا على وجه القياس بل على طريقة توجب علما يجب العمل عليها
ويسوغ الوصول إليها، من البناء على الأصل، وبراءة الذمة، وغير
ذلك.. ".
ثم يقول بعد ذلك: " وكنت على قديم الوقت وحديثه متشوق
النفس إلى عمل كتاب يشتمل على ذلك، تتوق إليه نفسي فتقطعني
عن ذلك القواطع وتشغلني الشواغل، وتضعف نيتي أيضا فيه قلة

(1) مقصوده من الاجتهاد هنا هو معناه الخاص الذي يرادف الرأي.
44

رغبة هذه الطائفة فيه، وترك عنايتهم به، لأنهم ألفوا الأخبار وما رووه
من صريح الألفاظ، حتى أن مسألة لو غير لفظها وعبر عن معناها
بغير اللفظ المعتاد لهم لعجبوا منها وقصر فهمهم عنها.. " (1).
ومن خلال هذا النص نرى كيف تحول الفقه والاجتهاد - في
هذا الدور - من الاقتصار على الروايات إلى تفريع الفروع على
الأصول بصورة موسعة.
موقف الاجتهاد من العقل:
قلنا: إن الشيعة رفضوا القياس والرأي، ولكن لا بد أن نرى
هل أنهم رفضوا تدخل العقل، ومدركاته كليا في عملية الاستنباط
أو تقبلوه في حدود معينة؟! ولأجل توضيح ذلك نقول:
إن المدركات العقلية على نحوين:
الأول - المدركات العقلية الكاملة: وهي التي لا تحتمل الخطأ،
كحكمنا بأن اجتماع النقيضين محال وأن المعدن يتمدد بالحرارة
وأمثال ذلك، سواء كانت هذه المدركات بديهية أم ثابتة بالتجربة.
الثاني - المدركات العقلية الناقصة: وهي التي يحتمل فيها
الخطأ، كحكمنا بأن الشئ الفلاني الذي يشبه الشئ المحرم
في بعض الخصائص حرام أيضا. فهذا وأمثاله أحكام عقلية غير قطعية
بل يحتمل فيها الخطأ.

(1) المبسوط 1 / 1.
45

إذا علمنا ذلك فنقول: إن المذهب الإمامي (الجعفري) لم
يرفض الأحكام العقلية كليا بل يرفض الأحكام العقلية الناقصة فقط التي
لم يقم عليها دليل قطعي، ولذلك أنكروا القياس والاستحسان،
والشاهد على ذلك: أنهم حينما خاضوا المعركة التي أثيرت بين
المعتزلة والأشاعرة في التحسين والتقبيح العقليين صاروا بجنب
المعتزلة، وأكدوا على وجود الحسن والقبح العقليين، وإن هناك
حقائق يعتبرها العقل حسنة وحقائق أخرى يعتبرها قبيحة.
وهذا الجانب هو الجانب المهم في الاجتهاد الشيعي، حيث
جعله مرنا يساير الزمن من دون تحريف أو تشريع أحكام جدد لا تستند
إلى أساس شرعي، ولذلك اعتبر العقل لدى الشيعة أحد أسس
الاجتهاد.
الموجة الأخبارية:
وفي أبان القرن الحادي عشر للهجرة ظهرت محاولة جديدة
لمنع تدخل العقل في استنباط الأحكام الشرعية، وكان الداعي لهذه
المحاولة " الميرزا محمد أمين الاسترآبادي " الذي كان يعيش برهة
من الزمن في مدينة الرسول صلى الله عليه وآله، فألف فيها كتابه " الفوائد المدنية "
وفيها حمل حملة شعواء على من استعمل العقل في استنباط الأحكام
الشرعية، فهو وإن كان يصر على أن الوسيلة الوحيدة لفهم الأحكام
الشرعية هي السنة فقط، لأن الكتاب الكريم لم يفهمه إلا من خوطب
46

به، وهم الأئمة عليهم السلام فلا مجال لأن ندرك منه شيئا، والاجماع
باطل لأنه من مبتدعات العامة، لكنه بذل جهده في الحد عن تدخل
العقل أكثر من غيره.
وكانت نظريته تعتمد على أن الفقهاء اتبعوا أهل القياس والاجتهاد
والمتكلمين والفلاسفة والمنطقيين في الاستناد على العقل، فلو ثبت
أن العقل يخطئ فيما عدا المسائل التي تعتمد على الحس أو الشبيهة
بالحس كالرياضيات، لما اعتمد الفقهاء على الاجتهاد والعقل بعد ذلك.
ومن العلماء الذين نهجوا هذا المنهج تقريبا: المحدث الجليل
" السيد نعمة الله الجزائري " صاحب المؤلفات الكثيرة، " والشيخ
يوسف البحراني " صاحب الموسوعة الفقهية الكبيرة " الحدائق
الناضرة " فكانت له طريقة معتدلة ولم يكن بتلك الحدة التي كان
عليها الاسترآبادي، ومع ذلك كان من الفقهاء المبرزين الذين
تفتخر بهم الشيعة مع ما كان يتصف به من الورع والتقوى، ومثلهما
المحدث المتبحر " ملا محسن الفيض الكاشاني " ذلك العالم
الفاضل، ومثلهم المحدث الكبير " الشيخ محمد بن الحسن الحر
العاملي " صاحب الموسوعة الروائية الكبيرة " وسائل الشيعة إلى
تحصيل مسائل الشريعة " حيث جمع الموسوعات الروائية المتقدم
ذكرها وهي: " التهذيب " و " الاستبصار " و " الكافي " و " من
لا يحضره الفقيه " وغيرها في هذه الموسوعة.
وكل هؤلاء من علماء الشيعة ومفاخرهم لكنهم نهجوا في الفقه
47

ذلك المنهج، وطبعا أن هؤلاء كما قلنا لم يكونوا في تلك الشدة
التي كان عليها " المحدث الاسترآبادي " بل كانوا أقل وطأة منه.
وعلى أي حال استمرت هذه الفكرة حتى القرن الثالث عشر
فوصلت إلى ذروتها، ولكنها أخذت تنهار بعد أن وقف أمامها العالم
الكبير " المولى محمد باقر البهبهاني " المتوفى سنة 1208، ومن
بعده " الشيخ مرتضى الأنصاري " باني الأصول الجديدة المتوفى
سنة 1281.
وأما لماذا وجدت هذه الموجة، فذلك أمر يحتاج إلى الدقة،
فالذي يدعيه هؤلاء هو: أن الروايات الواردة عن الأئمة بكثرة
بحيث يستغني معها الفقيه عن العقل، كما كان الفقهاء يكتفون بها
في أبان الغيبة الكبرى.
ويرى بعض المفكرين أن للموجة الأخبارية ارتباطا طبيعيا مع
الموجة الحسية التي ظهرت في أوروبا في ذلك الحين.
يقول الأستاذ الشهيد الشيخ مرتضى المطهري (قده): (1)

(1) الشهيد المطهري هو من الكتاب والمفكرين الإسلاميين المبرزين،
أغتيل بيد أحد أعضاء، فرقة " فرقان " الضالة التي مزجت الماركسية بالإسلام
وفسرت الإسلام تفسيرا ماركسيا، وقد سبق أن انتقد هذا الأستاذ الشهيد
هذه الفكرة في عدد من كتاباته خاصة في مقدمة الطبعة الثامنة لكتابه " علل
گرايش به ماديگري " وكان لاستشهاده أثر بالغ في المجتمع الإسلامي
خاصة في المجتمعات العلمية، له كتب كثيرة وأبرزها شرحه على كتاب *
روش رئاليسم " في الفلسفة للأستاذ آية الله الطباطبائي صاحب تفسير
" الميزان ". وقد اغتيل في أبان نجاح الثورة الإسلامية في إيران عام 1358
هجرية شمسية.
وأما " السيد البروجردي " فهو من كبار علماء الشيعة ومراجعهم، كان
في مدينة قم المقدسة وتوفي بها.
48

" حضرت في صيف عام 1322 هجرية شمسية لدى المرجع
الديني الفقيه آية الله " السيد البروجردي " عندما كان في " بروجرد "
فبينما كان ينتقد يوما الموجة الأخبارية قال: إن هذه الفكرة كانت
من آثار الموجة الحسية التي ظهرت في أوربا.
ثم أضاف السيد يقول: " إن الأخباريين لم يفكروا بأن الذين
اتبعوا الموجة الحسية في أوربا كانوا ينكرون ما وراء المحسوسات
فكيف يمكن للأخباريين - الذين يعتقدون بما وراء الحس - أن
ينكروا بذلك؟!
يقول الأستاذ: كنت أنتظر أن يذكر السيد - عندما وصل بحثنا
في الأصول إلى مبحث حجية القطع والعلم - مصدرا لهذه النظرية
ولكنه لم يتعرض لها آنذاك ولا أعلم أن ما قاله هل كان مستندا لي
مصدر أم كان حدسا لا غير، وأني الآن آسف على عدم سؤالي منه
عن مصدر ما قاله " (1).
وممن مال إلى قبول هذا الرأي هو الشهيد " السيد محمد باقر

(1) مكتب تشيع، السنة الثالثة 377 مجلة فارسية تصدر من قم.
49

الصدر " (1) طاب ثراه في كتابه المعالم الجديدة.
هذا، ولكن لا يمكن الاطمئنان إلى هذه الفكرة، وذلك لأن
الموجة الحسية ظهرت بشكل مدرسة على يد " جون لوك " المتوفى
سنة 1704 م و " دافيد هيوم " المتوفى سنة 1776 م وقد توفى " المحدث
الاسترآبادي " عام " 1023 هجرية المصادف حدود سنة 1616 م،
فكيف يكون قد تأثر الاسترآبادي بهذه المدرسة
نعم يعتبر معاصرا ل‍ " فرنسيس بيكون " المتوفى سنة 1626 م
الذي مهد للمدرسة الحسية طريقها، ولكن من البعيد جدا أن تنتقل
هذه الفكرة من " أوربا " إلى الشرق وخاصة إلى " الجزيرة العربية "
و " المدينة المنورة " ويتأثر بها هذا الشخص، في فترة قليلة.
والذي يبدو لي هو: أن كلمة " الاجتهاد " لما كانت تحمل
معنيين معنى خاصا ومعنى عاما، فالخاص " هو العمل بالقياس والرأي "
والعام هو " مطلق عملية استنباط الأحكام الشرعية " ولم يتميز هذان
المعنيان إلى مدة من الزمن، كانت هذه الكلمة تحمل في طياتها
المعنى الخاص، ولذلك اتهم " الاسترآبادي " الفقهاء بأنهم اتبعوا
أهل القياس والرأي، فدعى إلى رفضه والعمل بالأحاديث، فكان

(1) وهو من علماء الشيعة وفقهائهم ومفكريهم درس ودرس في النجف
الأشرف حتى استشهد في سجن " صدام التكريتي البعثي " تحت التعذيب
وقد شاركته في التعذيب والاستشهاد أخته السيدة " بنت الهدى " تغمدها
الله برحمته الواسعة.
50

يعتقد أن سيرته امتداد لسيرة الفقهاء في زمن الغيبة الصغرى وما قبلها
حيث كان الفقهاء يعتمدون على الأحاديث ويرفضون الاجتهاد،
ولكن - على حسب زعمه - بعض الفقهاء أمثال " ابن الجنيد "
و " الشيخ المفيد " و " الشيخ الطوسي " و " السيد المرتضى "
انحرفوا عن تلك الطريقة وابتدعوا طريقة الاجتهاد.
فهذه الخواطر الذهنية - في رأيي - أثرت في نفسية الاسترآبادي
كي يبدي نظريته، (1)، لا أنه تأثر بالموجة الحسية، أو كان بين الموجتين
ارتباط طبيعي.

(1) والشاهد على ذلك أن صاحب الوسائل - وهو من متأخري
المحدثين - حينما ينقل رواية عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام
يفرق فيها بين تقليد عوام اليهود لعلمائهم وتقليد عوام الشيعة لعلمائهم،
وأن اليهود كانوا يقلدون الفساق من علمائهم ولذلك ذمهم الله تعالى، ولكن
الشيعة يقلدون العدول من علمائهم، فإن قلدوا فساقهم فهم مذمومون أيضا
ولذلك قال عليه السلام: " فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه، حافظا
لدينه، مخالفا على هواه، مطيعا لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه... " يقول
بعد ذلك كله: " التقليد المرخص فيه هنا إنما هو قبول الرواية، لا قبول
الرأي والاجتهاد والظن وهذا واضح " الوسائل: 18 / 95.
فنرى كيف علل رفض التقليد المطلق بأنه يستند على الرأي والاجتهاد
والظن، وأن هذه الثلاثة كلها شئ واحد، فخلط بين الاجتهاد بمعناه العام
والاجتهاد بمعناه الخاص.
51

ومهما يكن من أمر، لم يدم رفض العقل كليا إلا في مدة قصيرة
من الزمن، وأما الذين نهجوا الأخبارية من بعده لم يرفضوا حكم
العقل كما رفضه الاسترآبادي، بل كانوا يعترفون به إلى حد ما،
ولذلك تبدلت المعارضة بين الأخباريين والأصوليين كمدرستين،
إلى معارضة في مسائل أصولية لا غير.
مصادر التشريع:
وأما مصادر التشريع - أو بالأحرى عملية الاستنباط - لدى
علماء الشيعة في اليوم الحاضر فتتمثل في أربعة أمور، هي:
1 - الكتاب الكريم: وهو القرآن الذي بين أيدينا المنزل
على محمد رسول الله صلى الله عليه وآله، حيث ورد فيه حوالي
خمسمائة آية تبين الأحكام الكلية الإلهية تكون المرجع الأول للفقهاء
ولكن أكثرها تكون على نحو الاطلاق أو العموم، فتكون السنة
مقيدة أو مخصصة لها.
- السنة: وهي البيان الصادر من الرسول صلى الله عليه وآله
أو أحد المعصومين عليهم السلام، وهو على ثلاثة أقسام:
الأول - البيان القولي، وهو الكلام الذي يتكلم به الرسول " ص "
أو أحد المعصومين " ع " في مقام بيان الحكم الشرعي، سواء تضمن
حكما ايجابيا أو سلبيا، ولا بد من التنبيه على أن الأئمة عليهم السلام
على مبنى الشيعة الإمامية لم يقولوا شيئا من عندهم بل كل ما يقولونه
52

في هذا المجال فهو واصل إليهم من جدهم رسول الله " ص "، ويعتقد
الشيعة بأنهم سبل يتوصل بهم إلى الأحكام الإلهية التي جاء بها
الرسول " ص " استنادا إلى قوله: " أنا مدينة العلم وعلى بابها " (1).
وقد بلغت الروايات الواردة في الأحكام عن الأئمة " ع " من الكثرة
بحيث جعلت الفقه الشيعي غنيا يماشي الزمن.
الثاني - البيان الفعلي، وهو فعل الرسول " ص " أو الإمام " ع "
الكاشف عن حكم شرعي، كما إذا جمع النبي أو الإمام بين صلاتي
الظهر والعصر أو المغرب والعشاء، فإن ذلك يكشف عن جواز
الجمع بينهما.
الثالث - تقرير النبي " ص " أو الإمام " ع "، بمعنى سكوته
عن وضع يكشف عن جواز الفعل، كما إذا التزم العقلاء بالعمل
على طبق أخبار الثقة (أي الشخص الموثق في الحديث) ولم يمنع
عن ذلك، فسكوته عن ذلك يكشف عن صحة الاعتماد على أخبار
الشخص الموثق، وهذا ما يسمى في عرف الفقهاء والأصوليين بعدم
الردع.
3 - حكم العقل القطعي: وهو كل ما حكم به العقل حكما قطعيا
(الادراك الكامل) كحكمه بامتناع اجتماع الوجوب والحرمة (الأمر
والنهي) في محل واحد من دون مندوحة ومع اتحاد العنوان.

