الكتاب: البيع
المؤلف: السيد مصطفى الخميني
الجزء: ١
الوفاة: ١٣٩٨
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: جمادي الثاني ١٤١٨ - آبان ١٣٧٦ ش
المطبعة: مطبعة مؤسسة العروج
الناشر: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني
ردمك:
ملاحظات:

بمناسبة الذكرى السنوية العشرين
لشهادة العلامة المجاهد آية الله
السيد مصطفى الخميني (قدس سره)
هوية الكتاب
* اسم الكتاب: كتاب البيع (ج 1)
* المؤلف: السيد مصطفى الخميني (قدس سره)
* تحقيق ونشر: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني (قدس سره)
* سنة الطبع: آبان 1376 - جمادى الثاني 1418
* الطبعة: الأولى
* المطبعة: مطبعة مؤسسة العروج
* الكمية: 3000 نسخة
* السعر: 11000 ريال
جميع الحقوق محفوظة للناشر
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على الرسول الأمين وعلى آله
وأصحابه المنتجبين واللعنة على
أعدائهم أجمعين
تعريف 1

كتاب البيع
وفيه مقاصد:
3 تعريف

المقصد الأول
في حقيقته وماهيته
وفيه جهات:
5

الجهة الأولى
في تعريف ماهيته
7

في أن ماهية البيع اعتبارية حادثة بعد الاجتماع
وحيث لا حد لها تعرف بآثارها، فإنها من الاعتبارات المقصود فيها
التمليك بالعوض، بخلاف الصلح، فإن المقصود ليس فيه ذلك وإن
تحصل منه هذه الفائدة.
هذا بناء على المشهور (1)، وأما على المختار فهو ليس عقدا مستقلا،
والتفصيل في محله.
وأخذ عنوان التمليك (2) أو عنوان المبادلة (3) في حدها غير
صحيح، لأنه بالحمل الأولي ليس واحدا من تلك المفاهيم، والاتحاد
الخارجي في الحمل الشائع لا يجوز التحديد اصطلاحا.
وليس الأثر المذكور عاما، لأن ذلك في غير البيع لا يبقى على
إطلاقه، كما لا يخفى.
وحيث إن القبول ليس داخلا في ماهية المعاملات، فلا ينقض

1 - السرائر 2: 64 - 65، شرائع الاسلام 2: 99، مسالك الأفهام 1: 212 /
السطر 18، جواهر الكلام 26: 212.
2 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 79 / السطر 20.
3 - المصباح المنير: 87، منية الطالب 1: 34 / السطر 21، و 35 / السطر 17.
9

بالهبة المعوضة (1)، لأنها تحتاج إلى الهبة الثانية، بخلاف البيع مثلا،
فإنه يحصل بعمل البائع بتمام هويته وحقيقته.
نعم، يحتاج في الأثر إلى القبول، كما في الفضولي.
ومما يشهد على أن الملكية ليست داخلة بمفهومها في الماهية
المشار إليها: صحة بيع الشئ قبل تملكه مع القدرة على حيازته،
وصحة بيع الكلي.
إيقاظ: حول تقسيم أسباب البيع إلى دخيل في الأثر ودخيل في صدق الاسم
حقيقة البيع من المعاني الاعتبارية المتوسل إليها بالأسباب
المختلفة، كالألفاظ، والإشارة، والفعل المطلق، أو المخصوص. والقيود
المعتبرة فيها إما من الأمور الدخيلة فيها عرفا، أو شرعا:
فما كان من الثاني، فهو ليس داخلا في ماهيتها، كما لا يخفى.
وما كان من الأول، فربما يختلج بالبال دعوى تقومها به، لأنها ترجع
إلى صحة سلبها عند فقد ذلك القيد عرفا.
ولكنه غير تام، لشهادة اللغة والاطلاقات الدارجة على خلافه،
فهي عندهم على نحوين:
منها: ما هو الدخيل في الأثر.
ومنها: ما هو الدخيل في الذات.
وعلى هذا يصح التمسك بإطلاقات الأدلة الشرعية لرفع القيود

1 - لاحظ جواهر الكلام 22: 206.
10

المحتملة دخالتها، إلا إذا رجع إلى الشك في الاسم، فتوهم عدم جواز
التمسك، لأن الاسم موضوع للصحيح، كما عن الشهيدين (1)، فاسد.
ولعل مرادهما من الصحيح هو المؤثر العرفي، دون الشرعي،
فليتأمل، وسيأتي توضيح المسألة في الجهة الآتية إن شاء الله تعالى (2).
استئناف: حول حقيقة المعاوضة
المتعارف في العصور البدوية هو التبادل بين الأعيان المسماة
ب‍ المعاوضة والمشهور بين فقهائنا أنها بيع، لصدق تعاريفه المختلفة
عليها.
وقد يشكل ذلك، لعدم مساعدة الاطلاقات الخاصة والاستعمالات
العامة عليه. مع أن البيع اعتباره على النظر مستقلا إلى المعوض،
ولا يؤخذ العوض في الانشاءين - الايجابي، والقبولي - مقدما على
المعوض، بخلاف المعاوضة، فيقول صاحب العين: عوضت هذا بهذا
ويقول الآخر مثله، وهذا التعارف الخارجي يشهد على اختلاف
الاعتبارين في النظر العرفي.
وصحة إطلاق لفظ البيع عليها لا يشهد على أنها بيع، لأنه أعم من
الحقيقة، وباب التوسعات مفتوح على أرباب الاستعمالات.

1 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 80 / السطر 32، القواعد والفوائد 1: 158، الفائدة
الثانية من القاعدة 42، مسالك الأفهام 2: 159 / السطر 37.
2 - يأتي في الصفحة 15.
11

وهذا لا يورث تقوم البيع بكون العوض كليا، ضرورة إمكان بيع
الكتاب بالكتاب.
نعم، في المعاوضة يكون نظر المتعاملين كل بماله، ويكون كل
واحد منهما معوضا وعوضا باختلاف الاعتبار، وفي البيع أحدهما المبيع،
والآخر ثمنه، فلا تخلط.
ثم إنه يلزم بناء عليه، بطلان التعاريف المذكورة للبيع، ولكن جعل
الأثر الأخص أو الأعم عنوانا مشيرا إلى تلك الحقيقة، مما لا بأس به.
وإن شئت قلت: هو في الأثر مختلف:
فمنه: ما يورث الملكية دون السلطنة، كما في المعاملة بمال
المحجور.
ومنه: ما يورث السلطنة والملكية، كما في المتعارف منه.
ومنه: ما يورث السلطنة فقط، كما في بيع الحاكم العين الزكوية
من الحاكم الآخر، على بعض المباني.
وعليه كيف يمكن تعريفه؟! ومبادلة المال بالمال منقوض
بالإجارة، وبجعل اسقاط الحق ثمنا، كما اخترناه في الأجرة فيها (1).

1 - لعله في كتاب الإجارة من تحريرات في الفقه وهو مفقود.
12

الجهة الثانية
في الأسباب المتوسل بها
إلى تلك الماهية الاعتبارية
13

عدم الاشكال في صحة العقد اللفظي
لا شبهة بين فقهاء الاسلام في صحة العقد اللفظي والبيع الموجود
باللفظ ونفوذه، وأنه هو الموضوع لاعتبار العقلاء للنقل والانتقال، وإنما
الخلاف بينهم في صحة السبب الفعلي والمعاطاة الخارجية
المتعارفة بين الناس قديما وحديثا، وقد بلغت أقوالهم إلى سبعة أو
أكثر (1)، ومنشأ الاختلاف ليس راجعا إلى الأدلة اللفظية إلا ما شذ، بل هو
لاختلاف أنظارهم في درك ما هو المتعارف خارجا.
فبالجملة: جعلوا محل النزاع ومصب النفي والاثبات المعاطاة.
والذي هو الحق عندي: أن الأمر على عكسه، فإن المعاطاة هي
الأصل في العقود والايقاعات، وفي صحة العقود اللفظية إشكال، إلا

1 - مفتاح الكرامة 4: 154 - 155، كتاب الإجارة، المحقق الرشتي: 4 / السطر 17 -
18، حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 68 / السطر 15، مصباح الفقاهة 2: 87.
15

ما دل عليه الدليل الشرعي المتضمن لصحته ونفوذه، وذلك لأن
المعاطاة هي المعاملة التي حدثت حينما تشكلت معيشة الاجتماع بين
الناس، فإنهم بعدما احتاجوا إلى التبادل بين لوازم حياتهم، توسلوا إلى
المبادلة بين الأموال والمعاوضة عليها، ثم بعد ذلك أشكل الأمر عليهم،
لجهات خارجة عن بحثنا، فتوجهوا إلى العروض والنقود، وجعلوها
أثمانا فيها، واعتبروا ماهية البيع بارتكازهم.
وهذا الاعتبار إما عين اعتبار المعاوضة، كما قد عرفت عن
المشهور، أو غيره، إلا أنه قريب منه كما هو المختار. والذي ترى في
المجتمع البشري في جميع الأحيان والأعصار، وفي كافة البلاد
والأمصار قديما وحديثا، ليس إلا المعاطاة حتى في المعاملات الخطيرة،
وأما ثبت المعاملة في الدفاتر والمكاتيب، فهو ليس إلا سندا لها.
نعم، بين المتشرعة دارجت المعاملات العقدية، لما ذهب إليها
فقهاؤهم من العصر الأول، فلا تغفل.
ولا ينبغي الخلط بين المقاولة والعقد اللفظي، وما تجدون في البلاد
الراقية فهو منها أيضا، وليس بينهم تعارف العقود اللفظية.
وهكذا الخلط بين التعهدات على المعاملة، كما بين الدول، وبين
العقد اللفظي، وما تسمع: من أن المتعارف في التجارات الكلية هي
العقود اللفظية (1) باطل، بل هو منها، فنقل السببية من المعاطاة
والأعمال الخارجية إلى الأقوال والألفاظ بخصوصها، يحتاج إلى دليل.

1 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 86 / السطر 8 - 9.
16

وفي كفاية الاتفاق والاجماع (1) إشكال.
وتوهم السيرة غير المردوعة (2)، غير تام، لما أن السيرة - خصوصا
في تلك الأعوام - على المعاطاة، ولو اتفق أحيانا العقد اللفظي، فهو ليس
إلى حد يكون بمرأى ومسمع من الشرع، كما لا يخفى.
اللهم إلا أن يقال: العقد اللفظي عقد لغة وعرفا، وعمومات المسألة
تشمله، فيعلم منها صحته ونفوذه ولزومه.
أو يقال: بأن الأدلة لو فرضنا قصورها عن إثبات حكم - كما سيأتي
تفصيله في ذيل هذه الجهة - يمكن دعوى صحة العقد اللفظي، للعلم بعدم
الخصوصية، فلو كان عند العقلاء عقدا صحيحا وموضوعا لاعتبارهم، فعدم
الردع المطلق وإن كان لا يكفي، إلا أن وحدة الحكم تستكشف من
الموضوع المسانخ، كما لا يخفى، فليتدبر.
فتحصل: أن الدليل الوحيد على صحة العقد اللفظي، هي الأدلة
اللفظية والروايات الخاصة (3).

1 - الغنية، ضمن الجوامع الفقهية: 524 / السطر 26، مفتاح الكرامة 4: 154.
2 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 86 / السطر 8.
3 - وهي المآثير التي استدل بها على اعتبار اللفظ في صحة البيع (أ)، فإنها وإن لم تدل
عليه، إلا أنها تدل على كفاية العقد اللفظي] منه (قدس سره) [.
(أ) القاسم بن سلام بإسناد متصل إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أنه نهى عن المنابذة والملامسة وبيع
الحصاة.
المنابذة يقال: أنها أن يقول لصاحبه: أنبذ إلي الثوب أو غيره من المتاع أو أنبذه إليك،
وقد وجب البيع بكذا، ويقال: إنما هو أن يقول الرجل إذا نبذت الحصاة فقد وجب
البيع وهو معنى قوله: إنه نهى عن بيع الحصاة.
والملامسة أن يقول: إذا لمست ثوبي أو لمست ثوبك فقد وجب البيع بكذا، ويقال:
بل هو أن يلمس المتاع من وراء الثوب ولا ينظر إليه فيقع البيع على ذلك.
وهذه بيوع كان أهل الجاهلية يتبايعونها، فنهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عنها لأنها غرر كلها.
معاني الأخبار: 278، وسائل الشيعة 17: 358، كتاب التجارة، أبواب عقد البيع
وشروطه، الباب 12، الحديث 13.
ابن أبي عمير، عن يحيى بن الحجاج، عن خالد بن الحجاج قال: قلت
لأبي عبد الله (عليه السلام) الرجل يجئ فيقول: اشتر هذا الثوب، وأربحك كذا وكذا، قال:
أليس إن شاء ترك، وإن شاء أخذ؟ قلت: بلى، قال: لا بأس به إنما يحل الكلام،
ويحرم الكلام.
تهذيب الأحكام 7: 50 / 216، وسائل الشيعة 18: 50، كتاب التجارة، أبواب
أحكام العقود، الباب 8، الحديث 4.
علي بن جعفر، عن أخيه (عليه السلام) قال: سألته عن رجل باع بيعا إلى أجل فجاء
الأجل والبيع عند صاحبه، فأتاه البائع، فقال له: بعني الذي اشتريته مني، وحط عني
كذا وكذا، وأقاصك بمالي عليك، أيحل ذلك؟ قال: إذا تراضيا فلا بأس.
قرب الإسناد: 266، وسائل الشيعة 18: 71، كتاب التجارة، أبواب أحكام العقود،
الباب 16، الحديث 23.
الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في رجلين اشتركا في مال وربحا فيه ربحا وكان
المال دينا عليهما، فقال أحدهما لصاحبه: أعطني رأس المال والربح لك وما توى
فعليك، فقال: لا بأس به إذا اشترط عليه....
تهذيب الأحكام 7: 25 / 107، وسائل الشيعة 18: 17، كتاب التجارة، أبواب
الخيار، الباب 6، الحديث 4.
عبد الرحمن بن سيابة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: إن المصاحف لن
تشترى، فإذا اشتريت فقل: إنما أشتري منك الورق، وما فيه من الأديم، وحليته،
وما فيه من عمل يدك بكذا وكذا.
الكافي 5: 121 / 1، وسائل الشيعة 17: 158، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب
به، الباب 31، الحديث 1.
بريد بن معاوية، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في رجل اشترى من رجل عشرة آلاف طن
قصب في أنبار بعضه على بعض من أجمة واحدة، والأنبار فيه ثلاثون ألف طن، فقال
البائع: قد بعتك من هذا القصب عشرة آلاف طن، فقال المشتري: قد قبلت واشتريت
ورضيت، فأعطاه من ثمنه ألف درهم، ووكل المشتري من يقبضه فأصبحوا وقد وقع
النار في القصب فاحترق منه عشرون ألف طن وبقي عشرة آلاف طن، فقال: العشرة
آلاف طن التي بقيت هي للمشتري، والعشرون التي احترقت من مال البائع.
تهذيب الأحكام 7: 126 / 549، وسائل الشيعة 17: 365، كتاب التجارة، أبواب
عقد البيع وشروطه، الباب 19، الحديث 1.
عثمان بن عيسى، عن سماعة قال: سألته عن بيع الثمرة هل يصلح شراؤها قبل
أن يخرج طلعها؟ فقال: لا، إلا أن يشتري معها شيئا غيرها رطبة أو بقلا، فيقول:
أشتري منك هذه الرطبة وهذا النخل بكذا وكذا....
الكافي 5: 176 / 7، وسائل الشيعة 18: 219، كتاب التجارة، أبواب بيع الثمار،
الباب 3، الحديث 1.
17

ولو فرضنا صحة التمسك بالعمومات في هذه المسائل على ما هو
18

المشهور، فلا بأس به هنا أيضا، ضرورة أن العقدة الحاصلة من الايجاب
والقبول، تعد عقدا وبيعا، لما أن في صدقها لا نحتاج إلى مؤونة زائدة، بل
المدار على ترتيب آثار العقد المعاطاتي عليها، وعلى أن يكون بناؤهم
على تمامية النقل والانتقال بها.
19

بحث وتفصيل في المعاطاة
اختلفت آراء فقهائنا في صحة المعاطاة وفسادها، بعد البناء على
صحة العقد اللفظي، وفي لزومها وجوازها. وربما ذلك بعد اتفاقهم على
إفادتها الملكية.
وفي أنها من المعاملات المتداولة، وتكون مندرجة فيها، وموضوعا
لأحكامها، كما قد يقال في الصلح، أو أنها معاملة مستقلة بحيال ذاتها.
وفي أنها على فرض بطلانها وعدم إفادتها الملك، تكون لغوا، أو هي
سبب للإباحة المطلقة، أو إباحة خاصة.
وفي أنها على الاطلاق مثل العقد اللفظي، أو يفصل بين الأمور
الخطيرة، وغير الخطيرة.
ويمكن دعوى التفصيل بين ما يقبل التسليط الخارجي، وما لا يقبل،
ويمكن غير ذلك، كالتفصيل بين العقود والايقاعات.
وحيث إن المسألة لا يفيد فيها الاتفاق، فلا وجه لصرف الكلام في
21

تحرير موقف النزاع ومصب النفي والاثبات، ولا داعي لنا في توجيه
مختار الأصحاب، لما فيه من الخروج عما وضع عليه الكتاب.
والذي لا شبهة فيه: أن البحث هنا في سبب الملك الحاصل
بالقول والعقد اللفظي، وأنه يختص به، أو يشاركه غيره في السببية،
فلا بد من حفظ جميع القيود والشروط الموجودة في الصيغة في
المعاطاة إلا الألفاظ. وأما لو اختلف العقد باختلاف السبب، فهو خارج
عن البحث قطعا. وعدم وجود الجامع الصحيح بين الأقوال بشتاتها،
لا يورث خللا في الباب، بل لا بد لنا من فرض النزاع على الوجه
الصحيح.
ثم إنه بعد الفراغ عن هذه المسألة، يتوجه البحث حول أن
الفعل الجامع للشرائط لو لم يقم مقام القول، يكون من اللغو، أم يفيد إباحة
التصرفات وإن لم تكن مقصودة، لعدم الحاجة إليه.
فعد الأقوال في المعاطاة ستة (1)، أو سبعة (2)، من الغفلة عن حقيقة
الحال. كما أن كونها معاملة مستقلة (3)، ليس من الأقوال في المعاطاة،
لجريان البحوث فيها أيضا.
إذا عرفت ذلك، فالكلام في المقام يتم في ضمن مباحث، والمهم

1 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 83 / السطر 4.
2 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 68 / السطر 15، مصباح الفقاهة 2: 87.
3 - جواهر الكلام 22: 226 - 228.
22

منها ثلاثة، وأما البحث حول أنها مستقلة، أو أمر سار في العقود
والايقاعات، فهو ساقط جدا عنه، ضرورة أن المراجعة إلى ما هو
المتعارف بين الناس، تقضي بأنها سبب لحصول العلقة الحاصلة
بالصيغة أيضا، فتوهم ذلك ينافي التوصيف المتداول بينهم من قولهم:
البيع المعاطاتي والصلح المعاطاتي والإجارة المعاطاتية.
23

المبحث الأول
في إفادة المعاطاة للملكية
هل المعاطاة تفيد الملكية إذا كانت الشرائط موجودة عرفا، ومنها
قصد المتعاملين التمليك بالعوض، والتسليط بالثمن، وهو المنسوب
إلى المتأخرين (1)، واختاره جمع آخر (2).
أم لا وتكون باطلة، ولا توجب الملكية؟ وهو المحكي عن
نهاية العلامة (3). ولعل القائل بالإباحة يقول أيضا بالبطلان، فهو
المشهور بين القدماء (4) ومن تعرض منهم للمسألة.

1 - جامع المقاصد 4: 58، مجمع الفائدة والبرهان 8: 139.
2 - مفاتيح الشرائع 3: 48، المكاسب، الشيخ الأنصاري: 83 / السطر 15 - 16،
حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 68 / السطر 21، منية الطالب 1: 49 / السطر
7.
3 - نهاية الإحكام 2: 449.
4 - المبسوط 2: 87، الغنية، ضمن الجوامع الفقهية: 524 / السطر 26، السرائر 2: 250.
25

والحق هو الأول، لما عرفت منا سابقا (1)، ولعدم تمامية الجهات
المذكورة إشكالا عليها، وهي كثيرة:
الاستدلال على بطلان المعاطاة بعدم تحقق إنشاء المعاملة بالفعل
فمنها: أن الانشاء من الاعتبارات، ولا يمكن التوسل إليه وإيجاده
إلا بما هو قابل لذلك، وهو القول دون الفعل.
وإن شئت قلت: ليس الفعل موضوعا للانشاء، حتى يتوسل به إليه،
بخلاف هيئات الألفاظ، فإنها كما تكون موضوعة للاخبار موضوعة للانشاء
أيضا.
ولك أن تقول باعتبار الوضع والسنخية بين الآلات ومعلولاتها.
وفيه: - مضافا إلى السيرة العملية - أن باب الاعتبارات أوسع من
ذلك، ولا خصوصية للألفاظ. نعم مجرد الامكان غير كاف.
وبذلك يدفع الاشكال الثاني: هو أن إمكان الانشاء بالفعل، لا يلازم
نفوذه وصحته، ووجه الدفع واضح.
الاستدلال على البطلان بعدم شمول آية الوفاء والتجارة للمعاطاة
ومنها: أنها لغة وعرفا ليست عقدا، بل قيل: إنها ليست بيعا (2)

1 - تقدم في الصفحة 15 - 16.
2 - تقدم في الصفحة 25، الهامش 3.
26

فلا تشملها الآيتان: (أوفوا بالعقود) (1) و (أحل الله البيع) (2) ولو شك
فلا يرجع إليهما.
وفيه: - مضافا إلى كفاية قوله تعالى: (لا تأكلوا أموالكم بينكم
بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) (3) - أنها أولى بأن تكون عقدا،
لأسبقيتها في إيجاد العقدة بها من غيرها، ولم يعهد من أرباب اللغة ما يورث
خروجها عنه، لأن العقد هو العهد المطلق، أو المشدد، وحيث إن
التشديد لا معنى له في الاعتبارات إلا بأن يرجع إلى التشديد في
الأسباب ولواحقها، يمكن اتصاف العقد اللفظي بالشدة والضعف، ويمكن
اتصافها بهما.
وبعبارة أخرى: ليس العقد إلا أمرا محصلا واعتبارا معنويا، فلا نظر فيه
إلى الأسباب المحصلة له، فلا تغفل.
نعم، الظاهر أن هذه الآية أجنبية عن هذه المسائل، لأن العقود
المعمول بها بين الأمم والأقوام من بدو حياتهم الاجتماعية، لا تحتاج إلى
التشديد بمثل هذه الآية الكريمة، خصوصا بعدما تكون في سورة
المائدة، ولا سيما بعد ملاحظة الصدر، وقوله تعالى: (أحلت لكم بهيمة الأنعام) (4).

1 - المائدة (5): 1.
2 - البقرة (2): 275.
3 - النساء (4): 29.
4 - المائدة (5): 1.
27

فإنه بعد التأمل يظهر: أنها راجعة إلى العقود الخاصة، والعقود
الكلية، لا العقود المالية والتجارية. وتوهم عدم صدق البيع
مدفوع بالمراجعة إلى الاطلاقات العرفية واللغة.
ولو شك في إطلاقها، فالقدر المتيقن هي المعاطاة، دون العقود
اللفظية، وهكذا لو شك في أنها جملة إنشائية، فإنه مع ذلك يعلم حلية
البيع إجمالا، كما لا يخفى.
إن قلت: آية التجارة غير كافية، لأن المقصود حصول الملكية
بالمعاطاة التي هي البيع، لا التي هي المعاملة الحديثة.
قلت: كونها ممضاة وصحيحة يعرف منها، وكونها بيعا يعرف من اللغة
والعرف، فلو فرضنا قصور الآيتين عن تصحيح المعاطاة - لأجل أنها ليست
عقدا، ولأجل أن الآية الكريمة الثالثة لا إطلاق لها، فلا تشمل
المعاطاة - يكفي الآية الأولى.
اللهم إلا أن يقال: بأن هذه الآية ناظرة إلى اشتراط الرضا، والنهي
عن الأكل بالباطل، وهو الأكل بلا رضا، ولا تعرض فيها لتصحيح التجارة
وسببيتها للحلية. ويشهد لذلك النهي أولا عن الأكل، والاتيان ثانيا بالرضا،
وثالثا بكلمة (منكم) فكأنها تورث شرطية الرضا فقط، لخروج الأكل
من الباطل إلى الحق، ولا خصوصية للتجارة، فكون المعاطاة سببا
مملكا أجنبي عنها.
إن قلت: لا يمكن الاستدلال لصحة المعاطاة بآية الوفاء، لأن
موضوعها العقد الصحيح، لا الأعم. ويشهد له أن التخصيص فيها،
لا يورث الفساد بوجود العقود الصحيحة غير اللازم الوفاء بها.
28

قلت: موضوعها العقد عرفا، إلا أنه يكشف الصحة من لزوم الوفاء
إلا ما خرج عنها، فإنه حينئذ لا كاشف عنها.
وبعبارة أخرى: مقتضى قاعدة الملازمة صحة العقد اللازم
والوفاء به، وإذا كان من العقود ما ليس لازما الوفاء به، لا يمكن كشف
الصحة، لانتفاء اللازم، وحيث هو أخص لا يكشف من انتفائه انتفاء
الملزوم، وهو فساد العقد، فتدبر.
إن قلت: قضية حكم العقل - وهو أن العقد الباطل لا يجب الوفاء
به - تخصيص الآية لبا، فالتمسك فيما نحن فيه غير جائز.
قلت: هذا هو مقتضى بعض المباني في تلك المسألة، ولكن
التحقيق جوازه، لأن المخصصات العقلية، لا تورث تعنون العمومات
اللفظية بها عرفا، وعلى هذا بعد الفحص عن دليل فساد المعاطاة، وعدم
العثور عليه، يصح التمسك بها بلا شبهة.
الاستدلال على البطلان بالاجماع وبالنبوي الناهي عن بيع المنابذة
والملامسة وإنما يحلل...
لا يقال: يكفي له الاجماع المدعى في الغنية (1) وغيرها (2) على
اعتبار الصيغة، وهو المؤيد بالشهرة المحصلة والمنقولة، وعدة من
الروايات، ومنها النبوي الناهي عن بيع المنابذة والملامسة، وعن بيع

1 - الغنية، ضمن الجوامع الفقهية: 524 / السطر 26.
2 - جامع المقاصد 5: 309.
29

الحصاة (1)، وما ورد في الصحيح وغيره: إنما يحلل الكلام، ويحرم
الكلام (2).
لأنا نقول: ليس معقد المحصل منهما بطلانها، وكفاية المنقول
ممنوعة، ولا دلالة للنبوي - على فرض تمامية سنده - على فسادها، لعدم
معلومية وجه النهي وكيفيته أولا.
ولاختصاصه بمواضعه ثانيا.
ولظهوره في أنه لأجل كونه من الطرق غير المتعارفة ثالثا.
ولاحتمال كونه لأجل أنهم كانوا يعينون المبيع بتلك الأفعال، وهو
يستلزم الغرر المنهي رابعا.
وأما غيره منها، فهو لا يرجع إلى محصل، فراجع.
وأما قوله (عليه السلام): إنما يحلل الكلام، ويحرم الكلام ففيه وجوه
واحتمالات، وكونه دليلا على اعتبار الصيغة، موقوف على حفظ مفهوم
الحصر في مفاده، وهو حصر المحلل والمحرم به، وقد تقرر منا: أن مفهوم
الحصر آب عن التخصيص (3). مع أن في المسألة يلزم التخصيص
الكثير، كما قيل (4).

1 - معاني الأخبار: 278، وسائل الشيعة 17: 358، كتاب التجارة، أبواب عقد البيع،
الباب 12، الحديث 13.
2 - وسائل الشيعة 18: 50، كتاب التجارة، أبواب أحكام العقود، الباب 8، الحديث 4،
و 19: 41 - 42، كتاب المزارعة والمساقاة، الباب 8، الحديث 4 و 6 و 10.
3 - تحريرات في الأصول 5: 185 - 186.
4 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 86 / السطر 26.
30

هذا، والمحللية والمحرمية مما لا يمكن الأخذ بمفهومهما، لما أن
المال المنتقل بالكلام الفاسد، أو الكلام الواقع في غير مقامه، محرم،
ولا يعقل أن يحرمه الكلام ثانيا.
فعلى هذا، يحتمل أن يراد منه أن الكلام المحلل هو المحرم، لأنه
يحلل العوض على أحد المتعاملين، ويحرم المعوض على الآخر. وهذا
الوجه بعيد من صدر بعض روايات المسألة، مثل ما رواه الكليني، عن
بعض الأصحاب قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الرجل يجيئني ويقول: اشتر
لي هذا الثوب وأربحك كذا وكذا.
فقال: أليس إن شاء أخذ، وإن شاء ترك؟
قلت: بلى.
قال: لا بأس به، إنما يحلل الكلام، ويحرم الكلام (1).
ومقتضى ما ورد في باب المزارعة - مثل رواية الشيخ، عن أبي
الربيع الشامي، عن أبي عبد الله (عليه السلام): عن الرجل يزرع أرض رجل آخر،
فيشترط عليه ثلثا للبذر، وثلثا للبقر؟ فقال: لا ينبغي أن يسمي بذرا ولا
بقرا... فإنما يحرم الكلام (2) - هو أن المتبع هو المنشأ، دون المقاصد،
والذي يتصف بالصحة والفساد ويورث الحلية والحرمة، هو الأمر
البارز، فإذا اختل الكلام فربما يلزم حرمة المعاملة وآثارها.

1 - الكافي 5: 201 / 6.
2 - تهذيب الأحكام 7: 194 / 857، وسائل الشيعة 19: 43، كتاب المزارعة
والمساقاة، الباب 8، الحديث 10.
31

فالمقصود من الكلام ليس خصوص اللفظ، بل المقصود عنوان
المبرز وما ينشأ به، سواء كان من الأقوال الخاصة، أو المطلقة، أو كان
من الأفعال والإشارة، أو الكتابة، وعلى هذا لا وجه لطرح هذه الروايات،
ولا لحملها على دلالتها على فساد المعاطاة، ولا يلزم التخصيص، فضلا عن
المستهجن منه. ويظهر مما مر مواضع ضعف كلمات الأعلام - رضوان الله
عليهم - فليراجع.
عدم شمول آية الوفاء للمعاطاة
إن قلت: بلغت التخصيصات إلى حد الاستهجان، لخروج العقود
الكثيرة عن لزوم الوفاء بها، فلا وجه للتمسك بمثلها.
قلت: العموم إن كان أفراديا فاللازم ممنوع، وإن كان أنواعيا،
فالعقود الجائزة وإن كانت كثيرة، إلا أن الآية لا تختص بالعقود
المعاملية قطعا، وهذا بنفسه يشهد على أنها العام الافرادي، فلا تغفل،
وتأمل جدا.
لا يقال: لا يتصور الوفاء في المعاطاة، ضرورة أن الآية تأمر بالعمل
بالعقود، فالعقد غير الوفاء به، فكأنها وردت هكذا: يا أيها الذين آمنوا
اعملوا بعقودكم فهو مترتب على العقد، ومن لوازمه الشرعية أو
العرفية المأمور بها شرعا، فعليه لا بد من العقد قبل التسليم والتعاطي
الخارجي، وهذا لا يمكن إلا باللفظ الموضوع لانشائه خصوصا أو عموما.
لأنا نقول: الآية كما تقتضي التسليم، لأنه مقتضى الوفاء به، كذلك
32

تقتضي المنع عن الاسترداد، لأنه أيضا خلاف مقتضى الوفاء به، فعليه إن
حصلت المعاطاة من الطرفين في زمان واحد، فمعنى الوفاء عدم
الاسترداد.
وإن حصلت من جانب واحد، فمعناه - مضافا إليه - تسليم الآخر
مورد المعاملة، للزوم الوفاء به.
وإن حصلت بالمقاولة - بناء على أن محل النزاع، أعم من الفعل
والقول غير المخصوص - فيتحد معناه مع القول المخصوص والصيغة
الخاصة.
ثم إنه قد يشكل الاستدلال بها لصحة المعاطاة، نظرا إلى أن
مقتضاها اللزوم المفقود في المقام بالاجماع (1)، فلا كاشف لصحتها كما
عرفت.
وفيه أولا: أنه سيأتي أنها لازمة.
وثانيا: نفي اللزوم لا يلازم الجواز المقصود في العقود الجائزة،
فيمكن دعوى: أنها مثل العقود التي فيها الخيار، فإنه يجب الوفاء
بمقتضاها، مع جواز فسخها قبل التفرق من مجلسه. ولو صح ما قيل، للزم
عدم صحة التمسك بها للعقد اللفظي إلا بعض منه، كما لا يخفى.
ولو قيل: الآية ناظرة إلى إيجاب العمل بالعقد مطلقا، إن لازما
فلازم، وإن جائزا فجائز، ولا تخصيص فيها، ولا يصح التمسك بها حينئذ، لأن

1 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 85 / السطر 29، لاحظ الإجارة، المحقق
الرشتي: 9 / السطر 12.
33

اللزوم والجواز يعلمان من الخارج، ولا دلالة لها على حكم العقد وإن
أوجبت الوفاء بمقتضاه قبل الفسخ (1).
وبعبارة أخرى: لا يعقل أن يكون الحكم حافظ موضوعه، فلا وجه
للتمسك بها للزوم عدم فسخ العقد، فإذن يجب الوفاء به ما دام موجودا،
وله أن يعدم موضوعه - وهو العقد - بالفسخ ونحوه.
قلنا: ظاهر الآية الكريمة وإطلاقها أنها توجب الوفاء، وفسخ
العقد يعد خلافه عرفا، وليس وجوب حفظ العقد إلا حكم العقل بأنه إذا
وجب الوفاء على الاطلاق، فلا بد من إبقائه، ولذلك يجب إبقاء الدار في
الإجارة للمستأجر.
اللهم إلا أن يقال: بأن وجوب الوفاء بالعقد، غير حرمة نقض العهد
وفسخ العقد، ولا يعقل استفادة الحكمين من الآية الكريمة، فهي تفيد
الأول، أي إذا تحقق العقد يجب الوفاء به وإن جاز إعدامه، فعليه يشكل
التمسك بها لصحة المعاطاة، لأن لزوم العقد وجوازه لا يعلم من قبلها،
وإيجاب الوفاء وإن استلزم أحدهما وهو المطلوب، إلا أن الآية بعد ذلك
تصير ناظرة إلى العقود المتنوعة باللزوم والجواز، وكون المعاطاة
واحدة منها محل الكلام، ومورد النقض والابرام، فافهم.
لا يقال: إن المتبادر من وجوب الوفاء بالعقد هو القيام به، وعدم
البناء على خلافه، دون الالتزام بالآثار، ولذا يستهجن استعمال وجوب
الوفاء في سائر أسباب الملك، كالإرث ونحوه.

1 - الإجارة، المحقق الرشتي: 9 / السطر 15.
34

والسر فيه: أن العقد هو العهد، والوفاء بالعهد مقابل لنكثه
والاعراض عن نفسه، لا عن آثاره، ولذا لا يعد سرقة البائع المبيع نكثا له،
فهي بالدلالة على عدم جواز الرجوع، أولى من دلالتها على وجوب العمل
بمقتضاه (1).
فإنه يقال: كيف يحتمل ذاك، والوجدان قاض بأن العهد الواجب
الوفاء به، هو الذي يلزم ترتيب آثاره؟! ومثله النذر واليمين. بل لا
معنى لايجاب الوفاء بالعقد والعهد، إلا باعتبار البعث إلى ترتيب
مقتضياته والاتيان بلوازمه، وأما نفس عدم البناء على خلافه فهو ليس
نكثا وحنثا. وعدم كون السرقة نكثا، لأجل دخالة القصد في الوفاء
بالعقد ونحوه، وهكذا في نقضه ونكثه.
إشكال صاحب الرياض على الاستدلال بالآية وجوابه
ثم إنه استشكل في الرياض على صحة الاستدلال: بأن المراد
من العقود هي العقود المتعارفة في زمان صدور الآية، فلا بد من
إحراز تعارف العقد أولا، ثم الاستدلال بها (2).
وفيه: أن الشبهة في العموم المذكور، بدعوى ظهور الآية - لما أنها
في سورة المائدة، وهي آخر سورة نزلت - في كون اللام للإشارة إلى

1 - الإجارة، المحقق الرشتي: 9 / السطر 19 وما بعده.
2 - رياض المسائل 1: 511 / السطر 11.
35

العقود الخاصة، ربما كانت قريبة، وقد اختارها جمع من المفسرين (1)،
وهذا يكفي لاستقرار الشك في العموم، فتأمل جدا، ولكن المعاطاة من
العقود المتعارفة في عصرها، فيكشف صحتها، وتكون الآية إمضاء لها.
دلالة آية الوفاء على التأسيس والامضاء بالنسبة للعقود
إن قلت: الهيئة في الآية إما إرشاد إلى لزوم ترتيب آثار العقد، لما
أنه يلزم التصرف في مال الغير، أو إلى لزوم البناء على نفسه، وعدم
جواز نكثه ونقضه، وعلى التقديرين لا تدل على صحة المعاطاة، لأنه
على الثاني لا يكون حكم العقلاء، وحيدا بالنسبة إلى جميع العقود، بل
العقود عندهم على صنفين: لازم، وجائز، وحيث تكون العقود الجائزة
خارجة عنها، لا يعقل دلالتها على صحتها، بل هي عندئذ تدل على صحة
العقود اللازمة.
وعلى الأول، تكون الآية إمضاء الطريقة العقلائية، فلا تكون سندا
لصحتها.
نعم، هي حينئذ دليل على إمضاء المعاطاة بعد معلومية وجودها في
زمان صدورها.
قلت: كما تكون الآية إمضاء، هي تأسيس في مواقف الشك، بمعنى
أنها تأمر بالوفاء بالعقود، فإن كان من العقود ما هو المتعارف بينهم، فهي
إمضاء، وإذا لم يكن متعارفا فهي تأسيس.

1 - التبيان في تفسير القرآن 3: 414، مجمع البيان 3: 232.
36

وهذا لا يورث الجمع بين التأسيس والامضاء - حتى يقال بامتناعه،
أو خروجه عن المتعارف في باب الاستعمالات - ضرورة أنها ليست إلا
باعثة نحو الوفاء بالعقود فقط، وينتزع عنوان التأسيس والامضاء
من الإضافة الخارجة عن الاستعمال، كما لا يخفى.
فإذا كانت المعاطاة عقدا عرفا، لا بد من ترتيب آثار الوفاء، وهو
يلازم الصحة والنفوذ، فهي تورث الملكية بمقتضاها.
وجه عدم إمكان التمسك بآية الوفاء بالعقود
وقد يتوهم: أن صدرها المخصوص بالخطاب بالمؤمنين، في حكم
القرينة على أن المقصود ما يخص بهم، فيكون من المسائل الاعتقادية،
أو البعث إلى العمل بالوظائف الإلهية، وحلية البهيمة من آثار
الوفاء بتلك العقود. هذا ولا أقل من الاحتمال الكافي لصرف العموم،
لصلاحية ذلك للقرينية.
أقول: التحقيق أن هذه النكتة وبعض الجهات المشار إليها،
تورث سقوطها عن صحة الاستدلال بها. هذا مع أن مراعاة مختار
المفسرين، وعدم معهودية الاستدلال بها في أمثال هذه المسائل بين قدماء
الأصحاب إلا نادرا أيضا، يؤدي إلى ذلك. وخروج المعاهدات البدوية
المتعارفة بين الناس عن العموم بالسيرة، مع كثرتها المعتنى بها، يوجب
وهنا فيها، فلاحظ وتدبر جيدا.
37

عدم شمول آية حل البيع للمعاطاة
ثم إنه ربما يشكل التمسك بقوله تعالى: (أحل الله البيع) (1) لأجل
الجهل بالمراد من الحلية فإنه من المحتمل إرادة الحلية
التكليفية، أي أن البيع الناقل والسبب البيعي المملك حلال،
ولا يعاقب الناس عليه، وكون المعاطاة سببا مملكا غير معلوم، فلا تشهد
الآية على صحتها.
ويمكن رفع الاستبعاد عنه بقوله تعالى: (وحرم الربا) (2) الظاهر
في التكليفية. وكون الزيادة غير منتقلة إلى المشتري، لا يورث خلافه،
ضرورة أن الربا محرم تكليفا زائدا على حرمة التصرف في مال الغير.
وهكذا لو فرضنا أن المحرم البيع الربوي، فإنه مضافا إلى فساده
محرم تكليفا، فالحلية التكليفية مصبها الموضوع المفروضة صحته
عرفا وشرعا، والحرمة موضوعها المفروضة صحته وحليته عرفا، لا
شرعا.
ويندفع أولا: الموضوع المفروض ليس إلا المعاطاة، لأنها هي
المتعارفة بين الناس، فيشكل صحة البيع العقدي.
وثانيا: لا وجه لحمل الآية على الاهمال، والاطلاق يقتضي صحة
البيع، للملازمة العرفية بين الحلية والصحة. مع أن الحلية ربما

1 - البقرة (2): 275.
2 - البقرة (2): 275.
38

كانت بمعنى الاطلاق والارسال مقابل الحرمة، وهي بمعنى المنع،
ولا يستعملان في مفاهيم الوضع والتكليف، وإن اعتبرا منه لأجل
الخصوصيات الخارجة عن الاستعمال، على ما تقرر في الأصول.
فبالجملة: يتوقف الاستدلال على ثبوت الاطلاق، وإلا فالحلية بجميع
محتملاتها تجامع الصحة إما شرعا، أو عرفا. وتوهم دلالة الآية
بالمطابقة عليها (1)، ساقط جدا، لأن المفهومين مختلفان.
ودعوى: أن الحلية هنا بمعنى أنه تعالى أحله محله وأقره مقره،
وليس معناها أنه لم يصد عنه وجعله مرخي العنان في تأثيره، لأجل أن
الحل - في قبال الشد - يتعدى بنفسه (2)، مدفوعة، ضرورة أن من الأفعال
ما يتحد معناه في المجرد والمزيد فيه، ولا ملزم لاستعمال المجرد، كما
لا يخفى.
إن قلت: المحتملات حولها كثيرة، فيحتمل أن تكون الآية إنشاء،
ويحتمل أن تكون إخبارا، ويحتمل أن تكون ناظرة إلى نفي المماثلة في
الحكم، ويحتمل أن تكون ناظرة إلى نفيها في حكم الزيادة الحاصلة
بالبيع، والحاصلة من البيع الربوي، ويحتمل كونها جملة حالية، أو
استقلالية، ويحتمل كونها موجبة، أو في حكم السالبة، لما أنها سيقت

1 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 83 / السطر 17، حاشية المكاسب، المحقق
الأصفهاني 1: 25 / السطر 18.
2 - حاشية المكاسب، المحقق الأصفهاني 1: 25 / السطر 20.
39

لرفع المنع (1).
وبالجملة: يحتمل فيها الاطلاق والاهمال، ولا يمكن الخروج عن هذه
المحتملات حتى يمكن الاستدلال بها ولو ثبت الاطلاق وإن تم الاستدلال
إلا على الاحتمال الثاني، إلا أن الظاهر كونها جملة إخبارية عن طبيعي
الفرق، ولا يكون المخبر عنه منشأ بنحو الاطلاق والكلية.
أو الظاهر أنها لا تبين حكم طبيعة البيع، لما هي معلومة، فهي
مسوقة لبيان الفرق بين ربح المكسب الصحيح والبيع الربوي.
وإن شئت قلت: المستفاد منها أن ما هو الحاصل من البيع - أي
المؤثر الخارجي - غير الحاصل من المكسب الباطل، فلا يعقل دلالتها
على صحة المعاطاة.
قلت: لا شبهة في أنها بظاهرها جملة حالية إخبارية مسوقة لبيان
الفرق بين الموضوعين، ردا على الذين (قالوا إنما البيع مثل الربا) (2)
ووجه الفرق حلية البيع وحرمة الربا.
والذي يستظهر منها: أن المراد - بعد ملاحظة القرائن حول الآية
الكريمة الشريفة - نفي التسوية بين البيع غير الربوي والربوي، لأن
الربا المحرم ليس عنوانا يقابل البيع، بل هو من الأوصاف المصنفة للبيع
ونحوه، والمقصود من نفيها بهذه الكيفية إرشاد القائلين بها إلى أنهما
كيف يتساويان، مع اختلاف ملاكهما والمصلحة والمفسدة فيهما؟! ضرورة

1 - لاحظ البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 1: 59 - 62.
2 - البقرة (2): 275.
40

أن الله حرمه وأحل البيع، وذلك لا يكون جزافا، فيعلم الفرق بينهما قطعا.
فإذن لا معنى لاطلاقها، لعدم كونها في مقام جعل الحكم، أو الاخبار
عن الحكم المجعول بنحو الاطلاق، لأنه خارج عما يعلم من مقصود
المتكلم. بل ربما يلزم الكذب، لأن مقتضى كونها إخبارية إخبارها عن أمر
جدي، لا صوري وقانوني، وليس مطلق البيع حلالا جدا، فتأمل جيدا.
وأما توهم عدم إمكان التمسك بها، على فرض إطلاقها في الفرض
الثاني (1)، فغير تام، لأن لازم حلية الزيادة الحاصلة من البيع بنحو
الاطلاق حليته أيضا، لأن البيع مفهوم عرفي، ولا معنى لحمله على المعنى
المؤثر الشرعي، فإذا كانت المعاطاة بيعا فالزيادة الحاصلة منها حلال،
ومقتضاها صحتها قهرا، فتأمل.
والحاصل: أن الاحتمالات لا تضر بالاستدلال لو أمكن إثبات الاطلاق،
ولكنه مشكل جدا.
نعم، بناء على ما سلكناه في المسألة، لا تبقى المعاطاة بلا دليل،
لأنها القدر المتيقن من شمولها.
توهم عدم إمكان تحليل البيع لامتناع تحليل المعنى المسببي
لا يقال: لا يعقل تحليل البيع، لأنه ليس نفس الألفاظ، ولا النقل
والانتقال، ضرورة أن حقيقته تحصل بها، ويحصل منها النقل، فهو أمر آخر
ربما يكون المعنى الجامع من الألفاظ والمعاني، ومن الأسباب

1 - البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 1: 60.
41

والمسببات، فالسبب المتعقب بالمسبب هو البيع، على أن يكون القيد
داخلا، وإذن لا يعقل جعل الحلية للبيع، لعدم معقولية جعلها للمعنى
المسببي.
فما اشتهر: من أنه التمليك بالعوض (1) وما يقاربه (2)، ناشئ عن
الذهول عن حقيقته، فإنه من لوازم تلك الحقيقة وآثارها.
فإنه يقال أولا: لو سلمنا ذلك فتكون الآية مورثة لحلية الآثار،
ومقتضى حليتها على الاطلاق، صحة السبب ونفوذها وحصول الملكية
عرفا، للملازمة نوعا. بل لا معنى لاعتبار حلية جميع الآثار إلا اعتبار
الملكية، لعدم معقولية اعتبارها للآخر.
وثانيا: ليس المسبب جزء مفهوم البيع، ولا هو نفس ذات السبب، بل
المسبب قيد خارجا، فما هو موضوع الحلية هو المؤثر الخارجي عند
العرف، دون الشرع، وحيث تكون المعاطاة مؤثرة تشملها الآية
الكريمة.
وتوهم: أن ذلك ينافي اتصافه بالفساد في نظر العرف، في محله، إلا
أن منشأ الاتصاف ربما يكون التسامح، أو بلحاظ فقد الشرائط الشرعية.

1 - حاشية المكاسب، المحقق الخراساني: 5، حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1:
60 / السطر 9.
2 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 81 / السطر 7.
42

توهم عدم إطلاق الآية وجوابه
ثم إنه ربما يخطر بالبال دعوى: أن قوله تعالى: (أحل الله
البيع) (1) يكون ناظرا إلى البيع الخارجي، لتعرضه لتحريم الربا، وهي
الزيادة الخارجة عن طبيعة البيع، واللاحقة بالفرد منه، وتكون من
تبعاته في الخارج، فلا وجه لتوهم الاطلاق له.
وإن شئت قلت: ليس مطلق الزيادة محرمة في الآية، ولا يلتزم به،
فالآية تختص بزيادة مخصوصة، وهي الزيادة في البيع على ما قد
يستظهر منها في مقامه (2)، وإذن يكون المراد حلية البيع الخارجي،
وتكون وضعية محضا، ولا إطلاق حينئذ لها، لأنها تكون حينئذ ناظرة إلى
تحليل البيع الخالص من الربا وتحريم الربا.
اللهم إلا أن يقال: بثبوت الاطلاق تعبدا، لما ورد في الفقيه بسنده
عن عمر بن يزيد قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك، إن الناس
يزعمون أن الربح على المضطر حرام، وهو من الربا.
قال (عليه السلام): وهل رأيت أحدا يشتري - غنيا، أو فقيرا - إلا من ضرورة؟!
يا عمر، قد أحل الله البيع وحرم الربا، فاربح ولا تربه.
قلت: وما الربا؟

1 - البقرة (2): 275.
2 - يأتي في الصفحة 89.
43

قال (عليه السلام): دراهم بدراهم، مثلان بمثل (1).
بناء على كونها ناظرة إلى الآية الشريفة.
وفيه: أنه كذلك، إلا أن ذلك لا يورث الاطلاق، لأن استدلال
الأئمة (عليهم السلام) بالكتاب أعم من الصحة، كما لا يخفى.
توهم وضع البيع للصحيح وعدم شموله للمعاطاة
ثم إنه قد يشكل التمسك بها، لما ادعي: أن المعاطاة غير ثابت كونها
بيعا، لأنه موضوع للصحيح (2)، وقد مر بعض الكلام فيه (3).
وينحل الاشكال: بأنه على القول بأنه موضوع للأعم والأخص على
ما عرفت آنفا، لاختلاف الشرع والعرف، بمعنى أن العرف إذا لاحظ في
البيع القيود الشرعية، يقسمه إلى الصحيح والفاسد، وإذا لاحظ فيه
القيود العرفية يكون أمره دائرا بين الوجود والعدم، وعلى التقديرين
يتم الاستدلال.
وهكذا على القول: بأنه موضوع للأعم مطلقا (4).
ودعوى كونه موضوعا للأخص على الاطلاق (5)، ترجع إلى القول

1 - الفقيه 3: 176 / 793.
2 - الإجارة، المحقق الرشتي: 7 / السطر 10 - 11.
3 - تقدم في الصفحة 21.
4 - درر الفوائد، المحقق الحائري: 54.
5 - انظر القواعد والفوائد 1: 158، الفائدة الثانية من القاعدة 42، مسالك الأفهام 2:
159 / السطر 37.
44

بالحقيقة الشرعية، وهي باطلة قطعا، خصوصا في ألفاظ المعاملات.
تلخيص الشبهات السابقة
هذا تمام الكلام في رفع الشبهة على صحة المعاطاة، وقد عرفت:
أن الشبهات من طرق شتى:
فتارة: من جهة عدم إمكان الانشاء بالفعل.
وأخرى: من جهة أن مجرد الامكان غير كاف.
وثالثة: لأجل دعوى خروجها موضوعا عن أدلة الامضاء.
ورابعة: لأجل دعوى قصور تلك الأدلة عن شمولها، وإن كانت عقدا
وبيعا.
وقد مضى رفعها من الثلاثة دون الأخيرة، إلا على ما سلكناه.
ولا ينبغي الخلط بين الجهات المبحوث عنها فيها وأدلتها، فإن
البحث في المعاطاة تارة: يكون من ناحية أنها تورث الملكية، أم لا.
وأخرى: من ناحية أنها لو اقتضت الملكية تكون سببا ممضى شرعا
وتشملها الأدلة العامة، أم لا.
وثالثة: في لزومها وجوازها.
وما قد يرى من بعض المحققين من الاستدلال بالأدلة اللفظية
لإفادة المعاطاة الملكية (1)، في غير محله، وكان ينبغي عقد البحث على

1 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 83 / السطر 17، الإجارة، المحقق الرشتي: 7 /
السطر 6.
45

هذه الطريقة، والأمر سهل.
تتميم: حول الاستدلال بآية التجارة على صحة المعاطاة
قصور الآيتين عن شمولها لا يلازم قصور آية التجارة (1) عنه، لأن
ظاهرها هو أن الميزان لصحة الأكل وجوازه، هي التجارة غير المنطبق
عليها عنوان الباطل وتكون حقا، والمعاطاة تجارة عرفية عقلائية،
وليست باطلا عند العقلاء.
بل الظاهر منها أن المدار على الحق والباطل، ولا خصوصية
لباب الأموال والمعاملات والعقود والايقاعات، فما هو الحق هو
الممضى، وما هو الباطل منهي بها، لأن وجه النهي عن الأكل والتصرفات
بإطلاقها هو البطلان عرفا، لا الأمر الآخر، ويصير عرفا وجه التجويز
كونها حقا، سواء كانت تجارة، أو نكاحا.
وربما يخطر بالبال قصورها، لما فيها من الاحتمالات الكثيرة
الناشئة من اختلاف القراءة رفعا ونصبا في لفظة التجارة ومن
اختلاف الآراء في كون الاستثناء منقطعا، أو متصلا.
ومن أنها على فرض كونها منصوبة، تكون خبرا، أو قائمة مقامه، أي
يصير المعنى إلا أن تكون التجارة تجارة عن تراض أو أن تكون
الأموال أموال تجارة.

1 - النساء (4): 29.
46

ومن اختلافهم في أن الباء للسببية أو لغيرها، وفي أن الأكل
كناية عن التصرف، أو هو المقصود مع قصد التصرفات، وبلا قصدها، أو
يكون الغرض النهي عن التملك بالباطل، كالقمار، والسرقة،
والخيانة (1).
هذا مع أن مقتضى قراءة الرفع، كون جملة المستثنى مستقلة، لما أن
الاستثناء منقطع.
وأما على أن يكون متصلا، فيشكل تصحيح الآية إعرابا، إلا على أن
يقال: بأن المحذوف كلمة الأموال (2) وهي الاسم، وقد حذفت لعدم
خصوصية لها، ولدعوى: أن التجارة هي الأموال، أو لأجل انتقال
المخاطب إلى أن تمام الموضوع هي التجارة، وإن وقعت على ما يقابل
الأموال، كالحقوق مثلا، بناء على أن الظاهر من الأموال هي الأعيان، أو
هي والمنافع.
فحينئذ كيف يمكن استفادة الحكم منها مع هذه الوجوه الكثيرة؟!
وتوهم: أنه يمكن الاستدلال لصحة المعاطاة على جميع الوجوه
الممكنة (3)، فاسد، ضرورة أن بناء العقلاء على عدم العمل بمثل هذه
الظواهر غير المعلوم منها مراد المتكلم، لا العمل بالقدر المتيقن فيها،

1 - لاحظ التبيان في تفسير القرآن 3: 178، مجمع البيان 3: 58 - 59، زبدة
البيان: 427.
2 - البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 1: 65.
3 - البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 1: 64.
47

كما لا يخفى.
أقول: تكثير الوجوه لا يوجب سقوط الظواهر، إلا إذا تردد الأمر، ولم
يتمكن من تعيين ما هو الظاهر.
ولعمري، إن الآية ظاهرة في الاستثناء المنقطع، لأن الباطل بذاته
ممنوع، وليس قابلا للامضاء، وجعل جملة (بالباطل) علة للنهي، خروج
عن الظاهر، فإنها من متعلقات الفعل الناقص، ويكون المقصود طريق
الباطل والسبب الساقط، فيصير ظاهر الآية النهي عن أكل الأموال
بالوجوه الباطلة، إلا أن تكون الأموال من تجارة عن تراض، فالنصب
على حذف كلمة الجار، وإذا كانت المعاطاة من التجارة، ولم تكن
باطلة، تصير صحيحة ونافذة.
شبهات على الاستدلال بآية التجارة لا يمكن دفعها
فمنها: ما مر منا (1)، وهو أن الآية ناظرة إلى اعتبار الرضا وطيب
النفس في المعاملة، والنهي عن أكل الأموال بغير رضا صاحبها، ولا تكون
ناظرة إلى تجويز جميع الأسباب غير الباطلة، وإلا لما كان وجه لذكر
القيد في المستثنى مع عدم ذكر سائر القيود المعتبرة، فإنه يشهد على أن
النظر إلى الرضا والتراضي، وأن الباطل وإن كان موضوعا للنهي، إلا أن
التجارة عن تراض ليست موضوعا للتجويز.
فبالجملة: هي تفيد اعتبار التراضي في صحة الأكل والتصرفات،

1 - تقدم في الصفحة 28.
48

ولا تكون في مقام بيان حكم آخر.
ومنها: أن الاستثناء من النفي لا يورث الاثبات، ولو أثبت فلا يثبت به
الاطلاق ولو كان الاستثناء منقطعا، لأن الانقطاع يؤكد عموم المستثنى منه،
لا عموم نفسه. بل الانقطاع يشهد على أن المتكلم في مقام بيان حكم
المستثنى منه، فلا تغفل.
ومنها: أن كلمتي الحق والباطل من الألفاظ التي يختلف
الأقوام والأديان والأمم وأهل الذوق في تفسيرهما، ولا يمكن تفسيرهما
على وجه ثابت كتفسير سائر المفاهيم العرفية واللغات، فإنه كما يصح
أن يقال:
ألا كل شئ ما خلا الله باطل................
ويكون أصدق شعر قالته العرب (1)، يصح أن يقال التجارة عن
تراض ليست من الباطل ففي الاسلام يكون أمور باطلة، وحقة بالأنظار
المختلفة.
وإن شئت قلت بالحقيقة الشرعية في هذه الألفاظ. بل لهما
الحقائق الكثيرة في الشرائع والأمم.
ولا يذهب عليك أنا نقول باختلاف المفهوم، بل المقصود اختلافهم
في تشخيص الصغريات، فكثير من الأباطيل العرفية حق في الشرائع
وبالعكس، وعندئذ لا معنى للتمسك بالآية لموارد الشك.

1 - سنن البيهقي 10: 237، حلية الأولياء 7: 201، الأغاني 15: 375.
49

ولعله ما توجه إليه المحقق الأردبيلي - قدس الله نفسه - (1).
ويؤيده المروي عن أبي جعفر (عليه السلام) حيث عد الربا من أكل المال
بالباطل (2).
وتوهم: أنه من الباطل حكما (3)، في غير محله، لأنها باطل واقعا
وعقلا وإن لم يساعد عليه العرف، وعليه مدار معاش الأمم، وسيأتي حولها
المباحث الأخر عند البحث عن لزوم المعاطاة (4).
ومنها: أن صحة المعاطاة مشروطة - مضافا إلى كونها (تجارة عن
تراض منكم) - بأن يصدق عليها الحق أو لا يصدق عليها الباطل ولو
شك في ذلك فلا يصح التمسك لها بالآية الشريفة، فلو فرضنا أن مفهومي
الحق والباطل من المفاهيم العرفية كغيرهما، ولكنه يشكل دعوى
ذلك هنا، ضرورة أن السيرة العقلائية عليها من سائر الأمم، لا تورث
حقيتها وأنها ليست باطلة، لقيامها على الأباطيل.
وهي في الأمة الاسلامية ناشئة من آراء الفقهاء، فلا استقلال لهم
في هذا الأمر، وإذا شاهدنا فقهاءنا وقد أفتوا بأن المعاطاة لا تفيد الملك،
والناس بنوا على خلافهم، يعلم أن السيرة حصلت من عدم مبالاتهم بالآراء
الحقة اللازم عليهم اتباعها، فالتوسل بالمعاطاة لجواز الأكل مما لا بأس

1 - زبدة البيان: 427.
2 - مجمع البيان 3: 59، البرهان في تفسير القرآن 1: 363 و 364 / 10 و 11.
3 - البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 1: 64.
4 - يأتي في الصفحة 82 - 88.
50

به، إلا أنها لا تندرج في المستثنى بالوجه المقصود، كما لا يخفى.
وتوهم عدم لزوم صدق الحق أو عدم الباطل على المستثنى،
حتى يلزم الاشكال في صحة الاستدلال، في غير محله، لأن الظاهر من
الاستثناء أن التجارة عن تراض ليست باطلا، ولأجله تكون نافذة، بل
مقتضى لزوم كونها خارجة عن المستثنى منه، دخولها تحت أحد
العنوانين.
ولو لم يكن الأمر كما ذكر يلزم التعارض بين الجملتين - المستثنى
منها، والمستثناة - في المعاملات الربوية، فإنها تجارة عن تراض
وباطلة، فليتدبر جيدا.
تنبيه: في التمسك بالمستثنى منه في آية التجارة على صحة المعاطاة
ظاهر القوم أن المستثنى دليل على صحة المعاطاة (1)، ولا يجوز
التمسك بالجملة الأولى لها، بخلاف لزومها.
والذي يظهر لي، إمكان التمسك بها للصحة أيضا، فإنه بناء على
انقطاع الاستثناء يستفاد منها الكبريان: عدم جواز أكل الأموال بالباطل،
والرخصة فيه بالتجارة، فلو فرضنا عدم صدق التجارة على
المعاطاة، وعدم صدق الباطل عليها، فإنها خارجة عن عموم النهي.
ولا يلزم اندراجها في عموم الترخيص، لخروج العناوين الكثيرة
منها، كالإباحات، والأوقاف ونحوها. وتوهم وجود دليل المخرج لها دونها،

1 - منية الطالب 1: 50 / السطر 4، بلغة الفقيه 2: 102 - 103.
51

في غير محله، لأن السيرة القطعية تكفي له.
إشكال عدم إمضاء آية التجارة للمعاطاة العقلائية وجوابه
قد يشكل دلالتها على المدعى: وهو أن المعاطاة ليست في نظر
الشرع ممضاة على النحو المرتكز لدى العقلاء، فإن مفاد الاستثناء
ترخيص التصرفات والأكل بالتجارة، ولا دلالة لها على أن ذلك لأجل
إمضاء سببيتها للملكية التي هي موضوع لها، بل لعل الشرع بعد وقوع
التجارة رخص مستقلا.
وفيه: أنه خلاف المتفاهم العرفي، مع أنه يستلزم اسقاط السببية
العرفية لها، كما لا يخفى.
خاتمة: في الروايات المستدل بها على صحة المعاطاة
إلى هنا تقرر وجه الاستدلال بالآيات، وقد عرفت قصورها عن
تصحيح المعاطاة وكونها دليلا إمضائيا لها إلا على ما سلكناه، من أنها القدر
المتيقن، دون العقود اللفظية (1).
بقي الكلام حول بعض الروايات التي يمكن أن يستدل بها عليها:

1 - تقدم في الصفحة 15 وما بعدها.
52

الاستدلال بحديث السلطنة
فمنها: ما اشتهر بينهم، وهي قاعدة التسليط، وإن الناس مسلطون
على أموالهم على ما هو المروي في البحار (1).
وعن السرائر - على ما في عبارته المحكية في تنبيهات قاعدة
لا ضرر... للشيخ (رحمه الله) (2) - يظهر تمسكه بها.
ومن المحتمل قويا أن السرائر استند إلى قاعدة ثابتة عند
العرف، من غير استناد إلى المعصوم (عليه السلام) (3) ولما كان دأب المتأخرين
على التقاط الأحاديث من الكتب الاستدلالية، توهموا أنه حديث،
فنسبوه إلى رئيس الاسلام غفلة وذهولا.
ويؤيد ذلك ما عرف من مذهبه من عدم العمل بأخبار الآحاد (4)،
فلا يمكن أن يوجد حديث عنده، ولا يوجد عند الآخرين، فراجع.
وغاية ما يمكن أن يقال في تقريب الاستدلال: هو أنها قاعدة إمضائية
لطريقة العقلاء، ومدلولها المطابقي ليس إلا اعتبار السلطنة المطلقة
على الأموال، سواء كانت من التصرفات الخارجية المجامعة مع

1 - بحار الأنوار 2: 272 / 7.
2 - رسالة في قاعدة لا ضرر، ضمن المكاسب، الشيخ الأنصاري: 375 / السطر 7.
3 - قال في السرائر: لأن الناس مسلطون على أملاكهم، بلا إسناد إلى معصوم (عليه السلام).
السرائر 2: 382.
4 - السرائر 1: 51.
53

وجودها، أو المفنية لها، ضرورة أن خروجها عن موضوعها، في الرتبة
المتأخرة عن السلطنة عليها الموجبة لانعدامها، فإذا كانت السلطنة
عليها أمرا عقلائيا، والقدرة عليها معتبرا عرفيا، فكل ما ينافيها يعد عندهم
ساقطا، فلو منع سلطان عن سلطنة أحد على ماله يكون ذلك عندهم غصبا.
ومن ذلك لو منعه عن تسليط الغير عليها مجانا أو بعوض، فإنه
مزاحمة مع حقه الثابت لديهم في أمواله.
وهذا في المعاطاة واضح ومناف للمدلول المطابقي، وفي العقد
اللفظي مناف للمدلول الالتزامي، لاستلزام المنع عن النقل الاعتباري منعه
عن السلطنة على ما له بتسليط الغير عليه بعنوان الوفاء بالعقد، فإذا
كان مسلطا على تسليط الغير بعنوان التملك، تصح المعاطاة، وبعنوان
الوفاء بالعقد يصح العقد اللفظي بلازمه، فيصح التمسك بها لرفع ما شك
في اعتبار شئ في العقد.
وتوهم: أنها لا دلالة لها على صحة الاعراض ونفوذه، لأنه لا
سلطنة لها على سلب السلطنة (1)، فاسد جدا، ضرورة أن الاشكال يسري
إلى النقل بعوض أولا.
وثانيا: ليس هذا من السلطنة على سلبها، بل هي السلطنة على
اخراجها من الإضافة الخاصة، فإذا انتفت الإضافة ينتفي موضوع
القاعدة، وينتزع حينئذ السلطنة على سلب السلطنة، كما لا يخفى.
ومما ذكرنا يظهر وجه النظر في تقاريب القوم حول الاستدلال بها،

1 - لاحظ مصباح الفقاهة 2: 102.
54

وأنها لا تتقوم بكونها مثبتة للسلطنة بأنواعها، والمعاطاة منها (1)، أو هي
الصنف الملحق بنوعها، لأن المراد منه ليس النوع المصطلح (2)، حتى
يتوجه إليه: أن قاعدة التسليط لا دلالة لها على بيان المقررات
العرفية والشرعية في النقل والانتقال، ولا يعقل نظارتها إلى الأسباب
والعقود، لأنها غير الأموال (3)، فافهم وتدبر.
شبهات وتفصيات متعلقة بحديث السلطنة
الشبهة الأولى:
ما أشير إليه، وهو أن السلطنة على الأموال للناس، لا تعقل مع فقد
موضوعها، وهو الناس، وما هو كالموضوع لها، وهي الأموال، فمفادها
القدرة على الأموال وجواز تصرفهم فيها بأنحاء التصرفات التي يبقى معها
الحكم، ولا يعقل اقتضاء الحكم إعدام موضوعها أو ما هو كالموضوع (4).
وفيه: نقض بأنها ترد على قوله تعالى: (إن الله على كل شئ

1 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 83 / السطر 20، حاشية المكاسب، المحقق
الخراساني: 12، حاشية المكاسب، المحقق الإيرواني 1: 77 / السطر 27، مصباح
الفقاهة 2: 101 - 102.
2 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 69 / السطر 32.
3 - البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 1: 80.
4 - حاشية المكاسب، المحقق الإيرواني 1: 77 / السطر 29.
55

قدير) (1).
وحلها: أن الأموال متعلق السلطنة التي هي الحكم المجعول فيها،
أو الممضي بها، وعموم السلطنة يقضي بأن الناس يجوز لهم التصرف
فيها على الاطلاق، وخروج المال عنه بالسلطنة عليه وإعدامه لا يورث
السلطنة على المعدوم، ولا لزوم حفظه.
ولو فرضنا أن الشبهة غير منحلة عقلا فهي منحلة عرفا قطعا، وأنه
يعلم منها المراد، كما لا يخفى.
الشبهة الثانية:
أن ما لدى العرف في إنفاذ المعاملات، يتوقف على أمرين:
أحدهما: سلطنة المالك على ماله، فمثل المجنون والطفل غير
المميز لا سلطنة لديهم، فلا بد في إنفاذ المعاملة من السلطنة على
المال.
ثانيهما: إيقاع المعاملة على طبق المقررات العقلائية، فبيع
المجهول المطلق بمجهول مطلق، ليس نافذا لديهم، لا لقصور سلطنة
المالك، بل لمخالفته للمقرر العقلائي.
فإنفاذ السلطنة على الأموال، لا يلازم الانفاذ الثاني، بل العرف له
السلطان على الأموال، وعليه التبعية للمقررات العقلائية، ولا سلطنة
له عليها، فأحد الحكمين أجنبي عن الآخر، فلا معنى للاستدلال بها لصحة

1 - البقرة (2): 20 و 106 و 109.
56

المعاطاة أو العقد المستحدث الآخر، ولا ينبغي الخلط بين البابين
والمقامين (1).
وفيه: أن تسليط الغير على الأموال جائز بمقتضاها، فلو سلطه عليها
بعنوان التمليك بعوض، فهو أيضا صحيح، مع أن تسليط الغير خلاف مفادها،
لأن الناس لا يسلطون على أنفس الآخرين، ولكنه كما يجوز له أن يجعل
ماله مورد سلطنة الآخر بلا عوض، له أن يجعلها مع العوض، فمع قبول
المسلط عليه يجوز له التصرف فيما انتقل إليه، وهذا هو النقل البيعي
المستخرج منها.
فلزوم التبعية للمقررات العرفية يتصور على وجهين:
أحدهما: ما هو غير المنافي لعموم السلطنة عرفا، كما في المثال
المذكور.
وثانيهما: ما هو المنافي عرفا، وهو يمنع عن تسليط الغير بعوض على
ماله، والمنع عن مبادلة ماله بمال الآخرين ولو في صورة.
فالمدار على فهم العرف فيما هو المنافي لعموم السلطنة ونفوذها،
فالقاعدة وإن تعرضت للسلطنة على الأموال، إلا أن الملازمات المنافية
لها تدفع بها.