(1) حديث متواتر عن النبي " ص " نقله العامة والخاصة سنأتي على
ذكر بعض اسناده عند ذكر المصنف له.
53

4 - الاجماع: وقد تقدم أنه حجة بما هو كاشف عن قول
المعصوم عليه السلام.
فهذه الأمور الأربعة يعتمد عليها الاجتهاد في الفقه الشيعي، وقد
ساير الزمن واحتياجاته من دون لزوم تشريع في الإسلام.
هدانا الله تعالى لتطبيق شريعة الله نظاما ومنهاجا في الحياة،
فإنه خير وسيلة للسعادة في الدارين، إنه ولي التوفيق.
محمد على الأنصاري الشوشتري
54

حياة المؤلف
أما حياة شيخنا المؤلف " قده " فلا يمكن استيفاؤها بهذه العجالة
استيفاءا، كاملا ولكنا نتعرض لها في حدود ما تقتضيه المقدمة:
اسمه وولادته:
فهو: الشيخ محمد محسن المعروف ب‍ " الشيخ آغا بزرك
الطهراني " بمعنى السيد الكبير، واسم أبيه الحاج علي المتوفى
سنة 1324 ه‍، الذي كان من خيرة تجار طهران المتدينين، وأمه
كانت من العلويات المعروفات بالصلاح في وقتها، وكان مولده في
طهران ليلة الخميس 11 ربيع الأول سنة 1293.
كانت البيئة التي كان يعيش فيها معروفة بالتدين والفضل، فبينما
كان والده الحاج على من تجار طهران، كان له يد في مجال التأليف
55

حيث ألف كتابا في موضوع تحريم التنباك، وفتوى المرجع الديني
الكبير في وقته (الميرزا محمد حسن الشيرازي) " قده " بتحريم
التنباك، أيام ناصر الدين شاه، حينما عقد معاهدة مع إحدى
الشركات الأجنبية حول التنباك، وكانت تضر بالأمة الإيرانية.
مراحله الدراسية:
وبعد أن تعلم قراءة القرآن ودرس شيئا من اللغة الفارسية وشيئا
من العلوم الدينية والحساب، ابتدأ بدراسة العلوم العربية من سنة
1303 واستمر بدراستها حتى سنة 1315، فدرس خلالها النحو
والصرف والخط والتجويد والمنطق والفقه وأصول الفقه والرياضيات
وعاد في السنة الثانية إلى طهران، ثم عزم في سنة 1315 على
الانتقال إلى جوار أمير المؤمنين عليه السلام في النجف الأشرف
لاكمال دراساته العالية في جامعتها الكبيرة، وبعد أن استقر به المقام
في النجف في السابع عشر من تلك السنة، بدأ دراسته عند جماعة
من كبار علماؤها، واستمر في دراسته حتى حاز رتبة الاجتهاد في
الفقه والأصول والحديث، وكانت له اليد الطولى في معرفة الكتب
والإجازات وتراجم الرجال.
أساتذته وشيوخه:
أما أساتذته الذين تتلمذ لديهم في النجف الأشرف فهم:
56

1 - السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي - صاحب كتاب
" العروة الوثقى " المتوفى عام 1336.
2 - المولى محمد كاظم الخراساني - صاحب كتاب " كفاية
الأصول " المتوفى عام 1339.
وهذان العلمان كانا من كبار علماء الشيعة المتأخرين وكتاباهما
" العروة الوثقى " في الفقه و " كفاية الأصول " في أصول الفقه مما
تدور عليهما الأبحاث العالية في الحوزات العلمية الشيعية.
3 - الحاج ميرزا حسين الحاج ميرزا خليل المتوفى عام 1326.
4 - المحدث الكبير الميرزا حسين النوري المتوفى عام
1320.
5 - الشيخ محمد طه نجف المتوفى عام 1323.
6 - السيد مرتضى الكشميري المتوفى عام 1323.
7 - الميرزا محمد تقي الشيرازي - صاحب الفتوى الشهيرة
في ثورة العشرين في العراق.
8 - المولى فتح الله المعروف ب‍ (شيخ الشريعة الأصبهاني)
المتوفى عام 1339.
وكلهم كانوا من كبار العلماء الأجلاء، قدس الله أسرارهم.
مشايخه في الرواية:
وأما مشايخه في رواية الحديث فكثيرون من الشيعة والسنة،
فمشايخه من الشيعة هم:
57

1 - المحدث ميرزا حسين النوري " قده ".
2 - الشيخ محمد طه نجف " قده ".
3 - السيد مرتضى الكشميري " قده ".
4 - الشيخ ميرزا على جهاردهي " قده ".
5 - الشيخ علي الخاقاني " قده ".
6 - الميرزا فتح الله (شيخ الشريعة) الأصبهاني " قده ".
7 - السيد محمد حسن الصدر " قده ".
وهؤلاء كلهم من العلماء الكبار والأعاظم الذين تفتخر الشيعة
وتعتز بهم.
وأما مشايخه من السنة فمنهم:
1 - الشيخ محمد علي بن الشيخ حسين بن إبراهيم الأزهري
المعروف ب‍ (الشيخ علي) وكان مالكي المذهب ولد بمكة
عام 1280.
2 - الشيخ عبد الوهاب بن عبد الله المكي الشافعي المولود
عام 1287 وكان إماما للمسجد الحرام.
3 - الشيخ إبراهيم بن الشيخ أحمد حمدي المولود بالمدينة
عام 1288 وكان من علماء المدينة المنورة.
4 - الشيخ عبد القادر الخطيب الطرابلسي المدرس في الحرم
النبوي الشريف.
58

5 - الشيخ عبد الرحمن عليش الحنفي المدرس بالجامع الأزهر
والإمام بمشهد رأس الحسين عليه السلام.
رحلاته وأسفاره:
وبعد أن استقر الشيخ في النجف، استمر في ممارساته العلمية
حتى توفي أستاذه الكبير " المولى محمد كاظم الخراساني " عام
1329، فانتقل إذ ذاك إلى مدينة سامراء لحضور درس " الميرزا
محمد تقي الشيرازي " صاحب الفتوى المشهورة في ثورة العشرين
ضد الاحتلال الإنجليزي في العراق، فاعتزل الناس واشتغل بتأليف
كتابه " الذريعة " وبقى هناك حتى سنة 1335، أي قبل انتهاء الحرب
العالمية الأولى بسنة واحدة، فانتقل إلى مدينة " الكاظمية " وبقى
فيها سنتين، وعاد بعدها إلى مدينة سامراء وبقى فيها حتى سنة 1354
وفي هذه السنة غادر سامراء وأتجه نحو النجف الأشرف، وبمجرد
وصوله إلى النجف أسس مطبعة باسم " مطبعة السعادة " لأجل أن يطبع
فيها كتابه الكبير " الذريعة "، ولكنه اضطر إلى بيعها بعد أن منعته
الحكومة العراقية من ممارسة عمله بحجة أنه أجنبي (إيراني)، فباعها
وشرع بطبع " الذريعة " بثمنها.
وكانت للشيخ أسفار مكررة في أعوام 1372 و 1379 و 1383 إلى إيران،
وفي عام 1364 تشرف بزيارة بيت الله الحرام، فاتصل
بالعلماء في مصر وسوريا والحجاز وحصل على إجازات في
59

رواية الحديث، وتشرف مرة أخرى بزيارة بيت الله الحرام في عام
1377 بدعوة من إحدى رجالات الشيعة الهنود.
آثاره العلمية:
وكان شيخنا المترجم له من أكثر علماء الشيعة نشاطا وعملا
في القرن الرابع عشر الهجري، وذلك لتوفر عاملين مهمين فيه:
أحدهما طول عمره الشريف، وثانيهما مثابرته في العمل. وترك
من المؤلفات ما يقرب من خمسة وعشرين كتابا يربو على مائة مجلد
نكتفي بذكر بعض منها:
1 - الذريعة إلى تصانيف الشيعة:
وهو فهرست كبير لما ألفه علماء الشيعة طوال أربعة عشر قرنا
من الزمان، ويقع في ثمان وعشرين مجلدا.
" وكان الباعث على تأليف الذريعة هو ما ذكره (جرجي زيدان)
في كتابه " تاريخ آداب اللغة العربية " حينما تحدث عن الشيعة
فقال ما خلاصته:
" الشيعة طائفة صغيرة لم تترك أثرا يذكر، وليس لها وجود
في الوقت الحاضر ".
فدفع هذا القول بالشيخ آغا بزرك ورفيقه في العلم " السيد حسن الصدر "
المتوفى عام 1354 و " الشيخ محمد حسين كاشف
60

الغطاء " المتوفى عام 1373 أن يتعاهدوا ويأخذ كل واحد منهم
على عاتقه بيان جانب من جوانب الثقافة الشيعية الفنية والتعرف بها ".
" وقد تقرر أن يبحث العلامة السيد حسن الصدر حول الآثار
العلمية الشيعية، وبيان فضل الشيعة، وسهمهم في تأسيس علوم
الإسلام، وظهرت ثمرة بحثه في كتابه " تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام "
الذي طبع بمساعدة الشيخ نفسه عام 1370.
أما العلامة الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء فقد تقرر أن يكتب
نقدا لكتاب جرجي زيدان " تاريخ آداب اللغة العربية " ويكشف
عن كل أخطائه فيه، وقد نفذ هذه المهمة، وكتب نقدا علميا جامعا
للكتاب بمجلداته الأربع " (1) " وأما الشيخ آقا بزرك فقد تعهد أن
يكتب فهرسا يجمع فيه أسماء كل مؤلفات الشيعة " (2).
- طبقات أعلام الشيعة:
" وحينما كان الشيخ يتتبع خلال عشرات السنين في المكتبات
العامة والخاصة، ويبحث في آلاف من مجموعات الكتب الخطية
للعثور على أسماء كتب ومؤلفات الشيعة وأوصافها ومميزاتها ليدون

(1) واسم الكتاب هو " المطالعات والمراجعات ".
(2) مجلة الهادي العدد الخامس من السنة الرابعة ص 91 - 93 مقال
الأستاذ محمد رضا حكيمي.
61

ذلك كله في كتابه " الذريعة " كان في نفس الوقت يدون أسماء مؤلفي
الشيعة وشعرائهم وأحوالهم في أوراق خاصة ثم جمعها في كتاب
سماه " طبقات أعلام الشيعة " (1) وقد خص الكتاب بترجمة أعلام
القرن الرابع إلى القرن الرابع عشر فطبع منه أعلام القرن الرابع
والخامس والسادس والسابع والثامن في خمس مجلدات والتاسع
في حالة الطبع والقرن الثالث عشر في أربع مجلدات طبع منه
اثنان والقرن الرابع عشر في ستة مجلدات طبع منه أربع مجلدات
وأما القرن العاشر والحادي عشر والثاني عشر فهي غير مطبوعة.
3 - مصفى المقال في مصنفي علم الرجال:
وقد استعرض فيه الشيخ أسماء خمسمائة شخص من رجال
الشيعة الذين كتبوا وألفوا في علم الرجال (2).
4 - هدية الرازي إلى المجدد الشيرازي:
وهو كتاب يضم ترجمة المرجع الديني الكبير في عصره
" الميرزا محمد حسن الشيرازي " (3) صاحب الفتوى الشهيرة في
حرمة التنباك التي صارت بانحصار الشركات الإنجليزية في إيران

(1) المصدر السابق ص 92 - 93.
(2) حياة المؤلف بقلم الشيخ محمد علي الغروي الأوردبادي في مقدمة
كتاب الذريعة.
(3) نفس المصدر.
62

في عصر " ناصر الدين شاه القاجاري "، وفي ضمنه يستعرض ترجمة
360 شخصا من تلامذته الذين فيهم كبار العلماء.
5 - النقد اللطيف في نفي التحريف عن القرآن الشريف:
وفي هذا الكتاب يدافع المؤلف عن أستاذه الشيخ النوري
ويبرئه من التهمه التي وجهت إليه من أنه يقول بتحريف القرآن.
6 - توضيح الرشاد في تاريخ حصر الاجتهاد:
وهو هذا الكتاب الذي قدمنا له، وهو يبحث - كما سيتضح
للقارئ - عن تاريخ حصر الاجتهاد في المذاهب الأربعة عند أهل
السنة والأسباب التي دعت إلى ذلك. وقد ألفه باستدعاء أحد علماء
الموصل كما يذكر ذلك في المقدمة، وفرغ من تأليفه في ربيع الأول
من عام 1359.
7 - تفنيد قول العوام بقدم الكلام:
وفي هذا الكتاب يبحث عن النزاع المشهور بين الأشاعرة
والمعتزلة حول قدم القرآن وحدوثه. وقد وضعه أيضا باستدعاء
ذلك العالم الموصلي عام 1359.
هذا، وللشيخ " قده " رسائل وكتب أخرى لا يسعنا التعرض لها.
وله مكتبة تضم حوالي خمسة آلاف كتابا مطبوعا ومئتي كتاب
63

مخطوط، وقد أوقفها مع قسم من داره، وهي الآن من المكتبات
التي يأوي إليها طلاب العلم، للاستفادة منها.
وفاته:
وفي يوم الجمعة 13 ذي الحجة 1389 لبى شيخنا نداء ربه عن
عمر يناهز 96 عاما، وقد أذاعت بعض الإذاعات العالمية نبأ وفاته،
وبذلك خسر العالم الإسلامي محققا كبيرا قد أفنى عمره في خدمة
العلم والدين إلى آخر لحظة من حياته. فالسلام عليه يوم ولد ويوم
مات ويوم يبعث حيا.
64