1 - لاحظ البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 1: 80.
57

الشبهة الثالثة:
ليس مقتضى قاعدة التسليط جواز التصرفات على الاطلاق (1)،
بحيث تكون مرجعا لو شك في حلية شئ وحرمته، أو نفوذ شئ وفساده،
وإلا يلزم جواز التمسك بها لو شك في حلية لحم الأرنب مثلا، مع أنه لم
يعهد منهم التمسك بها في أمثال المقام، فهي لم ترد في مقام التشريع.
ولا تدل على استقلال الملاك في التصرف في أموالهم من جميع
الجهات، حتى يلزم التخصيص بالنسبة إلى الممنوعات الشرعية في
المآكل والمشارب والملابس وغيرها، فإنها في أفق آخر لا ينافي ما ذكر:
وهو أن الملاك مستقلون في أموالهم في الجهات المشروعة، ولا وجه
لمزاحمة الآخرين لهم، فهم غير محجورين عن التصرف فيها في تلك
الجهات، فعليه لا يمكن رفع الشبهات الحكمية بها، تكليفية كانت، أو
وضعية.
وفيه: أن الملازمة بين عدم كونها قاعدة رافعة للشك في بعض
المقامات، وبين كون معناها ما ذكر، ممنوعة جدا، فإنها قاعدة يصح رفع
الشك بها، إلا أن الشكوك مختلفة، فتارة: يشك في أن زيدا له السلطنة
على ماله أم لا، وأخرى: يشك في أن السلطنة الكذائية ثابتة له أم لا،
فإنها بعمومها تكون رافعة، فهي قاعدة مشرعة من تلك الجهة، وبإطلاقها
إن لم تكن مشرعة ورافعة للشك والشبهة، فهو لا يستلزم أن يكون معناها

1 - مصباح الفقاهة 2: 101 - 102.
58

ما ذكر، فإنه تقييد بلا دليل، ولا ملزم لتفسيرها على الوجه المنطبق على
القواعد.
فبالجملة: سيأتي منا أنها قاعدة عامة مشرعة بعمومها، ولا إطلاق لها
حتى يصح رفع الشبهة الثانية بها، بل لا يعقل الاطلاق لها (1)، وما قيل فهو
من القرائن على عدم الاطلاق لها، لا على أن معناها السلطنة على
الجهات المشروعة حتى يلزم إفادة الواضحات، فتدبر.
هذا مع أن الالتزام بالاطلاق والتقييد، التزام بالأمر الرائج في
القوانين العرفية والشرعية، وعليه مدار المقررات كلها، وعدم تمسك
الأصحاب لرفع الشبهات الحكمية بها، كعدم تمسكهم بها لتصحيح العقود
المستحدثة، فإنه لا يضر شيئا.
الشبهة الرابعة:
هذه القاعدة ليست منجزة، لعدم معقولية جعل السلطنة على
الأموال وإن زاحمت السلطان الحقيقي والشرع الأقدس، فهي قاعدة
معلقة، سواء كانت تأسيسية، أو إمضائية، لأن حكم العقلاء أيضا معلق
على عدم ورود الدليل من السلطان الحقيقي.
نعم، العرف غير المنتحل للديانة لا يكون كذلك. اللهم إلا أن يقال:
بأنهم أيضا يعتقدون التعليق بالنسبة إلى الهرج واختلال النظم.
فعليه لا دلالة لها على صحة عقد من العقود، لاحتمال ورود الأمر

1 - يأتي في الصفحة 62.
59

من الشرع على خلافها (1).
وفيه: أن مثل هذا التعليق سار وجار في جميع القوانين العرفية
والشرعية، وهذا لا يورث التعليق في الحكم المنجز، بل الحكم
المنجز - في مقام المزاحمة - يترك إذا كان المزاحم أقوى.
هذا مع أن التعليق العقلي، لا يورث سقوط التمسك بالدليل
اللفظي، لما تقرر منا في ذيل آية الوفاء بالعقود (2)، فإذا فحصنا عن حال
المعاطاة، ولم نجد نهيا في الشريعة عنها، فهي صحيحة، تمسكا
بالعمومات والاطلاقات في الشبهات المصداقية اللبية العقلية.
الشبهة الخامسة:
لا إطلاق لها، إما لأجل أنها في مقام رفع الحجر عن الملاك بإثبات
السلطنة لهم على أموالهم.
وإما لأنها قاعدة حيثية، بمعنى أنها تكفلت لاثبات صرف وجود
السلطنة، من غير أن يكون النهي عن التصرفات الخاصة منافيا لها،
كقوله تعالى: (أحلت لكم بهيمة الأنعام) (3) فإن هذه الحلية حلية من
حيث الذات ولا ينافيها الحرمة العرضية الجائية من قبل الوطء
وغيره.

1 - لاحظ البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 1: 83.
2 - تقدم في الصفحة 29.
3 - المائدة (5): 1.
60

فعلى هذا، رفع الشك بها غير ممكن إلا إذا شك في أصل السلطنة،
دون الخصوصيات الراجعة إلى الأسباب المملكة، وعندئذ ينتفي توهم
التعارض بينها وبين سائر الأدلة المانعة عن بعض التصرفات (1).
وفيه: أن التزامهم بعدم الاطلاق، لأجل الفرار من بعض الشبهات
المتوجهة إلى ظاهر الحديث، وهذا لا يقتضي ذاك، ولا ملزم لتفسيرها
بالوجه المنطبقة عليه القواعد، حتى يلزم ارتكاب خلافها، فإنها - بلا
شبهة - تكون ظاهرة في عموم السلطنة للناس، وإطلاقها لجميع الأموال في
أنحاء التصرفات، وهو يستلزم نفوذ الأسباب، لأن مقتضى نفي الملازمة
ممنوعيتهم عنها كما عرفت.
بل قضية كونها أمرا عقلائيا، هي السلطنة على الاطلاق المورثة
لجواز التصرفات الاعتبارية كالخارجية، لما نجد منهم الاستدلال بها في
موقف منعهم عنها، فلو قيل: لا تبع هذا يجيب: بأنه مالي وملكي نتصرف
فيه كيف نشاء.
وإن شئت قلت: لا خصوصية للقيود المأخوذة في هذه القاعدة، لأنها
بيان ارتكاز العرف والعقلاء، ومقتضى المناسبة بين كون شئ مال أحد
وفي ملكه، إطلاق سلطنته بالنسبة إلى ما لا يعد عندهم مزاحما معه،
فلا يجوز له أن يقتل أحدا بسيفه بدعوى إطلاق سلطنته.

1 - لاحظ البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 1: 82 - 83.
61

شبهة منع إطلاق حديث السلطنة وجوابها
ومما ذكرنا يظهر النظر في الشبهة على الاطلاق: بأنها قاعدة تنادي
بعدم الفرق بين العرب والعجم والترك والديلم في ثبوت السلطنة
على أموالهم، ولا نظر لها إلى إطلاق السلطنة. وتأييده باقتضاء كلمة
الناس ذلك، في غير محله، فليتدبر.
والذي يخطر بالبال أن يقال: هو أن القاعدة من العمومات
اللفظية، والمحمول فيها جمع يفيد العموم، وشأن هذه العمومات غير شأن
المطلقات، فإنه فرق بين قولنا: الناس لهم السلطنة على أموالهم
وقولنا: الناس مسلطون على أموالهم فإن النظر في الأولى إلى جعل
الطبيعة محمولا، وحيث لم تكن مقيدة يكشف أنها تمام الموضوع.
وبعبارة أخرى: المتكلم في هذه الصورة ناظر إلى نفس الطبيعة،
وجعلها سارية ومحمولا، بخلاف الصورة الثانية، فإن النظر فيها إلى
تكثير الطبيعة إلى جميع الأفراد، ولا معنى لأن يكون ناظرا إلى أن
الطبيعة وحدها هي المقصودة على الاطلاق، أو هي مع القيد الآخر، وهذا
أمر يسري في جميع العمومات اللفظية.
نعم، إذا تعرض في ذيل كلامه لما يدل على الاطلاق، كأن يقال: حتى
السلطنة على الأكل فهو، وإلا فالمناسب للقواعد الأدبية التعرض لعموم
القضية وخصوصها، فيقول: الناس مسلطون على أموالهم، حتى
الكفار أو إلا كذا فلاحظ وتدبر جيدا.
62

ويمكن دعوى: أن هذه القاعدة كما لا تدل على جواز ارتكاب
الشبهات الحكمية والموضوعية، تدل على نفوذ المعاطاة والعقود
المستحدثة، وذلك لشهادة العرف على أجنبيتها عن الأولى دون الثانية،
ولعله لأجل أن ظاهرها الارتباط مع المسائل الوضعية، دون التكليفية.
اختصاص حديث السلطنة بالمعاملات العرفية الامضائية
ولك أن تقول: لا مساس لهذه القاعدة بالمسائل الشرعية الناشئة
عن المقتضيات والأحكام التأسيسية الدائرة مدار المصالح
والمفاسد، بخلاف المسائل العرفية التي لا يحتاج في إمضائها إلى
وجود تلك الاقتضاءات، بل نفس عدم ترتب الفساد كاف في إمضائها،
وحيث إن أبواب المعاملات عرفية وإمضائية، تشملها القاعدة، لكونها
كذلك.
وقد ذكرنا تفصيل هذه النكتة في مسائل قاعدة نفي الضرار، وذكرنا
أن قاعدة السلطنة لا تعارضها، وهكذا في مسائل الشروط، فليراجع.
ثم إن هنا شبهات أخر لا خير في نقلها ونقدها، وقد مر بعض منها في
ذيل الآيات الكريمة، فليراجع.
ذنابة: حول سند حديث السلطنة
لم يثبت صدور القاعدة ولا انجبارها بعمل الأصحاب، لما لم يعهد
منهم التمسك بها في الكتب الواصلة منهم إلينا، والشهرة بين
63

المتأخرين لا تغني من الحق شيئا.
وتوهم: أن الشهرة القديمة مثلها، ساقط جدا، ضرورة أن هؤلاء
الأعلام - إما لاطلاعهم على وثاقة الرواة، أو القرائن - اتكلوا عليها،
وحيث هي غير معلومة لا يلزم طرحها.
وتوهم انتقاضها بالشهرة الفتوائية المستندة إلى الرواية
الواصلة غير الدالة عليها، فإنهم لا يعتنون بهم فيها، فكيف بنوا على العمل
بآرائهم في السند دون الدلالة؟! مع أن من المحتمل اتكالهم على بعض
القرائن الواصلة إليهم.
ولو قيل: إنها لو وصلت إلينا ربما لا تدل على شئ.
قلنا: الأمر كذلك في السند.
غير تام، لأن أمر السند دائر بين أمرين: وثاقة الرواة، ووجود
القرائن، وأمر الدلالة يدور على الثاني فقط.
اللهم إلا أن يقال: بأن الدوران لا ينفع شيئا، فإن من المحتمل
اتكالهم على القرائن غير الكافية، فلا يثبت اعتبار السند بالعمل.
أقول: في المسألة تفصيل خارج عن وضع الكتاب، ومن شاء
الاطلاع عليه فليراجع مباحثنا الأصولية (1).

1 - تحريرات في الأصول 6: 388 - 394.
64

حول التمسك بحديث المؤمنون... لصحة المعاطاة
ومنها: قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): المؤمنون عند شروطهم (1).
ومثله ما ورد في عدة روايات: المسلمون عند شروطهم مذيلا
بالاستثناء (2).
وتقريب الاستدلال به يعلم بعد تحرير المسألة: وهو أن الشرط
كما يطلق على الالتزامات الضمنية، يطلق على المتعلقات البدوية، فلو
قال المشتري: لو أعطيتني ذلك أو ملكتني فعلي كذا أو نعطيك ذلك فإنه
بعد التملك يلزم عليه العمل بشرطه، وهذا النحو من المعلقات كما

1 - تهذيب الأحكام 7: 371 / 1503، وسائل الشيعة 21: 276، كتاب النكاح،
أبواب المهور، الباب 20، الحديث 4.
2 - عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: من اشترط شرطا مخالفا
لكتاب الله فلا يجوز له ولا يجوز على الذي اشترط عليه، والمسلمون عند شروطهم،
مما وافق كتاب الله عز وجل.
الكافي 5: 169 / 1، تهذيب الأحكام 7: 22 / 94، وسائل الشيعة 18: 16، كتاب
التجارة، أبواب الخيار، الباب 6، الحديث 1.
إسحاق بن عمار، عن جعفر، عن أبيه (عليهما السلام)، إن علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان يقول:
من شرط لامرأته شرطا فليف لها به، فإن المسلمين عند شروطهم، إلا شرطا حرم
حلالا وأحل حراما.
تهذيب الأحكام 7: 467 / 1872، وسائل الشيعة 18: 17، كتاب التجارة، أبواب
الخيار، الباب 6، الحديث 5.
65

يجعل مستقلا، يجعل في ضمن العقود أيضا.
وفي إطلاق الشرط على المعاملات إشكال، فالمعروف بينهم
عدمه (1)، وقيل بصحة الاطلاق (2)، مستدلا ببعض الاستعمالات في الأدعية (3)
والروايات (4)، ويحمل كلام اللغوي المفسر له ينافيه على المثال، كما هو
المتداول بينهم.
ويمكن دعوى خروج المعاملات المعلقة عن موضوع النزاع
أيضا، ضرورة أن الانشاء في الجعالة والسبق والرماية، ليس تمليكا
منجزا كالبيع والصلح، فهي شروط لغة.
وأما المنجزات من العقود، فهي في الانشاء وإن كانت غير معلقة،
ولا يصدق عليها الشرط بدوا، ولو فرضنا صدقه عليها فدليله منصرف
عنها، لظهور الشرط في المعنى المقابل لها، فلا خير في إطالة الكلام
حول معناه اللغوي، ولكنها في اللب متضمنات للتعليق عرفا.
وتفصيله: هو أن حقيقة البيع والغرض الأصلي منه، انتقال
العوضين خارجا إلى المتعاقدين، لكي ينتفعوا بهما، ويصلوا إلى مرامهم

1 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 215 / السطر الأخير، حاشية المكاسب، المحقق
الإيرواني 2: 5 / السطر 15.
2 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 2: 4 / السطر 27.
3 - الصحيفة السجادية: 154، الدعاء 80، وأوجب لي محبتك كما شرطت ولك يا
رب شرطي أن لا أعود، بحار الأنوار 99: 104، في ضمن دعاء الندبة.
4 - وسائل الشيعة 18: 37، كتاب التجارة، أبواب أحكام العقود، الباب 2،
الحديث 2 و 3.
66

المطلوب بالذات، فالانشاء وإن هو منجز، إلا أن تسليم كل واحد منهما
معلق على تسليم الآخر ضمنا، ولأجله قيل بخيار تخلف الشرط إذا تخلف
أحدهما عن التسليم (1)، فإذا ملك البائع مثلا معاطاة فهو على مبنى
الشرط، فعلى المشتري بمقتضى الرواية رد الثمن، وإذا وجب ذلك يعلم
صحتها على النحو المقرر في ذيل آية الوفاء بالعقود.
نعم، لو احتاجت المعاطاة إلى تسليم الجانبين، فلا يكون الحديث
سندا لصحتها.
اللهم إلا أن يقال: بإلغاء الخصوصية، فإن العرف إذا توجه
لوجوب العمل بالشرط، ينتقل منه إلى أن مفهوم الشرط لا
خصوصية له، بل المدار على المعنى الحاصل منه، وهو المشترك بينه
وبين سائر الالتزامات، وسيوافيك تمام البحث حوله في المبحث الآتي (2).
وقد يشكل الاستدلال به لصحتها لما أن دعوى انصرافها عن مثل هذه
النحو من الشروط مسموعة جدا، خصوصا بعد مراعاة حال الاستثناء
المنطبق في بعض المآثير على الشروط التابعة (3).

1 - مصباح الفقاهة 4: 267.
2 - يأتي في الصفحة 102 - 104.
3 - عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: المسلمون عند شروطهم إلا كل شرط
خالف كتاب الله عز وجل فلا يجوز.
تهذيب الأحكام 7: 22 / 93، الفقيه 3: 127 / 553، وسائل الشيعة 18: 16،
كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 6، الحديث 2.
إسحاق بن عمار، عن جعفر، عن أبيه (عليهما السلام)، إن علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان يقول:
من شرط لامرأته شرطا فليف لها به، فإن المسلمين عند شروطهم، إلا شرطا حرم
حلالا أو أحل حراما.
تهذيب الأحكام 7: 467 / 1872، وسائل الشيعة 18: 17، كتاب التجارة، أبواب
الخيار، الباب 6، الحديث 5.
67

هذا مع أن عمومها معرض عنه في الشروط البدوية والعهود
الابتدائية، لقيام السيرة القطعية على خلافها. ودعوى التخصيص بعيدة
جدا.
وتوهم صحة التمسك مع سقوط العموم عن الظهور في مثل
المقام، غير تام، لأنه يرجع إلى وجود القرينة على خلافه، وهي
مجهولة.
اللهم إلا أن يقال: بأن ذلك لأجل أن السيرة العملية غير قابلة
للردع بمثله، فيبقى العام قابلا للرجوع إليه، فافهم وتدبر.
حول التمسك بحديث حل المال مع الطيب والرضا لتصحيح المعاطاة
ومنها: موثقة سماعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث: فإنه لا يحل
دم امرئ مسلم ولا ماله إلا بطيبة نفس منه (1).

1 - سماعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من كانت عنده
أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها، فإنه لا يحل دم امرئ مسلم ولا ماله إلا بطيبة
نفسه.
الفقيه 4: 66 / 195، وسائل الشيعة 5: 120، كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلي،
الباب 3، الحديث 1.
68

وتقريب الاستدلال بها: هو أن مقتضى الحصر أن السبب لحلية
المال هو الرضا والإذن الكاشف عنه، كما في بعض المآثير (1)، وإذا
تحققت المعاطاة فإما يحل، أو لا، فعلى الثاني يلزم عدم الحلية مع
الطيب، وعلى الأول تلزم صحة المعاطاة، لأن الطيب المورث لحلية
المال، تعلق بالعنوان الملازم لها، لا بنفسه.
وإن شئت قلت: تحليل العين بجميع منافعها على الاطلاق، موضوع
لاعتبار الملكية لمن حلت له، فإذا جاز المقدم بمقتضى إطلاق الحديث،
تحققت الملكية عرفا، وإذا حصلت هي فالسبب نافذ شرعا. ولعل مقصود
المحقق الرشتي (رحمه الله) (2) يرجع إليه.
وبعبارة أخرى: لو ورد جواز تحليل شئ مطلقا، فكأنه ورد جواز

1 - أبو الحسين محمد بن جعفر الأسدي قال: كان فيما ورد علي من الشيخ أبي جعفر
محمد بن عثمان العمري قدس الله روحه في جواب مسائلي إلى صاحب الدار (عليه السلام)...
إلى أن قال: - وأما ما سألت عنه من أمر الضياع التي لناحيتنا، هل يجوز القيام
بعمارتها، وأداء الخراج منها، وصرف ما يفضل من دخلها إلى الناحية احتسابا للأجر
وتقربا إليكم؟ فلا يحل لأحد أن يتصرف في مال غيره بغير إذنه فكيف يحل ذلك في
مالنا؟!
كمال الدين: 520 / 49، وسائل الشيعة 9: 540، كتاب الخمس، أبواب الأنفال،
الباب 3، الحديث 7.
2 - الإجارة، المحقق الرشتي: 10 / السطر 13.
69

تمليكه عرفا، فإذ أجاز التمليك فهو أعم من التمليك بالسبب اللفظي أو
العملي، وعلى ما سلكناه يكون الثاني القدر المتيقن منه.
وما يتوجه إلى الوجه الأول واضح، مع أن لنا اختيار الشق
الآخر، وهو حلية المال بدون الحاجة إلى الطيب، لأنه بالمعاطاة
خرج عن سلطانه وأمواله، ودخل في ملك المشتري، بناء على صحة
المعاطاة. وإذا كانت فاسدة فله مقام آخر، فلا يستكشف نفوذها منه.
ويتوجه إلى الثاني: أن مقتضى إطلاق الحديث ممنوعية الغير
عن التصرف إلا بالإذن والطيب، وأما إذا أذن وحصل منه الطيب فيجوز
على الاهمال، ولا يورث جواز التحليل على الاطلاق، كما لا يخفى، وسيأتي
تفصيل البحث في ذيلها (1).
ثم إنه قد ذكر الشيخ الأعظم (قدس سره) (2) عموم أدلة البيع والهبة
ونحوها، ولا أظن وجود العموم في هذه الأبواب.
فالمسألة على ما سلكناه واضحة، وهي صحة المعاطاة بعد كونها
عرفا صحيحة ومورثة للملكية.
نعم، قد يشكل في بعض المقامات تصويرها، كما في استئجار الحر،
وجعل الدار مسجدا، وإلا لو فرضناها فهي مشمولة للسيرة القطعية
والبناء العقلائي.

1 - يأتي في الصفحة 96 - 99.
2 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 85 / السطر 1.
70

إن قلت: لا خير فيها، لأنها متشكلة من الذين لا يعتنون بالديانة (1)،
فإن فتوى المشهور على خلافهم، مع أنها على اللزوم المخالف معه، إلا
مثل المفيد (2) وجماعة من متأخري المتأخرين، كالأردبيلي،
والكاشاني (3)، فهي سيرة مردوعة غير مرتدعة، فلا تكون حجة وكاشفة
عن رأي المعصوم (عليه السلام).
قلت: المغروسات العقلائية، وما ابتلي به الناس، ويكون من
عاداتهم الموروثة، لا يمكن ردعها وارتداعهم منها برواية وحديث، بل
بآية وأحاديث، بل نحتاج - مضافا إلى الأدلة اللفظية من الآيات
والأحاديث في جميع الأعصار من النواحي المقدسة - إلى إعمال
القوى الأخرى وراءها، كما ترى في مشابهاتها، فعليه لا معنى للشبهة فيها
بعد عدم العثور على رواية تدل على خلافها.
ومن هنا يعلم قرب مقالة المحقق الثاني (رحمه الله): من حمل فتوى
المشهور على ما يوافقه العرف (4). والبحث عن لزومها غير منظور فيه
عند الأكثر، فتدبر.
هذا مع أن المعتنين بالديانة غير معتنين بها، ولا يبالون بما قيل
فيها، كما في معاملات الصبي، وهذا أيضا دليل على ما ذكرناه.

1 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 83 / السطر 29، الإجارة، المحقق الرشتي: 10 / السطر 22.
2 - المقنعة: 591.
3 - مجمع الفائدة والبرهان 8: 142 - 143، مفاتيح الشرائع 3: 48 - 49.
4 - جامع المقاصد 4: 58.
71

خاتمة: حول الاستدلال بآيتي القنطار والافضاء على صحة المعاطاة
قد حكي (1) عن بعض أجلة العصر جواز التمسك لها بقوله تعالى:
(وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه
شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا * وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى
بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا) (2).
وقال الوالد المحقق - مد ظله العالي - في تقريبه بالآية
الأولى: إن المراد من إيتاء القنطار إيتاؤه مهرا، وعدم جواز الأخذ
لأجل صحته ولزومه، ولازمهما صحة العقد المشتمل عليه، وبإلقاء
الخصوصية يسري الحكم إلى سائر العقود.
وفي تقريبه بالثانية: إن قوله: (وقد أفضى) علة مستقلة
للتعجب من أخذ المهر، وقوله: (أخذن منكم) علة مستقلة أخرى، فتدل
على أن أخذ الميثاق الغليظ علة الصحة واللزوم، فيسري الحكم إلى
غيره (3) انتهى.
وبعبارة أخرى: لا معنى للغلظة في المعنى المسببي، وفي السبب كما
يمكن في اللفظي منه، يمكن في غير اللفظي كما مر، لأن المراد منها تحكيم
العقدة.

1 - البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 1: 77.
2 - النساء (4): 20 - 21.
3 - البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 1: 77.
72

والظاهر أن المراد من قوله: (وقد أفضى) هي المواصلات
والمراودات المتعارفة قبل العقد، لاشتمال الآية على المعنى التبادلي.
فحمله على الجماع ونحوه لأجل المآثير والروايات (1)، ولأن ظاهر
قوله: (وأخذن) أنه من آثار الافضاء، ولا وجه لتقديم أثر الميثاق
الغليظ على المؤثر، وهو الميثاق الغليظ، فعلى هذا ينحصر وجه
التعجب بالجملة الأخيرة.
ويتوجه إلى الأولى: أنها في مقام البحث عن النكاح بعد تحققه،
ولا نظر فيها إلى تصحيح السبب المحقق له، بخلاف الثانية، فإن
ظاهرها أن الميثاق الغليظ موضوع لممنوعية الزوج عن الأخذ، وهو أمر
عرفي، فلو تحقق بغير الألفاظ المخصوصة، أو بغير اللفظ رأسا، فهو ممنوع،
ولا حاجة في استكشاف العلة إلى أداتها، بل المدار على العرف، فإذا
صحت المعاطاة في الجملة نقول بصحتها على الاطلاق، لما يتراءى منها
القول بعدم الفصل.
وتوهم خروج النكاح عن الآية (2)، في غير محله، لأن النكاح
الواقع في سائر الأمم ممضى عندنا، وهو ربما لا يكون باللفظ، فالآية ناظرة

1 - بريد قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (وأخذن منكم ميثاقا
غليظا) فقال: الميثاق هو الكلمة التي عقد بها النكاح، وأما قوله: (غليظا) فهو ماء
الرجل يفضيه إليها.
الكافي 5: 560 / 19، وسائل الشيعة 20: 262، كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح،
الباب 1، الحديث 4.
2 - البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 1: 79.
73

إلى المعنى الكلي، وإن كان في خصوص النكاح بين المسلمين، شرط
اللفظ واعتبار القول.
وبعبارة أخرى: المدار على الميثاق الغليظ حسب الآية الشريفة،
فإن ورد في الأخبار في خصوص عقد اعتبار اللفظ، فيعلم منها أن الميثاق
الغليظ فيه ذلك، وفيما وراءه تبقى الآية على إفادتها، فلاحظ وتدبر جيدا.
أقول: لو سلمنا دلالتها عليها، فهو مع قطع النظر عن الروايات
الكثيرة المشتملة على المعتبرة، وآراء المفسرين، وإلا فهي على خلاف
ما ذكرنا في معناها، والتفصيل في كتاب النكاح.
74

المبحث الثاني
في إفادة المعاطاة للزوم
المشهور (1) بل المدعى عليه الاجماع بقسميه بسيطا ومركبا (2)،
جواز المعاطاة، وعن الغنية نفي كونها بيعا (3)، وعن جامع المقاصد
اعتبار اللفظ في العقود اللازمة بالاجماع (4).
وقال المحقق الرشتي: ويعضد جميع ذلك السيرة الواضحة
الجارية على الجواز، والسلطنة على التراد قبل التلف، أو التصرف
في أحد العوضين (5).

1 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 85 / السطر 30.
2 - الإجارة، المحقق الرشتي: 16 / السطر 24.
3 - الغنية، ضمن الجوامع الفقهية: 524 / السطر 25.
4 - جامع المقاصد 5: 309.
5 - الإجارة، المحقق الرشتي: 16 / السطر 16 و 24.
75

وما نسب إلى المفيد (1) ليس موافقا لما حكي عن عبارته (2)، بل قيل:
إنه في موافقة المشهور أظهر (3) وهو غير بعيد.
ويؤيده ما عن كاشف الرموز من نسبة اشتراط الصيغة في البيع
إليه وإلى الشيخ (4)، وقيل: هذا من الرموز التي كشف عنها، فجزاه الله
خيرا (5).
وما يستظهر من عبارات العلامة في محكي التذكرة من نسبة
اعتبار الصيغة إلى الأشهر (6)، وفي محكي المختلف إلى الأكثر (7)،
وفي محكي التحرير إلى الأقوى (8)، لا يضر بالاجماع والاتفاق، لاحتمال
احتياطهم في التعبير لما كان في ذهنهم وجود الخلاف، فتأمل.
مع أن الاستظهار، لا يعارض الدعاوى الصريحة المشار إليها.
فقول: الأردبيلي والكاشاني وميل المسالك لا يعبأ به (9) بعد

1 - جامع المقاصد 4: 58.
2 - المقنعة: 591.
3 - لاحظ الإجارة، المحقق الرشتي: 16 / السطر 16.
4 - كشف الرموز 1: 446.
5 - الإجارة، المحقق الرشتي: 16 / السطر 18 - 19.
6 - تذكرة الفقهاء 1: 462 / السطر 5.
7 - مختلف الشيعة: 348 / السطر 1.
8 - تحرير الكلام 1: 164 / السطر 6.
9 - مجمع الفائدة والبرهان 8: 142، مفاتيح الشرائع 3: 48 - 49، مسالك الأفهام 1:
133 / السطر 36.
76

الاتفاق المشهود عنهم (1)، ولا سيما السيرة المدعاة على خلافهم (2)،
ضرورة أن الأدلة اللفظية لو اقتضت اللزوم، فهي غير قابلة للاحتجاج بها،
لقيام السيرة القطعية على خلافها، على ما ادعاه (رحمه الله) (3) ولدعوى الاجماع
صريحا عن بعض الأساطين في شرح القواعد (4) على عدم لزومها، من غير
اعتناء بمخالفتهم.
أقول: لا يعتنى بالاجماعات المحكية التي أخذ اللاحق من
السابق من غير الغور في تحصيلها، وليس المحصل منها موجودا. بل
المحصلات منها في أمثال هذه المسائل غير قابلة للاعتماد، لسوء الظن
بها، ضرورة أن المسائل المبتلى بها الناس، هي التي بحيث يرد من
الشرع فيها نص صريح، فإن ردع الناس لا يمكن إلا بمثل ذلك، فلو قيل:
بصدوره وعدم وصوله، فيقال: بأنه لا يصدر النص الواحد، لأنه غير كاف
لارتداعهم عما عليهم من الالتزام، وما سمعت من السيرة فهو ممنوع، إلا في
المحقرات غير المعتنى بشأنها.
فبالجملة: دعوى عدم لزوم البيع في المحقرات ولو كان البيع لفظيا
للسيرة، لا تخلو من خيال رجحان، ومع التردد في حاصلها يرجع إلى
الأصل المحرر الآتي على اللزوم.

1 - الإجارة، المحقق الرشتي: 16 / السطر 22.
2 - الإجارة، المحقق الرشتي: 16 / السطر 16.
3 - نفس المصدر.
4 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 85 / السطر 29، شرح قواعد الأحكام: 49 /
السطر 3 - 6 (مخطوط).
77

الأمور الدالة على أصالة اللزوم
وما يمكن أن يكون سندا لهذا الأصل والقاعدة أمور:
الأمر الأول: السيرة العقلائية
لا شبهة في أن بناء العقلاء على اللزوم في جملة من العقود، كالبيع
في الجملة، والإجارة، والصلح.
وهل هذا أمر تعبدي بينهم، فلا يعلم من قبلهم حال سائر العقود، أم أمر
عقلائي مشترك فيه جميع العقود؟
الظاهر هو الثاني، وذلك الأمر هو تقبيحهم المتخلف عن الوعد
والعهد، وإن من أخرج شيئا من ملكه - بعوض كان أو بغير عوض - يقبح له
أن يدعيه، لأنه من قبيل ادعاء ما ليس له، فلا فرق عندهم بين العقود
الإذنية التمليكية كالهبة، والعقود المعاوضية.
نعم، في العقود الإذنية غير التمليكية كالعارية، إن كانت موقتة،
فالعود إليها قبيح قبل انقضاء الوقت، وفي غير هذه الصورة لا يكون
العود قبيحا، إلا إذا كان قبل الانتفاع رأسا.
وما ترى من التقبيح على العود وترتيب الأثر عليه، فهو لا يضر، لما
ترى في العقود اللازمة من الأمرين أيضا، فإن المشتري إذا راجع البائع
لرد المبيع، فهو مع قبوله منه في كثير من المعاملات يعد فعله قبيحا،
78

فلا تخلط.
أقول: الانصاف أن العقود عندهم في اللزوم والجواز مختلفة، ولو لم
يكن وجه الاختلاف معلوما لا يلزم إنكاره، ولعل ذلك لأن العقود المحتاج
إليها الأقوام والأمم في إدارة معاشهم وتشكيل الحياة الاجتماعية لازمة،
بخلاف غيرها، فلاحظ جيدا.
وأما قبول البائع، فهو على مبنى الإقالة التي هي - في الجملة -
أمر عقلائي، وإلا يلزم تصرفه في مال الغير. مع أنه لا يرى نفسه متصرفا
في ملك المشتري بعد قبول رده، وإن كان بغير طيب منه، ويعده قبيحا.
ومما يشهد على التفصيل: أن في هذه العقود، يكون للبائع حق عدم
القبول عرفا، وربما يكون ذلك في المحقرات، فضلا عن غيرها، بخلاف مثل
الهبة والعارية والشركة وغيرها، فتأمل.
وإني كنت في سالف الزمان على الأصل المذكور، إلا أن
المراجعة إليهم تؤدي خلافه، فهل على هذا تكون المعاطاة من اللوازم،
أم لا، أو يفصل بين المحقرات وغيرها، أو يقال: بأنها إن كانت عقدا مستقلا
حيال سائر العقود، فهي محل البحث، وأما لو كانت صنفا من العقود فهي
تابعة لأصلها، فالمعاطاة في البيع لازمة، وفي الشركة جائزة؟
أقول: الذي هو التحقيق الحقيق بالتصديق من غير فرق، هو اللزوم
في المحقرات وغيرها حسب نظر العرف والعقلاء، فإنهم بعدما يجدون
البيع مملوكا له، لا يرون حقا للغير فيه.
وبالجملة: مقتضى السيرة وبناء العقلاء لزومها في الجملة، وفي
مواقف الشبهة - مثل المعاطاة نسية، خصوصا في المحقرات - ترجع إلى
79

العمومات ومقتضى الأصول العملية، وقد مر منا: أن الأصل في
المعاملات هي المعاطاة صحة ولزوما، والعقود اللفظية تحتاج إلى دليل
الامضاء واللزوم، لما مضى أن سببيتها لأجل التوسعة في الاعتبار الأولي (1)،
فلا تغفل.
الأمر الثاني: حول مقتضى عمومات الكتاب والسنة الدالة على
أصالة اللزوم
وقد مضى البحث حولها في المسألة السابقة (2)، وربما يشكل
التمسك بها هنا، لأجل أنها ليست قابلة لردع ما عليه بناء العقلاء من
الجواز، كالوكالة، والعارية، ونحوهما، ولذلك لم يرتدعوا بها فيها، وذلك
لأن المغروسات العرفية أقوى منها، فلا ينصرفون عنها إلا بما هو الأقوى
منها، وعلى هذا لا تكون مرجعا في مواضع الشبهة، لأنها تكون إرشادا إلى
ما عليه العرف، وإذا شك في لزوم عقد وجوازه - بحسب الفهم العرفي -
فهو لا يزول بها.
وبعبارة أخرى: لا بد من إحراز اللزوم العقلائي حتى يثبت شرعا، فتلك
العمومات قاصرة عن المرجعية في الشبهات الحكمية.
بل يمكن دعوى استحالة كونها مشرعة، للزوم الجمع بين التأسيس

1 - تقدم في الصفحة 15 - 16.
2 - تقدم في الصفحة 26 وما بعدها.
80

والامضاء ولو فرضنا إمكانه، كما مضى تقريبه (1)، ولكنه خلاف المتفاهم
العرفي.
ودعوى استكشاف اللزوم العقلائي بالعموم، واستكشاف حال
الموضوع بالحكم، وإن كانت ممكنة، إلا أنها خروج عن المتعارف في
أبواب الاستعمالات والمحاورات القانونية.
إن قلت: ما ذكرتم يرجع إلى إنكار صحة التمسك بالعمومات
المخصصة، وهو بديهي البطلان.
قلت: كلا، فإن عدم العمل بالعمومات بعد التخصيص، غير ترك
العمل بها لأجل قصورها عما هو الظاهر منها، فإنه في الفرض الثاني
لا يجوز التمسك، خصوصا بعد مساعدة العرف، لكونها إرشادا محضا. ولو
كان الخروج عن مقتضاها مرهونا بورود المخصص، لكان يلزم القول
بلزوم عقد الشركة، لعدم الدليل على جوازه إلا الشهرة القاصرة.
إن قلت: العمومات مختلفة في إفادة المقصود، وهو لزوم العقود إلا
ما خرج بدليل، فإن مثل قوله تعالى: (أوفوا بالعقود) (2)، وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
المؤمنون عند شروطهم (3) يورث ذلك على المطابقة أو الملازمة،
بخلاف قوله تعالى: (إلا أن تكون تجارة عن تراض) (4) وقوله (عليه السلام):

1 - تقدم في الصفحة 36 - 37.
2 - المائدة (5): 1.
3 - تهذيب الأحكام 7: 371 / 1503، وسائل الشيعة 21: 276، كتاب النكاح،
أبواب المهور، الباب 20، الحديث 4.
4 - النساء (4): 29.
81

لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفس منه (1). فإنه لا يدل على اللزوم.
نعم، يفيد نتيجة اللزوم، ولذلك قلنا: بأن اللزوم المحصول من بعض
أدلته، ليس محكوما بأحكامه المخصوصة، مثلا اللزوم العقلائي
الممضى، ليس مما يكون الشرط المخالف له خلاف الكتاب
والسنة، بخلاف اللزوم المحصول من الشرع تعبدا.
قلت: نعم، وعليه لا بد من صرف عنان الكلام حول هذه الآيات
والروايات حتى يتبين الحق، ولا بأس باستطراد البحث عن غيرها، لما
فيه من النفع الكثير كما ترى.
الآيات المستدل بها على أصالة اللزوم
الآية الأولى: آية التجارة
أي قوله تعالى: (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة
عن تراض منكم) (2).
وقد مر شطر من الكلام حولها في المسألة السابقة (3)، وعلى ما

1 - الفقيه 4: 66 / 195، وسائل الشيعة 5: 120، كتاب الصلاة، أبواب مكان
المصلي، الباب 3، الحديث 1 و 3، و 14: 572، كتاب الحج، أبواب المزار،
الباب 90، ذيل الحديث 2.
2 - النساء (4): 29.
3 - تقدم في الصفحة 46 وما بعدها.
82

تقرر عندي إن الاستثناء منقطع، وعلى التقديرين يستفاد منها الحصر، لأن
حكم المستثنى خلاف حكم المستثنى منه حتى في المنقطع، إلا إذا كان
الاستثناء كناية عن تأكيد العموم في المستثنى منه، فيكون مجوز أكل
بعضهم من مال الآخر، منحصرا في تلك التجارة.
وخروج الإباحات والقرض والهبة وتملك مجهول المالك،
لا يضر بصحة الاستدلال فيما وراء مورد التخصيص، لأن مفهوم الحصر
كالعموم اللفظي المخصص الذي يستدل به فيما عدا مورد التخصيص،
فكما لا يضر خروج التجارة الغررية بعموم الدليل في مورد الشك،
كذلك فيما نحن فيه.
وعدم صحة الاستدلال بالمستثنى منه - لأن المراد من (الباطل)
إما عرفي، أو شرعي، وعلى التقديرين يكون من التمسك بالعموم في
الشبهة الموضوعية - لا يورث قصورا في الاستدلال بمفهوم الحصر
الظاهر من الآية الكريمة، فيكون الفسخ والتملك محتمل البطلان
بحسب النظر إلى المستثنى منه.
وأما إذا لاحظنا الجملة الثانية، فهو ليس من الأسباب المجوزة
للأكل والتصرف، فيعلم حاله وهو بطلان التمليك من عموم الجملة
الأولى أيضا.
وتوهم: أنه بعد الفسخ يحتمل خروجه عن ملك المشتري،
ولا يكون ماله، فلا يجوز التمسك (1)، غير تام، لأن منشأ الشك احتمال

1 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 2: 4 / السطر 19.
83

تأثير الفسخ، وهو مدفوع بعموم الحصر، فلا حاجة إلى الاستصحاب
الموضوعي.
وبه يندفع أيضا ما قد يقال: من أن الموضوع لحلية الأكل، المال
الحاصل بالتجارة على نعت التقييد، بناء على إمكان تقييد المعلول
بعلته، أو يكون موضوعها المال الذي لا ينطبق إلا على المال المذكور
بنتيجة التقييد، وإذا وقع الفسخ يحتمل انتفاء التجارة، فالتمسك غير
جائز (1).
هذا مضافا إلى اندفاعها بوجه آخر: وهو أن التجارة هي السبب،
ولا وجود لها بعد تحققها في وعاء البقاء، بخلاف العهد والعقد، ولا تزول
حقيقة التجارة بالفسخ، وهذا ما يجري في جميع ألفاظ المعاملات، فإنها
موضوعات للأسباب المتعقبة بالمسببات عرفا، ولا يشترط بقاء المسبب
في الاسم، فلو زال بالفسخ فالزائل هو العقد، دون التجارة والبيع، فإنهما
لا يزولان بعد ترتب الأثر عليهما، فتأمل جيدا.
توهم عدم إمكان التمسك بالآية عند الشك لصيرورة الشبهة موضوعية
وقد يشكل الاستدلال بها، لأجل أنها ظاهرة في الجملة الأولى في
إناطة الحرمة والمنع بالباطل، سواء كان من الأباطيل في الأسباب، أو
غيرها، فلا يكون الأكل بالإباحات وغيرها بالباطل، وعلى هذا تبطل
الأسباب، ويحرم غيرها تكليفا بعموم النهي، ولاختلاف الأثر حسب

1 - لاحظ حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 74 / السطر 8 - 10.
84

اختلاف الموضوعات، ولأجل هذا الظهور تكون الجملة الثانية،
ظاهرة في إناطة الحلية والأكل بالحق، والتجارة منه، فلا ينتقض
بالقرض والهبة وأمثالهما. ولا دخالة لعنوان التجارة فيشمل الآية
بالتنويع جميع الأشياء، لأنها إما حقة، أو باطلة.
فعلى هذا لا يصح التمسك، لأن الباطل عرفي، والباطل العرفي
معلق على عدم تصرف من الشارع الأقدس فيه، وإذا شك في نفوذ الفسخ
فالشبهة موضوعية (1).
ويندفع: بأنا لو سلمنا جميع مقدمات الشبهة فلا نصدقها، لأن التعليق
في الخطاب مضر، دون اللب، فإن جميع الخطابات الإلهية مع تنجزها،
معلقات بما لا يلزم منها الهرج والمرج والظلم والقبح العقلي، وهذا
لا يورث قصور التمسك بها بعد الفحص، ولا يقبل عند العرف عذر
المعتذر الذي بالفسخ تصرف في مال الغير، واعتذر بذلك قطعا، فإذن
لا يجوز التملك بعد التجارة إلا بالدليل المقدم عليها.
ودعوى الفرق بين التعلق في الأحكام والتعلق في
الموضوعات (2)، ممنوعة، ضرورة أن العرف يجد من الأشياء ما هي باطلة
في نظره، ولو اطلع على حكم الشرع ينتقل إلى أن توهمه غير تام، فإذا كان
الرجوع والتملك باطلا عرفا - لما أنهم يقولون باللزوم على ما عرفت - فهو
مشمول الآية، إلا إذا وصل الدليل على خلافه.

1 - لاحظ حاشية المكاسب، السيد اليزدي 2: 4 / السطر 16 - 17.
2 - البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 1: 116.
85

إن قيل: ليس (الباطل) في الآية عرفيا، بل هو الباطل الواقعي، لأن
الألفاظ موضوعة للمفاهيم الواقعية، فلا يتم الاستدلال، لأنا نحتمل احتمالا
عقلائيا أن يكون الفسخ من الأسباب الصحيحة للأكل، لا من الأباطيل
الواقعية، فالتمسك بها في المقام من قبيل التمسك بالعام في الشبهة
المصداقية (1).
قلنا: لا واقعية للمعاني الاعتبارية، ولو فرضناها فهل المدار على
تشخيص العرف حال التزاحم، أو الشرع؟ لا شبهة في تعين الثاني،
فليس هذا إلا التعليق في الموضوع، أو ما أشرنا إليه.
وبالجملة: ليس المقام إلا من التمسك بالعام في الشك في
التخصيص، لأن الخارج ليس عنوانا واحدا قابلا للانطباق على الفسخ،
كما لا يخفى.
التمسك بإطلاق المستثنى منه لاثبات العلة التامة المنحصرة
أقول: الظاهر أو من المحتمل قويا أن تكون الآية، ناظرة إلى بيان
الحكم في المستثنى منه، ولا إطلاق للجملة الثانية، ولذلك لا تجد من
نفسك التهافت البدوي بين قوله: نهى النبي عن بيع الغرر (2) وتلك
الآية. والاتيان ببعض القيود المعتبرة دون بعض، يفيد أنه ليس في مقام

1 - مصباح الفقاهة 2: 141.
2 - عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 45 / 168، عوالي اللآلي 2: 248 / 17، وسائل
الشيعة 17: 448، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 40، الحديث 3.
86

ذكر جميع القيود، فهو كالقرينة على عدم الاطلاق، فالتمسك به لتجويز
الأكل بعد الفسخ - وهو الكاشف عن عدم نفوذه - ساقط.
هذا، وقد تقرر منا: أن مفهوم الحصر لا يقبل التخصيص، فضلا عن
التخصيصات المتعددة، لأنه عرفا يضادها، ولا يمكن الجمع العقلائي
بينه وبينها، كما هو المتعارف بين العمومات اللفظية والمخصصات،
ضرورة أنه لو ورد: ما جاءني أحد إلا خمسة من العلماء ثم ورد مجئ
العلماء كلهم، فإنه لا يجمع بينهما، فتكون النتيجة عدم مجئ أحد إلا
العلماء. بل العرف لا يجد إلى الجمع بينهما سبيلا (1).
وإن شئت قلت: في خصوص المقام يستفاد المفهوم من استكشاف
العلة التامة المنحصرة لجواز الأكل، وهي التجارة عن التراضي، فإن
الباطل علة المنع، والتجارة علة الجواز، ضرورة أن الجملة
المستثناة في حكم الوصف المعتمد، وعليه لا يمكن عندي تخصيصه،
لأن المفهوم ناشئ من تلك العلية، ولو ورد دليل على خلافه يعلم عدم
الانحصار، فيسقط المفهوم، لأنه من الآثار القهرية، ويكون حجيته -
كحجية القطع - غير قابلة للتقييد والتخصيص. بل هو أسوأ حالا،
والتفصيل في محاله (2).

1 - تحريرات في الأصول 5: 186.
2 - لاحظ فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 505، تحريرات في
الأصول 5: 186.
87

توهم عدم خروج الإباحات والقرض ونحوهما من مفهوم الحصر وجوابه
إن قلت: لم يخرج من عموم الحصر شئ حتى ينافيه، ضرورة أن
المراد حصر مجوز أكل المال في التجارة على أن يكون ملكا للأكل، لا
لغيره، فلا ينتقض بالإباحات، وأن موردها المعاملات المعاوضية، بقرينة
قوله تعالى: (أموالكم بينكم) فغير المعاوضات - كالقرض والهبة -
غير داخلة، ومن الأول تملك مجهول المالك، والتملك بالالتقاط.
قلت: أولا: جميع التجارات الفاسدة شرعا - لقيود اعتبرت فيها -
خارجة عنها، لأن مفاد الحصر نفي التوسعة والتضييق، ولا معنى
لدعوى الحصر مع إنكار الاطلاق، لأن حصر مجوز الأكل بالتجارة، يلازم
عرفا كونها تمام الموضوع من غير دخالة قيد آخر، وإذا كانت المعاملات
الغررية والغبنية خارجة، فهو ينافي الحصر كما لا يخفى، فتأمل.
وثانيا: التقييد المذكور يورث أن يكون الموضوع لجواز
التصرف، الملك الحاصل من التجارة، مع أنه ليس كذلك، بل الملك
تمام الموضوع لجواز الأكل.
مع أن التقييد مما لا يقتضيه الكلام، كما لا يقتضي التقيد
بالمعاوضات، فإن القرض والهبة من الأسباب المملكة الصحيحة
الحقة، ولا نظر في قوله تعالى: (أموالكم بينكم) إلى التبادل
بالضرورة. مع أن الهبة المعوضة ليست من التجارة، فتدبر جيدا.
88

الآية الثانية: آية حل البيع
أي قوله تعالى: (وأحل الله البيع وحرم الربا) (1).
وغاية ما يمكن دعواه حولها: هو أنها في مقام تحليل البيع بتحليل
الحاصل منه، وهو الربح المقابل للزيادة الملحوظة في المعاملة
الربوية، فلا تدل على حلية الطبيعة، ولا التصرفات، لأن حلية
الطبيعة كانت معلومة، وما كانت مورد ادعاء التسوية، وحلية التصرفات
غير محتاج إليها، لأن الطبيعة المحللة تلازم جواز التصرف عرفا.
فهي ناظرة إلى نفي التسوية المتخيلة، وهي بين البيع الربوي
وغيره، فإن البيع غير الربوي يورث النفع كالربوي، فإذا حلت الأرباح
فإطلاقها يفيد اللزوم، لأنه بعد الفسخ محلل أيضا.
ولا وجه لتوهم الشبهة الموضوعية هنا، فيقال: بعدم جواز
التمسك، ضرورة أن الحلية متعلقة بأمر خارج عن الطبيعة، وهي
الزيادة والربح، وبإلغاء الخصوصية يعلم لزوم سائر العقود.
ولو قيل: ليس مورد الحلية الربح، بل المورد الربح الحاصل من
البيع، فإذا تحقق الفسخ يحتمل انتفاء البيع الذي هو قيد الموضوع (2).
قلنا: قد مضى آنفا أن اعتبار الفسخ حل العقد والعهد، دون عناوين
المعاملات، فإنها موضوعات للأسباب المتعقبة بالمسببات في

1 - البقرة (2): 275.
2 - لاحظ منية الطالب 1: 50 / السطر 5.
89

الجملة (1)، وسيأتي زيادة توضيح في ذيل الآية الآتية إن شاء الله تعالى.
أقول: كما يمكن صرف الآية الأولى بذيلها وصدرها، يمكن صرف
ذيلها بها، فإن قوله تعالى: (وحرم الربا) ربما يفسر بأنه يفيد حرمة البيع
الربوي، لا مطلق الربا، ولذلك اختلفت كلمات القوم في حرمتها في غيره،
إلا القرض فإنها فيه محرمة قطعا، فعلى هذا تكون الآية جملة إخبارية
عن الحلية المتعلقة بالطبيعة المخصوصة، والحرمة المتعلقة بها
كذلك، وبذلك يرتفع غائلة التسوية.
ولعمري، إنه أظهر المحتملات حولها، لأن مدعي التسوية لا يسأل
إلا عن الفرق بين البيع الربوي وغير الربوي، وهي تنادي بذلك، وتكون
ناظرة إلى دفع وهمهم، فلا إطلاق لها حتى يتم الاستدلال بها حينئذ، وقد
مضى بعض البحث فيها (2).
الآية الثالثة: آية الميثاق الغليظ
أي قوله تعالى: (وأخذن منكم ميثاقا غليظا) (3).
فإنها لا تدل على الصحة إلا بلازمها، وهو لزوم الميثاق الغليظ،
والنهي عن أخذ المهر بعده إرشاد إلى فساد الفسخ والرجوع.
وربما تدل هذه الآية على الحرمة التكليفية زائدة على الارشاد

1 - تقدم في الصفحة 84.
2 - تقدم في الصفحة 38 وما بعدها.
3 - النساء (4): 21.
90

إلى الفساد، ولا منع من الجمع بينهما، فإن المحرم الشرعي - وهو
الأخذ - لا يتلائم عرفا مع الصحة والتنفيذ، فيكون المال المأخوذ منها
محرما عليه وضعا، لأنه تصرف في مال الغير، ونفس المراجعة إليها
والأخذ منها ممنوعا تكليفا، فلاحظ وتدبر جيدا.
الآية الرابعة: آية الوفاء بالعقود
أي قوله تعالى: (أوفوا بالعقود) (1).
والذي تقرر منا عدم ارتباط هذه الكريمة بالمقام (2)، وعدم شمولها
لجميع العهود والعقود والتكاليف الإلهية، فإن الوجوب فيها ليس
تكليفا ثانويا، حتى يلزم تعدد العقاب في التكاليف الشرعية، وتعدد
الوجوب، ولا إلزاما عقليا، أو إرشادا إلى لزوم عقلائي أو عقلي، حتى يلزم
التخصيصات الكثيرة من خروج المستحبات، بل والمكروهات،
والعهود البدوية غير المعاوضية، والعقود الجائزة والفاسدة، ويلزم
ما مر في ابتداء المسألة.
فهي تنبيه وتوجيه للمؤمنين إلى المعاهدات بنحو الموعظة
والتذكار، وإيقاظهم من نوم الغفلة والنسيان، وإلى حسن الوفاء
بالعقود كلها، وقبح تركه عقلا، من دون إفادتها الالزام. وليست هذه الآية
تشمل نفسها، لتلك الجهة التي سمعت منا.

1 - المائدة (5): 1.
2 - تقدم في الصفحة 36.
91

والعجب من أصحابنا المحققين، حيث جعلوا كلمة الوجوب
موضوع بحثهم، واستظهروا منها الحكم (1)!! مع أن الآية ليست إلا باعثة
نحو الوفاء بالعقود، ولا تكون مشتملة عليها.
وإذا كان حملها على الأصل الأولي في الهيئات ساقطا، لما سمعت،
فحملها على الأصل الثانوي فيها غير تام، لأن ظاهرها التكليف الشرعي
المورث للعقاب على تركه، فما هي الظاهرة فيه غير قابل للعمل به،
وما هي القابلة للعمل به فيه خلاف ظاهرها، فتكون النتيجة ما أفاده
البهبهاني (2) والرياض (3) وغيرهما على ما نسب إليهم (4)، وناظرة إلى
عدة من المعاهدات المعلومة عندهم.
ومما يورث مرامنا، هو أنها تفيد الوجوب الشرعي حسب الأصل
الأولي ومقتضى قول المفسرين، وذلك مشروط بالقدرة، وهي ثابتة
بالنسبة إلى التكاليف الإلهية، ومنتفية بالنسبة إلى العقود،
والالتزام بها فيها يوجب دلالتها على جواز العقود، وهو عكس المطلوب،
وإخراج التكاليف الإلهية غير ممكن، لأنها القدر المتيقن منها، والقول
بالتفكيك خروج عن العقل والعرف، ويكفي الثاني.
ودعوى: أن الوفاء بالعقود هو العمل على طبق مقتضاها، ففي

1 - الإجارة، المحقق الرشتي: 15 / السطر 7، منية الطالب 1: 64 / السطر 3، البيع،
الإمام الخميني (قدس سره) 1: 126.
2 - لاحظ الإجارة، المحقق الرشتي: 15 / السطر 13.
3 - رياض المسائل 1: 511 / السطر 11.
4 - الإجارة، المحقق الرشتي: 15 / السطر 13.
92

التكاليف هو الاتيان بها، وهكذا في مثل النذر والعهد في العقود ترتيب
آثار العقد، من التسليم وغيره (1)، مسموعة، إلا أن من الوفاء عدم نقضه
أيضا، وترك نكثه، فلو فسخ العقد قبل أن يأتي وقت التسليم، وأعلن أنه
نقض عهده، ولا يكون بانيا على التسليم، فإنه أيضا يعد من التخلف عن
الوفاء بالعقد، فلو كان هذا مشمول الآية الكريمة، يلزم إما جوازه، وهو
ممنوع، أو كون الهيئة إرشادا إلى اللزوم، وهو مثله، فلا بد من اختصاصها
بغيرها.
إن قلت: يدور الأمر بين حمل الهيئة على الارشاد إلى ما يحكم به
العقل والعقلاء في الموارد المختلفة وحفظ عموم الآية، وبين حملها
على الوجوب، وإخراج ما نحن فيه منها، والأول متعين، لمعهوديته مع
القرينة، فإن الوجوب التكليفي يستلزم تعدد العقاب على ترك
الواجبات الشرعية ولا قرينة على الثاني.
قلت: نفي كونها تكليفا مورثا للعقاب الثانوي، لا يستلزم حملها على
الارشاد، فإن هنا شقا آخر، وهو كونها تكليفا ناشئا من الإرادة المولوية غير
متعقب بعقاب خاص، كالأوامر التأكيدية، فإنها أوامر مولوية، إلا أنها
ليست ذات إرادة مستقلة، وما هو الأصل الأولي هي المولوية المستقلة
في الإرادة، وهي ساقطة، ثم المولوية الناشئة من تلك الإرادة الأولية،
وهي غير ساقطة، وليس خلاف ظاهرها، كما لا يخفى.
وربما يشهد على عدم كونها إرشادا تصدرها بقوله تعالى: (يا أيها

1 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 215 / السطر 13.
93

الذين آمنوا) (1) فإنه المناسب لمسائل راجعة إليهم، دون قاطبة
الناس، وتذيلها بقوله تعالى: (أحلت لكم بهيمة الأنعام) الظاهر في أنها
من آثاره الوفاء بتلك العقود، فتأمل جيدا.
صيرورة الشبهة في بقاء العقد موضوعية ولزوم التمسك بالأصل العملي
ثم إن المقصود من التمسك بالأدلة اللفظية، بيان دلالتها على
اللزوم من غير التوسل بالأصول العملية، وهو غير ممكن، لأن بقاء العقد
بعد الفسخ مشكوك.
وتوهم: أن الآية الكريمة تدل بالمطابقة على وجوب الوفاء
بالعقود، وبالالتزام عرفا على حرمة النقض، والشك المذكور يرتفع
بدلالتها الالتزامية، لأنه مسبب من تأثير الفسخ المنفي بها، لأن الحرمة
إما تكليفية، فهي لا تجامع الصحة عرفا، وإما إرشادية، فهي تورث فساد
الفسخ (2)، فاسد، ضرورة أنها ممنوعة على ما تقرر في الأصول (3).
ودعوى اقتضاء إطلاق وجوب العمل بالعقد إبقاءه، ولو عمل عملا
يوجب انتفاءه، فهو قد تخلف ولم يف بعقده، لا تنفع شيئا في المسألة، بل
تفيد جواز العقود وضعا، كما لا يخفى.
إن قلت: الابتلاء بالشبهة الموضوعية، من توابع حمل الهيئة على

1 - المائدة (5): 1.
2 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 215 / السطر 14 - 17.
3 - تحريرات في الأصول 4: 296.
94

التكليف المولوي، ولو كانت إرشادا إلى اللزوم، فهي تدفع تأثير الفسخ
قهرا، واختيار أن الآية تورث وجوب الوفاء تكليفا، يوجب جواز نقضها بعد
الزمان الأول، لسقوط الأمر بأول مصداقه، وهو خلاف مقصود المتكلم،
فعليه يتعين حمل الهيئة على الارشاد، خلافا لمقتضى الأصل الأولي، بل
والثانوي كما عرفت.
قلت أولا: لا نلتزم بشمول الآية لتلك العقود، حتى يلزم ما لزم، ويقال
ما قيل.
وثانيا: كما أن فهم العقلاء في جانب النواهي بقاء النهي بالتخلف
الأول، كذلك فهمهم في بعض الأوامر بقاؤه وإن أثم بأول مصداقه، أو أتى به.
مثلا: إذا قال المولى: وقروا كباركم (1) ليس معناه سقوط الأمر بأول
التوقير، بل يجب ذلك في جميع الأزمان، ومثله قوله تعالى: (أوفوا
بالعقود) (2) فإنه يلزم الوفاء ما دام العقد باقيا، وأما لزوم إبقاء الموضوع
فلا يتكفل له الأمر بالوفاء به.
وهذا من الشواهد العرفية على عدم شمول الآية هذه الموارد،
وتكون إشارة إلى العقود التي أمرها بيد الشرع الأقدس، ضرورة أن
إيجاب الوفاء وتجويز الفسخ غير متلائمين عرفا، فيعلم منه خروجها
رأسا، فتدبر جيدا.

1 - فضائل الأشهر الثلاثة: 77 / 61، وسائل الشيعة 10: 313، كتاب الصوم، أبواب
أحكام شهر رمضان، الباب 18، الحديث 20.
2 - المائدة (5): 1.
95

ثم إنه من المحتمل إجمال الآية، لأن العقد لغة غير مستعمل في
التكاليف، واختصاص الآية بغيرها مما يجمع على بطلانه.
مع أن تعرض الكتاب - خصوصا في سورة المائدة، ولا سيما بهذا
الخطاب - لمثل ما هو المعلوم عند الشيخ والشاب، في نهاية البعد عند
ذوي الألباب، ضرورة أن العهد لا يتقوم بالقول، بخلاف العقد، ولا قبول منا
عرفا لها كما لا يخفى.
ومما حصلناه يظهر النظر في التقاريب الأخر حول الآية
الكريمة، ولو تعرضنا لها ولنقدها لخرجنا عما عليه وضع الكتاب من
الاختصار.
الروايات المستدل بها على أصالة اللزوم
الرواية الأولى: رواية عدم حل المال بلا طيب
وهي موثقة سماعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث: أن رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها، فإنه لا يحل
دم امرئ مسلم ولا ماله إلا بطيبة نفسه (1).
فإنها ظاهرة في ممنوعية الناس عن مطلق التقلبات في مال الغير
المسلم إلا مع رضاه، ومن تلك التحولات تملكها.

1 - الفقيه 4: 66 / 195، وسائل الشيعة 5: 120، كتاب الصلاة، أبواب مكان
المصلي، الباب 3، الحديث 1.
96

وتوهم: أن الحلية ليست قابلة لأن يراد منها الوضع والتكليف (1)،
كتوهم أنها هنا أريد منها التكليف، لإضافتها إلى العين (2)، فإنهما غير
تامين، لما مر في ذيل قوله تعالى: (أحل الله البيع) (3) وفي كتاب
التقية (4)، ولأن القضية الموجبة والسالبة مختلفتان في الظهور،
فقوله تعالى: (ويحل لهم الطيبات) (5) ظاهر في التكليف، وقوله:
لا يحل الكلب والخنزير ظاهر فيها، فلا تصح الصلاة في جلدهما،
فلا تغفل.
هذا مع أن مطلق التصرفات الحسية إذا كان مشروطة بالرضا،
فالتقلبات الاعتبارية تكون باطلة، لأن المقصود الأصلي فيها
التصرفات والانتفاع منها، فلا حاجة في تقريب الاستدلال بها لفساد
الفسخ إلى ما أفاده الوالد النحرير المحقق - مد ظله - والتزامه
بشمولها للتصرفات المعاملية، بدعوى أن نفي الحلية عن الأعيان
الخارجية، يحتاج إلى الادعاء المصحح له، ولو حل المال ببعض
شؤونه البارزة الشائعة، لم تصح الدعوى المزبورة، أي عدم حلية

1 - حاشية المكاسب، المحقق الإيرواني 1: 80 / السطر 39، البيع، الإمام
الخميني (قدس سره) 1: 110.
2 - حاشية المكاسب، المحقق الأصفهاني 1: 34 / السطر 17.
3 - تقدم في الصفحة 38.
4 - رسالة التقية، للمؤلف (قدس سره) (مفقودة).
5 - الأعراف (7): 157.
97

المال، وحيث تكون التصرفات الاعتبارية من أوضح الشؤون، فهي
تشملها، وإلا يلزم استهجان الدعوى (1).
فتحصل: أن الرواية لا تكون ظاهرة إلا في الحرمة والحلية
التكليفيتين، ولكن إطلاق الحرمة التكليفية، يورث فساد جميع
التقلبات الاعتبارية، لأنها تؤدي إلى التصرفات الحسية الممنوعة
بها المقصودة فيها، كما لا يخفى.
وبذلك يظهر الجواب عن شبهة أوردناها عليها: وهي أن الفسخ ليس
تملكا، فإنه حل العقد وإعدامه (2)، وأثره دخول العوضين في ملك
المتعاقدين، فهو خارج عن مفاد الحديث، بناء على شموله لمثل التملك،
فإذن تكون الشبهة موضوعية، ووجه الظهور معلوم.
والعجب من أصحابنا، حيث فرضوا أن المحذوف هو التصرف
واستظهروا منه عدم إطلاقه على التملك أو التقلبات الاعتبارية (3)، ظنا
أن التوقيع الشريف (4) قرينة عليه، وأن التصرف معناه التحولات
الخارجية!!
وقد علمت: أنه يتم الاستدلال بها حتى على الفرض المذكور، من
غير الحاجة إلى ما أفاده الوالد - مد ظله - في دفع الشبهة تمسكا

1 - البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 1: 111.
2 - تقدم في الصفحة 89.
3 - حاشية المكاسب، المحقق الإيرواني 1: 80 / السطر 38.
4 - تقدم في الصفحة 69.
98

بصدر الرواية الشريفة (1).
وتوهم: أنه من التمسك بالأصل، في غير محله، بل هو التمسك
بالدليل ببركة الأصل، فافهم.
إن قلت: لا يعتبر طيب نفس المالك عند العلم بطيب مالك الملوك،
كما في مواقف الاضطرار ونحوه، فالحكم معلق على عدم الإذن من قبل
المالك الحقيقي، وفي صورة الشك يشكل التمسك.
قلت: قد مر نظير هذه الشبهة بجوابها.
نعم، تخصيص الحديث ينافي مفهوم الحصر، لما عرفت، بل
الحديث آب عن التخصيص، فعليه يقال: بعدم شموله للتصرفات
الاعتبارية، حتى لا يخرج التملكات بالخيارات المشروعة. وخروج
التصرف الحسي حال الاضطرار، من باب الاخراج موضوعا، لأنه بإذنه
يخرج من ملكه، ولا يكون حينئذ المتصرف ضامنا، فتأمل.
وقد يشكل الحديث، لأجل أن الطيب ليس شرطا، فإن المدار على
الإذن وإن كان ناشئا عن الكراهة القلبية، كما في مواضع كثيرة يتفق
للانسان أن يأذن للتصرف في أمواله، أو يقدم على المعاملة، لمصالح
عالية مخالفة لميله النفساني، فما ورد في التوقيع المبارك، قال:
فلا يحل لأحد أن يتصرف في مال غيره بغير إذنه (2) يوافق القواعد.

1 - البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 1: 111 - 112.
2 - تقدم في الصفحة 69.
99

الرواية الثانية: حديث السلطنة
أي المرسلة المعروفة بالاشتهار: الناس مسلطون على
أموالهم (1).
وجدتها في البحار (2) ولعلها في الصحف الأولى.
وتقريبها: أن السلطنة هي التي تكون قاطعة لأيادي الآخرين، فيما
كانت حقيقية، وإذا كانت اعتبارية فهي كذلك، فإذا انتقل المال بالعقد
المملك، فليس لأحد التصرف فيه بدون رعاية سلطانه، ولا تملكه
ونقله اعتبارا كذلك، لأنه أيضا يعد منافيا لها، وحيث ثبت أنه سلطان على
الاطلاق عليها، لا تأثير لمثل الفسخ، كما لا أثر للبيع ونحوه.
ولو سلمنا أنه لا إطلاق لها بالنسبة إلى قطع يد الأجانب، أو أنه
لا ينافي إطلاقها نفوذ التصرفات الاعتبارية من الآخرين، فيكون الكل
نافذة تقلباتهم مثلا، فلنا أن نقول: بأن ذلك أيضا يؤدي إلى بطلانها، لما
عرفت، فإن السلطنة المطلقة على التصرفات الخارجية، تؤدي إلى
ممنوعية الغير حتى بعد الفسخ، وهو يلازم فساده وعدم تأثيره.
إن قلت: الاستدلال يتم ببركة الأصل، والكلام حول الأدلة
الاجتهادية ودلالتها على اللزوم.
قلت: هذا هو الأصل الموضوعي، وهو لا يدل على اللزوم، بل دليله

1 - تذكرة الفقهاء 1: 489 / السطر الأخير، عوالي اللآلي 1: 222 / 99.
2 - بحار الأنوار 2: 272 / 7.
100

تلك الأدلة.
والعجب أن الأصحاب توهموا لزوم تمامية الاستدلال بالوجه
الذي لا تصل النوبة إلى مثله، وابتلوا بخلاف الظواهر كثيرا كما ترى!!
مع أن المطلوب - وهو لزوم العقود - يثبت بها ببركته.
فما قد يتوجه إلى التقريب الأول: من دعوى انصراف المال
إلى الأموال المتعارفة الثابتة المستقرة المحتاجة في انتقالها إلى
سبب جديد (1)، غير متوجه إلى الثاني.
ولعمري، إنها غير بعيدة جدا، وإلا يلزم التخصيص كثيرا. مع أنا نرى
أن إعمال الخيار لا ينافيه، بل ولا يشمل المرسلة الفسخ الذي يتعلق
بالعقد، فإن القدرة على فسخ العقد لا ينافي إطلاق السلطنة. والانتقال
القهري الحاصل بالفسخ، ليس مزاحما لسلطانه، لأنه من تبعات ما ليس
داخلا في إطلاق سلطنته.
ومن العجيب تفسيرهم الفسخ بالتملك (2)!! مع أنه خلاف ما بنوا
عليه، وخلاف ما عليه ارتكاز العقلاء، لأنه حل العقد وفتح العقدة.
لا يقال: لا يمكن استفادة فساد الفسخ من التقريب الثاني ولو ببركة
الاستصحاب، لأنه على فرض إثبات سلطنته على ماله بعد الفسخ،
لا ينافي ثبوت السلطنة الأخرى في عرضها، لعدم المانع من اجتماع
السلطنتين على أمر واحد، ويكون كل واحد منهما نافذا، كما في سلطنة

1 - الإجارة، المحقق الرشتي: 15 / السطر 21.
2 - رياض المسائل 1: 522 / السطر 30، جواهر الكلام 23: 3.
101

الجد والأب على مال الابن، فالمدلول المطابقي منه غير كاف، خلافا لما
توهمه القوم.
لا نا نقول: لا شبهة في أن المستفاد من المرسلة، السلطنة على
الأموال بأنحاء التصرفات الحسية، وقطع يد الآخرين خارجا، وهذا هو
الموجب لفساد الفسخ وعدم تأثيره، لأنه لا معنى لأن يمنع عن التصرف
الخارجي فيما عاد إليه بعد الفسخ مع كونه مؤثرا.
وأما كونها دالة على المعنى الالتزامي، وقطع يد الأجنبي عن التملكات
الاعتبارية، فهو محل منع واشكال، ومما لا حاجة إليه كما عرفت، فتدبر.
ثم إنه يمكن دعوى قصورها عن إثبات لزوم عقد الإجارة ونحوها،
إما لانصرافها عن مالية المنافع، أو لأنها ليست مالا، ولكنها غير
مسموعة، لشهادة العرف على خلافها.
الثالثة: عمومات الشروط
وهي على صنفين:
أحدهما: ما يمكن الخدشة فيه بدوا، مثل قولهم: المسلمون عند
شروطهم (1) أو المؤمنون... (2) كذلك من غير التعقب بالاستثناء، فإنه

1 - الكافي 5: 169 / 1، تهذيب الأحكام 7: 22 / 94، وسائل الشيعة 18: 16،
كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 6، الحديث 1.
2 - تهذيب الأحكام 7: 371 / 1503، وسائل الشيعة 21: 276، كتاب النكاح،
أبواب المهور، الباب 20، الحديث 4.
102

من المحتمل كونه إرشادا إلى مسألة أخلاقية، وإرشادا إلى
المستحسنات العرفية والعقلائية، كقولهم: المؤمن عند عدته أو: إذا
وعد وفى وأمثالهما.
ثانيهما: الجملة المذكورة المتعقبة بقوله (عليه السلام): إلا شرطا حرم
حلالا، أو أحل حراما (1)، أو شرط خالف كتاب الله عز وجل (2).
فإنه حينئذ يكون ظاهرا في القاعدة الشرعية الكلية، وحيث إن
ظاهر المستثنى بطلان الشرط المذكور، فهو دليل على أن المقصود في
المستثنى منه إفادة صحة الشروط بالمطابقة أو الالتزام.
وأما كونه مفيدا للوجوب التكليفي، حتى يكون دليلا على جواز
الشروط وعدم لزومها، فهو خلاف المتبادر منه قطعا.
نعم، لا بأس بالالتزام بإفادته الحكم التكليفي، زائدا على أن
مخالفته لشرطه لا تؤثر في شئ وضعا، ولكنه حينئذ بعيد جدا، ولقد تقرر
منا حولها في مباحث الشروط مسائل (3)، من شاء فليراجع. هذا كله حول
دلالته.
وأما إطلاق كلمة الشرط على المعاملات، فقد مضى تفصيله في

1 - تهذيب الأحكام 7: 467 / 1872، وسائل الشيعة 18: 17، كتاب التجارة، أبواب
الخيار، الباب 6، الحديث 5.
2 - الفقيه 3: 127 / 553، تهذيب الأحكام 7: 22 / 93، وسائل الشيعة 18: 16،
كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 6، الحديث 2.
3 - تحريرات في الفقه، كتاب الخيارات، المقصد الثالث في الشروط.
103

المبحث الأول (1).
ولعمري، إن أصحابنا قد خلطوا بين الجملتين، وغفلوا عن ظهور
المستثنى، وأنه هو الاستثناء من الصحة لا الوجوب، من غير لزوم كون
المستثنى منه ظاهرا في إفادتها الصحة بالمطابقة، بل هي تفيدها في
لازمها، كما لا يخفى.
إذا عرفت ذلك، فهذه المآثير تدل على لزوم كل شرط الملازم
لصحته، إلا الشرط المذكور، وذلك لأنها ظاهرة في الوجوب الطريقي،
أو إمضاء لطريقة العقلاء، وهي على اللزوم في المعاملات وتوابعها
المرتبطة بها، وعلى التقديرين يثبت المطلوب.
إن قلت: التمسك بها بعد الفسخ غير جائز، لأن الشبهة موضوعية.
قلت: - مضافا إلى ما عرفت سابقا - إنها لا ترد على القول بإرشادها
إلى اللزوم. بل لا ترد مطلقا، لأن عدم حفظ الموضوع مناف لاطلاقها، كما
لا يخفى.
الرابعة: إطلاقات خيار المجلس
وهي تدل على عموم المدعى، لما فيها ما رواه المشايخ الثلاثة،
بأسانيدهم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إذا التاجران
صدقا بورك لهما، فإذا كذبا وخانا لم يبارك لهما، وهما بالخيار ما لم

1 - تقدم في الصفحة 65 - 66.
104

يفترقا... (1).
فإن التجارة أعم من البيع، ولذلك احتملنا جريان خيار المجلس
في غير البيع قويا.
وبالجملة: هذه الرواية ومشابهاتها، ظاهرة في أنها في مقام جعل
الخيار في البيع، من غير النظر إلى اللزوم، إلا أن العرف لا يساعد إلا
على جعله في العقود اللازمة بطبعها وما هو الواجب عند العقلاء
والشرع مثلا، وإذا كان المتعاطي بائعا - بل هو البيع بالحمل الشائع -
يعلم: أن المعاطاة لازمة بطبعها في الشريعة، وما هو كذلك لا ينافي جعل
الخيارات المختلفة فيه، لأغراض متشتتة، وموجبات متفرقة مساعد
عليها العرف، أو غير مساعد.
فلا يستكشف اللزوم من إطلاق ذيل المآثير حتى يقال: بلزوم
التخصيص كثيرا، الكاشف عن أنها تفيد الحكم الحيثي، ولا من بعض الجهات
الأخر المذكورة في المفصلات، حتى نخرج عن الطريق
المستقيم.
بل المطلوب يعلم من أن البيع ونحوه عند العقلاء لازم، والروايات
تكون بصدد جعل الخيار فيها الملازم لامضاء اللزوم، فإن ما كان محكوما
عندهم وعند الشرع بالجواز، لا معنى لأن تلحقه هذه الأحكام.
ولعمري، إن دلالتها على اللزوم أوضح من النار على المنار، بشرط

1 - الكافي 5: 174 / 2، الخصال: 45 / 43، تهذيب الأحكام 7: 26 / 110،
وسائل الشيعة 18: 7، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 1، الحديث 6.
105

سلامة الأفكار.
إن قلت: الشبهة تارة: تكون في جواز عقد ولزومه، فهي ترتفع بهذه
الرواية إذا كان داخلا في موضوعها.
وأخرى: في موجبية أمر للخيار وعدمها، فهي لا ترتفع إلا بإطلاق
الذيل، فلا بد من إثباته.
قلت: نعم، إلا أن الكلام فيما نحن فيه حول الشبهة الأولى، وإثبات
الاطلاق في غاية الاشكال، لما عرفت، وأن العرف يشهد على وجوب
البيع من حيث حصول الفراق، دون العيب والغبن، من غير الالتزام
بالتخصيص، فافهم وتدبر جيدا.
هذا تمام الكلام حول الأدلة اللفظية، وهي في الإفادة مختلفة،
فمنها ما يفيد اللزوم من باب الملازمة العرفية، وبعضها يفيده بالمطابقة.
وبعبارة أخرى: يتم الاستدلال ببعض منها مع فرض اللزوم عند العقلاء،
فيكون دليل الامضاء منسلكا في الأمر الأول، وببعض منها من غير التوقف
على الفرض المذكور، كحديث حرمة مال المسلم (1) ونحوه (2)، وهكذا
يتم المرام ببعضها من غير الحاجة إلى الأصل الموضوعي، وببعضها
الآخر معه كما لا يخفى.

1 - تقدم في الصفحة 96.
2 - الحسن بن علي بن شعبة، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أنه قال في خطبة الوداع: أيها
الناس، إنما المؤمنون إخوة، ولا يحل لمؤمن مال أخيه إلا عن طيب نفس منه.
تحف العقول: 34، وسائل الشيعة 5: 120، كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلي،
الباب 3، الحديث 3.
106

الأمر الثالث: حول الأصول العملية الموضوعية والحكمية الوجودية
والعدمية
من الاستصحاب وغيره،
والكلام في المقام يتم في مراحل:
المرحلة الأولى: في جريان استصحاب الملكية الثابتة بالعقد
لأن الكلام بعد الفراغ عن إفادتها الملكية، فالفسخ لا يؤثر في
شئ.
وقد يشكل جريانه مطلقا ولو كان كليا، لأن الملكية ليست موضوعا
لحكم شرعي، وكونها من الاعتبارات العقلائية والمعتبرات الشرعية
إجمالا، غير واف بالمقصود (1)، وهو ممنوعية الفاسخ عن التصرف شرعا
بعد فسخه، ولأن التعبد ببقائه مالكا أو بقائه على ملكه، لا يورث
الحكم الشرعي، لما نجد التفكيك شرعا بين المالكية وجواز
التصرف، كما في المحجور، وليس في العمومات كبرى كلية على أن من
هو المالك له التصرف في ملكه بما يشاء، وكيف يشاء حتى ينسلك ما
نحن فيه فيها.
فدعوى: أن الضرورة قائمة على أن الأصل المذكور - كليا كان، أو

1 - لاحظ البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 1: 95.
107

شخصيا - مفيد، لأن البديهة حاكمة بأن المالك غير ممنوع عن التصرف
شرعا، فكأنه وصلت كبرى كلية عليه، ساقطة جدا.
إن قلت: لا يجري الاستصحاب المذكور ذاتا، لأن المتيقن هو
الكلي، ضرورة أن الملكية الحاصلة من السبب الجائز، غير
الملكية الحاصلة من السبب اللازم، لأن خصوصية العلة تورث في
المعلول مثلها، ولأن الملكية من الاعتبارات، وتشتد وتضعف حسب
اختلاف أحكامها في الشرع، والقسم الثاني من الكلي غير جار، لأن
متعلق اليقين لا بد وأن يكون من القضايا التي ظرف صدقها الخارج، وهو
هنا منتف بالضرورة.
قلت أولا: عدم جريان الكلي منه ممنوع عرفا، والمناط في
المسألة فهمه.
وثانيا: لزوم السنخية بين المعلول وعلته ممنوع في القضايا
الاعتبارية، فالعقد اللازم يورث الملك الجائز وبالعكس.
والسر كله: هو أن اعتبار الملكية متقوم بالقدرة إجمالا، وإذا حصلت
علة الاعتبار فتعتبر الملكية، وهي موضوع لأحكام شرعية وعقلائية،
وانتفاء الأحكام يوجب انتفاء الملكية، ولكن انتفاء عدة منها لا يورث
قصورا فيها حتى تشتد وتضعف، فإنه واضح المنع لمن تدبر المسألة.
ومن العجب أن الأصحاب ظنوا، أن المدار في جريان الأصل
الشخصي، على أن يكون الجواز واللزوم من أوصاف العقد!! وقد عرفت
خلافه.
فاتضح أن الأصل الجاري فيما نحن فيه هو الشخصي، والقسم
108

الأول من الكلي، إلا أن فائدته منفية، لما سمعت منا.
إشارة إلى بعض الاستصحابات الأخرى
ثم إن هنا استصحابات أخر:
منها: استصحاب بقاء عنوان العقد فتشمله الآية الكريمة.
ومنها: استصحاب السلطنة للمالك الثاني، وفي كفايته إشكال،
لأن السلطنة وإن كانت من الأحكام العقلائية النافذة في الشريعة، إلا
أن التعبد ببقائها، لا يكون ملازما شرعا لجواز التصرفات الكلية.
ومنها: الاستصحابات التعليقية، فإن المالك قبل الفسخ كان إذا
يتجر تصح تجارته، وفي جريانها إشكال في مباحثه (1).
ومنها: الاستصحاب الحكمي، فإنه كان يجوز له التصرف قبل
الفسخ، وهكذا المالك الأصلي كان محرما عليه التصرف، فتكون
النتيجة لزوم العقد.
المرحلة الثانية: في تعارضه مع الاستصحاب الحاكم على جميع هذه
الاستصحابات
لأنه به يزول الشك في الرتبة السابقة تعبدا ونتيجته نفوذ
الفسخ، وذلك لأن الأسباب الناقلة ليست حدود تأثيرها معلومة، حتى

1 - لاحظ تحريرات في الأصول 8: 542 وما بعدها.
109

يعلم بانقطاع العلقة بين المملوك ومالكه مطلقا، أو انقطاع الملكية
رأسا، فإذن يجوز الاستصحاب إذا شك في جواز رجوعه إلى ملكه بعد
العقد المملك. والتعبد ببقاء العلقة بينه وبين ماله، لا يرجع إلا إلى
جواز استرجاعه العين، ونتيجته نفوذ فسخه.
ومن المحتمل قويا جريان القسم الأول من ثالث أقسام الكلي،
لأن الزائل بالعقد هي الملكية الشديدة والعلقة الثابتة، لا أصل
الملكية.
ولك أن تقول باستصحاب بقاء علقة الاسترجاع بنحو الكلي، فإنه
كان إذا يخرجه عن ملكه بغير العقود اللازمة، يستحق استرجاعه، وأن
تستصحب جواز استرجاعه الثابت بخيار المجلس وغير ذلك.
هذا، وأنت خبير بما فيه من الأغلاط، وأنه من التوهمات التي لا
أساس لها، ولا خير في تعرضنا لمثلها، فلاحظ وتدبر.
فتحصل: أن الأصل الجاري ينحصر بالاستصحاب الحكمي، وهو
استصحاب جواز التصرف للمالك الثاني.
ويمكن دعوى التفصيل حينئذ بين التصرفات، فإن التصرفات
الخارجية كانت جائزة ومحللة شرعا، ولها الحكم المنجز، وهو أنه كان
في حل منها، بخلاف التصرفات الناقلة والاعتبارية، فإنها غير جائزة،
لعدم الدليل عليها إلا الاستصحاب، وهو تعليقي عقلي، لا شرعي، فعليه
لا يجوز للمالك الثاني بعد الفسخ البيع ونحوه، ويجوز له أكله
وإطعامه.
وهي قابلة للدفع بدعوى: أن المستصحب ليس معلقا، فإن تجارته
110

كانت صحيحة، أو كانت نافذة ومشروعة وممضاة، ولا داعي إلى إرجاعه
إلى التعليق، حتى يشكل جريان الأصل فيه.
المرحلة الثالثة: حول عدم استصحاب أصل الملكية لتغاير الجائزة مع
اللازمة بالنوع
إذا شك في أن الملكية ذات نوعين، وذات مراتب، وأن اللزوم
والجواز من منوعاتها أو مفرداتها، حتى تكون الملكية من الجائز غيرها
من العقد اللازم، أو شك في أن الجواز واللزوم في العقد، هل يورثان
اختلافا فيها، فيتردد الأمر بين بقاء الشخص وعدمه، وأن الاستصحاب
الجاري كلي أو شخصي، فهل يسقط التمسك؟
قيل: نعم، لدوران المستصحب بين كونه كليا غير جار فيه الأصل،
وبين كونه فردا (1).
وقيل: لا (2).
وقد يقال بالتفصيل بين الشبهات الحكمية فيجري، وهو
الاستصحاب الشخصي - وسره: أنه مع احتمال عدم اختلاف الملكية إلا
بحسب الشخص، يحتمل بقاء ذاك الشخص الذي كان فيستصحب -
والشبهات الموضوعية، كدوران الواقع في الخارج بين الهبة والبيع،

1 - الإجارة، المحقق الرشتي: 13 / السطر 21، منية الطالب 1: 60 / السطر 20.
2 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 85 / السطر 6.
111

فإنه لا تعين لشخص الملك (1).
ويفصل ثانيا: بين الملتفت إلى اختلاف حقيقة الملكية، وغير
الملتفت، فإن الثاني تيقن وشك، ولا واقع لهما إلا أنفسهما، بخلاف الأول،
فإنه لا يقين له بالفرد بما هو، لاحتماله الخصوصية الدخيلة في
فردية الفرد للطبيعة (2).
وثالثا: بأن وجه عدم جريان الأصل الكلي إن كان وجود الأصل
الحاكم عليه، ففيما نحن فيه يجري الأصل، للشك في وجود الأصل
الحاكم.
وإن كان لعدم شمول عمومات الاستصحاب له، لأجل لزوم اتحاد
القضيتين: المتيقنة، والمشكوكة، وهو منتف كما ترى، فلا يجري،
لاحتمال كون المسألة من قبيل ذلك، فالتمسك غير جائز، لأنه من
التمسك بالعام في الشبهة الموضوعية (3).
أقول: أمارات الشخصية في الملكية هي السبب، والمضاف
إليه، والمالك، فإن كانت هي بعد ذلك غير متشخصة، فذلك لأجل اللزوم
والجواز اللذين هما من الخصوصيات، وفيما لو شك في أنهما من أماراتها
فلا يعقل تعلق اليقين بالشخص، فلا يجري الاستصحاب.
إن قلت: نعلم إجمالا بأن الملكية الحاصلة بالعقد المجهول

1 - حاشية المكاسب، المحقق الإيرواني 1: 79 / السطر الأخير.
2 - حاشية المكاسب، المحقق الأصفهاني 1: 33 / السطر 24 - 27.
3 - مصباح الفقاهة 2: 131.
112

لزومه وجوازه، أنها إما هي الملكية الشخصية غير المتقيدة بالجواز
واللزوم، لأنهما من طوارئ العقد، وإما هي الملكية المخصوصة
بالجواز أو باللزوم، فكأنه يعلم: بأن في الدار إما زيدا، أو عمرا، أو بكرا،
فلو كان الأثر مترتبا على كل من الشخصيات، فالأصل يجري.
نعم، يتردد الأمر ولا يترتب الأثر، إذا قلنا بعدم جريان الاستصحاب مع
الشك في المقتضي، ولكنه ممنوع.
قلت: هذا ليس من الاستصحاب الشخصي، لأنه لا يعلم بوجود زيد
حتى يشك في بقائه، وتوهم استصحاب الفرد الواقعي فاسد، لأنه ليس
في عموم أدلته، لما أن موضوعه اليقين والشك، أو الواقع المتصف بهما،
فلا تغفل.
ومما ذكرناه يظهر مواقف الخلط في كلمات القائلين بالجريان (1).
ومن العجب التفصيل الثاني! ضرورة أن اليقين والشك وإن كانا
موضوعا في الاستصحاب، إلا أن اليقين طريق إلى الواقع المجعول في
الشرع الأقدس.
وأعجب منه التفصيل الأخير!! فإنه مضافا إلى خلطه في الجاري
بين الكلي والشخصي، أن الأصل الحاكم لا يورث عدم جريان الأصل
المحكوم ذاتا، ولذلك لو لم يترتب الأثر الشرعي على الأصل السببي،
تصل النوبة إليه، فعليه يلزم الخلف، لأن المفروض عدم جريان
الأصل الكلي رأسا.

1 - تقدم في الصفحة 111.
113

خاتمة: في حكم الشك في اشتراط الأسباب العرفية بشئ
إذا شك في الأسباب العرفية في شرطية شئ لها، كالعربية
والماضوية، فمقتضى أصالة البراءة الشرعية عدم الشرطية، وحيث
إن السببية معلومة عرفا مع قطع النظر عنهما، لا يكون الأصل مثبتا.
وقد اختار أستاذي الوالد المحقق جريانها في الشرائط
الشرعية، دون العرفية (1)، معللا بما أشير إليه، فعليه يصح التمسك بها
لصحة المعاطاة لما يشك في شرطية اللفظ، وهو لو كان شرطا يكون
شرعيا.
إن قيل: في جريان البراءة في أمثال المقام يشترط بقاء المشروط،
كما في نفي العربية والماضوية، وأما نفي اعتبار اللفظ فهو غير ممكن،
لأنه سبب حيال سببية الفعل، فلا يثبت بها صحة المعاطاة.
نعم، إذا شك في شرطية التعاطي من الطرفين - بعد كون الطرف
الواحد محققا لعنوان المعاملة عرفا - فالمرجع هي البراءة.
قلنا: لا يلزم في رفع الشرط عنوان المشروط، بل يكفي عنوان
المقارنة، مثلا إذا شك عند إيجاد البيع بالفعل في شرطية اللفظ مقارنا
معه، فإنه يصح التمسك بها، ويلزم صحة السبب.
وتوهم ممنوعية المعاملة بالسببين فاسد، بل الأحوط عندما
يتعاطى العقد باللفظ، وإذا عقد باللفظ فالأحوط أن يكون التسليم والتسلم
بعنوان المعاملة والتسليم والتسلم، وهذا مما لا بأس به.

1 - أنوار الهداية 2: 62 - 63.
114

وهكذا توهم: أنه من الأصل المثبت، ضرورة أن المقصود ليس
إثبات عنوان الصحة وعنوان المؤثر الشرعي بل التأثير معلوم
عرفا، وما هو المشكوك شرطية شئ في التأثير زائدا على ما عندهم، وإذا
كانت هي منتفية فالمطلوب ثابت.
هذا، ولكن التحقيق عدم جريانه في هذه المواضع مطلقا، لأنه مع
الشك في شرطية شئ يشك في كون السبب العرفي ممضى أم لا، وإثبات
الامضاء بالأدلة اللفظية والسيرة المنضمة بعدم الردع، خروج عن
الفرض كما لا يخفى.
ثم إنه كما يتمسك بالبراءة لصحة المعاطاة، يتمسك بأصل العدم
الأزلي للزومها، لأن الشك في بقاء الملك مسبب من الشك في تأثير
الفسخ، وإذا صح أنه لم يكن مؤثرا بنحو السلب المحصل المجامع مع
عدم الموضوع، يجوز التمسك بالاستصحاب.
وهذا هو الجاري في مباحث العدم الأزلي، لأن المقصود ليس
إثبات شئ آخر حتى يكون مثبتا، بل المطلوب يحصل بنفس التعبد
بالعدم المذكور، لأن المتعبد به كلي ينطبق على المورد. وهذا نظير ما
لو ورد إذا لم يكن الجاهل موجودا أكرم علماءكم فإنه لو شك في وجود
الجاهل يستصحب العدم المحمولي، وينقح موضوع القضية الشرطية،
ولقد أوضحنا المسألة في مباحث الشروط (1)، وفي كتب الأصول (2)، فراجع.

1 - تحريرات في الفقه، كتاب الخيارات، المقصد الثالث في الشروط، التنبيه الرابع.
2 - تحريرات في الأصول 8: 487 - 488.
115

المبحث الثالث
في فساد القول بالإباحة
على القول ببطلان المعاطاة
الظاهر أن المعاطاة المتعارفة بين الناس إذا كانت باطلة، تكون
لغوا، ولا أثر لها، وما يتوهم من الإباحة فهو لا أساس له (1)، لأنها ليست
مالكية، لما أن بناء العرف والعقلاء في تعاطيهم على التبديل المقصود
في العقد اللفظي، وكونها شرعية ومترتبة عليها قهرا على المتعاقدين
ورغما لأنفهما، يحتاج إلى دليل صريح، وهو غير واصل.
نعم، يمكن دعوى الإباحة المالكية التقديرية، وهي كافية
لجواز التصرف في العوضين، ولكنها خارجة عن عنوان المعاطاة
العرفية التي هي بيع عرفا، وسيأتي الكلام حول كفايتها في مسألة

1 - جواهر الكلام 22: 216.
117

المقبوض بالعقد الفاسد (1).
هذا ما هو الحق في المسألة، وإطالة الكلام حولها على المباني
المختلفة، من اللغو المنهي جدا.
وأما ما اشتهر من الإباحة المعوضة، وأنها وإن لم تكن بيعا ولكنها
عنوان آخر وراءها، وهي المعروفة بين العقلاء، والمعمولة في مثل
الحمام ونحوه، فهو عندي مما لا أصل له، فإن الإباحة بالعوض من
العناوين الخارجة عن أفق المعاملات العرفية، وهي من تأسيسات
أرباب الفضل، ولا أثر منها في الأسواق والبلاد، ولا تشملها العمومات
والاطلاقات على نحو تدرج في أبواب المعاملة، فتكون محكومة
بأحكامها.
وما ترى في بعض الأمور شبيها بها، فهو من الإجارة، إلا أن الشرائط
المعروفة في المتون غير معتبرة في مطلق الإجارات، على ما تقرر منا في
محله (2)، فإن منها ما هو المبني على التساهلات، وهي القائمة عليها
السيرة القطعية، فافهم ولا تغفل.
هذا مع أن الإباحة المطلقة بالعوض، إذا كانت مستلزمة لسلب
اختيار المبيح عن الرجوع إلى ملكه، لا تتم، لأنه لا يعتبر بقاء الملكية
له حينئذ، بل هو ملك المبيح له عرفا، وتكون الإباحة كناية عن
التمليك، فتأمل.

1 - يأتي في الصفحة 182.
2 - كتاب الإجارة من تحريرات في الفقه مفقود.
118

والاستدلال لصحتها بقاعدة التسليط، وحديث حرمة التصرف في
مال الغير إلا بإذنه، أو بطيب نفسه، غير تام، لما مضى البحث حولها (1). مع
أن إطلاق الحصر والمستثنى محل منع، ولو فرضناه فهو لا يفيد صحة
الإباحة بالعوض على أن تكون معاملة.
نعم، بناء على عموم قوله (عليه السلام): المؤمنون عند شروطهم (2) يثبت
المطلوب، وقد عرفت ما فيه.
والعجب من المتأخرين، حيث توهموا أن المعاطاة تقع على
أقسام، وجعلوا تلك الأقسام محل البحث والكلام (3)!! وهذا غير تام،
ضرورة أن مفهوم المعاطاة ليس موضوعا في دليل، وحقيقتها ليست إلا
حقيقة العقد الذي تأتي فيه، فهي بيع، وإجارة، وهكذا، وما يتوهم من
إفادة المعاطاة الإباحة (4)، فهو فرض محض، وليس اسمه المعاطاة ولو
قصداها.
نعم، هو إباحة بالعوض، ولها أنحاء شتى، وحيث هي في أصلها
باطلة فلا وجه للغور في فروعها، فلاحظ وتدبر فيها.
ثم إنه لو فرضنا صحتها، فلا تجري فيها القيود الثابتة بالأدلة
الخاصة، إلا بدعوى إلغاء الخصوصية عرفا، وأما ما ثبت بالعمومات

1 - تقدم في الصفحة 53 و 68 - 71.
2 - تقدم في الصفحة 65.
3 - لاحظ الإجارة، المحقق الرشتي: 30 / السطر 20 وما بعده.
4 - جواهر الكلام 22: 216، جامع المقاصد 4: 58.
119

التي موضوعها الأعم عرفا، والقابل للصدق عليها، فهو يجري فيها، وهكذا
في جانب الأحكام، ولا تنقلب الإباحة ملكا، ولا يجوز التصرفات الناقلة
المتوقفة على الملكية إلا في وجه.
ولو تصرف المبيح في العوض، ولم يمض مدة الإباحة في الإباحة
المقيدة، فله الرجوع إلى ماله مع ضمان العوض، ويجوز إباحة
المبيح له ثانيا ولو مع العوض، مع إطلاق الإباحة أولا.
120

تنبيهات
التنبيه الأول: حول اعتبار شرائط العقد اللفظي في المعاطاة
المفيدة للملكية
هل يعتبر في المعاطاة المفيدة للملكية، ما يعتبر في العقود
اللفظية، من الشروط الوجودية والعدمية، والأحكام السلبية
والايجابية، أو لا يعتبر شئ؟
أو يفصل بين الثابتات بالأدلة اللفظية، واللبيات.
أو يفصل بين ما إذا كانت لازمة أو جائزة؟
لا سبيل إلى الثاني إلا على القول: بأنها معاملة مستقلة، كما
اختاره الشهيد (1)، فإنها ليست مشمولة لتلك الأدلة.
نعم، تشملها الأدلة العامة، لأنها تجارة، والأدلة الخاصة التي
ليست الخصوصية لها الموضوعية، كقولهم: نهى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن بيع
الغرر (2).
وحيث إن عنوان البيع والإجارة وغيرهما، أصدق على

1 - لاحظ المكاسب، الشيخ الأنصاري: 87 / السطر 34.
2 - وسائل الشيعة 17: 448، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 40،
الحديث 3، سنن البيهقي 5: 342.
121

المعاطاة من العقد اللفظي، وهي عندنا لازمة عرفا وشرعا، فهي القدر
المتيقن، فلو كانت الأدلة اللفظية مهملة، فثبوت حكمها للعقد اللفظي في
غاية الاشكال، لما عرفت منا تحقيقه (1)، فتجري فيها الأحكام والقيود كلها
إلا ما يثبت بالاجماع ونحوه، فإن البيع المأخوذ في كلامهم هو اللفظي
منه، لدعوى الاجماع منهم على أنها ليست بيعا (2)، أو لانصراف معقد
إجماعهم عنها بعد اختيارهم أنها تفيد الإباحة، فإن ما كان مفادها الإباحة
ليست عندهم بيعا بالحمل الشائع، حتى تشمله كلماتهم واستعمالاتهم،
فلا تغفل.
ودعوى عدم الحاجة إلى جعل الخيار في العقود الجائزة، لعدم
الأثر له (3)، لا تورث الامتناع، لأن المجعول ليس مخصوصا بحال الجواز،
بل ليس مختصا بالعقود الجائزة، فالدليل المتكفل يشمل العقود،
ولغوية إطلاق الدليل مما لا بأس بها.
مع أن العقد الجائز على قسمين: منه ما لا ينقلب إلى اللازم،
كالشركة، ومنه ما ينقلب إلى اللازم، كالهبة والمعاطاة، وعليه لا منع
من جريان الخيار في الثاني كما هو الواضح.
ودعوى: أنها تورث انصراف أدلته عنها، غير بعيدة، فتأمل. وفي
المسألة تفاصيل أخر كلها غير تامة، إما لعدم تمامية البناء أو المبنى،

1 - تقدم في الصفحة 15 - 20.
2 - الغنية، ضمن الجوامع الفقهية: 524 / السطر 26.
3 - لاحظ المكاسب، الشيخ الأنصاري: 88 / السطر الأول.
122

فلا وجه لتعرضنا لها بعدما عرفت منا.
التنبيه الثاني: في صور المعاطاة
المعاطاة تتصور فيها الوجوه الكثيرة حسب العمل الخارجي
وقصد المتعاطيين، وهي كثيرة، ربما تزداد على الأكثر من خمسين صورة،
ضرورة أنها تارة: تكون بالاعطاءين والأخذين.
وأخرى: بالاعطاءين فقط من غير الأخذ، وتكون النتيجة أخذهما،
من غير دخالته في تحقق المعاملة.
وثالثة: بالاعطاء والأخذ، ويكون الاعطاء الآخر وفاء بالمعاملة
والعقد.
ورابعة: بالاستيفاء المقرون بالرضا والاعطاء الحكمي، كما في
الحمامات ونحوها.
وخامسة: بالأخذ والاعطاء الحكميين، كما في البلاد الراقية
بالنسبة إلى الجرائد وأمثالها.
وسادسة: بالمقاولة التي تنشأ بها المعاملة، بناء على أنها داخلة
في بحث المعاطاة إشكالا وجوابا، وإن لم تكن منها موضوعا.
وسابعة: بالابقاءين، كما إذا كان مال كل منهما عند الآخر، فيتعاطيان
من غير الاسترداد والرد.
وثامنة: بالابقاء والاعطاء، كما إذا كان المالان عند أحدهما.
وعلى جميع التقادير تارة: يقصد المتعاطيين تبديل المالين، أو
123

تبديل الفعلين، أو تبديل المال والفعل.
وعلى كل فرض تارة: يقصد تبديلهما في الملكية.
وأخرى: في الإباحة.
وثالثة: بالاختلاف.
وهكذا في تبديل الفعلين.
وفي صورة الاختلاف.
إذا عرفت ذلك فالبحث يتم في مقامين:
المقام الأول: في المعاطاة التي يقصد بها التمليك
والحق: أن جميع الصور صحيحة، لتحقق الموضوع، وعموم الأدلة
اللفظية، وإلغاء الخصوصية عن مورد السيرة.
نعم، في الاعطاءين فقط تتحقق المعاطاة المعاوضية، دون البيع،
فإن مبادلة العين بالعين ليست عندنا بيعا، كما عرفت تفصيله (1).
ولو أعطى أحدهما، فإما تتحقق المعاملة، فلا يكون الاعطاء الثاني
إلا جوابا، أو لا تتحقق، فلا يفيد الثاني شيئا، لأنه مثل الأول، فلا بد من
وقوعه قبولا للانشاء الأول حتى توجد المعاملة والمبادلة، فالاعطاءان
والقبولان بيعان، ويكون التبادل بين الفعلين، وفي صحته إشكال يأتي
ذكره.

1 - تقدم في الصفحة 11 - 12.
124

وما عن الدروس والكركي: من كفاية القبض من أحدهما (1)، في
غير محله، لأن التعاطي من الطرفين على أن تكون المبادلة بين
المالين، ليس بيعا، بل هي معاطاة معاوضية، وما هي المعاطاة البيعية
هي ما يكون البيع تاما بالاعطاء الواحد، ويكون الاعطاء الآخر وفاء
بالعقد، ولذلك ذكرنا: أن الثمن قيد في ماهية البيع بعنوانه، لا بوجوده (2).
وتوهم: أنها صحيحة مع مطلق المقاولة كما يظهر من الشيخ (رحمه الله) (3)
في غير محله، وما أوردناه على الانشاء اللفظي (4) يتوجه إليها مع دفعه.
ودعوى: أن القدر المتيقن من السببية في الألفاظ، هي الألفاظ
الخاصة، لعدم الدليل عليها، مدفوعة كما ترى.
وقد يشكل في الفرضين الأخيرين تصوير المعاطاة بالمعنى
الأخص، لعدم الفعل المتسبب به إلى العقود. ولا ينحل بدعوى: أن إبقاءه
تحت يد الآخر وإمساكه تحت يده، فعلان اختياريان (5)، ضرورة أنهما غير
كافيين لابراز الرضا ما لم يحصل منهما ما يبرز رضاهما، من الكتابة
والإشارة، وعندئذ تحصل المعاطاة بالمعنى الأعم، كما لا يخفى.
وإن شئت قلت: تتحقق المعاطاة بذلك، إلا أنه لا دليل منهما عليها
إثباتا.

1 - لاحظ جواهر الكلام 22: 238.
2 - تقدم في الصفحة 11 - 12.
3 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 88 / السطر 14 - 15.
4 - تقدم في الصفحة 11 - 12.
5 - حاشية المكاسب، المحقق الأصفهاني 1: 38 / السطر 34.
125

ويمكن دعوى وقوعها فضولا، ويستجيز بعدما بدل بينهما. وهذا ليس
من الانشاء حتى يندرج تحت المعاطاة بالمعنى الأعم.
ولك أن تبدل ما عندك بما عنده، لما تعلم برضاه، ولو قصدت ذلك
وأجريت أحكام مالك عليه فهو صحيح، ولا يكون من التصرف في مال
الغير، فليتأمل جيدا.
المقام الثاني: في المعاطاة المقصود بها الإباحة
والحق في هذه الوجوه بطلان المعاملة إلا ما هو المتعارف، وذلك
لأن المعاملات الواجدة للشرائط الشرعية، إذا لم تكن على النهج
العقلائي، ليست صحيحة، لقصور الأدلة عن إمضائها. ومجرد إمكان
التوصل إلى البيع في مواضع الإجارة، لا يورث جواز بيع الدار من جهة
خاصة إلى مدة معينة، كما ذهب إليه جماعة من العامة (1)، وبعض
أصحابنا الإمامية (2).
فيعلم منه: أن الخروج عن المتعارفات يضر بالصحة، فجعل تمليك
حذاء تمليك، أو عين، وهكذا جعل الإباحة مبيعا، والإباحة عوضا،
وأمثالهما مما يخرج عن تلك الطريقة المألوفة، ليس صحيحا. وما
ترى في مواقف الضرورة للتخلص عن الاشكال، فهو ربما يكون عقلائيا
ومتعارفا حال الضرورة.

1 - المجموع 15: 9 / السطر 16.
2 - مجمع الفائدة والبرهان 10: 10، مفتاح الكرامة 7: 74 / السطر الأخير.
126

وأما إذا كان عقلائيا، لغرض في موقف من أحد من العقلاء فهو غير
كاف، للزوم التبعية للبناءات الكلية التي هي الممضاة. ولو صح ما
سلكه الأصحاب هنا، لصح ما ذهب إليه أبناء العامة في أن الإجارة نوع
من البيع، أو البيع قسم من الإجارة، وقد تقرر منا في مواقف كثيرة -
خصوصا في مسألة أخذ الأجرة على الواجبات (1)، وفي كتاب الصلاة -
تفصيل هذه المسألة (2) والنتائج الكثيرة المترتبة عليها، فلاحظ وتدبر
فيها.
فتحصل: بطلان الصور التي يجعل فيها التمليك والإباحة مورد
المعاملة، وأن بعضا منها من الإباحة بالعوض، وقد مر فسادها، والصور
الصحيحة مختلفة.
فمنها: ما هو المعاوضة المعاطاتية، كتبديل المالين.
ومنها: ما هو البيع المعاطاتي، كالرائج بين الناس في زماننا.
ثم إن في كلماتهم شبهات كثيرة لا وجه للغور فيها، لما لا ثمرة عملية
لها. مع أن الشيخ (3) وأصحابه (4) خرجوا عما هو محل البحث، وهو صور
المعاطاة، وتعرضوا لمسألة الإباحة بالعوض التي هي قسيم المعاطاة،

1 - لاحظ مستند تحرير الوسيلة 1: 436 وما بعدها.
2 - هذه المباحث من كتاب الصلاة من تحريرات في الفقه مفقودة.
3 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 88 / السطر 5 وما بعده.
4 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 77 / السطر 13 وما بعده، منية الطالب
1: 68 / السطر 18 وما بعده، حاشية المكاسب، المحقق الأصفهاني 1: 38 /
السطر 18 وما بعده.
127

مع أن كون الإباحة غير الإباحة بالعوض، وما هو المقصود في المقام هو
الأول دون الثاني، كما لا يخفى.
التنبيه الثالث: في تميز البائع من المشتري، والمؤجر من المستأجر
أي إذا كانت الأجرة منفعة الدار، فلا اختصاص للبحث بالبيع، ولا
بالمعاطاة منه.
والتحقيق: أن المعاوضة خارجة عن البيع، فلا مشتري فيها ولا
بائع.
وفي المعاملات الرائجة فما كان قابلا للانشاء المتقدم فهو
المشتري، إلا إذا كان على خلاف المتعارف، كما لو باع الدرهم بالحنطة
في البلدة التي يكون الدرهم نقدها، وكما لو اشترى المبيع، وأنشأ ذلك
المشتري، وقبله البائع، فإنه في هاتين الصورتين - لكون عنوان
البائع محفوظا، لأنه من العناوين الواقعية مثلا - لو اشترى داره بعمله
القيمي فإنه لا يعد بائعا بالضرورة، والقابل هو البائع عند العرف قطعا.
وفيما إذا كان الثمن من الأعيان، أو الأجرة من المنافع، فالمدار في
تميز البائع والمؤجر من المشتري والمستأجر على العاقد، وعلى الذي
يفي بالعقد، كما لا يخفى.
ثم إنه لو أوقعا التمليك معا، فقد مر تفصيل البحث فيه واختلاف
128

المباني حوله (1)، والمختار هنا هو أن التمليك الثاني إما يقع جوابا،
فيتميز البائع من المشتري وإن كان يفيد الملك مع كونه جوابا، بناء على
إمكانه كما لا يبعد، لأنه بوجوده يقع الجواب، وبمفهومه يتحقق التمليك.
وإما يقع مثل ما وقع الأول، فإن كانت المعاملة تامة به فلا حاجة
إليه إلا بعنوان الجواب، فيحصل الميز بينهما أيضا، وإن كانت المعاملة
محتاجة في تحققها إليه فهي باطلة، ولا معاملة حتى يكون فيه البائع
والمشتري، فما وقع الأصحاب فيه في الحيص والبيص منشأه الغفلة
عن حقيقة المسألة.
وما ورد في الرواية في قول أحد الشريكين لصاحبه: لك ما
عندك، ولي ما عندي (2) فهو إحدى صور المعاطاة التي مرت، فراجع،
وحملها على الصلح - في الفساد - كحملها على الهبة المعوضة
والمعاملة المستقلة، والتفصيل يطلب من مذهبنا في كتاب الصلح
والهبة (3).

1 - تقدم في الصفحة 123.
2 - محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: في رجلين كان لكل واحد منهما
طعام عند صاحبه ولا يدري كل واحد منهما كم له عند صاحبه، فقال كل واحد
منهما لصاحبه: لك ما عندك، ولي ما عندي، فقال: لا بأس بذلك إذا تراضيا وطابت
أنفسهما.
الكافي 5: 258 / 2، الفقيه 3: 21 / 53، تهذيب الأحكام 6: 206 / 470،
وسائل الشيعة 18: 445، كتاب الصلح، الباب 5، الحديث 1.
3 - لم تصل إلينا هذه المباحث من تحريرات في الفقه.
129

التنبيه الرابع: حول صحة التعاطي على الإباحة المطلقة
كما تتحقق المعاطاة بالفعل المراد به إنشاء التبديل البيعي -
وهي المسماة ب‍ المعاطاة بالمعنى الأخص - فهل تقع بالفعل المراد
به إنشاؤه بلازمه العرفي؟
مثلا: لو تعاطيا على الإباحة المطلقة، بحيث يكون المنشأ إباحة
المالين، فهل هي صحيحة معاطاة، لأن إطلاقها يقتضي اعتبار الملكية
للطرف المقابل، وانسلابها عن الطرف، لأن الملكية متقومة بالأثر، وإذا
انتفى الأثر لا تبقى، كما في الأملاك الواقعة في الشوارع، وهكذا
المساجد وغيرها، فإنه قد يقال بزوال عنوانها عند وقوعها في الجواد
والميادين، ولا يعتبرها العقلاء بعد ذلك، ويروها معدومة؟
ودعوى بقاء الأثر لامكان سلب الإباحة، مدفوعة:
أولا: بأن القائل بصحتها يقول باللزوم.
وثانيا: بناء على عدم العود كاف، لعدم اعتبار بقاء العين في ملكه.
وثالثا: بقاء أثر ما مع انسلاب الآثار الظاهرة والكثيرة، غير كاف
للاعتبار، فتأمل.
أم هي باطلة، لأن المقصود غير واقع، وكونها كناية عن المعاطاة
يحتاج إلى القرينة، والقرائن العقلية - ومنها تصحيح إنشاء العاقد - لا
تكفي، لاختصاص دلالة الاقتضاء بكلام الحكيم.
نعم، إذا كانت الأفعال والمقاولات المعانقة معها، مشتملة على ما
130

يورث تكنيتها عنها عرفا، فهو مما لا بأس به؟
ثم إنه هل تجوز الإباحة المطلقة، فيكون للمباح له البيع والهبة
وغيرهما، أو لا؟ فيه وجهان، بل قولان:
من أن البيع متقوم بالملكية السابقة، وهكذا سائر إخوانه، ومنها
نكاح الأمة، والمفروض عدمها، فلا يجوز بتلك الإباحة إلا التصرفات غير
المتقومة بالملكية.
وربما يشكل ذلك، لأن إباحة الكل يحتمل أن تكون على وجه
التقييد، كما لا يخفى.
ومن أن الملكية قابلة للتقدير، كما في شراء العمودين، وحيث إن
الملكية الآنية تقتضي الجمع بين الأدلة - دليل السلطنة (1) ودليل
الاشتراط (2) - يتعين الوجه الثاني.
الجواب عن الملكية الآنية والتقديرية
أقول: التحقيق أن الملكية الفرضية والآنية الوجود، مما لا
أساس لها ثبوتا وإثباتا، وذلك لأن المعتبرات العقلائية تابعة لمحيطهم،
ولكيفية اعتبارهم، فلو كان من الاعتبارات سببية شئ لشئ، أو كون شئ
حاصلا من شئ، أو معتبرا على شئ - على اختلاف المباني في مسائل
الأسباب والمسببات غير الحقيقية - فإنه لا يعقل اعتبار المسبب بدون

1 - تقدم في الصفحة 65.
2 - تقدم في الصفحة 53.
131

السبب من عند أنفسنا، لأن المعتبر العقلائي والعرفي متقوم بالاعتبار
الصحيح، وهو من الأمور الحقيقية، لأنه من الوجودات النفسانية،
فلا ينبغي الخلط بين المعتبر والاعتبار.
نعم، يتحقق الاعتبار في المجتمع البشري عند حصول الغرض
والغاية به، ولا موجب عندهم لاعتبارهم هذه الملكية التخيلية، أو
الواقعية الدفعية.
ولو فرضنا ذلك فلا يحمل عليها إلا النص الصريح، دون الاطلاق
والعموم، فإنه لا يعمل به إذا لزم منه خلاف الدليل المقدم عليه، مثلا
إطلاق الأدلة العامة يقتضي جواز شراء العمودين، وإطلاق دليل الشرط
يورث شرطية العتق بالملك، ودليل أن الانسان لا يملك عموديه (1)
يوجب زوال الملكية، فإنه في هذه الصورة يتصرف في أحد الأدلة،
والوجه المتعين - لولا خصوصية في المورد - عدم جواز شرائهما.
نعم، يصح له بنحو الجعالة التوصل إلى عتق الأبوين.
هذا، ولزوم الملكية السابقة في البيع مما لا دليل معتمد عليها،
ولا يقتضيها العقل، والعجب من الشيخ الأنصاري (رحمه الله) (2) حيث إنه تبع

1 - عن أبي جميلة، عن أبي عيينة، عن أبي عبد الله (عليه السلام): إذا ملك الرجل أبويه فهما
حران.
تهذيب الأحكام 8: 244 / 881، وسائل الشيعة 18: 249، كتاب التجارة، أبواب
بيع الحيوان، الباب 4، الحديث 4.
2 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 89 / السطر 5، و 130 / السطر 10.
132

العلامة (1) في المسألة، وظن أن العقل يقتضي ذلك، بحيث لا يمكن
تخصيصه!!
ولو قال: هو قضية حكم العقلاء بدوا، فهو مما لا بأس به، مع أنه غير
موافق للتحقيق، فلا يعتبر في المعاوضة إلا أصل الملكية أحيانا، كما مر.
ودخول العوض مكان المعوض مما يكذبه سوق الناس.
ولنعم ما أفاد في المسألة الفقيه اليزدي (رحمه الله) (2)، فراجع.
ولو ورد في الدليل لا بيع إلا عن ملك (3) وهكذا في الهبة
والعتق (4)، ففيه وجوه:
منها: كونه الملك بالضم.
ومنها: أنه في مقام نفي صحة بيع غير المالك ملك المالك، ولا
يورث شرطية عنوان الملك حتى لا يجوز بيع الشئ قبل حيازته، مع
أنه كثيرا ما يتفق ذلك.
والحاصل: جواز الإباحة المطلقة، وعدم جواز المعاوضة عليها،

1 - قواعد الأحكام 1: 151 / السطر 5، و 166 / السطر 10.
2 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 78 / السطر 25.
3 - قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لا بيع إلا فيما تملك.
عوالي اللآلي 2: 247 / 16، مستدرك الوسائل 13: 230، كتاب التجارة، أبواب
عقد البيع، الباب 1، الحديث 3.
4 - منصور بن حازم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا طلاق قبل
نكاح، ولا عتق قبل ملك.
الكافي 6: 179 / 1، وسائل الشيعة 23: 15، كتاب العتق، الباب 5، الحديث 1.
133

حتى تكون من المعاوضة الخاصة المتعارفة بين الأعيان، أو تكون من
البيع.
والظاهر أن الإباحة المطلقة مع عدم البناء على الرجوع،
لا تورث انسلاب الملكية، ومقتضى الأصل بقاؤها، فتأمل.
هذه كله إذا كان يريد من الإباحة المطلقة مدلولها المطابقي.
وأما إذا أنشأ التمليك بها، وأقر به، فهو المتبع، ولو أنكر بعدها عدم
إرادته لازمها العرفي فالقول قوله، والتفصيل في محله.
التنبيه الخامس: في جريان المعاطاة في جميع العقود
والايقاعات إلا في صنفين
قضية القاعدة جريان المعاطاة في جميع العقود والايقاعات إلا
صنفين منها، فهاهنا ثلاث دعاو:
الأولى: عموم المستثنى منه، وذلك لأن الألفاظ والأفعال بأنحائهما
من الأمور الممكنة الانشاء بها، لما مضى من أن المدار على الطريقة
العقلائية، وهي أعم، بل قد عرفت أصلحية الفعل من القول (1). وما يتوهم
من قصور الأفعال عن إيجادها عناوين المعاملات (2)، في غير محله، لأن
الوجدان على خلافه.
الثانية: من العقود والايقاعات بل ومن أفراد البيع والإجارة، مما

1 - تقدم في الصفحة 15 - 16.
2 - جامع المقاصد 4: 58، المكاسب، الشيخ الأنصاري: 82 / السطر 19.
134

لا يمكن التوصل إليها بالفعل المحض، فتجري فيها المعاطاة بالمعنى
الأعم، فهذه خارجة عن الأصل والقاعدة موضوعا، ضرورة أن البحث في
صحة المعاطاة ولزومها فرع إمكانها، ففي غير المنقولات - كالأراضي إذا
كانت الثمن منها - فإنه لا يمكن التوصل بالفعل إلى الإجارة والبيع.
ومن هذه الطائفة ما يتوصل إليه بالفعل الخارج عن المتعارف،
بمعنى أن البناءات العقلائية تكون على الأقوال والمعاطاة بالمعنى
الأعم، دون الفعل المحض، لصعوبة التوصل به إليها، فلو أراد وقف
داره بعنوان المسجد مثلا، فإنه وإن أمكن فتح بابها، وتخليتها من أثاثه
بعنوان جعلها مسجدا، إلا أنه خلاف المتعارف في الفعل، بخلاف بناء
المسجد بعنوانه، فإنه فعل متعارف في التوصل به إلى المقصود.
الثالثة: من العقود والايقاعات ما هي الجارية فيها المعاطاة
حسب القواعد، كالنكاح والطلاق والعتق، إلا أن الشرع الأقدس
تصرف في السبب، وجعل الألفاظ الخاصة موضوعة لاعتبارها، وإيقاع
هذه العناوين لا يمكن إلا بها، وقد يتوهم عدم إمكان المعاطاة فيها، وهو
غير تام.
نعم دعوى: أن الفعل المتوصل به إليها خارج عن المتعارف (1)،
غير بعيدة، إلا أن الحق خلافها، ضرورة أن مفاهيم الأمور الاعتبارية، كلها
كانت من المفاهيم الأصيلة، ومصاديقها الحقائق الخارجية، ثم بعد
مساس الحاجة إليها في المجتمع البشري، اتسعت تلك العناوين،
واعتبرت لها المصاديق الادعائية والاعتبارية، وذلك في النكاح،

1 - البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 1: 181.
135

والطلاق، والعتق، والملكية، والبيع، وغيرها، فإن الأمر في الابتداء كان
على الأفعال المحققة لها، ثم انتقل إلى غيرها. ولا يقع عقدة النكاح
بالمحرم من الفعل، بل نفس تهيؤ المرأة مع إعطاء المهر، موضوع
لاعتباره، فتدبر.
هذا مع أن الزوجية تحصل بالدخول على نعت حصول المعلول
عقيب العلة، فلا يكون الدخول - وهو الأمر الخارجي الواقع في الزمان
- محرما، لأن معه الزوجية حاصلة، ولا دليل على اعتبار أزيد من ذلك
في الحلية. وتوهم بقاء عنوان الأجنبية حين النكاح، غير نافع، لأنها
تزول بحصول العنوان المقابل في خارج الزمان، كما لا يخفى.
هذا، وتفصيل البحث يطلب من سائر الكتب، فإنه فيها بعض
مطالب أخر وفروع كثيرة، ولا ينبغي التعرض لها هنا.
التنبيه السادس: حول ملزمات المعاطاة بناء على جوازها
قد تقرر منا لزوم المعاطاة (1)، فلا وجه للبحث عن ملزماتها.
ثم إنه لو فرضنا جوازها، فهو ليس إلا للاجماع المدعى في
المسألة (2)، والشهرة القديمة من السابقين (3)، والقدر المتقين منهما

1 - تقدم في الصفحة 78.
2 - الغنية، ضمن الجوامع الفقهية: 524 / السطر 26، المكاسب، الشيخ الأنصاري:
85 / السطر 29.
3 - لاحظ مسالك الأفهام 1: 132 / السطر 36، رياض المسائل 1: 510 /
السطر 29، المكاسب، الشيخ الأنصاري: 85 / السطر 30.
136

ما لم يحدث موجب الشك في الجواز، من تلف العوضين، أو تلف
أحدهما، أو صفة فيهما، أو تصرف، أو غير ذلك، فإنه في غيره يرجع إلى
الأصل المحرر سابقا (1).
ودعوى: أنها ليست بلازمة، ولا تقبل اللزوم، لاطلاق معقد الاجماع،
لأن عنوانه هذه المعاملة.
وتوهم انقلاب الجائز إلى اللازم بتلف العين أو العينين، فاسد،
لأن الجواز واللزوم من طوارئ العقد، وهو باق ببقاء المتعاملين، ولا
يحتاج فيه إلى بقاء الأموال.
غير مسموعة، بداهة أن الاجماع المذكور غير معلوم المعقد، فضلا
عن إطلاقه. وبقاء العقد مع فرض تلف العينين - لو سلم إمكانه - مخدوش
في محيط العقلاء، وما اشتهر: من أنه باق، وقابل للفسخ محمول على
الوجه الآتي.
إن قلت: بناء عليه لا يمكن التمسك بالوجوه السابقة التي استدل
بها على اللزوم في صورة تلف العين، ضرورة أن:
منها: ما يكون الأموال موضوعا لها، وهي معدومة.
ومنها: ما هو موضوعها المال في الجملة، كقاعدة التسليط، وهو
كذلك.
ومنها: ما موضوعها العقد والشرط وغير ذلك، وهي منتفية
بانتفاء مقومها، فإن العقد والعهد واقع على التمليك بالعوض مثلا من قبل

1 - تقدم في الصفحة 75 وما بعدها.
137

المتعاقدين، فهو فرع الملكية الزائلة بزوال العين، فكيف يبقى؟! بل
بقاؤه مع موت المتعاقدين جائز، لأنهما السببان في وجوده، لا بقائه، وهما
- أي العينان - مقومان له حدوثا وبقاء.
قلت: نعم، والسر فيه أن اعتبار اللزوم في قبال الجواز ونفوذ
الفسخ، وهذا متقوم بالأثر، وهو رد العين، وإذا كانت العين تالفة فلا أثر
للجواز، ولا معنى لتوصيف العقد باللزوم، ولا نتيجة لبقاء اعتبار العقد.
نعم، إذا كانت للأعيان نماءات منفصلة، وأريد استردادها، فلاعتبار
بقائه وجه، إلا أنه عند العقلاء غير مرضي، ويكون نظير اعتبار بقائه
لأجل الأخذ بالمثل والقيمة، فإنه إذا صح فسخ العقد بعد التلف، فعلى
كل واحد منهما المثل والقيمة، لأنه أتلف مال الغير، بناء على أن يكون
أثر الفسخ حل العقد من الأول، فتأمل.
ولقاعدة على اليد... على بعض تقاريبها، كما لا يخفى.
محصل الكلام في صورة تلف العين
فتحصل: أن مع تلف العين لا معنى للتمسك بأصالة اللزوم، ولا
باستصحاب حكم المخصص، لأنهما فرع بقاء الموضوع. هذا كله ما لو
تلفت العينان.
ومنه حكما ما لو كان الثمن كليا، فإنه بتلف المثمن لا يعتبر بقاء
العقد، لأنه موضوعه عرفا، بل المقرر عندي: أن الثمن دخيل في ماهية
138

المعاملة بمفهومه، لا بوجوده، كما مرت الإشارة إليه (1).
وليس منه ما لو كان أحد العوضين، دينا في ذمة أحد المتعاطيين،
فإن المبيع إذا كان عينا خارجية، يبقى معه اعتبار العقد، فيجوز اتصافه
بالجواز واللزوم، وإن كان الثمن في الذمة فقد سقطت، ولا حاجة إلى
عودها، لأن ذلك كلي قابل للصدق على الساقط وغيره، فما أفاده الشيخ (قدس سره)
في هذه المواقف (2) وتبعه أصحابه (3)، غير راجع إلى محصل.
وربما لا يعتبر بقاء العقد عرفا، إذا مضت عليه الدهور والأعوام، وإن
كانت الأعيان باقية، فيكون الفسخ في الحقيقة هنا عقدا جديدا.
ولعل اشتهار اللزوم بعد تلف العين، لأجل امتناع الجواز، لا الدليل
الشرعي، وقد ادعي عليه الاجماع (4)، فراجع.
حكم تلف إحدى العينين بنحو يبقى اعتبار العقد
وأما لو تلفت إحدى العينين، بحيث يبقى اعتبار العقد وموضوع
اللزوم والجواز، فهل المرجع عموم أصالة اللزوم؟
أو استصحاب حكم المخصص، وهو جواز عقد المعاطاة الثابت قبل

1 - تقدم في الصفحة 125.
2 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 91 / السطر 14.
3 - منية الطالب 1: 88 / السطر 10، لاحظ حاشية المكاسب، المحقق الإيرواني 1:
87 / السطر 25.
4 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 91 / السطر الأول.
139

تلفها؟، أو قبل تغير فيها؟
أو إطلاق أدلة اللزوم، دون عمومها؟
فيه وجوه.
والمعروف بينهم التمسك بالاستصحاب، إلا إذا كان للعموم إطلاق
زماني، بحيث أخذ الزمان مفردا.
واختار الأستاذ الوالد أن المرجع إطلاق الدليل مطلقا، سواء أخذ
الزمان ظرفا، أو قيدا مفردا (1)، وذلك لأن العلم الاجمالي بالتخصيص أو
التقييد ينحل بالثاني، ضرورة أن التخصيص اخراج الفرد من أفراد
العام في جميع الأزمنة، ولو كان ذلك في زمان فهو تقييد للاطلاق
الأزماني، وإذا دار الأمر بين التخصيص والتقييد، فالثاني متيقن،
وأصالة العموم محكمة.
وإن شئت قلت: يدور الأمر بين التخصيص الملازم لنتيجة التقييد -
لأنه بخروج الفرد لا يبقى موضوع للاطلاق الأزماني - وبين التقييد، وهو
المتعين، وتحقيق المسألة في محلها.
والذي يظهر لي: أن المرجع هنا العمومات على جميع المباني، لأن
الوفاء بالعقد والاتيان بالشرط وغيرهما، ذوات إطلاق أزماني، ويكون
الحكم عرفا منحلا حسب قطعات الأزمنة، ولا معنى لما ذكره الشيخ

1 - البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 1: 183 - 186، الاستصحاب، الإمام الخميني (قدس سره):
190 - 194.
140

الأعظم: من كون الزمان مفردا (1)، لأنه مجرد فرض، ولا يكون في الأدلة
مورد يورث في مرحلة الاثبات ذلك، ولا نحتاج في التمسك بالعمومات
إلى فرضه.
بيان حال استصحاب الملكية مع استصحاب الجواز
ثم إنه قد يشكل التمسك في المقام باستصحاب الملكية المفيدة
للزوم المعاطاة، لأنه محكوم باستصحاب الجواز الثابت بالاجماع، فلو
تقدمت عليه العمومات اللفظية، فلا يتقدم عليه الأصل العملي (2).
وقال أستاذي الوالد المحقق - مد ظله - بتعارض الاستصحابين (3)،
لأن الشك في زوال الملكية مسبب عن الشك في نفوذ الفسخ، وهو
مسبب عن جواز العقد، ولو ثبت في الشرع جواز عقد المعاطاة، فلازمه
العقلائي نفوذ الفسخ، فلا يرفع الشك المسببي بهذا الشك السببي.
واختار الشيخ الأعظم عدم جريان الاستصحاب السببي، لأن
الجواز الثابت بالاجماع موضوعه العين، وهي تالفة (4).
والحق جريان استصحاب الملكية من غير معارض وإن جرى
الأصل السببي ذاتا، وذلك لأن الجواز من تبعات العقد، وهو باق، وإلا فلو

1 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 242 / السطر ما قبل الأخير.
2 - حاشية المكاسب، المحقق الأصفهاني 1: 49 / السطر 5.
3 - البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 1: 185.
4 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 91 / السطر 6.
141

كان ما ذكره الشيخ حقا، لما كان الجواز هنا مخالفا لأصالة اللزوم
وتخصيصا لها. مع أنه لا معنى لما ذكره مطلقا.
فالاستصحاب جار، إلا أنه ليس معارضا، لأن جريانه لغو، ولا أثر
له، ضرورة أن التعبد بالجواز مع عدم تأثير الفسخ وإعدام الملكية به،
مما لا يعقل، وجعل زوال الملكية من آثاره، أو جعل نفوذ الفسخ من آثاره
- لئلا تلزم اللغوية - غير لازم، لأن ذلك فيما كان دليل بنحو كلي لغوا، فإنه
حينئذ لا بد من وجود الأثر، بخلاف ما لو كان إطلاق دليل لغوا.
فهذا الاستصحاب مثل الاستصحاب المسببي، فإنه كما يكون جاريا
بذاته، إلا أنه لما لا يكون له الأثر لا يجري، وكما لا معنى لدعوى: أنه
لا يجري بذاته، لأنه لغو، كذلك لا معنى له هنا كما لا يخفى.
وما أفاده الأستاذ - مد ظله -: من مثبتية الأصل السببي بالنسبة
إلى زوال الملكية، لتوسط اللازم العقلائي، غير تام، لأن جواز المعاطاة
تعبدي، وهذا ليس من لوازمه العقلائية ذلك، بل لازمه العقلائي في
محيط الشرع نفوذ الفسخ، فهو من لوازمه الشرعية.
نعم، استصحاب جواز العقد لا ينقح دليلا شرعيا حتى يرفع به الشك
في المسبب، لأنه لم يسمع كبرى كلية شرعية على أن العقد إذا كان جائزا
فالفسخ نافذ، نعم هي كبرى كلية عقلائية ممضاة في الشرع، فتأمل.
فبالجملة: جريان استصحاب الجواز، متقوم بفرض عدم جريان
استصحاب الملكية، وهذا مما لا يمكن لأن يكون جاريا، لأنه بدون
الفرض المذكور لغو. وهذا هو الذي يؤدي إلى عدم جريان
الاستصحابات الموضوعية طرا، والتفصيل يطلب من تحريراتنا
142

الأصولية (1) فتدبر جدا.
ومما ذكرنا يظهر النظر فيما قد يقال من حكومة الأصل الجاري في
العقد على الأصل الجاري في الملكية (2)، فإن التعبد بالجواز وإن
استلزم نفوذ الفسخ، إلا أن هذا في التعبد في الأدلة الاجتهادية، دون
الفقاهتية، فإن استصحاب الجواز لا يلزم أن لا يكون لغوا، حتى نلتزم بنفوذ
الفسخ الملازم لزوال الملكية، بل إطلاق أدلة الاستصحاب كثيرا
ما يكون محكوما بالأدلة، ولو كان من شرائط الجريان عدم اللغوية، لما
كان وجه للحكومة، لأنها فرعه.
فالأصل في العقد جار غير معارض ولا حاكم، والأصل في الملكية
جار، فتأمل جيدا.
وإن شئت قلت: هو في العقد غير جار، لا لما ذكره الشيخ (رحمه الله) بل لما
أتينا به.
فتحصل: أن قضية دليل لزوم العقود لزوم عقد المعاطاة، إلا فيما قام
الاجماع أو الدليل الآخر عليه، فلو كان مهملا فيرجع إلى الأصل المقرر،
ولا تصل النوبة إلى استصحاب الجواز، أو أصالة البراءة عن لزوم
العقد، ولا إلى استصحاب سلطنة المالك على الاسترجاع، لما مضى
سبيل فساده.
ومن ذلك يعلم حكم الصور المذكورة في الكتب المفصلة ولا

1 - تحريرات في الأصول 8: 436 - 439.
2 - حاشية المكاسب، المحقق الأصفهاني 1: 49 / السطر 5.
143

وجه لتعرضنا لها بعد فساد المبنى. هذا كله على القول بتمامية الأدلة
اللفظية في المسألة السابقة، وهي لزوم المعاطاة.
الاشكال في لزوم المعاطاة بناء على انحصار دليلها بالسيرة
وأما على القول بانحصار دليلها في السيرة العقلائية والبناء
العرفي، ففي صورة الشك يشكل الرجوع إليها، لاستلزامه الشبهة في
بنائهم في هذه الصورة، لأنه بناء تقديري، واستكشاف الحكم القطعي من
هذا التقدير لا يخلو من إشكال فتأمل جدا.
بل دعوى إلغاء الخصوصية عن مورد الاجماع التعبدي فرضا، غير
بعيدة إنصافا، فإن العرف إذا صدق الشرع في جواز المعاطاة، فلا يحتمل
لزومها بمجرد التصرف إلا إذا رجع إلى إعدام الموضوع الخارج عن
موضوع المسألة.
بل لنا أن نقول: بأنه على فرض تمامية الاجماع، يكشف منه عرفا
اشتراط لزوم العقد باللفظ، فلا فرق بين الصور.
ويمكن دعوى تخطئة فهم القائلين بلزومها متمسكين بالبناء
العرفي بمثل هذا الاجماع، وأن هي جائزة في جميع الفروض، فتأمل جيدا.
هذا تمام الكلام على القول بإفادتها الملك.
سقوط البحث عن لزوم المعاطاة وجوازها بناء على إفادتها الإباحة
وأما على القول بإفادتها الإباحة، فالبحث عن اللزوم والجواز غير
144

تام، لانتفاء موضوعهما وهو العقد والمعاملة الصحيحة، فإنها سواء كانت
مالكية، أو شرعية، أو مالكية وشرعية، ليست من آثار المعاوضة،
بداهة أن المعاطاة إذا كانت باطلة، فلا معنى لصحة المعاوضة على
الإباحة، لما يرجع وجه البطلان إلى اشتراط العقد اللفظي، فمع تلف
العين وتغيرها وانتقالها، تبقى العين الأخرى في ملك مالكها الأول.
بل لو نقل المباح له العين بالمعاطاة، فهي أيضا باقية في ملك
المبيح، ولا معنى لضمان أحدهما بالنسبة إلى الآخر، للملازمة العرفية
بين إباحة جميع المنافع ونفي الضمان.
وما قيل من نفي الملازمة بين الحكمين: التكليفي، والوضعي، في
مسألة المضطر لو تم، فهو لأجل الإباحة المعينة وهي الأكل ورفع
الضرورة. مع أن الحكم بالضمان هناك، أيضا محل إشكال جدا، ضرورة أن
ترخيص الشرع المقدس، ليس من قبيل ترخيص الأجنبي التصرف في
مال الغير، بل هو من قبيل ترخيص المالك في ملكه، كما لا يخفى.
اللهم إلا أن يقال: بضمان الاتلاف، فإن تضييع المال مما لا يجوز له
شرعا، ولا من قبل المالك، وعندئذ يرجع إليه بالبدل الحقيقي،
ولا يكفي البدل الجعلي التوهمي إلا بالتراضي.
التنبيه السابع: حول انقلاب العقد اللفظي إلى المعاطاة مع فقده
لبعض شرائطه
قد تلونا عليك أن مطلق الفعل، غير كاف في تحقق عنوان العقد بل
145

المدار على ما يتسبب به إليه عرفا وتداولا (1)، ومع الشك في ذلك يرجع
إلى أصالة عدم النقل والانتقال. وهكذا لا يتوسل إليه بمطلق القول،
كما سيأتي بعض الكلام فيه (2).
فلو أخل بشرائط العقد اللفظي، شرعيها، أو عرفيها، أو أخل بشرائط
لزومها هكذا فعقد، فهل هو من المعاطاة إذا تعقبه القبض؟
أو هو منها مطلقا، لعدم اشتراط القبض الخارجي على ما مر فيها، لما
مضى من أن المعاطاة بالمعنى الأعم ما تشمل ذلك؟
أو يكون فاسدا ولو مع القبض من الطرفين؟
وجوه.
استظهر الشيخ الأعظم (قدس سره) من كلام غير واحد الثاني (3)، فعن
الثانيين: لو أوقع العقد بغير ما قلناه فهي المعاطاة (4).
وقال الشهيد في الروضة بعد منع كفاية الإشارة مع القدرة على
النطق إنها تفيد المعاطاة مع الأفهام الصريح (5) انتهى.
وذهب المتأخرون ومن عاصرنا وعاصرناه إلى أنه المقبوض
بالعقد الفاسد (6). وما يقال: من أنه مع العقد الانشائي يحصل القبض

1 - تقدم في الصفحة 19 - 20 و 73.
2 - يأتي في الصفحة 155 وما بعدها.
3 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 92 / السطر 19.
4 - رسائل المحقق الكركي 1: 178.
5 - الروضة البهية 1: 313 / السطر 17.
6 - مصباح الفقاهة 2: 223 - 224.
146

فهو خروج عن مصب البحث.
والحق هو التفصيل بين القول بالملك، والقول بالإباحة، فيتم
كلام الشهيد الثاني فقط، وذلك لأنه في مفروض الكلام وإن أنشأ
التمليك، إلا أنه ليس ناقلا، والتبادل بعنوان العمل بالوظيفة، لا يتحقق
به الانشاء المعاملي، واقتران الرضا الباطني بالتعاطي الخارجي،
لا يورث الملكية المقصودة، فهو المقبوض فاسدا، أو عليه يجري
أحكامه. هذا على ما هو الحق في المسألة.
وأما على الإباحة فقد عرفت: أن الإباحة ليست شرعية، بل هي من
أقبح القبائح في المعاملات العرفية، بل هي إباحة تقديرية ورضا باطني
ارتكازي من المتعاملين بالنسبة إلى جميع التصرفات من الطرفين،
لأن مقصود العقلاء بالذات ليس إلا النتائج، ولا يعتنون بالعناوين، فلو
كان غرض أحدهما في مال الآخر وبالعكس، فهما يتبعان غرضهما، سواء
كان ذلك في البيع وعنوان الملكية أو فيما يقوم مقامه وينتج نتاجه،
فعندئذ تحصل الإباحة المالكية بالحمل الشائع، لا بعنوانها. ولا يشترط
في حصولها الرضا التفصيلي الفعلي، بل التقديري الارتكازي يكفي، إلا
مع القرينة على خلافه.
ومن ذلك مثلا ما لو كان فساد المعاملة نافعا لأحدهما، كما في أجور
الفواحش، فإنه لا يكشف الرضا الباطني لهن حتى يصح لهن التصرف
فيها، لما أن في ذلك تمام النفع للمالك.
ففيما إذا كان فساد المعاملة موجبا لنفع أحد الطرفين، فاستكشاف
الرضا مشكل، وأما إذ أكان فيه خلاف غرضهم فهو بديهي، وحيث إن الأكثر
147

في المعاملات القسم الأخير يقال: بأن المعاطاة تفيد الإباحة.
وما قد يقال: من أنه على الإباحة أيضا لا يجوز التصرف فهو من
قصور الباع، أو قلة الاطلاع، فليراجع، وتدبر جدا.
هذا، ولو أخل بشرائط اللزوم، فإن كان خللا قابلا للتدارك حتى
يلزم فهو، وإلا فلا معنى للتمسك بأصالة اللزوم، إلا مع إهمال دليل الاشتراط.
أو يقال: بأن دليل لزوم العقود ينحصر بالبناءات العرفية، وهي في
مثل المقام - كما مر نظيره - قاصرة، كما لا يخفى.
التنبيه الثامن: في حكم منافع العين عند الرجوع في المعاطاة
لا شبهة في أن المنافع للمباح له، وليست هي مضمونة ولو كانت
العين مضمونة. وفي كونها له ملكا، أو إباحة أيضا - فلا تصح إجارتها دون
إعارتها - كلام.
فإن قلنا: إن مدركها السيرة الكاشفة عن الإباحة الشرعية، فهي
ملكه.
وإن قلنا: إنها الإباحة المالكية فهي تستلزم الملكية، لما أن
الإباحة المطلقة تستلزم اعتبار الملكية. مع أن ما يكشف به الإباحة
كما مر، يكشف به الملك، فتأمل.
ومن القوي صحة البيع والإجارة وسائر المعاوضات وإن كانت
الأعيان غير مملوكة، لعدم الدليل على اشتراط ما شرطوه.
148

حكم النماءات المتصلة والمنفصلة
بقي الكلام في النماءات المنفصلة والمتصلة، فالمتصلة تابعة
للعين، فإن كانت حين الرجوع إليها موجودة، فهي راجعة قهرا، سواء قيل
بالملك، أو الإباحة، وسواء قلنا: بأن الجواز صفة العقد، أو العين، أو
قلنا بالإباحة الشرعية، أو المالكية.
نعم، لو قلنا: بأن الإباحة المطلقة تورث انتفاء الملك، وتوجب
ثبوته للمباح له عرفا، فهي تمليك غير عقدي خارج عن بحث اللزوم
والجواز، ومقتضاه عدم نفوذ رجوعه، لاستصحاب الملكية،
ولاستصحاب العدم المحمولي الأزلي، بناء على جريانه.
وأما المنفصلة، فمقتضى ما ذكره الشيخ الكبير - استبعادا للقول
بالإباحة (1) - أنها ليست للمباح له، ولا يجوز له التصرف فيها، لأن
المقصود في المعاطاة - وهو التمليك - غير حاصل، وما هو المأذون فيه
هي العين، دون هذه المنافع المنفصلة، ولا أقل من الشك، فعليه إذا
رجع إلى العين تكون هي مضمونة، وعليه ردها، أو رد مثلها وقيمتها.
وقد يقال: إن الحديث النبوي المشهور: الخراج بالضمان (2)
يورث أن النماءات للمباح له أو المالك الثاني فلو رجع فهو مثل

1 - شرح قواعد الأحكام، كاشف الغطاء: 50 / السطر الأخير (مخطوط)، ولاحظ
المكاسب، الشيخ الأنصاري: 84 / السطر 11.
2 - عوالي اللآلي 1: 219 / 89، سنن النسائي 7: 245، مسند أحمد 6: 49.
149

الرجوع في باب الخيار في أن النماء المتصل يتبع العين، دون
المنفصل والمنافع المستوفاة قبل الرجوع، فإنهما ممن كانت العين بيده.
وتوهم ضعف الحديث (1)، ممنوع بعدما يستفاد من كلام شيخ الطائفة (2)
وجماعة (3): من أنه من النبويات المتلقاة بالقبول عند الفريقين، فهو
نظير على اليد... بل مضمونه يؤيد بالارتكاز العرفي.
وفي استشهاد أبي حنيفة به، وورود الرواية ردا عليه، وسكوتها
عن سند الحديث، وتعرضها لفتواه، ورده بقوله: في مثل هذا القضاء وشبهه
تحبس السماء ماءها، وتمنع الأرض بركتها (4) نوع شهادة على اعتبار
الحديث (5).
ودعوى: أنها في مقام نفي تضمين المنافع والنماءات في مثل الأعيان
المضمونة قهرا، غير مسموعة، لأنها هي التي أفتى بها أبو حنيفة، فمعناه
أن التضمين المالكي - سواء كان بالتمليك، أو الإباحة، أو المعاوضات -

1 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 104 / السطر 26، حاشية المكاسب، المحقق
الخراساني: 34.
2 - الخلاف 3: 107، المسألة 174، المبسوط 2: 126.
3 - الوسيلة: 249 و 255، الغنية، ضمن الجوامع الفقهية: 531 / السطر 4 - 5.
4 - الكافي 5: 290 / 6، وسائل الشيعة 19: 119، كتاب الإجارة، الباب 17،
الحديث 1.
5 - حيث إن أبا حنيفة استند بهذه الرواية في فتواه وكان مشهورا عنه ذلك.
لاحظ المبسوط، السرخسي 11: 77 - 78، وبداية المجتهد 2: 231.
150

يورث كون الخراج والنماءات للمباح له والمالك الثاني (1).
ولكنه غير تام، ضرورة أن قضية القواعد، هو أن النماءات
المنفصلة جائز التصرف فيها على نعت جواز التصرف في العين، لأن
معنى إباحة العين إباحة المنافع، ولكن المنافع الباقية حين الرجوع
إلى العين، ترجع إلى المالك الأول، كما لو آجر المباح له داره في
مدة، ثم رجع المبيح في أثناء تلك المدة، فإن منفعة الإجارة للمالك،
فيعود إليه مقدار من الأجرة لو أجاز، وإلا يستكشف بطلان إجارته إلى
حين الرجوع، أو من رأس، ولا يجوز تصرفه فيها على حذو تصرف
الملاك، للزوم الخلف، فلا تغفل.
وإن الحديث يحتمل معاني أخر، سيأتي بعض الكلام فيها إن شاء الله
تعالى في محله (2)، وإن مفاده على جميع معانيه، لا يشمل فرض سببية
المعاطاة للملك، لأن المقصود نفي الضمان عن ضامن العين، وأن منافع
المضمون للضامن، كما لا يخفى.