(الصفحة الأولى من مخطوطة المؤلف)
65

(الصفحة الأخيرة من مخطوطة المؤلف)
66

توضيح الرشاد
في تاريخ حصر الاجتهاد
للعلامة المحقق
الشيخ محمد محسن آغا بزرك الطهراني (قده)
67

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله
المعصومين حجج الله على خلق الله، إلى يوم لقاء الله.
وبعد:
فقد سألتني - أيها الفاضل (1) السعيد الزكي الأفخر، السيد
جعفر بن السيد حسن الأعرجي الموصلي، أطال الله بقاك في احياء
شرع جدك الأطهر - أن أكتب شيئا في بيان سبب اختلاف مذاهب
العامة في فروع أحكام الدين، وبيان بدء المذاهب الأربعة، وبيان
وجه التمذهب بها، والانحصار فيها، وذكر بدء تاريخ الانحصار،

(1) لم نعثر - مع الأسف - على ترجمة وافية لهذا السيد الفاضل.
69

وبيان وجه اختلاف علماء الشيعة في كثير من الأحكام الفرعية، وذكر
تاريخ بدء مذهب الشيعة، فأقول:
إنه قد كتب أعلام الأمة في الأعصار الغابرة لتحقق هاتيك
المباحث التي سألتم عنها - كتبا ورسائل أثبتوا فيها ما بلغهم
من تواريخها، وبينوا أسباب وقوع الاختلافات على ما يكشف عنها
صحاح النقل، الموافقة للوجدان والعقل، ببيانات وافية، بحيث كاد
يرتفع بها جميع الشكوك والأوهام، ويتبين الحق الواضح لكل
أحد كالنار على علم.
لكن لاشتمال تلك الكتب على ما يوهم التعصب القومي الذي
كان يعتمد عليه كثيرا في تلك الأعصار، لم تؤثر هاتيك البيانات
الواضحة ما كان يرجى منها من قطع عروق الخلاف. وإيجاد روح
الوفاق والائتلاف.
وأما نحن وأصحابنا في العصر الحاضر عصر التنوير والنبوغ،
والاستضاءة بنور العلم، والخروج عن ربقة التقليدات التي كانت
تنشأ من الجهالات، فنرجو أن يوفقنا الله تعالى لرفض التعصبات
العقيمة، والتقاليد الذميمة، ويتبين لنا الحق الواضح كالنور على
الطور، فيما نمليه على الإخوان من " توضيح الرشاد في تاريخ حصر
الاجتهاد " ويوفقهم الله لالفات النظر إلى هذه الكلمات، التي فيها
تذكار العباد برفع حصر الاجتهاد، ولم تكتب إلا لمحض الاصحار
70

بالحقيقة " إن أريد إلا الاصلاح وما توفيقي إلا بالله " (1).
[بدء اختلاف المسلمين]
لا شبهة لأحد في أن خلاف المسلمين في فروع الدين إنما
حدث بعد رحلة نبي الإسلام صلى الله عليه وآله لا في حال حياته،
فإن جميع الأمة في عصره كانوا مقتبسين من أنوار علومه ومعارفه
في جميع الأبواب، ولا يتجاسرون عليه بابداء رأي في قباله،
لمناقضة ابداء الرأي للتصديق بأنه " ما ينطق عن الهوى " (2).
فما ذكره المقريزي لاثبات قدم الاجتهاد والفتيا: من أن العشرة
المبشرة بالجنة كانوا يفتون في عصر النبي صلى الله عليه وآله (3). فيه حط
لشأنه وشأنهم، بل مجرد إسلامهم لا يساعد وقوعه منهم، إلا إذا
كان عن أمره، ولا يكون في قباله.
كما ولا شبهة أيضا لأحد من أن الاختلاف في الفروع لم يكن
أول خلاف وقع في الإسلام، بل أول خلاف وقع بين الأمة المسلمة
بعد رحلة نبيها وقبل تجهيزه باتفاق جميع التواريخ هو الاختلاف
في الخلافة والولاية.
ولم يكن هذا الخلاف في حال حياته أيضا البتة، حيث أنه لم

(1) هود: 88.
(2) النجم: 3.
(3) الخطط المقريزية: 2 / 332.
71

يذكر في أي تاريخ أبدا، بل كان المسلمون كافة في تمام مدة حياته
متوافقين متسالمين على ما ألزمهم نبيهم من أخذ البيعة منهم لابن
عمه في يوم الغدير، بتفصيل مذكور في كتب التواريخ والسير
كافة (1). فكانوا في حياته مذعنين لابن عمه بالولاية والوزارة
والوصاية والخلافة والإمامة، على موجب تصريحات نبيهم بجميع
ذلك له في أوقات كثيرة وأماكن عديدة، من أول بعثته في مكة
المعظمة إلى رحلته في المدينة المنورة، ولم يظهر طول تلك المدة
من أحد من الأصحاب نكير لذلك أبدا (2).
كما ولا شبهة أيضا لأحد أنه لم يجتمع جميع الأمة دفعة واحدة،
ولم تتفق آراؤهم جميعا في وقت واحد، بعد رحلة نبيها وقبل
تجهيزه، على خلافة واحد معين من القوم، بل إنما بادر بعض
القوم بمجرد ارتحاله إلى نقض بيعة الغدير وانكار الولاية ابتداءا،
ثم سرى منه النقض والانكار إلى غيره شيئا فشيئا، ثم بسبب اشتغال
بعض وجوه الأمة المسلمة بتدبير أمر الخلافة، وترشيح شخص
آخر له (3) وترتيب مقدمات لتحصيل أكثرية الآراء في عدة أيام ومحافل
كثيرة، قوي أمر الخلافة.

(1) راجع موسوعة الغدير للعلامة الأميني (قده) حيث ترى فيها ما يغنيك
عن المصادر العديدة التي تثبت ذلك.
(2) تاريخ اليعقوبي 2 / 102 طبع النجف.
(3) هكذا في الأصل والصحيح هو " لها ".
72

وبعد وقوع المشاجرات بين وجوه المهاجرين والأنصار
وغيرهم، آل أمر الأمة إلى التفرق فرقتين: خاصة وعامة، فالخاصة:
هم فرقة كانوا مع الوصي وثبتوا على ولايته، والعامة: هم فرقة
بانوا عنه. فهذا أول حدوث الخلاف.
ثم إن الفرقة الباقية على بيعة الوصي، والمعترفة بحق إمامته،
والمعتقدة بعصمته، وفرض طاعته من الله تعالى - وهم الأقلون
عددا - التزموا بمتابعة الوصي في الأحكام الدينية التي قررها الله
تعالى لنبيه، وأودعها النبي صلى الله عليه وآله عند وصيه
ولقنه جميعها، ونادى في الناس: بأنه مدينة العلم الإلهي وعلي
بابها (1).
فهؤلاء كانوا يلجأون إليه في الأحكام الإلهية بحذافيرها ويأخذون.
ويكتبون الأحكام وسائر المعارف عن إمامهم المنصوص عليه من
الله تعالى، والمعصوم من جميع الزلات، وهكذا كانوا يأخذون
عن الإمام المنصوص عليه المعصوم، واحدا بعد واحد إلى الإمام

(1) حديث متواتر عن النبي صلى الله عليه وآله نقله العامة والخاصة، فراجع على
سبيل المثال: تاريخ بغداد ج 2 ص 337، كفاية الطالب ص 220 (الباب
الثامن والخمسون)، تذكرة الخواص ص 47 حديث (مدينة العلم)
ذخائر العقبى ص 77، أسد الغابة ج 4 ص 22 في ترجمة علي عليه السلام
تهذيب التهذيب ج 6 ص 330 في ترجمة عبد السلام (أبي الصلت الهروي).
73

الغائب عن الأبصار صاحب العصر والزمان صلوات الله عليهم
أجمعين.
إن هؤلاء قوم من المسلمين، تمسكوا بعد نبيهم (بالثقلين)
اللذين خلفهما من قبل الله تعالى لأمته، وهما: كتاب الله وعترته،
اللذين " لن يفترقا حتى يردا عليه الحوض " كما في الأحاديث
الكثيرة من الطرفين (1)، وليس لهم شعار إلا التشيع، لأنهم شايعوا

(1) حديث متواتر ومسلم بين الطرفين وقد تناقله أكثر من 200 عالم
عن أكثر من ثلاثين صحابي وصحابية، فراجع على سبيل المثال: صحيح
مسلم ج 4 فضائل علي عليه السلام حديث 36 و 37، سنن الترمذي ج 5
باب 32، سنن الدارمي ج 2 فضائل القرآن، خصائص النسائي ص 93
طبع النجف، كفاية الطالب،
الباب الأول في بيان صحة خطبته بماء
يدعى خما ص 50 طبع النجف، ذخائر العقبى باب فضل أهل البيت
ص 16، تذكرة الخواص الباب الثاني عشر ص 322 طبع النجف، ينابيع
المودة ص 30، أسد الغابة ج 2 ص 12 في ترجمة الحسن بن علي عليهما
السلام، تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 102 طبع النجف، المستدرك على
الصحيحين كتاب معرفة الصحابة، فضائل علي ج 3 ص 109، مسند أحمد
في حديث أبي سعيد الخدري ج 3 ص 17، وحديث زيد بن أرقم ج 5
ص 371 وحديث زيد بن ثابت ج 5 ص 181.
وراجع أيضا رسالة حديث الثقلين للشيخ قوام الدين القمي الوشنوي
المطبوع بدار التقريب للمذاهب الإسلامية بمصر، وراجع تفصيل ذلك
الجزئين الأولين من موسوعة عبقات الأنوار.
74

عليا عليه السلام والأئمة من ولده، ولا ينتمون إلا إلى أهل البيت
عليهم السلام ولا ينتسبون إلى أحد المذاهب.
وإنما يعرفون بالجعفرية لا لكون جعفر بن محمد عليه السلام
إمام هذا المذهب فقط، بل لأجل أن في عصره اتفق فتور الدولتين:
بني أمية، وبني العباس، واشتغالهما بأنفسهما، وكانت الشيعة،
وإمامهم يومئذ في سعة وراحة، فأكثروا في أخذ الأحكام الفرعية
وغيرها عنه، فكان نشر مذهب أهل البيت، وتوسعة دائرته في عصر
الإمام " أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق " - عليه السلام - ولذا
ينسب الشيعة إليه. نعم قد يكون التقييد بالجعفرية في قبال الشيعة
الزيدية.
وبالجملة الشيعة لا يخضعون لأي شئ كان إلا لكتاب الله تعالى
وسنة نبيه المأخوذة من عترته المعصومين من الخطأ والزلات.
وهذه سيرتهم من لدن ارتحال نبي الإسلام صلى الله عليه وآله
حتى اليوم، فهم يعملون بظواهر الكتاب ومحكماته، ويردون علم
متشابهاته إلى أهله، ويعملون بسنة نبيهم التي أخذوها عن عترته
المعصومين بأسانيدهم المعتبرة، ودونوها في كتبهم وأصولهم
التي هي باقية حتى اليوم، إما بصورتها الأولية، أو بمادتها المبوبة
المرتبة، كما فصلناه في مقدمة كتابنا الذريعة (1).

(1) الذريعة 1 / 13.
وراجع تفاصيل ما نوه به في الجزء الثاني من نفس الكتاب ص 134 *
75

1 - انفتاح باب الاجتهاد عند الشيعة الإمامية.
2 - ومعنى اجتهادهم.
3 - وحكمه الشرعي.
إن علماء الشيعة - في جميع الأعصار - كانوا يجتهدون في
فهم ظواهر الكتاب والسنة، بمعنى أنهم كانوا يستنبطون الأحكام
الإلهية منهما بالقواعد المقررة عندهم للاستنباط، غاية الأمر أن
مقدمات الاجتهاد كانت في الأعصار الأولى قليلة، وكانت طرقه سهلة
يسيرة، يتمكن من الاجتهاد في تلك الأعصار، ويقدر على الوصول
إلى معرفة الأحكام الإلهية عامة الناس فضلا عن أصحاب الفضل
والخواص.
ولكن بعد تلك الأعصار ومرور الأزمنة وبعد العهد عن الأئمة،
وعروض الغيبة، وطرو الأحوال على الكتب والأصول وعلى أصحابها
المؤلفين لها، وانتشار النسخ في أقطار الأرض، مع ما كان يقع

* عندما يبحث عن الأصول في مادة (أصل)، حيث تجد فيه تعريف (الأصل)
وفرقة مع الكتاب وعدد الأصول، وأسماء مصنفيها والموجود منها..
وللمزيد من التعرف على ذلك راجع كتاب ضياء الدراية ص 70 لمؤلفه
" السيد ضياء الدين العلامة " وسلسلة " احياء تراث أهل البيت " العدد
الأول باسم " دراسة حول الأصول الأربعمائة " بقلم السيد محمد حسين
الحسيني الجلالي وقد طبعت أيضا في دائرة المعارف الشيعية الجزء الخامس
طبع بيروت.
76

فيها على موجب العادة من بعض الاختلافات، لأجل الخلل والزلل
المستندين إلى السهو والنسيان الطارئين لنساخ الكتب والمصححين
لها - ولو كانوا في غاية الثقة والضبط - بعد ذلك كله، زيدت في
مقدمات الاجتهاد زيادات، وتوقف تمام الاجتهاد على تحصيل جملة
من العلوم والمعارف التي لها مدخلية في معرفة مداليل الألفاظ،
وفهم ظواهر الكتاب والسنة، والعلم بأحوال الرواة وأسانيد الروايات،
وتمييز الصحيح من السقيم، والممدوح عن المجروح، وغير ذلك.
والاجتهاد كذلك في معرفة الأحكام الشرعية بمعنى: الجد والجهد
في تشخيص مداليل الأدلة، وتعيين أحوال أسانيدها واجب عيني
- عند جميع الشيعة - على كل مكلف يتمكن منه، إن لم يقم به
من فيه الكفاية، لعمل سائر المكلفين، وإن قام به مقدار الكفاية
فيسقط الوجوب عن الآخرين.
[الأخباريون]
إن ما ذكرناه من اتفاق علماء الشيعة على وجوب الاجتهاد في
الأحكام إنما هو في مقام عملهم، وإن أنكر الاجتهاد قولا بعض المتأخرين
منهم بدعوى أنه يعمل بالأخبار، فعرف ب‍ " الأخباري "، لكنا بينا
في محله أنه نزاع لفظي، لأن العمل بالخبر ليس إلا العمل بمعناه
وما يفهم ويستفاد منه، فالعمل بالخبر موقوف على فهم المعنى
77