1 - منية الطالب 1: 101 - 102.
2 - يأتي في الصفحة 216 - 217.
151

الجهة الثالثة
حول ما قيل أو يمكن أن
يقال في صيغ العقود
والايقاعات
وقبل الخوض فيه لا بد من الإشارة إلى مقتضى الأصول عند الشك.
153

مقتضى الأصل عند الشك في اشتراط شئ بشئ
المعروف بينهم أن قضية الأصل هو فساد المعاملة، للشك في
النقل والانتقال المحكوم بالعدم، حسب اقتضاء الاستصحاب (1).
وقد يقال بالتفصيل بين الشرائط العرفية والشرعية، فما كان من
الأولى فمقتضى الأصل ما مر، وما كان من الثانية فلا، لأن سببية العقد
معلومة، وتصرف الشرع مشكوك ومحكوم بالعدم، فلا منع من جريان
حديث الرفع (2)، لأنه لا نحتاج إلى إثبات السببية.
ويتوجه إليه: أن مطلق السبب ليس كافيا، بل لا بد من العيب
الممضى في الشريعة المقدسة، واستكشاف الامضاء بالحديث غير

1 - منية الطالب 1: 104 / السطر 11.
2 - حريز بن عبد الله، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): رفع عن أمتي
تسعة: الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما اضطروا
إليه والحسد والطيرة والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطقوا بشفة.
الخصال: 417 / 9، وسائل الشيعة 15: 369، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس،
الباب 56، الحديث 1.
155

ممكن، وبالعمومات وغيرها خروج عن مفروض الكلام.
ثم إن الشبهة في المسألة تارة: تكون من قبيل الأقل والأكثر، كما
لو شك في اعتبار لزوم ذكر الثمن والمثمن بعد كلمة بعت وأنه لا يجوز
الاكتفاء بالمقاولة السابقة.
وأخرى: تكون من قبيل المتباينين، فيدور الأمر بين التعيين
والتخيير، كما لو شك في أن كلمة: شريت تكفي لانشاء البيع، أو لا بد
من لفظة: بعت.
ففي الفرض الثاني يتعين الاحتياط.
وفي الفرض الأول يمكن دعوى: أن المسألة تدور مدار أن
العقد عنوان منتزع من الأمور الخارجية، أو هو نفس هذه الأجزاء:
فعلى الأول: يتعين القول بالفساد.
وعلى الثاني: فإن قلنا بالسببية لهذه الأجزاء الخارجية، فهي
لا تثبت بالبراءة الشرعية.
وإن قلنا: بأن ترتب النقل والانتقال حكم على موضوع، كما هو مختار
جماعة، ولا سببية ولا مسببية حتى الاعتبارية، فهما مثل الصلاة
المترتب عليها حكم سقوط الأمر، فإذا شك في النقل فهو مسبب عن الشك
في جزء دخيل مرفوع بالأصل، كما لو شك في سقوط الأمر، فافهم وتدبر.
الكلام حول اعتبار الصراحة
إذا عرفت ذلك فاعلم: أن الأقوال في المسألة كثيرة، فعن إيضاح
156

الفخر (1)، ومصابيح بحر العلوم: أن العقود لا تنعقد إلا بالصراحة،
ولا تكفي الكنايات والمجازات بأنحائهما (2).
بل في كلام المسالك ما يورث أن دائرتها أضيق من ذلك، لما قال:
ولما كانت الإجارة من العقود اللازمة، وجب انحصار إيقاعها في الألفاظ
المنقولة شرعا، المعهودة لغة (3) انتهى.
فبناء هؤلاء على الأخذ بالقدر المتيقن، كما صرح به السيد (رحمه الله) (4).
وفي قبا لهم من جوز بجميع الكنايات والمجازات، حتى البعيدة،
وحتى المقرونة بالقرائن الحالية، معللا بأن كل ذلك سبب عرفا، ولا
دليل من الشرع في كيفية السبب.
وإليه ذهب السيد الفقيه اليزدي (رحمه الله) إلا أنه قال باعتبار الظهور
العرفي (5)، وكأنه يمنع عن الظهور عند المتبايعين، ويعتبر الظهور
النوعي، لا الشخصي، فلا سعة في فتواه من تلك الجهة.
ولعله لو كان يتذكره لأفتى به، لأن المدار على حصول العقد،
وتشخيص ذلك بيد المتعاملين الملتزمين، فلو استعملا لفظي النكاح
والطلاق في البيع والشراء معتقدين جواز الوضع بالاستعمال، بعد

1 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 94 / السطر 32، ولاحظ إيضاح الفوائد
3: 12 - 13.
2 - جواهر الكلام 22: 249، مفتاح الكرامة 4: 149 و 160.
3 - مسالك الأفهام 1: 254 / السطر 15.
4 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 86 / السطر 21 - 34.
5 - نفس المصدر / السطر 26 - 34.
157

وجود القرينة عندهما، يتحقق العقد، وهما يعدان متعاقدين بالضرورة،
فلا يعتبر الظهور النوعي، بل يكفي تجويز النوع بعدما يتذكر حدود ما
فرضناه، وربما يرتكب عند إمساس الحاجة، فلا تغفل.
وظاهر الشيخ الأعظم أيضا ذلك، إلا أن قوله: بكل لفظ له ظهور
عرفي معتد به في المعنى المقصود (1) ربما يوهم أن مجرد الظهور غير
كاف، وهو في مكان المنع، فإن العقد يحصل به، ولزوم المرافعة في مقام
الاثبات والدعوى، لا يورث إشكالا في مسألتنا، كما لا يخفى.
وذهب جماعة إلى اخراج المجازات، أو هي مع الكنايات (2).
وأخرى: إلى التفصيل بين القرائن الحالية والمقالية (3).
وثالثة: إلى التفصيل بين المشهورات منهما وغيرها (4).
وقال المحقق الرشتي (قدس سره): الأقرب هو القول الأول، إذ لا مانع منه
سوى العمومات والاطلاقات، وفيها ضعف واضح بعد قيام الاجماع المحقق
على اعتبار بعض الخصوصيات في العقد ولو في الهيئة، من الماضوية،
والموالاة، ونحوهما مما هو ثابت عند الكل أو الجل.
ودعوى: أنها خرجت بالاجماع، فما بال المختلف فيه من
الخصوصيات الراجعة إلى المواد؟! شطط من الكلام، وجمود على

1 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 94 / السطر 3.
2 - لاحظ مفتاح الكرامة 4: 149، جواهر الكلام 22: 249.
3 - لاحظ الإجارة، المحقق الرشتي: 35 / السطر 14.
4 - منية الطالب 1: 106 / السطر 14.
158

الظاهر الذي لا أصل له....
إلى أن قال: فلا مناص من الأخذ بالقدر المتيقن في مواضع
الخلاف (1) انتهى.
وفي سند منعه مواضع من الاشكال، وقد مر البحث حول مقتضى
الأصل الشرعي (2).
وأما استشكاله في العمومات، فهو لو تم لا يستلزم عدم صحة
دعوى إلغاء الخصوصية عن مورد السيرة العقلائية غير المردوعة،
فإن الثابت عندهم أن ما هو العقد يجب الوفاء به، وتصرف الشرع
المقدس في حدود السبب، ليس مرددا بين أمور مجهولة حتى يلزم
الاحتياط، ضرورة أن الاجماع لو قام في المسألة، فهو من المركب القائم
على عدم صحة العقد بالمجاز البعيد، ولا معقد له في شرطية
الصراحة والدلالة اللفظية، وإلا يلزم عليه أيضا الالتزام بعدم نفوذ
العقد، إذا كانت ألفاظه فارسية أو عربية غير معروفة، بل لا بد عليه من
الاحتياط في مثل لفظة ملكت بل وشريت وقد اتضح فساده في محله،
وهو غير ملتزم به قطعا.
هذا مع أن الاجماع في المسألة منقول، بل الظاهر أن المسألة لم
تكن معنونة في كتب القدماء بعنوان المسائل الشرعية.
فالأقوى أن العقد إذا تحقق تشمله أدلة نفوذه، وسائر أحكامه،

1 - الإجارة، المحقق الرشتي: 36 / السطر 3.
2 - تقدم في الصفحة 155.
159

ولأسبابه العرض العريض.
نعم، تختلف المقامات والظروف في سببية شئ دون آخر، فمع
التوسعة وعدم وجود الغرض في الألفاظ الغلط، يشكل كونه عقدا، ومع
الضرورة والاحتياج إلى كتمان المقصود، يصح التوسل والتسبب بها،
كما لا يخفى.
ثم إن في بعض العقود - للاجماعات المحققة، والشهرات
المعلومة، ودلالة بعض النصوص - تعتبر المواد المخصوصة والهيئة
الخاصة، كباب النكاح والطلاق، وتفصيل المسألة يطلب من محاله.
هذا تمام الكلام حول مادة العقود.
الكلام حول اعتبار الماضوية والعربية ونحوهما
وأما الهيئة الناقصة منها، فهي أيضا مما لا شاهد ثابت عليها من
اعتبار الماضوية والعربية.
والعجب أن مثل الثانيين من الشهيد والمحقق، ذهبا إلى اعتبار
العربية (1)، وعن العلامة في التذكرة دعوى الاجماع على اعتبار
الماضوية (2)!! ولعل كل ذلك في مواضع خاصة هي مخفية علينا، وإلا
فالأمر يصير مشكلا في سائر الاجماعات المدعاة، كما لا يخفى.

1 - الروضة البهية 1: 313 / السطر 14، جامع المقاصد 4: 59.
2 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 96 / السطر 10، تذكرة الفقهاء 1: 462 /
السطر 11.
160

الكلام حول اعتبار الموالاة والتنجيز وتقديم الايجاب ونحوها
وأما الهيئة التامة وهي هيئة الايجاب والقبول، فهل يعتبر هنا
أمر شرعا أو عرفا، من تقديم الايجاب على القبول، أو لا يعتبر شئ حتى
الموالاة والتنجيز؟
فيه وجوه وأقوال في طي مسائل.
وقبل الخوض فيها لا بد من بحث آخر: وهو أن العقود متقومة
بالقبول ماهية، أو مشروط تأثيرها بالرضا والقبول؟
المشهور بل المتفق عليه هو الأول.
وقد ذهب الأستاذ الوالد - مد ظله - إلى الثاني، معللا بأن تعريف
البيع خال من ركنية القبول، وتمام حقيقته تحصل بعمل الموجب. وهذا
ما يساعد عليه العرف فيما إذا كان الأجنبي مثلا وكيلا منهما، فإنه لو قال:
بادلت بينهما أي المالين، تتحقق تمام حقيقة البيع من غير لزوم أمر
آخر (1).
وقد وقع ذلك في النكاح، فإن الله تعالى بعدما عقد بين رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتلك المرأة، فقد تم الأمر، ولم يعهد قبول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
بعده (2).

1 - البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 1: 219.
2 - روى أبو الصلت الهروي عن الرضا (عليه السلام):... وإن الله عز وجل ما تولى تزويج أحد
من خلقه إلا تزويج حوا من آدم (عليه السلام) وزينب من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: (فلما قضى
زيد منها وطرا زوجناكها)....
عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 195، الباب 14، الحديث 1.
161

وعليه لا تعتبر الموالاة أيضا عنده - مد ظله - (1).
كما لا منع من تقدم القبول على الايجاب، لأنه ليس إلا إظهار
الموافقة، والطيب بالمبادلة.
أقول: لو كان البيع مبادلة المالين، أو التمليك بالعوض، فالقبول
ركن، لعدم تحققه إلا به، ولو كان هو إيقاعهما وإنشاؤهما فهو حاصل بعمل
الموجب، ويلزم منه كون جميع العقود إيقاعات، إلا أن من الايقاع ما
لا يعتبر في تأثيره شئ، ومنه ما يعتبر، ولو كان الأمر كما ذكر، يلزم كون هذه
المعاملة فضولية من طرف، والقبول بمنزلة الإجازة.
والذي يظهر لي: هو أن البيع ولو كان إنشاء المبادلة، يحتاج إلى
القبول، وهو متقوم به، لأن البائع لا ينشئ إلا معنى مفاده خروج ماله عن
ملكه بعوض، ولا ينشئ دخول مال الغير المسمى بالعوض في ملكه،
حتى يكون كل المبادلات فضولية.
وتوهم: أن إنشاء التمليك بالعوض يستلزم الانشاء الآخر، فاسد
بالضرورة.
ولشهادة العرف، ولأن القائلين بلزوم الصراحة في العقود
والمعاملات، وعدم كفاية الكناية، لا يرون هنا الانشاءين في مغروس

1 - البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 1: 227.
162

أذهانهم، حتى يرد عليهم ذلك، أو يستثنون من عموم فتواهم مثله.
وإن شئت قلت: البيع غير عقد البيع، فإنه عنوان آخر حاصل من
المعاقدة المتقومة بالطرفين.
فبالجملة: لا بد من الانشاء الآخر المتضمن للتمليك بالعوض، وإن لم
يكن ذلك صريح القبول.
ومما يشهد على ذلك: جواز تحقق البيع وعقده بالانشاءين
الصريحين المرتبطين، على إشكال آخر مضى سبيله.
هذا، وتمام البحث في سائر الشرائط في ضمن مسائل:
المسألة الأولى: حول اعتبار تقدم الايجاب على القبول
المشهور لزوم تأخر القبول عن الايجاب، وحكي الاجماع عن
الخلاف عليه (1)، ولا خير فيه.
وذهب جماعة إلى التفصيل بين القبول الواقع بكلمات: رضيت
وقبلت والواقع ب‍ اشتريت وابتعت وملكت بالتخفيف، وهذا
التفصيل مما يتراءى من صريح جماعة (2) وظاهر آخرين (3)، وعن

1 - لاحظ المكاسب، الشيخ الأنصاري: 96 / السطر 15، الخلاف 3: 40.
2 - مسالك الأفهام 1: 133 / السطر 41 وما بعده.
3 - مجمع الفائدة والبرهان 8: 145 - 146، المكاسب، الشيخ الأنصاري:
97 / السطر 22 وما بعده.
163

التذكرة الاجماع عليه (1).
واختار جمع جواز التقديم مطلقا، ومنهم الفقيه اليزدي (2)،
والأستاذ الوالد - مد ظله - (3).
والذي يظهر لي: هو أن البحث حول سائر الكلمات غير صحيح،
لأنه من إيجاب المشتري، لا من تقديم القبول عليه كما لا يخفى، وكما
ينشئ البائع التمليك بالعوض بالحمل الشائع لا بمفهومه، كذلك ينشئ
المشتري، ويكون ناقلا العوض إلى ملك البائع بواقعه لا بمفهومه، فيما
كان العنوانان معلومين بغير الايجاب والقبول.
وأما البحث حول الكلمة الصريحة في القبول، فالحق فيه
المنع، لعدم مساعدة العرف.
وكونها تحقق الوقوع لا يفيد شيئا. كما لا يفيد حملها على الواجب
المعلق أو المشروط، لعدم مساعدة الاعتبار معه، مع أنه من تأخير
القبول.
وبالجملة: المنشأ في القبول بالمطابقة هو الرضا بالمنشأ
السابق، وبالالتزام إنشاء تمليك العوض بالعوض، وهذه الدلالة
الالتزامية أو هذا اللازم العرفي، لا يحصل إلا في صورة التأخير، فتحقق

1 - لاحظ المكاسب، الشيخ الأنصاري: 96 / السطر 25، تذكرة الفقهاء 1: 462 /
السطر 10.
2 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 88 / السطر 32.
3 - البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 1: 223 - 226.
164

العقد في المسألة مشكل، وإلا فلا منع من التمسك بأصالة الصحة
واللزوم في العقود.
وما قيل في بعض المقامات: من أن موضوع الأدلة العقود
المتعارفة، بالطرق المتعارفة، على الأموال المتعارفة يورث أيضا
هنا الاشكال، كما يعطيه في البحث السابق.
هذا والانصاف: أن المراجعة إلى الوجدان فيما تقاولا على
معاملة، ثم بعد تلك المقاولة إذا قال المشتري: قبلت فقال البائع:
بعت يتم العقد، ولا يرى فيه الخلل.
نعم، نفس مفهوم القبول بدونها لا يفيد شيئا، فتأمل جيدا.
المسألة الثانية: حول اعتبار الموالاة
المشهور اعتبار الموالاة بين الايجاب والقبول عرفا، ولا يضر
الفصل اليسير، وهكذا اعتباره في كلمات الايجاب والقبول وحروفهما،
ويضر الفصل المغتفر هناك، هنا ولا يضر اليسير بالكثير، ولعل الحكم
قطعي في الفرضين الأخيرين.
وظاهرهم أنه حكم شرطي، لما يستلزم الاخلال به أن عنوان العقد
مشكوك الانعقاد، ووجه الشك في ذلك، هو أنه يجب أن يكون القبول مرتبطا
بالايجاب، ومتوجها إلى مفاده، ومع الفصل يشكل ذلك، فيشك في حصول
موضوع الأدلة وعمومات المسألة، فكونها واجبة تعبدا بعيد جدا. وعدم
حصول العقد بتركها بعد حصول الربط المعتبر في العقد، ممنوع للوجدان.
165

فمنشأ اعتبارها عندي اعتبار الشرط الآخر الآتي في العقود: وهو
التطابق بين الايجاب والقبول في القيود وفي أصل الانشاء (1)، أي لا بد
وأن يكون القبول قبول ذلك المنشأ، وهذا ربما لا يحصل بعد الفصل
الطويل، فتأمل.
ويظهر من الشيخ أن عنوان العقد متقوم بالموالاة، واستحسن
رأي الشهيد في القواعد (2) إلا أنه قال: هذا لو كان حكم الملك
واللزوم في المعاملة، منوطا بصدق العقد عرفا، كما هو مقتضى التمسك
بآية الوفاء بالعقود، وأما لو كان منوطا بصدق البيع أو التجارة عن
تراض، فلا يضره عدم صدق العقد (3) انتهى.
وقد عرفت ما فيه من صدقه ولو أخل بها، إذا كان في الكلام قرينة
على حصول الربط، وكونه قبولا لمفاد الايجاب.
بل قضية البحث والتفتيش، أن مقصوده لا يرجع إلى محصل، ضرورة
أن العقد وسائر ألفاظ المعاملات إن كانت موضوعة للمعنى المسببي،
فهو لا يحصل بترك الموالاة، لاقتضاء الدليل الذي تمسك به ذلك.
وإن كانت موضوعة للأسباب، فالعقد والبيع سيان. وكون العقد
موضوعا للمسبب دون البيع ممنوع، لما مر أن تلك الألفاظ موضوعة
للمسببات، أو الأسباب الملحقة بها آثارها.

1 - يأتي في الصفحة 173.
2 - القواعد والفوائد 1: 234، القاعدة 73.
3 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 98 / السطر 23 - 33.
166

ومما يشهد على صحة ما ذكرناه: اتفاق الأصحاب على عدم اعتبار
الموالاة في العقود الجائزة.
ثم إن الظاهر من الأستاذ الوالد - مد ظله - هو أنه يرى نفسه في
مخلص من هذا الشرط، لأنه لا يقول بركنية القبول (1)، وقد مضى شطر من
مرامه (2)، فعليه تكون ماهية المعاملة حاصلة بتمامها بنفس الايجاب،
والقبول شرط تأثيرها، كما في الفضولي.
والانصاف: أنه للقول باعتبار الموالاة على مبناه - مد ظله - أيضا
وجه، لما عرفت منا في تحرير المسألة، فلاحظ وتدبر.
ثم إنه ربما يتوهم: أن قضية الاستصحاب جواز الاتكال على القبول
اللاحق مع الشك في حصول العنوان العقدي به، لأن منشأ الشك في
ذلك احتمال خروج الايجاب عن قابلية الالتحاق وعن الصحة التأهلية،
وهي محكومة بمقتضاه بالعدم.
ويؤيد ذلك تسلم الأصحاب في الطهارات الثلاث البناء على عدم
الاعتناء بالشك في الحدث، مع أنه يورث الشك المذكور. ودعوى
كفاية استصحاب عدم الحدث محل إشكال. مع أن بناءهم ظاهرا على عدم
الاعتناء بالشك في الاخلال بالموالاة المعتبرة فيها، وهكذا في الصلاة.
والذي تحرر منا في محله: عدم جريان استصحاب الصحة
الفعلية، فضلا عن التأهلية، والتفصيل في مقامه.

1 - البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 1: 219.
2 - تقدم في الصفحة 161 - 162.
167

المسألة الثالثة: حول اعتبار التنجيز
المعروف بين جماعة اعتبار التنجيز في العقود والايقاعات (1)،
وقد ادعي الاجماع عليه في بعض العقود - كالوكالة - العلامة (2)
وابنه (3)، ومنه يعلم أن المسألة إجماعية في غيرها، للأولوية. وهذا هو
المتسالم عليه في بعض الايقاعات كالطلاق، بل والعتق.
وفي تمامية الاتفاق الكاشف عن رأي المعصوم (عليه السلام) أو الرواية
الصريحة والدالة على المقصود إشكال، بل منع، لأن المسألة ذات وجوه
اعتبارية، وقد استدلوا بها في جملة من كلماتهم. بل كونها معنونة في كتب
القدماء - إلا بعضا - منهم ممنوع، فلاحظ.
فعليه لا بد من المراجعة إلى عمومات المسألة وإطلاقاتها.
ومقتضى السيرة العملية وتعارفها بينهم جوازها، على إشكال يأتي.
أدلة امتناع التعليق وردها
وقد يتوهم: أن تعليق الانشاء غير معقول، وليس هو مورد البحث
والنزاع، لأن الانشاء كالايجاد، فلا يعقل أن يتحقق الوجود الاعتباري أو

1 - لاحظ المكاسب، الشيخ الأنصاري: 99 / السطر 8.
2 - تذكرة الفقهاء 2: 114 / السطر 25.
3 - لاحظ مفتاح الكرامة 7: 526، المكاسب، الشيخ الأنصاري: 99 / السطر 9.
168

التكويني، ومع ذلك يكون معلقا، للزوم التناقض (1).
أو لأن التعليق يستلزم النظر الاسمي إلى الهيئة المستعملة في
المعنى الحرفي، فيلزم الجمع بين لحاظين: آلي، واستقلالي.
أو لأن التعليق بمنزلة التقييد، وهو يستلزم التقسيم، ومفاد الهيئة
ليس قابلا له، لأنه جزئي، والجزئي غير قابل للقسمة قطعا.
ويندفع: بأن الانشاء الاعتباري غير الايجاد التكويني، ولا ينبغي
الخلط بينهما، ضرورة أن مفاد الهيئة هو إنشاء الملكية المعلقة على
مجئ زيد، وهذا الانشاء التعليقي موجود بالفعل، إلا أن الانشاء الفعلي
يحصل بعد حصول المعلق عليه. وليس هذا من تخلف المعلول عن
العلة، لعدم العلية في هذه المسائل، ولا من تعليق الإرادة التي هي
تكوينية، لأنها تعلقت على نعت ما يتعلق في الواجب المعلق، فلا يكون في
نفسها تعليق.
ودعوى رجوع التعليق في الهيئة إلى التعليق في المادة، لأنها
تابع الإرادة (2)، غير مسموعة، لأن المناط هو الانشاء الحاصل من المولى
دون الإرادة، والتفصيل في الأصول (3).
وبأن المعنى الحرفي قابل لأن يلحظ بعد تحققه، فيكون مورد
النظر ثانيا، فيقيد أو يعلق عليه أمر، فإذا علق عليه الأمر يراعى أثره على

1 - منية الطالب 1: 112 / السطر 20.
2 - مطارح الأنظار: 45 - 46.
3 - تحريرات في الأصول 3: 50.
169

حصول المعلق عليه الهيئة، بالنسبة إلى حصول الأثر من العلة
التامة، كما في التكوين. بل هو عند الاطلاق يؤثر، وعند التقييد
والتعليق يبقى بلا أثر.
بل لو كان عند قوله: بعت مريدا للبيع المطلق المنجز، فبدا له
خلافه بعده فورا، فألحق بكلامه التعليق، فإنه مما لا بأس به، لعدم جواز
الخلط بين المسائل الاعتبارية - ومنها مسألة الوضع - والمسائل
الخارجية والتكوينية.
وبأن الذي ظهر لي: هو أن تقييد المعنى الحرفي - بناء على كونه
من المعاني الجزئية الخارجية - ممتنع. وما ترى من تقييد الأعلام
الشخصية فهو توصيف، وبينهما فرق بين.
ولو أريد منه التقييد فيرجع المقيد إلى المسمى ب‍ زيد قطعا،
فيصير كليا كما لا يخفى. وأما التعليق فهو ليس من التقييد، لأنه يورث
كون الهيئة مراعى في تأثيرها شئ، وهذا لا يستلزم التقسيم المشار
إليه في الكلام.
فتحصل: أن التعليق في الانشاء، يورث سقوط الهيئة عن تأثيرها
الفعلي، ولا يوجب عدم تحقق الانشاء التعليقي، فإنه محال. ولعل الناظر
إلى امتناع التعليق في الانشاء، كان يجد أنه مع التعليق يتحقق هذا النحو
منه، فتأمل.
وقد يشكل ذلك، لأجل أن البيع الحاصل بعد تحقق الشرط، هل هو
يوجد بإيجاد فعلي مقارن له، أو هو يوجد بالايجاد السابق؟ فإن وجد
بالانشاء السابق فهو معناه التعليق في المنشأ، وإن تحقق بالانشاء الفعلي
170

المقارن، فهو في الحقيقة يرجع إلى الوجود بلا إيجاد، ويكون موجودا
بحصول الشرط قهرا، لعدم استناده إلى العاقد والموجب في وجوده
التنجيزي.
نعم، هو في وجوده الانشائي المعلق مستند إليه.
وإن شئت قلت: في العقد المنجز يستند المنشأ المحقق إلى
الموجب، ويكون هو تمام علة وجوده، بخلاف العقد المعلق، فإنه
بإنشائه التعليقي اعتبر دخالة المعلق عليه في وجود المعلق، وهو جزء
أخير لعلته التامة، فيستند إليه، فهو لا يوجد بإيجاده عند حصول
الشرط، بل يوجد بوجود الشرط قهرا.
نعم، إذا كان الشرط في الانشاء من أفعال الموجب الاختيارية، فهو
موجده وعلته كما لا يخفى.
ولك دفعه: بأن الحق كما ذكر، إلا أن هذا لا يرجع إلى المعلول بدون
العلة قطعا، وأما رجوعه إلى وجود العقد بلا استناد إلى العاقد، بحيث
يقال بعدم وجوب الوفاء عليه، فهو ممنوع عند العرف والوجدان، ولا
حاجة إلى أزيد منه في المسألة.
اعتراض الوالد المحقق - مد ظله - على صحة تعليق المنشأ ودفعه
ثم إنه قد استشكل الأستاذ الوالد المحقق - مد ظله - في صحة
التعليق في المنشأ (1):

1 - البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 1: 234.
171

تارة: من جهة أن الجمل التصورية، ليست قابلة للتعليق، ولو كان
التعليق مرتبطا بالمنشأ يلزم منه ذلك، لأن الهيئة الانشائية لا تتعلق إلا
بالجمل التصورية بالضرورة.
وفيه: أن مفاد الهيئة مع قطع النظر عن المادة تصوري، وهكذا في
عكسه، فالتعليق يرتبط بالمنشأ الذي هو في الجملة التصديقية،
ولا يجوز فرض خلو المادة من الهيئة التصديقية، ومقايستها إلى
الجملة التعليقية.
وأخرى: من جهة أن الفرق بين رجوع الشرط إلى الانشاء أو إلى
المنشأ، كالفرق بين الواجب المشروط والواجب المعلق، فيكون
الملك المنتقل في البيع مقيدا مثلا بيوم الجمعة، أو من يوم الجمعة
وليس هذا مملوكا، لأن مالك العين ليس مالك الأعيان بحسب قطعات
الزمان، وليست تتكثر ملكيتها لها، كما تتكثر في الإجارة بالضرورة.
فبالجملة: التعليق في المنشأ غير جائز، للزوم كون العين ملك
نفرين، أحدهما: البائع إلى يوم الجمعة، وثانيهما: المشتري من يوم
الجمعة.
وفيه: أن المناط في صحة هذه الأمور وبطلانها، ترتب الثمرة
العقلائية عليها وعدمه، فلا بأس بالالتزام بمثله، كما في الوقف الخاص
على المشهور، وفي الوقف المنقطع الآخر، فتدبر.
وليس مفاد البيع في جميع الأفراد التمليك، كما مر منه - دام ظله -
فلو باع أحد الحاكمين مال الفقير بالآخر على هذه الكيفية، يلزم منه
تقسيم السلطنة بحسب قطعات الزمان، وهي مما لا إشكال فيها، لما أشير
172

إليه آنفا.
بل لا يكون التمليك بالحمل الأولي في مفاده، حتى يلزم التقييد في
الملكية، فإن البائع ينشئ البيع المنجز الفعلي، والمملوك متأخر،
فالتعليق في المنشأ ليس من التعليق حقيقة.
فالحق إمكان الفرضين، إلا أن المتعارف هو المنجز، ولا يعهد من
بنائهم التعليق في شئ، إلا في بعض العقود والايقاعات، كالوصية
والنذر، وما يتوهم كثيرا من أنه تعليق في الانشاء أو المنشأ، غير تام، بل
هو من قبيل شرط التأخير في التسليم، أو إجارة الدار في السنوات
الآتية، كما لا يخفى.
ثم إنه تختلف الآثار باختلاف القيود الراجعة إلى الانشاء
والمنشأ، فلو كان الانشاء معلقا فله رده قبل حصول المعلق عليه، ولو كان
المنشأ معلقا فيحسب مدة خيار الحيوان من حين العقد، لا من ظرف
التنجيز وهكذا.
المسألة الرابعة: حول اعتبار التطابق بين الايجاب والقبول
من الشرائط المعتبرة التطابق بين الايجاب والقبول، وهذا
الشرط مما لا خلاف فيه، بل ليس في كثير من المتون منه أثر، لأنه
يرجع إلى القيد المقوم لماهية العقود والمعاملات، وقد عرفت: أن
معناه يرجع إلى كون القبول قبولا للإيجاب، لا قبولا مطلقا، ولا قبولا لبعض
الايجاب، لأنه ليس قبول ما أوجبه وأنشأه، كما لا يخفى، فعليه لا معنى
173

لجعله شرطا آخر غير الشرط المذكور، ضرورة أن المعاملة المتقومة
بالايجاب والقبول، ليس معناه مطلق القبول حتى يحتاج إلى بيان هذا
الشرط، والأمر سهل.
هل يعتبر التطابق في مجرد الذات، أو من جميع الجهات؟
بقي الكلام في أن صحة العقد، متوقفة على التطابق من جميع
الجهات بينهما، أو يكفي التطابق في ذات المعقود عليه، دون قيوده
وأوصافه وشرائطه، بل يكفي أحيانا التطابق في الذات في الجملة، لا
في جملة الأجزاء المعقود عليها.
ظاهر الشيخ الأعظم (رحمه الله) هو الأول (1)، وصريح السيد خلافه في
بعض ما ذكر (2)، وهو خيار الوالد الأستاذ - مد ظله - قائلا: إن المناط هو
الانحلال عرفا، فإن كان البيع منحلا حسب نظر العرف إلى البيوع
المستقلة - كما في العام الاستغراقي - فيكون الاختلاف في القبول
والايجاب غير مضر بالتطابق، وإلا فيبطل البيع. وما أشير إليه هو بعينه
جار في الشروط والقيود.
بل يمكن دعوى حصول التطابق مع الاختلاف بينهما، إذا كان المبيع
الموصوف جزئيا، لا كليا، فإنه لو باع الفرس العربي، وقبل الفرس غير
العربي، يبطل البيع، بخلاف ما لو قال: بعت هذا الفرس العربي وقال:

1 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 101 / السطر الأول.
2 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 92 / السطر 21 و 24 - 25.
174

قبلت هذا الفرس غير العربي فإنه لا يبطل، وله الخيار، نظير ما لو وقع
التطابق بينهما حتى في القيد والوصف (1).
أقول: لا يحصل التطابق إلا في مورد إذا قبل المشتري جميع ما أنشأه
البائع، ولم يسلم البائع إلا بعضا لا يثبت خيار تبعض الصفقة، وأما إذا قبل
الكل، وسلم البعض، وكان يثبت في نظر العرف ذلك الخيار، فهو ليس من
التطابق.
والسر فيه: هو أنه قد يكون بنظر العرف البيوع المجتمعة في اللفظ
- المعبر عنها بالجمع في التعبير والاختصار في اللفظ - متعددة، وقد
لا يكون البيع إلا منحلا بنظر العرف، لأعمية الغرض، ولكنه في مقام
الانشاء والإرادة لا يرى إلا أمرا واحدا، فإنه في الفرض الأول لو قبل
المشتري جميع ما باعه المالك صح البيع، ولزم وإن لم يسلم المجموع،
كما في بيع أثاث البيت في (سوق الحراج) وأما في مثل بيع العبيد، فليس
الأمر كذلك وإن كان الغرض أعم، ولذلك نجد له خيار تبعض الصفقة إذا
لم يسلم إلا عبدا أو عبدين، فلاحظ وتدبر جدا.
وأما في مسألة بيع الكلي والشخصي، فالانصاف أنه يكون
التحقيق على خلافه، ضرورة أن المشتري القابل لبيع الفرس المتصف
بضد الوصف المذكور في كلام البائع، ليس راضيا بما أنشأه البائع.
نعم، قد يكون الوصف المذكور في كلام المشتري، موجبا لنزول
قيمة المبيع، فإنه حينئذ يصح البيع، لأنه يرجع إلى أنه تعلق غرضه

1 - لاحظ البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 1: 236 - 237.
175

بذات الفرس وإن كان عجميا.
هذا وما ذكره الأصحاب في عدم ثبوت خيار تخلف الوصف إذا كان
المبيع كليا (1)، محل إشكال، بل قد منعناه في بعض تحريراتنا (2) لأن
القيود وإن أوجبت التباين بين العناوين، ولكنه أمر عقلي، وليس بعرفي،
ولذلك لو رضي بما سلمه البائع يصح البيع ويلزم، ولو كان الأمر كما ذكره
المحققون - من أنه في هذه الصورة لم يسلم المبيع رأسا - كان ذلك باطلا
إلا برجوعه إلى البيع الجديد، وهو كما ترى.

1 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 249 / السطر 12.
2 - لم نعثر عليه فيما بأيدينا من كتب المؤلف (قدس سره).
176

فروع
الفرع الأول: حول كفاية إشارة الأخرس
لا شبهة في أن عناوين العقود والايقاعات، قابلة لأن تتحقق بإشارة
الأخرس، وفيها بعض النصوص (1)، ولا وجه للاقتصار عليها بعد اقتضاء
القواعد ذلك.
ويظهر من متونهم أنها قائمة مقام اللفظ (2)، وهذا يوجب اتصاف عقده
باللزوم والجواز، وسائر الأحكام المخصوصة بالعقد اللفظي، ويورث
عدم كفاية إشارة غير الأخرس، وعليه يشكل الحكم في كتابته، وفي
إشارة الأخرس في برهة من الزمان، لاشكال في أعصاب عضلته ولسانه،
وفي إشارة ناذر السكوت مثلا.

1 - أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي، أنه سأل أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن الرجل
تكون عنده المرأة، يصمت ولا يتكلم، قال: أخرس هو؟ قلت: نعم، ويعلم منه
بغض لامرأته وكراهة لها، أيجوز أن يطلق عنه وليه؟ قال: لا، ولكن يكتب ويشهد
على ذلك، قلت: أصلحك الله، فإنه لا يكتب، ولا يسمع، كيف يطلقها؟ قال: بالذي
يعرف به من أفعاله مثل ما ذكرت من كراهته وبغضه لها.
الكافي 6: 128 / 1، الفقيه 3: 333 / 1613، وسائل الشيعة 22: 47، كتاب
الطلاق، أبواب مقدماته وشرائطه، الباب 19، الحديث 1.
2 - شرائع الاسلام 2: 7، جواهر الكلام 22: 251، المكاسب، الشيخ الأنصاري:
93 / السطر 25.
177

والذي هو الظاهر، صحة الاتكاء على جميع هذه المبرزات عند
إمساس الحاجة إليها.
نعم، مع فقد الغرض الباعث إليها، يعد عرفا من الهزل والمزاح،
ويشكل انعقاد العقدة والمعاوضة بها.
وفي كونها لازمة إشكال مضى سبيله، لما عرفت: من أن بناء العقلاء
قاصر بل قائم على خلافه في هذه الأمور، فتدبر جيدا.
الفرع الثاني: حول اعتبار وقوع العقد والايقاع بلغة المتعاملين
هل يجب على كل قوم العقد والايقاع بلسانهم، أو يجوز الاكتفاء
بلسان آخر؟ فيه وجهان:
من أنه أعلم بخصوصيات لسانه، فيشعر بما يقوله.
ومن أن الأعرفية ليست شرطا. نعم لا بد من أن يعلم ما يقوله.
والانصاف: أن الاحتياط في الأول، بل دعوى انصراف الأدلة إلى
المعاملات المتعارفة بين الأقوام والملل، غير بعيدة، فتأمل، فاعتبار
العربية (1) خلاف الاحتياط قطعا.
الفرع الثالث: حول كفاية الاستيجاب والايجاب
في كفاية الاستيجاب والايجاب وعدمها وجهان، بل قولان: ظاهر

1 - لاحظ المكاسب، الشيخ الأنصاري: 95 / السطر 32 - 34.
178

جماعة هو الثاني (1)، ومقتضى بعض النصوص (2) وطائفة هو الأول (3)،
وحمل تلك النصوص على تعقب القبول بالايجاب بلا دليل، ولزوم
الفورية بين الاستيجاب والايجاب ممنوع، فلا طعن في النصوص من تلك
الجهة أيضا.
وتوهم الشهرة في المسألة (4)، بل دعوى أنها كإرسال
المسلمات (5)، لا ينفع شيئا، لفساد الصغرى أولا، والكبرى ثانيا، ضرورة أن
هذه المسائل ليست مما ورد فيها النص، ولا من المسائل المتلقاة عن

1 - شرائع الاسلام 2: 7، جواهر الكلام 22: 252، المكاسب، الشيخ الأنصاري:
97 / السطر 1 و 6.
2 - محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: جاءت امرأة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت:
زوجني، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من لهذه؟ فقام رجل فقال: أنا يا رسول الله،
زوجنيها، فقال: ما تعطيها؟ فقال: ما لي شئ، قال: لا، فأعادت فأعاد رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الكلام، فلم يقم أحد غير الرجل، ثم أعادت فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المرة
الثالثة: أتحسن من القرآن شيئا؟ قال: نعم، قال: قد زوجتكها على ما تحسن من
القرآن فعلمها إياه.
الكافي 5: 380 / 5، تهذيب الأحكام 7: 354 / 1444، وسائل الشيعة 21:
242، كتاب النكاح، أبواب المهور، الباب 2، الحديث 1.
3 - المبسوط 4: 194، المهذب 1: 350.
4 - مسالك الأفهام 1: 133 / السطر 41، لاحظ مفتاح الكرامة 4: 161 / السطر 11،
المكاسب، الشيخ الأنصاري: 97 / السطر 9.
5 - لاحظ مفتاح الكرامة 4: 161 / السطر 11 - 12، المكاسب، الشيخ الأنصاري:
97 / السطر 9.
179

الأئمة المعصومين (عليهم السلام).
الفرع الرابع: في حكم تقارن الايجاب والقبول زمانا
لو أوقعا الايجاب والقبول في زمان واحد، فظاهر الأصحاب
القائلين بلزوم الموالاة فساد التجارة.
اللهم إلا أن يقال: بأن كلماتهم ناظرة إلى نفي الفصل الطويل، وهو
غير بعيد.
ولكن قضية بعض أدلة المسألة عدم صحة المقارنة أيضا، لأن
القبول في الماهية متقوم بالانشاء السابق، فكما لا يجوز تقدمه لا يجوز
تقارنه. ويأتي التفصيل المعروف بين كلمات القبول (1) هنا أيضا، كما
لا يخفى.
والتحقيق: أن المقارنة جائزة ولو كان التقديم غير جائز، ضرورة أن
الحاصل من الايجاب ليس إلا مورد القبول، فكما أن زمان الكسر
والانكسار واحد، والتأخر رتبي، كذلك زمانهما واحد، ولكن فعل المشتري
مرتبط بعمل البائع وفي حكم قبوله، فتأمل.
هذا، وعلى القول بكفاية مطلق الرضا تكون المسألة واضحة.

1 - تقدم في الصفحة 163 - 165.
180

الفرع الخامس: حول الفرق بين أمر الوكيل بالبيع يوم الجمعة وبين
نهيه عن البيع إلا يوم الجمعة
المحكي عن العلامة دعوى الاجماع على صحة أن يقول الموكل:
أنت وكيلي في أن تبيع عبدي يوم الجمعة وعلى عدم صحة قوله: أنت
وكيلي، ولا تبع عبدي إلا في يوم الجمعة (1).
والوجه في ذلك توهم رجوع الثاني إلى التعليق، فيعلم منه
بطلان العقود المعلقة وسائر الايقاعات بطريق أولى. بل الاجماعات على
بطلان الوكالة المعلقة كثيرة، مع أنها ليست من العقود الأصلية
المحتاجة إلى القبول زائدا على الرضا المظهر.
وأنت خبير بما في تلك الاجماعات، وبطلان الوكالة في الفرض
الثاني، مستند إلى أن النهي عن مورد الوكالة المطلقة، في حكم
رجوع الموكل عن توكيله، وإلا فلا موجب لقبول الوكيل وإطاعته
بالنسبة إلى نواهي الموكل.
مثلا: إذا قال الموكل: أنت وكيلي في كذا وقبله الوكيل، ثم قال:
لا تفعل الأمر الكذائي يوم الجمعة فإنه لا يؤثر في شئ إلا برجوعه

1 - تذكرة الفقهاء 2: 114 / السطر 25 - 28، والعبارة منقولة بالمعنى، كما صرح
بذلك المحقق المامقاني في غاية الآمال: 225.
ولاحظ كتاب المكاسب 3: 163 - 164 (المطبوع ضمن تراث الشيخ الأعظم)،
الهامش 5 - 7.
181

إلى رفض وكالته عند تخلفه، ومع عدم التخلف ليس هو من حدود
توكيله، حتى يلزم تقييده وتعليقه، فتأمل جدا.
الفرع السادس: في حكم المقبوض بالعقد الفاسد مع كشف رضا
أحدهما أو كليهما
إذا تبين بعد العقد اللفظي أو الفعلي فساده، فإن كان قبل القبض من
الطرفين في الفرض الأول، أو من طرف واحد فيهما، فلا يجب القبض
وفاء، لفساد المعاهدة، وأما بعد القبض فلا يجوز التصرف فيه، ويجب
الرد، لأنه ليس ما له، لعدم انتقاله إليه.
نعم، قد تقرر منا: أن بناء العرف والعقلاء في التجارات على
وصولهم إلى الأغراض والمقاصد التي عليها رحى الاعتبارات، ولا
يلتزمون بخصوصية العناوين ك‍ البيع والصلح وغيرهما (1)، فلو باع
أحدهما ما يحتاج إليه الآخر، والمشتري منه ما يحتاج إليه في معاشه
ومعاده، ثم تبين فساد المعاملة، فهما - بالقطع - راضيان بتصرف كل منهما
في مال الآخر على التقييد والاشتراط.
فما اشتهر من حرمة التصرف في المقبوض بالعقد الفاسد، يختص
ببعض الصور، مثل أجور الفواحش وأمثالها، مما يمكن أن لا يكون للزاني
رضا بتصرف الزانية فيها، لأنه أخذ منها ما احتاج إليه، ولا داعي إلى

1 - تقدم في الصفحة 147.
182

رضاه به بعد عدم وجوب شئ عليه مطلقا.
ومنها ما إذا كان الاختلاف بين قيمة المثل والمسمى فاحشا، فإنه
لو تصرف المشتري فيما ابتاعه، ثم تبين فساد العقد، وكان المسمى أكثر
من قيمة المثل، فإنه لا يرضى به، ويكون حينئذ البائع ضامنا، على
تفصيل يأتي (1).
فالمقصود من هذه الصور، بيان أن الرضا المعاملي المتعلق
بعناوين العقود، وإن لم يمكن أن يورث جواز التصرف في العوضين،
ولكن الرضا التقديري اللفظي كاف قطعا، ولا دليل على لزوم الأزيد من
ذلك، وقد مضى بعض الكلام فيه (2)، فراجع.
والاجماعات المحكية على حرمة التصرف (3)، منصرفة إلى غير
تلك الصور، وهكذا الروايات والمآثير الخاصة الدالة على ضمان
المتعاملين (4)، وقد مضى في مباحث المعاطاة: أن مبنى المشهور - وهو

1 - يأتي في الصفحة 211.
2 - تقدم في الصفحة 147.
3 - مفتاح الكرامة 4: 167 / السطر 26 - 30.
4 - كالنبوي المشهور: على اليد ما أخذت حتى تؤديه.
عوالي اللآلي 1: 224 / 106، مستدرك الوسائل 17: 88، كتاب الغصب، الباب 1،
الحديث 4.
وكرواية جميل بن دراج، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الرجل يشتري الجارية من
السوق فيولدها ثم يجئ مستحق الجارية، قال: يأخذ الجارية المستحق ويدفع إليه
المبتاع قيمة الولد ويرجع على من باعه بثمن الجارية وقيمة الولد التي أخذت منه.
وسائل الشيعة 21: 205، كتاب النكاح، أبواب نكاح العبيد والإماء، الباب 88،
الحديث 5.
183

القول بإفادتها الإباحة - على هذا الرضا التقديري المعلوم من حال
المتعاملين (1)، فلا حرمة تكليفية ولا ضمان إلا في بعض الصور
المشكوك رضاهما، أو المعلوم عدمه.
الفرع السابع: في ضمان المقبوض بالعقد الفاسد مع عدم كشف الرضا
لو تبين فساد العقد بعد القبض، ولم يمكن كشف رضاهما أو رضا
أحدهما، فالعين مضمونة، وعليه دعوى الاجماع (2)، وفي الجواهر:
بلا خلاف أجده فيه، بل الاجماع بقسميه عليه (3) ولا يجوز التصرف
فيه، لعدم الموجب له.
والمراد من الضمان عند المشهور، هو أن تلفه عليه كما في
الغصب، ففي السرائر: إن البيع الفاسد يجري عند المحصلين مجرى
الغصب في الضمان (4) وحكي عنه نسبته إلى أصحابنا (5).

1 - تقدم في الصفحة 147.
2 - الخلاف 3: 228.
3 - جواهر الكلام 22: 257.
4 - السرائر 2: 285.
5 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 101 / السطر 25.
184

ويشهد له ذهابهم إجماعا إلى وجوب الرد فورا (1)، كما يأتي (2)،
والتزامهم بأن خسارة الرد عليه (3) أيضا دليل على أنه كالمغصوب.

1 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 104 / السطر 11.
2 - يأتي في الصفحة 211.
3 - تذكرة الفقهاء 1: 495 / السطر 31، جامع المقاصد 4: 435، المكاسب، الشيخ
الأنصاري: 104 / السطر 11.
185

أدلة ضمان المقبوض بالعقد الفاسد
واستدل لهم بأمور:
الأمر الأول: حديث على اليد...
النبوي المشهور: على اليد ما أخذت حتى تؤديه (1).
والكلام فيه هنا يتم في مقامين:
المقام الأول: في سنده
فقد رواه سمرة بن جندب الذي هو أكذب البرية وأشقاهم. وانجبار
السند باستناد أرباب الكتب والفتوى، غير ثابت، لأنهم يذكرونه تأييدا
لرأيهم، ولا يعرف من قدماء الأصحاب استنادهم إليه. ولا يكفي استناد ابن
إدريس (2) ومن تأخر عنه للانجبار، مع أنه ذكر الحديث في موضع من
السرائر على وجه يورث فيه الوهن، فكأنه استناده إلى ما وراءه

1 - عوالي اللآلي 1: 224 / 106، مستدرك الوسائل 17: 88، كتاب الغصب،
الباب 1، الحديث 4.
2 - السرائر 2: 481.
186

ثبوتا، وإليه إثباتا. بل في مواضع من كتب السيد (1) والشيخ (2) ذكره لالزام
الخصم.
والاشتهار بين أبناء العامة (3)، مع أن مثله في سنده، ربما يوجب
الوثوق، إلا أن تلك الشهرة أيضا غير واضحة، فكونه أكذب البرية
يستلزم الوثوق بحديثه - لمكان شهرته وشهرة راويه - غير راجع إلى
محصل. وهكذا توهم نيل المتأخرين القرائن الخاصة.
فالحديث بعد اضطراب المتن - لما روى السيد في الانتصار: على
اليد ما جنت حتى تؤديه أو تؤدي (4) وروى ابن زهرة في الغنية: على
اليد ما قبضت (5) - في نهاية الاشكال، فلا وجه للاعتماد عليه بعد هذا، فتدبر.
المقام الثاني: في دلالته على أن تلفه عليه
وذلك لأن هذه الجملة ظاهرة في الحكم الوضعي، وهو الضمان،
ومعنى الضمان عرفا هو أن الخسارة على الضامن عند التلف، فعليه

1 - الإنتصار: 226.
2 - الخلاف 3: 408.
3 - مسند أحمد 5: 8، سنن ابن ماجة 2: 802، المجموع 14: 178، المغني، ابن
قدامة 5: 355.
4 - لم نعثر عليه في الطبعة الحديثة من الانتصار، لاحظ الانتصار، ضمن الجوامع
الفقهية: 192 / السطر 15.
5 - الغنية، ضمن الجوامع الفقهية: 537 / السطر 23.
187

بعد التلف أداء المثل والقيمة، لأنه أداؤه، فرجوع الضمير إلى
الموصول التالف، لأجل أن المؤدى هو التالف في الادعاء، أو في
الحكم. ولو كان الضمير محذوفا فلا دليل على أن المحذوف هو الضمير
وحده، بل ربما كان عنوان البدل أو الخسارة وغيرهما مما أضيف إلى
الضمير العائد، ولعله جئ به محذوفا لإفادة ذلك، فلا تغفل.
فالضمان وإن كانت حقيقته التعليق، إلا أنه بعد الاستيلاء ثابت
منجزا، وتكون النتيجة أن المستولي على المأخوذ ضامن حتى يجبر
الخسارة بالمثل أو القيمة.
أقول: لو سلمنا جميع هذه الأمور المشار إليها لاثبات مبنى
المشهور، لا يثبت ذلك، ضرورة أن مفهوم الضمان ليس من مداليل
الحديث حتى يؤخذ بالخصوصيات الملحوظة فيه، من التعليق وغيره،
وبداهة أن ظهوره البدوي هو رد شخص المأخوذ خصوصا، بعد إتيانه
بالضمير في كثير من النسخ القديمة، فصاحب اليد عليه تدارك
خسارات المأخوذ مع بقائه، فلو تلفت صفة فيه، أو جزء منه، بحيث
لا يضر بالاسم، أو نزلت قيمته السوقية - بحيث لا يعد بعد النزول هو
الذي أخذت، كما قد يتفق، فتأمل - فعليه تلك الخسارات وجبرانها.
فبالجملة: لا ملازمة بين نفي الحكم التكليفي وإثبات الضمان على
المشهور، بل لنا نفي ذاك وإثبات الأمر الآخر، فتدبر.
وقد يقال: بأن مفاد الحديث جعل المأخوذ على عهدة الأخذ (1)، فما

1 - لاحظ حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 99 / السطر 25 - 28، البيع، الإمام
الخميني (قدس سره) 1: 252.
188

دام هو باق فيرده، وإذا تلف فعليه المثل أو القيمة بحكم العقل، لأن ما هو
في عهدته أيضا هو المأخوذ.
وإن شئت قلت: للشئ وجود خارجي واعتباري، فإذا كان موجودا
خارجا فهو متحد مع وجوده الاعتباري، وإذا تلف فوجوده الاعتباري باق.
ولك أن تقول: ما هو في العهدة هو الشخص الخارجي، ولنا اعتبار
بقائه لترتيب الآثار المرغوبة فيه، من رد المثل والقيمة. بل لو تمكن
من خلقه بقدرة نفسانية، فلا بأس به.
وبذلك البيان يجمع بين رأي المشهور وظاهر الحديث، من غير
حاجة إلى تقدير الضمان ومن غير شبهة في رجوع الضمير إلى غير
المأخوذ. ونتيجته لزوم قيمة يوم الأداء، كما يأتي تفصيله (1).
أقول: لو سلمنا جميع هذه المقدمات، فلا نسلم الدليل على هذا
الاعتبار، فإن مجرد إمكان اعتبار البقاء للشخص التالف لا يكفي، وكون
ظهور على اليد... شاهدا عليه أول الكلام، بل ظاهره لزوم تدارك
الخسارات الواردة على المأخوذ مع بقائه، ولو تلف فهو خارج عن
مفاده.
وتوهم: أنه من أول الأمر تعلقت اليد بالأمر الاعتباري، أو بالماهية
مع قطع النظر عن وجوداتها الخارجية والاعتبارية والذهنية، أو مع

1 - لاحظ ما يأتي في الصفحة 246.
189

لحاظ إحداها مجملا، فاسد جدا، لعدم تمامية بعضها عقلا، وبعضها عرفا،
وبعضها استظهارا، فتأمل جيدا.
ولا أظن أحدا يتوهم خلاف ما ذكرناه، ولكنهم لمكان كونهم في موقف
ذكر السند للمشهور، وقعوا في حيص وبيص.
الأمر الثاني: النصوص الواردة في الأمة المسروقة المستولدة
فإنها ربما تكون ظاهرة في ضمان المقبوض بالعقد الفاسد، لأن
قضيتها ضمان المشتري للولد، ولزوم دفع قيمته، مع أنه لم يتلفه، فيعلم
ضمان الأصل لو تلفت في يده.
وتوهم: أن موردها من صغريات استيفاء المنفعة، لأن الولد في
الحيوانات يتبع الأمهات، ويعد من ثمراتها (1)، لا يفيد شيئا، ضرورة أن ذلك
فيما انعقدت النطفة غير حر، وهنا ليس كذلك، فيخرج عن التبعية، فليس
عمله استيفاء منفعتها، بل هو مانع تحققها، فلا تغفل.
وقد يقال: إن موردها من قبيل الاتلاف، لأن النطفة وإن كانت من
الرجل، إلا أنها تكمل بدم الأم، ويكون تكونها بالقوى المودعة في
الرحم، بل من المحتمل قويا كونه من نطفة الأم، وكان اللقاح من الأب (2).

1 - لاحظ المكاسب، الشيخ الأنصاري: 101 / السطر 29، حاشية المكاسب،
المحقق الإيرواني 1: 93 / السطر 14، البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 1: 257.
2 - حاشية المكاسب، المحقق الأصفهاني 1: 75 / السطر 19.
190

وفيه: - مضافا إلى أن ذلك غير موافق للتحقيق، وللمسألة مقام آخر -
أن إتلاف العلل المعدة، لا يورث ضمان الصور المترقبة منها، فلو أتلف
الحنطة المزروعة فهو ضامنها، لا الحاصل منها، فعليه أداء قيمتها، لا
قيمة الولد كما لا يخفى.
ثم إن في المسألة روايات خاصة (1) تحتاج إلى التدبر، لما فيها
من الاختلاف. ولو سلمنا دلالتها على ضمان المقبوض بالعقد الفاسد، فهي
أخص، ولا يمكن إلغاء الخصوصية حتى يعلم حكم المسألة على نعت
كلي، مع أن من المحتمل كون ضمان قيمة الولد، لأجل ضمان الخدمة
والحمل واللبن والدم وغيرها، وقد قدره الشرع بها فرارا من وقوعهما في
التشاح، فتدبر.

1 - محمد بن قيس، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قضى في وليدة باعها ابن سيدها وأبوه
غائب فاشتراها رجل فولدت منه غلاما، ثم قدم سيدها الأول فخاصم سيدها الأخير
فقال: هذه وليدتي باعها ابني بغير إذني، فقال: خذ وليدتك وابنها، فناشده المشتري،
فقال: خذ ابنه - يعني الذي باع الوليدة - حتى ينفذ لك ما باعك، فلما أخذ البيع الابن
قال أبوه: أرسل ابني فقال: لا أرسل ابنك حتى ترسل ابني، فلما رأى ذلك سيد
الوليدة الأول أجاز بيع ابنه.
جميل بن دراج، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الرجل يشتري الجارية من السوق فيولدها
ثم يجئ مستحق الجارية، قال: يأخذ الجارية المستحق ويدفع إليه المبتاع قيمة
الولد ويرجع على من باعه بثمن الجارية وقيمة الولد التي أخذت منه.
وسائل الشيعة 21: 203 و 205، كتاب النكاح، أبواب نكاح العبيد والإماء،
الباب 88، الحديث 1 و 5.
191

وقال الأستاذ الوالد - مد ظله -: نعم، إطلاق حسنة جميل، عن
أبي عبد الله (عليه السلام): في الرجل يشتري الجارية من السوق فيولدها، ثم
يجئ مستحق الجارية. قال: يأخذ الجارية المستحق، ويدفع إليه المبتاع
قيمة الولد، ويرجع إلى من باعه بثمن الجارية وقيمة الولد التي أخذت منه (1)
يقتضي الرجوع إلى الثمن ولو بعد تلفه بالتلف السماوي، لأن الرجوع
إليه ليس عرفا مختصا بوجوده كما لا يخفى، فدلت هي على المطلوب في
الجملة (2) انتهى.
وأنت خبير: بأن الثمن إذا كان من النقود، لا يعد نقله إلى الغير من
التلف، لأن تمام النظر إلى المالية، فما أفاده من التعليل دليل على أن
الدليل عليل.
هذا، ومن الممكن دعوى: أن هذه المسألة من صغريات على
اليد... وتكون دليلا على اعتبار هذه القاعدة، فتأمل.
ولك دعوى: أن مورد هذه المآثير من صغريات قاعدة نفي الضرر،
لأن المنع من الاستيفاء - بعد كون العلة المعدة قريبة من الثمرة - يعد
ضررا عرفا.
وفيها بعد تسلم الكبرى: كون صغراها ممنوعة، لأنها ليست من
العلل القريبة، بل هي كالحنطة المزروعة، فلا ينبغي الخلط.

1 - تهذيب الأحكام 7: 82 / 353، وسائل الشيعة 21: 205، كتاب النكاح، أبواب
نكاح العبيد والإماء، الباب 88، الحديث 5.
2 - البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 1: 259.
192

الأمر الثالث: قاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده
وهي قاعدة معروفة بين المتأخرين غير نقية السند، ولا خير في
إطالة البحث حولها، لعدم صحة المراجعة إليها عند الشك. وتمامية
مدركها في الجملة، لا توجب تماميتها على نحو القانون الكلي، ووجود
بعض التعابير في كتب الشيخ (1) وبعض مقاربي عصره (2)، لا ينفع شيئا.
ولكنه مع ذلك كله تشحيذا للأذهان، نشير إلى مفادها مع رعاية
الاختصار، وإلى ما يمكن أن يكون مدركا لها، وهي قولهم: كل عقد يضمن
بصحيحه يضمن بفاسده، وبالعكس (3)، وقولهم: ما يضمن بصحيحه يضمن
بفاسده، وبالعكس (4) وقولهم: كل ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده
وبالعكس (5).

1 - المبسوط 2: 150 و 204.
2 - السرائر 2: 285 و 326.
3 - رسائل المحقق الكركي 1: 189، المكاسب، الشيخ الأنصاري: 101 /
السطر 30.
4 - إيضاح الفوائد 4: 347.
5 - مجمع الفائدة والبرهان 9: 62 و 169، القواعد الفقهية، المحقق البجنوردي
2: 84.
193

بحث عن دلالة القاعدة ومفادها
أما مفادها، فهو أن كل فرد من أفراد العقود المالية وما يشبهها من
الايقاعات المالية - لعدم الخصوصية لعنوان العقد حتى يخرج مثل
الخلع والمباراة والجعالة، بناء على عدم كونها عقدا - إذا وقع صحيحا،
وكان فيه ضمان المتعاملين للمعقود عليه برده إلى طرفه بنفسه، أو
بمثله وقيمته، بحكم العرف، أو الشرع، لو وقع باطلا، وكان المعقود
عليه في قبضة مالكه التوهمي، فهو ضامنه برده، أو رد مثله وقيمته،
فالمال قبل القبض في الصحيح، مثله بعد القبض في الفاسد، وعليه
لا يلزم التفكيك، ولا توهم كونه عموما أنواعيا أو أصنافيا (1).
ودعوى: أن مفهوم الضمان ليس في الشرع أمرا تعليقيا، غير
مسموعة، وسيأتي حوله تفصيل البحث في ضمن الفروع الآتية.
وتوهم: أن المتعاقدين غير ضامنين بالنسبة إلى المعقود عليه في
العقد الصحيح، خصوصا في البيع، فإن المبيع إذا تلف فهو من مال بائعه،
فيلزم التفكيك في معنى الضمان في الجملتين، وتكون الجملة الأولى
توطئة لبيان الضمان في الثانية، غير تام، لأن مقتضى سببية العقد، انتقال
المعقود عليه إلى الطرف، وتسليم البائع والمشتري ليس إلا من باب
الوفاء بالعقد، ورد ملك الغير إلى صاحبه، فهو بعد العقد في يد غير

1 - حاشية المكاسب، المحقق الإيرواني 1: 93 / السطر 20، البيع، الإمام
الخميني (قدس سره) 1: 266.
194

المالك، وبحكم العقلاء يكون ضامنا برده، وعليه خسارته عند تلفه.
ولا حاجة إلى التوسل بقاعدة اليد، فيقال بانقلاب اليد
المالكية إلى اليد غير الأمانية، بعدما صح العقد الناقل.
ويتوجه إليه: أن الضمان هنا حينئذ يستند حقيقة إلى اليد، دون
العقد، وظاهر القاعدة سببية العقد الصحيح للضمان، وكون المبيع من
مال البائع بعد التلف، لا يضر بها، لأنه حكم تخصيصي، أو القاعدة تفيد
الحكم الذاتي غير المنافي لما هو المشهور في البيع، من انحلال العقد
بالتلف. مع أنه يمكن دعوى انحلال العقد قبل التلف، فيخرج عنها
تخصصا.
فبالجملة: الجملة الأولى موكول حكمها إلى نظر العرف والعقلاء،
والجملة الثانية مترتبة عليها شرعا أو عرفا أيضا.
إن قلت: وإن لم يلزم التفكيك من جهة الضمان، ولكنه يلزم من
جهة ظهور الباء في السببية فيهما، والالتزام بها في الجملة الثانية
غير ممكن، فلا بد من حملها على السببية الناقصة، فيكون العقد
- بضميمة قاعدة اليد في الصدر والذيل - موجبا للضمان (1).
قلت: سببية العقد الصحيح للضمان عقلائية، وسببية العقد
الفاسد تعبدية، حسبما يظهر من القاعدة، ضرورة أنها أسست لبيان
الحكم في الذيل، من غير النظر تشريعا إلى الصدر. ولو كان سبب
الضمان قاعدة اليد هنا أيضا، فهي سبب تام، لأن نسبته إلى العقد في

1 - منية الطالب 1: 120 / السطر 18.
195

غاية الضعف، خصوصا إلى العقد الفاسد، بل العقد الصحيح موجب
لتحقق موضوع القاعدة التي هي المورثة للضمان، كما لا يخفى.
فما هو التحقيق: أن العقد يوجب الضمان، لأن اليد النقلية ليست
موجبة للضمان، لأنها ليست كاليد الغاصبة، ضرورة أن العرف يحكم
بأنه يجوز له الامتناع عند الامتناع، وبأنه يجب عليه الوفاء بالعقد
بالتسليم وهكذا، فصرف كونه مال الغير بالعقد الصحيح، يورث
الضمان وإن لم يكن تحت استيلاء البائع مثلا، وفي الفاسد كذلك بتعبد من
الشرع، فلاحظ وتدبر جدا.
توهم إرادة العموم الأنواعي أو الإضافي دون الأفرادي ودفعه
إن قلت: لا بد من أن يكون العموم فيها أنواعيا، أو إضافيا، أو يكون
عنوان المدخول قابلا للصدق على أكثر من واحد، لأن المفروض في
الخارج صحيحا لا يعقل فساده، فلا بد من الفردين، وعليه لا بأس بالالتزام
بالأنواعية والإضافية وهكذا، دون الأفرادية (1).
قلت: كما لا يعقل ذلك لا يعقل أن يكون غير أفرادي، لأن الصحة
والفساد من لوازم الوجود الخارجي، دون العناوين، وقد تقرر ذلك في
محله، فعليه لا بد من حل المعضلة: بأن هذه القضية شرطية متصلة،
وليس الحكم فيها إلا فرضيا، ونتيجة ذلك هو أن كل ما فرض أنه عقد
موجب للضمان لأجل صحته، ففي فاسده الضمان.