واستفادته منه، ولا نعني بالاجتهاد إلا استخراج معنى الخبر واستنباطه
منه (1)، وهو مشترك بين جميع علماء الشيعة.
[الاجتهاد الباطل]
نعم كافة علماء الشيعة يمنعون عن الاجتهاد بمعنى آخر (2)، وهو:
العمل والافتاء بالرأي والاستحسان والقياس، على ما هو المعمول
المجوز عند أهل السنة، وذلك لما وصلهم عن أئمتهم - عليهم
السلام - من بطلان القياس، وعدم الوثوق والاطمئنان بالرأي
والاستحسان، فالاجتهاد بهذا المعنى باطل عندهم البتة، حتى أن
ابن الجنيد - وهو أقدم فقهائهم ويعرف بأحد القديمين - تركت
تصانيفه لأجل نسبة العمل بالقياس إليه (3).
[وجه اختلاف العلماء في الفتوى]
وبما ذكرنا ظهر وجه اختلاف بعض علماء الشيعة مع بعض

(1) طبعا إن الاجتهاد لم يقتصر على ذلك بل هو جزء منه، ولتوضيح
لك راجع المقدمة.
(2) وهو الاجتهاد بمعناه الخاص، فإنه مرفوض لدى الشيعة كما مر في
المقدمة أيضا.
(3) هو محمد بن أحمد بن الجنيد الكاتب الإسكافي، من قدماء فقهاء
الإمامية، قال عنه النجاشي في رجاله:
78



" محمد بن أحمد بن الجنيد، أبو علي الكاتب الإسكافي وجه في أصحابنا
ثقة جليل القدر صنف فأكثر ".
ثم يذكر له كتبا كثيرة من بينها كتاب يجمع مسائل مختلفة تبلغ ألفا
مسألة في ألفي وخمسمائة ورقة ثم يقول عنه بعد ذلك:
" وله مسائل كثيرة، وسمعت شيوخنا الثقات يقولون عنه أنه كان يقول
بالقياس " (رجال النجاشي / 276).
ويقول الشيخ الطوسي عنه في الفهرست:
" محمد بن أحمد بن الجنيد، يكنى أبا علي، وكان جيد التصنيف حسنه
إلا أنه كان يرى القول بالقياس، فترك لذلك كتبه، ولم يعول عليها، وله
كتب كثيرة.. " ثم يذكر كتبه (الفهرست / 267).
وقال العلامة السيد مهدي بحر العلوم (قده):
" محمد بن أحمد بن الجنيد، أبو علي الإسكافي من أعيان الطائفة،
وأعاظم الفرقة، وأفاضل قد ماء الإمامية.. " إلى أن يقول:
" وهذا الشيخ على جلالته في الطائفة ورياسته وعظم محله قد حكي
عنه القول بالقياس، ونقل ذلك عنه جماعة من أعاظم الأصحاب " (رجال
السيد بحر العلوم 3 / 205 - 207).
ولكن مع ذلك لم يترك الأصحاب قوله بتاتا لأجل العمل بالقياس، كما
يظهر من العلامة السيد بحر العلوم حيث يقول:
" ومما ذكرنا يعلم أن الصواب اعتبار أقوال ابن الجنيد في تحقيق *
79

آخر في الأحكام الفرعية، وأن منشأه الاختلاف في دليلية الدليل
شرعا عند واحد دون غيره، أو الاختلاف في حصول الجزم والتصديق
لبعض دون آخر، أو الاختلاف في الأذهان في الحدة والذكاء
وسرعة الانتقال إلى المطالب وبطؤه من الأدلة الثابتة الحجية المقررة.
[الاجتهاد عند السنة]
أما سائر المسلمين المعرضين عن بيعة أمير المؤمنين - عليه
السلام - قالوا: إن النبي - صلى الله عليه وآله - لم يعين
خليفة لنفسه، ولم يوص إلى أحد بالولاية على المسلمين بعد وفاته.
وقالوا: إنما ترك الوصية بها القاءا لعنان الأمة على عاتقها في تعيين
الخليفة والوالي على المسلمين، فهم يختارون من بين أفراد الأمة
من أرادوه واتفقت آراؤهم عليه!
وكذلك لم يعين لمرجعية أحكام الدين والفروع الإسلامية
شخصا معينا ومرجعا واحدا، بل أحال أحكام شرع الإسلام بعده

* الوفاق والخلاف كما عليه معظم الأصحاب، وأن ما ذهب إليه من أمر القياس
ونحوه لا يقتضي اسقاط كتبه، ولا عدم التعويل عليها على ما قاله الشيخ رحمه
الله فإن اختلاف الفقهاء في مباني الأحكام لا يوجب عدم الاعتداد بأقوالهم
لأنهم قديما وحديثا كانوا مختلفين في الأصول التي تبنى عليها الفروع
كاختلافهم في خبر الواحد والاستصحاب.. " (رجال السيد بحر العلوم
ج 3 / 221).
80

إلى جميع أصحابه، لكونهم جميعا موصوفين بالعدالة (1) بالغين حد

(1) إن موضوع عدالة الصحابة من المواضيع الحساسة التي شغلت
جانبا مهما من أبحاث علم الحديث والرجال، وقد ذهب جمهور أبناء
العامة إلى أن جميع الصحابة عدول ولا ينبغي أن تنالهم يد الجرح والتعديل
كما تنال غيرهم من المسلمين.
قال الغزالي في المستصفى: " والذي عليه السلف وجماهير الخلف
أن عدالتهم معلومة بتعديل الله عز وجل إياهم وثنائه عليهم في كتابه وهو
معتقدنا فيهم، إلا أن يثبت بطريق قاطع ارتكاب واحد لفسق مع علمه به
وذلك مما لم يثبت! فلا حاجة لهم إلى التعديل.. " (المستصفى ص 204).
ومن السنة من يرى جواز جرحهم وتعديلهم كغيرهم من المسلمين ولا
تؤثر الصحبة من ذلك مطلقا، ولكنهم لا يمثلون إلا أنفسهم في هذه العقيدة.
هذا وقد ذهب بعض المعتزلة إلى أن الصحبة كانت مؤثرة حتى وقوع الفتنة
والخلاف بينهم وإراقة الدماء.
ومهما يكن من أمر فإن جمهور السنة يرون عدالة الصحابة بصورة مطلقة
فهم لا يحتاجون إلى الجرح والتعديل.
هذا، ولكن من كان له أقل إلمام وتأمل في تاريخ حياة الرسول صلى
الله عليه وآله والصحابة والآيات التي نزلت في بعضهم تؤكد نفاقهم أو
ايذاءهم للرسول صلى الله عليه وآله أو تخلفهم عن أوامر الله تعالى،
لا يبقى له أدنى شك في أنه كان في الصحابة من لا يشك في فسقه، كيف لا
وقد صرح الذكر الحكيم بتفسيقه إذ قال تعالى: " إن جاءكم فاسق بنبأ
فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين " (6 الحجرات).
وقد صرح أيضا بأن منهم " الكاذبون " حيث قال تعالى: " لو كان
عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة، وسيحلفون
بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم أنهم لكاذبون،
عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين "
(41 - 42 التوبة).
وقال أيضا حول بعضهم: " ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني إلا في
الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين، إن تصبك حسنة تسؤهم وإن
تصبك سيئة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل، ويتولوا وهم فرحون "
(49 - 50 التوبة).
وقال مخاطبا لبعضهم: " قل انفقوا طوعا أو كرها لن يقبل منكم إنكم
كنتم قوما فاسقين، وما منعهم أن تقبل نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله ورسوله
ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى، ولا ينفقون إلا وهم كارهون.. "
(53 - 54 التوبة).
هذا قليل من كثير من الآيات التي نزلت حول بعض الصحابة فقلما تجد
سورة لم يذكرهم الله تعالى بآية أو آيات، فهل من الإنصاف أن نترك
هذه التصريحات القرآنية ونلتزم بعدالة جميع الصحابة؟!
وقد يقال: إن هذه الآيات نزلت في المنافقين!
عجبا فهل ميزتم المنافقين عن سائر الصحابة وأفردتموهم وعرفتموهم
للناس كي لا يشتبه عليهم الأمر؟ فلماذا يقولون إذن: لا ينبغي أن تنالهم يد
الجرح والتعديل؟
ولله در الأستاذ محمود أبو رية في كتابه " أضواء على السنة المحمدية
ص 318 حيث قال: ".. ولو نفعت الصحبة نحو بشر بن مروان على
فرض الثبوت أو الوليد لتبين لنا أن الصحبة لا يضر معها عمل غير الكفر
فتكون الصحبة أعظم من الايمان، ويكون هذا أخص من مذهب مقاتل
وأتباعه من المرجئة، ثم أين أحاديث " لا تدري ما ذا أحدثوا بعدك " وهي
متواترة المعنى بل لو ادعى في بعضها تواتر اللفظ لساغ ذلك، والمدعون
للسنة ادعوا الصحبة أو ثبوتها لمن لم يقض له بها دليل، وفرعوا عليها
ما ترى ثم بنوا الدين على ذلك، ألم يقل الله " إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا "
في رجل متيقن صحبته ولم تزل حاله مكشوفة مع الصحبة، ومنهم من شرب
الخمر وما لا يحصى مما سكت عنه رعاية لحق النبي صلى الله عليه وآله
ما لم يلجئ إليه ملجئ ديني فيجب ذكره. ومن أعظم الملجئات ترتيب
شئ من الدين على رواية مروان والوليد وغيرهما فأيهما أعظم خيانة لدين
الله ومخالفة لصريح الآية الكريمة والتقمه بذلك لا يعود على جملة الصحابة
بالنقص، بل هو تزكية لهم فإياك والاغترار ".
وللتوسع في ذلك راجع كلا من: أضواء على السنة المحمدية للأستاذ
محمود أبو رية 310، دراسات في الحديث والمحدثين للأستاذ هاشم
معروف الحسيني 71.
81

الاجتهاد حيث قالوا: " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " (1).
فصار بناء هؤلاء المسلمين في العمل بالأحكام الفرعية على
الرجوع إلى الأصحاب، والعمل بفتاواهم، سواء كانت مستندة إلى

(1) حديث " أصحابي كالنجوم " هو حديث موضوع كما صرح بذلك
عديد من الأعلام، فقد ضعفه ابن القيم في الجزء الثاني من أعلام الموقعين
ص 223 ونص على أنه من الأحاديث الموضوعة.
وقد قال الغزالي في المستصفى: " وزعم قوم أن حالهم كحال غيرهم
في لزوم البحث، وقال قوم: حالهم العدالة في بداية الأمر إلى ظهور
الحرب والخصومات ثم تغيرت الحال وسفكت الدماء، فلا بد من البحث
ومما يتكئ عليه من يعتقدون عدالة جمع الصحابة قولهم إن رسول الله
قال: " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " وفي رواية " فأيهم
أخذتم بقوله.. " ولكن هذا الحديث غير صحيح بل قالوا: إنه موضوع ".
وقد أجاد علامة الهند - كما سينبه عليه المصنف " قده " - السيد حامد
حسين للكهنوي (1246 - 1306) في تحقيق الحديث في موسوعته
الكبيرة " عبقات الأنوار في إمامة الأئمة الأطهار " الذي كتبه ردا على
باب الإمامة من كتاب " التحفة الاثني عشرية " للشاه عبد العزيز الدهلوي
حيث أنكر جملة من الأحاديث المثبتة لإمامة أمير المؤمنين علي عليه السلام
فأثبت تواتر كل واحد من تلك الأحاديث في عدة مجلدات كبار.
وقد تم ترجمة الكتاب إلى العربية وطبع منه إلى الآن أربعة أجزاء
الأولان منها في تحقيق (حديث الثقلين).
84

الرواية عن النبي صلى الله عليه وآله فيما سمعه الصحابي
منه أو مسندة إلى رأيه واجتهاده فيما لم يسمعه منه لأنهم مجتهدون
مصيبون في اجتهادهم كما فصلوه في كتب أصولهم.
وللبحث معهم في صحة هذه الدعاوي، وإقامة البرهان على
أن هذا الحديث موضوع على النبي صلى الله عليه وآله
مقام آخر لسنا بصدده.
وقد أورد علامة الهند في ثاني مجلدي حديث الثقلين من كتابه
العبقات سبعين وجها في ابطال هذا الحديث، وأورد شهادات كثير
من أعاظم علماء العامة على كون الحديث موضوعا في مائتين
وخمسين صفحة كبيرة، فليراجع إليه، فإنه خارج عن مبحثنا في
انحصار المذاهب وعدمه، الذي هو المسؤول عنه.
[مصادر تبين بدء تعدد المذاهب]
فنقول: يظهر الجواب عن جملة ما وقع في السؤال بالرجوع
إلى كثير من كتب العامة، ونحن نشير إلى بعضها، دلالة للسائل إلى
محل ذكر الأجوبة اجمالا، وذكرا لمأخذ ما سنذكره من الكلمات.
من تلك الكتب كتاب " المواعظ والاعتبار في الخطط والآثار "
وهو في تاريخ مصر. ألفه " الشيخ تقي الدين أبو العباس أحمد بن
علي بن عبد القادر بن محمد البعلي القاهري " المعروف بالمقريزي
نسبة إلى حارة في بعلبك تعرف بحارة المقارزة، ولد بها سنة 766
85

وتوفي بالقاهرة سنة 845، تاريخ مبسوط متداول طبع تمامه مرات،
وطبع بعض أجزائه أيضا مستقلا، وترجم إلى اللغة الإفرنجية وهو
معتمد عليه، تلقاه بالقبول كل من تأخر عنه، وأرسلوا ما ذكره ارسال
المسلمات، وقد بسطفيه الكلام في اختلاف المذاهب في المجلد
الرابع من صفحة 141 إلى عدة صحائف تحت عنوان (ذكر
مذاهب أهل مصر ونحلهم منذ افتتح عمرو بن العاص إلى أن صاروا
إلى اعتقاد المذاهب الأربعة) (1).
ومنها تاريخ اليعقوبي أحمد بن أبي يعقوب البغدادي المتوفى
بعد سنة 296، وقد طبع في النجف سنة 1358.
ومنها " الحوادث الجامعة في المائة السابعة " لكمال الدين
عبد الرزاق بن المروزي الفوطي البغدادي المتوفى سنة 723،
طبع في بغداد بمطبعة الفرات 1351، ذكر فيها بعض ما نشير إليه
في موضعه.
ومنها " الإنصاف في بيان سبب الاختلاف " ومنها " عقد الجيد
في أحكام الاجتهاد والتقليد " وهما تأليفا شاه ولي الله أحمد بن عبد
الرحيم العمري الدهلوي المولود سنة 1114، والمتوفى سنة 1180
أو سنة 1176. وكلاهما مطبوعان مع " المقابسات " لأبي حيان