1 - حاشية المكاسب، المحقق الإيرواني 1: 93 / السطر 20 - 28.
196

وبعبارة أخرى: هي قاعدة إخبارية، أو إنشائية، وعلى التقديرين
ناظرة إلى جهة الملازمة، من غير النظر إلى ذات المقدم والتالي،
حسب الوجود ونقيضه، فالمقدم في هذه القضايا فرضي، والقضية
الفرضية قابلة للانعقاد من كل شئ، فلا تغفل.
فعلى هذا، يثبت الضمان في البيع بلا ثمن، والإجارة بلا أجرة، لأنه
لو كانا واقعين صحيحين، وكان فيهما الضمان، كان في فاسدهما الضمان،
ولكنهما فاسدان، ففيهما الضمان، لأنهما صحيحين كان فيهما الضمان أيضا.
ثم إنه مع ذلك كله، لا يكون الحكم في المقدم ثابتا عند العرف
على نعت الكلية، ضرورة أنهم لا يلتزمون بضمان البائع والمشتري فيما
لو تلف المبيع والثمن بآفة سماوية، فكون العقد الصحيح علة الضمان
ممنوع.
اللهم إلا أن يقال بالتهاتر القهري، كما لا يبعد، فتدبر.
بحث في أدلة قاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده
ما يمكن أن يكون سندا لها بتمامها، أو مدركا لبعض مفادها، ومجموعا
يصح الاستناد إليه، حتى تكون القاعدة معتبرة، ولأجل الاختصار وتسهيل
الأمر جئ بها، وجوه:
الوجه الأول: قاعدة الاقدام
ومدركها بناء العقلاء، وعدم ردع الشرع المقدس، ومفادها هو أن
197

كل واحد من المتعاملين، دخل وأقدم على العقد المعاملي على أن يكون
مالهما مضمونا، من غير النظر إلى ما بعد القبض، أو ما قبله، بل نظرهم
فيها إلى عدم وقوع الأمر المجاني، فلو تمكن من تسليم المسمى أو المثل
والقيمة لو تلف فهو، ولو لم يتمكن من ذلك، فعليه رد العين ولو كان في يد
الآخرين، أو عليه ردها لو كان في يده، إذا لا يكون متمكنا من رد المسمى،
أو مثله وقيمته، أو عليه صرف النظر عنها لو كان قبل القبض، إذا لم
يتمكن من تسليم المسمى والعوض الواقعي، وهكذا.
وكونها أعم من المطلوب لا يضر بالمقصود، فما يظهر من الشيخ (1)
لا يخلو من غرابة.
وما يظهر من السيد إشكالا على سندها (2)، مدفوع بأن هذه المسائل
العقلائية - بعد عدم الردع عنها، وكانت بمرأى ومسمع من الشريعة
المقدسة - تكون معتبرة.
وما يظهر من القوم في بيان مفادها من المحتملات والوجوه، منشأه
القصور، وقد فصلناها في تعاليقنا على حاشية السيد (رحمه الله) (3) فراجع.
فما أفاده شيخ الطائفة في المبسوط (4) وتبعه بعض آخر (5)، في
محله.

1 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 102 / السطر 34.
2 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 94 / السطر 10.
3 - مما يؤسف له أن هذه التعليقات مفقودة.
4 - المبسوط 3: 58 و 65 و 68.
5 - لاحظ مسالك الأفهام 1: 185 / السطر 39.
198

نعم، في المسألة شبهتان:
أولاهما: قصور القاعدة عن شمول تلف العينين، وتوهم قصورها عن
شمول تلف العين الواحدة، ممنوع، لأن بناء المعاوضات على أن لا تكون
مجانية مطلقا.
وتندفع الشبهة بما سمعت منا في أصل القاعدة.
ثانيتهما: قصور دليل حجيتها لأن من شرائطها كون الأمر الممضى
بمرأى ومنظر ظاهر من الشرع، مثل العمل بالظواهر، والخبر الواحد،
فلو كان أمرا فرضيا أو غير رائج، فلا يكفي لكشف الرضا والامضاء، فليتدبر
جيدا.
الوجه الثاني: قاعدة على اليد...
وقد عرفت قصورها عن شمول حال التلف والاتلاف (1)، بل وقصور
سندها (2).
وأما الخدشة في دلالتها تارة: بامتناع شمولها الأعمال والمنافع (3).
وأخرى: بانصرافها.
وثالثة: بعدم صحة إطلاق الأخذ لغة وعرفا عليها.
فهي غير مسموعة، لأنه لو سلمنا ذلك كله فلك إلغاء الخصوصية،

1 - تقدم في الصفحة 186 - 187.
2 - تقدم في الصفحة 187 - 190.
3 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 103 / السطر 2.
199

ودعوى أن الموضوع أعم، فافهم.
الوجه الثالث: قاعدة الاحترام
وسندها بعض الروايات المذكورة في كتاب القصاص والحج، وقد
مضت الإشارة إليها. وقصور سند بعضها - مثل ما في وصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
لأبي ذر: يا أبا ذر، سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر، وأكل لحمه من معاصي
الله، وحرمة ماله كحرمة دمه... (1) - لا ينافي اعتبارها، لما ورد في صحيحة
زيد الشحام عن أبي عبد الله (عليه السلام): أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقف بمنى حتى
قضى مناسكها في حجة الوداع....
إلى أن قال: أي يوم أعظم حرمة؟
فقالوا: هذا اليوم.
فقال: فأي شهر أعظم حرمة؟
فقالوا: هذا الشهر.
قال (صلى الله عليه وآله وسلم): أي بلد أعظم حرمة؟
فقالوا: هذا البلد.
قال: فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم
هذا، في بلدكم هذا إلى يوم تلقونه، فيسألكم عن أعمالكم، ألا هل بلغت؟

1 - الأمالي، الطوسي: 537، وسائل الشيعة 29: 20، كتاب القصاص، أبواب
القصاص في النفس، الباب 3، الحديث 3، و 12: 280 و 297، كتاب الحج،
أبواب أحكام العشرة، الباب 152، الحديث 9، والباب 158، الحديث 3.
200

قالوا: نعم.
قال: اللهم اشهد، ألا من كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها،
فإنه لا يحل دم امرئ مسلم ولا ماله إلا بطيبة نفسه، ولا تظلموا أنفسكم... (1).
فإن ظاهر الفقرات الأولى حرمة الأموال وضعا وتكليفا، ولا يجوز
هتكها، وليس ما أتلفه هدرا، لأن المقصود من الحرام هي الحرمة.
نعم، ظاهر قوله: لا يحل في الذيل تكليف محض. ودعوى أن
الصدر قرينة على أعمية الذيل، غير بعيدة، بخلاف عكسه، فإنه بعيد
جدا.
نعم، ربما يشكل استفادة الوضع، لأجل أن الحرمة في الشهر
والبلد واليوم، ناظرة إلى التكليف.
وإن شئت قلت: إجمال المشبه به، وعدم إمكان الالتزام بإطلاقه،
يورث اختصاص الحكم في المشبه في القدر الثابت فيه، فعليه يتضح
ضعف سند القاعدة.
مع أنه لو فرضنا ذلك، والتزمنا بحرمة أموالهم وضعا، لا يكون نفي
ضمان القابض فيما تلف المقبوض في يده من غير إفراط وتعد، خلاف
الاحترام. بل قضية الاحترام عدم الضمان، لأن أخذ المثل والقيمة في
الصورة المذكورة خلاف الاحترام، كما لا يخفى.
بل مقتضى ذيلها حرمة الظلم، وهذا يعد منه عرفا، بخلاف ما لو

1 - الكافي 7: 273 / 12، الفقيه 4: 66 / 195، وسائل الشيعة 29: 10، كتاب
القصاص، أبواب القصاص في النفس، الباب 1، الحديث 3.
201

أتلف وأضر وتعدى وفرط، فلو فرضنا صحة ما أفاده المشهور في معنى
قاعدة على اليد... فهي تعارض هذه القاعدة، ولكنها مقدمة عليها كما هو
الواضح، وليست مقدمة على قاعدة حرمة الظلم، فتأمل.
ولك دعوى ورود قاعدة على اليد... عليهما، لأن المالك
الحقيقي إذا اعتبر ضمان القابض، ينتفي موضوعهما واقعا وحقيقة، فتدبر.
الوجه الرابع: قاعدة نفي الضرر والضرار
والمختار فيها أن المنفي هو الضرر، والمنهي هو الضرار،
ونتيجته عموم الحكم ولزوم التدارك فيما لو أوقع الضرر. بل مقتضى
الاطلاق لزوم تدارك الضرر في حومة الاسلام من بيت المال، وأما
وجوب تدارك المقبوض التالف من مال القابض، فهو ممنوع بهذه
القاعدة. وهي مقدمة على قاعدة على اليد... لنفي الجعل الضرري بها.
ودعوى: أن جعل الضمان ليس ضرريا، وبعده لا ضرر، لأنه يأخذ
مال نفسه من القابض، غير مسموعة، بداهة أن الحكم التكليفي تبع
الحكم الوضعي رتبة. وكون قاعدة نفي الضرر في رتبة الموضوع،
لا يستلزم كونها مقدمة على الحكم، لأن ما مع المتقدم ليس بمتقدم
بالضرورة. هذا مع عدم مساعدة العرف على مثل هذا التحكيم.
وتوهم: أن النسبة بين القاعدتين عموم مطلق، فلا حكومة لقاعدة
نفي الضرر، وإلا تلزم لغوية قاعدة على اليد... (1) في غير محله، كما

1 - البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 1: 285.
202

يظهر بأدنى تأمل.
ولنا في مسألة تقدم قاعدة نفي الضرر على القواعد العقلائية
الممضاة، مطلب آخر يطلب من رسالتنا الموضوعة فيها (1).
بحث: حول اختصاص بحث المقبوض بالعقد الفاسد بصورة جهل
المتعاملين حال العقد
لا يبعد أن يكون المقصود من عنوان البحث، المقبوض بالعقد
الفاسد الذي تبين فساده بعد العقد، ولو كانا عالمين أو كان أحدهما
عالما بالفساد، فلا يعقل ترشح الجد حتى يوجد العقد الفاسد، ولا تعد
نفس الصورة المتكلم بها من العقد عقدا.
نعم، غير المبالين بالديانة ينشئون عناوين العقود، ولا يرون
تصرفهم في المأخوذ بها من التصرف في مال الغير، ولكنه لغفلتهم عن
ذلك، وعدم ارتباطهم بالمسائل الدينية، ولذلك عند السؤال عنهم
لا يجيبون إلا بأن المأخوذ ملك الآخر، فعليه ربما تكون هذه الصور
خارجة من الجهة المبحوث عنها.
نعم، لا فرق بين الجاهل والعالم غير المعتني المؤدي ذلك إلى
تغافله عن القيود والشرائط، فإنه في هذه الصور يثبت الضمان أيضا.
وحكم الصور الخارجة من عنوان البحث، يأتي من ذي قبل إن شاء الله

1 - رسالة في قاعدة نفي الضرر التي كتبها (قدس سره) في بورسا مفقودة، لاحظ تحريرات في
الأصول 8: 286 وما بعدها.
203

تعالى.
والتمسك بقاعدة الغرور لاثبات ضمان العالم للجاهل (1)، في
غير محله، لأن مقتضاها رجوع المغرور إلى الغار، وصدق الغرور
ممنوع إلا في بعض الفروض، وإذا تحقق الغرور فلك دعوى سقوط حرمة
ماله الذي أخذه المغرور، فإنه سلطه عليه لأن يغره، فلا يكون الجاهل
ضامنا، فتأمل.
ومن الممكن دعوى: أن عنوان البحث أعم، ضرورة أن العقد كما
يستند بطلانه إلى فقد الشرط والجزء، كذلك يستند إلى فقد الجد، فإن
الإرادة من شرائطه المقومة في محيط العقلاء، ولو كان فقدها موجبا لعدم
اتصافه بالفساد، يلزم اشتراك سائر الشرائط العقلائية معها، لأنها عندهم
من المقومات، وليس عندهم شرط يسمى ب‍ شرط الصحة وعندئذ لا
فرق في هذه الشروط بين حالتي العلم والجهل، فينحصر البحث بالعقد
الفاقد لشرط الصحة، وهو الشرط الشرعي، فيعلم من ذلك: أن
المقصود هو المقبوض بعد العقد الفاسد بعنوانه، وإن كانا يعلمان
بلغويته، فليتدبر.
وإن شئت قلت: إن دليل قاعدة ما يضمن بصحيحه... هو الاقدام على
أن لا يكون المال مجانيا، وهو ملازم للتضمين عند العقلاء، وقضية ضمان
المتعاملين كون المال المقبوض غير المجاني مضمونا، سواء كان منشأه

1 - جواهر الكلام 37: 179 - 180، مسالك الأفهام 2: 213 / السطر 20، الروضة
البهية 1: 316 / السطر 7.
204

العقد الفاسد، أو أمرا آخر، إلا إذا كان بعنوان الأمانة، وتفصيل البحث
حول المستثنى يطلب من محال أخر.
التحقيق في قاعدة ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده
ثم إنه يعلم مما ذكرناه في أصل القاعدة، ما هو الحق في عكسها، فما
لا يضمن بصحيحه، ويكون التلف من صاحب المال، ولا غرامة على من
تلف عنده، لا يضمن بفاسده.
ولكن المهم البحث في سنده، والذي يظهر من شيخ الطائفة هي
الأولوية (1)، فإن الصحيح إذا لم يكن مؤثرا في الضمان، ولم تكن يدهما
مضمونة، فكيف بفاسده؟! وفيه ما لا يخفى.
وتوهم: أن قاعدة الاقدام دليل الأصل، وإذا لم يكن إقدام على
التضمين، فلا وجه للضمان بعد كون التسليط عن الرضا، في غير محله،
لأن مقتضى هذه القاعدة، الضمان في صحيح الإجارة والرهن وما
شابههما، لأن مناط نفي الضمان ليس مجرد التسليط المقرون بالرضا، بل
لا بد من قيد المجانية، كالهبة ونحوها، والقول بعدم الضمان في
الصحيح - للدليل الخاص - لا يستلزم نفيه في الفاسد، فعليه يشكل سند
هذه السالبة الكلية.
بل قضية على اليد... الضمان في هذه العقود، وما يمكن أن يكون

1 - المبسوط 2: 204.
205

دليلا على خروجها من عمومه، عموم ما دل على أن من لم يضمنه المالك
فهو غير ضامن، وأنت خبير بأن بناء العقلاء على أن ملاك نفي الضمان، ليس
نفي التضمين، لضرورة أنه في كثير من المواضع، يثبت الضمان من غير
تضمين.
نعم، يمكن دعوى: أن الروايات الواردة في الإجارة (1) والعارية (2)
والمضاربة (3)، تدل على العموم المذكور، لأن قوله (عليه السلام) في رواية غياث
بن إبراهيم، عن أبي عبد الله (عليه السلام): إن أمير المؤمنين (عليه السلام) أتي بصاحب حمام

1 - أبو البختري، عن جعفر، عن أبيه، عن علي (عليهم السلام) أنه كان لا يضمن صاحب الحمام،
وقال: إنما يأخذ الأجر على الدخول إلى الحمام.
إسحاق بن عمار، عن جعفر، عن أبيه أن عليا (عليه السلام) كان يقول: لا ضمان على صاحب
الحمام فيما ذهب من الثياب، لأنه إنما أخذ الجعل على الحمام، ولم يأخذ على
الثياب.
وسائل الشيعة 19: 139، كتاب الإجارة، الباب 28، الحديث 2 و 3.
2 - جميل، عن زرارة قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): العارية مضمونة؟
فقال: جميع ما استعرته فتوى فلا يلزمك تواه إلا الذهب والفضة، فإنهما يلزمان، إلا
أن تشترط عليه أنه متى توى لم يلزمك تواه.
إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله أو أبي إبراهيم (عليهما السلام) قال: العارية ليس على
مستعيرها ضمان إلا ما كان من ذهب وفضة فإنهما مضمونان اشترطا أو لم يشترطا.
وسائل الشيعة 19: 96 - 97، كتاب العارية، الباب 4، الحديث 2 و 4.
3 - محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن الرجل يستبضع المال فيهلك أو
يسرق، أعلى صاحبه ضمان؟ فقال: ليس عليه غرم بعد أن يكون الرجل أمينا.
وسائل الشيعة 19: 21، كتاب المضاربة، الباب 3، الحديث 3.
206

وضعت عنده الثياب فضاعت، فلم يضمنه، وقال: إنما هو أمين (1) وغيره في
غيرها (2)، في حكم التعليل المعمم.
وتقريب الاستدلال به، حتى يعلم منه عدم الضمان في جميع مفاد
هذه السالبة الكلية: هو أن المقصود هو أنه إنما هو أمينك، وأنت
استأمنته، لا أنه أمين في الواقع ونفس الأمر، فمن كان عندك أمينا فهو غير
ضامن، وهذا أمر يحصل في صحيحه وفاسده، لأن كونه أمينك ليس من آثار
العقد، بل إيقاع العقد كاشف عن اتخاذك إياه مأمونا.
وتوهم: أن العين المرهونة والمستأجرة لا تعد أمانة (3)، في محله،
إلا أن نفي الضمان من آثار الاقدام على العقد، المستلزم لتسليم العين،
وهذا لا يكون إلا بعد الاستئمان واتخاذه أمينا.
ودعوى: أن هذه الروايات ناظرة إلى مفاد الروايات المتضمنة
لنفي الضمان في صورة كون من تلف عنده عدلا وثقة (4)، حتى تندرج في
باب المرافعات، وتكون أجنبية عن هذه المسألة (5)، غير بعيدة، إلا أن
إمكان الالتزام بالأمرين - بعد اقتضاء الظهور ذلك - يمنع عن الحمل

1 - الكافي 5: 242 / 8، وسائل الشيعة 19: 139، كتاب الإجارة، الباب 28،
الحديث 1.
2 - قال الكليني في حديث آخر: إذا كان مسلما عدلا فليس عليه ضمان.
الكافي 5: 238 / 1، وسائل الشيعة 19: 79، كتاب الوديعة، الباب 4، الحديث 3.
3 - البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 1: 292.
4 - مثل ما ورد في وسائل الشيعة 19: 91، كتاب العارية، الباب 1، الحديث 2.
5 - البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 1: 294.
207

المزبور، فلا منع من الالتزام بأن الطائفة الثانية ناظرة إلى مقام
الاثبات، بخلاف الطائفة الأولى، فإنها نافية للضمان في صورة الاقدام على
تلك المعاملات الكاشفة عرفا عن استئمان طرفه.
منع دلالة الروايات السابقة على صحة العكس
هذا، ولكن الانصاف قصور هذه المآثير عن ذلك، لأنها - مضافا إلى
ظهورها في أنه أمين واقعا. ولا ينافيه قوله (عليه السلام) في رواية بكر بن حبيب
قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أعطيت جبة إلى القصار، فذهبت بزعمه.
قال: إن اتهمته فاستحلفه، وإن لم تتهمه فليس عليه شئ (1) فإنه
اتهام بعدما كان أمينا.
وبعبارة أخرى: الأمين من تثبت أمانته بالأمارات العقلائية، وبعد
ذلك فتارة: يحدث بعض القرائن على خلافها، وأخرى لا، وهذه الرواية
ناظرة إلى الجهة الثانية، كما لا يخفى - إن رواية أبي بصير الراوي عن
أبي عبد الله (عليه السلام) كالنص في أنه أمين واقعي، أي الثابت عند العقلاء،
لا الذي استأمنه صاحب المال وإن كان خائنا عند العقلاء، أو غير ثابتة
أمانته:
قال: في رجل استأجر حمالا، فيكسر الذي يحمل، أو يهريقه.
فقال: على نحو من العامل إن كان مأمونا فليس عليه شئ، وإن كان

1 - تهذيب الأحكام 7: 221 / 966، وسائل الشيعة 19: 146، كتاب الإجارة،
الباب 29، الحديث 16.
208

غير مأمون فهو ضامن (1).
فلو كان المراد من الأمين أمينك لما كان وجه للتفصيل
بالضرورة، فافهم وتدبر جيدا.
هذا تمام الكلام حول سند العكس، وحيث إنه غير تام فالأولى
العدول عن التعرض لما أوردوا نقضا عليه (2)، وعن بيان حاله وحدوده،
وحكم المسألة يعلم في المواضع الأخر، فراجع.
تنبيه: حول اختصاص عكس القاعدة بالعقود المعاوضية أو ما لا يقتضي
الضمان بذاته
يحتمل أن يكون مصب القاعدة العقود المعاوضية في العكس
أيضا، كي لا يلزم التفكيك، فلا تشمل مثل العارية، والهبة غير
المعوضة، وهكذا، بخلاف الإجارة والرهن، فإن المقصود من
المعاوضة في الأصل والعكس أعم.
ويحتمل أن يختص موردها بما إذا كان عدم الضمان من مقتضيات
العقد، ولو لم يكن في صحيح عقد ضمان - لعدم المقتضي - فهو خارج منها،
وعليه لا يلزم النقوض الموردة عليها، لأن الضمان فيها من تبعات
المقتضيات في الفاسد، فتأمل.

1 - تهذيب الأحكام 7: 218 / 951، وسائل الشيعة 19: 144، كتاب الإجارة،
الباب 29، الحديث 11.
2 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 103 / السطر 25 وما بعده.
209

ثم إن بناء الأصحاب على دفع النقوض في غير محله، نظير تعبيرهم
عن المخصصات ب‍ النقض (1) ضرورة أن هذه القاعدة الكلية أصلا
وعكسا - لو تمت - فسندها القواعد المشار إليها، فلا بأس بالالتزام
بالتخصيص فيها.
نعم، إذا كان المستند الاجماع فقد يشكل ذلك، للزوم الخلف. مع أنه
لا منع من كشف العموم القانوني بالاجماع والشهرة، القابل لذهاب
المجمعين في مواضع معينة إلى خلافه، كما لا يخفى.

1 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 103 / السطر 31، حاشية المكاسب، السيد
اليزدي 1: 94 و 95.
210

تنبيهات
الأول: حول وجوب رد المقبوض بالعقد الفاسد (1)
يجب رد المقبوض بالعقد الفاسد فيما إذا كان مضمونا إلى
صاحبه، لما سمعت: أنه يجري مجرى الغصب عند المحصلين (2)
وعليه دعوى الاتفاق (3).
ويستدل له بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): فإنه لا يحل دم امرئ مسلم ولا ماله إلا
بطيبة نفسه (4).
وقوله (عليه السلام): لا يجوز لأحد أن يتصرف في مال غيره إلا بإذنه (5).
وتوهم: أن الامساك ليس من التصرف (6) لو تم، فإلغاء الخصوصية
وشهادة المناسبة بين الحكم والموضوع على الأعمية يكفي. مع أن
نفي الحلية الملازم عرفا للممنوعية الأعم من التكليف، يشمل مسألتنا.

1 لم يتعرض المصنف (قدس سره) لسائر التنبيهات بعنوان التنبيه، بل سردها تحت الفروع
الآتية، فتنبه.
2 - تقدم في الصفحة 184.
3 - السرائر 2: 285، المكاسب، الشيخ الأنصاري: 104 / السطر 11.
4 - الكافي 7: 273 / 12، وسائل الشيعة 29: 10، كتاب القصاص، أبواب القصاص
في النفس، الباب 1، الحديث 3.
5 - كمال الدين: 520 / 49، وسائل الشيعة 9: 540، كتاب الخمس، أبواب الأنفال،
الباب 3، الحديث 7.
6 - لاحظ المكاسب، الشيخ الأنصاري: 104 / السطر 13.
211

ولو قيل: بأن حرمة الامساك لا تستلزم وجوب الرد، لما تقرر في
بحث الضد، بل الرد ضد ثالث، لأن التخلية من أضداد الامساك (1).
قلنا: نعم، إلا أن هذه المسألة ليست مرتبطة بذاك، لأن المطلوب
يتم بفهم العرف والعقلاء من وجوب الرد وعليه حرمة الامساك،
ولأجله استدل (صلى الله عليه وآله وسلم) في ذيل صحيحة زيد الشحام - بعد قوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
ألا من كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها - بقوله: فإنه
لا يحل... ولو كان مبنى المسألة ما أشير إليه تعود الشبهة إلى
الرواية، كما لا يخفى.
أقول: لا شبهة في حكم المسألة إذا كانت ماهية الرد أعم من
التخلية والايصال، ولو كانت أخص فوجوبه ممنوع، لأن اقتضاء
المناسبة بين الحكم والموضوع ذلك، غير تام عرفا، لأجنبية التصرف
عن ذلك، خصوصا بعد عدم مساعدة فهم العقلاء على إلزام الشرع
القابض بالرد، ولا سيما في صورة الجهل، وخصوصا مع علم الدافع.
وصحيحة زيد الشحام لا تدل على وجوب الرد، لأن الأمر
بالتأدية فيها ليس على إطلاقه، لأنه يجب التأدية إذا طلبه المؤتمن،
وأما قبله فلا، فعليه يعلم: أن الرواية في مقام الزجر عن الخيانة
بالأمانة، وأما أنه إذا طلبه فيجب عليه رده، فلا ينافي عدم وجوب الرد
قبله المقصود في المقام، فتأمل تأملا تاما.
وإن شئت قلت: إن هاهنا مسألتين:

1 - حاشية المكاسب، المحقق الخراساني: 33.
212

إحداهما: مسألة وجوب الرد فورا إلى المالك.
ثانيتهما: مسألة وجوبه إذا طلبه.
والحكم في المسألة الأولى عدم الوجوب، لأن نفي الحلية
لا يورث هذا الوجوب عرفا، ولا عقلا. وكون المال ممنوعا، يستلزم
ممنوعية جميع ما يضاف إليه، دون ما هو أجنبي عنه. ولو كان الامساك
محرما بهذه الرواية، يلزم ما لا يلتزم به أحد، وهو وجوب رد المال
المطروح في الدار إذا عرف صاحبه، وهكذا.
نعم، يجب الاطلاع لئلا يلزم ضياع المقبوض، وكي لا يقع في
الخسارة، بناء على حرمة الاضرار في المقام، وضمان القابض للمنافع
غير المستوفاة.
وأما حكم المسألة الثانية فيطلب من محاله، إلا أن هذه الرواية
قاصرة عن إثبات الوجوب فيما عدا الوديعة، كما هو الظاهر.
حول التفصيل في الوجوب بين العقود المعاوضية والإذنية
ثم إنه قد يتوهم التفصيل بين العقود المعاوضية - ومنها الهبة -
والإذنية، فإن الرضا والإذن في الأولى لا يتعلق إلا بعناوين المعاملة،
ولا يسري إلى موردها، بل لا يعقل ذلك، وفي الثانية يكون الإذن في
التصرف من لوازم تلك العناوين، وإذا كانت هي باطلة فهو باق، لأنه أمر
تكويني حاصل، ولا يطرؤه البطلان، ولا يتصف به (1).

1 - لاحظ البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 1: 312.
213

وأنت قد عرفت منا تفصيل المسألة في العقود المعاوضية، وأن
كثيرا منها لا ضمان فيه ولا حرمة (1).
نعم، في مواقف الضمان والحرمة لا يفرق بين الطائفتين، لأنه
لا يتعلق الإذن إلا بعنوان الوكالة ولا تنشأ إلا ماهية العارية ولو
بالكناية، ومن الكنايات الأمر بالتصرف فيه بيعا، والإذن في إجارة
الأموال، فإنه عند العقلاء كناية عن الوكالة، فإذا كانت باطلة فلا إذن
منه.
فما أوضحناه هناك يجري في العقود الإذنية، لأن بناء العقلاء
وأغراضهم على إدارة معاشهم والوصول إلى غايات أفعالهم، فإذا أذن في
البيع فهو لا يريد إلا مصلحة، فلو كان نفس الإذن الضمني التقديري كافيا
فلا بأس.
ومما يشهد على كفايته: الاستثناء الوارد في كلام المبدأ والمنتهى
من المعصومين - صلوات الله تعالى عليهم أجمعين - فإن قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): إلا
بطيبة نفسه (2) وقوله - عجل الله تعالى فرجه -: إلا بإذنه (3) شاهد على
أن المدار على الإذن، من غير لزوم اتصافه بأحد العناوين المتعارفة،
صحيحة كانت، أو فاسدة.

1 - تقدم في الصفحة 78 - 79.
2 - تقدم في الصفحة 68.
3 - تقدم في الصفحة 69.
214

وبناء على ما قويناه من قصور الأدلة عن إيجاب الرد (1) - وهو
الظاهر من بناء العقلاء - يسقط البحث عن مسألة المؤونة، فإنها على
الدافع قطعا.
نعم، ربما يجب الرد في بعض الصور، كما إذا أراد العالم بالفساد
تغرير الطرف، فإنه في نظر العرف غاصب، وعليه حينئذ المؤونة ولو
كانت السلعة في البلد الآخر، فافهم وتدبر.
الفرع الثامن: في ضمان المنافع المستوفاة بالعقد الفاسد
إذا استوفى المتعاملان منافع المقبوض فاسدا قبل التخلية والرد،
فظاهر ما تقدم من السرائر (2) ضمانها، لكونها مغصوبة، ولا خلاف فيه إلا
عن ابن حمزة في الوسيلة (3).
ويدل عليه - مضافا إلى حكم العقلاء، وقاعدة الاتلاف، بل
وعلى اليد... على بعض التقاريب، ومثله قوله: لا يحل... -
بعض النصوص الخاصة الواردة فيمن اشترى جارية ببيع فاسد فوطأها،
فإنه مضافا إلى أنه يجب عليه الرد، يجب عليه عشر قيمتها إذا كانت
بكرا، ونصف عشر قيمتها إن كانت ثيبا (4)، والواردة فيمن طلق قبل

1 - تقدم في الصفحة 212.
2 - تقدم في الصفحة 184.
3 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 104 / السطر 19، الوسيلة: 249 و 255.
4 - قال الكليني في رواية أخرى: إن كانت بكرا فعشر ثمنها، وإن لم تكن بكرا
فنصف عشر ثمنها.
الكافي 5: 214 / 3، وسائل الشيعة 18: 106، كتاب التجارة، أبواب أحكام
العيوب، الباب 5، الحديث 4.
215

الدخول (1)، بناء على شمول عنوان المسألة لمثل ذلك، والواردة في
الأمة المسروقة التي مضى البحث حولها (2).
وتوهم: أن هذه الروايات لا تدل على فتوى المشهور، غير تام، لأن
الجهة المبحوث عنها أعم من كون الفساد من قبل فقد مالكية
المتعاملين، أو غيرها.
كما أن كلام ابن حمزة ناظر إلى نفي الضمان مطلقا، سواء كان جعل
خراج المقبوض للطرف بإزاء ضمانه بالثمن للجاعل، أو لغيره كما
لا يخفى، ولذلك قال (رحمه الله): بنفي الضمان على الاطلاق، محتجا بأن الخراج
بالضمان (3) أي غلة المبيع مثلا للمشتري، لأجل أنه في ضمانه، ومنافع
المقبوض والمضمون للضامن، فإن من عليه الغرم فله الغنم من غير

1 - عن الحلبي عن أبي عبد لله (عليه السلام) في الرجل يطلق امرأته قبل أن يدخل بها، قال (عليه السلام):
عليه نصف المهر إن كان فرض لها شيئا، وإن لم يكن فرض لها شيئا فليمتعها على
نحو ما يمتع به مثلها من النساء.
الكافي 6: 106 / 3، وسائل الشيعة 21: 307، كتاب النكاح، أبواب المهور،
الباب 48، الحديث 7 و 8 و: 313 - 314، الباب 51، الحديث 1 و 2 و 3.
2 - تقدم في الصفحة 191 - 192.
3 - عوالي اللآلي 1: 219 / 89، سنن النسائي 7: 256، مسند أحمد 6: 49، سنن
ابن ماجة 2: 754 / 2243.
216

فرق بين العقود الصحيحة الجائزة أو ذات الخيار، أو الفاسدة
المضمونة، وقضية الجمع بين الأدلة ضمان غلة المقبوض فاسدا،
لأخصية النصوص من المرسلة المعروفة قديما وحديثا.
هذا مع أن انجبار المرسلة غير معلوم، ومفادها غير واضح، ولعلها
ظاهرة في أن الخراج ليس مضمونا إلا بالتضمين، فتكون الغلات غير
مضمونة طبعا، لعدم مساعدة العرف على ضمان العين وأثرها، نعم لا منع
من شرط الضمان.
وبالجملة: فقضية دليل الاتلاف ضمان تلك المنافع، أو لزوم تدارك ما
استوفى من العين وانتفع بها، من غير اعتبار للمنافع ذاتا، ولا ضمانا،
فلا يمكن الخروج من بناء العقلاء بإطلاق رواية، ولا سيما إذا كانت مثلها،
كما لا يخفى.
بل قضية ما أفدناه في معنى المرسلة (1) - من عدم اختصاصها
بالمقبوض فاسدا، بل هي في مقام جعل الخراج لضامن العين في كل مقام
ثبت ضمانه بدليل عام أو خاص - كون قاعدة نفي الضرر حاكمة عليها. إلا
أن يقال: بأنها مبنية على الضرر، فتأمل.
الفرع التاسع: في ضمان المنافع غير المستوفاة
المشهور في المنافع غير المستوفاة الضمان (2)، وقيل

1 - تقدم في الصفحة 153.
2 - السرائر 2: 285، المكاسب، الشيخ الأنصاري: 104 / السطر 31.
217

بعدمه (1)، واختار جماعة التفصيل بين علم الدافع وجهله (2).
والأستاذ الوالد قال بعدم ضمان العالم، إذا كان طرفه الجاهل
المبالي بالديانة الذي لو يتوجه لا يقدم على العقد الفاسد (3)، وقد
استفاد العالم من جهله، فالتفصيل الأول بلا وجه، لاستواء حاله في
صورتي العلم والجهل بالنسبة إلى الاقدام على العقد.
وقيل بالضمان إلا في عمل الحر، فلو استأجره واستوفى منافعه، فهو
ضامنها إذا تبين فساد العقد، بخلاف ما لم يستوف (4)، لأنه لا يعد ما فوته
عليه مالا، ولا نفسه مأخوذة.
ودعوى: أن الفرض الأخير خارج من عنوان البحث، مسموعة لأن
ملاكه أعم، ضرورة شمول الجهة المبحوث عنها لما لو امتنع المشتري
من القبض، ثم بعد مضي مدة تبين فساد العقد، فإن قاعدة الاتلاف - بملاك
واحد - تجري قبل القبض وبعده.
والذي يظهر ما هو الأشهر، لما تقرر عندي من أن قاعدة اليد لا تفيد
إلا ضمان الخسارة المتوجهة إلى العين، دون نفسها، فإن موضوع الأخذ
هي العين، واعتبار الضمان بلحاظ ما يتوجه إليها من الاخلال بوصفها، أو
كونها دارة على ذي اليد بالاستيفاء، أو كانت ممنوعة عن الدر على

1 - إيضاح الفوائد 2: 167، المكاسب، الشيخ الأنصاري: 105 / السطر 9.
2 - لاحظ مسالك الأفهام 1: 134 / السطر 6، المكاسب، الشيخ الأنصاري: 104 /
السطر 9.
3 - البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 1: 323.
4 - الغصب، المحقق الرشتي: 19 / السطر 23 و: 112 / السطر 2.
218

صاحبها، فإنه في جميع الصور هو ضامن، وعليه التدارك، فتأمل.
وهذا هو حكم العقلاء، ولا رادع عنه، وتوهم أن مرسلة العوالي
المشهورة في كتب العامة وصحاحهم: الخراج بالضمان (1) تكفي للردع،
للأولوية القطعية فيما نحن فيه، فاسد، بل اشتهاره عندهم، وعدم نقلها في
مجامعنا، يشهد على فسادها، فافهم.
وقضية حكم العقلاء أعم من العين، والحر قبل القبض وبعده،
ولعل منشأ حكمهم أنهم يرون فوات ماله، وعمله، وتضرره، وعدم البلوغ
إلى مقصوده، وغير ذلك من ذي اليد والمستأجر، من غير النظر إلى
صحة العقد وفساده.
وأما قاعدة الاتلاف، والاحترام، ونفي الضرر، وبعض الروايات،
فهي لا تفي - على فرض تماميتها - بتمام المقصود، كما لا يخفى.
بل قاعدة اليد أيضا غير وافية بما قبل القبض، بل وبعمل الحر إلا
في بعض الأحيان. مع ضعف سندها على ما عرفت تفصيله (2).
فبالجملة: قصور هذه القواعد عن التضمين في هذه الصورة،
لا ينافي الضمان، لأنه حكم العقلاء غير المردوع.
بل يمكن دعوى: أن نفس التسليط غير المجاني، من موجبات
الضمان، وهذا هو مفاد قاعدة الاقدام التي عرفت تماميتها عندنا للضمان

1 - تقدم في الصفحة 149.
2 - تقدم في الصفحة 186 - 187.
219

في المقبوض فاسدا مطلقا (1).
ثم إن المقصود من منافع العين وما يمكن استيفاؤه ما كانت العين
معدة له ومتعارفا فيها ولا يجوز أن يرجع صاحب العين إلى ذي اليد
بتقدير المنافع، أو اتفاق استئجارها بأجرة غير متعارفة، ولذلك لا يبعد
القول بعدم ضمان منافع الدابة المغصوبة المقدرة فيما لم تكن إلا
للاستعمال في الحرب والدفاع، فتأمل جيدا.
الفرع العاشر: في ضمان المثلي والقيمي
إذا استقر الضمان، فهل يجب على الضامن إفراغ ذمته بوجه
مخصوص، فيلزم المماثلة بين الفائت والمدفوع، أو دفع القيمة فيما
كان من القيميات؟
أو يتعين عليه المثل مطلقا، إلا إذا قام الدليل على خلافه من
إجماع أو غيره من القواعد، أو العكس؟
أو لا يجب عليه خصوصية زائدة على أصل الافراغ؟
أو يكون المالك بالخيار فيتبع رأيه؟
أو المسألة تختلف حسب الأمصار والأعصار، وباختلاف
المتعارف، أو حسب الأفراد والأشخاص، وباختلاف الأغراض، فلو تلف
المثلي من التاجر يتعين القيمة، والقيمي من الراغب إلى العين يتعين

1 - تقدم في الصفحة 204.
220

المثل، أو غير ذلك؟
وجوه وأقوال.
والذي هو التحقيق بعدما كان المراد من القيمة هي النقد
الرائج، لا المالية السارية: تخيير الضامن، ولا أساس لما اشتهر من
تعيين المثل في أجناس، والقيمة في أخرى، ولا لما قيل من اعتبار المثل
أو العكس، وهكذا سائر المحتملات، لأن مبنى الضمانات على
المرتكزات العرفية بعد إمضاء الشرع إياها، من غير بيان طريق خاص
فيها، ومقتضاها ما اخترناه بلا ريب، ضرورة أن الأنظار الشخصية
والأغراض الخاصة، ليست معتبرة.
نعم، لو اتفق تلف العين المرغوب فيها في قرية وهي ليست فيها،
فإنه ربما يتعين عند العقلاء رد المثل حتى في القيميات، ولكنه غير تام.
نعم، لا بد من تدارك الخسارة من جهة الحمل إليها أيضا، لأنها
تزداد قيمتها السوقية، أو تحتاج إلى مؤونة زائدة على أصل القيمة،
وهي على الضامن، وسيأتي بعض الكلام فيه إن شاء الله تعالى.
ثم إن المآثير المتشتتة في الأبواب المتفرقة (1)، تشهد على أن

1 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسن قال: كتبت إلى أبي محمد (عليه السلام) رجل دفع إلى
رجل وديعة فوضعها في منزل جاره فضاعت هل يجب عليه إذا خالف أمره
وأخرجها عن ملكه؟ فوقع (عليه السلام): هو ضامن لها إن شاء الله.
وسائل الشيعة 19: 81، كتاب الوديعة، الباب 5، الحديث 1.
عبد الله بن سنان قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): لا تضمن العارية إلا أن يكون قد
اشترط فيها ضمان، إلا الدنانير فإنها مضمونة وإن لم يشترط فيها ضمانا.
وسائل الشيعة 19: 96، كتاب العارية، الباب 3، الحديث 1.
إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله أو أبي إبراهيم (عليهما السلام) قال: العارية ليس على
مستعيرها ضمان، إلا ما كان من ذهب أو فضة فإنهما مضمونان اشترطا أو لم يشترطا.
وسائل الشيعة 19: 97، كتاب العارية، الباب 3، الحديث 4.
علي بن جعفر، عن أخيه أبي الحسن (عليه السلام) قال: سألته عن رجل استأجر دابة
فأعطاها غيره فنفقت، ما عليه؟ قال: إن كان شرط أن لا يركبها غيره فهو ضامن
لها، وإن لم يسم فليس عليه شئ.
وسائل الشيعة 19: 118، كتاب الإجارة، الباب 16، الحديث 1،
عمرو بن خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه (عليهم السلام) أنه أتي بحمال كانت عليه
قارورة عظيمة فيها دهن فكسرها فضمنها إياه، وكان يقول: كل عامل مشترك إذا
أفسد فهو ضامن، فسألته ما المشترك؟
فقال: الذي يعمل لي ولك ولذا.
وسائل الشيعة 19: 152، كتاب الإجارة، الباب 30، الحديث 13.
221

المتلف والمتعدي وذا اليد، ضامن من غير زيادة، وفي طائفة منها ما
يتضمن القيمة زائدا على أصل الضمان (1)، ولكنها لا تدل على حصر
الافراغ بها، ومقتضى الجمع بين النقل والعقل خيار الضامن، وما ذهب
إليه المشهور ضعيف جدا، لعدم مساعدة العقلاء عليه، ولعدم العثور
على نص في المسألة. وتوهم وجود النص غير الواصل في خصوص
المسألة، بعيد غايته.
نعم، ربما يخطر بالبال دعوى أصالة المثلية، لأن مدار الوحدة

1 - كصحيحة أبي ولاد، الآتية في الصفحة 249.
222

والتعدد في الأشياء في هذه المراحل على العرف، وهو تابع الرغبات
والخواص والآثار المطلوبة فيها، فلو اتفق مماثلة شئ لشئ في تلك
الأمور التي هي منشأ ماليتها، فهو عين التالف، لأن الغيرية جاءت من
قبل ما لا نظر لهم فيه.
ونظير ذلك المالية في الأعراض والنقود، فإن مبنى الوحدة
والتعدد فيها على ما أشرنا إليه، دون التعدد الشخصي كما لا يخفى،
فعليه يتعين المثل، إلا إذا قام الدليل على التخيير أو تعين القيمة.
فرع: في حكم الشك في أن التالف قيمي أو مثلي
إذا شك في أن التالف قيمي أو مثلي، فعلى المختار فالمسألة
واضحة، وعلى الاحتمال الأخير وغيره فالمرجع عندي هي البراءة، لأنه
يعلم إجمالا إما بكون العين في ذمته، فيكون وجوب المثل والقيمة
عقليا، أو المثل أو القيمة فيكون وجوبهما شرعيا.
وكل واحد منهما، كما يحتمل كونه واجبا تخييريا، يحتمل كونه
واجبا تعيينيا، وحيث إن المقرر عندنا جريان الأصول في جميع الأطراف
وسقوطها، إلا إذا لم يلزم منه المخالفة العملية مع العلم، فلو أدى
المثل مثلا إلى المالك بالتمليك، فأثر العلم وإن كان باقيا، إلا أنه
بالاقتضاء، لا العلية، فتجري أصالة البراءة في الطرف الآخر، لعدم
استلزامها المخالفة مع العلم.
ولعل وجه مختار المشهور في الأموال - من عدم لزوم الاحتياط،
223

وعدم تنجيز العلم الاجمالي - ذلك (1). وفي المسألة (إن قلت قلتات)
تطلب من محالها (2).
لا يقال: هذه المسألة من صغريات دوران الأمر بين التعيين
والتخيير من جانبين (3)، فيمكن إجراء البراءة من تلك الجهة أيضا، بناء
على ما هو مختار جمع فيها (4).
لأنا نقول: إدراجها في تلك المسألة، مبني على القول بوجوب
المحصلات العقلية شرعا، وإلا فلا علم بوجوب أحدهما على تقدير تعلق
العين في الذمة إلا عقلا، وحيث إن المبنى باطل فلا يتم البناء، فتدبر.
إن قلت: يمكن الاحتياط في مقام الأداء حتى على القول بعلية العلم
الاجمالي للتنجيز من غير لزوم المحذور (5)، لأنه إذا سلم المثل والقيمة
من غير تمليك إلا لما هو حق المالك، فيلزم تزاحم الحقوق، لما عنده ملك
الضامن، ولكنه مجهول، فيرجع إلى القرعة، وهي في هذه المواقف
معمول بها، ولا نحتاج إلى عمل الأصحاب.
قلت: يلزم المحذور فيما كان التالف مرددا بين المثلي والقيمي،
وكان المالك مرددا بين جماعة، فإنه في هذه الصورة يلزم الضرر،
فلا يمكن الاحتياط من الجانبين.

1 - لاحظ العروة الوثقى 2: 381، كتاب الخمس، المسألة 30، الهامش.
2 - ثلاث رسائل، دروس الأعلام ونقدها: 67 - 71 و 83 - 85.
3 - لاحظ حاشية المكاسب، المحقق الأصفهاني 1: 89 / السطر 7.
4 - لاحظ تحريرات في الأصول 8: 245 وما بعدها.
5 - لاحظ حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 97 / السطر. 19 - 20.
224

تنبيه: في حكم ما لو استلزم أداء المثل ضررا
بناء على كون الضامن مخيرا، يسقط كثير من المباحث الآتية، إلا إذا
فرضنا تعذر المثل والقيمة، ولكنه مجرد فرض في عصرنا. وبعد قوة
احتمال أصالة المثلية، فلا بأس بالإشارة إلى بعض المسائل:
فمما وقع فيه كلام الأعلام - قدست أسرارهم -: أنه في صورة
استلزام الأداء بالمثل ضررا، هل يجب ذلك، أو لا يجب، أو يفصل؟
والذي هو الظاهر من الشيخ الأعظم هو الأول (1)، واختار
جماعة التفصيل بين ما كان الضرر لأجل الزيادة السوقية فيجب،
وما كان لأجل ابتلائه بالممتنع عن البيع فلا يجب، لقاعدة نفي
الضرر (2).
ومن المحتمل قويا عدم الوجوب مطلقا، لأن الأداء ليس من طبعه
الضرر حتى لا يشمله عموم القاعدة، ولو كان من طبعه ذلك فهي في
الاختلافات اليسيرة غير جارية، ولكنها تنفي الضرر إذا يوجد المثل
بالأضعاف الكثيرة ولو كانت متعارفة في عصر الأداء.
فبالجملة: يجب تحصيل المثل فيما يتعين أداؤه، إذا لم يستلزم الضرر
ولا الحرج، من غير فرق بين الفرضين.
إن قلت: إذا كان إمكان حصول المثل للضامن عقلائيا في الزمن

1 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 107 / السطر 12.
2 - لاحظ منية الطالب 1: 139 / السطر 23 - 24.
225

القريب، فهو في حكم المعسر، فيمهل مثلا، وإلا فمن نفي الضرر يلزم ضرر
المالك، إلا إذا قيل بتعين قيمة يوم التلف والضمان.
قلت: تنفى الزيادة السوقية بالقاعدة، ويتعين عليه أداء قيمة يوم
الأداء، فلا يلزم الضرر، ولا يتعين اختيار القول المزبور، فلو وجد المثل
مع اختلاف يسير - يتحمل عادة، ولا يعد ضررا - يجب تحصيله.
نعم، لو استلزم تحصيله وقوعه في الحرج، بأن يتنازل لمن عنده وإن
لم يكن فيه الضرر المالي أصلا، ففي وجوبه بل جوازه إشكال، بل منع،
وتفصيله يطلب من محاله (1).
وربما يمكن التفصيل بين العالم الملحق بالغاصب والجاهل،
بدعوى انصراف دليل نفي الحرج عنه (2)، كما قيل في قاعدة نفي الضرر.
هذا بناء على ما هو المعروف في القاعدتين.
وأما على ما قويناه من عدم حكومتهما على الأحكام العقلائية
الامضائية، فيتعين الرد مطلقا، كما اختاره الشيخ الأعظم (3).
بحث: حول ضمان شخص التالف
ظاهر المشهور ضمان المثل أو القيمة.
وقيل: مقتضى الأدلة في الضمانات عهدة العين وضمان شخص

1 - لاحظ تحريرات في الأصول 8: 298 - 302.
2 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 98 / السطر 28 - 29.
3 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 107 / السطر 12.
226

التالف، والانتقال إلى المثل والقيمة في المثلي والقيمي، أو تخيير
الضامن مطلقا، بحكم العقل، وهذا هو الظاهر من قواعد الضمان
والنصوص الخاصة (1).
أقول: وتوهم تنافيه مع ما ورد في الأدلة في كتاب الديات (2)
والإجارة (3) والعارية (4) واللقطة (5) - من ظهوره في تضمين القيمة -

1 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 96 / السطر 25.
2 - الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سئل عن بختي اغتلم فخرج من الدار فقتل رجلا
فجاء أخو الرجل فضرب الفحل بالسيف؟ فقال: صاحب البختي ضامن للدية
ويقتص ثمن بختيه.
الكافي 7: 351 / 3، وسائل الشيعة 29: 250، كتاب الديات، أبواب موجبات
الضمان، الباب 14، الحديث 1.
علي بن جعفر في كتابه، عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن بختي
مغتلم قتل رجلا فقام أخو المقتول فعقر البختي وقتله، ما حاله؟ قال: على صاحب
البختي دية المقتول ولصاحب البختي ثمنه على الذي عقر بختيه.
وسائل الشيعة 29: 251، كتاب الديات، أبواب موجبات الضمان، الباب 14،
الحديث 4.
3 - وسائل الشيعة 19: 118، كتاب الإجارة، الباب 16، الحديث 1، و: 119،
الباب 17، الحديث 1، و 152، الباب 30، الحديث 13.
4 - وسائل الشيعة 19: 96 - 97، كتاب العارية، الباب 3، الحديث 1 و 2 و 3.
5 - محمد بن علي بن الحسين، قال: وقال الصادق (عليه السلام): أفضل ما يستعمله الانسان في
اللقطة إذا وجدها أن لا يأخذها، ولا يتعرض لها، فلو أن الناس تركوا ما يجدونه
لجاء صاحبه فأخذه، وإن كانت اللقطة دون درهم فهي لك فلا تعرفها، فإن وجدت
في الحرم دينارا مطلسا فهو لك، لا تعرفه، وإن وجدت طعاما في مفازة فقومه على
نفسك لصاحبه ثم كله، فإن جاء صاحبه فرد عليه القيمة، فإن وجدت لقطة في دار،
وكانت عامرة فهي لأهلها، وإن كانت خرابا فهي لمن وجدها.
السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام): أن أمير المؤمنين (عليه السلام) سئل عن سفرة وجدت في
الطريقة مطروحة، كثير لحمها، وخبزها، وجبنها، وبيضها، وفيها سكين، فقال
أمير المؤمنين (عليه السلام): يقوم ما فيها، ثم يؤكل، لأنه يفسد، وليس له بقائه، فإن جاء طالبها
غرموا له الثمن، فقيل: يا أمير المؤمنين لا يدري سفرة مسلم، أو سفرة مجوسي، فقال:
هم في سعة حتى يعلموا.
وسائل الشيعة 25: 443، كتاب اللقطة، الباب 2، الحديث 9، و: 468، الباب 23،
الحديث 1.
227

غير تام، لأنها ناظرة إلى مقام الأداء، دون الجعل والضمان، وقد عرفت
إمكان تصوير ذلك في مباحث قاعدة اليد (1)، ولكن الأدلة غير ظاهرة في
هذا الاعتبار، وغير وافية به.
نعم، دعوى: أنه مساعد ببناء العقلاء على كفاية رد العين بإيجادها
وإعادتها، على تقدير إمكانها بعدما تلفت، قريبة، فإن المالك لا يرى إلا
ماله الشخصي التالف، ولا يقول ولا يدعي إلا إياه، وينادي بأعلى
صوته: إني أريد فرسي، لا غير وعندئذ يلزم أصالة المثلية، إلا فيما قام
الاجماع أو النص الخاص على كفاية القيمة.
وبعبارة أخرى: مقتضى هذا المبنى المؤيد ببناء العقلاء، هو الذي
أشرنا إليه تحرير الأصالة المثلية: بأن المثل المساوي من جميع

1 - تقدم في الصفحة 188 - 189.
228

الجهات المرغوب فيها، هي العين التالفة المعادة، لانطباق جميع
الأغراض والخواص والآثار عليها، والقائل لا يلتزم بهذا.
ولي شبهة في تمامية بناء العقلاء على اعتبار ضمان شخص
التالف، ولو تمت هذه فلا منع من الالتزام بذاك، وعندئذ يكون الأقوى
أصالة المثلية، ثم أصالة التخيير بين ما هو الأقرب والقيمة.
الفرع الحادي عشر: في حكم تعذر المثل في الجملة
لو تعذر المثل في الجملة، يجب رد القيمة على المختار عند
المطالبة، ولا يجوز الامتناع من قبولها إذا أداها الضامن، والوجه
واضح.
وعلى القول بأصالة المثلية فهل يجب ردها، أم لا عند
المطالبة؟ فيه وجهان بل قولان:
لا يبعد الثاني، لأن الحق والضمان لا يتجاوز من موضوعه - وهو
المثل - إلى الأمر الآخر إلا بدليل، وهو في حال التعذر غير ناهض،
خصوصا إذا علم بوجدان المثل بعد برهة من الزمان.
وتوهم: أن التعذر حال المطالبة في حكم التعسر فاسد.
وما قد يقال: من أن المالك يتمكن من اسقاط خصوصية المثلية،
دون المالية (1)، لا يرجع إلى محصل، لأنه في حكم الهبة فيحتاج إلى

1 - لاحظ منية الطالب 1: 141 / السطر 8 - 9.
229

القبول، ولو كان إبراء فهو غير معتبر، لعدم مساعدة العرف على إبراء ما لا
مالية له. بل لا يعتبر ضمان الخصوصية إلا مع المالية، فسقوطها
يستلزم سقوطها. مع أنه حينئذ يستلزم جواز الابراء حال التيسر أيضا.
بل مقتضى القول بكون العين في الذمة حال وجودها، تمكن
المالك من الانتقال إلى القيمة، وهو كما ترى.
نعم، يمكن دعوى بناء العقلاء على التوسع في باب الضمانات،
خصوصا مع قدرة الضامن على أداء القيمة، ولا سيما وأن الصبر إلى
الظفر بالمثل واشترائه، أو البدار برد القيمة إلى المالك، مستويان في
نظر الضامن، فتأمل.
ثم إنه لو بادر إلى ردها، فهل للمالك الامتناع؟
نعم، لأن القيمة في مفروض البحث أجنبية عن المضمون. وهذا
لا شبهة فيه إذا لم يستلزم الضرر، بأن تزداد قيمة المثل.
وأما لو كان أداء المثل حال التيسر، مستلزما لاشترائه بأضعاف
القيمة حال التعذر، فهل يمنع من الامتناع، لأن تجويزه ضرري في هذه
الصورة، أو لا، لأنه لا ضرر فعلا، ولا حكومة للقاعدة على رفع الضرر في
مثل المقام؟ وجهان.
والذي تقرر عندنا قويا عدم حكومة قاعدة الحرج على الأحكام
العقلائية الممضاة، والتفصيل يطلب من رسالتنا الموضوعة فيها (1).

1 - رسالة المؤلف (قدس سره) في قاعدتي نفي الضرر والحرج التي كتبها في بورسا مفقودة.
230

الفرع الثاني عشر: حول تعين القيمة عند تعذر المثل في المثلي
لو تعذر المثل بحيث لا يرجى عوده، فظاهر جماعة تعين القيمة (1)،
لما نعلم من الشريعة أنها لا ترضى بسقوط دينه، لاستلزامه الظلم
والضرر. والبحث عن بقاء الدين في ذمته، وعدم سقوطه عند التعذر
عن أدائه، لا يرفع هذه الغائلة في مفروض المسألة، كما لا يخفى.
وفيه: أن مجرد الاستبعاد لا يفي، بعد كون الذمة مشغولة بالمثل
القابل للأداء، والتعذر والتعسر لا يورثان الانقلاب، ولا يوجبان الأداء
بوجه آخر. وهذا نظير المستثنيات في باب الدين، فمجرد إمكان الأداء
ولو بالأجنبي غير كاف. ولو تم الانقلاب لكان يجب رد القيمة ولو اتفق
المثل.
وتوهم: أنه من صور انكشاف عدم التعذر، فاسد، ضرورة أن الدائن
بعد أخذ القيمة يسقط دينه، ولا يجوز له ردها بدعوى المثل الموجود،
فيعلم أنه أمر واقعي.
ودعوى بناء العقلاء على أداء القيمة، مسموعة إن راجعت إلى ما
اخترناه من أصالة التخيير بدوا (2)، وإلا فلو كان بناؤهم في المثليات على
المثل، فهو معناه أنه مع فقد المثل يكون الضامن كخالي الكف، فينظر
إلى ميسرة. وحديث إبراء المديون الدائن عن المثلية دون المالية،

1 - لاحظ المكاسب، الشيخ الأنصاري: 107 / السطر 16.
2 - تقدم في الصفحة 221 - 222.
231

قد مضى فساده (1).
هذا كله على مذهب المشهور.
وأما على القول بأصالة تخيير الضامن، فعليه القيمة، لأنها
إحدى فردي الواجب التخييري.
وعلى القول بأصالة المثلية فيشكل، من أن المضمون هو المثل،
فلا وجه لايجاب القيمة، ومن أن أداء المثل هو أداء العين، لما تقرر أن
الوحدة في باب الضمانات، تدور مدار الاختلاف فيما يعتبر مضمونا، لا
الأمور الواقعية التي لا مالية لها (2)، فإذا وجد المثل فكأنه هو عين
المال، ولا سيما فيما كانت متحدة في جميع الجهات، كالمصنوعات
بالمكائن العصرية.
ومما يشهد عليه: أنه لا يبالي العقلاء بعينهم الشخصية مع
وجودها، ومن ادعاها لا يعدونه منهم، لعدم الأثر لها، فعليه يقال بأصالة
القيمة، لأنها هي التي بحذائها، فيتعين عليه ردها، لأنه هو معنى
الضمان عند التلف، فكأنه مع بقاء الأمثال ليست العين تالفة.
نعم، إذا لم يكن المثل مماثلا في جميع الجهات المرغوب فيها، يلزم
تعذره عن رد العين برد مثلها، فحينئذ يجب رد المماثل القاصر عن
القيمة المتدارك بها قصوره، أو تجب القيمة، أو لا يجب شئ، أو يجب
من غير لزوم التدارك؟

1 - تقدم في الصفحة 229 - 230.
2 - تقدم في الصفحة 222 - 223.
232

قضية ما سلكناه هو الوجه الثالث، وحكم العقلاء بلزوم التفريغ
ليس إلا لما اخترناه من أصالة التخيير (1)، وإذا لم يوجد المماثل المتحد
مع العين فيما يرغب فيه، تتعين القيمة، كما أشير إليه آنفا.
الفرع الثالث عشر: في تحديد قيمة المثلي المتعذر وأنها قيمة يوم
الغصب أم لا؟
إذا لم يتمكن من رد المثل، وقلنا بلزوم القيمة، فهل تجب قيمة يوم
القبض والغصب، أو قيمة يوم التلف، أم قيمة يوم التعذر، أو يوم
المطالبة، أم يوم الدفع، أو أعلى القيم من اليوم الأول إلى الآخر، أو
الثاني إليه، أو إلى ما قبله، أو غير ذلك؟
وجوه وأقوال:
فمقتضى أن المثل في العهدة من غير انقلاب، لزوم قيمة يوم الدفع.
هذا فيما هو المفروض في هذه المسألة، وهو عدم طرو موجبات
اختلاف القيمة على العين قبل تلفها، فإنه يأتي البحث عنه في محله
من ذي قبل إن شاء الله تعالى (2)، فما يرى من لحاظ حال العين في
كلماتهم، لا يخلو من إشكال.
كما أن لحاظ اختلاف القيم في المثل الذي هو الكلي (3)، مما

1 - تقدم في الصفحة 221 - 222.
2 - يأتي في الصفحة 246 - 247.
3 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 100 / السطر 18.
233

لا محصل له عندي، فإن ما يستفاد من الأدلة في باب الضمانات، أن
اختلاف القيم والأخذ بأعلاها مع وجود العين، مما هو متعين، ولكن فرض
العين خارجا أو المثل كذا لا يوجب الضمان، فالاعواز وعدمه لا يورثان
شيئا في الضمان هنا، فليتدبر.
وما أفاده الشيخ الأعظم (قدس سره): من أن مقتضى الآية (1) والمتبادر من
إطلاقات الضمانات، هو وجوب الرجوع إلى أقرب الأموال إلى
التالف بعد تعذر المثل، وعليه يتوجه القول بصيرورة التالف قيميا
بمجرد تعذر المثل، إذ لا فرق في تعذر المثل بين تحققه ابتداء، كما في
القيميات، وبين طروه بعد التمكن، كما فيما نحن فيه (2) انتهى، غير قابل
للتصديق، لأن قيمة الشئ ليست إلا مباينة له، ولا يعد ردها وفاء به عند
أحد من العقلاء، ومجرد الاستيفاء والاتحاد في الأثر البعيد، لا يكفي لكون
الشئ المباين قريبا.
هذا مع أن الآية على ما تقرر، أجنبية عن هذه المسائل (3)، وإطلاقات
الضمانات عقلائية، وقد فرغنا عن مقتضاها، وهو تخيير الضامن من أول الأمر، ولا يمكن الالتزام بعدم الفرق بين التعذرين، فإنه لو وجد مثل
الفرس، فإنه لا يتعين، ولو وجد فرضا مثل الحنطة التالفة يتعين، فكيف
يسلب الفرق بينهما؟! فلاحظ وتدبر.

1 - (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) البقرة (2): 194.
2 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 107 / السطر 28.
3 - لاحظ البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 1: 325 - 327.
234

بقي أمور:
أحدها: في أن المراد هو التعذر العقلي أو العرفي أو ما لا يوجب الضرر
والحرج
هل المدار في التعذر الموجب لتعين القيمة على التعذر العقلي،
أو العرفي، أو لا هذا ولا ذاك، بل المدار على ما لا يورث الضرر والحرج
وإن كان غير متعذر عقلا، ومتعذرا عرفا؟
وحيث لم يرد نص في المسألة في خصوص مفهوم التعذر ولا ما
يقرب منه ك‍ (عدم القدرة ونحوه، فلا بد من المراجعة إلى الاطلاقات
والعمومات، وقد تقرر منا: أن ثبوت السلطنة للمالك إلى حد الافراط
ممنوع، ولا دليل عليه شرعا، ولا عرفا، ولا سند لقاعدة السلطنة الدارجة
في ألسن المتأخرين، فلو كان المثل في البلاد النائية، ويتمكن الضامن
من استيراده بصرف المال الكثير فيه، لا يجب عليه وإن لم يكن ضرر
شخصي في حقه، وذلك لاعتبار الأمر النوعي في الضرر. بل لقصور
الدليل عن إثبات السلطنة المطلقة، وهكذا في ناحية الحرج.
ثم إنه لو فرضنا لزوم الرد شرعا وعقلا، فإن كان في الاستيراد حرج،
فكونه منفيا محل إشكال عندي، لأن الأحكام العقلائية الممضاة، ليست
من المجعولات الإلهية حتى تكون القاعدة حاكمة عليها.
وإن كان فيه ضرر، فمقتضى ما تحرر منا تقدم قاعدته على مطلق
235

الأحكام، وكما هي قاعدة نافية تكون ناهية (1)، فتبصر.
ثانيها: حول ضمان الصفات غير المتمولة أو الانتزاعية
قد عرفت وجوب رد المقبوض إلى مالكه، وأنه ضامن الخسارة
المتوجهة إليه من نقصان صفة تكون من الأمور المتمولة، وأما ما
لا تتمول، أو لا تكون من صفات المقبوض إلا بالانتزاع أو الاعتبار، فهل هي
أيضا مضمونة، بمعنى أن المالك يجوز له الامتناع عن قبول عين ماله
بدعوى المماثل له من جميع الجهات، أم لا؟
الظاهر أن الأوصاف المغفول عنها التي لا تختلف الأعيان بها في
الرغبات، ليست مضمونة، ولا سلطنة للمالك عليها حتى تصح دعواها.
وأما الأوصاف الانتزاعية، مثل كونها في الشتاء، أو الصيف، أو في
بلد كذا وكذا، فهي - بعدما تكون معتبرة في الأملاك، وموجبة لاختلاف
القيميات - مضمونة، فله دعوى الصفة، وليس الضامن بالخيار بين رد
الموصوف، ورد العين وقيمة الصفة، لأنه عين ماله موجود عنده، فإذا
طلبها فعليه التخلية، وتدارك الخسارة. وهكذا يجوز له إجبار القابض
على تحويل العين إلى البلد المذكور. هذا إذا أدى العين ناقصة.
وأما لو أداها متصفة بالأوصاف حين أخذها، فهل الأوصاف
الموجبة لرقاء القيمة تكون مضمونة، أم لا؟ وجهان:
من أنه رد عين ماله بجميع أوصافها المقبوضة.