(1) للكتاب عدة طبعات والذي عولنا عليه في التحقيق هي طبعة بولاق
وتقع في مجلدين وقد طبعت بالأفست ببغداد.
86

التوحيدي، وطبعا أيضا مع " كشف الزور والبهتان " (1).
ومنها " الاقليد لأدلة الاجتهاد والتقليد " ومنها " الطريقة المثلى
في الإشارة إلى ترك التقليد " وهما من تأليفات صديق حسن خان
القنوجي البخاري المتوفى سنة 1307، وكلاهما مطبوعان أيضا
بالاستانة سنة 1295 وسنة 1296.
ومنها " حصول المأمول من علم الأصول " له أيضا، طبع في
" الجوائب " سنة 1296. والمقصد الثالث (2) منه في الاجتهاد
والتقليد، وهو آخر الكتب الثلاثة المطبوعة منضمة في مجلد واحد:
أولها " لقطة العجلان فيما تمس إلى معرفته حاجة الإنسان "، وثانيهما
" خبيئة الأكوان في افتراق الأمم على المذاهب والأديان ".
ومنها " مقالة " صاحب السعادة أحمد تيمور باشا بن إسماعيل
ابن محمد المولود بالقاهرة سنة 1288. وهي تحت عنوان " نظرة
تاريخية في حدوث المذاهب الأربعة " وهذه المقالة نشرت في
مجلة الزهراء أوائل سنتها الثانية، ثم طبعت مستقلة باهتمام " محب
الدين الخطيب " في القاهرة في 15 رجب سنة 1344. وقد شرح
في هذه المقالة مبادئ حدوث المذاهب الأربعة، والبلد الذي حدث

(1) وطبعا - أيضا - في دائرة المعارف للقرن العشرين ل‍ " محمد فريد
وجدي " الجزء الثالث في مادة (جهد) ولكن الرسالة الثانية غير مطبوعة
بكاملها.
(2) والصحيح هو المقصد السادس لا الثالث.
87

فيه المذهب وكيفية ارتقائه ونشره إلى سائر الأمصار، وشيئا من
تواريخ سائر المذاهب المندرسة، من زمان حدوثها وانتشارها
شيئا فشيئا، ومقدار استقرارها إلى وقت انقراضها واندراسها.
وأبسط ما كتب منها ما كتبه الفاضل محمد فريد وجدي بيك
المولود سنة 1293، في المجلد الثالث من " دائرة المعارف للقرن
الرابع عشر الهجري " (1) المطبوع سنة 1330. بسط القول في هذا
الباب في مقدار ستين صحيفة في مادة " جهد " وأورد تمام كتاب
" الإنصاف في بيان سبب الاختلاف " وكذا " عقد الجيد " المذكورين
آنفا، وكذلك بسط القول في مادة " ذهب " وأحال بعض الكلام
ها هنا إلى ما ذكره قبلا في " جهد ".
هذا ما وصلني من الكتب في هذا الموضوع، وقد ذكر " صديق
حسن خان " في المقصد الثالث (2) من كتابه " حصول المأمول "
عدة كتب أخرى في هذا الباب وأمر بالرجوع إليها.
منها كتاب " أدب الطلب ومنتهى الإرب " للشوكاني، ومنها
" إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد "، للسيد محمد بن إسماعيل الأمير
ومنها " أعلام الموقعين عن رب العالمين " للحافظ ابن القيم،

(1) والصحيح هو " دائرة المعارف للقرن العشرين " ولعله من سهو
القلم.
(2) حصول المأمول في علم الأصول ص 198 في المقصد السادس
كما سبق.
88

ومنها " ايقاظ همم أولي الأبصار " للفلاتي صالح بن محمد وهو
مطبوع، ومنها " الجنة في الأسوة الحسنة بالسنة " وذكر أنه من
تأليفات نفسه.
ومنها " دراسات اللبيب في الأسوة الحسنة بالحبيب " تأليف
العلامة محمد معين السندي، ومنها " حديث الأذكياء " للسيد أحمد
حسن القنوجي، ومنها " القول المفيد في حكم التقليد " إلى غير
ذلك من الكتب المؤلفة في باب الاجتهاد والتقليد.
وبما أن ما ذكرناه من الكتب قد لا تصل يد سيدنا المذكور (1)
إلى نسخها أو لا تحصل له الفرصة للرجوع إليها واستخراج مقصده
منها، فنحن نذكر خلاصة ما فيها تفي بجواب السؤال اجمالا، ونحيل
التفصيل إلى فرصة الرجوع إلى نفس تلك الكتب ونقول:
[مبدأ الافتاء]
مما اتفقت عليه عامة الكتب والتواريخ ما ذكرناه آنفا من أن
سائر المسلمين كانوا يلجأون في الأحكام الشرعية بعد ارتحال النبي
- صلى الله عليه وآله وسلم - إلى القراء والعلماء من أصحابه،
يأخذون فروع الدين عنهم ويعملون بفتاواهم على ما سمعوه عن
النبي - صلى الله عليه وآله - أو عن اجتهاد منهم فيما لم

(1) وهو السيد جعفر بن السيد حسن الأعرجي الموصلي المذكور في
المقدمة.
89

يسمعوا عنه شيئا (1). بل ذكر في بعض التواريخ، وجزم به المقريزي:
إن العشرة المبشرة كانوا يجتهدون ويفتون في حياة النبي صلى الله
عليه وآله وسلم وفيه ما فيه، كما أشرنا إليه.
وعلى كل فلا شبهة في أن الأصحاب صاروا مرجعا للأحكام
الدينية بعد وفاته - صلى الله عليه وآله وسلم - ونفروا إلى أطراف
البلاد الإسلامية ونزلوا بها لتعليم القرآن والأحكام.
قال المقريزي:
" إن الأصحاب تفرقوا بعد رحلة النبي صلى الله عليه وآله
وسلم إلى البلاد، وبقي بعضهم في المدينة مع أبي بكر، فكان
أبو بكر يقضي بما كان عنده من الكتاب والسنة، فإن لم يكن عنده
شئ سأل من بحضرته من الأصحاب، فإن لم يكن عندهم شئ
اجتهد في الحكم " (2).
وهكذا كل صحابي نزل بلدة، كان يجتهد فيما لم يكن عنده
من الكتاب والسنة.
قال:
" ثم لما مات أبو بكر وفتح سائر البلاد في عصر عمر وبعده،

(1) راجع مقدمتنا لهذا الكتاب حيث ذكرنا ذلك بشئ من التفصيل.
(2) الخطط المقريزية 2 / 332 بتصرف.
90

تزايد تفرق الصحابة في البلاد، فكان أمير كل بلد يجتهد لو لم يكن
فيها صحابي " (1).
أقول: كلامه صريح في أن أمير البلد كان يرجع إليه، وإن لم
يكن هو صحابيا.
[سبب الاختلاف في الفتاوى]
وأما سبب اختلاف هؤلاء الأصحاب في الفتاوى، فهو على ما
فصله المقريزي وملخصه:
أنه لم يكن كل واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله
وسلم متمكنا من دوام الحضور عنده " ص " لأخذ الأحكام عنه،
بل كان في مدة حياته يحضره بعضهم دون بعض، وفي وقت دون
وقت، وكان يسمع جواب النبي صلى الله عليه وآله عن كل مسألة يسأل عنها بعض
الأصحاب ويفوت عن الآخرين، فلما تفرق الأصحاب بعد وفاته صلى الله عليه وآله
في البلدان، تفرقت الأحكام المروية عنه صلى الله عليه وآله فيها، فيروي عنه
في كل بلدة منها جملة، ويروي عنه في غير تلك البلدة جملة أخرى
حيث أنه قد حضر المدني من الأحكام ما لم يحضره المصري،
وحضر المصري ما لم يحضره الشامي، وحضر الشامي ما لم يحضره
البصري، وحضر البصري ما لم يحضره الكوفي، إلى غير ذلك.
وكان كل منهم يجتهد فيما لم يحضره من الأحكام.

(1) نفس المصدر بتصرف.
91

ولعدم تساوي هؤلاء المجتهدين في العلوم والادراكات وسائر
القوى والملكات تختلف طبعا الآراء والاجتهادات، فمجرد تفاوت
أشخاص الصحابة تسببت (1) اختلاف فتاواهم، ثم تزايدت تلك
الاختلافات بعد عصر الصحابة " (2).
قال المقريزي:
" ثم بعد الصحابة تبع التابعون فتاوى الصحابة وكانوا لا يتعدون
عنها غالبا " (3).
وتقييده بالغالب صريح في أن التابعين أيضا قد كانوا يجتهدون
مع وجود قول الصحابي ثم تبع التابعون أيضا كانوا تبعا للتابعين.
قال المولوي شاه ولي الله في " عقد الجيد في أحكام الاجتهاد
والتقليد " ما لفظه:
" اجتمعت الأمة على أن يعتمدوا على السلف في معرفة الشريعة
فالتابعون اعتمدوا على الصحابة، وتبع التابعين اعتمدوا على
التابعين.. وهكذا فالرجوع إلى السلف مع أنه اجماعي يدل العقل
على حسنه " (4).
أقول: مراده حسن رجوع الجاهل بشئ إلى العالم به.

(1) هكذا في الأصل والظاهر أن الصحيح هو تسبب.
(2) الخطط المقريزية 2 / 332 بتصرف.
(3) المصدر السابق بتصرف.
(4) دائرة المعارف لفريد وجدي 3 / 245.
92

فتلخص مما قررناه: إن المسلمين في عصر الخلفاء وبعده
كانوا يتلقون أحكام الدين عن علماء الأصحاب وقرائهم النازلين في
بلدانهم، وهم يفتون الناس بما رووه عن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم أو رأوه باجتهادهم. وبعد الأصحاب كانوا يأخذون عن التابعين
وعن الأمراء المبعوثين إلى بلادهم فتاواهم المختلفة كذلك، وكانت
تنتشر تلك الفتاوى أولا في بلدهم ثم يتدرج الانتشار منها إلى
سائر الأمصار شيئا فشيئا على حسب الاقتضاءات الوقتية والمساعدات
الاتفاقية، وهذه كانت سيرة المسلمين طول عدة سنين.
قال المولوي شاه ولي الله في رسالة الإنصاف:
" إن الناس في المائة الأولى والثانية كانوا غير مجمعين على
التقليد لمذهب واحد بعينه، بل كان العوام يأخذون الأحكام عن
آبائهم أو عن علماء بلدتهم الذين حصلت لهم قوة الاستنباط كلا
أو بعضا عن الكتاب والسنة " إلى آخر كلامه (1).
وفيه تصريح بأنه قد مضى على ظهور دين الإسلام قرنان قد نشأ
فيهما آلاف الألوف من المسلمين وكلهم ماتوا على دين الإسلام،
ولم يخطر ببال أحد منهم اسم مذهب من المذاهب التي حدثت في
القرن الثاني والثالث وولدت (2) مؤسسوها فيهما، فضلا عن أن
يتمذهب أو أن يعرف نفسه بالنسبة إلى مذهب معين منها.

(1) دائرة المعارف لفريد وجدي 3 / 221 بتصرف.
(2) هكذا في الأصل والظاهر أن الصحيح هو " ولد ".
93

فظهر أنه لم يقرر في دين الإسلام ولم يجعل من لوازمه التمذهب
بمذهب خاص منسوب إلى شخص معين واحد أو إلى إحدى المذاهب
الأربعة مخير بينها.
وأما بعد عصر الصحابة والتابعين وبعد القرنين تقريبا، فقد
قال المقريزي ما لفظه:
" ولما مضى عصر الصحابة والتابعين صار الأمر إلى فقهاء
الأمصار أبي حنيفة وسفيان وابن أبي ليلى بالكوفة، وابن جريح
بمكة، ومالك وابن الماجشون بالمدينة، وعثمان التيمي (1) وسوار
بالبصرة، والأوزاعي بالشام، والليث بن سعد بمصر. فكان هؤلاء
الفقهاء يأخذون عن التابعين وتابعيهم أو يجتهدون " (2).
أقول: أكثر هؤلاء الفقهاء القاطنين في الأمصار المذكورة، قد
ترقى أمرهم تدريجيا حتى صاروا أئمة المذهب (3) وينتسب إليهم
أتباعهم المنتحلون لمذهبهم، ولم يكن عنوان للمذهب قبل انتشار
صيتهم في البلاد، ولم يكن ينتسب إليهم أحد من المسلمين أبدا.

(1) في الخطط: البتي، وهو الصحيح ظاهرا قال في ترجمته صاحب
خلاصة التهذيب: " عثمان بن مسلم البتي.. أبو عمرو البصري الفقيه "
وهذا غير عثمان بن عمر بن موسى التيمي القاضي الآتي ذكره.
(2) الخطط المقريزية 3 / 332 وفيه: " ثم أتى من بعد التابعين (رض)
فقهاء الأمصار.. ".
(3) هكذا في الأصل: والظاهر أن الصحيح هو " المذاهب ".
94

فظهر مما ذكرنا أن بدء حدوث المذاهب مطلقا كان بعد عصر
التابعين وبعد وجود أئمتها في الدنيا وارتقاء أمرهم وانتشار صيتهم
في البلدان، وكان ذلك في أواخر القرن الثاني، ثم تدرج حدوث
المذاهب إلى رأس المائة الرابعة بل أثناءها، ولم تكن منحصرة
في الأربعة.
[المذاهب الباقية]
قال أحمد تيمور باشا في مقالته السابق ذكرها ما لفظه:
" إن المذاهب كانت كثيرة، منها الأربعة المعول عليها عند
جمهور المسلمين حتى اليوم:
- " الحنفية " المنسوبة إلى الإمام أبي حنيفة نعمان بن ثابت
الكوفي المولود سنة 80 والمتوفى سنة 150.
- " المالكية " نسبة إلى الإمام مالك بن أنس المولود سنة 93
والمتوفى سنة 179.
- " الشافعية " المنتسبة إلى الإمام محمد بن إدريس الشافعي
المولود سنة 150 والمتوفى سنة 204.
- " الحنبلية " نسبة إلى الإمام أحمد بن حنبل المولود سنة 164
والمتوفى سنة 241.
هذه الأربعة الباقية حتى اليوم.
95

[المذاهب المنقرضة]
وأما المذاهب المتروكة فمنها:
- " مذهب " سفيان بن سعيد الثوري " المولود سنة 97 والمتوفى
سنة 161.
- ومذهب " الحسن بن يسار البصري " المولود سنة 21
والمتوفى سنة 110.
- ومذهب الأوزاعي " عبد الرحمن بن عمرو " المولود سنة
88 والمتوفى سنة 157.
- ومذهب ابن ثور " إبراهيم بن خالد الكلبي " المتوفى
سنة 246.
- ومذهب الظاهري " داود بن علي الأصفهاني " الظاهري
المولود سنة 201 والمتوفى سنة 270.
- ومذهب الجريري هو " محمد بن جرير الطبري " المولود
سنة 224 والمتوفى سنة 310.
وروج مذهب الجريري " أبو بكر بن أبي الثلج " المتوفى
سنة 325، وبعده تلميذه " القاضي المعافى بن زكريا النهرواني "
المتوفى سنة 390.
أقول: ومن أئمة [المذهب] (1) من ذكرهم المقريزي بعنوان

(1) هكذا في الأصل والظاهر أن الصحيح هو " المذاهب ".
96

فقهاء الأمصار الذين كانوا يأخذون عن [التابعي] (1) وتابعيهم أو
يجتهدون:
- منهم " أبو الحرث (الحارث) ليث بن سعد بن عبد الرحمن
الفهمي " الخراساني المولود سنة 94 والمتوفى بالقاهرة سنة 175
كان إمام أهل مصر - في عصره - حديثا وفقها.
- ومنهم " ابن جريح عبد الملك بن عبد العزيز " المولود سنة
80 والمتوفى سنة 150، كان أمام أهل الحجاز في عصره.
- ومنهم " الماجشون عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة المدني
الأصفهاني " الفقيه الحافظ الثقة المتوفى ببغداد سنة 164.
- ومنهم " عثمان بن عمر بن موسى التيمي " (2) المتوفى حدود
سنة 145، وكان قاضيا في عصر المنصور.
إلى غير ذلك من المذاهب التي طار صيتها في البلاد، ونالت
أئمتها رتبة المرجعية للفتيا والأحكام في الحياة وبعد الوفاة، وقد
تبع كل واحد منهم جماعات من المسلمين كثيرة أو قليلة، وكانت
فتاواهم معمولا عليها في برهة من السنين والأعوام طويلة أو قصيرة
إلى أن هجر ذلك المذهب وترك بذهاب أهله.

(1) هكذا في الأصل والظاهر أن الصحيح هو " التابعين ".
(2) وهذا - كما قلنا سابقا - هو غير عثمان بن مسلم البتي. وقد قال
عنه صاحب خلاصة التهذيب: " عثمان بن عمر بن موسى بن عبد الله بن
معمر التيمي المعمري قاضي المدينة.. ".
97

وأما المذاهب التي لم يطل عهدها بل إنما تقلدها قوم من
المسلمين في أئمتها فهي فوق حد الاحصاء، وقد انقرضت
بموت المقلدين لها.
إن هؤلاء الأئمة المذكورين مع اختلافهم في الفتاوى والأقوال
كانوا متفاوتين فيما كان هو الحظ والنصيب لهم من درجات التقدم
ومراتب التعالي، ومن حصول رفع الذكر، وانتشار الصيت في
أطراف البلاد وعدمه.
كل ذلك، لأجل مساعدة بعض الأمور، ومصادفة جملة من
الأحوال لواحد منهم دون غيره، أو لموافقة الظروف والأوقات
لإمام مذهب وعدم الموافقة لإمام مذهب آخر.
[عوامل انتشار بعض المذاهب دون بعضها]
من تلك الأمور المؤثرة في التقدم على سبيل الاتفاق، كثرة
الأصحاب والتلاميذ، وازدحام الأعوان، والمروجين، ووفور
الحماة والمتعصبين، وعظمة شوكتهم، وشدة سطوتهم، واقتدارهم
على نشر المذهب.
كما أن نقائض هذه الأمور [يؤثر] (1) ما يضاد التعالي والتقدم
والنشر، وينتج (2) اخماد ذكر إمام المذهب، والاعراض عنه قليلا

(1) هكذا في الأصل والظاهر أن الصحيح هو " تؤثر ".
(2) هكذا في الأصل والظاهر أن الصحيح هو " تنتج ".
98

قليلا، وتدرجه في الاندراس شيئا فشيئا، حتى ينتهي إلى انقراض
مذهبه رأسا، وانسائه في الوجود كأن لم يكن شيئا مذكورا.
وقد أثرت موجات الانقراض، بالنسبة إلى أكثر المذاهب التي
حدثت في أواخر القرن الثاني وما بعده. كما أنه أثرت عوامل
الارتقاء والانتشار، ودوام السير والبقاء إلى يومنا هذا في خصوص
المذاهب الأربعة من تلك المذاهب بما نراه اليوم.
وتدلنا صفحات التواريخ على تأثيرات تلك العوامل في البقاء
وأنه مسبب عن قوة الاتباع والتلاميذ، وسلطة الملوك والخلفاء
وغيرها. ولا بأس بالإشارة إلى بعضها:
ذكر المقريزي في الجزء الرابع من الخطط ما ملخصه:
أنه تولى القاضي أبو يوسف القضاء من قبل هارون الرشيد،
بعد سنة 170 إلى أن صار قاضي القضاة، فكان لا يولي القضاء إلا من
أراده، ولما كان هو من أخص تلاميذ الإمام أبي حنيفة، فكان لم
ينصب للقضاء ببلاد خراسان، والعراق، والشام، وغيرها - إلا من
كان مقلدا لأبي حنيفة، فهو الذي تسبب نشر مذهب الحنفية في
البلاد.
وفي أوان انتشار مذهب الحنفية في المشرق، نشر مذهب مالك
في إفريقية المغرب، بسبب " زياد بن عبد الرحمن "، فإنه أول من
حمل مذهب مالك إليها. وأول من حمل مذهب مالك إلى مصر
سنة 163 هو " عبد الرحمن بن القاسم ".
99

قال: ونشر مذهب " محمد بن إدريس " الشافعي في مصر بعد
قدومه إليها سنة 198. قال: وكان المذهب في مصر لمالك والشافعي
إلى أن أتى القائد " جوهر " بجيوش مولاه " المعز لدين الله أبي
تميم معد " الخليفة الفاطمي إلى مصر سنة 358، فشاع بها مذهب
الشيعة حتى لم يبق بها مذهب سواه، أي سوى مذهب الشيعة (1).
فيظهر منه أنه لم يدخل مذهب أبي حنيفة في مصر، أو لم يجعل
مذهبا رسميا فيها وفي نواحيها (2) - هذا القطر الكبير - إلا قرب
المائة السابعة، مع أنه كانت الحنفية أقدم المذاهب في سائر البلاد
الشرقية، ولم يكن ذلك كله إلا من تأثيرات العوامل والاقتضاءات
الوقتية التي كانت تحدث في بعض البلاد دون بعض، وكذلك
مذهب الحنبلية شاع في نواحي مصر قريبا من الحنفية.
قال في شذرات الذهب في ترجمة " شمس الدين محمد بن
عبد الوهاب الحراني " الحنبلي المتوفى سنة 675:
" أنه ولي القضاء ببعض البلاد المصرية، وهو أول حنبلي حكم
بالديار المصرية " (3).
ويظهر ذلك من المقريزي - أيضا - حيث ساق كلامه السابق

(1) الخطط المقريزية 2 / 334.
(2) هكذا في الأصل.
(3) شذرات الذهب 5 / 348.
100

إلى قوله: " ثم في عصر " بيبرس البندقداري " ولي مصر أربعة
قضاة: شافعي ومالكي وحنفي وحنبلي " (1).
[بدء انحصار المذاهب في الأربعة]
فظهر من نصب القاضي لكل مذهب يومئذ: أن بدء رسمية
مجموع المذاهب الأربعة في مصر كان في عصر " البندقداري "
وهو الذي ولي السلطنة في سابع عشر ذي القعدة سنة ثمان وخمسين
وستمائة إلى أن مات سنة 676، وقبل عصره لم يكن للحنفية
والحنبلية رسمية كذلك.
ثم قال المقريزي:
" فاستمر ذلك - ولاية القضاة الأربعة - من سنة 665 حتى لم
يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يعرف من مذاهب الإسلام
سوى هذه الأربعة، وعودي من تمذهب بغيرها، وأنكر عليه، ولم
يول قاض، ولا قبلت شهادة أحد، ما لم يكن مقلدا لأحد هذه
المذاهب. وأفتى فقهاؤهم في هذه الأمصار في طول هذه المدة
بوجوب اتباع هذه المذاهب وتحريم ما عداها والعمل على هذا
إلى اليوم " (2).
انتهى ما أردنا نقله من مضمون كلام المقريزي الذي يستفاد منه
أمور:

(1) الخطط المقريزية 2 / 344.
(2) الخطط المقريزية 2 / 344 بتصرف.
101

[ما يستفاد من كلام المقريزي]
منها: ما أشرنا إليه من أن تأثير العلل والأسباب في نشر هذه
المذاهب الأربعة كان أتم، حتى أنها بعد انقراضها رأسا من مصر
سنة 358 في عدة سنين متطاولة من عصر الخلفاء [الفاطمية] (1) عادت
إليها ثانية بعد انقراضهم في سنة 567 حتى صارت جميعها معروفة
رسمية في سنة 665 إلى زمن تأليف الخطط حدود سنة 804.
فالعوامل المؤثرة في سير هذه الأربعة واستمرارها كانت أقوى
ولذا كانت تترقى وتتقدم، ويتقهقر ما سواها حتى انقرض ما عداها
بعد سنة 665 تدريجيا.
ومنها: أن في حدود سنة 665 ألصقت بدين الإسلام فضائع
وشنائع، وأحدثت منكرات في الدين بعنوان أنها من الدين، وذلك
حيث أن الشارع أسس نواميس الإسلام على الائتلاف بين أفراد
المسلمين، وقرر الاجتماعات وعين المجاميع رعاية لمصلحة الائتلاف
وأوجب الموادة والمحبة بين الأفراد، وأمرهم بالتعاون في كل خير
وربط أفراد المسلمين بالعروة الوثقى، الأخوة التي جعلها بينهم
حتى لا يتفرقوا، ويكونوا يدا واحدة على من سواهم.
ومما يؤسف عليه، أن في هذا التاريخ، جعل من الدين، معاداة
أفراد المسلمين بعضهم مع بعض، فشرع أصحاب المذاهب الأربعة

(1) هكذا في الأصل والظاهر أن الصحيح هو " الفاطميين ".
102

في التظاهر بمعاداة من سواهم من أفراد المسلمين، المقرين بالشهادتين
والمصلين إلى الكعبة والحجاج لها، والمزكين، والعاملين بجميع
الفرائض والسنن التي بلغهم (1) عن نبي الإسلام بالطرق الصحيحة.
وكأني أراك تقول: ليس هذا أول قارورة [كسرت في الإسلام] (2)
أنسيت ما يكشف عنه صفحات التاريخ؟ ولا سيما مثل كامل ابن الأثير
وغيره من الحروب والمشاغبات التي كانت تقع في القرون السابقة
على هذا التاريخ بين أفراد المسلمين، ولا سيما ما وقع في جانبي
بغداد وغيرها من البلاد بين أصحاب المذاهب الأربعة بعضهم مع
بعض - كما نشير إلى بعضها قريبا - وما وقع بينهم وبين غيرهم
من المسلمين من التباغض واللداد.
قلت: هيهات بين ذي وذاك بون الأرض والسماء، حيث أنه
لم يكن منشأ جميع تلك الحروب السابقة إلا التعصبات الجاهلية
التي تحرك العوام، وتبعث الجهال على الاقدام ببعض القبائح،
حتى أن مصادر الأمور لو سئلوا عنها ينكرونها أشد نكير - ولو في
ظاهر الحال - ويدافعونها عن أنفسهم، ويلقونها على رقبة
الجهلة [..] (3).

(1) هكذا في الأصل والظاهر أن الصحيح هو " بلغتهم ".
(2) لم تكن هذه العبارة موجودة في الأصل وإنما أضفناها لتصح
العبارة.
(3) كلمة لا تقرأ والظاهر أنها " القاصرة ".
103

وأما في هذا التاريخ فقد أعلن مصادر الأمور: بأن تمذهب
الرجل المسلم بغير المذاهب الأربعة من أعظم الكبائر والمنكرات
التي يجب على كل قادر أن يمنعه عنه، بل هو مما يخرجه عن حدود
الإسلام، فيعزل عن القضاء ويرد شهادته، إذ لو لم يكن خارجا عن
حد الإسلام، فمجرد اقتراف أعظم الكبائر لا يخرجه عندهم عن
لياقة القضاء وقبول الشهادة.
وهذا الاعلان من رؤساء العامة قد كسر ظهر الإسلام، وألقى
بين أفراد المسلمين العداوة والبغضاء، وشتت شملهم، وفرق كلمتهم
ومزقهم تمزيقا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ومنها: أن في حدود سنة 665 قد حكم الفقهاء بوجوب اتباع
المذاهب الأربعة وحرمة التمذهب بما عداها من سائر المذاهب،
وهذا أيضا من أعظم المصائب على الإسلام، حيث أنه قد مضى
على الإسلام الشريف قرب سبعة قرون، ومات فيها على دين الإسلام
ما لا يحصي عدتهم إلا خالقهم، ولم يسمع أحد من أهل القرنين
الأولين منها اسم المذاهب أبدا. ثم فيما بعد القرنين كان أفراد
المسلمين بالنسبة إلى الأحكام الفرعية في غاية من السعة والاطلاق
والحرية، كان يقلد عاميهم من اعتمد عليه من المجتهدين، وكان
المجتهدون يستنبطون الأحكام عن الكتاب والسنة، على موازينهم
المقررة عندهم في العمل بالسنة النبوية، فأي شئ أوجب في هذا
التاريخ على عامة المسلمين: العامي المقلد، والفقيه المجتهد أن
104