1 - تقدم في الصفحة 202.
236

ومن أن كل ما يرد عليها مضمون بتبع العين، فعليه تداركه. مع قصور
بناء العقلاء عن تعيين الضمان في هذه الصورة، وهكذا الأدلة
الاجتهادية.
ويمكن التفصيل بين الأوصاف القهرية الحاصلة للعين، وما
اتصفت به بتدبير القابض، ثم زالتا حين رد العين، فيقال بالضمان في
الأول، وعليه تفاوت القيمة، دون الثاني، لأنه من عمله، فيرجع إليه.
والذي يظهر لي بعدما عرفت من قصور دليل ضمان اليد سندا (1)، عدم
الضمان، وإلا يتعين الضمان، إلا أن يدعى انصرافه عن التضمين في بعض
الفروض المشار إليها.
وأما الأوصاف الاعتبارية، مثل عزة الوجود وقلته، وكثرة الوجود
وشياعه، الموجب لاختلاف القيمة لتفاوت الرغبات، فإن المعروض
في الأسواق إذا كان أكثر مما يحتاج إليه الناس، ويقتضيه طلبهم، تتنازل
القيم، وفي عكسه تتراقى، فالظاهر عدم الضمان في التفاوت اليسير.
نعم، إذا بلغت قيمته إلى حد صدق التلف فإن كان ساقطا من
القيمة فلا يعتبر الملكية والمال، فلا يحق إلا المثل أو القيمة، والكلام
فيه ما مضى ويأتي. وبقاء حق الاختصاص أو حدوثه على المشربين في
محله، لا يورث وجها في مسألتنا هذه.
وتوهم: أن مفاد قاعدة على اليد... رد المقبوض والمأخوذ (2)،

1 - تقدم في الصفحة 186 - 187.
2 - لاحظ حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 99 / السطر 25، حاشية المكاسب،
المحقق الأصفهاني 1: 97 / السطر 18.
237

فاسد، لأنها في مقام اعتبار ضمان ما يوجبه، وهو المقبوض المعدود من
الأموال، أو ما تعلق به الحقوق، لا الذات العارية عن هذه الجهة.
وإن لم يكن ساقطا إلا في الجملة، ففي كفاية رد العين، أو لزوم رد
ما به التفاوت، وجهان:
من إطلاق القاعدة.
ومن أنها في مقام تضمين الأوصاف إلى أن ترد العين، وتلك
الأوصاف أعم من الحقيقية والاعتبارية، بعدما كانت معتبرة في الأسواق،
وملحوظة في المبادلات.
ثالثها: في تعيين زمان المماثلة بين المدفوع والمقبوض
فيما يجب المثل تعيينا أو تخييرا، فهل يجب المماثلة بين
المدفوع والمقبوض حال التلف، أو حال القبض، أو الحال التي
اتصفت بها العين، وصارت أغلى وأقوم، أم لا، بل الضامن بالخيار؟
وعلى الثاني، فهل يجب تدارك ما به الاختلاف في القيمة بالنقد،
أم يجوز له الاكتفاء برد مطلق المثل؟
مثلا: إذا قبض بالفاسد صغير الشاة، وقلنا: بأنها مثلية، لأصالتها، أو
للتخيير، كما مضى (1)، ثم بعدما كبرت تلفت، فهل عليه رد شاة شابة، أو
يجوز له الاقتصار على رد الصغيرة أو الكبيرة؟

1 - تقدم في الصفحة 221 - 223.
238

أما الكلام على الفرض الثاني، فقد مضى تفصيله آنفا.
وأما في الفرض الأول، فمقتضى إطلاق الآية (1) كفاية مطلق
المماثلة.
ومقتضى انصراف المماثلة في باب الغرامات إلى المشاركة في
جميع ما تختلف به العين في القيمة، وأن ما ينمو في العين يكون
للمالك، ويصير مضمونا، لزوم التماثل بين المدفوع والمضمون بجميع
شؤونه.
لا شبهة في الثاني بحسب نظر العرف المتبع في المقام.
نعم، إذا رجعت العين إلى الحالة الأولى، وهي حال القبض، ثم
تلفت، فكونه مماثلا للحال المتوسطة التي تصاعدت القيمة، محل
إشكال، لقصور بنائهم، ولعدم الدليل على الضمان إلا قاعدة اليد التي قد
عرفت حالها (2).
رابعها: في مقتضى الأصول العملية بالنسبة للمسائل السابقة
أي قضية الأصول العملية إذا كانت الأدلة في المسائل السابقة
قاصرة عن إفادة الحكم وإبانة الوظيفة:
فلو شك في المضمون بعد القبض، هل هو نفس العين، أو المثل، أو
القيمة، أو المثل في المثلي، والقيمة في القيمي، أو المالية

1 - البقرة (2): 194.
2 - تقدم في الصفحة 186 - 188.
239

السارية؟ فالقدر المتيقن هي الأخيرة، لأنها المتحدة مع الكل،
والخصوصية الزائدة منفية بالبراءة.
وإذا علمنا: بأن المالية السارية ليست مضمونة قطعا، والأمر
يدور مدار غيرها من المحتملات، فقد يقال بالاحتياط (1)، وقد عرفت
البحث حوله سابقا وحول المختار (2)، فلا نعيده.
وإذا شك في أن في حال التعذر ينقلب الذمة، أو يجب إفراغها بما
هو الأقرب إليه، وهي القيمة، وعند عدمها المالية السارية، فمقتضى
الاستصحاب اشتغال الذمة وعدم الانقلاب.
وإذا شك في سقوطه بالقيمة حال التعذر، فلا يجب إذا وجد المثل
مثلا، أم لا فيجب، فالثاني متعين، عملا بالأصل.
ودعوى: أن المثل ليس موضوعا في الأدلة حتى يفيد الاستصحاب،
بل هو العنوان المشير إلى المضمون (3)، في محلها، إلا أن النتيجة
واحدة، ضرورة أن ما في الذمة باق تعبدا حتى يقوم المديون بجميع
ما يحتمل كونه دخيلا في إسقاطه.
ولو شك في بقاء اشتغال ذمته بالعين أو المثل، لأنه حين التلف
كان صغيرا، ويحتمل سقوط ذمته عند عدم التكليف، فقيل بوجوب المثل
أو القيمة، لأن قضية الاستصحاب لزوم الافراغ، والعقل حاكم بوجوب كل

1 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 97 / السطر 17.
2 - تقدم في الصفحة 220 - 223.
3 - لاحظ البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 1: 393.
240

ما هو دخيل في براءة ذمته.
وقد يشكل: بأن التعبد ببقاء العين والمثل، لا يورث الاشتغال
بالمؤدى الأجنبي إلا بالأصل المثبت (1)، وحكم العقلاء بوجوب المثل
عند تلف العين، والقيمة عند تعذر المثل، ليس من الآثار المترتبة على
الموضوع المتعبد به، لأنه مردد بين كونه بنحو القضية الشرطية، أو
بنحو جعل السببية، فعلى الأول يتم المطلوب، دون الثاني، ضرورة أنه
لو وصل من الشرع إذا تلفت العين يجب المثل، أو تعذر المثل تجب
القيمة فالأصل الجاري يورث وجوب رد العين لو رجعت فرضا خرقا
للعادة، وهكذا وجوب رد المثل.
وإذا كان الواصل ولو بنحو الامضاء أن تلف العين سبب لعهدة
المثل وهكذا، فإن التعبد المذكور لا يورث ترتب المسبب شرعا، بل هو
من الآثار العقلية، لأنه إذا وجدت العلة يوجد المعلول قطعا، فليتدبر.
وتوهم: أنه مثل وجوب الإطاعة من الآثار العقلية واللوازم
المترتبة، وإلا يلزم لغوية جعل الحكم الظاهري طبق الأصول العملية،
فاسد، بداهة أن وجوب الإطاعة ليس مباينا للمتعبد به، بخلاف وجوب
المثل، فإنه غير ما تعبد به بمقتضى الاستصحاب.
نعم، إذا اقتضى الأصل وجوب رد العين، فعليه ردها عقلا، وأما رد
مثلها وقيمتها فهو يحتاج إلى الدليل الاجتهادي.
وبالجملة: فاستصحاب بقاء العين والمثل، لا ينتج شيئا إلا وجوب رد

1 - حاشية المكاسب، المحقق الأصفهاني 1: 97 / السطر 30 - 31.
241

العين والمثل، فإذا تمكن فهو، وإلا فلا شئ عليه.
ولو شك في أن المدار على أي يوم من الأيام في الضمان إذا تعذر؟
فعلى القول بانقلاب التالف إلى القيمة وهكذا المتعذر، فالأقل متعين،
لأنه القدر المتيقن.
وأما على القول ببقاء العين في الصورة الأولى، والمثل في
الثانية في الذمة، فعليه ردهما. وإذا لم يكن متمكنا، فإن كان رد القيمة
أداء قهريا، فبالأكثر تفرغ الذمة، وعليه يتعين الاحتياط.
وأما لو كان ردها ليس من الأداء عرفا، فلا بد من المراضاة، وعليه
يمكن للمالك بيع ما في ذمة المديون بأكثر من القيم المحتملة، حسب
الأيام المختلفة المذكورة سابقا، فلاحظ وتدبر جيدا.
فرع: في حكم عود العين التالفة بعد أداء المثل
إذا أدى المثل، ثم عادت العين خرقا للعادة، فالمعروف رجوعها
في ملك صاحبها، وله دعواها، وللضامن استرداد المثل بردها.
وقد يشكل: بأن المفروض أداء جميع ما هو المشترك مع العين في
الرغبات.
وبعبارة أخرى: هو قد أدى العين، لما مضى أن وحدة العين في باب
الضمانات، ليست وحدة شخصية، بل هي سنخية، مع أن مالكية الهوية
الشخصية غير معتبرة عند العقلاء (1)، نعم هي بضميمة الموجبات

1 - تقدم في الصفحة 222 - 223.
242

للرغبات تعتبر تبعا، وعندئذ لا وجه لما اختاره الأكثر، فأداء المثل أداء
العين في هذه المواقف، بحكم الوجدان.
نعم، إذا بقي اعتبار إضافة، كحق الاختصاص، أو الملكية، كما في
الشاة المذكاة، فإنه حينئذ يعتبر عودها في ملكه، ويترتب عليه آثاره
المزبورة.
وإذا أدى القيمة عند تعذر المثل، ثم وجد المثل، بناء على أن يراد
من التعذر ما لا يكشف خلافه بوجدان المثل، فهل يعود الساقط، أو لا
يسقط ويكون مراعى، أو لا يعود؟
فيه وجوه:
فإن قلنا بالانقلاب، أو قلنا: بأن أداء القيمة وفاء بالمثل بكماله
وتمامه فلا وجه للعود، لعدم المقتضي، ولا لعدم السقوط، لتمامية
الاقتضاء من ناحية الأداء.
وإن قلنا: بأنه وفاء ناقص، وحكم إرفاقي، أو قلنا: بأنه ليس من
الوفاء رأسا، فإن كان أداؤها مع رضا المديون الموجب لابراء ذمته بها
قهرا، فلا يعود، ويسقط قطعا.
وإذا لم يكن منه أثر الاسقاط بارزا وظاهرا، فأداء القيمة غير
موجب لسقوط المباين، والناقص لا يورث البراءة من الكامل عند أحد
من العقلاء، وعند ذلك ربما يشكل في وجوب أدائها، إلا على القول ببدل
الحيلولة في أداء القيمة أيضا كما لا يخفى، فلا يعتبر المراضاة إلا في
بعض الفروض والمباني.
والذي هو الحق: أن أداء القيمة أجنبي عن المضمون، فإن حصل
243

التراضي، فهو وإلا فقد مر: من أن الظاهر عدم وجوب ردها عند التعذر (1)،
ولا يأتي هنا حديث بدل الحيلولة (2)، لما سيأتي في محله إن شاء الله
تعالى (3).
هذا، وما هو الأحق: أن الطريقة العقلائية على التخيير بين رد
المثل والقيمة، لما مر (4) وسيأتي زيادة توضيح حوله (5)، ونتيجته سقوط
هذه المباحث رأسا، كما أشرنا إليه سابقا.
الفرع الرابع عشر: في بيان ما يضمن به في المثليات والقيميات وأنه
قيمة يوم الخطاب
قضية ما مر منا في باب ضمان المثلي والقيمي أمران:
الأول: كان دأب الأقوام السابقة وديدنهم على رد المثل، وإذا تعذر
فيرد الأقرب إلى التالف في الجهات المرغوب فيها، بل قضية ما سلف
هو أن مع وجود المماثل في جميع الجهات، لا تعد العين تالفة في باب
الضمانات، لأن الوحدة الشخصية محفوظة بحفظ جميع تلك الجهات،
وهذا هو المقصود من أصالة المثلية.

1 - تقدم في الصفحة 231.
2 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 109 / السطر 12 - 13.
3 - يأتي في الصفحة 264.
4 - تقدم في الصفحة 221 - 222.
5 - يأتي في الصفحة 246.
244

الثاني: بعد ما تعارفت النقود والأثمان وبلغت منتهاها، صار بناء
العقلاء على تدارك الخسارات بها، ويكون الثمن كالمثل، وهذا هو
المقصود من أصالة تخيير الضامن.
نعم، إذا وجد المثل الوافي بجميع ما في العين التالفة - بحيث
يعد أنه هي - فيتعين ذلك، وأما في غير هذه الصورة فلا دليل على تعين
المثل أو القيمة، كما مضى.
ثم إن مقتضى المآثير في المقام أيضا ذلك، فإن الروايات مختلفة،
فمن طائفة منها يظهر التضمين بالقيمة في المثليات، كما في مآثير
تضمين الدار وما أحرق فيها من متاعها بالقيمة (1)، مع أن فيها من
المثليات قطعا، ومن طائفة أخرى يظهر عكسها (2)، وقضية الجمع هو أن
المقصود ليس إلا تدارك المضمون والخسارة، ولا يحتمل زائدا عليه،
فتدبر.

1 - السكوني، عن جعفر، عن أبيه، عن علي (عليهم السلام)، أنه قضى في رجل أقبل بنار
فأشعلها في دار قوم، فاحترقت، واحترق متاعهم، قال: يغرم قيمة الدار وما فيها،
ثم يقتل.
تهذيب الأحكام 10: 231 / 912، وسائل الشيعة 29: 279، كتاب الديات،
أبواب موجبات الضمان، الباب 41، الحديث 1.
2 - صفوان الجمال، أنه سمع أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: من وجد ضالة فلم يعرفها، ثم
وجدت عنده، فإنها لربها، أو مثلها من مال الذي كتمها.
الكافي 5: 141 / 17، وسائل الشيعة 25: 460، كتاب اللقطة، الباب 14،
الحديث 1.
245

وما قد يقال: من أن قضية الاطلاقات ضمان القيمة ولو كان
التالف مثليا، وإذا قام الاجماع على المثل في المثلي، يتعين ما ذهب
إليه المشهور.
نعم، إذا وجد المثل اتفاقا في القيمي، فبناء العقلاء على تعينه، إذا
طلبه المالك، أو أداه الضامن، ولا دليل على خلافه، لأن القدر المتيقن
من الاجماعات المنقولة غير هذه الصورة.
غير قابل للتصديق، ضرورة أن المطلقات منصرفة إلى فرض
القيميات في مورد السؤال والجواب، بعد دعوى بناء العقلاء على
القيمة فيها، والاجماعات المحكية مستندة إلى ظواهر غير تامة، أو
إلى البناءات العقلائية في عصور كانت الأثمان والنقود غير رائجة، بل
كانت في غاية عزة الوجود وندرته، ولكنها بعد ما صارت الآمال دائرة
عليها، ولم يكن للشرع الأقدس طريق خاص في إفراغ الذمم بعد الضمان،
فهي أقوى ما يتدارك به الخسارة مع كونها مباينة للتالف، فلاحظ وتدبر
جدا.
تعين قيمة يوم الخطاب
إذا عرفت ذلك فاعلم: أن الفقهاء - رضوان الله تعالى عليهم - اختلفوا
في تعيين القيمة، فنسب إلى الأكثر أن المدار على يوم القبض (1).

1 - انظر مفتاح الكرامة 6: 244 / السطر 4، تحرير الأحكام 2: 139 / السطر 15.
246

وإلى الأشهر أعلى القيم من يوم القبض إلى يوم التلف (1).
وإلى الأكثر يوم التلف (2).
ونسب إلى جماعة من القدماء كالمفيد (3) والقاضي (4)
والحلبي (5) يوم البيع (6).
وإلى جمع من المتأخرين يوم الدفع (7).
ومن المحتمل أعلى القيم إلى يوم الدفع، ومنه أيضا يوم فعلية
التكليف بالتفريغ والأداء.
والذي هو التحقيق هو الأخير، ضرورة أن قيمة الشئ ليست من
الأوصاف الثابتة له، بل هي بحسب الأزمنة والأمكنة مختلفة، فلا بد من
إحدى الموجبات لتعينها، وهي هنا الأمر المتعلق برد القيمة من غير
تقييد، فإنه ظاهر في قيمته يوم الخطاب.
وبعبارة أخرى: المدار على يوم تنجز الأمر وتحتم الخطاب، فلو كان

1 - مختلف الشيعة: 455 / السطر 20.
2 - الدروس الشرعية 3: 113، الروضة البهية 2: 229 / السطر 22.
3 - المقنعة: 593.
4 - لم نعثر عليه في جواهر الفقه والمهذب، لاحظ مختلف الشيعة: 283 /
السطر 27.
5 - لم نعثر عليه في الكافي، لاحظ مختلف الشيعة: 283 / السطر 27.
6 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 111 / السطر 24.
7 - حاشية المكاسب، المحقق الخراساني: 41، حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1:
104 / السطر 6.
247

العذر حال التلف موجبا لعدم تعلقه، ثم بعد ما ارتفع تنجز الحكم، فإنه
تجب قيمة ذلك الزمان واليوم بالضرورة، لأنها قيمة الشئ على
الاطلاق، وما أفاده القوم في توجيه مرامهم، غير تام لا ينبغي الخوض
فيه.
ويمكن أن يقال: إن قضية عهدة العين حال التلف، ضمان أعلى
القيم إلى يوم الأداء، لبقاء شخص العين في الذمة.
ولو قيل: لا معنى لعروض الأوصاف عليها، بخلافها إذا كانت في
الخارج.
قلنا: نعم، إلا أن من الأوصاف المضمونة عزة الوجود المورثة
لتزايد القيمة السوقية، وهي متصورة في العين المعتبرة في الذمة.
إن قلت: هي في الذمة مستولية، وقاعدة على اليد... توجب
ضمان المستولي عليه.
قلت: لا حاجة إلى الاستيلاء بقاء في ضمان الأوصاف، فلو استولى
عليها، ثم غصبها الغاصب، وصارت في يده ذات أوصاف قيمية، فإنها تكون
بها مضمونة، فلو ردها الغاصب فاقدة لها فعليه ما به التفاوت، للاستيلاء
السابق، فما ذهب إليه العلمان من قيمة يوم الأداء (1)، غير تام.

1 - حاشية المكاسب، المحقق الخراساني: 41، حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1:
104 / السطر 6.
248

استعراض لرواية أبي ولاد الحناط
هذا هو قضية القواعد، ويقتضيه بعض المآثير، ويساعده الاعتبار
والعرف، ولما كان في المسألة معتبر أبي ولاد الحناط المشتملة على
فقرات ربما تومئ إلى خلافها، فلا بد من ذكرها مع طولها حتى يتبين مفادها:
ففي الكافي عنه قال: اكتريت بغلا إلى قصر ابن هبيرة ذاهبا
وجائيا بكذا وكذا، وخرجت في طلب غريم لي، فلما صرت قرب قنطرة
الكوفة، خبرت أن صاحبي توجه إلى النيل، فتوجهت نحو النيل، فلما
أتيت النيل خبرت أن صاحبي توجه إلى بغداد، فاتبعته وظفرت به،
وفرغت مما بيني وبينه، ورجعنا إلى الكوفة، وكان ذهابي ومجيئ
خمسة عشر يوما، فأخبرت صاحب البغل بعذري، وأردت أن أتحلل منه
لما صنعت وارضيه، فبذلت له خمسة عشر درهما، فأبى أن يقبل، فتراضينا
بأبي حنيفة فأخبرته بالقصة وأخبره الرجل.
فقال لي: ما صنعت بالبغل؟
فقلت: قد دفعته إليه سليما.
قال: نعم، بعد خمسة عشر يوما.
قال: فما تريد من الرجل؟
فقال: أريد كراء بغلي، فقد حبسه علي خمسة عشر يوما.
فقال: ما أرى لك حقا، لأنه اكتراه إلى قصر ابن هبيرة، فخالف
وركبه إلى النيل، وإلى بغداد، فضمن قيمة البغل، وسقط الكراء، فلما
249

رد البغل سليما وقبضته لم يلزمه الكراء.
قال: فخرجنا من عنده، وجعل صاحب البغل يسترجع، فرحمته مما
أفتى به أبو حنيفة، فأعطيته شيئا وتحللت منه، وحججت تلك السنة،
فأخبرت أبا عبد الله (عليه السلام) بما أفتى به أبو حنيفة.
فقال (عليه السلام): في مثل هذا القضاء وشبهه تحبس السماء ماءها، وتمنع
الأرض بركتها.
قال: فقلت لأبي عبد الله (عليه السلام): فما ترى أنت؟
فقال: أرى له عليك مثل كراء بغل ذاهبا من الكوفة إلى النيل، ومثل
كراء بغل راكبا من النيل إلى بغداد، ومثل كراء بغل من بغداد إلى الكوفة توفيه
إياه.
قال فقلت: جعلت فداك، قد علفته بدراهم، فلي عليه علفه؟
فقال: لا، لأنك غاصب.
قال فقلت له: أرأيت لو عطب البغل أو نفق، أليس كان يلزمني؟
قال: نعم قيمة بغل يوم خالفته.
قلت: فإن أصاب البغل كسر أو دبر أو غمز؟
فقال: عليك قيمة ما بين الصحة والعيب يوم ترده عليه.
فقلت: من يعرف ذلك؟
قال: أنت وهو، إما أن يحلف هو على القيمة فيلزمك، فإن رد اليمين
عليك فحلفت على القيمة لزمه ذلك، أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أن
قيمة البغل حين اكتري كذا وكذا فيلزمك.
فقلت: إني كنت أعطيته دراهم، ورضي بها وحللني.
250

فقال: إنما رضي بها وحللك حين قضى عليه أبو حنيفة بالجور والظلم،
ولكن ارجع إليه فأخبره بما أفتيتك به، فإن جعلك في حل بعد معرفته، فلا شئ
عليك بعد ذلك.
قال أبو ولاد: فلما انصرفت من وجهي ذلك لقيت المكاري، فأخبرته
بما أفتى به أبو عبد الله (عليه السلام) وقلت له: قل ما شئت حتى أعطيكه.
فقال: قد حببت إلي جعفر بن محمد (عليه السلام) ووقع له في قلبي التفضيل،
وأنت في حل، وإن أحببت أن أرد عليك الذي أخذت منك فعلت (1). انتهى (2).
الفقرات التي يمكن الاستدلال بها ومحتملاتها
أقول: قد يشكل سندها، لاشتمالها على سوء حال أبي ولاد، ولكنه

1 - الكافي 5: 290 / 6، وسائل الشيعة 19: 119، كتاب الإجارة، الباب 17،
الحديث 1.
2 في كتاب الحدود في حد الزنا باب 22 ما يفيدك للمسألة فراجع حديث 4 (أ).
أ - عبد الله بن سنان، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): قوم اشتركوا في شراء جارية فائتمنوا
بعضهم وجعلوا الجارية عنده فوطئها، قال: يجلد الحد، ويدرأ عنه من الحد بقدر ما
له فيها، وتقوم الجارية ويغرم ثمنها للشركاء، فإن كانت القيمة في اليوم الذي وطأ
أقل مما اشتريت به فإنه يلزمه أكثر الثمن، لأنه أفسدها على شركائه، وإن كانت
القيمة في اليوم الذي وطأ أكثر مما اشتريت به يلزمه الأكثر لاستفسادها.
وسائل الشيعة 28: 119، كتاب الحدود والتعزيرات، أبواب حد الزنا، الباب 22،
الحديث 4.
251

لا ينافي وثاقته المصرح بها (1).
ويتم البحث فيها حول بعض فقراتها:
الفقرة الأولى: قوله: أليس كان يلزمني... إلى آخره.
فتارة: يحتمل أن يراد منه أن البغل كان في عهدته إذا تلف، فأجيب
بذكر قيمته، لأنها هي التي يمكن أن تؤدى، ويكون الظرف وقت الضمان.
وأخرى: أن يراد منه أن صاحب البغل يلزمه قيمته بحذف المفعول
الثاني، فأجيب بما مر.
وثالثة: أن يراد منه الحكم التكليفي، أي أليس كان يجب علي أداء
قيمته أو بغله فأجيب بما مر، ويكون الظرف زمان تعلق التكليف
المنتزع منه الضمان قهرا.
ورابعة: أن يراد من قوله (عليه السلام): نعم تصديق اللزوم.
وحينئذ تارة: يكون الظرف متعلقا بالجملة التصديقية.
وأخرى: يتعلق بالجملة التصورية، وهي كلمة بغل أو البغل
على أن يكون مضافا إليه، أو صفة وحالا.
فعلى الأول: لا يلزم قيمة يوم الضمان والمخالفة، ولا اليوم

1 - قال شيخ الطائفة في حقه: حفص بن سالم يكنى أبا ولاد الحناط ثقة، كوفي مولى
جعفي.
الفهرست، الشيخ الطوسي: 62 / 235.
قال النجاشي: أبو ولاد الحناط (وقال ابن فضال: حفص بن يونس) مخزومي
روى عن أبي عبد الله (عليه السلام)، ثقة، لا بأس به...
رجال النجاشي: 135 / 347.
252

الآخر من التلف والدفع.
وعلى الثاني: يلزم قيمة يوم الضمان.
وقيل: على جميع التقادير المفروضة يلزم قيمة يوم
المخالفة (1):
أما على الثاني فواضح.
وأما على الأول، فلفهم العرف ذلك، فإنه إذا قال: يلزمك يوم
المخالفة قيمة البغل فهو وإن كان ظاهره بحسب الصناعة كون
الظرف متعلقا باللزوم، إلا أنه بعد تمامية الظهور يستفاد منه عرفا قيمته
في ذلك اليوم، لأن إطلاقها ينصرف إليه.
وخامسة: أن يراد منه تصديق جميع ما في السؤال، أي: نعم، يلزمك
إذا تلف قيمة بغل يوم خالفته فلو كان اليوم من قيود الفعل يلزم
التهافت بين ما يفيده مفهوم التلف وما تفيده الجملة بعد التقيد
ب‍ (اليوم فإنه على الأول يكون ظاهرا في يوم التلف، لفهم العرف ذلك
وعلى الثاني ينعكس، ويكون ظاهرا في يوم الضمان.
وإذا كان من قيود البغل ويكون من قبيل إضافة الثلج إلى
الصيف والشتاء يرتفع التهافت، ويلزم قيمة يوم التلف.
وهكذا إذا قلنا: بأنه من قيود الفعل، ولكنه ظرف جعل الضمان،
ويوم التلف ظرف إيجاب الأداء، ولكنه مستبعد جدا.
ولعل أقرب المحتملات هو الأخير، وذلك لأن كلمة نعم تصديق

1 - لاحظ منية الطالب 1: 153 / 16.
253

لجميع ما في السؤال، بعد معلومية أصل الضمان للسائل، على ما يستفاد من
تعبيره، ولا معنى لايجاب القيمة مع وجود العين، فلا بد من فرض تلفها بعد
ذلك، فيكون هكذا: يلزمك قيمة بغل يوم خالفته إذا تلف وعندئذ يتعين
كونه من قيود البغل وحالاته.
وسادسة: أن يراد من كلمة نعم تصديق الضمان، ومن الكلمة
الثانية دفع توهم: أن المضمون هي العين، وأن المدار على يوم التلف،
بل المضمون هي القيمة، والمدار على يوم المخالفة، وهذا الاحتمال
أيضا غير بعيد.
ثم إن استقرار الظهور في غاية الاشكال، لاختلاف النسخ في
المقام، مع تفاوت الظهورات، ضرورة أنه على الاحتمال الأول يلزم قيمة
يوم الأداء، وهكذا على الاحتمال الثالث، وعلى الاحتمال الثاني تكون
الصحيحة ساكتة عن قيمة أي يوم، وعلى سائر الاحتمالات قد مر
لوازمها، فلا نعيدها.
وحيث قد عرفت: أن قضية القواعد لزوم قيمة يوم تعلق التكليف
بالقيمة، لا يوم الضمان، ولا سائر الأيام، وهذه الفقرة مجملة من حيث
الحكم، فظهور مصادم لها، فليتدبر.
الفقرة الثانية: قوله فإن أصاب البغل كسر... إلى آخره.
وفيه من الاحتمالات ما يبلغ أكثر من عشرة وعشرين، والذي هو
الأظهر كونها في مقام جعل الحكم التكليفي، لا إفراغ الذمة المشغولة،
ولا جعل الحكم الوضعي، ولا الأعم بإيجاب رد القيمة الثابتة بين
المعيب والصحيح، من غير التعرض ليوم من الأيام.
254

إلا أن قضية ما سلف منا (1)، أن تعين القيمة المبهمة تنجز
التكليف، فإنه يورث تعين قيمة يوم فعلية الحكم وتنجزه، فعليه تكون
جملة يوم ترده متعلقة بقوله: عليك من غير لزوم الاشكال العقلي،
ضرورة أن الضمير يرجع إلى البغل وكان المفروض تحقق يوم رد
البغل، فليس يوم رده قيدا للتكليف المذكور، حتى يلزم عدم وجوبه إذا
عصى ولم يرد البغل.
والذي يوجب استقرار ظهورها فيما مر، كون الجملة الأخيرة
فعلية، فإنها تقتضي كون الجملة الابتدائية أيضا فعلية بلا شبهة، فافهم
وتدبر جيدا.
ولو قيل: على هذا تكون الجملة ظاهرة في يوم التلف، لقوله: فإن
أصاب البغل... فإنه إذا أجيب بما مر يتعين يوم التلف عند الاطلاق.
قلنا: نعم، ولكنه لا لأجل كونه يوم التلف، بل لأجل فعلية
الخطاب، فلو أتلفه الصغير فإنه ضامن، ولكن القيمة ليست منصرفة
إلى القيمة المعينة ما دام لم يلتحق به التكليف، لأن حال جعل
الضمان واعتبار كون القيمة في العهدة، حال إهمال القيمة من جهة
الأيام الممكنة، بخلاف حال الخطاب وتنجز الحكم، فإنه لا بد من لحاظ
يوم، وهو عند الاطلاق يكون يوم فعلية الحكم التكليفي وتنجزه، فليتدبر.
ثم إن رجوع اليوم إلى كل واحد من القيود السابقة عليه،
يستلزم تضيق الحكمين: الوضعي، والتكليفي، واشتراطه بيوم الرد، وهو

1 - تقدم في الصفحة 247 - 248.
255

ممنوع قطعا. بل يستلزم كون الرد الموجب لافراغ الذمة مورثا
لاشتغالها، وهو محال.
وتوهم: أنه يوم كشف استقرار الضمان، غير تام، لأنه مجرد فرض
لا يساعده الدليل، فعليه يتعين كونه ظرف القضية السابقة على نعت
الحينية، لا الشرطية والتقييدية. ويساعده ما عن الجواهر من
انحذاف كلمة يوم في بعض النسخ الموجودة عنده (1).
الفقرة الثالثة: قوله أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أن قيمة
البغل حين اكتري كذا وكذا، فيلزمك.
وهو ظاهر في أن أخذ العين يورث الضمان، إذا انقلبت اليد
الأمانية إلى الخيانية، فالتعقب المذكور شرط كونها موجبة للضمان
من الأول، وتكون العين يوم الاكتراء بقيمتها في العهدة. فما أفاده القوم:
من ظهوره في يوم الضمان والمخالفة غير قابل للتصديق، فيلزم
التهافت بين مفاد الجمل.
هذا، ولكن الانصاف شاهد على أن ذكر يوم الاكتراء، ليس إلا لأجل
إمكان الاطلاع فيه على القيمة، ولا يختلف قيمة البغل في العصور
السابقة في هذه المدة القليلة، وهي خمسة عشر يوما، فهذه الجملة
لا تدل على شئ في المسألة.

1 - جواهر الكلام 37: 102.
256

سكوت الروايات الأخرى عن تعيين قيمة أي يوم من الأيام
ثم إن في المقام روايات أخر متفرقة في الأبواب المختلفة (1)،
ولا دلالة لها على خلاف ما أردناه، وقضية القواعد ليست إلا ضمان المثل
والقيمة، مع إهمالها من جهة قيمة أي يوم من الأيام، ضرورة أن جعل
الضمان لا يستلزم لحاظ الحكم التكليفي، ولا كون المتكلم في مقام
البيان من تلك الجهة، فقوله مثلا: من أتلف مال الغير فهو ضامن لا يدل
إلا على أصل الاشتغال وهكذا الغاية في قاعدة على اليد... ليست في
مقام إفادة وجوب التأدية، فالأدلة اللفظية ساكتة عن قيمة اليوم
الخاص، أو مجملة، فافهم وتأمل جيدا.

1 - أبان بن عثمان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: في الرهن إذا ضاع من عند المرتهن من
غير أن يستهلكه رجع بحقه على الراهن فأخذه، وإن استهلكه ترادا الفضل بينهما.
محمد بن قيس، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) في الرهن إذا كان
أكثر من مال المرتهن فهلك أن يؤدى الفضل إلى صاحب الرهن، وإن كان الرهن أقل
من ماله فهلك الرهن أدى إلى صاحبه فضل ماله، وإن كان الرهن يسوى ما رهنه
فليس عليه شئ.
سدير، عن أبي جعفر (عليه السلام) في الرجل يأتي البهيمة، قال: يجلد دون الحد ويغرم
قيمة البهيمة لصاحبها، لأنه أفسدها عليه وتذبح وتحرق إن كانت مما يؤكل لحمه،
وإن كانت مما يركب ظهره غرم قيمتها وجلد دون الحد...
وسائل الشيعة 18: 386، كتاب الرهن، الباب 5، الحديث 2، و: 392، الباب 7،
الحديث 4، و 28: 358، كتاب الحدود والتعزيرات، أبواب نكاح البهائم، الباب 1،
الحديث 4.
257

تنبيهات
الأول: حول جعل معتبرة أبي ولاد اليمين على المدعي
ظاهر معتبرة أبي ولاد، أن اليمين على المدعي، ضرورة أن قضية
اختلاف المالك والغاصب في القيمة، اتفاقهما في بعضها، واختلافهما
في الزيادة، فيكون المالك مدعيا إياها، وعليه البينة، لا الحلف،
حسب النص والفتوى.
ويمكن قلب الدعوى، بأن كانا متفقين في القيمة إلى يوم التلف،
ومختلفين في تنزلها يوم التلف، فيصير المالك منكرا للنزول، وعندئذ
يشكل الأمر الآخر: وهو كون البينة عليه، كما هو ظاهرها أيضا، وهو
خلاف القواعد أيضا، فيلزم ارتكاب أحد الخلافين.
وحمل القضية الثانية على الصورة الأخرى، خلاف الظاهر
جدا، وهي ما لو اتفقا على عدم تفاوت قيمته السابقة إلى يوم التلف،
واختلفا فيها من حيث الزيادة والنقصان، فيكون المالك مدعيا إياها،
والغاصب منكرا.
أقول: الظاهر أن قوله: قلت: فإن أصاب البغل... إلى آخره،
أجنبي عن المسائل السابقة، ولا ربط له بها جدا، وإرجاع بعض الضمائر
في ذيلها إلى تلك الواقعة ممنوع، لأن البحث هناك حول التلف،
وخسارة المنافع المستوفاة، وهنا حول النقصان والعيب الوارد، من غير
258

النظر إلى مسألة قيمة يوم المخالفة والتلف، حتى يقال: بأن ذيلها
يورث ظهور الصدر في أن المدار على يوم التلف، كما أشير إليه وعرفت.
فما اشتهر من إرجاع قوله: فمن يعرف ذلك؟ إلى قيمة البغل، أو
إرجاعها إلى قيمة ما بين الصحيح والفاسد، كما عن المحقق الوالد
- مد ظله (1) - غير تام، لأن المشار إليه بتلك اللفظة بعيد ومذكر، لا قريب
ومؤنث، ولا بعيد ومؤنث، وهو الكراء الذي هو مورد النظر في الواقعة،
دون تلف العين وعيبها، من الكسر وغيره. والمساهلة في مرجع
الضمائر صحيحة، إلا أن القرينة المشار إليها ناهضة على ما ذكرناه.
والمراد من القيمة في ذيلها قيمة المنفعة.
وما اختاره الوالد - مد ظله - وإن استلزم كون المالك منكرا، إلا
أن ظهور الذيل في اتحاد القضيتين غير محفوظ، وهو الكراء.
وأما بناء على ما احتملناه فعلى المالك الحلف، لاتفاقهما
واطلاعهما على القيمة والكراء إلى قصر أبي هبيرة، وإذا كانت هي
معلومة إلى هناك، فيعلم ادعاء الغاصب خلاف ما هو المعلوم بالنسبة،
وفي هذا الوجه يحفظ الظهورات، ويطرح ظهور القضية في الوحدة، أو
يؤخذ به، ويحمل على التخصيص في عمومات ما ورد: من أن البينة على
المدعي، واليمين على من أنكر (2).

1 - البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 1: 417.
2 - عن أبي عبد الله (عليه السلام) - في حديث فدك - إن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال لأبي بكر: أتحكم
فينا بخلاف حكم الله في المسلمين؟ قال: لا، قال: فإن كان في يد المسلمين شئ
يملكونه، ادعيت أنا فيه، من تسأل البينة؟ قال: إياك كنت أسأل البينة على ما تدعيه
على المسلمين. قال: فإذا كان في يدي شئ فادعى فيه المسلمون، تسألني البينة
على ما في يدي؟ وقد ملكته في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعده، ولم تسأل المؤمنين
البينة على ما ادعوه علي كما سألتني البينة على ما ادعيت عليهم - إلى أن قال -:
وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر.
تفسير القمي 2: 156، وسائل الشيعة 27: 293، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم
وأحكام الدعوى، الباب 25، الحديث 3.
259

ومن الممكن دعوى: أن هذه القضية ليست في مقام المراجعة
إلى الحاكم، ولذلك وقعت هكذا. ويشهد له قوله (عليه السلام): أو يأتي صاحب
البغل بشهود... مع أنه لا معنى له، لكفاية الشاهدين فالمقصود هو
الأمور المتعارفة بين الناس، من الحلف، والمراجعة إلى الموثوقين
في هذه الأمور، فتأمل.
الثاني: في نقصان إحدى صفات المضمون الحقيقية أو الانتزاعية
أو الاعتبارية
لو نقص المقبوض فاسدا في إحدى صفاته الوجودية الحقيقية،
أو الانتزاعية، أو الاعتبارية، فهل يجب تداركها مطلقا (1)؟

1 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 110 / السطر 25، تذكرة الفقهاء 2: 387 /
السطر 18.
260

أو لا يجب، إذا عادت تلك الصفة حين رد العين (1)؟
أو يقال بالتفصيل بين الوصف القابل للزيادة، كالسمن، وما لم
يكن كذلك، كوصف الصحة، فلو زال السمن ورجع ضمن، بخلاف ما إذا
عادت الصحة (2)؟
وقيل بالتفصيل بين ما يعد عند العرف من إعادة المعدوم، وبين ما
هو الوصف الحادث (3).
فيه وجوه وأقوال:
فعن التذكرة ضمانه مطلقا، وهو الأوفق بالقواعد، لأنه إذا تلف
الوصف وما يبذل بإزائه المال عند العقلاء، يكون مضمونا. وهذا هو
مقتضى على اليد... الدالة على ضمان الأوصاف مع بقاء العين إلى الرد،
كما هو المختار في مفادها. ولو كان التلف غير سماوي يشمله دليل
الاتلاف والقواعد العرفية أيضا بلا شبهة. هذا بحسب الكبرى
الشرعية.
نعم، ربما تقع الشبهة في بعض الصغريات في المسألة، كعود
وصف الصحة، فإنه عند العرف يعد من عود التالف، لا حدوث
الوصف الآخر حتى يكون مضمونا.
ومن هذا القبيل عود كل وصف مشابه للزائل في الماهية

1 - حاشية المكاسب، المحقق الأصفهاني 1: 102 / السطر 27.
2 - حاشية المكاسب، المحقق الإيرواني 1: 103 / السطر 18.
3 - البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 1: 416.
261

والقيمة، لأنها هي في الاعتبار عند العرف والعقلاء، وقد عرفت تفصيل
ذلك مرارا في الكتاب حتى في العين التالفة، فإنه ما دام يوجد لها
الماثل الكلي ليست تالفة عند العرف.
وإن شئت قلت: لا ما لكية للمالك بالنسبة إلى الأوصاف
المماثلة في الرغبات، والمتحدة في الماهيات، حتى يكون بياض
العين مضمونا بالتلف فإذا صارت بيضاء فردها إليه، يكون عليه ضمانه
زائدا على ما وقع تحت يده.
وبالجملة: فضمانه قبل عوده بلا شبهة، وبعد العود أيضا كذلك، إلا في
بعض المواقف المشار إليها.
ولكنه مع ذلك كله يتقوى الضمان، ضرورة أنه لو عاد الوصف بعد
الرد إلى المالك، يكون ضمانه باقيا ولو كانت الصفة من الأوصاف
المذكورة، وقصور ما لكية المالك لو كان تاما، يلزم ذلك في الأوصاف
المتضادة أيضا غير المجتمعة في الوجود، فإنه لا يصح أن يقال بعدم
ضمان وصف البياض، إذا زال وطرأ وصف السواد المتفقين في القيمة،
مع أن المالك لا يعقل مالكيته لهما معا، فعليه يتعين - على حسب ما
يتراءى - ضمان جميع ما حدث في العين، سواء عاد، أم لم يعد.
ثم إن هذا مقتضى قواعد الشك، لأن الشك في سقوط الضمان بعد
ثبوته.
نعم، إذا حدث العيب، فزاد ثم عاد، فلا يجب إلا قيمة يوم الحدوث،
لا يوم الزيادة، لأصالة البراءة عن الزائد.
وتوهم: أن المضمون عنوان القيمة وهو لا يسقط إلا بالأكثر،
262

مدفوع لما بينهما من السببية، كما لا يخفى.
الثالث: في ضمان القيمة السوقية
الأوصاف كلها مضمونة إذا كانت مقومة عند العرف، سواء كانت
حقيقية، أو انتزاعية، أو اعتبارية، كعزة الوجود وكثرته. والاختلافات
السوقية إن رجعت إلى الصفة الاعتبارية في العين، تكون مضمونة،
وإذا كانت لتفاوت نفس السوق - بأن يكون بناء أهل سوق على الاجحاف
في القيمة، وبناء الآخرين على الانصاف فيها، مع اتحاد الأعيان من جميع
الجهات - فإنه حينئذ ليس الزائد مضمونا.
بل قد يتفق في بلد واحد ذلك الاختلاف المذكور، فكما أن الأزمنة
دخيلة في اختلاف القيم، كذلك الأمكنة.
ولكن المدار على مكان تعين القيمة، فلو تلفت العين في مكان،
وكانت القيمة مضمونة، فإن أوجب الشرع ردها بعد الضمان، تعين قيمة
محل التلف، وإلا فيتعين قيمة محل تعين التكليف وقد عرفت وجهه في
الزمان.
ولو اتفق مكان التكليف والتلف، واختلفت أسواقه في تعيين
القيمة - مثلا اشترى المالك ماله من السوق الذي فيه قيمته
خمسون، لأن الاشتراء منه له العنوان الخاص الراغبة فيه ضعاف
العقول، وهو في السوق الآخر عشرون - فإنه لا يبعد ضمان ذلك الوصف
أيضا، وللضامن إعطاء المثل مع رعاية الوصف المذكور.
263

هذا، ولكن المسألة بعد لا تخلو من نوع غموض.
الرابع: في بدل الحيلولة
إذا لم يتيسر رد العين إلى مالكها، إما لوجودها في يد قاهرة، أو
لأمر آخر، فمقتضى الاتفاق عدم وجوب المثل والقيمة، لظهور أدلتهما في
التلف، ويلحق به التلف العرفي.
وأما إذا كانت العين موجودة مرجوة العود إلى الضامن، فهي
- حسب تلك الأدلة - ليست مضمونة بالمثل والقيمة، فيصبر صاحبها
إلى أن يتيسر له ردها، وذلك لفهم العرف من المآثير الآمرة به في
الدين (1)، فإن النظرة إلى ميسرة لا تختص بموردها.
فما قد يقال: من لزوم بدل الحيلوية، ظنا أن الأدلة العامة، وإطلاق
الفتاوى في مسألة اللوح المغصوب في السفينة، ومناسبات الحكم
والموضوع، تقضي بذلك (2)، غير قابل للتصديق، ضرورة أن قاعدة السلطنة

1 - كما في رواية حنان بن سدير، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: يبعث يوم القيامة قوم تحت ظل
العرش وجوههم من نور ورياشهم من نور جلوس على كراسي من نور - إلى أن قال -:
فينادي مناد هؤلاء قوم كانوا ييسرون على المؤمنين، وينظرون المعسر حتى ييسر.
ورواية معاوية بن عمار قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من
أراد أن يظله الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله فلينظر معسرا أو ليدع له من حقه.
راجع وسائل الشيعة 18: 366 - 368، كتاب التجارة، أبواب الدين والقرض،
الباب 25، الحديث 1 - 9.
2 - المبسوط 3: 86، الخلاف 3: 409، ذيل المسألة 22، تذكرة الفقهاء 2: 396 / السطر 4.
264

أجنبية عن إيجاب التدارك وإثبات الضمان، وللضامن التمسك بها لمنع
تسليط المالك على البدل.
وأما قاعدة اليد، فهي - على ما تقرر عندنا (1) - ظاهرة في لزوم تدارك
الخسارة المتوجهة إلى المأخوذ، ولزوم رفع الموانع عن وصولها إلى
صاحبها، ولزوم إرجاعها إليه لو انتقلت إلى البلاد النائية، وتكون
الخسارة على المستولي، وأما إعطاء شئ عوضا وبدلا جبرانا للخسارة،
فهو غير مستفاد منها، كما لا يخفى.
وإن شئت قلت: يجب تدارك الخسارة المتوجهة إلى المالك من
قبل العين بحصول نقصان فيها وصفا، لا الخسارة المتوجهة إليه بعدم
كونها في يده، وعدم تسلطه عليها، وبالحيلولة بينه وبينها.
وأما قاعدة الاتلاف، فهي لا تدل إلا بالوجه الآتي في بيان اقتضاء
المناسبات ضمان البدل.
وأما قاعدة لا ضرر... فهي عندنا عامة نافية وناهية مشرعة،
توجب جبران الخسارة، وتثبت الضمان (2)، فهي لا تنفع في المقام، لأنه لا
ضرر من قبل الضامن.
نعم، يثبت بها وجوب الخسارة في الغاصب.
وتقريب الاستدلال: بأن الصبر إلى حين الوصول ضرر على

1 - تقدم في الصفحة 186 وما بعدها.
2 - تقدم في الصفحة 202 وما بعدها.
265

المالك (1)، مزاحم بأن إلزام البدل ضرر على القابض، فما هو المنفي
ليس الضرر غير المستند إلى أحد، حتى يجب تداركه من أموال
الآخرين، أو من بيت المال، فما أفاده السيد (رحمه الله) غير وجيه جدا.
وأما اقتضاء المناسبات ضمان البدل، بدعوى أن ضمان اليد
والتلف، لا خصوصية لهما إلا لأجل حصول الحيلولة بين المال وربه،
وفي الحقيقة ما هو السبب الوحيد للضمان هي الحيلولة، وهذا بلا فرق
بين المطلقة والمؤقتة، وبين المعلومة والمشكوكة والمظنونة،
فنفسها توجب الضمان، فلا بد من التدارك، إلا إذا كانت مدتها قصيرة
جدا (2).
فهو أيضا غير كاف، ضرورة أن ضمان اليد ليس عقلائيا في مورده،
فضلا عن الفروض الأخر، فالتعدي غير جائز، ولا تكون الحيلولة
المطلقة سببا للضمان، للزوم خروج الكثير من تحتها، كما لا يخفى.
وتمامية المدعى في الغصب، بفهم بناء العقلاء على إعطاء البدل
في الجملة، لا تفي بما هو المقصود بالأصالة في المقام، فلا تغفل، وتدبر
تدبرا تاما.
بل التزام العرف بتسليم البدل ممنوع، وغاية ما يلتزمون به تدارك
الخسارة برد الأرش، أي قيمة ما بين العين الموجودة في يد المالك،
وما ليست كذلك، أو برد الأجرة، أو برد ما كان ينتفع المالك به في أيام

1 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 106 / السطر 31.
2 - لاحظ البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 1: 437.
266

الحيلولة بانجبار خسارته الشخصية. ولو سلمنا تسليم البدل، فهو أحد
أفراد الواجب التخييري، ولا وجه لتعينه.
وتوهم: أن قضية الجمع بين الحقين تعين البدل (1)، غير تام،
لاستلزامه أولا: وقوع الغاصب أحيانا في الخسارة الزائدة، ولا دليل
على جوازها، وما اشتهر: أنه يؤخذ بأشق الحال (2) لا دليل عليه (3)، كما
صرح به الشيخ (قدس سره) (4).
وثانيا: إذا كان ملتزما بتدارك جميع ما يدعيه المالك، فلا حق له
حتى يلزم جمعه.
ثم إن تفصيل هذه المسألة - لاختصاصها بالغصب - في كتابه. فما
اشتهر من التزام جماعة ببدل الحيلولة في المقبوض بالعقد الفاسد،
غير تام.
لزوم بدل الحيلولة بناء على ضمان العين
نعم، بناء على كون العين مضمونة في العقد الفاسد، ولزوم تدارك

1 - مسالك الأفهام 2: 207 / السطر 41، جواهر الكلام 37: 77، المكاسب، الشيخ
الأنصاري: 111 / السطر الأخير، و 112 / السطر 1.
2 - انظر جامع المقاصد 6: 256، جواهر الكلام 37: 104.
3 - ويحتمل كونه مصطادا من معتبرة أبي ولاد، فإنه (عليه السلام) قال في مقام التشديد: لأنك
غاصب (أ) فتدبر] منه (قدس سره) [.
أ - تقدم في الصفحة 249 - 251.
4 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 114 / السطر 7.
267

خسارتها بالمثل والقيمة، فهو واجب أيضا فيما كان الضامن عاجزا عن
ردها عقلا وعرفا، بل وشرعا، بأن كان رده ضررا عليه، أو حرجا، أو
مستلزما لارتكاب المحرم الأهم، وذلك لعدم تقوم لزوم التدارك بالتلف
بعنوانه، لعدم أخذه بمفهومه في مفاد قاعدة اليد التي هي الدليل الوحيد
في المقام، فمن أخذ واستولى على مال الغير، عليه ذلك بشخصه، أو
بمثله وقيمته عندما لا يتمكن من أدائه ولو شرعا. وحكم العقلاء في هذه
المواقف، جبران الخسارة برد المثل أو القيمة بالوجه الذي مضى
تفصيله (1).
ولو أشكل في مفاد القاعدة بوجه تقرر، فقضية قاعدة الاقدام - على
ما عرفت تقريبها (2) - لزوم رد القيمة أو المثل إذا لم يتمكن من أداء
المضمون، فلا خصوصية للتلف، بل المدار على أمر آخر أوسع منه قطعا.
حول خروج العين التالفة عرفا عن ملك صاحبها وتملكه الغرامة
ثم إنه لا إشكال في خروج العين المقبوضة عن ملكه بالتلف
الحقيقي، فهل هي خارجة عنه في التلف العرفي؟ بعد عدم الاشكال في
عدم خروجها في الصورة الثالثة: وهي ما لم يتمكن الضامن من الرد
لعذر شرعي.
فيه وجهان: من أنها كالتالفة، ومن أنه لا دليل على أنها مثلها في

1 - تقدم في الصفحة 220 وما بعدها.
2 - تقدم في الصفحة 197 - 198.
268

جميع الجهات، فلا وجه لخروجها عنه. وقضية الاستصحاب بقاؤها.
وتوهم: أن ثبوت حق مطالبته المثل والقيمة، موقوف على
خروجه وإعراضه، غير مبرهن، بل العرف مساعد على الأمرين. ولو سلمنا
عدم مساعدته على الأول فمقتضى الأصل بقاؤها.
فعلى هذا، فهل يتملك الغرامة مع مالكيته للعين؟
أو يستباح له التصرف في الغرامة بجميع التصرفات، حتى
الموقوفة على الملك؟
أو تكون ملكيتها موقتة منجزة؟
أو معلقة أو متزلزلة، ويكفي في صحة التصرفات الناقلة
الملكية المعلقة والمتزلزلة، كما تكفي الإباحة المطلقة، على ما
مضى منا تحقيقه (1)، بل هو المشهور كما في المعاطاة؟
أو هو بالخيار بين الاعراض عن ماله، وتملكه الغرامة المثل
والقيمة؟
أو نفس تملكها يستلزم خروج العين عن ماله قهرا، قضاء لحق امتناع
الجمع بين العوض والمعوض؟
أو يفصل بين ما إذا أدى المثل، وبين ما أدى القيمة، فإنه في
الثاني ما يؤديه قيمته، فلا بد أن تخرج العين عن ملكه، وتدخل في ملك
الضامن، بخلافه في الأول، فإن أداء المثل لا يستلزم ذلك؟
وبعبارة أخرى: يمكن استيفاء المنافع من المثل، فأداؤه لا يستلزم

1 - لاحظ ما تقدم في الصفحة 117 وما بعدها.
269

زوال الملكية من الطرفين، بخلاف القيمة، فإنها غير قابلة للاستيفاء إلا
بالتصرف الناقل نوعا، فهي ملازمة للزوال من الجانبين؟
أو يقال بالتفصيل بين الصورة الثانية والثالثة، ففي التلف
الحقيقي فهي خارجة، ويتملك المالك الغرامة، دون الثالثة، فإن
العين في ملك صاحبها قطعا، وعلى الضامن أداء القيمة والمثل على
نعت التمليك، أو ما يقوم مقامه، حتى يتمكن المالك من أي تصرف شاء
في ذلك؟
فيه وجوه.
والذي يظهر لنا: أنه إذا أدى المثل والقيمة حسب نظر العرف، أو
قاعدة اليد والاقدام على ما عرفت، فهي خارجة عن ملكه، لأن لازمه
العرفي ذلك بلا إشكال وشبهة.
ومن هنا يظهر الفرق بين قول الأعلام ببدل الحيلولة، وبين قولنا
بالقيمة والمثل إذا كانت العين موجودة ممنوعة الرد بالشرع أو
العرف والعقل. مع أنه لا دليل لهم على ما يدعون، وقضية العمومات
ثبوت المثل والقيمة في الصور الثلاث.
ودعوى: أن بدل الحيلولة ليس إلا المثل والقيمة، ممنوعة، لأن
من الممكن إيجاب المثلي في القيميات بعنوان البدل، والقيمي في
المثليات، فإنه لو غصب مثلا حمارا، وكان المغصوب عند الأسد، ولا
يتمكن الغاصب من رده، أو يتمكن، ولكنه ممنوع شرعا، لاحتمال الخطر،
فإنه يجب بعنوان بدل الحيلولة تسليم الحمار أو البغل في أيام العذر،
وهذا غير المثل والقيمة المقصودين في الصورة الأولى والثانية
270

بالضرورة.
فبالجملة: جواز تعدي المضمون له بقبول المثل والقيمة، موقوف
على انصرافه عن حقه المتعلق بالعين المضمونة.
حكم صبر صاحب العين إلى أن يرتفع العذر
نعم، إذا كان يصبر إلى أن يرتفع العذر، فهل له على الضامن شئ،
أم لا؟ فيه وجهان، وقد قررنا في مسألة المنافع غير المستوفاة تقريب
قاعدة اليد (1)، إلا أن الأقوى عدم ثبوت شئ له عليه، والخسارة مستندة
إلى اختياره، كما في خيار العيب، ولا دليل في هذا المقام على جبران
مثلها، كما هو الظاهر.
ثم إن قضية ما سلكناه في هذا المضمار، سقوط الفروع المتفرعة
على مذهب القوم من القول ببدل الحيلولة، مع أنها كلها في كتاب
الغصب، وما أفاده الشيخ الأعظم (قدس سره) من اشتراك المسألتين في
الضمان (2)، وأن الجهة المبحوث عنها هناك العين بما هي مضمونة، لا
مغصوبة، وهي مشتركة، غير واف، لاختلاف نظر الشرع - فضلا عن
العرف - بين الغاصب والضامن. ويشهد له قوله (عليه السلام) في الصحيحة
السابقة: لا نك غاصب (3) فلا تغفل.

1 - تقدم في الصفحة 218.
2 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 114 / السطر 4.
3 - تقدم في الصفحة 249 - 251.
271

المقصد الثاني
في شروط المتعاقدين
273

الشرط الأول: البلوغ
على المشهور، بل المحكي عليه الاجماعات الكثيرة (1)، وفي
الجواهر: بل ربما كان كالضروري (2) انتهى.
والخلاف في حد البلوغ، لا يعد من المخالفة في هذه المسألة،
وتفصيله في كتاب الحجر، فلا يكون ابن الجنيد (رحمه الله) من المنكرين
لاشتراط البلوغ (3).
نعم، من عباراتهم يظهر وجود المخالف في المقام، وربما نسب
إلى الأردبيلي (قدس سره) (4) وحيث تكون المسألة ذات رواية، فلا تنفع هذه
الاتفاقات، كما لا يخفى.

1 - الغنية، ضمن الجوامع الفقهية: 523 / السطر 33، تذكرة الفقهاء 2: 73 / السطر 25.
2 - جواهر الكلام 22: 261.
3 - لاحظ مختلف الشيعة: 423 / السطر 14، جواهر الكلام 26: 16.
4 - جواهر الكلام 22: 261، المكاسب، الشيخ الأنصاري: 114 / السطر 28، مجمع
الفائدة والبرهان 8: 151 - 153.
275

حول دلالة آية ابتلاء اليتامى على شرطية البلوغ
ثم إن قضية العمومات، عدم شرطية شئ غير ما هو الدخيل في
وجود الموضوع، والبلوغ ليس منه قطعا.
وما هو الدليل على التقييد والتخصيص - مضافا إلى ما مضى -
الآية الشريفة في سورة النساء: (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن
آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) (1).
فإنها ظاهرة في شرطية البلوغ وزيادة، وهو الرشد، سواء قلنا: بأن
كلمة (حتى) ابتدائية، أو للغاية.
والتحقيق: أنها أجنبية عن المسألة، لأن البحث هنا حول عقد
الصبي، سواء كان يتيما، أو لم يكن، والآية ناظرة إلى حفظ أموال اليتامى
عن الضياع، وحفظ اليتامى عن الوقوع في المهالك، لأنهم إذا كانوا غير
رشيدين، ولا بالغين حد الرجال، تكون أموالهم مطمع أنظار السارقين
والخائنين، فلا بد من بلوغهم إلى حد يمكنهم الدفاع عن أنفسهم
وأموالهم، كسائر الناس، فلا يجوز تسليم مالهم إليهم وتسليطهم عليه،
وليست ناظرة إلى تصرفاته وعقوده وإيقاعاته.
ولعل المقصود من بلوغ النكاح ليس ما فهمه الجمهور، بل
المقصود هو بلوغ الزواج، وهو في السن الأكثر من البلوغ الشرعي.
ويشهد له قوله تعالى في ذيلها: (ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن

1 - النساء (4): 6.
276

يكبروا) (1).
فإنه لا يطلق الكبير على البالغ تسعا وخمسة عشر. ويؤيده
أنه إذا تزوجت أو تزوج، فكأنه يخرج من اليتم، ويتقوى بالمصاهرة، فلا
تخونه يد الخونة.
هذا مع أن من المحتمل قويا، كون الغاية داخلة في المغيا، وبذلك
يدفع توهم جواز دفع المال إلى البالغ غير الرشيد (2)، وتوهم كون
البلوغ قيدا وجزء (3)، فإن العقلاء لا يرون الدخيل إلا الرشد، فهذا سبب
لظهور الآية فيما ذكرناه، فلا ينبغي الغفلة عن مناسبات الحكم
والموضوع في المقام جدا.
والذي يؤيد ذلك: أن جواب الأمر قوله تعالى: (فإن آنستم)
فتكون جملة (حتى إذا بلغوا) من تتمة الجملة الأولى.
ولو سلمنا ظهور الغاية في خروجها عن المغيا كما لا يبعد، فلا نسلم
كونه دليلا على أنه جزء الموضوع، بل الظاهر - لأجل ما ذكرناه - كونه
أحد الموضوعين، أو كونه ملازما للرشد نوعا، فيكون الرشد تمام
الموضوع أيضا، إلا أنه قبل البلوغ لا بد من الاختبار، وبعده لا حاجة
إليه، لقيام الأمارة النوعية عليه، فلاحظ وتدبر جيدا.
ومما يشهد على أن الآية أجنبية عن بحث معاملة الصبي واليتيم،

1 - النساء (4): 6.
2 - البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 2: 5.
3 - لاحظ منية الطالب 1: 169 / السطر 23 - 24، البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 2: 7.
277

أن الظاهر منها كون إيناس الرشد تمام الموضوع لجواز الدفع، مع أن ما
هو الشرط في صحة المعاملة نفس الرشد، والالتزام بأنه جزء
الموضوع، يستلزم ضمان من عنده مال اليتيم، مع أنه محسن، و (ما على
المحسنين من سبيل) (1).
ولعمري، إن الأمر بالابتلاء ليس إلا لاستئناس الرشد، لا البلوغ، ولا
هما معا، والمقصود من الايناس ليس إلا أن يكون اليتيم غير مضيع
أمواله مع أصدقائه في مصارف غير صحيحة، فهي أجنبية عن المسألة،
خصوصا بعد ملاحظة أن أموال اليتامى، ليست موضوعة للتجارة إلا ندرة،
ودعوى أن المفروض في الآية ذلك، غير مسموعة.
التمسك ببعض الروايات الدالة على إرادة الرشد من الآية السابقة
ثم إن في الروايات ما يورث تعين احتمال السابق، وهي صحيحة
العيص بن القاسم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن اليتيمة متى
يدفع إليها مالها.
قال: إذا علمت أنها لا تفسد ولا تضيع.
فسألته: إن كانت قد زوجت؟
فقال: إذا زوجت فقد انقطع ملك الوصي عنها (2).

1 - التوبة (9): 91.
2 - الفقيه 4: 164 / 572، وسائل الشيعة 18: 410، كتاب الحجر، الباب 1،
الحديث 3.
278

فإنها ظاهرة في أن بلوغ النكاح هو الزواج، لا الاحتلام.
وفيها ما يشهد على أن المقصود، تسليم أمواله إليه بعد استئناس
الرشد، والتحفظ على ماله من الضياع، وهي الرواية المشار إليها
أيضا، وما رواه هشام عنه (عليه السلام) قال: انقطاع يتم اليتيم بالاحتلام، وهو أشده،
وإن احتلم ولم يؤنس منه رشده، وكان سفيها أو ضعيفا، فليمسك عنه وليه
ماله (1).
فإنها كالنص فيما سلكناه حول الآية الكريمة.
فبالجملة: لو كانت الآية مرتبطة بهذه المسألة، فهي تدل على أن
الرشد تمام الموضوع، ولو كانت دلالتها خفية على بعض، فهي صارت
جلية بعد مراعاة ما ورد حولها، فتكون موافقة للعمومات والأصول.
إن قلت: قضية الرواية الأخيرة أن الاحتلام جزء الموضوع (2).
قلت: وقضية الجمع بينها وبين قوله (عليه السلام): إذا علمت أنها لا تفسد
ولا تضيع حمله على المفروض فيها عدم رشده قبل الاحتلام، كما هو
كذلك نوعا.
هذا، والذي هو المقصود من الإطالة، نفي دلالتها على مذهب
المشهور، أو إثبات إجمالها وأجنبيتها عن أصل المسألة، وأما رأيهم
فلعله يدل عليه المآثير الأخر الآتية إن شاء الله تعالى.

1 - الكافي 7: 68 / 2، وسائل الشيعة 18: 409، كتاب الحجر، الباب 1،
الحديث 1.
2 - البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 2: 20.
279

المآثير التي يمكن الاستدلال بها على اشتراط البلوغ
ومما يمكن أن يستدل به على التقييد والتخصيص، روايات
متفرقة في الكتب المختلفة، وهي على طوائف:
بعضها ظاهر في أن الرشد تمام الموضوع.
وبعضها ظاهر في أنه أحد الموضوعين.
وبعضها ظاهر وهو الأكثر، في أنه جزء الموضوع، والبلوغ جزؤه
الآخر.
واستفادة كون البلوغ مجوز دفع المال عند الشك، أيضا ممكنة من
بعضها، ولكن المنصف المتدبر فيها لا يجد منها إلا أن كفاية الرشد
ممنوعة، بل لا بد من حصول قوتين: قوة في بدنه، فيصير من الرجال، وقوة
في نفسه، بأن يكون رشيدا، فلا بد من بلوغه أشده، وبلوغه رشده.
ومما يشهد على أن الجمع بين هذه الطوائف متعين، بحمل المطلق
منها على المقيد، ولا يمكن حمل المقيد على صورة عدم الرشد قبل
البلوغ، فيكون الرشد قبل البلوغ مجوز الدفع ومصحح المعاوضات: ما
رواه الصدوق بإسناده عن ابن أبي عمير، عن مثنى بن راشد، عن أبي بصير،
عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن يتيم قد قرأ القرآن، وليس بعقله بأس،
وله مال على يد رجل، فأراد الذي عنده المال أن يعمل به مضاربة، فأذن
له الغلام.
فقال: لا يصلح له أن يعمل به حتى يحتلم، ويدفع إليه ماله.
280

قال: وإن احتلم ولم يكن له عقل، لم يدفع إليه شئ أبدا (1).
نعم، التجاوز عن هذه المآثير إلى مطلق الصبي ممنوع،
لخصوصية في اليتامى، كما لا يخفى، فهي تقصر عما هو المقصود.
وأما المآثير الواردة في الجارية والغلام، فهي تمنع عن جواز
بيعهم وشرائهم وصدقتهم وغيرها (2)، بإلغاء الخصوصية، إلا أنها منصرفة

1 - الفقيه 4: 164 / 570، وسائل الشيعة 19: 367، كتاب الوصايا، الباب 45،
الحديث 5.
2 - منها ما رواه الصدوق قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إذا بلغت الجارية تسع سنين دفع
إليها مالها وجاز أمرها في مالها وأقيمت الحدود التامة لها وعليها.
الفقيه 4: 164 / 574، وسائل الشيعة 19: 367، كتاب الوصايا، الباب 45،
الحديث 4.
ومنها رواية حمران، عن أبي جعفر (عليه السلام) - في حديث - قال: إن الجارية ليست
مثل الغلام، إن الجارية إذا تزوجت ودخل بها ولها تسع سنين ذهب عنها اليتم، ودفع
إليها مالها وجاز أمرها في الشراء والبيع وأقيمت عليها الحدود التامة وأخذت لها
وبها، قال: والغلام لا يجوز أمره في الشراء والبيع، ولا يخرج من اليتم حتى يبلغ
خمس عشرة سنة أو يحتلم أو يشعر أو ينبت قبل ذلك.
الكافي 7: 197 / 1، وسائل الشيعة 18: 410، كتاب الحجر، الباب 2،
الحديث 1.
ورواية زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لا يدخل بالجارية حتى يأتي لها تسع
سنين أو عشر سنين.
الكافي 7: 68 / 5، وسائل الشيعة 18: 411، كتاب الحجر، الباب 2، الحديث 2.
ورواية أصبغ بن نباتة، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قضى أن يحجر على الغلام
المفسد حتى يعقل.
الفقيه 3: 19 / 43، وسائل الشيعة 18: 410، كتاب الحجر، الباب 1، الحديث 4.
281

عن الرشيد، لأن المتعارف عدم رشدهم قبل ذلك، بل ظاهر اللغة أن الإنس
بالرشد يورث انقطاع اليتم، فيكون الصبي والجارية خارجين موضوعا
عن الأدلة إذا كانوا رشيدين، فكأن هذه الصورة ليست في المآثير
والأخبار، وقضية الكتاب والسنة نفوذ تجارتهم فيها.
هذا كله لولا الضرورة المدعاة في المسألة (1)، والاجماعات
المحكية عليها (2).
إذا عرفت ذلك، فالبحث يتم هنا في ضمن فروع:
فروع
الفرع الأول: حول معاملات الصبي بإذن وليه
بناء على ممنوعية الصغير عن الاستقلال في أموره المالية، فهل
هو ممنوع في ماله ولو بإذن الولي، أم لا؟
أو فيه تفصيل بين من كان مستقلا فيها بإذنه، ومن كان آلة فيها، وهو
المتصدي لأمر التجارة وحدودها؟
الظاهر هو هذا، لأنه إذا كان آلة فهو كالحيوان المعلم في القبض

1 - جواهر الكلام 22: 261.
2 - مجمع الفائدة والبرهان 8: 151، جواهر الكلام 22: 260.
282

والاعطاء، ولا يعد ذلك بيعه وشراءه حتى يكون ممنوعا بالضرورة، فالأدلة
قاصرة عن شمول هذه المواضيع قطعا.
وإذا كان مستقلا في جميع تصرفاته، إلا أن ذلك بإذن الولي، فهو
كالمستقل، لأن الذي يفهم من الكتاب والسنة في هذه التحديدات
العقلائية والشرعية، هو حفظ أموال الصغار واليتامى، وبذلك لا يختلف
الأمر.
اللهم إلا أن يقال: هذا هو الأمر المحتوم في مال اليتيم، لأن
الرشد فسر في الرواية بحفظ المال (1)، ولكنه ممنوع في الصغير،
لأنه من المحتمل شرطية إذن الأب احتراما، كما في الباكر، بل قولهم:
أنت ومالك لأبيك (2) شاهد على أنه ممنوع لأجل ذلك، فمع إذنه يتم
شرائط نفوذها.
فعليه يلزم التفصيل في المسألة تارة: بين اليتامى والصغار،
بممنوعية الأولين مطلقا، بخلاف الآخرين، لانصراف أدلتها عمن كان رشيدا

1 - قد روي عن الصادق (عليه السلام) أنه سئل عن قول الله عز وجل: (فإن آنستم منهم رشدا
فادفعوا إليهم أموالهم)، قال: إيناس الرشد حفظ المال.
الفقيه 4: 164 / 575، وسائل الشيعة 18: 411، كتاب الحجر، الباب 2،
الحديث 4.
2 - محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لرجل: أنت ومالك
لأبيك.
عوالي اللآلي 3: 665 / 156، مستدرك الوسائل 13: 196، كتاب التجارة، أبواب
ما يكتسب به، الباب 62، الحديث 1.
283

عاقلا.
وأخرى: بين من كان مستقلا بإذنه، وبين من كان آلة للانشاء، بحيث لا
يكون له حكم من أحكام المعاملة حتى خيار المجلس، فإنه في هذه
الصورة لا يبعد نفوذ أمره.
الفرع الثاني: حول كفاية إجازة الولي بعد تصرف الصبي مستقلا
فيما لو تصرف الصبي مستقلا في أمواله، فهل يكفي إجازة الولي بعد
المعاملات من غير مراعاة المصلحة، أم لا يكفي، أو يفصل؟
والظاهر أن حكم هذه المسألة كما سبق، ضرورة أنه مع كونه
مستقلا يكون مشمولا لقوله: لا يجوز أمره (1) ومع توقف الصحة على
مراعاة الولي المصالح، فهو إما يخرج عن موضوع المسألة، لأنه لا يعد
حينئذ مستقلا، أو تكون الأدلة منصرفة عنه في هذه المواقف.
ويمكن دعوى نفوذ هذه المعاملات، لأنها بالإجازة تستند إلى

1 - حمران، عن أبي جعفر (عليه السلام) - في حديث - قال: إن الجارية ليست مثل الغلام، إن
الجارية إذا تزوجت ودخل بها ولها تسع سنين ذهب عنها اليتم ودفع إليها مالها وجاز
أمرها في الشراء والبيع وأقيمت عليها الحدود التامة وأخذت لها وبها، قال: والغلام لا
يجوز أمره في الشراء والبيع ولا يخرج من اليتم حتى يبلغ خمس عشرة سنة أو
يحتلم أو يشعر أو ينبت قبل ذلك.
الكافي 7: 197 / 1، وسائل الشيعة 18: 410، كتاب الحجر، الباب 2،
الحديث 1.
284

الأولياء، كما في الفضولي.
ولكنها فاسدة بالضرورة، ولذلك لا معنى لوكالته عنهم في تصرفاته
في أمواله، لعدم مساعدة الاعتبار كما لا يخفى، فما ترى في كلماتهم من
التوكيل (1)، فهو محمول على الفروع الآتية.
ومما يشهد على فسادها: أن المقصود من الولاية المجعولة حفظ
أموال الصغار، وهو لا يمكن إلا بدخالة الولي في الصلاح والفساد.
ولكنه على ما عرفت منا، مخصوص باليتامى، ولا معنى له في هذه
الصورة، خصوصا إذا أعطاه الولي من ماله إليه تمليكا، ثم أمره بالبيع
والشراء، ناظرا إلى المصالح الأخر غير مصلحة البيع والشراء، فلا
تخلط.
وتوهم دلالة الآية الشريفة على صحة هذه المعاملة، لأن
الابتلاء متوقف عليها (2)، فاسد، بداهة أن التوقف عليها أعم من الصحيح
والفاسد.
حكم معاملات الصبي فيما إذا أنس منه الرشد بالاختبار
نعم، إذا أنس منه الرشد فيما أتى به اختبارا، فهل هو صحيح لازم،
لاجتماع الشرائط، أم لا؟

1 - لاحظ المكاسب، الشيخ الأنصاري: 116 / السطر 6.
2 - لاحظ مجمع الفائدة والبرهان 8: 151 - 152، منية الطالب 1: 170 /
السطر 12.
285

قضية الصناعة هو الأول، إلا أن الاشكال في جواز الاختبار بماله.
وإذا كان بمال غيره فهو متوقف على إجازته.
ولو خالف الولي وعصى، وأعطاه ماله للاختبار، فتبين رشده بها،
بحيث علم أنه كان رشيدا قبل ذلك، فهل تبطل أم تصح؟.
فيه وجهان، لا يبعد الثاني، لعدم الوجه للسراية.
حول تصحيح معاملة الصبي بالوكالة
إن قلت: الوكالة لا تعتبر في تصرفات الصبي في أمواله، مع أنه لو
صحت الوكالة يصح غيرها، فلا حاجة إلى إثبات استناد أفعاله إلى
وليه. ولو لم تصح وكالته - لأنه من الأمر غير الجائز - لا تصح غيرها،
لاستناده إليه قهرا.
اللهم إلا أن يقال: بصحة الوكالة فقط، دون مثل البيع والشراء،
ولكن النيابة معتبرة، فيكون نائبا عنه في هذه الأمور، ولا تستند حينئذ
أفعاله إلا إلى المنوب عنه.
قلت أولا: نفوذ هذه النيابة ممنوع.
وثانيا: جريان هذه الماهية الاعتبارية هنا - كالوكالة - ممنوع.
وثالثا: الولي نائب عن المولى عليه، ولو عكس الأمر يلزم القول:
بأن النيابة شرعية وغير شرعية، فالولي نائب شرعا، والصغير نائب
بحكم الولي، فلو كانت نيابة الصغير مستلزمة لانتساب أفعاله إلى
المنوب عنه، يلزم ذلك في عكسه، والتفريق بين لوازم الماهيات
286

الاعتبارية يحتاج إلى دليل، فتكون معاملة الولي غير نافذة، ومعاملة
الصبي نافذة. بل يلزم عدم نفوذها في الفرضين، كما لا يخفى.
نفي الاجماع على بطلان معاملة الصبي
فبالجملة: دعوى الاتفاق على عدم صحة عقد الصبي مع الإذن
والإجازة (1)، غير مسموعة، لذهاب مثل الأردبيلي (رحمه الله) إليها، بل ظاهر
المسالك دعواه على بطلان عقد غير الرشيد (2)، وهذا هو المقطوع به
دليلا وعرفا.
بل ربما يستظهر من العبارة المحكية عن الأردبيلي (قدس سره) رفع المنع
عن صحته مستقلا، لما قال: وبالجملة إذا جوز عتقه وصدقته ووصيته
المعروف وغيره من القربات - كما هو ظاهر الروايات الكثيرة - لا يبعد
جواز بيعه وشرائه وسائر معاملاته، إذا كان بصيرا مميزا رشيدا، يعرف
نفعه وضره في المال، وطريق الحفظ والتصرف، كما نجده في كثير من
الصبيان، فإنه قد يوجد فيهم من هو أعظم في هذه الأمور من آبائهم، فلا
مانع من إيقاع العقد، خصوصا مع إذن الولي وحضوره بعد تعيينه
الثمن (3) انتهى.