لا يخرج أحد في الأحكام الشرعية عن حد تقليد الأئمة الأربعة، وبأي
دليل شرعي صار اتباع أحد المذاهب الأربعة واجبا مخيرا، والرجوع
إلى ما ورائها حراما معينا، مع سابقتنا بأحوال جميع المذاهب من
بدئها، وكيفية نشرها، وتدرجها في الارتقاء، وتأثير العوامل في
تقدم بعضها على غيرها بالقهر والغلبة من الدولة والحكومة، كما
أفصح عن بعض ذلك نابغة العراق المؤرخ " ابن الفوطي " في
" الحوادث الجامعة " في صفحة 216 في وقائع سنة 645، يعني
قبل انقراض بني العباس بإحدى عشر سنة في أيام " المستعصم "
الذي قتله " هلاكو " سنة 656.
[بدء انحصار المذاهب في بغداد]
وقد ذكر قبل ذلك في وقائع سنة 631 كيفية افتتاح المدرسة
" المستنصرية " في بغداد في جمادى الثانية من هذه السنة، قال:
" وكان الشروع في بنائها بأمر المستنصر بالله في سنة 625،
وقد تولى عمارتها أستاد الدار " مؤيد الدين أبو طالب محمد بن
العلقمي " وقسمت يوم افتتاحها على أربعة أقسام. فسلم الربع القبلي
الأيمن إلى الشافعية، والربع الأيسر إلى الحنفية، والربع الثالث
يمنة الداخل للحنابلة، والميسرة للمالكية، وتخير لكل مذهب اثنان
وستون نفسا من الفقهاء - الذين يقرأون الفقه والأحكام - فيكون
مجموع الطلبة المتفقهة في المدرسة مائتين وثمانية وأربعين نفسا،
105

ورتب لهم مدرسان (1) أحدهما من الشافعية، والثاني من الحنفية
ونائبا (2) مدرس أحدهما حنبلي والآخر مالكي، ولكل واحد من هؤلاء
مشاهرات وجرايات ورواتب مطبوخة وغير مطبوخة، وكذلك عين
عدة القراء (3) وعدة لتعليم الحديث، وعدة لتعلم الطب، وكانت
المدرسة تحت النظارة والتغيير والتبديل للأشخاص الداخلين أو
الخارجين إلى سنة 645، وفي هذه السنة أحضروا المدرسين الأربعة
الموظفين لتدريس الفقه على المذاهب الأربعة، وألزموهم أن لا
يذكروا شيئا من تصانيف أنفسهم للطلبة المتفقهين عندهم، وأن لا
يلزموهم بحفظ شئ من تلك التصانيف بل يقتصرون على ذكر
كلام المشايخ القدماء، تأدبا معهم، وتبركا بهم، فأجاب " جمال
الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن محيي الدين يوسف بن الجوزي "
بالسمع والطاعة، وهو الذي كان محتسبا في بغداد أولا ثم قام مقام والده
" محيي الدين يوسف بن الجوزي " في تدريس الحنابلة في المدرسة
المذكورة، وهو متأخر عن " أبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن
محمد بن الجوزي " الواعظ المتوفى سنة 597. ثم أجاب مدرس
المالكية وهو " سراج الدين عبد الله الشرماحي " (4) وأظهر القبول

(1) هكذا في الأصل والظاهر أن الصحيح هو " مدرسين ".
(2) هكذا في الأصل والظاهر أن الصحيح هو " نائبي ".
(3) ويحتمل أن يكون " عدة للقراء " أي لقراءة القرآن.
(4) الشرماح: بلدة من نواحي دمياط قرب البحر الملح. منه " قده ".
106

أيضا، وأما " شهاب الدين الزنجاني " مدرس الشافعية، وأقضى
القضاة " عبد الرحمن اللمغاني " مدرس الحنفية فامتنعا عن ذلك،
وأجابا بما معناه أن المشايخ كانوا رجالا ونحن رجال، ونحو ذلك
من الكلام الموهم للمساواة بينهم وبين المشايخ القدماء، وكان
احضار المدرسين في دار الوزير " مؤيد الدين محمد بن العلقمي "
الذي تولى عمارة المدرسة في أيام كونه أستاذ الدار، فأنهى الوزير
صورة الحال إلى حضرة الخليفة المستعصم، فتقدم الخليفة بأن
يلزموا المدرسون (1) بذكر كلام المشائخ واحترامهم، فألزموا بذلك،
فأجابوه جميعا بالسمع والطاعة " انتهى المحصل من كلام ابن الفوطي
مع التوضيح مني والبيان.
[ما يستفاد من كلام ابن الفوطي]
ويستفاد منه أيضا: جميع ما استفدناه من كلام المقريزي، غير
أن بحثه كان في خصوص مصر، ولذا ذكر أن بلوغ المذاهب الأربعة
رتبة الرسمية في مصر وصيرورة جميعها في عرض واحد من الحكم
بوجوب الرجوع إليها دون غيرها، كان في عصر " البندقداري "
من لدن نصب القضاة الأربعة في سنة 665، وقبل ذلك لم يكن لها
رسمية كذلك، وأما ابن الفوطي فذكر أن رسمية مجموع المذاهب
الأربعة في دار الخلافة وقبة الإسلام بغداد كانت من سنة 631 التي

(1) هكذا في الأصل والظاهر أن الصحيح هو " المدرسين ".
107

افتتحت فيها المدرسة المستنصرية، وقسمت أربعة أقسام لأهل
المذاهب الأربعة إلى سنة 645 التي التزم فيها المدرسون بأن لا
يتجاوزوا عن قول المشائخ القدماء وآرائهم حفظا لحرمتهم وتبركا
بسابقتهم في العلم والدين، وقبل ذلك لم يكونوا ملتزمين به.
نعم أبان المؤرخ " ابن الفوطي " عذرا للفقهاء في ايجابهم
العمل بأحد المذاهب الأربعة وتحريم ما سواها: بأن ذلك كان بأمر
الخليفة والزامه، وإلا فهم كانوا مكرهين لذلك، كما صرح به مدرسا
الشافعية والحنفية، و " المقريزي " لم يكن في بغداد ولم يكن مطلعا
على الزام الخليفة فلم يذكره، ونسب الحكم إلى الفقهاء. ولو لم
يكن هذا العذر القابل للقبول للفقهاء لكانوا في حصرهم المذاهب
في الأربعة مخطئين كما يأتي.
وأما الخلفاء فليس مستند أحكامهم إلا اقتضاء السياسة الدنيوية
والسياسة المقتضية لحكمهم وإن كانوا في الظاهر يسندون حكمهم
إلى موافقة الفقهاء المساعدين لهم في مقاصدهم، مثل " ابن الصلاح
عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان الشهروزي " شارح الوسيط في
فقه الشافعي، المدرس بدار الحديث بنصب " الملك الأشرف "
والمتوفى بها 643، فإنه أفتى بحرمة الخروج عن تقليد الأربعة مستدلا
له باجماع المحققين كما ذكره " محمد مصطفى المراغي " شيخ
الأزهر صفحة 17 من " البحث في التشريع الإسلامي [..] (1)

(1) كلمة لم تقرأ ولم أعثر على هذه الرسالة بعد ما فحصت عنها كي
يتبين اسمها الكامل.
108

الزواج والطلاق " (1).
[عوامل انحصار المذاهب]
فما يحصر له المذاهب كما ذكره " ابن الفوطي " على ما يستظهر
من التواريخ لا يخلو عن أحد أمرين:
أولهما - ما ذكره في " رياض العلماء " في ذيل ترجمة " السيد
الشريف المرتضى علم الهدى " بعد حكايته عن كتاب " تهذيب
الأنساب ونهاية الأعقاب " تأليف السيد النسابة " أبي الحسن محمد
ابن محمد بن علي بن الحسن الحسيني الموسوي " قال فيه:
" اشتهر على ألسنة العلماء أن العامة في زمن الخلفاء، لما رأوا
تشتت المذاهب [في الفروع] واختلاف الآراء، وتفرق الأهواء
بحيث لم يمكن ضبطها، فقد كان لكل واحد من الصحابة والتابعين
ومن تبعهم إلى عصر هؤلاء الخلفاء مذهب برأسه ومعتقد بنفسه في
المسائل الشرعية الفرعية والأحكام الدينية العملية، التجأوا إلى
تقليلها واضطروا في تحليلها، فأجمعوا على أن يجتمعوا على بعض
المذاهب " (2).

(1) هناك عبارة في الحاشية سقطت من الفوتوغراف نود أن نعثر عليها
في الطبعات الآتية.
(2) رياض العلماء مخطوط ص 530 وقد راجعنا هنا بعض هذا الكتاب
في مكتبة آية الله السيد شهاب الدين المرعشي دام ظله في قم.
109

فعينوا هذه الأربعة لكثرة أصحابها، ووفور ثروتهم.
وثانيهما - أن كثرة اختلاف الآراء والاجتهادات التي لا نهاية
لها، اضطر الخلفاء إلى تقليلها، وعجزهم عن رفع اليد عن بعض
المذاهب الأربعة وتركه لكثرة وقوع الفتن، وشدة التعصبات التي
بين أهلها، ألجأ الخلفاء إلى الحكم بالانحصار في خصوص هذه
الأربعة.
ويشهد للعجز عن ترك أحد الأربعة ما ذكره " المقريزي " في
الخطط: من أن " أبا حامد الأسفرائيني " كتب إلى السلطان " محمود
سبكتكين " في سنة 393 أن الخليفة نقل القضاء عن الحنفية إلى
الشافعية، فثارت الفتن العظيمة بين أصحابيهما حتى انجر الأمر إلى
رجوع الخليفة عن رأيه، وسخطه على أبي حامد، وحمله الحنفيين
على ما كانوا عليه (1).
ومن أراد الاطلاع على شدة التعصبات التي كانت بين أصحاب
تلك المذاهب فلينظر في وقائع أغلب السنين في كامل ابن الأثير (2).
وقال في الجزء الأول من " معجم البلدان " في مادة " أصفهان "
صفحة 373 ما لفظه:
" أنه قد فشا الخراب في أصفهان في هذا الوقت وقبله لكثرة
التعصب بين الشافعية والحنفية والحروب المتصلة بين الحزبين،

(1) الخطط المقريزية 2 / 333.
(2) له موارد كثيرة راجع على سبيل المثال الكامل لابن الأثير 10 / 124.
110

فكلما ظهرت طائفة نهبت محلة الأخرى وأحرقتها وخربتها، لا يأخذهم
في ذلك إلا ولا ذمة " (1).
فهذه الحروب الداخلية والمشاغبات والفتن والتعصبات
اقتضت في سياسة الخلفاء الزامهم الفقهاء على عدم الخروج عن
أقوال المشائخ بعنوان احترامهم والتبرك بهم. وتلقى الفقهاء ذلك
منهم بالقبول، ولفقوا لصحة حكمهم بالانحصار في الأربعة وجوها،
منها:
انسداد باب الاجتهاد بعد المشائخ القدماء كما يأتي، وذلك
منهم قد جرى على ميزان " الناس على دين ملوكهم "، وقد أفصح
عنه الغزالي في كلامه الذي نقله عنه المولوي شاه ولي الله في كتابه
" الإنصاف " ولفظه:
" قال الغزالي: إن بعد عصر الخلفاء الراشدين استولى على
الخلافة قوم بغير استحقاق ولا علم بالأحكام، فاحتاجوا إلى استصحاب
الفقهاء، فبعضهم كانوا على الطراز الأول إذا طلبوا هربوا، وبعضهم
تقربوا إلى الخلفاء وصنفوا في علم الكلام والجدل والاختلافات في
المذاهب كل على قدر ما ساعده الأمور المؤقتة والأسباب المهيئة " (2).
وقد ذكرنا منهم ابن الصلاح المتوفى 643.

(1) معجم البلدان 1 / 209.
(2) الإنصاف في سبب الاختلاف كما في دائرة المعارف لفريد وجدي
3 / 229 والعبارة منقولة هنا بتصرف.
111

[الاستنتاج مما سبق]
قد ظهر من مطاوي ما ذكرنا من كلمات المؤرخين المعتمدين:
" ابن الفوطي " في " الحوادث " و " المقريزي " في " الخطط "
إن بدء الحكم بانحصار المذاهب في الأربعة، ووجوب الأخذ
بخصوصها وحرمة التمذهب بغيرها، إنما كان في أواسط القرن السابع،
من دون استناد فيه إلى دليل شرعي، بل إنما صدر على وفق سياسة
بعض الخلفاء، ولذا لم يخضع له إلا من كان من حواشي الملوك
والخلفاء والمتقربين إليهم، ومن الساعين في تحصيل المناصب ونيل
الوظائف للقضاء والإمامة والكتابة والانشاء، وغير ذلك.
[المجتهدون بعد انحصار المذاهب]
وأما البالغون مبالغ الأعلام من العلماء العظماء الأحرار
المستخلصين نفوسهم عن ذل التقاليد فهم كانوا يظهرون استقلالهم
في كل عصر، ويبدون مذاهبهم وفتياهم كالإمام " جار الله محمود
ابن عمر الزمخشري " المتوفى سنة 538، والإمام " محيي الدين
محمد بن علي بن العربي " المتوفى سنة 638، وإن كانوا ينتسبون
إلى بعض المذاهب حسب مقتضيات الأوقات، كما أن " أحمد بن
تيمية " الحنبلي المتوفى سنة 728 قد أشهد على نفسه بأنه شافعي،
وكثير من أتباعه أظهروا أنهم من الشوافع، لكن فتاواه الخارجة
112

عن المذاهب الأربعة المعمولة عند الوهابيين تشهد باستقلاله، وقال
" الذهبي " في وصفه: " أنه يحق له الاجتهاد لاجتماع شروطه فيه "
وكذلك كثير من أعلامهم الذين نشأوا بعد تلك القرون إلى
يومنا هذا لم يخضعوا لانحصار المذاهب، ولم يؤمنوا بأن إحدى
نواميس الإسلام وجوب تقليد كافة المسلمين عن واحد من الأئمة
الأربعة، وحرمة الخروج عن قولهم في الأحكام الفرعية التي لا طريق
إلى الوصول إليها إلا الاستنباط عن الكتاب والسنة، إذ الانحصار
كذلك مما لا يدل عليه إحدى الأدلة الشرعية لا الكتاب ولا السنة ولا
الاجماع ولا العقل.
فإن التمذهب بأي مذهب كان، لم يكن معهودا للمسلمين
من بدء ظهور الإسلام إلى زمان شيوع مذاهب الأئمة الأربعة وبعد
القرنين تقريبا، وإن بدئ عنوان المذهب بين المسلمين، لكن
الحكم بالانحصار وايجاب متابعة الأربعة وتحريم غيرها من حوادث
القرن السابع - كما ذكرنا - قد أجراه الخليفة سياسة للملك، وإلا
فالقدرة على الاستنباط عن الكتاب والسنة لا تختص بمصر دون مصر
ولا بأشخاص دون غيرهم.
قال " أبو الطيب الصديق حسن خان " في حصول المأمول من
علم الأصول صفحة 186 في مقام انكار انحصار المذاهب في الأربعة
وانفتاح باب الاجتهاد ما لفظه:
" من حصر فضل الله على بعض خلقه، وقصر فهم هذه الشريعة
113

المطهرة على من تقدم عصره. فقد تجرأ على الله عز وجل، ثم
على شريعته الموضوعة لكل عباده (1) الذين تعبدهم بالكتاب والسنة.
فإن كان التعبد بهما (2) مختصا بأهل (3) العصور السابقة ولم يبق لهؤلاء
المتأخرين إلا التقليد لمن تقدمهم ولا يتمكنون من معرفة كتاب الله (4)
وسنة رسوله، فما الدليل على هذه التفرقة الباطلة والمقالة الزائفة،
وهل النسخ إلا هذا؟! سبحانك هذا بهتان عظيم! " (5).
وقال المعاصر محمد فريد وجدي في أول كلامه في الاجتهاد
في الجزء الثالث من دائرة المعارف في " جهد " ما لفظه:
" لما طرأ على المسلمين الجمود الاجتماعي وتولاهم القصور
عن فهم أسرار الشريعة، ستروا ذلك القصور بدعوى انسداد باب
الاجتهاد والاستنباط، والحقيقة أنه مفتوح بنص الكتاب والسنة إلى
يوم القيامة " (6).