1 - لاحظ جواهر الكلام 22: 260 - 261.
2 - مسالك الأفهام 1: 134 / السطر 11.
3 - مجمع الفائدة والبرهان 8: 152.
287

وتوهم المنافاة بين نفوذ عقده، وولاية الأب والجد عليه (1)، مندفع
بأن ذلك لا ينافيها، إذا أمكن لهم فسخ العقد فيما يجدون خلاف مصلحته في
العقد، فلا يشترط الصحة بالإذن في هذه الصورة، ولا تكون ولايتهم
منقطعة قبل البلوغ.
ومن عجيب ما توهم: أن سقوط التكاليف الالزامية - من وجوب
الوفاء والتسليم وأداء الأرش - ينافي صحته (2)!!
وأنت خبير: بأن العقد مع البالغ الباني على عدم الوفاء باطل، ومع
الرشيد غير البالغ الباني على ترتيب الآثار صحيح، فلا تغفل.
ولو تخلف فللآخر إعمال الخيار، سواء كان رشيدا بالغا، أو غير
بالغ، بل نسب إلى الشيخ جواز بيع من بلغ عشرا (3). والتدبر في
المسألة يعطي أن ذلك ليس لأجل اختيار البلوغ كذلك، بل الظاهر من
عبارته (4) وعبارة العلامة في التحرير (5) والصيمري اختصاص
الحكم بالبيع (6)، فتدبر.
فدعوى: أن المسألة إجماعية (7)، ممنوعة، بل صريح جامع

1 - منية الطالب 1: 171 / السطر 2.
2 - لاحظ هداية الطالب: 247 / السطر 26.
3 - لاحظ مفتاح الكرامة 4: 170 / السطر 14، جواهر الكلام 22: 260.
4 - لاحظ المبسوط 2: 163.
5 - تحرير الأحكام 1: 164 / السطر 10 - 11.
6 - لاحظ مقابس الأنوار: 109 / السطر 27.
7 - جواهر الكلام 22: 260 - 261.
288

المقاصد نفي البعد عن كون بناء المسألة على أن أفعال الصبي
وأقواله شرعية، أم لا (1)، بل الأردبيلي (رحمه الله) قد منع في طي كلامه الاجماع
أيضا (2). مع أنها ذات رواية وآية، فلا تذهل.
وما قيل: من أن البطلان متفق عليه بين المسلمين (3) مردود، هذا
أبو حنيفة فإن من تقاسيمه يظهر صحة العقد الذي فيه النفع البين،
كقبول الهدية، والدخول في الاسلام (4).
نعم، سائر الطوائف قالوا بالصحة مع الإذن والإجازة إلا
الشافعي (5)، فإنه جعله مسلوب العبارة، كما هو المعروف بيننا.
ذنابة: في المآثير التي قد يستدل بها على سلب عبارة الصبي
قد يستدل على أنه مسلوب العبارة بطوائف من المآثير والأخبار:
الطائفة الأولى: ما تدل على أنه مرفوع عنه القلم، ففي الخصال
بإسناده عن ابن ظبيان الوضاع الجعال الكذاب (6) قال: أتي عمر بامرأة

1 - جامع المقاصد 5: 185 / السطر 16.
2 - مجمع الفائدة والبرهان 8: 153.
3 - لم نعثر عليه، لاحظ جواهر الكلام 22: 260 - 261.
4 - الفقه على المذاهب الأربعة 2: 363.
5 - الفقه على المذاهب الأربعة 2: 365.
6 - قال ابن الغضائري في حقه: غال، وضاع للحديث، روى عن أبي عبد الله (عليه السلام)،
لا يلتفت إلى حديثه.
وقال النجاشي: ضعيف جدا، لا يلتفت إلى ما رواه.
وروى الكشي عن الفضل أنه قال: الكذابون المشهورون، أبو الخطاب ويونس بن
ظبيان و....
لاحظ اختيار معرفة الرجال: 546 / 1033، رجال النجاشي: 448 / 1210،
مجمع الرجال 6: 284.
289

مجنونة قد زنت، فأمر برجمها.
فقال (عليه السلام): أما علمت أن القلم يرفع عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم،
وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ؟! (1).
وفي حدود الوسائل عن إرشاد المفيد قال: روت العامة
والخاصة أن مجنونة فجر بها رجل، وقامت البينة عليها، فأمر عمر
بجلدها الحد.
فمر بها علي أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: ما بال مجنونة آل فلان
تقتل؟.
فقيل له: إن رجلا فجر بها فهرب، وقامت البينة عليها، فأمر عمر
بجلدها.
فقال لهم: ردوها إليه، وقولوا له: أما علمت أن هذه مجنونة آل فلان،
وأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: رفع القلم عن المجنون حتى يفيق...؟! (2).

1 - الخصال: 93 - 94 / 40، وسائل الشيعة 1: 45، كتاب الطهارة، أبواب مقدمة
العبادات، الباب 4، الحديث 11.
2 - وسائل الشيعة 28: 23، كتاب الحدود والتعزيرات، أبواب مقدمات الحدود
وأحكامها العامة، الباب 8، الحديث 2.
290

وقال الشيخ في سرقة المبسوط: روى علي (عليه السلام) عن رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم): رفع القلم عن ثلاثة... إلى آخره (1).
ولا يبعد اشتهار الحديث بين أرباب التصانيف من القدماء،
مستدلين به في مواقف كثيرة، وبعد اتحاد واقعة عمر يعلم: أن ما في ذيل
الخصال يكون في ذيل الإرشاد (2) وبعد شهادة المفيد يشكل صرف
النظر عنه، فدعوى الوثوق بصدوره غير بعيدة.
وقد ورد في ذيل رواية أبي البختري في قصاص الوسائل بعد
ذكر المجنون والصبي: وقد رفع عنهما القلم (3).
وغاية ما يقال أو يمكن قوله: أن هذه المآثير تدل على أن الإرادة
الاستعمالية في القوانين التأسيسية والامضائية الشاملة لكل أحد
- ومنه الصبي - غير مطابقة للإرادة الجدية، وتكون الثلاثة خارجة
منها. والاختصاص بالعقوبات الأخروية، ينافيه موردها من رفع العقوبة
الدنيوية بها من الحدود وغيرها. وإثبات بعضها لدليل لا يضاد إطلاقه،
لعدم إباء لسانه عن التقييد، كما ثبتت العقوبة الأخروية لأطفال
الكفار حسب النص والفتوى.
ووحدة السياق تدرج الأول في الثاني والثالث في مسلوبية

1 - المبسوط 8: 21.
2 - الإرشاد، الشيخ المفيد: 203.
3 - قرب الإسناد: 155 / 569، وسائل الشيعة 29: 90، كتاب القصاص، أبواب
القصاص في النفس، الباب 36، الحديث 2.
291

العبارة، كما لا يخفى. وإسناد الرفع إلى القلم حقيقي، وإخبار عن
ترفعه عن الكتابة لهم، فلا مكتوب في حقهم أصلا. ولا معنى
لاختصاصه بموارد المنة، لأنه ليس علة، بل الظاهر قصور
المقتضيات فيه كما في أخويه.
وجه منع دلالة الطائفة السابقة
أقول: الالتزام بالاطلاق، ثم التقييد في كثير من المواقف - بعد
اقتضاء المناسبة بين الحكم والموضوع عدمه، لفهم العرف ذلك منه -
مشكل، بل ممنوع، فإن الظاهر أن القلم مرفوع عنهم، لصباه، ولجنونه،
ولنومه، وجامعه عدم الشعور، ومن عليه القلم هو الكبير العاقل
المنتبه، لما فيه الشعور والادراك، فكل تكليف ثابت للكبير بما هو مدرك
عاقل، مرفوع عن الصغير، وما يثبت له بما هو انسان، فهو لا يرفع عنهم،
فالأحكام الوضعية والضمانات وصحة العقود والايقاعات وأمثالها،
ليست مورد الرفع، وما ترى في موردها فهو لأجل أنها زنت لا عن عصيان
لا ترجم، لعدم السبب المورث لاستحقاقها الرجم، فعلى هذا تنحصر
العقوبات بالارتفاع، دنيوية كانت، أو أخروية، لارتفاع السبب الوحيد
وهو التكليف وثقل الكلفة.
إن قلت: لو سلمنا دلالته على مسلوبية العبارة، فلا يدل على نفي
الصحة التأهلية، فإنها ليست مجعولة حتى ترفع به، فلو أذن الولي
292

وأجاز صحت عقوده.
قلت: ليست الصحة مطلقا مجعولة، وما هو المجعول أمر آخر، وهو
ممكن، كما في الفضولي.
لا يقال: الدية ثابتة، وهي العقوبة الدنيوية.
لا نا نقول أولا: إن المتبادر هي العقوبة النفسانية، لا
المالية.
وثانيا: لا تعد الدية من المؤاخذة والعقوبة، ضرورة بشاعة
قوله: من أتلف مال الغير فهو يعاقب ويؤاخذ في ماله.
وثالثا: نلتزم بالتخصيص من غير لزوم إشكال.
إن قيل: لا معنى لرفع غير الثابت، والمجنون والنائم وأكثر
الصبيان، خارجون عن الأدلة الالزامية، لقبح الخطاب بالنسبة إليهم،
بل وامتناعه، فما هو الثابت ويساعد عليه الاعتبار هي الوضعيات، وفي
رفعها امتنان عليهم، لبراءتهم من تدارك الخسارات بعد الكبر والعقل
والانتباه، وهذه منة قطعا، وإرفاق في حقهم.
قلنا: الأوصاف المأخوذة في الدليل شرائط التنجيز، لا توجيه
الخطاب، فالرفع إخبار - كما أشير إليه - عن حدود الإرادة الجدية بعد
شمول الأدلة لهم.
وتوهم: أن الخطاب غير معقول، في غير محله، لأن ما هو الممنوع
عقلا هو الخطاب الشخصي الخاص، بهم دون الخطابات الكلية
293

القانونية، وبيان الفرق بينهما في محل آخر (1).
ثم إن هنا وجها آخر لعدم دلالة الحديث على بطلان عبارة الصبي:
وهو أن الشريعة الاسلامية مركبة من القوانين التأسيسية والامضائية
فعليه يختص المرفوع بالأولى، وتكون الرواية مقابل ما ورد في
المآثير: من أنه إذا بلغ كتبت عليه السيئات، وجرى عليه القلم (2).
الطائفة الثانية: الروايات المشتملة على التسوية بين عمد
الصبي وخطئه، وهي كثيرة:
فمنها: معتبرة ابن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: عمد الصبي وخطأه
واحد (3).
وقد يشكل الاتكال على إطلاقها، لما ورد في روايات هذه العبارة
بألفاظها مذيلة بقولهم: تحمله العاقلة أو يحمل على العاقلة
المخصوص ذلك بالجناية في الجملة، فعليه يصح للمتكلم الاتكال
على القرينة المعروفة عنه في سائر عباراته، مع وجود القرائن الأخر.
والالتزام بإطلاق الذيل يورث الفقه الجديد، أو خروج الكثير جدا.
هذا مع أنه فرق بين أن يقال: عمد الصبي خطأ وبين أن يقال: هو

1 - لاحظ تحريرات في الأصول 3: 437 وما بعدها.
2 - وسائل الشيعة 1: 45، كتاب الطهارة، أبواب مقدمة العبادات، الباب 4،
الحديث 12، و 19: 363، كتاب الوصايا، الباب 44، الحديث 8.
3 - تهذيب الأحكام 10: 223 / 920، وسائل الشيعة 29: 400، كتاب الديات،
أبواب العاقلة، الباب 11، الحديث 2.
294

وخطأه واحد فإنه في الأول يثبت جميع أحكام الخطأ لعمده، سواء كانت
ثبوتية، كما في الجنايات، أو سلبية، كما في غيرها، وفي الثانية لا يثبت
أحكام خطأ الناس لعمده، لأن ما هو المنزل عليه هو خطؤه، فما يثبت
لخطئه بالخصوص يسري إلى المنزل، وهو عهده.
وبالجملة: فلا معنى للاطلاق في المنزل عليه، حتى يصح الاستناد
إليه في المقام.
ولعمري، إن الغفلة عن هذه النكتة ألجأتهم إلى إطالة البحث
حول ثبوت الاطلاق وعدمه بما لا يرجع إلى محصل، فتأمل.
إن قلت: قضية ضعيفة وهب بن وهب أبي البختري، عن جعفر، عن
أبيه، عن علي (عليهم السلام): أنه كان يقول في المجنون، والمعتوه الذي لا يفيق،
والصبي الذي لم يبلغ: عمدهما خطأ تحمله العاقلة، وقد رفع عنهما القلم (1) هو
انسلاب عبارته، وأن قصده كلا قصد، وذلك لظهور الجملة الأخيرة في
كونها علة للتسوية بين العمد والخطأ، فعليه يعلم دلالة حديث الرفع (2)
على المقصود. ولو كان رفع القلم معلول التسوية، فهو أيضا دليل على
المطلوب.
قلت: مقتضى ما عرفت أن المنزل عليه مطلق الخطأ، فيترتب على

1 - وسائل الشيعة 29: 90، كتاب القصاص، أبواب القصاص في النفس، الباب 36،
الحديث 2.
2 - الخصال: 417 / 9، وسائل الشيعة 15: 369، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس
وما يناسبه، الباب 56، الحديث 1.
295

العمد آثاره الثبوتية، وهي حمل العاقلة، وآثاره السلبية، وهي رفع
القلم، فتكون الجملة الثانية معطوفة. ولو فرضنا ظهورها في الحالية
- كما لا يبعد لكلمة قد - فهو دليل تحمل العاقلة، أي لا يجب عليه
التحمل، للرفع، ولا يكون دليلا على التنزيل كما قيل (1).
فبالجملة: أثر التنزيل رفع القصاص، وإثبات تحمل العاقلة بعد
لزوم حفظ الدماء بحديث الرفع، فافهم ولا تغفل.
الطائفة الثالثة: بعض الأخبار المروية في الكتب المختلفة، مثل
رواية عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا بلغ أشده ثلاث عشرة
سنة، ودخل في الأربع عشرة، وجب عليه ما وجب على المحتلمين، احتلم أو
لم يحتلم، وكتب عليه السيئات، وكتبت له الحسنات، وجاز له كل شئ، إلا أن
يكون ضعيفا أو سفيها (2).
وظاهرها لأجل قوله: كتبت له الحسنات عدم كتابة شئ له قبل
البلوغ، حتى الحسنة، فلا يقبل عباداته ولا غيرها، ولأجل قوله: جاز له
كل شئ عدم جواز كل شئ قبله حتى العبادة، والآلية في إيجاد العقد
بالصيغة أو الفعل، وغيره من كل شئ. ولولا ضعف السند، وإعراض
المشهور عن الصدر، لكان العمل بذيلها متعينا.

1 - البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 2: 27 - 28.
2 - الفقيه 4: 164 / 571، وسائل الشيعة 19: 364، كتاب الوصايا، الباب 44،
الحديث 11.
296

اللهم إلا أن يدعى: أن المفهوم لا يدل إلا على المهملة،
والحسنات لا تطلق على العقود والايقاعات إلا بعض منها، فلا يتم
الاستدلال كما لا يخفى.
فما في معتبرة عبد الله بن سنان، عنه (عليه السلام) قال: إذا بلغ الغلام ثلاث
عشرة سنة كتبت له الحسنة... (1) إلى آخره، ويفيد المفهوم السلب
الكلي، لوقوع النكرة في سياق النفي، لا يفيد شيئا، فليتدبر.
ومنها: ما في رواية العياشي، عن عبد الله بن سنان، عنه (عليه السلام) قال:
إذا بلغ ثلاث عشر سنة جاز أمره، إلا أن يكون... (2).
فإن المفهوم يورث عدم جواز أمره سواء كان وكالة أو غيرها،
فكونه آلة لأمر الغير لا يخرج من انطباق عنوان عليه، ولذلك يصح له أخذ الأجر حذاءه.
بل المستفاد من بعض الروايات معهودية عدم نفوذ أمره، ففي

1 - تهذيب الأحكام 9: 184 / 741، وسائل الشيعة 19: 365، كتاب الوصايا،
الباب 44، الحديث 12.
2 - عبد الله بن سنان قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) متى يدفع إلى الغلام ماله؟ قال: إذا بلغ
وأونس منه رشد ولم يكن سفيها ولا ضعيفا، قال: قلت: فإن منهم من يبلغ خمس
عشرة سنة وست عشرة سنة ولم يبلغ، قال: إذا بلغ ثلاث عشرة سنة جاز أمره إلا أن
يكون سفيها أو ضعيفا، قال: قلت: وما السفيه والضعيف؟ قال: السفيه الشارب
الخمر والضعيف الذي يأخذ واحدا باثنين.
تفسير العياشي 1: 155 / 521، وسائل الشيعة 19: 370، كتاب الوصايا،
الباب 46، الحديث 2.
297

رواية ابن سنان، عنه (عليه السلام) قال: سأله أبي وأنا حاضر عن اليتيم، متى يجوز
أمره.
قال: حتى يبلغ أشده... (1).
وقضية الاطلاق عدم الفرق بين صور المسألة. ولو قلنا باختصاص
الثانية باليتيم، وتكون منصرفة إلى تصرفاته في أمواله، لما كان وجه
للاشكال في الأولى.
وجه الخدشة في المآثير المتقدمة
أقول: الروايات المعتبرة في هذه المسألة - لذاتها، أو لانجبار
ضعفها - ما هو المشتمل على نفوذ أمر الصبي في البيع والشراء، ونفوذه
في غيرهما بإلغاء الخصوصية، أو الاجماع، وأما فيمن كان آلة، أو كان
الولي مشرفا على أفعاله وأقواله فلا وجه لهما، ولا إطلاق في معاقد
الاجماعات حتى يستلزم انجبار تلك المطلقات، على إشكال فيه.

1 - عن أبي الحسين الخادم بياع اللؤلؤ، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:
سأله أبي - وأنا حاضر - عن اليتيم متى يجوز أمره؟ قال: حتى يبلغ أشده، قال: وما
أشده؟ قال: احتلامه. قال: قلت: قد يكون الغلام ابن ثمان عشرة سنة أو أقل أو
أكثر ولم يحتلم، قال: إذا بلغ وكتب عليه الشئ جاز أمره، إلا أن يكون سفيها أو
ضعيفا.
الخصال: 495 / 3، وسائل الشيعة 18: 412، كتاب الحجر، الباب 2، الحديث 5.
298

إن قلت: عن الغنية دعوى الاجماع (1)، وعن كنز العرفان نسبة
عدم صحة عقد الصبي إلى أصحابنا (2)، وعن التذكرة: أن الصغير
محجور عليه بالنص والاجماع، سواء كان مميزا، أو لا، في جميع
التصرفات إلا ما استثني، كعباداته، وإسلامه، وإحرامه، وتدبيره،
ووصيته، وإيصال الهدية، وإذنه في الدخول، على خلاف في ذلك (3)
انتهى.
واستظهر الشيخ من استثناء الأخيرين إطلاق معقده (4).
ولو قيل: بأنهما من التصرف، وأي تصرف أعظم من إذنه في الدخول
مع عدم وجود صاحب الدار فيها؟!
قلنا: قضية إطلاق المستثنى إطلاق المستثنى منه، فإيصال الهدية
- سواء كان فيما يستلزم اعتبار قوله وصحة إقباضه، أو كان كالحيوان آلة -
يكون مستثنيا، فلا تغفل.
قلت: لو صحت دعوى الاجماع، لكان على الشيخ في الخلاف
دعواه، مع أنه تشبث بالآية والرواية (5).

1 - مفتاح الكرامة 4: 170 / السطر 13، الغنية، ضمن الجوامع الفقهية: 523 /
السطر 34، و: 532 / السطر 5.
2 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 114 / السطر 9، كنز العرفان 2: 102.
3 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 114 / السطر 9، تذكرة الفقهاء 2: 73 / السطر 25.
4 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 114 / السطر 11.
5 - الخلاف 3: 287 - 289، المسألة 7.
299

وأما إجماعات الغنية فهي - على ما أفاده في أول كتابه (1) - ليست
من الاجماع المصطلح عليه عند الآخرين. مع أن في عبارته إشكالا آخر،
فراجع.
وأما استكشاف الاجماع من التذكرة فهو ممنوع، لعدم اتكائه
عليه في أصل المسألة، وقد أعرض عنه واستدل بغيره، فراجع وتدبر.
إن قيل: رواية ابن سنان معتبرة، لأن الخصال رواها بسند صحيح
عن البزنطي، وهو عن أبي الحسين الخادم بياع اللؤلؤ، عن عبد الله بن
سنان، وأبو الحسين هذا هو عندي - على ما تحرر في محله (2) - آدم بن
المتوكل الثقة، ولو كان غيره ففي رواية أحمد بن محمد بن عيسى، عن
البزنطي، عنه، شهادة على وثاقته واعتباره.
ومقتضاها عدم جواز أمره سواء كان بيعا، أو وكالة، وعلى الثاني
سواء كانت وكالة في أموال الغير، أو عن وليه في إجراء العقد، فإنه أيضا
وكالة قهرا، كما لا يخفى.
قلنا: نعم، إلا أن دعوى انصرافها عن هذه الصورة قريبة جدا. مع أن
أمر اليتيم في ماله غير أمر الصبي، كما مضى سبيله (3).

1 - الغنية، ضمن الجوامع الفقهية: 477 / السطر 35.
2 - لعله في فوائده الرجالية وهي مفقودة.
3 - تقدم في الصفحة 276.
300

بحث وتفصيل: في نفوذ أمر الصبي مطلقا إلا ما خرج بدليل
قضية ما مر قصور الأدلة عن إبطال قول الصبي إلا في
الجملة، ولو كان الأمر كما أفاده القوم، فهو لأجل قصور المقتضي،
كما في المجنون والنائم، لا للمانع، وعليه لا وجه للتخصيص مع
ورود المآثير الكثيرة في صحة طلاقه (1) ووصيته (2)، بل وتدبيره (3)

1 - جميل بن دراج عن أحدهما (عليهما السلام) قال: يجوز طلاق الغلام إذا كان قد عقل وصدقته
ووصيته وإن لم يحتلم.
تهذيب الأحكام 9: 182 / 733، وسائل الشيعة 19: 212، كتاب الوقوف
والصدقات، الباب 15، الحديث 2.
2 - عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إذا بلغ الغلام عشر سنين
جازت وصيته.
الكافي 7: 28 / 3، وسائل الشيعة 19: 362، كتاب الوصايا، الباب 44، الحديث 3.
عبد الرحمن بن أبي عبد الله، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا بلغ الصبي خمسة أشبار
أكلت ذبيحته وإذا بلغ عشر سنين جازت وصيته.
تهذيب الأحكام 9: 181 / 726، وسائل الشيعة 19: 362، كتاب الوصايا،
الباب 44، الحديث 5.
3 - لم نعثر على خبر في صحة تدبيره، لكن الشيخ (رحمه الله) قال بصحة تدبير الصبي إذا كان
مميزا عاقلا مراهقا وقال قيده أصحابنا بما إذا بلغ عشر سنين فصاعدا إذا كان عاقلا،
وقال: دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم على أن الصبي إذا بلغ عشر سنين صحت
وصيته وتدبيره ووصيته.
الخلاف 2: 672، المسألة 21.
301

وعتقه (1) ووقفه (2) وصدقته (3) وإعارته (4)، بل وشهادته (5)، وقد عقد في
الوسائل بابا لذلك. والاشكال في بعض منها - مع ذهاب جمع إلى صحتها
منه - لا يورث انتفاء الوهن.
فعلى هذا، يمكن دعوى صحة جميع عقوده وإيقاعاته، إلا ما خرج
بالنص، وهو البيع والشراء وما شابههما، مما يرتبط بالمال، على إشكال فيه.
نعم، اليتيم مخصوص بالحكم، لاقتضاء الاعتبار، واختصاصه
بالذكر في النصوص والأخبار.

1 - زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إذا أتى على الغلام عشر سنين فإنه يجوز له من ماله
ما أعتق وتصدق على وجه المعروف فهو جائز.
وسائل الشيعة 23: 91، كتاب العتق، الباب 56، الحديث 1.
2 - زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إذا أتى على الغلام عشر سنين فإنه يجوز في ماله
ما أعتق أو تصدق أو أوصى على حد معروف وحق فهو جائز.
الكافي 7: 28 / 1، وسائل الشيعة 19: 211، كتاب الوقوف والصدقات،
الباب 15، الحديث 1.
3 - محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سئل عن صدقة الغلام ما لم يحتلم، قال:
نعم إذا وضعها في موضع الصدقة.
تهذيب الأحكام 9: 182 / 734، وسائل الشيعة 19: 212، كتاب الوقوف
والصدقات، الباب 15، الحديث 3.
4 - لم نعثر عليه، لاحظ جواهر الكلام 27: 161.
5 - ابن أبي عمير، عن جميل قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): تجوز شهادة الصبيان؟ قال:
نعم، في القتل يؤخذ بأول كلامه ولا يؤخذ بالثاني منه.
تهذيب الأحكام 6: 251 / 645، وسائل الشيعة 27: 343، كتاب الشهادات،
الباب 22، الحديث 1.
302

المآثير الدالة على النفوذ مطلقا
وفي المآثير ما يدل على نفوذ أمر الصبي، ففي الوسائل:
النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
عن كسب الإماء، فإنها إن لم تجد زنت، إلا أمة قد عرفت بصنعة يد، ونهى عن
كسب الغلام الصغير الذي لا يحسن صناعة بيده، فإنه إن لم يجد سرق (1).
تقريب الاستدلال: أن المراد من كسب الغلام إما الكسب مع
الغلام، وإما اكتساب الغلام نفسه مع غيره من المكلفين، أو مكسوب
الغلام، أي الحاصل في يده من الكسب، أو مكسوبه، أي الحاصل في
يده بالمعنى الأعم ولو كان بطريق الالتقاط والحيازة، أو الاكتساب الأعم
من الصحيح والفاسد شرعا، وإن كان كسبا بالمعنى العرفي الأعم.
والنهي إما تحريم، أو تنزيه، أو إرشاد إلى الفساد.
وكلمة الفاء إما تفيد العلة، أو الحكمة.
وعلى جميع التقادير: لما كان القيد المذكور مفيدا للمفهوم عرفا في
المقام، يعلم منه: أن عمل الصبي في الجملة نافذ، وقضية التقييد
بحسن الصنعة، أن المورد المتيقن من الرواية، ما كان الصبي مستقلا
في أمره واقعا، أو بإعطاء وليه. وكون المراد من الكسب المكسوب
بعيد، وخلاف الظاهر.

1 - تهذيب الأحكام 6: 367 / 1057، وسائل الشيعة 17: 163، كتاب التجارة،
أبواب ما يكتسب به، الباب 33، الحديث 1.
303

بل الظاهر كما فهمه الوسائل أن المقصود الكسب مع الصبيان
ومع من لا يجتنب المحارم (1)، فإن ذلك ربما يستلزم خسارتهما، فيقعان فيما
أشير إليه فيها.
والظاهر أن الجملة الأخيرة حكمة الجعل، لا علة المجعول،
فتكون الرواية ظاهرة في التنزيه، وتصير النتيجة صحة اكتساب
الغلام مطلقا وكراهة الاكتساب معه في صورة خاصة.
وضعف السند بالنوفلي والسكوني، مردود بما تقرر في محله (2):
من وثاقة الثاني، واعتبار الأول على الأقوى.
ودعوى إعراض المشهور عنها، مسموعة، إلا أن مطلق الاعراض
لا يورث الوهن، لأنها ربما كانت مغفولا عنها، أو كانت عندهم قاصرة الدلالة.
ومما يؤيد نفوذ أمر الصبي رواية الحسن بن راشد، عن
العسكري (عليه السلام) قال: إذا بلغ الغلام ثماني سنين فجائز أمره في ماله، وقد
وجب عليه الفرائض والحدود، وإذا تم للجارية سبع سنين فكذلك (3) فتأمل.
وهذا هو المستظهر من موثقة الحلبي ومحمد بن مسلم، عن أبي
عبد الله (عليه السلام): سئل عن صدقة الغلام ما لم يحتلم.

1 - وسائل الشيعة 17: 163، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 33، وهو
باب كراهة كسب الصبيان الذين لا يحسنون صناعة ومن لا يجتنب المحارم.
2 - الظاهر أنه محرر في الفوائد الرجالية وهي مفقودة.
3 - تهذيب الأحكام 9: 183 / 736، وسائل الشيعة 19: 212، كتاب الوقوف
والصدقات، الباب 15، الحديث 4.
304

قال نعم، إذا وضعها في موضع الصدقة (1).
فإنه ظاهر في أن المناط المحافظة على الواقع، فلو كان بيعه
وشراؤه تحت نظارة وليه واقعا في محله، فهو مثل صدقته.
وربما يدل على خصوص نفوذ وكالته في إجراء العقد، قصة أم
سلمة مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنها ذكرت تزويجها منه (صلى الله عليه وآله وسلم) موانع ثلاثة:
ثالثها: أنه ليس لها ولي يزوجها منه (صلى الله عليه وآله وسلم).
فأجاب (صلى الله عليه وآله وسلم) - على ما قيل - بجعل ولده وليا، وأمره بتزويجها منه (2).
إلا أن كون ولده صغيرا غير معلوم، فافهم.
التمسك بسيرة المتشرعة لاثبات نفوذ أمر الصبي في الأمور اليسيرة
ومقتضى السيرة العملية بين أبناء الشريعة التي كانت من أول
يوم على ما هو الآن، نفوذ عقود الصبي فيما يختص بهم من الأمور اليسيرة،
كما لا يعهد تدخلهم في التجارات الكلية، ولو كانت هي غير مرضية،
لكانت مردوعة بردوع واضحة معلومة صريحة بالغة إلى جميع
الناس، كسائر المحرمات، بل هذا هو أعظم، والاكتفاء بالاطلاق والعموم
في خصوص رواية، يكشف عن أن ما عليه بناؤهم مرضي لهم (عليهم السلام).
والعجب أن الفقهاء - رضوان الله تعالى عليهم - لا ينهون عن هذا

1 - تهذيب الأحكام 9: 182 / 734، وسائل الشيعة 19: 212، كتاب الوقوف
والصدقات، الباب 15، الحديث 3.
2 - بحار الأنوار 22: 203، سنن النسائي 3: 286، أسد الغابة 7: 342.
305

المنكر المتعارف، ولم يعهد في عصر الأئمة (عليهم السلام) النهي عنه، مع الابتلاء
به في كل يوم مرات!! فكون الصبي مسلوب القول والفعل من الأباطيل
القطعية، وصحة أموره ونفوذ ايقاعاته وعقوده في الجملة - خصوصا
في الأمور الحقيرة والصغيرة - من الواضح كالنار على المنار، وما هو
المقطوع به نصا وفتوى ممنوعية دخوله في مشاغل الرجال بالاستقلال
في البيع والشراء، فافهم وتدبر.
الفرع الثالث: في تصدي أمر الصبي لمعاملات البالغين
هل يجوز تصديه لأمور الآخرين في أموالهم، فيكون وكيلا عنهم في
البيع والشراء، أو نائبا في العبادات، أو أجيرا من قبلهم، فإن الإجارة فيما
استؤجر له كالوكالة والنيابة، أو يتصدى لرد العبد في الجعالة،
فيستحق الجعل، أم لا، أو يفصل؟ والتفصيل في المسألة موكول إلى
محالها، ويطلب رأينا في سائر الكتب (1).
تنبيه: في إبطال اشتراط قصد مدلول اللفظ
قيل: من جملة شرائط المتعاقدين، قصدهما لمدلول اللفظ الذي
يتلفظان به. واشتراطه بهذا المعنى في صحة العقد، بل في تحققه، مما
لا خلاف فيه (2) انتهى.

1 - لم نعثر على تفصيل المسألة فيما بأيدينا من كتب المؤلف (قدس سره).
2 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 117 / السطر 3.
306

أقول: ماهية العقد عبارة عن الايجاب والقبول في اللفظ،
والتعاطي في الفعل، على ما هو المعروف بينهم، وما هو من شرائطها هي
العربية والماضوية، وماهية المتعاقدين عبارة عن المتكفلين لطرفي
العقد، وما هو من شرائطهما هو البلوغ ونحوه مما لا يدخل في العقد
وجودا وماهية، وأما القصد فهو من علل وجود العقد، لا ماهيته، ولا من
شرائط المتعاقدين.
والذي هو الدخيل في وجوده ليس مطلق العقد، كالقصد إلى
الألفاظ حذاء النائم فافهم، وكالقصد إلى المعنى الموضوع له على نعت
التصور، وكالقصد إلى المعنى المجازي ولو كان بنحو التصديق، بل هو
إرادة إيجاد موضوع الاعتبار للنقل والانتقال، المستلزم لهما قهرا بحكم
العرف على كيفية أوجدها، من التنجيز، أو التعليق.
وما قيل: إن القصد من مقومات العقد (1) فاسد بالضرورة، لأن
الوجود ليس داخلا في الماهية حقيقية كانت، أو اعتبارية.
نعم، هو من مقوماته بالعرض والمجاز، لأن وجود العقد معلول
القصد لا نفسه، وليس القصد نحو وجوده، بل هو في حكم علة وجوده،
فلا تغفل، ولا تخلط.
ودعوى: أنه من شرائط المتعاقدين (2)، واضحة المنع، لأن الشرط
ليس دخيلا في إمكان وقوع الشئ، كما لا يخفى.

1 - لاحظ منية الطالب 1: 176 - 177، البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 2: 37.
2 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 117 / السطر 3.
307

الشرط الثاني: تعيين المتعاقدين
حكم تعيين المتعاقدين في العقود الشخصية
ففي العقود الشخصية يكون الشرط حاصلا قهرا، ولا وجه لتوهم
اشتراط التلفظ بهما في العقد، أو إخطارهما بالبال فيه (1)، بل يكفي
التعين الواقعي، وإن كان العاقد الوكيل من قبلهما مشتبها في أمره، بأن
أضاف الثمن إلى البائع، والمبيع إلى المشتري، وهكذا لو اشتبه وجعل
البائع مشتريا وبالعكس، من غير فرق بينما إذا أنشأ المبادلة بين
الشخصين على نحو التقييد، أو الخطأ في التطبيق، وذلك لأن حقيقة
المبادلة ليست إلا الناقل بين المالين في السلطنة أو الملكية.
وإن شئت قلت: كل كلمة في الجمل الانشائية كانت لازما ذكرها،
واشتبه على العاقد، فأتى بغيرها، فهو يضر بصحة العقد، وكل كلمة لا
يلزم ذكرها في العقد فالاتيان بما يضادها لا يضر بها.
ومن ذلك ذكر وكيل المتعاقدين في عقد البيع مثلا، فإنه لا يجب

1 - مقابس الأنوار: 115 - 116.
309

ذلك قطعا، فلو أضاف بالإضافة الغلط فرس زيد إلى عمرو، وفلوس عمرو
إلى زيد، فإنها لا توجب إشكالا في المقصود والعقد بالضرورة.
ومن ذاك ذكرهما في عقد النكاح، فإنه لو أخطأ حتى في التطبيق،
لا يصح عقد النكاح قطعا، وباطل حسب الشرع المقدس، وأما حسب
القواعد العرفية فهو ممنوع، لجواز إيجاد علقة النكاح بين المبهمين مع
التعيين اللاحق بحكم الولي، أو القرعة، فله عقد ابنتي زيد لابنيه، كما
له عقد إحداهما للآخر، لأن الزوج والزوجة معلومين عنوانا، ويصيران
معلومين بعد التعيين معنونين أيضا، وسيجئ تفصيله من ذي قبل إن شاء
الله تعالى.
إن قلت: لا يعتبر تعيين المالكين، فلو علم إجمالا: بأن هذه العين
الشخصية لزيد، أو عمرو، فأوقع العقد بعنوان كلي منطبق عليها على
البدل، صح العقد، لحصول التبادل بين الشخصين، ويتعين بعد ذلك
بالقرعة، أو بانحلال العلم وكشف الخلاف (1).
وهذا ليس من العقد الواقع بين المالكين الواقعيين المشار
إليهما بالإشارة الاجمالية، بل هو مبادلة بين المالين، ويكون
المالكان كليين. وهذا صحيح حسب القواعد العرفية والعمومات
الشرعية.
ومن هذا القبيل إذا باع الفضولي العين الشخصية فضولا من قبل
عنوان كلي لا ينطبق إلا على واحد من الجماعة المعتبرين على البدل،

1 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 116 / السطر 15.
310

وفيهم مالكها، مريدا بذلك وقوع البيع بعد إجازة المالك له، ولو لم يجزه،
واشترى الآخر منه تلك العين، يكون البيع له إذا أجاز، فطرف الإضافة
الملكية عنوان كلي.
قلت: المراد من اشتراط تعيين المالك إن كان معناه كونه واحدا
بالشخص في قبال الكلي، فهو باطل عندنا حتى في الكلي، كما سيجئ.
وإن كان معناه أن الرضا بالمعاملة تارة: يكون مطلقا حسب
الإضافة إلى المالك المعين.
وأخرى: يكون مقيدا بالنسبة إليها، فعليه فلا يقع التبادل بين
المالين المضافين إلى صاحبهما، مع دخالتها في الرضا به بإيقاع
المعاملة بين المالين على الاطلاق، وهذا يورث لزوم تعيين المالك
أو تعينه.
نعم، لو غلط وكيلهما في الانشاء حسب الاستعمال، وكان الواقع
مطابقا لرضا المتعاملين، فقال: بعت فرس زيد بحمار عمرو مع أن زيدا لا
فرس له، والمالك كان وكله في اشتراء فرس بكر، فالظاهر صحة هذه
المعاملة، لأن الإضافة المذكورة لا تضر بالمبادلة الواقعة بينهما بعد
ترشح الإرادة الجدية منه، لغفلته وجهله.
ومن هنا ينقدح حكم ما إذا كان المخاطب في البيع، غير المشتري
واقعا، فإنه إن كان المقصود نفس التبادل بين المملوكين الشخصيين
فهو حاصل، وإن كانت الإضافة دخيلة، فالانشاء لا يؤثر في شئ، لأنه
خارج عن حد وكالته.
نعم، إلحاق الإجازة به - بناء على صحة الفضولي - مما لا بأس به.
311

وإن كانت الإضافة غلطا، فحكمه ما عرفت آنفا، وقد مضى شطر من
الكلام في مسائل لزوم التطابق بين الايجاب والقبول (1). هذا كله في
العقود الشخصية.
حكم تعيين المتعاقدين في العقود الكلية
وأما في العقود الكلية، فالمعروف بينهم لزوم التعيين، لأن
الكلي بدون الإضافة إلى ذمة شخصية، ليس متمولا ولا مملوكا،
فالتعيين المعتبر معناه ذلك، لا أنه يعتبر في حد نفسه، كما يظهر من بعض
الأفاضل (2).
كما أنه ليس معتبرا كذلك في العقود الشخصية، بل الوجه هناك
أيضا هو استلزام ماهية المعاوضة دخول كل من العوض والمعوض في
مخرج الآخر، وقد عرفت منا سابقا عدم صحة هذا، وأن المعاوضة هي
المبادلة بين المالين في الملكية مثلا، وأما كون طرف الإضافة
المالك الأول فهو ممنوع، والتكافؤ بين المتضايفين لا يستلزم ذلك، بل
قضية هذه المعاوضة التبادل بينهما فيها، وسقوط الإضافة من
المالكين، وحدوث الإضافة الجديدة بين المملوكين ومالكهما
المقصودين في الانشاء، فإن الناس مسلطون على أموالهم (3).

1 - تقدم في الصفحة 173 - 176.
2 - لاحظ منية الطالب 1: 178 / السطر 23.
3 - بحار الأنوار 2: 272 / 7.
312

وتوهم: أنه يستلزم ملكية الأجنبي للعين بلا سبب معروف، فاسد،
لعدم التزامنا بذلك في أبواب المعاملات، والمسائل الاعتبارية أوسع من
التحديدات العقلية، بل هي دائرة مدار الأغراض والنتائج العقلائية.
فإذا قال: اشتريت لزيد فتارة: يكون اللام للاختصاص، وأخرى:
يكون للملك، وفي الثاني تمليك زيد ذلك.
وإن شئت قلت: هذا هو المسبب من البيع، لأن اختلاف الآثار في
العلل الاعتبارية على حسب كيفية الاعتبار والانشاء.
ومما يدل على ذلك: أن الوكيل المطلق العنان على أموال زيد
الذي هو البائع واقعا، وله خيار المجلس، يقع المعاملة له، ولا يقع
الأثر في كيسه، فلا منع مما ظنه المشهور، من لزوم كون الأثر ملك المؤثر.
وتوهم لزوم كون المملك غير مالك، في محله، إلا أنه لا يضر، لعدم
اشتراطه به، كما التزم به الأصحاب في بيع الكلي. بل هو هنا غير لازم،
ضرورة أن المملك للأجنبي عن العقد هو المالك، ويملك المبيع مثلا
البايع له، ويملك الثمن المشتري إلى الأجنبي الآخر، ولا يدخل
العوضان أولا في ملك الطرفين، فإنه خلف كما لا يخفى.
فبالجملة: بحكم العرف والعقل، يجوز أن يشترط المالكان بدوا
بأن يملك أحدهما ماله من الأجنبي حذاء تمليك الآخر بالآخر، ولا يكون
ذلك من مقابلة التمليكين، بل هو عند العرف مبادلة المملوكين وقولنا:
حذاء التمليك توسع جائز.
ثم إن الكلام في شرطية قبول الأجنبي، يطلب من مقام آخر.
أقول: ما أفاده القوم في وجه شرطية التعيين في العقود الكلية،
313

ربما يضر، فإن الكلي المضاف إلى الذمة، غير قابل للتسليم والتطبيق،
فإنه كلي عقلي، فلا يكون متمولا ولا مملوكا بتلك الإضافة، فهذه الإضافة
من قبيل إضافة المظروف إلى ظرفه، كما في القضايا الحينية، فلا
يكون الكلي مقيدا، فلا يكون مالا، لأنه ما دام الاطلاق لا يتمول ولا يملك.
مع أن القضايا الحينية في المسائل الاعتبارية، ترجع عرفا إلى
القضايا التقييدية، لأن الظرف دخيل في المظروف، وعندئذ قد يقال:
بأن الطبيعي القابل لأن يكون في الخارج، ويقع عليه المعاملة
والمبادلة، يأتي جوابه عند قوله (قدس سره): فعلى هذا لا يلزم... إذا كان
الطرف قادرا على التسليم والتحويل في الظرف المقرر، ولا يشترط في
المعاملة أزيد منه، وعليه البناءات العرفية وأسواق المسلمين.
وما اشتهر من تعريف البيع ب‍ (التمليك قد مر ما فيه (1)، بل هو
مبادلة مال بمال، وما يبذل الناس حذاءه الثمن يعد مالا، وهو الكلي
الذي يتمكن البائع من تسليمه، لا الكلي المضاف إلى الذمة، ولا
الذي لا يتمكن بائعه من تسليمه، كما في الشخصي أيضا.
وإن شئت قلت: لا يعتبر المملوكية ولا المالية حال الايجاب،
ولا متقدمة زمانا على القبول، بل الشرط كون المبيع والثمن موصوفين
بالوصفين حال الانتقال، وهو هنا كذلك، فإنه بالضرورة لا ينتقل شئ
بالايجاب وحده، بل لا بد من القبول والإجازة، فإذا لحقه ذلك يقع الأمور
الثلاثة: النقل، والاتصاف بالوصفين في عرض واحد، فيملك المشتري

1 - تقدم في الصفحة 9.
314

مثلا الحنطة على عهدة البائع، ويكون المبيع مملوكا.
فعلى هذا، لا يلزم تعيين المالك عقلا، ولا عرفا، بل ولا شرعا، لأن
ما يدل على التعيين عقلا - من لزوم كون المملوك بلا مالك - مدفوع بأن
الايجاب لا يؤثر في شئ، وما يدل عليه عرفا - من لزوم كون المملك
مالكا - ممنوع بما عرفت، وما يدل على التعيين شرعا - من الانصراف -
غير مقبول، لأن المتعارف لا يورث القصور في الأدلة، وإلا يلزم الفقه
الجديد.
فله أن يبيع من أحدهما بالواحد منهما، بعد كونهما معتبرين في
السوق، ويكون طرف الإضافة عنوان الأحد أو الواحد وهذا
العنوان معتبر كمعتبرية الكليات في المبيع، وليس أمرا موهوما ومترددا،
فإنه ليس موجودا، بخلافهما فإنهما موجودان كليان، على حسب سائر
الكليات الموجودة في الذهن المعراة من الوجود تغافلا، فتدبر.
وإن شئت تقول: حكم المبيع الكلي غير حكم البائع الكلي،
ضرورة أن البيع هو تبادل المالين في الملكية المستتبع لتبادل
المالكين، بحدوث الإضافة الجديدة، وانعدام الإضافة الأولية، وهذا
في الكلي الذمي الذي هو المبيع معلوم، ولكنه في المالك الكلي
- وهو عنوان أحدهما - غير متصور، لأنه لا يكون صاحب الإضافة
وطرفها، بل هو أمر مخترع اخترعه الوكيل عنهما، أو الفضولي من قبلهما.
فأنا أقول: أما فيما كان الاهمال منحصرا في طرف القابل، فالصحة
واضحة جدا، لأنه بالقبول يتعين، ولا أثر لنفس الايجاب، فإذا قال: بعت
هذا أو كليا من أحدكما وقال واحد منهما: قبلت يقع البيع له، وفي هذه
315

الرتبة يتم شرائط الصحة.
وفيما كان الاهمال في الطرفين، وقال الوكيل عنهما أو الفضولي:
قبلت البيع لواحد منهما أيضا يصح البيع، إلا أنه لا أثر له فعلا، بل الأثر
يتحقق بالإجازة في الفضولي، وبالتعيين في الاهمال، وما هو الممنوع
عند القوم هي الإضافة الواقعية بين المهمل والعوضين، لا الانشائية
المحضة التي يترتب عليها الإضافة الواقعية بالتعيين والإجازة،
فلاحظ ولا تخلط.
فإذا كان الوكيل منصوبا من قبلهما في الإضافتين: الانشائية،
والواقعية، فعليه التعيين بعد إحداث الإضافة الأولى.
مسألة: في حكم تعيين غير المالك
حكم العالم المعين لغير المالك
إذا لم يكن التعيين معتبرا، بمعنى لزوم كون المالك واحدا شخصيا،
فهل تعيين غير المالك يضر بالصحة، أم لا، أو يفصل بين صورتي العلم
والجهل؟
مثلا: لو قال بعت فرس زيد أو هذا الفرس عن زيد وكان الفرس
له، فهل يبطل، أو يصح بيعا وهبة، أو يكون مراعى بالإجازة اللاحقة؟
لا يقال: يمكن اختيار البطلان هنا وإن قلنا بعدم اعتبار التعيين، كما
يمكن اختيار الصحة وإن قلنا بعدم اعتباره، وذلك لأن الانشاء المتعلق
316

باخراج المال عن ملك زيد لا يؤثر، لعدم الموضوع له، سواء قلنا باعتبار
تعيين المالك، أم لم نقل (1).
لأنا نقول: نعم، إلا أنه للقائل بعدم اعتبار التعيين، إرجاع الانشاء
المذكور إلى الكلي المنطبق على المالك، فيقول: معنى بعت فرس
زيد أنه باع الفرس عن مالكه الأعم من كونه مالكه الفعلي، أو
الذي يتملك بعد ذلك، وهو ز يد مثلا، وليس هذا نافعا لمن لا يقول به، وإن
كان التزام القائل بعدم اعتبار التعيين بالبطلان من وجه آخر، لا يضر
بالبحث.
فبالجملة: تصحيح هذه المعاملة على أن تكون مؤثرة في النقل فعلا،
ينحصر بدعوى: أنه في عرض واحد هبة وبيع، من غير اشتراط صحة
الهبة وتأثيرها بالقبول والقبض (2).
أو يقال: بأنه ليس من الهبة الشرعية، بل هو من قبيل تمليك
الموصي في الوصية التمليكية، بناء على عدم اعتبار القبول فيها، وهذا
مما لا يتحاشى منه العقل والعرف، فإن تمليك الأثاث للمسجد وللبيت أمر
عقلائي، من غير اشتراطه بقبول المتولي أو الناس، بل تصرفهم فيها بعد
ذلك ملزم لهذا التمليك، وليس من القبول له كما لا يخفى.
وما قد يقال: من أن إنشاء البيع جدا من العالم بالواقعة غير
ممكن، لتوقف ذلك على الهبة المتقدمة رتبة عليه، والمتأخرة في

1 - البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 2: 44 - 45.
2 - حاشية المكاسب، المحقق الإيرواني 1: 109 / السطر 10.
317

الانشاء (1)، لا يفيد شيئا، لأنه إذا كان يعلم بتحققها بذلك الانشاء، يترشح منه
الجد إليه، كما في الايجاب والقبول.
وإن شئت قلت: هذا دور معي، لأن توقف البيع على الهبة وهي
عليه، معلول إرادته، ولا يشترط التقدم الزماني في النقل البيعي، بل هو
في آن واحد يتملك بالهبة، ويخرج الموهوب من ملكه.
ولك دعوى التفصيل بين ما لو قال: هذا الفرس الذي لزيد بعته
وما لو قال: بعت فرسه ففي الأول يحصل التمليك بالجملة الأولى،
ويخرج المملوك بالجملة الثانية، فلا يلزم الاشكال.
أو التفصيل بين ما لو قال: بعت هذا الفرس الذي لزيد ولو قال:
بعت هذا الفرس عن زيد فإن في الأول يصح، وللمشتري خيار تخلف
الوصف، كما في نظائره، دون الثاني، لأنه بلا موضوع ومن قبيل بيع
الكلي المقيد.
أقول: لو سلمنا جميع ذلك، لا تكون المعاملة فعلية إلا بتوكيل زيد
مالك الفرس في بيعه عنه بعد هبته إياه، وأما صحتها مراعاة إلى
التعيين والإجازة، فهي مشكلة، لأن الانحلال المذكور ليس عرفيا،
وميزان الانحلال وعدمه يطلب من مقام آخر.
ثم إنه حتى ولو فرغنا عن الاستحالة العقلية، لكنه غير كاف،
لاشتراط مساعدة العرف في الأسباب المتوسل بها إلى النقل والانتقال،
وقد مر في محله: أن مطلق السبب ولو كان مخترعا شخصيا غير كاف، بل

1 - البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 2: 46.
318

لا بد من كونه نوعيا فعلا أو تقديرا، والمراد من التقدير ليس مطلقه، فلا
تغفل وتدبر.
هذا كله فيما كان عالما بالواقعة، وقلنا بعدم إمكان ترشح الجد
منه إلى الانشاء.
حكم الجاهل المعين لغير المالك
وفيما كان جاهلا فيمكن القول بوقوعه فضولا، فيصير من قبيل من
باع ثم ملك (1)، ولو صح الفضولي فللقول بصحته هنا وجه أيضا، كما هو
الظاهر.
ولك دعوى صحته فضولا مع العلم بالواقعة، لامكان ترشح الجد
منه إذا كان بانيا على هبته إياه، وكان يعلم بقبوله لها.
وأيضا يمكن تصوير صحته الفعلية فيما إذا كان الفرس عنده وإن لم
يكن له، وقد أظهر قبل البيع رضاه بقبول هبته، فإنه إذا قال: بعته عنه
يقع الهبة بشرائطها والبيع كذلك.
تتميم: حول تعيين المتعاقدين
قد مضى عدم اعتبار التعيين حذاء الابهام المعتبر في العناوين
الكلية، دون ما يرجع إلى فقدان الوجود (2).

1 - البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 2: 50 - 51.
2 - تقدم في الصفحة 315.
319

وهكذا لا يعتبر أن لا تكون المعاملة مجهولة من قبل مجهولية
المتعاقدين، وما يقتضيه الأدلة مخصوص بالعوضين، فإن النهي عن
الغرر (1) فيما يؤدي إليها، وهذا بلا فرق بين أنحاء التجارات.
نعم، إذا كانت التجارة قائمة بحسب العوضين بالمتعاقدين - كالمنافع
في باب الإجارة وأمثالها - فاعتبار المعروفية لأجل هذه الجهة.
ولو قلنا: بأن اعتبار الزواج خصوصا المنقطع منه، داخل في
الإجارة، فتلك المعروفية لازمة، وإلا فلا. وأما اعتبار التعيين بالمعنى
الأولي في النكاح وأمثاله، فهو لدليل شرعي، أو اغتراس ذهني، وإلا فلا
يقتضيه الصناعة بعد إمكان التعيين للمولى بإرادته أو بالقرعة، وقد
مضى بعض البحث حوله (2).
مسألة: في صحة البيع وإن لم يعلم حال المتعاقد وأنه
المالك أم لا؟
لو كان كل واحد من المتعاملين غير عارف بحال الآخر، من كونه
وكيلا، أو وليا، أو أصيلا، أو فضوليا، فهل يجوز البيع مع الاهمال في

1 - عن الرضا (عليه السلام) عن آبائه عن علي (عليه السلام):... وقد نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن بيع
المضطر وعن بيع الغرر.
عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 45 / 168، وسائل الشيعة 17: 448، كتاب التجارة،
أبواب آداب التجارة، الباب 40، الحديث 3.
2 - تقدم في الصفحة 310.
320

الخطاب، أو لا يجوز، أو تجوز المخاطبة، لعدم تقوم الصحة بها، فلا يضر
بطلانها بصحة المعاملة، أو لا تجوز؟
وجوه:
الظاهر هو الأول في الفرعين، وذلك إما لأن اليد ظاهرة في
الملكية، ولا يتقوم نفوذ المعاملة بالخطاب بعد ذلك، فله إنشاء
المعاملة بلا خطاب ومعه.
وإما لأن الملكية ليست شرطا إلا في الجملة، فكون المتصدي
لأمر التجارة مالكا غير لازم، بل اليد كاشفة عن نفوذ تصرفاته وصحة
تصديه، فهو المتعامل حقيقة وإن كان الأثر في كيس الآخر، كما في
الوكيل الذي هو مطلق العنان، فإن خيار المجلس يثبت له، لأنه البيع
وإن كانت فائدة البيع للموكل.
مسألة: في صحة مخاطبة الولي والوكيل عند إنشاء البيع
إذا علم أن المشتري ليس رب السلعة، فإن كان وليا أو وكيلا مطلقا،
فيجوز إنشاء البيع له، لجواز التفكيك بين من له البيع، ومن ترجع إليه
فائدة البيع، فإن الثاني أجنبي عن حدود العقد والانشاء، وجميع أحكامه
والملتزمات العرفية ثابتة لهما، دون المولى عليه والموكل.
وإن كان وكيلا في إجراء العقد فقط، فالظاهر جواز المخطابة أيضا،
للقاعدة التي أشرنا إليها: وهي أن كل كلمة تذكر في العقد، فإن كان في
تركها إضرار بالمقصود، فلا بد من الاتيان بها على الوجه الصحيح، وإلا
321

فلا، ولا شبهة في تمامية العقد بدون الخطاب إلى الموكل أو الوكيل،
فكما يصح في الوكيل مطلق العنان إنشاء البيع بعنوان الموكل، لعدم
الاحتياج إليه، كذلك هنا، لعدم الاضرار به.
322

الشرط الثالث: الاختيار
البحث عما شرط في المتعاقدين
من الشرائط عند المشهور الاختيار، وقد يقال بشرطية الرضا
والطيب (1).
وقد يعبر ب‍ (مانعية الكراهة، أو إكراه الغير، أو شرطية عدم إكراه
المكره (2).
وقد يقال بشرطية اختيارية الاختيار (3).
وفي الكل نظر، ضرورة أن معنى كون هذه الأمور شرطا في الجملة،
أن العقد المستجمع لجميع الشرائط إذا كان فاقدا لذلك يقع باطلا، ونحن
بعد الفحص عن جميع جوانب المسألة، نجد أن المكره القاصد إلى
حقيقة البيع بالإرادة والاختيار والقدرة، يكون البيع الصادر منه

1 - البيع (تقريرات المحقق الكوهكمري): 233.
2 - البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 2: 57.
3 - منية الطالب 1: 184 / السطر الأول.
323

كالبيع الصادر من غيره، ضرورة أن الانسان في أفعاله الصادرة منه،
يلاحظ الجهات المختلفة من المصالح، ودفع المضار والمفاسد، ولا
معنى لكون البيع مورد الطيب، ضرورة أنه كثيرا ما يقدم الانسان على
المكروهات ويصبر عليها، لدفع الآلام الأخر، وجلب المصالح العالية،
وليست الطيبة المترشحة من الطيب لذي المقدمة طيبا عرفا، وإلا
فالمكره أيضا ذو طيب بالنسبة إلى تلك المعاملة التي بها ينجو من شر
السيف الشاهر.
فبالجملة: لا تعدد في معنى الاختيار، ولو كان غير مختار فهو فاقد
للقدرة التي هي الشرط في تحقق قصد حقيقة البيع، فيكون البيع فاسدا،
لأجل الاخلال بهذا الشرط أو المقوم الذي مر ذكره.
ولو أريد من الاختيار معناه العرفي مقابل المكره، فهو قبال
المضطر أيضا، فإنه أيضا يشتهي أن يصل إلى مرامه من غير التوصل
إلى بيع داره.
ولو قيل: إنه يتأثر من عدم تحقق البيع.
قلنا: المكره أيضا يتأثر، لأنه يستلزم وقوعه في المهالك الكثيرة
المتوعد عليها لو أخل بالشرط.
نعم، بطلانه التعبدي لا يستلزم ذلك، لخروجه من اختياره.
وبذلك يندفع كون اختيارية الاختيار شرطا، لأن ذاك الاختيار غير
حاصل للمضطر، مع صحة بيعه بالضرورة.
324

وأما جعل إكراه الغير مانعا (1)، فقد فرغنا في الأصول عن عدم إمكان
اعتباره في المسائل الاعتبارية، فيرجع إلى شرطية عدمه (2)، وعندئذ لنا
أن نسأل الوالد المحقق - مد ظله -: بأن هذا الشرط يرجع إلى
المشروط، فما هو المشروط؟ أي هل إرادة المبيع مشروطة، أو الطيب
والرضا مشروط، أو اللفظ الذي ينشأ به مشروط؟
وبعبارة أخرى: أي شئ مشروط هذا الشرط؟
ولا جواب إلا بأن يقال: بأنه يستلزم الاخلال بشرط من شروطها
الموجودة في أفق النفس وصقع الذهن.
وبعبارة أخرى: يشترط في صحة البيع أن لا يكون تحققه عن إكراه،
فيرجع ذلك إلى أن العلة - وهي الإرادة المتعقبة بتحرك العضلات - غير
حاصلة من إيعاد المكره، وهذا يرجع إلى اشتراط كون الإرادة معلولة
النفس والمبادئ الخاصة، دون مطلق المبادئ التي منها إيعاد المكره،
ودون الداعي من الفرار عنه.
ومعنى هذا بطلان عقد المضطر، لأنه أيضا معلول الإرادة المشتملة
على المبادئ الخاصة، ومنها الداعي إلى الفرار من الضرر الذي
يخاف عليه.
ومن هنا يعلم: أن الكراهة ليست مانعة، ولا عدمها شرطا، لوجودها
في بيع المضطر أيضا.

1 - البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 2: 57.
2 - تحريرات في الأصول 8: 56 و 82 و 91.
325

صحة بيع المكره
والذي هو التحقيق: صحة بيع المكره، إلا إذا كانت إرادته معلولة
إرادة المكره، فتكون إرادته بإلقاء نفس الآخر عليه، ولا تكون حاصلة
في أفق ذهنه بالمبادئ الموجودة عنده، فعند ذلك يبطل البيع، لاستناد
البيع إلى المكره بالمجاز، وإلى المكره بالحقيقة، ويرجع وجه
البطلان إلى فقد مالكية العوضين، كما لا يخفى.
إن قلت: بناء عليه يلزم صحة بيع المكره إلا في الصورة الواحدة
الشاذة.
قلت: كلا، فإنه كثيرا ما وإن لم تكن إرادة المباشر معلولة إرادة
المكره حقيقة، ولكنها معلولتها عند العرف، ولا يجد العرف المباشر
مستقلا في إرادته، بخلاف المضطر، فإنه لا تستند إرادته إلى غيره.
وإن شئت قلت: تارة، تكون الإرادة معلولة الدواعي النفسانية
والمصالح والمفاسد المعلومة للمريد.
وأخرى: تكون معلولة الأجنبي عرفا، ويستند البيع إليه أحيانا.
وثالثة: يكون المكره مع إكراه الأجنبي، غير خارج من الاستقلال
العرفي، وغير فانية إرادته في إرادة المكره.
ففي الصورتين الأولى والأخيرة تصح المعاملة، دون الصورة
الوسطى.
هذا كله حسب القواعد العقلائية، فإن العقلاء يحكمون ببطلان بيع
326

المكره، ولكن القدر المتيقن من بنائهم ما ذكرناه.
وأما قضية الأدلة الشرعية، فالآية الشريفة: (إلا أن تكون
تجارة عن تراض منكم) (1).
وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): إلا بطيبة نفس منه (2).
وقوله - عجل الله تعالى فرجه الشريف -: إلا بإذنه (3).
كله أجنبي عن مسألتنا، لأن الرضا بمعنى الطيب ليس شرطا،
وبمعنى الجد إلى المعاملة حاصل في مطلق البيع، وبمعنى أن في تركه
التأذي موجود في بيع المكره أيضا، لأنه يؤدي إلى الفساد الأهم في
نظره. والمستثنى في الروايتين غير دخيل في المعاملة، بل الظاهر منه
هو الإذن والطيب بالنسبة إلى التصرفات الإباحية، فلا تغفل.
فبالجملة: إكراه المكره تارة، يوجب وجود الداعي المؤدي إلى
تحقق الإرادة.
وأخرى: يوجب تحققها من غير الداعي إلى المراد.
ففي الأولى تصح المعاملة، دون الثانية، لأن الإرادة الفانية في
إرادة الغير، سبب لاستناد المراد إلى الإرادة الأولى الأصيلة، دون
الإرادة المباشرة.

1 - النساء (4): 29.
2 - الفقيه 4: 66 / 195، وسائل الشيعة 5: 120، كتاب الصلاة، أبواب مكان
المصلي، الباب 3، الحديث 1 و 3.
3 - كمال الدين: 520 / 49، وسائل الشيعة 9: 540، كتاب الخمس، أبواب الأنفال،
الباب 3، الحديث 7.
327

التمسك بحديث الرفع لبطلان عقد المكره مطلقا وجوابه
إن قلت: قضية حديث الرفع (1) بطلان جميع الصور، لصدق الاكراه
عرفا، وإذا كان أثر المعاملة - وهي الصحة - مرفوعا، فسائر الآثار
الطولية - من اللزوم وغيره - مرفوع أيضا قهرا.
قلت: الذي أكره عليه إن كان إرادته، فارتفاعها يؤدي إلى ارتفاع
المراد، وهو المعتبر الخارجي.
وإن كان الانشاء اللفظي دون الإرادة، كما في كثير من موارد الاكراه،
فلا معنى لنفي جميع الآثار، فإن النقل والانتقال - وهو البيع المسببي - من
الآثار القهرية المترتبة على البيع السببي، كالنجاسة المترتبة قهرا
على شرب المسكر عن إكراه، فكما لا ترتفع النجاسة هناك، لا يرتفع البيع
المسببي هنا.
نعم، ما هو أثر نفس التلفظ بذاته - من الأمر الوضعي فرضا، أو
التكليفي - مرفوع بالحديث الشريف.
وبعبارة أخرى: البيع السببي والمسببي متقومان بالإرادة، وإذا كانت
هي مرفوعة فلا يعقل بقاء الأثر، للزوم التهافت بين الرفع والوضع، ولكن
البيع المسببي غير متقوم باللفظ، وهو البيع السببي، بل هو اعتبار عقيب
الاعتبار، على ما تقرر في محله.

1 - الخصال: 417 / 9، وسائل الشيعة 15: 369، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس
وما يناسبه، الباب 56، الحديث 1.
328

وإن شئت قلت: مورد الاكراه فيما كانت إرادة البائع هو السبب بما هو
سبب، وفيما كان التلفظ بالبيع إنشاء، هو ذات السبب، سواء أثر في
معلوله، أو لم يؤثر.
وعلى هذا لا بد من صدق فناء إرادة المكره في إرادة المكره، حتى لا
يرى الوسط بينهما من الدواعي الأخر، وإلا فلا دليل على بطلانه.
بل قضية الاستثناء في آية التجارة (1) صحة بيع المكره، لأن
الرضا بمعنى الطيب العقلي موجود، وبمعنى الطيب النفساني غير
موجود في بيع المضطر، وبمعنى العقد والإرادة موجود في جميع
الفروض.
اللهم إلا أن يقال: إن ظاهر كلمة الاستثناء: (إلا أن تكون تجارة عن
تراض منكم) هو كون الإرادة مستندة إلى رب التجارة، وأما إذا كانت
معلولة الإرادة الأخرى من المكره وغيره، فلا تكون التجارة صحيحة
وحقة، بل هي باطل، فلفظة (منكم) ربما تفيد هذا المعنى الذي أسسناه
في المقام. وقد خرجنا من الاختصار، فنرجو قبول الاعتذار.
عودة إلى حكم العقل والعقلاء ببطلان عقد المكره
ثم إن في المقام (إن قلت قلتات) حول حديث الرفع، ولكنها مما لا
حاجة إليها، لأن ما هو الدليل الوحيد حكم العقل والعقلاء بعدم نفوذ
هذه التجارة، كما أن عدم رفع بعض الآثار الوضعية أيضا لحكمهم، ضرورة

1 - النساء (4): 29.
329

أن النجاسة الآتية من قبل الفعل المكره عليه، ليست من الآثار
المربوطة بالشرائع حتى ترفعها الشريعة الاسلامية، ولا من الآثار
المعتبرة عند العقلاء، حتى يحكموا بعدم اعتبارها عند الاكراه، والخباثة
الحدثية عندهم كالنجاسة، ولتفصيل المسألة مقام آخر، فتدبر.
إن قلت: استناد فعل المكره إلى المكره في الأفعال التسبيبية
- كالبيع والشراء - غير واضح، بل الظاهر خلافه، فلا بد من أن يقال
باشتراط كون الإرادة غير مسبوقة بإكراه المكره، بمعنى أنه لا يكون من
مبادئ وجودها، الاكراه والاجبار وقهر القاهر والجائر.
قلت: الأمر بحسب حكم العقل كما مر (1) وأشير إليه، لأن الإرادة
معلولة نفس المكره، إلا أن العرف هنا يرى إرادة السبب كإرادة الموكل،
في كونها أقوى في صدور الفعل من إرادة المباشر، فالوكيل وإن هو المبدأ
الواقعي لصدور الفعل والبيع، ولكن إرادته معلولة الإرادة الأخرى.
ويشهد لعرفية هذا، ذهاب المحققين في إرادة المقدمة إلى
ترشحها من إرادة ذي المقدمة، غافلين عن امتناع هذا الترشح، إلا أن الأمر
عرفي، لأن المبادئ المتخللة - لكثرة سرعة النفس، وشدة قدرتها على
إحضارها - مغفول عنها.
هذا مع أن قضية اشتراط عدم كون الاكراه من مبادئ الإرادة، بطلان
بيع من أكره على تسليم شئ لا يتمكن منه إلا ببيع داره، مع أنه لا يمكن
الالتزام به، ولا يلتزم قائله بذلك.