(1) وفي حصول المأمول بعد " لكل عبادة " توجد هذه العبارة " ثم
على عباده ".
(2) " بهما " غير موجودة في حصول المأمول، ويوجد بدلها " بالكتاب
والسنة ".
(3) " بأهل " غير موجودة أيضا في حصول المأمول ويوجد بدلها
" بمن كانوا في ".
(4) وفي حصول المأمول توجد قبل " كتاب الله " عبارة " أحكام الله في ".
(5) حصول المأمول من علم الأصول ص 187.
(6) دائرة المعارف لفريد وجدي 3 / 197 بتصرف.
114

ثم كتب مقدار ستين صفحة في تحقيق الاجتهاد وشرح أحواله
وتواريخه وثبوته.
وبالجملة إباحة الاجتهاد للقدماء وحظره على المتأخرين تفريق
بلا دليل، لا يذهب إليه إلا أسراء التقليد الذين قال في حقهم " أبو
الطيب الصديق حسن خان " بعنوان أسراء التقليد ولفظه:
" ليس أسراء التقليد كمن فتح الله عليه أبواب المعارف، ورزقه
من العلم ما يخرج به عن تقليد الرجال " (1).
إلى غير ذلك من الأعلام المتأخرين والمعاصرين، ومنهم
الشيخ محمد عبده وصاحبه أو تلميذه صاحب المنار، وغيرهما من
نوابغ العصر الحاضر والأحرار الذين افتكوا (2) رقابهم عن قيود
التقاليد الذميمة، وأعلنوا بمخالفة القائلين بانسداد باب الاجتهاد.
[المشيدون لأركان الانسداد]
وممن شيد أركان الانسداد، وأقام البرهان عليه " المولوي شاه
ولي الله أحمد بن عبد الرحيم الدهلوي " في كتابيه السابق ذكرهما
ومما يؤسف عليه أن برهانه عين دعواه، وأن تحقيقاته فيهما ليست

(1) حصول المأمول 186 وعبارته فيه هكذا: " وليس ما يقوله من
كان من أسراء التقليد بلازم لمن فتح الله عليه أبواب المعارف ورزقه من
العلم ما يخرج به عن تقليد الرجال ".
(2) هكذا في الأصل: والظاهر أن الصحيح هو " فكوا ".
115

إلا دعاوي لم يقم عليها دليل نقلي أو عقلي، فإن محصل تحقيقاته
تثليث طبقات المسلمين من لدن رحلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم
إلى عصره وجعل وظائف مختلفة لأهل كل طبقة:
فالأولى منهم - المسلمون الذين نشأوا في المائة الأولى والثانية
فجعل وظيفة العامي منهم الجاهل بالحكم الشرعي الرجوع في كل
مسألة إلى أحد العلماء الذين حصلت لهم قوة الاستنباط كائنا من
كان، ولم يوجب عليه تقليد شخص واحد معين، فقال ما لفظه:
" إن الناس في المائة الأولى والثانية، كانوا غير مجتمعين على
التقليد لمذهب واحد بعينه، بل كان العوام يأخذون الأحكام عن آبائهم
أو علماء بلدتهم الذين حصلت لهم قوة الاستنباط كلا أو بعضا " (1).
والطبقة الثانية - هم الذين نشأوا بعد المائتين إلى رأس المائة
الرابعة، فجعل أهل هذه الطبقة على ثلاثة أصناف: صنف منهم
المجتهد المطلق المستقل، وهو الذي جمع فيه الاقتدار على ثلاثة
أمور:
الأول - التصرف في الأصول والقواعد.
والثاني - الجمع بين الأحاديث.
والثالث - تفريع التفاريع (2).

(1) الإنصاف في بيان سبب الاختلاف كما عن دائرة المعارف لفريد
وجدي 3 / 221 نقله بتصرف.
(2) المصدر السابق ص 227.
116

فمن لم يقدر على أحد هذه الأمور الثلاثة فيجب عليه تقليد هذا
المجتهد المستقل، سواء كان من الصنف الثاني، وهو العامي الجاهل
المقلد أو كان من الصنف الثالث الموسوم بالمجتهد المنتسب، أي الذي
ينتسب فتواه إلى واحد من المجتهدين المستقلين ولا يتجاوز عن
رأيهم [..] (1) الطبقة الأولى فقال ما لفظه:
" وبعد المائتين كان الواجب على كل من المقلدين والمجتهدين
المنتسبين أن ينتموا لمذهب واحد معين من المجتهدين المستقلين " (2).
والطبقة الثالثة - من نشأ من المسلمين من رأس المائة الرابعة
إلى عصره، فجعلهم على صنفين فقط: العامي والجاهل، والمجتهد
المنتسب، فقال:
" ويجب على العامي تقليد المجتهد المنتسب لا غير، لامتناع
وجود المستقل من هذا التاريخ حتى اليوم ".
قال ذلك بعد تقسيمه المجتهد إلى المستقل والمنتسب، ودعواه
أن المجتهد المستقل فقد من رأس المائة الرابعة ولا يمكن وجوده
لعدم تحقق شرائطه المذكورة، والممكن الباقي هو القسم الثاني
المجتهد المنتسب والعوام يجب عليهم تقليد هؤلاء.
وبالجملة يجب الرجوع في الطبقة الأولى إلى أي عالم كان،
وفي الثانية إلى المجتهد المستقل بالخصوص، وفي الثالثة إلى

(1) كلمة لا تقرأ والظاهر أنها " من علماء ".
(2) المصدر السابق ص 227.
117

المجتهد المنتسب لعدم وجود غيره. ثم أورد على نفسه وأجاب بهذه
الصورة:
" إن قلت: كيف صار - بعد مائتي سنة - التمذهب بمذهب
معين واجبا مع أنه لم يكن واجبا أولا؟!.
قلت: الواجب الأصلي أن يكون في الأمة من يعرف جميع
الأحكام عن أدائها، ومقدمة الواجب واجب (1)، فإن تعددت الطرق
إلى الواجب تخير في أيها، وإذا انسدت الطرق إلا واحدة فتعين هو (2).
[حاصل كلام الدهلوي]
أقول: إن حاصل كلامه المبسوط إقامة دعويين:
إحداهما - أن في المائة الأولى والثانية، كان يكفي الرجوع
إلى أي مجتهد كان، ولكن بعد المائتين ووجود أئمة المذاهب
المجتهدين المستقلين، يجب الرجوع إلى واحد منهم معينا. فسئل
عن وجه الفرق، وسبب وجوب ما لم يكن واجبا قبل، فأجاب عنه
بما لا يشفي الغليل كما مر بلفظه بعنوان [..] (3) إلا أن يكون مراده
ما يأتي مع جوابه في صفحة (122).
وأما دعواه الثانية: وهي انسداد طريق الاجتهاد من رأس المائة

(1) كذا في الأصل والصحيح هو " واجبة ".
(2) المصدر السابق ص 226.
(3) كلمة لم تقرأ.
118

الرابعة، وهي وجوب رجوع المسلمين إلى المجتهد المنتسب إلى
اليوم، فاكتفى فيه بمجرد ادعاء فقد شرائط الاجتهاد المستقل.
وبمجرد الدعوى لا يثبت المدعى، لا سيما هذه الدعوى المشتملة
على الإزراء بالأعلام الأجلاء الذين نشأوا في تلك السنين، وتدل
آثارهم العلمية وتصانيفهم على أعلى مراتب الاجتهاد.
وعلى كل لم يذكر في كتابه " الإنصاف " حكم انحصار
المذاهب في الأربعة، ووجوب الرجوع إليها خاصة، وحرمة
الرجوع إلى غيرها. نعم ذكر مسألة الانحصار في كتابه " عقد الجيد
في أحكام الاجتهاد والتقليد "، ولكنه لم يصرح فيه أيضا بوجوب
الرجوع إلى المذاهب الأربعة بل يظهر منه أولوية الرجوع إليها
قال في عنوان كلامه (باب تأكيد الأخذ بالمذاهب الأربعة وترك
الخروج عنها) (1): اعلم أن في الأخذ بهذه المذاهب الأربعة
مصلحة عظيمة وفي الاعراض عنها كلها مفسدة كبيرة نحن نبين ذلك
بوجوه ".
ثم ذكر الوجوه الذي لا ينتج (2) ما ادعاه، ونحن نذكر بعضها مع
ما فيه، فمما استدل به من تلك الوجوه:
أنه لما طال العهد وضيعت الأمانات لم يجز الاعتماد على أقوال

(1) المصدر السابق ص 245 والصحيح: (باب تأكيد الأخذ بهذه
الأربعة والتشديد في تركها والخروج عنها).
(2) هكذا في الأصل والظاهر أن الصحيح هو " التي لا تنتج ".
119

علماء السوء، وقضاة الجور والمفتين بالأصول بالأهواء.
أقول: فلا مانع من الاعتماد على العلماء الذين لم يكونوا بتلك
الصفات من غير الأئمة الأربعة، إذ دعوى: أن من عدا الأئمة الأربعة
كلهم موصوفون بالسوء مما لا يتجرأ عليه المسلم.
ومنها: أنه لما اندرست سائر المذاهب تدريجا مال السواد
الأعظم إلى هذه الأربعة، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
" اتبعوا السواد الأعظم ".
أقول: كيف يكون قوله صلى الله عليه وآله وسلم كذلك،
وكيف يتصور أمره بوجوب اتباع من نطق كتاب الله تعالى بفسقه.
" وأن كثيرا من الناس لفاسقون " [5: 55] " ولا تجد أكثرهم
شاكرين " [7: 17] وأمثال ذلك إلى ما يشاء الله في القرآن والحديث
والمشهور في لفظ هذا الحديث:
" عليكم بالسواد الأعظم " (1) وفيه أمر بالنزول في البلاد المعظمة
لاجتماع أنواع المعارف والخيرات فيها دون الرساتيق.
ومنها: وهو العمدة من تلك الأدلة أنه اجتمعت الأمة على أن
يعتمدوا على السلف في معرفة الشريعة، فلا بد لنا من الرجوع إليهم

(1) سنن ابن ماجة: الفتن باب 8، ونص الحديث هو: " إن أمتي
لا تجتمع على ضلالة، فإذا رأيتم اختلافا فعليكم بالسواد الأعظم ".
قال في الزوائد: في اسناده أبو خلف الأعمى واسمه حازم بن عطاء
وهو ضعيف.
120

ولا يرجع إلا إلى المروي عن السلف بسند صحيح مدون في الكتب
المشهورة مع بيان الأرجح من دلالتها، وتخصيص عمومها، أو
تقييدها، والجمع بين مختلفاتها، ولا توجد هذه الخصوصيات إلا
في المذاهب الأربعة، وليس مذهب آخر بهذه الصفة إلا الإمامية
والزيدية، وهم أهل بدعة لا يجوز الاعتماد على أقاويلهم، فتعين
الأخذ بأحد المذاهب الأربعة.
[الدفاع عن مذهب الإمامية]
أقول: لعل هذا مراده من قوله: " فإن تعددت الطرق إلى
الواجب تخير وإذا انسدت إلا واحدا فتعين، وحاصله الاعتراف
منه بالمذاهب الأربعة ومذهب الإمامية والزيدية، وإن كانت
كلها واجدة للشروط المذكورة للقبول وصالحة للاعتماد، لكن
الأخيرين خرجا عن الطرقية للاشتمال على البدع، فتعين المذاهب
الأربعة فقط.
وعليه فالجواب عنه: أن دعوى الاشتمال على البدع في مذهب الإمامية
افتراء وبهتان عظيم أعاذنا الله منه.
نعم قد أقدم على نشر تلك المفتريات المولوي عبد العزيز شاه
ولي الله المذكور في الباب التاسع من كتابه " التحفة الاثني عشرية "
الذي هو في بيان الفقهيات والشرعيات، لكن قد أقام برد كل واحدة
من جملات كلامه وابطالها واثبات خلو مذهب الإمامية عن البدع
121

والحكم بغير ما أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وآله
العلامة الدهلوي في مجلد ضخم كبير، وهو المجلد التاسع من
كتابة " النزهة الاثني عشرية " في رد الباب التاسع من التحفة
المذكورة.
وبعد ثبوت خلو مذهب الإمامية عن البدع يكون هو والمذاهب
الأربع في عرض واحد باعتراف المولوي شاه ولي الله، ولا مرجح
للمذاهب الأربعة على مذهب الإمامية، بل الترجيح لمذهب الإمامية
لكونه المأخوذ بالأسانيد الصحيحة المعتمدة والطرق المعتبرة من
الأئمة المعصومين الذين كانوا علماء ربانيين، والذين ورثوا العلم
عن جدهم رسول الله صلى الله عليه وآله وأوقفهم الله تعالى على
جميع ما أودعه عند نبيه صلى الله عليه وآله من أنواع العلوم الإلهية، فلا يقولون
إلا ما أوحي إلى جدهم الذي لا ينطق عن الهوى، وقد ذكرنا أولا
اتصال سندهم إلى باب علم النبي صلى الله عليه وآله (1).
* * * والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله
ولا أقول ذلك من باب العصبية، فوالله الذي من علي بالوجود ما
وجدت في كلمات القوم، وما رأيناه من تصانيفهم وكتبهم التي

(1) راجع ص 73 من هذا الكتاب عند ذكره قول النبي صلى الله عليه
وآله " أنا مدينة العلم وعلي بابها ".
122

ذكرت بعضها، ولم أظفر حتى اليوم بدليل واحد يدل على وجوب
اتباع أحد المذاهب الأربعة وحرمة الأخذ بغيرها، ولا دليل على
ترجيح الأربعة على غيرها.
والله تعالى على ما أقول وكيل.
والحمد لله أولا وآخرا.
حرره الجاني المسمى بمحمد محسن المدعو ب‍ " آغا بزرك
الطهراني " في ربيع المولود 1359.
123