1 - تقدم في الصفحة 326 - 327.
330

بيان المناط في بطلان عقد المكره
ثم إن قضية ما شرحناه، عدم توقف بطلان بيع المكره بالايعاد على
الضرر المالي، أو العرضي، أو غيرهما، بل المناط في بطلانه ترشح
إرادة البائع من إرادة القاهر، فلو أمره الجائر بالبيع فباع من غير
التوجه إلى إمكان التخلف عن أمره يقع باطلا. بل لا يلزم الاكراه
بالمعنى الظاهر منه، فلو كان لأحد إمكان تسخير إرادة البائع، فباع يقع
باطلا.
فالمناط خروج البائع من الاستقلال في إرادته عقلا، كما في
المثال الأخير، أو عرفا، كما في سائر المواقف، ولذلك لو أكرهه على
الضرر اليسير حذاء بيع ما يملكه، فإنه يصح بيعه عندنا، لعدم مقهورية
الإرادة، وعدم خروجه عرفا من الاستقلال، وعدم مساعدة العرف على
ذلك، بل يتهمه بأنه كان يشتهي بيعه.
فما يتوجه إلى مقالة الأصحاب المتأخرين رضوان الله تعالى
عليهم غير خفي، حتى نحتاج إلى التفصيل، فجميع القيود المأخوذة في
كلمات القوم - من الكراهة بالنسبة إلى الفعل، والايعاد، وظن
الترتب، وغير ذلك - غير تامة، وقد عرفت: أنه قد يتفق عدم توجه
المكره - في قبال إرادة القاهر - إلى الجهات الأخر، ويصنع البيع
كالمستبيع، فلا يتمكن من رجوعه إلى نفسه من لحاظ الظن بالترتب أو
331

الاحتمال، مع أنه كاف فيما كان المحتمل قويا، والاحتمال موجودا (1)،
فلا تغفل.
بل لو أكرهه القاهر على بيع لو تركه يفسد في الأرض، ويريق دماء
المسلمين، أو يكتب الرسالة في رد الاسلام والقرآن وأمثال ذلك، فإنه
يجب البيع وإن كان باطلا، لأن الوجوب عقلي لا شرعي، كبيع المحتكر.
إن قلت: مادة الاكراه دليل على أن الفعل مكروه للفاعل، وإلا فليس
إكراها، بل هو الاجبار والقهر.
ودعوى لزوم بطلان بيع المضطر، ممنوعة، لأن المقدمة المتوقف
عليها المحبوب والمشتاق إليه، مورد الحب والاشتياق قهرا وحتما،
فإذا رأى أن الفرار من الموت متوقف على قطع اليد، يرضى به، ويشتاق
إليه، لذلك التوقف.
قلت أولا: لا نبأ لي بصدق الاكراه في هذه المسألة، لأن دليله
حكم العقلاء، ووجه البطلان لا ينحصر بالعموم والخصوص الوارد في
مسألة الطلاق.
وثانيا: ليس معنى الاكراه كون الفعل مكروها، لأن من معانيه
القهر.
وثالثا: لا ينبغي الخلط بين الطيب، والرضا العقلي والنفسي كما
مضى (2)، ضرورة أن التوقف لا يورث الحب، كما إذا توقف أداء الدين

1 - تقدم في الصفحة 324.
2 - تقدم في الصفحة 329.
332

على بيع ما يملكه، فإنه مع نهاية اشمئزازه وتنفره من بيع داره وبستانه،
يقدم عليه، ويكون صحيحا، مع أنه لا يطيب به بالطيب العقلي، لعدم
التزامه بالشريعة حتى يعتقد بأن ذلك يؤدي إلى الاتيان بالواجب
الذي في تركه العقاب، فلو تم الطيب العقلي المتوهم في كلمات
القوم، ففي المثال المذكور لا طيب عقلا، ولا عرفا، مع صحة المعاملة
قطعا، فتأمل.
لا يقال: بناء عليه يلزم بطلان البيع المشتمل على الشرائط، ومنها
الطيب والرضا، مع أن إطلاق المستثنى في آية التجارة دليل صحته.
لأنه يقال أولا: قد عرفت معنى الرضا في الآية (1).
وثانيا: إطلاق حديث الرفع يعارضه بالعموم من وجه، وقضية
الصناعة بعد المعارضة هو البطلان.
ولو فرضنا أن معنى ما أكرهوا عليه أو ما استكرهوا عليه هو
الاجبار على المكروه النفساني، أو قلنا: بأن حديث الرفع لا يجوز
التمسك به في المقام، لأن من شرائط الصحة عدم الكراهة والاكراه،
وهو الرضا المستفاد من الآية، وقد تقرر في محله انحصار مجراه بمواضع
تكون الأدلة فيها مطلقة من حيث العناوين المرفوعة في الحديث
الشريف، ولكنه يكفي في البطلان حكم العقلاء وبناء الأصحاب، وهذا
ليس من الأحكام المردوعة، بل يستكشف به تنفيذ الشرع إياه.
فالمستثنى إما مجمل، أو أريد منه أن المعتبر في صحة المعاملة

1 - تقدم في الصفحة 329.
333

ونفوذها، كونها تجارة، وكونها عن تراض، وكون الرضا أو التجارة
المتقيدة بالرضا ناشئا منكم، لا من غيركم وهو المكره، وفي صورة
الاضطرار يكون الرضا أيضا ناشئا منه، لا من غيره، وعندئذ يمكن الجمع
بين الأدلة، وبين دعوى لزوم اشتراط الطيب النفساني بمعناه العرفي، كما
لا يخفى، فافهم وتأمل جيدا.
بحث: حول اعتبار المندوحة في بيع المكره
لا شبهة في أنه مع إمكان التوصل عادة إلى منع المكره عن
الاكراه، لا يصدق بيع المكره ولا يصدقه العقلاء في دعواه أنه أوجد
البيع عن إكراه، فعليه تصح المعاملة في هذه الصورة.
ولا شبهة في صدقه مع عدم الامكان، وهكذا مع الشك في القدرة
إذا كان الجابر يعمل بإيعاده بمجرد الاطلاع على تخلفه، أو احتمل ذلك
بالاحتمال العقلائي، فيما كان المورد مما لا يهتم به العرف، أو الاحتمال
غير العقلائي فيما كان المورد مما يهتم به العرف والعقل، كالأعراض.
وقضية الأصول العملية في صورة الشك في مورد أنه من أي
الفروض المذكورة؟ هو البطلان، لأن الشك في الصحة هنا يرجع إلى
الشك في الشرط العرفي، وهو صدق الاستقلال في الإرادة.
بل التمسك بالأدلة الاجتهادية محل إشكال، لاحتمال عدم صدق
البيع حال عدم الاستقلال عرفا، ومجرد الاطلاق غير كاف، كما لا يخفى.
وتوهم: أن النزاع في هذه المسألة فرع الصدق، غير صحيح، بل
334

المقصود استجماع جميع الشرائط غير شرط واحد، وهو حصول الإرادة
بالوجه المختار عندنا.
هذا، ولو أمكن التفصي عن المكره بالتخلف عن إرادته، بإيجاد
الأمر الآخر في وعاء الاعتبار، أو أمكن ذلك بإرادة اللفظ فقط، أو أمكن
بالتورية، بأن يريد الاخبار في صيغ الانشاء، فإنه - بناء على ما عرفت من
التحقيق في المسألة في وجه بطلان بيع المكره (1) - تصح المعاملة في
هذه الصور، لعدم فناء إرادته في إرادة المكره، ضرورة أن ذلك مع
التوجه إلى الاقتدار على التخلص، غير قابل للجمع.
نعم، قد يخطر بباله ذلك، إلا أن الإرادة القاهرة سخرت إرادة
المباشر عرفا، وتكون إرادته ناشئة منها عند العقلاء، لا العقل كما هو
الظاهر.
وعليه لا فرق بين الوضع والتكليف، في كونه معذورا في
الارتكاب، وأن التكليف مرفوع بالحديث الشريف.
وقد يقال: إن قضية ما ورد في أخبار الطلاق (2)، وقصة

1 - تقدم في الصفحة 173 - 174.
2 - زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: سألته عن طلاق المكره وعتقه، فقال: ليس طلاقه
بطلاق، ولا عتقه بعتق، فقلت: إني رجل تاجر، أمر بالعشار، ومعي مال، فقال:
غيبه ما استطعت، وضعه مواضعه، فقلت: فإن حلفني بالطلاق والعتاق، فقال:
احلف له، ثم أخذ تمرة، فحفر بها من زبد كان قدامه، فقال: ما أبالي حلفت لهم
بالطلاق والعتاق، أو أكلتها.
عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سمعته يقول: لو أن رجلا مسلما مر
بقوم ليسوا بسلطان، فقهروه حتى يتخوف على نفسه أن يعتق أو يطلق، ففعل، لم
يكن عليه شئ.
وسائل الشيعة 22: 86، كتاب الطلاق، أبواب مقدماته وشرائطه، الباب 37،
الحديث 1 و 2.
335

عمار (1)، وروايات اليمين عند العشار (2)، وأمثال ذلك، لحوق ما ليس بإكراه

1 - مسعدة بن صدقة قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن الناس يروون أن عليا (عليه السلام) قال
على منبر الكوفة: أيها الناس إنكم ستدعون إلى سبي فسبوني، ثم تدعون إلى البراءة
مني فلا تتبرؤوا مني، فقال: ما أكثر ما يكذب الناس على علي (عليه السلام)، ثم قال: إنما
قال: إنكم ستدعون إلى سبي فسبوني، ثم تدعون إلى البراءة مني وإني لعلى دين
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولم يقل: ولا تبرؤوا مني، فقال له السائل: أرأيت أن أختار القتل دون
البراءة، فقال: والله ما ذلك عليه، وما له إلا ما مضى عليه عمار بن ياسر حيث أكرهه
أهل مكة وقلبه مطمئن بالايمان، فأنزل الله عز وجل فيه (إلا من أكره وقلبه مطمئن
بالايمان) (أ) فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عندها: يا عمار إن عادوا فعد، فقد أنزل الله عذرك،
وأمرك أن تعود إن عادوا.
أ - النحل (16): 106.
وسائل الشيعة 16: 225، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر
والنهي، الباب 29، الحديث 2.
2 - إسماعيل الجعفي، قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): أمر بالعشار ومعي المال،
فيستحلفوني، فإن حلفت تركوني، وإن لم أحلف فتشوني وظلموني، فقال: احلف
لهم، قلت: إن حلفوني بالطلاق؟ قال: فاحلف لهم، قلت: فإن المال لا يكون لي، قال:
تتقي مال أخيك.
سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: إذا حلف الرجل تقية لم يضره إذا هو أكره واضطر
إليه، وقال: ليس شئ مما حرم الله إلا وقد أحله لمن اضطر إليه.
وسائل الشيعة 23: 227، كتاب الأيمان، الباب 12، الحديث 17 و 18.
336

بالاكراه حكما، أو هي تشهد على الصدق العرفي مع القدرة على
التورية (1).
وفيه: أما الصدق اللغوي، فهو ممنوع في بعض الموارد بالضرورة،
وأما اللحوق الحكمي فهو باطل بالمذهب، لأن التجاوز من تلك المواقف
إلى المسائل الوضعية - أي كون الاكراه موجبا لرفع الحكم التكليفي
العظيم هناك، دليل على بطلان البيع هنا - غير جائز.
نعم، قد عرفت انحصار دليل المسألة بحكم العقلاء (2)، وهم ربما
يرون التفاوت في مراتب الصدق.
إلا أن يقال: بأن المستثنى في آية التجارة، دليل على أن وجه
البطلان عدم حصول الطيب في المكره من المبادئ الموجودة في
نفسه، لأنه حاصل من المبادئ الموجودة في نفس المكره، فلا يشترط
صدق بيع المكره في البطلان، بل المناط ذلك، ولا شبهة في أن هذا
يورث بطلان البيع، ولا يورث أن جواز الارتكاب متوقف على صدق
الاكراه والاضطرار فما يظهر من الشيخ الأعظم (قدس سره) (3) كغيره، مما لا يمكن
المساعدة عليه.

1 - لاحظ المكاسب، الشيخ الأنصاري: 119 / السطر 20.
2 - تقدم في الصفحة 326 و 330.
3 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 119 / السطر 13.
337

وأما تقريب الاستدلال بالاطلاق السكوتي، وهو ترك الاستفصال مع
لزوم التذكر إلى التورية، خصوصا في قصة عمار (1)، فهو غير تام، لما
يمكن دعوى: أن التذكر المذكور ربما يوقع الناس في المفاسد
العظيمة، ولأجل سدها من جميع الجهات جوزت الشريعة المقدسة
ذلك. وربما يكون ممنوعا مع الشك في القدرة على التخلص بها.
فبالجملة: مع القدرة على الفرار من البيع بالحيل الشرعية أو
العرفية قدرة فعلية، أو مع إمكان كسب القدرة عليه، لو أوقع البيع فهو
داخل في المسائل الآتية: وهي ما لو أكرهه على أحد الأمرين، لأنه
يرجع إلى أنه أكرهه إما على التلفظ الخالي من الأثر، أو على البيع،
فسيأتي تفصيلها من ذي قبل - إن شاء الله تعالى - (2).
الاستدلال على المختار بمثال عرفي
ثم إن من الممكن دعوى: أن لحاظ المكره العوارض المتأخرة
عن البيع الحاصل عن الاكراه - كابتلائه في بيعه داره بالثمن، وهو
مغصوب بحكم الشرع إذا كان البيع فاسدا، ولا يتمكن بعد ذلك من إرضاء
صاحبه غير المطلع على الاكراه - يقتضي أنه إذا أراد البيع يصح، ولكنه
على مبنى القوم غير صحيح، لأنه أوقع البيع عن إكراه.
وعلى الوالد المحقق - مد ظله - والسيد الفقيه اليزدي (رحمه الله)

1 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 119 / السطر 33 - 34.
2 - يأتي في الصفحة 345.
338

- القائلين: بأن عدم الاكراه قيد مستقل آخر تعبدي وراء الرضا والطيب،
بدليل حديث الرفع وأمثاله (1) - الالتزام بفساده، مع أن الضرورة قاضية
بصحته، ولو أمكن تصحيحه على مبنى القوم، لا يمكن على مبناهم، فيعلم
أن المدار على ما أسسناه في المقام، وتأمل فيه التأمل التام - لأنه من
مزال الأقدام - بعون الملك العلام.
بحث وتفصيل في الإشارة الاجمالية لفروع المسألة
عدم الحاجة إلى تفصيل الفروع بعد انحصار دليل المسألة ببناء العقلاء
جرت عادة المتأخرين على ذكر الفروع الكثيرة هنا، وقبل
الخوض فيها لا بد من الإشارة إلى أمر: وهو أن قضية ما ذكرناه أن دليل
بطلان بيع المكره، بناء العقلاء وحكمهم في جميع الأمم والأقوام (2)، ولسنا
- بناء عليه - ذاهبين إلى مفهوم الاكراه وقيوده، وإن ذكرنا إجمالا بعض
المباحث المتعلقة به.
مع أنك أحطت خبرا: بأن جريان الحديث في المقام ممنوع، لأن
المستثنى في آية التجارة (3) دليل على شرطية الرضا، وهو يمنع عن

1 - البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 2: 56 - 57، حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1:
120 / السطر 18.
2 - تقدم في الصفحة 326 و 330.
3 - النساء (4): 29.
339

ذلك، لما تقرر في محله من أن مصبه الأدلة المطلقة، لا المقيدة بعدم
الاكراه، ولا المقيدة بالاكراه، ولا المصرحة بثبوت الحكم حال الاكراه،
ولذلك بنوا على حكومة الحديث على الأدلة، ولو كان فيما نحن فيه
جاريا، يلزم كونه دليلا مؤيدا لسائر الأدلة.
وتوهم دلالة المآثير في روايات الطلاق على حكم في هذه
المسألة (1)، غير تام، بل الظاهر اختصاصها به، وإلا كان الأولى ذكر البيع
في جملة ما يذكر في تلك الروايات، لابتلاء الناس به، فيعلم أن في تلك
المسألة نكتة لا بد من الغور فيها حتى يعلم ذكر تلك الأمور بخصوصها.
ولعل المقصود في تلك المآثير من الاكراه عدم الإرادة والقصد،
فتكون أجنبية عما نحن فيه ويشهد لذلك بعض النصوص في المسألة (2)،
فليراجع.
هذا مع أن ذكر الاضطرار يغني عن ذكر الاكراه في الحديث
الشريف، لأن الاضطرار أعم من الاضطرار الحاصل من الاكراه، فالنسبة
بين العنوانين عموم مطلق، فيكون المدار على ذكر الاضطرار. ولا داعي
إلى دعوى جريان رفع الاكراه قبل جريان رفع الاضطرار لتقدمه الرتبي،

1 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 118 / السطر 34 - 35.
2 - عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سمعته يقول: لا يجوز طلاق في استكراه، ولا تجوز
يمين في قطيعة رحم - إلى أن قال -: وإنما الطلاق ما أريد به الطلاق من غير
استكراه، ولا إضرار.
الكافي 6: 127 / 4، وسائل الشيعة 22: 87، كتاب الطلاق، أبواب مقدماته
وشرائطه، الباب 37، الحديث 4 والباب 38، الحديث 1.
340

لأنه لا يفيد في حل الشبهة وهي ذكر الاكراه قبال الاضطرار.
نعم، فيما كانت النسبة عموما من وجه، فالتمسك المذكور لتقديم
رفع الاكراه على رفع الاضطرار، له وجه، ولكنه غير وجيه. وهكذا لو
فرضنا أن الاكراه الذي هو العلة، مقدم زمانا عند العرف، فلا تغفل وتدبر.
فبالجملة: التمسك بالروايات لا يخلو من غرابة، وهكذا التمسك
بما ورد في خصوص البيع: من اشترى طعام قوم وهم له كارهون، قص لهم
من لحمه يوم القيامة (1).
ومثله التمسك ب‍ (لا بيع إلا في ملك (2) بناء على كون المراد من
الملك القدرة وملك التصرف، والمكره لا يكون مالكا، لعدم إمكان
التخلف عرفا في بعض الصور عن البيع.
إذا عرفت ذلك فيظهر: أن المناط في البطلان والصحة حكم
العقلاء، سواء صدق العناوين الأخر، أو لم تصدق، فما جعله الأصحاب في
الفروع الآتية مورد النظر، أو ما أفاده السيد المحقق المؤسس الوالد
- مد ظله - من جعل أمر المكره مصب التقاسيم المذكورة في باب الأوامر
من اختلاف المتعلقات والقيود الواردة عليه (3)، كلها تطويل بلا حاجة.

1 - الكافي 5: 229 / 1، وسائل الشيعة 17: 338، كتاب التجارة، أبواب عقد البيع
وشرائطه، الباب 1، الحديث 11.
2 - الرواية هكذا: لا بيع إلا فيما تملك.
عوالي اللآلي 2: 247 / 16، مستدرك الوسائل 13: 230، كتاب التجارة، أبواب
عقد البيع وشروطه، الباب 1، الحديث 3.
3 - البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 2: 69 - 70.
341

وبذلك فقد فرغنا عن ذكر الفروع بتفصيلها إلا أن الإشارة الاجمالية
إليها مما لا بأس بها:
حكم ما إذا أكرهه على البيع فباع من الكافر
فإذا ألزمه على البيع، فتارة: يلزمه على بيع جميع ممتلكاته،
فعندئذ لا يصح كل بيع يصدر منه. وإذا أجبره على بيعها من الكافر فلا يصح
أيضا.
وإذا أجبره على البيع فباع من الكافر، مع ممنوعية بيع المصحف
منه، وحرمة تسليطه عليه، فإنه يقع باطلا، ولا يبعد استناد بطلانه إلى
الالزام، لا إلى خصوص الأدلة في بيع المصحف، ويعاقب لعدم إلزامه
على الخصوصية.
ولو قيل: كيف يعقل ترشح الإرادة بنحو الجبر العرفي بالنسبة إلى
أصل البيع، واختياريتها بالنسبة إلى الخصوصية؟!
قلنا: هذا مما يصدقه الوجدان أولا، ولا ينافيه البرهان، لأن إرادة
القاهر سبب لوجود الإرادة في المقهور، وتعليق تلك الإرادة إلى المراد
الخاص الذي تشخص الإرادة به باختيار، وهذا يكفي لعدم ارتفاع
العقاب، كما إذا لاحظ المحبوبية ومطلوب المولى في ذلك يصح ثوابه،
ويستحق أجره، فتدبر.
وهذا يتم من غير التوقف على القول: بأن في العمومات الأفرادية
الخصوصيات الفردية مورد النظر، أو ليست مورد اللحاظ والجعل،
342

ضرورة أن قياس المقام بالأوامر الواردة الشرعية مع الفارق، فإن هناك
لا قاهرية ولا مقهورية، بخلاف ما نحن فيه، فإن إرادة المكره بالنسبة
إلى إرادة المكره فانية، وتكون موجودة بوجودها، وتحت ذلك سر
البطلان والصحة.
فالتقاسيم المذكورة في الواجبات الشرعية وإن جرت في
الواجبات العرفية وكل الأوامر، إلا أن ذلك مما لا حاجة إليه، ولا
يتوقف المسائل عليه، كما هو الواضح.
ومن هنا يعلم: أنه إذا أجبره على بيع الدار، ولم يعين الدار، وكان
مقصوده بيع جميع دوره، فإنه لا يصح.
حكم الاجبار على بيع شئ بنحو صرف الوجود
وإذا أجبر على بيع شئ بنحو صرف الوجود، فقد يقال: بأن أول
المصداق مكره عليه، فيكون باطلا (1).
وفيه: أنه إذا كان من قصده قبل الاكراه بيع داره، وأكرهه المكره
على البيع، على وجه يصدق على ما يوقعه، يلزم على ذلك بطلانه، مع أنه
ممنوع قطعا، فيعلم من ذلك لزوم كون إرادته من مترشحات إرادة الغير
والجابر، ومع اقتضاء الدواعي التي في وجودها لتحقق تلك الإرادة، لا
يستند البيع إلى إرادة القاهر.
فالالتزام بصحة جميع بيوعه كما لعله مذهب الأكثر، بدعوى أن ذلك

1 - انظر مقابس الأنوار: 117 / 26، المكاسب، الشيخ الأنصاري: 121 / السطر 8.
343

لا يؤدي إلى الاكراه على الخصوصيات المرجحة للإرادة، غير صحيح،
فما يكون من بيوعه إرادة الجابر محركة إليه، يقع باطلا.
نعم، لا بأس بالالتزام المذكور على الوجه الذي يأتي تفصيله.
والعجب من الوالد - مد ظله - حيث اختار في مجلس بحثه بطلان
أول المصداق، قضاء لحق الصناعة، مع اختياره في تحرير الوسيلة
أمرا آخر، فنفى الاستبعاد عن بطلان المصداق الذي يأتيه امتثالا لأمر
المكره!! فليراجع (1)، إنه خروج من مفروض المسألة كما لا يخفى.
حكم ما إذا أوجد بيوعا متعددة دفعة
ثم إنه إذا أوجد البيوع المتعددة بأول المصداق، فهل يكون
المجموع صحيحا.
أو باطلا.
أو يفصل بين الواحد غير المعين وغيره، فيقال بالقرعة.
أو أنها تختص بالمواقف التي لها الواقعية، فيكون أحد البيوع
صحيحا ثبوتا، ولا يمكن استكشافه من بينها إثباتا؟
وجوه:
والذي هو التحقيق: أن مجرد إلزام الملزم وإكراهه لا يكفي للبطلان،
كما إذا أكرهه وألزمه على بيع داره، وهو موافق لحكم عقله أيضا، ولكنه
يماطل في البيع لأجل طلبه الراحة، وربما يدعو له دعاء الخير، فكما

1 - تحرير الوسيلة 1: 467، القول في شرائط المتعاقدين، المسألة 3.
344

أن ذلك الاكراه يرجع إلى الاكراه على المقدمات، كذلك الأمر فيما أوقع
البيوع المتعددة دفعة، لأنه لا لون لما أكره عليه، فيكون الاكراه على
المقدمات، فعلى هذا يصح بيعه بلا شبهة، لعدم الامتنان في رفعه، ولعدم
حكم العقلاء ببطلانه، مع أنه لولا الالزام المذكور لما تصدى للبيع.
فالمدار على عدم وجود الدواعي المقتضية للإرادة، وإن لم تكن
بالغة إلى حد البعث والتحريك، فإنه عندئذ يبطل البيع ويفسد، وفي
المثال المذكور أيضا كذلك، فإنه مع إلزام المكره متوجه إلى
خصوصيات صنعه من البيوع المختلفة التي يريد إيقاعها بإنشاء واحد،
فما كان منها بتلك الإرادة القاهرة - أي إذا جعل واحدا من أمتعته في ضمن
الأمتعة الكثيرة لإرادة القاهر - فالبيع بالنسبة إليه باطل، ولكن لما
كان إرادة القاهر غير متعلقة بالمتاع الخاص والجزئي الخارجي في
مفروض المسألة، فقهرا يصح جميع البيوع، لتوافق الدواعي مع إرادة
القاهر. وهذا هو الوجه الذي وعدنا بيانه لتصحيح ما اختاره الأكثر (1)،
فتدبر.
إن قيل: هذا أمر عجيب، فإن الاكراه واقع بلا شبهة، والمكره واصل
إلى مقصوده بلا ريب، فكيف يكون البيع صحيحا؟!
قلنا: نعم، الأمر كما توهمت، إلا أنه لا منع من الفرار عن إكراهه
المورث للبطلان، فلو كان هو غير شائق إلى البيع، فكان عليه أن يقتصر
على ما يرتفع به الغائلة، فيعلم من ذلك حصول الدواعي على وفق إرادة

1 - تقدم في الصفحة 338.
345

المكره.
وهذا ليس معناه أن البطلان لبيع المكره، مستند إلى عدم تمامية
القرينة على إرادة البائع وقصده، كما عن النراقي (رحمه الله) في المستند (1)
فإنه واضح المنع، ضرورة أن مجرد القصد والإرادة غير كاف في
الصحة، وقد مضت دلالة الآية عليه حسبما ما يؤدي إليه النظر.
فتحصل أن لتحقق الإرادة عللا مختلفة حسب المعدات الداخلية
والخارجية، وليست تلك عللا تامة، إلا أن مع اجتماع المعدات تحصل
الإرادة، فتارة تسبق علة على أخرى، فيكون المعلول - وهي الإرادة هنا -
مستندا إليه، إلا أن العلل الأخرى أيضا إذا كانت لولا السبق المزبور
كافية في التأثير، يصح أن لا يكون المراد - وهو البيع - باطلا، لأنه وإن
كانت الإرادة مقهورة بوجودها الفعلي، ولكنها لما كانت المبادئ الأخرى
في النفس موجودة، لا يعد البيع عند العقلاء من بيع المكره الذي هو
الباطل عندهم.
نعم، إذا استلزم إلزام المكره انقلاب الدواعي، فلا يصح.
وبالجملة: فالاكراه على الطبيعة المطلقة، والاتيان بمصاديقها
العرضية دفعة واحدة، كالاكراه على الطبيعة المخيرة والجمع بين
طرفي التخيير، في كون المجموع صحيحا، ضرورة أنه إذا أتى بمصداق
منها، يكون هو المكره عليه قهرا، وإذا أتى بمصداقين فلا لون لما أكره
عليه، وحيث يكون الدواعي النفسانية على البيع موجودة يقع الكل

1 - مستند الشيعة 2: 364 / السطر 10.
346

صحيحا، لامتناع تعيين ما لا داعي له في بيعه، فمثل هذا الالزام من قبيل
إلزام المماطل عن القيام بمصالحه، فيكون الاكراه غير متحقق قهرا وإن
يصل المكره إلى مرامه ومقصده.
ومما يشهد على ما اخترناه، امتناع كون أحدهما المعين باطلا، أو
أحدهما غير المعين، أو المجموع، لقيام الضرورة على خلافه.
مختار الوالد المحقق فيما إذا أوجد المكره بيوعا متعددة دفعة ونقده
وما أفاده المحقق الوالد - مد ظله -: من أن الصحيح هو الكلي
في المعين، والباطل هو كذلك، كما في بيع الصبرة إذا كان بالنسبة إلى
بعض منها باطلا، فإنه كما هناك تحتاج الصحة الفعلية إلى الإجازة مثلا،
كذلك هنا تقع المعاملة بالنسبة إلى الكل صحيحة بالقوة، مثل صحة
باب الفضولي، وصحة بيع الصرف، فيكون القرعة هنا متمم السبب
الناقل، جمعا بين دليل (أوفوا بالعقود) (1) ودليل القرعة (2).
وبالجملة: فعنوان أحدهما صحيح، وعنوان أحدهما باطل، وهذان

1 - المائدة (5): 1.
2 - الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: إذا وقع الحر والعبد والمشترك على امرأة في
طهر واحد وادعوا الولد، أقرع بينهم، وكان الولد للذي يقرع.
عبيد الله بن علي الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، في رجل قال: أول مملوك أملكه فهو
حر، فورث سبعة جميعا، قال يقرع بينهم، ويعتق الذي خرج سهمه.
وسائل الشيعة 27: 257 و 261، كتاب القضاء، أبواب كيفية وأحكام الدعوى،
الباب 13، الحديث 1 و 15.
347

العنوانان كليان قابلان للصدق على كل واحد منهما.
ولو لم تكن تلك المعاملة صحيحة شأنية، لما كان يفيد الإجازة
اللاحقة بالنسبة إلى الكل، مع أن الأمر ليس كذلك بالضرورة، فعليه
يعلم صحتها الشأنية، ويترتب النقل بعد القرعة، وهي ليست لما هو
المتعين في الواقع، بل حصرها بهذه الصورة أولى من العكس (1).
لو تم في نفسه، لا يكون محتاجا إليه في المسألة، لعدم بطلان
الواحد لا بعينه، كما عرفت.
مع أن البيع المتعلق بعشرة أشياء في المسألة الأولى، وباثنين في
المسألة الثانية، لا يتعلق إلا بما هو العنوان الذاتي لها، لا العنوان
الاختراعي الآخر، ضرورة أن البائع مثلا قال: بعت هذا وهذا وذاك بكذا
وقال المشتري: قبلت الكل أو قال البائع المكره مع وكلائه في زمن
واحد: بعت بالنسبة إلى الأشياء الكثيرة، فإنه لا معنى لأن يكون
عنوان أحدها باطلا، وعنوان العشرة إلا الواحد صحيحا، لأنهما ليسا
مورد البيع، فهما عنوانان مشيران، ولا يعقل الإشارة إلى ما لا تعين له في
الخارج.
نعم، إذا جمع المكره في التعبير وقال: بعت العشرة وكان مكرها
على نفس الطبيعة، كان لما أفاده وجها لحل المعضلة وجه، فليتدبر.

1 - البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 2: 72 و 76 - 78.
348

حكم الاكراه على بيع شخصي مع ضم المكره إليه أمرا آخر
ثم لو أكرهه على الواحد الشخصي، فضم إليه الآخر فباع، فإن
كان من قبيل ما يفيد الضم رقاء القيمة، أو كان من قبيل أحد الفعلين
وواحد من البابين، فلا يبعد البطلان، لبناء العرف والعقلاء ودليل
الاضطرار، لو لم نقل بكفاية دليل الاكراه، أو قلنا بعدم جريان حديث رفع
الاكراه في بيع المكره، كما عرفت تحقيقه (1). مع أنك عرفت أيضا وجها
لممنوعية جريان الحديث مطلقا إكراها واضطرارا.
وإن لم يكن الأمر كذلك فيصح البيع بالنسبة إلى المنضم، إلا إذا
استلزم الخلل في الجهات الأخر المورثة لبطلان التجارة، كما لا يخفى.
حكم الاكراه على بيع متوقف على مقدمات وجودية أو علمية
ولو أكرهه على شئ كان متوقفا على المقدمات الوجودية، كما إذا
أكرهه على أداء الدين غير الواجب أداؤه فعلا، أو أكرهه على الضيافة
المتوقفة على بيع داره وأثاثه وهكذا، فالبيع باطل، لأن الإرادة المتعلقة
به ناشئة من إرادة الغير القاهر، ولاطلاق دليل رفع الاضطرار، بناء على
شموله لمثل هذه الاضطرارات المعلولة من الاكراه، وقد مضى وجه
منعه (2).

1 - تقدم في الصفحة 340 - 341.
2 - نفس المصدر.
349

وإذا كان متوقفا على المقدمات العلمية، كما في موارد العلم
الاجمالي، فالأمر بالنسبة إلى الأطراف مثل ما مر.
حكم ما إذا أكرهه على أداء الدين الواجب فباع داره
وإذا أكرهه على أداء الدين الواجب شرعا، فباع داره، ففيه
وجهان:
من أن الاكراه المذكور غير مشمول لحديث الرفع، لأنه ليس فيه
امتنان فتأمل، ولأن الدليل الخاص يقضي بجواز إكراهه عليه.
ومن أنه لا يستلزم صحة البيع، بعد ظهور كلمات القوم في أن
المناط هو الامتنان الشخصي، لا النوعي، فيشمله الدليل.
والأقوى هو الأول، خصوصا إذا كان متمكنا من أدائه بغير البيع
والكسب، فإنه وإن صدق الاكراه إذا كان إقدامه على اختيار البيع
للأغراض العقلائية، إلا أن الحديث ربما كان منصرفا عنه.
ويمكن دعوى: أن صحة البيع هنا كصحته في بيع المحتكر، فإنه مع
الاخلال ببعض الشرائط يصح، والأمر هنا مثله، فلو فرضنا أن إرادته لبيع
داره مقهورة لإرادة القاهر بعد رعاية الأغراض العقلائية، فإنه عندئذ
تبطل تجارته، ولكن ذلك صحيح عند الشرع. اللهم إلا أن يقال: بوجوب
الأداء بطريق صحيح، فلو تخلف عنه يكون البيع باطلا.
وبالجملة: فإذا كان الطريق منحصرا به فهو صحيح، وإلا فالصحة
محل إشكال بل منع.
350

حكم إكراه المحتكر على بيع الحنطة أو داره
ولو أكره المحتكر على بيع الحنطة أو بيع داره، فإن باع الحنطة
فهو صحيح قطعا، وإذا أقدم على الثاني فالظاهر هو البطلان.
اللهم إلا أن يقال: بأن إبطال بيعه يجرئه على المحرم، وهو
الاحتكار، فالمنة تقضي بالصحة، فليتدبر.
حكم إكراه جماعة على أمر واحد
لو أكره جماعة على أمر واحد، نظير الواجب الكفائي، فإن سبق
الكل فباعوا دورهم يبطل، إلا إذا كان السبق لدواعيهم.
وإذا تمكن أحدهم من إكراه واحد منهم على ما أكرهه عليه المكره،
فهل يجوز ذلك، أم لا، وإذا لم يجز ذلك، فهل يصح بيعه أم لا؟
فيه وجهان:
من إمكان التفصي بطريق عقلائي.
ومن لزوم كونه شرعيا.
حكم الاكراه على فعل موسع مع بدار المكره
ولو أكره على بيع داره من الزوال إلى الغروب، أو شرب الخمر،
فهل يجوز البدار مطلقا، أو لا مطلقا، أو يفصل بين الوضع والتكليف؟
فيه وجوه:
351

اختار الوالد المحقق الأول، بدعوى أن إمكان التفصي ممنوع
بالضرورة، فيصدق الاكراه عرفا (1).
والذي يقتضيه التحقيق الحقيق بالتصديق: أن عناوين حديث
الرفع (2) ليست من قبيل التخصيص، بل الظاهر أنها عناوين على الملاكات
الأولية اللازم حفظها بدوا، والجائز الاقتحام فيها عند الصدق شرعا، إلا
أن حكم العقل محفوظ حينئذ، وعلى هذا فلا يجوز البدار بالنسبة إلى
التكليف، لأن تأخير مبغوض المولى نوع ترك له بالضرورة.
بل لو قلنا بمراتب الامتثال والاعتذار، فالعذر في آخر الوقت أقوى،
لانطباق عنوانين: الاكراه والاضطرار.
هذا مع أن المكره قاطع بعدم رفع الالزام في الأثناء، ومع قطعه - كما
هو مفروض المسألة - لا يمكن حدوث احتمال الخلاف.
ولكن لي عدم تجويز البدار، لأن المفتي يحتمل ذلك، وإذا أمكن
التخلص من مبغوض المولى ولو احتمالا، يجب عقلا.
ومن هنا يعلم الوجه في التكليفات، والاكراه عليها بالأنحاء
المتصورة في الواجبات وأقسامها، كما أشير إليه، ضرورة أن الأمر هنا
يدور مدار الاطلاق بضميمة حكم العقل. وأما صحة تجارته في الأثناء
وبطلانها، فهي دائرة مدار الأمر الآخر الذي عرفته منا، وسمعته مرارا.

1 - البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 2: 75.
2 - الخصال: 417 / 9، وسائل الشيعة 15: 369، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس،
الباب 56، الحديث 1.
352

حكم بيع الوكيل مع إكراه المالك في أصل الوكالة
ولو أكرهه على التوكيل فأنشأ الوكالة، فهي باطلة، فهل العقد
الصادر من الوكيل أو الايقاع الصادر منه، يقعان فضوليين؟ الظاهر
ذلك، بناء على جريانه فيهما.
فإذا رضي بالوكالة، فهل يكفي عن الإجازة لهما، أم لا، أو يختلف
ذلك باختلاف المباني في الإجازة؟ الظاهر هو الأخير.
وما هو الظاهر في تلك المسألة: أن المالك بالخيار في أصل
الإجازة وحدودها، فله إجازة العقد على النقل، أي من الحين، وله
إجازته من الأثناء، وله الإجازة من أول الأمر، فيكون باعتبار الآثار
المقصودة، وله التفكيك في الآثار، فإن أجاز الوكالة باعتبار ترتيب جميع
الآثار فلا يحتاج عقد الوكيل إلى إيقاعه إليها، وإن أجازها بالنظر إلى
الأثر الخاص فيترتب هو، دون غيره، وله إجازة الوكالة من الحين،
فيكون العقد وإيقاع الوكيل فضوليين محتاجين إلى الإجازة الأخرى.
حكم إكراه المالك على قبول الوكالة في إجراء عقد أو إيقاع
ولو أكرهه المالك على قبول الوكالة في إجراء العقد أو الايقاع،
فهل يقعان صحيحين، أم لا، أو يقع الأول دون الثاني؟
353

قيل بالأول (1)، وقيل بالثالث (2).
والمسألة مبنية على أن إنشاء الوكالة ينحل إلى الانشاءين، أم
لا، فإن انحل عرفا إلى إنشاءين - إنشاء عنوان الخاص، وإنشاء الإذن
بإجراء العقد والايقاع - فلا حاجة إلى الإجازة، وإلا فتحتاج الصحة
إليها.
ولكن الظاهر أن انحلال الوكالة إلى الانشاءين، غير كاف، ضرورة
أن الإذن بإجراء العقد، موضوع لاعتبار الوكالة أيضا، لأن فعل من يأذن
لا يخرج من أحد العناوين المتعارفة العرفية، ولذلك تعد هذه العقود
- بتسامح - من العقود الإذنية.
وبالجملة: فهو وكيل عن إكراه، فتكون الوكالة باطلة.
نعم، دعوى كفاية المظهر ولو كان بالغلط والباطل للرضا والإرادة،
غير بعيدة، فعليه لا فرق بين العقد والايقاع، لأنهما واقعان بجميع شرائطهما.
ولنا دعوى: أن العقد الصادر من المكره يستند إلى المكره فيصح
من غير حاجة إلى الإجازة، وذلك لما عرفت منا في وجه بطلان بيع
المكره. وعن الشهيد الثاني احتمال الثاني، للزوم وقوع ألفاظ العقد
والايقاع باطلة، قضاء لحق حديث رفع الاكراه، فلا يكفي الإجازة
اللاحقة (3)، فتدبر.

1 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 120 / السطر 34، البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 2: 74.
2 - لم نعثر على قائله في هذه العجالة.
3 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 120 / السطر 35، مسالك الأفهام 2: 3 / السطر 21.
354

ومما ذكرنا يظهر: أن الاكراه على إجراء الصيغة وبيع الدار
والطلاق، إكراه على الوكالة بالحمل الشائع، ويظهر أن العقود الإذنية
من الأكاذيب، ضرورة أن الإذن يعتبر عند العقلاء من العنوان البسيط
الاعتباري، كالوكالة، والعارية، وليس المنشأ هو الإذن، فلا معنى
لانحلال الوكالة إلى الإذن الجنسي والمعنى الفصلي، حتى يكون
الباطل هو الثاني، دون أصل الطبيعة.
مع أنه عقلا ممتنع، لا عرفا، ولذلك يصح الالتزام بالتفكيك في
الانشاء في حديث رفع القلم بالنسبة إلى الالزامات، دون أصل
الانشاءات، ولذلك اشتهر بين المتأخرين صحة عبادات الصبي، لكونه
مأمورا بها بالأوامر الكلية الإلهية، إلا أن الالزام مرفوع عنه (1)، فلا تخلط.
ولو أكره الوكيل غير المالك على البيع، وكان وكيلا فيه، فالظاهر
تمامية النسبة، وصحة العقد، ولا وجه للسراية كما هو الظاهر.
بحث وفحص حول ما إذا أكره على الطلاق فطلق ناويا أو على البيع فباع
ناويا
عن تحرير العلامة (رحمه الله): لو أكره على الطلاق فطلق ناويا،
فالأقرب وقوع الطلاق (2).
وقد ذكر المتأخرون حول ذلك ما لا ينبغي منهم، ضرورة أن (الحق

1 - لاحظ المكاسب، الشيخ الأنصاري: 114 / السطر 21 و 25.
2 - تحرير الأحكام 2: 51 / السطر 25.
355

أحق أن يتبع) (1) سواء قال به أحد، أم لم يقل.
وبالجملة: فما أفاده غير وجيه، إلا إذا كان المقصود ما أشرنا إليه
في صحة بيع المكره، الذي يريد بعد الاكراه الفرار من الغصب، وهو
المأخوذ بالعقد الفاسد، فإذا نوى الطلاق لئلا تقع الزوجة في الحرام،
أو لغرض آخر في طول الداعي، فإنه لا منة في رفعه، وعليه حكم
العقلاء.
ثم إن الأصحاب تخيلوا صورا في المسألة، ضرورة أن الإرادة
المتعلقة بالعقد أو الايقاع، كما يمكن أن تكون معلولة الدواعي
النفسانية، يمكن أن تستند إلى الإرادة القاهرة، ويمكن أن تكون معلولة
الداعي وتلك الإرادة، ويمكن أن تكون إحداهما علة تامة لولا لحوق
الأخرى، دون الأخرى، فبنوا على التفصيل وذكر أحكامه.
استشكال الوالد المحقق على الصور التي ذكرها الأصحاب وجوابه
واستشكل المحقق الوالد - مد ظله - عليهم: بأن هذه الصور كلها
فيما نحن فيه ممتنعة، بداهة أن الاكراه على المعنى المشهور بين هؤلاء
هو الالزام على ما يكرهه المكره، ولا يعقل اجتماع طيب النفس المعتبر
عندهم في الصحة مع الكراهة إذا كانا متعلقين بأمر واحد عنوانا،
لا عنوانين منطبقين على واحد في الخارج، فإنه جائز كما تقرر في

1 - يونس (10): 35.
356

الأصول (1)، فالبيع والطلاق إما مكروه، أو مورد الطيب والرضا
النفساني، فعليه يسقط جميع الفروض، لامتناع كونهما جزءين،
ولا مستقلين، ولا داعيين طوليين، لأن المعتبر في العلل الطولية بقاؤها
معا، وهنا ينعدم الداعي الأول بحصول الداعي الثاني.
وأما الاكراه بالمعنى المختار، فهو أيضا لا يجتمع، لأن الإرادة
التكوينية المتعلقة بالبيع، إما معلولة إرادة القاهر، أو معلولة
الدواعي، وإذا كانت الدواعي غير محركة فهي معلولة تلك الإرادة، ولا
معنى للجمع، وإذا كانت معلولة الدواعي فلا أثر لتلك الإرادة القاهرة.
وتوهم اجتماعهما في التأثير، فاسد، فإنها معلولة النفس، وأما
الدواعي وتلك الإرادة فهي معدات لخلاقيتها، لا علل حقيقة.
وبالجملة: فإنا إذا راجعنا وجداننا، نجد أن إرادة البيع إما حصلت من
إرادة قاهرة عرفا، أو حصلت من الدواعي، ولا شركة بعد الدقة (2).
أقول: المسألة الفقهية التي يمكن عنوانها ليست هذه الأمور، ولا
تلك الصور، بل الجهة المبحوث عنها هنا: هو أن مع وجود الميول
النفسانية إلى البيع والأغراض العقلائية إلى الايقاع، هل يصدق
الاكراه الموضوع لرفع الأثر، وهل يحكم العقلاء ببطلان تلك العقود
والايقاعات؟

1 - انظر تهذيب الأصول 1: 391 - 398، تحريرات في الأصول 4: 201 وما بعدها.
2 - البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 2: 80 - 81.
357

قضية ما شرحناه سابقا وأسسناه حول المسألة (1)، عدم مساعدة
الأدلة على بطلانها، ضرورة أن مجرد الالزام المؤثر في الإرادة لو كان
موضوعا، يلزم فساد البيع في المثال المذكور، مع شهادة الوجدان
بصحته، وعدم شمول دليل الرفع لها ولا منة في ذلك.
مع أن الأمر هناك من قبيل الداعي إلى الداعي، بمعنى أن إلزامه
أورث إرادته، ولكنه بعد ملاحظة وقوعه في المشكلات المترتبة على
فساد البيع، يرجو صحته، ويريد إيقاعه، إلا أن الإرادة معلولة الدواعي
التي هي معلولة الالزام، وهما مجتمعان في الوجود، ولا يكون المتأخر
مفنيا للمتقدم، للزوم كون المعلول معدما لعلته، وهو مستحيل بالقطع
واليقين، فالبحث عن الطيب غير صحيح، لما عرفت من فساد المبنى.
وأما بعد كون الوجه في بطلان بيع المكره، كون الإرادة مقهورة
لإرادة أخرى، بحيث يمكن استناد الفعل إلى القاهر، دون المقهور، كما
يستند فيما كان نسبة المباشر إلى السبب أضعف بمراتب كالوكيل، فيأتي
الكلام حول أن نفس تلك الدواعي غير المحركة القابلة للتحريك،
ولكنها لا تكون محركة أصلا، تضر بصدق الاكراه أو تمنع عن فساد البيع
وأن صدق الاكراه بمعنى الالزام، أم لا، وقد مضى أيضا: أن الفساد لا يدور
مدار صدق الاكراه لأجنبية حديث الرفع عن المسألة (2)، فلا تغفل.
وبمقتضى ما تقرر سابقا من المثال بالمماطل، يظهر لك إمكان كون

1 - تقدم في الصفحة 326.
2 - تقدم في الصفحة 329 و 339 - 340.
358

الداعي النفساني والداعي إلى الفرار من وعيد الملزم، مجتمعا علة
الإرادة، فلا تكون الإرادة - كما عرفت - معلولة الإرادة حتى لا يعقل توارد
الالزام والدواعي، بل إرادة القاهر تورث داعيا، وسائر الدواعي الأخر
أيضا موجودة، فتقدم على البيع، فإنه عندئذ يشكل الأمر صحة وفسادا،
لقصور الأدلة من الجانبين، وكأنه جمع بين مقتضى الصحة ومانعها، كما
لا يخفى.
إن قيل: قضية ما مر هو استناد الإرادة إلى القاهر عرفا، فعليه لا
يمكن الالتزام بإمكان التصوير المذكور.
قلنا: نعم، إلا أن مع عدم وجود الدواعي يكون الأمر كذلك، بخلاف ما
إذا كانت الدواعي الأخر معلومة وموجودة، فإنه عندئذ لا يستند عرفا إلى
تلك الإرادة، بل العرف حينئذ ينتقل إلى أن تلك الإرادة وسائر الدواعي
اتفقت في خلاقية النفس للجزء الأخير، فتدبر جيدا.
وإن شئت قلت: ما هو محرك المكره إلى الفعل ليست إرادة القاهر،
بل هي موضوع الإطاعة ومصب الفرار من الوعيد الذي هو العلة
التامة أو الناقصة، وعليه فيجتمع الدواعي الكثيرة في الاتيان بالفعل
الواحد.
وهذا وإن كان مطابقا للتحقيق، إلا أنه فيما اقترنت الدواعي به، وأما
إذا توحدت فعند العقلاء تكون الإرادة مستندة إلى تلك الإرادة، ويكفي في
عرفية المسألة خفاؤها على مثله المحقق في العلوم العقلية
359

والنقلية، فما أفاده - مد ظله - حول المسألة (1) وهكذا سائر الأصحاب
- رضوان الله تعالى عليهم (2) - مما لا يمكن الركون إليه.
منع جريان حديث الرفع لاثبات بطلان عقد المكره عند الشك
ثم إن قضية ما ذكرناه في هذا المضمار بطوله - من انحصار الدليل
في المسألة ببناء العقلاء، وعدم جريان حديث رفع الاكراه (3) - هو
البطلان في مواقف الشك، كما لا يخفى.
إن قلت: لا منع من التمسك بالحديث، فيكون في عرض
المخصصات اللفظية بالنسبة إلى عموم (أوفوا بالعقود) (4) ولا نص
على كونه في طول الأدلة الواقعية الأولية، بل السر هو اقتضاء الرفع
ذلك، وهو حاصل فيما فرضناه، وبهذا المعنى تكون المخصصات بلفظ هنا
طبق العمومات.
قلت: حتى لو سلمنا ذلك، ولكن شمول العمومات الشرعية
والقوانين الكلية لبيع المكره، ممنوع حسب الأفهام العرفية، ولا أظن
إمكان الالتزام بذلك، وهذا إما يرجع في الحقيقة إلى اشتراط العقد في

1 - البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 2: 80 - 81.
2 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 121 / السطر 23، منية الطالب 1: 196 /
السطر 11.
3 - تقدم في الصفحة 329.
4 - المائدة (5): 1.
360

التحقق إلى عدم وجود الإرادة القاهرة، أو في التأثير، والأول هو
الأقوى، على إشكال يأتي، فيكون بيع المكره خارجا تخصصا، لتلك
الجهة، فلا تخلط.
ويمكن دعوى: أن جل عناوين حديث الرفع من الأعذار العقلية
والعقلائية، فالتكاليف الإلهية والوظائف الشرعية مختلفة:
فمنها: ما لا يرفعها الحديث، ولا يقبل فيها تلك الأعذار، كالمهمات
منها.
ومنها: ما يقبل فيها العذر، ويشملها الحديث، فلا حاجة إليه.
ومنها: ما لا تعد عذرا، إلا أن إطلاق الدليل يرفعها.
فدعوى انصراف الحديث الشريف عما يعتذر به العقلاء، غير
بعيدة.
اللهم إلا أن يقال: باختلاف الآثار من جهات أخر في الشمول
وعدمه، فتدبر جيدا.
بقي الكلام في أمور:
الأمر الأول: حول عدم قابلية عقد المكره للتصحيح بالإجازة
في أن بيع المكره هل هو باطل غير قابل للتصحيح بالإجازة
اللاحقة أو الرضا اللاحق، أم هو قابل، أو يصح بالإجازة، ولا يكفي
الرضا، وليس هو مثل الفضولي؟
361

وجوه، بل أقوال:
المشهور بين المتعرضين هو الثاني (1)، لما يستظهر منهم الاكتفاء
بالرضا، وتكون الإجازة أولى بها، معتقدين أن ما هو الدخيل في ماهية
العقد قد حصل، وما هو الشرط في نفوذه يحصل بها، فيصير العقد صحيحا.
شبهات تصحيح عقد المكره بالإجازة
وقد يشكل ذلك تارة: بأن ما هو الحاصل بماهيته هو عنوان البيع
لأن المفروض تقومه وجودا بالإرادة، وهي في المكره حاصلة،
وبالتمليك والمبادلة ماهية، وهي مورد تلك الإرادة المقهورة الناشئة
من إلزام المكره، ولكن ذلك غير كاف، لاشتراط كونه عقدا حتى يكون
مشمول أدلة التنفيذ، وهو غير صادق عليها بالضرورة، لأن المعاقدة
والعقدة لا تحصل إلا مع المالك المريد بالإرادة الاستقلالية، لا
المقهورة التبعية، وهذا مما يشهد به الوجدان، ويساعد عليه البرهان.
وأخرى: بأن هذه المسألة من متفرعات ما هو القادح في صحة بيع
المكره، فإن قلنا: بأن وجه البطلان اختلال الشرط، وهو الرضا
والطيب، كما يظهر من الشيخ (رحمه الله) (2) وكثير من أتباعه (3)، فهو يحصل بعد

1 - شرائع الاسلام 2: 14، قواعد الأحكام 1: 124 / السطر 3، الدروس الشرعية 3:
192، المكاسب، الشيخ الأنصاري: 121 / السطر 34، و: 122.
2 - المكاسب، الشيخ الأنصاري: 122 / السطر 21 - 22.
3 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 119 / السطر 31، و 121 / السطر 13، منية
الطالب 1: 197 / السطر 24، و: 198.
362

الإجازة.
وإن قلنا: بأن الوجه هو ضعف الاستناد، ويكون من قبيل عقد غير
المالك، فهو كالفضولي كما مر منا تقريبه (1)، فهو أيضا ممكن تحصيله
بالإجازة.
وأما بناء على كون الاكراه مانعا، فهو قد حصل ولا يمكن رفعه، وما
يمكن رفعه هو الحاصل من الاكراه وهو كراهة المكره، إلا أن الكراهة
ليست مانعة، ولا الطيب شرطا، على ما تقرر، فيكون نفس إلزام القاهر
مانعا غير قابل للارتفاع.
وهكذا لو قلنا: بأن ما هو الشرط عدم كون الالزام من مبادئ تحقق
الإرادة في المكره، وأما اعتبار المانع فهو محل الكلام في مثل المقام،
فعليه لا يمكن - بناء على ما يظهر مما مر - تصحيح بيع المكره بالرضا
والإجازة مطلقا.
وثالثة: بأن ظاهر المستثنى في آية التجارة كون التراضي الناشئ
من المتعاملين، دخيلا في خروجها من الباطل في المستثنى منه، وذلك
لقوله: (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) (2) فإن كلمة (منكم) كما مر
تفيد كون التراضي من المتعاملين، لا من القاهر (3)، فما كانت من التجارة

1 - تقدم في الصفحة 326.
2 - النساء (4): 29.
3 - تقدم في الصفحة 328 - 329.
363

فاقدة لتلك الجهة باطلة.
ولا دليل على خروجها من المستثنى منه، ودخولها في المستثنى،
بل لا يعقل ذلك، لأنه بالإجازة والرضا لا تخرج التجارة المزبورة من
العنوان المنطبق عليها، كما عرفت في الاشكال الثاني.
ثم إن من المحتمل في الاتيان بكلمة التراضي هو إفادة كون
المتعاملين متراضيين من المبادئ والدواعي الموجودة في أنفسهم، لا
من إرادة القاهر، وأما إذا كان أحدهما قاهرا ومتعاملا، فهو أيضا ليس من
التراضي الحاصل منهما، بل هو من التراضي الحاصل من أحدهما، فافهم
واغتنم جدا.
وتوهم دلالة الآية الكريمة على أن التجارة لا بد من كونها عن
التراضي، وناشئة عن الرضا المقارن، فتدل على بطلان بيع المكره (1)،
في غير محله، لأنها لا تتم إلا بالنسبة إلى منع التأثير قبل اللحوق، وأما
إذا لحقته الإجازة فيحصل الشرط، فتكون مؤثرة.
فبالجملة: يتوقف إبطال بيع المكره بنحو كلي - بحيث لا تفيد الإجازة
اللاحقة - على اعتبار ما لا يمكن تحصيله، وإلا فالأدلة اللفظية لا تدل
على أن بيع المكره غير قابل للتصحيح، كما هو الواضح الظاهر في
الفضولي ونحوه.
ورابعة: بأن بناء العقلاء على بطلان بيع المكره، وهذا يرجع إلى
اعتبارهم القيد والشرط فيه للصحة والأثر، ولا يكون عندهم نحوان من

1 - لاحظ مجمع الفائدة والبرهان 8: 156.
364

الشروط: شروط الصحة، وشروط التأثير. وما اشتهر من شرط الصحة
والاسم وشرط التأثير، فهو لأجل اختلاط الشروط الشرعية بالعرفية
وامتزاجها، فما عندهم إلا ما هو الدخيل في عنوان المعاملة.
وإن شئت قلت: كون العقد صحيحا تأهليا وقابلا، وفي قوة الصحة
الفعلية، مما لا معنى له في الأمور الاعتبارية، بل الأمر فيها حول القيود
والشرائط الدخيلة في كونها موضوعا للأثر، ومحلا لاعتبار الغرض
والمقصود العقلائي، أو عدمها، ولا ينبغي الخلط بين الشرعيات
والاعتباريات، وبين الطبيعيات والتكوينيات، فالإجازة اللاحقة من
شروط عقدية العقد وبيعية البيع عند العرف، وما ترى من إطلاق
البيع على بيع المكره، فهو من التسامح، وإلا فهو عندهم لا يعد بيعا.
وتوهم صدق تعريف البيع عليه، فهو لأجل تخيل أن المقصود من
التمليك بالعوض أعم مما يصدر من المالك وغيره، ومن المكره
وغيره، مع أنه ظاهر في أنه تمليك صادر من المالك، لأن غير المالك
لا يكون مملكا، وتمليك صادر عن إرادة مستقلة منه، لا من القاهر. وهكذا
في قولهم: هو مبادلة مال بمال.
فالعقد الفضولي وبيع المكره، مشتركان في هذه الجهة فسادا،
خصوصا إذا قلنا: بأن منشأ فساد الثاني رجوعه إلى الأول، كما عرفت منا
تقريبه (1)، فافهم وتدبر.

1 - تقدم في الصفحة 326.
365

وخامسة: لو فرضنا خروج عقد المكره من عموم (أوفوا بالعقود) (1)
للأدلة الشرعية، وهكذا من سائر الأدلة التنفيذية، لما بقي وجه
للتمسك بها بعد ذلك، إلا على الوجه غير الصحيح عند المحققين، وهو
كون الزمان مفردا.
الوجه الحق لعدم قابلية عقد المكره للتصحيح بالإجازة
وسادسة: بأن الظاهر من حديث الرفع، تنزيل الموجود منزلة
المعدوم على نعت الادعاء، وإطلاقه يقتضي عدم إمكان لحوق الإجازة به،
للزوم التهافت بينه وبين دعواه.
وإن شئت قلت: الموضوعات في الأدلة الأولية على أنحاء ثلاثة:
ما لا تندرج في عناوين حديث الرفع.
وما تندرج فيها، وتكون بتمام ذاتها تكليفا.
وما تندرج وتكون الكلفة في لزومها، كما نحن فيه، فإن عقد
المكره مرفوع، ولا كلفة في بقاء الصحة التأهلية، لاقتضاء الامتنان
المبني عليه الحديث الشريف ذلك.
فما كان من القسم الأول والثاني، فعدم الشمول والشمول واضح
فيهما.
وأما في القسم الثالث، فقد وقعت كلمات القوم في اضطراب
شديد، وكلها مخدوشة، لعدم تناولها ما هو الحق في معنى الحديث، وكيفية

1 - المائدة (5): 1.
366

الادعاء المشاهد فيه، وإذا تأملت في أن دعوى ارتفاع الموضوعات، لا
تصح إلا بالمصححات العقلائية، وهي هنا متوقفة على كون تلك
الموضوعات مدعاة على المكلفين، دون الأحكام، لأن ما ادعى رفعه هو
المدعى وضعه، فكما في جانب ادعاء الوضع، تكون الآثار غير
التكليفية في جنب الأوزار التكليفية، غير مرعية، ولا منظورا إليها،
فكذلك الأمر هنا، فيلزم عندئذ صحة ادعاء لا شيئية المكره عليه
والمضطر إليه وهكذا، فعليه لا معنى لترتيب أثر الصحة التأهلية،
لأنها فرع الوجود، وهو معدوم في نظر الشرع والادعاء.
إن قلت: فما الحيلة للفرار عما عليه العقلاء في الفضولي
والمكره، من بنائهم وحكمهم بكفاية الإجازة، ولا يمكن - على ما تقرر -
ردع البناءات الاغتراسية العقلائية بإطلاق دليل، خصوصا إذا كان
محتاجا إلى التقريب والاثبات؟
قلت: منكر صحة الفضولي يتشبث بأن الإجازة هي القبول، وليست
إلا من قبيل القبض في الصرف والسلم.
وبالجملة: ليس عقد المكره عقدا عرفا، ولا بيعا حقيقة، ويصير
بالإجازة عقدا وبيعا بحكم العرف، فما صنعه المكره هو القابل لانطباق
العناوين العقلائية عليه بعد الإجازة، وإلى هذا يرجع قول من يقول: بأنها
ناقلة، فتأمل جيدا.
فتبين الفرق بين كون عمل الفضولي والمكره، مصداقا للعقد
367

والبيع حقيقة، كما هو خيرة المشهور توهما (1)، وبين عدم إمكان
انطباق تلك العناوين عليه، كما هو الظاهر من جامع المقاصد (2)
وصاحب الذخيرة (3) ومجمع الفائدة (4) وبين ما أسسناه، وهو الحد
الوسط، فيكون قابلا لصيرورته معنونا بتلك العناوين. والانطباق السابق
على الإجازة، من الاطلاقات الوهمية في الاستعمالات الموسعة غير
المبتنية على الدقة والنظر، فتدبر.
وفاء الاعتراض السابق بمقالة المشهور
ثم إنه لا يبعد عدم تمامية بعض الشبهات المشار إليها بناء أو
مبنى، إلا أن الحق في بينها ما ذكرناه أخيرا.
فلو فرضنا أنه عقد، وقلنا كما هو الحق: بأن عنوان العقد مما لا
حاجة إليه في المعاملات، بل المدار على العناوين الأصلية، لأجنبية
الآية الكريمة عما نحن فيه، كما تقرر في محله (5).
وفرضنا كما هو الحق، أن وجه بطلان بيع المكره، كون الإرادة

1 - الحدائق الناضرة 18: 373، رياض المسائل 1: 511 / السطر 30 - 31،
و: 512 / السطر 9، لاحظ المكاسب، الشيخ الأنصاري: 121 / السطر 33 - 34.
2 - جامع المقاصد 4: 62.
3 - كفاية الأحكام: 89 / السطر 3.
4 - مجمع الفائدة والبرهان 8: 156.
5 - تقدم في الصفحة 327.
368

المتعلقة به مقهورة للإرادة الأخرى، فيكون الفعل مستندا إلى تلك
الإرادة، لأقوائية السبب من المباشر.
وسلمنا أن المستثنى في الآية الكريمة لا يفيد إلا البطلان
الفعلي، وهو لا ينافي الصحة التأهلية.
وفرغنا عن أن العقلاء كما تكون عندهم شروط للصحة، تكون
عندهم شروط للتأثير، ويكفي لاعتبار الصحة التأهلية ترتب الغرض
عليها، وهو الصحة الفعلية بالإجازة.
وقلنا: بأن التخصيصات في القوانين الكلية، ليست تخصيصات
فردية باخراج الأفراد بعناوينها الشخصية، حتى لا يندرج في العمومات
ما خرج منها، بل هي التخصيصات الراجعة إلى التقييدات
الأحوالية، وإن كانت في القانون بصورة العموم والخصوص، فعليه ما
كان خارجا من عموم (أوفوا) (1) و (تجارة عن تراض) (2) عنوان كلي، ولو
كان ما يصدق عليه عنوان المخصص في زمن غير صادق عليه في الآخر،
فلا ريب في شمول العمومات قطعا.
وهذا ليس معناه كون الزمان، والأحوال الشخصية مفردات، بل
التفريد في العام تابع العنوان الخارج منه، فإذا كان الخارج عنوان بيع
المكره فما هو الداخل بيع غير المكره، فإذا زالت الكراهة تشمله
العمومات قهرا.

1 - المائدة (5): 1.
2 - النساء (4): 29.
369

وذكرنا: أن حديث الرفع أجنبي عن هذه المواقف (1)، أو فرضنا عدم
دلالته على نفي القابلية، لأن ما هو المدعى وضعه ليس عنوان
الموضوعات الخاصة، بل المدعى أن ما هو الموضوع عليهم وزرا
بالقوانين الكلية، مرفوع عنهم منة، ولا شبهة أن الصحة التأهلية ليست
موضوعة وزرا، فملاحظة قانون الرفع بعد التطبيق على عناوين سائر
القوانين غير صحيحة، للزوم انتفاء الموضوع المذكور عرفا وتعبدا،
فلا تغفل.
يلزم من مجموع ذلك صحة ما أفاده القوم في المقام.
فتحصل: أن تلك الشبهات لا تخلو من المناقشات، إلا أن الذي
عرفت هو الأمر الثالث غير ما هو المشهور، ولا ما هو المنسوب إلى
بعض الفحول، كما مر (2)، بل بالإجازة يصير ما أوجده المكره معنونا
بعناوين المعاملات، وسيتضح زيادة عليه في الفضولي إن شاء الله
تعالى.
الشبهة السابعة: ثم إن هاهنا شبهة أخرى غير ما مر: وهي أن
الكراهة الباطنية المعلومة للمكره الباقية بعد العقد، في حكم رد
البيع، فلا تفيد الإجازة اللاحقة، لأنها التحقت بعد الرد.
وتندفع بما يأتي: من أن الرد الظاهري لا يمنع، فضلا عنه،
والاجماع المدعى مخصوص بصورة أخرى، كما لا يخفى.

1 - تقدم في الصفحة 329 - 330.
2 - تقدم في الصفحة 367 - 368.
370

فذلكة الكلام في وجه بطلان بيع المكره
هو أن وجه بطلان بيع المكره، إما فقدانه الشرط الوجودي، أو
العدمي، أو وجدانه المانع، فإن كان فاقدا للشرط الوجودي، فيلزم
الانتقاض ببيع المضطر، ويمكن تصحيحه بلحوق الرضا والإجازة،
لتمامية السبب بذلك قهرا.
وإن كان فاقدا للشرط العدمي المشار إليه سابقا، أو واجدا للمانع
كما عرفت (1)، فهما يورثان عدم الانتقاض، ولكن يلزم عدم إمكان إفادة
الإجازة والرضا اللاحق صحته، كما لا يخفى.
والذي هو الأقرب من أفق التحقيق: أن الوجه فقدانه الشرط
الوجودي، إلا أنه ليس مطلق الرضا والتراضي، بل الشرط هو
التراضي المعلول للدواعي الموجودة في نفس البائع، دون ما إذا
حصلت من إلزام المكره، وبذلك يجمع بين ما هو طريقة العقلاء من
كفاية الإجازة أو الرضا، ومن قولهم بصحة بيع المضطر دون المكره،
وبين ما هو المستفاد من المستثنى في آية التجارة، وهو التراضي
الناشئ من المتعاملين ومن دواعيهم النفسانية، فافهم واغتنم.
نعم، قضية ذلك صدق التجارة على الفاقد للقيد، ومقتضى ما مر
منا عدم صدق العناوين إلا بعد لحوق الرضا الصادر من الدواعي
النفسانية، ولكن التأمل حقه يعطي عدم ظهور المستثنى في ذلك، ولا يعد

1 - تقدم في الصفحة 325.
371

بيع المكره من التجارة العقلائية قطعا.
الأمر الثاني: في النقل والكشف
هل الإجازة اللاحقة به تكون ناقلة، أم كاشفة حقيقة، أو حكما؟
وجوه وأقوال تفصيلها في الفضولي (1).
ويحتمل النقل على نعت آخر، بأن يكون الناقل متأخرا زمانا،
والمنقول متقدما زمانا، ومتأخرا رتبة، وهذا غير الكشف الحقيقي، كما
لا يخفى.
والذي هو التحقيق: أن ما يتراءى من كلمات القوم - من أن الأمر غير
اختياري، وتكون الإجازة إما ناقلة، أو كاشفة - فاسد جدا، بل قضية حكم
العقل والعرف، أن الأمر بيد المالك، فإن شاء أجاز من أول الأمر، وإن
شاء أجاز من الوسط، أو من الحين، وله اشتراط انسلاب المنافع، وله
اشتراط لحوقها بالعين، لعدم الدليل على أن الأمر قهري، ولا شاهد على أن
أمر العقد خارج عن اختياره، بعد احتياجه على جميع التقادير إلى
الإجازة حتى على الكشف الحقيقي، فإنه تابع مقدار الكاشف وحدود
الكشف.
فهذا هو قضية الأصل العقلائي، إلا إذا نهض من الشرع ما يقتضي
خلافه، كما في النكاح، فراجع.

1 - يأتي في الجزء الثاني: 122 وما بعدها.
372

وأما مقتضى الأصول العملية فعدم تمامية السبب بلحوقها، ولو
فرضنا ذلك فالقدر المتيقن منه هو النقل من الحين.
إن قلت: بناء على ما هو المختار من عدم صدق العناوين إلا بعد
الإجازة وإظهار الموافقة، فلا معنى لهذا النزاع، لتقومه بصدق
العناوين، واحتياجه في الأثر إلى الإجازة، كما هو ظاهر الأصحاب
رضوان الله تعالى عليهم.
قلت: لا نسلم ذلك، فإنه إذا أمكن اتصافه بعدها بها، فلا منع من كونه
مدار كيفية لحوق الإجازة، كما هو الواضح.
وبعبارة أخرى: فرق بين ما هو من تتمة الأجزاء، كالقبول والقبض
المعتبرين في جثمان العقد، وبين ما هو من الشرائط القلبية، كالرضا
ورفع الكراهة:
فما كان من قبيل الأول، فلا يأتي فيه النزاع المزبور، كما لا معنى
للنزاع المذكور في القبول اللاحق بالايجاب إذا كان متأخرا زمانا، وقلنا
بعدم شرطية الموالاة كما عرفت (1).
وما كان من قبيل الثاني فيأتي فيه البحث، لأنه به يصير معنونا
ومؤثرا، فيكون تابعا لزمن تعنونه بالعناوين اللازمة، وهو في اختيار
المالك.
اللهم إلا أن يقال: كل الأمور الدخيلة في التأثير والاسم على نسق
واحد عرفا، وتمام البحث في الفضولي، فتأمل.

1 - تقدم في الصفحة 165.
373

الأمر الثالث: حول كفاية الرضا اللاحق وعدمه
هل يكفي الرضا اللاحق، أم لا بد من إنشاء الإجازة، أم المسألة من
قبيل بيع الفضولي، فإن كان هناك كافيا فالأمر هنا مثله؟
وقد يقال بالفرق بين المقامين: وهو أن المنقصة في بيع المكره
هي ضعف الاستناد إليه، لأجل كونه فاقدا للرضا والطيب، وهما أمران
قلبيان يتم العقد بحصولهما في القلب، ولا يفتقران إلى الانشاء، بخلاف بيع
الفضولي، فإن المنقصة فيه عدم الاستناد إلى المالك، فيحتاج إلى
الانشاء (1) انتهى، وفيه ما لا يخفى.
والذي هو التحقيق: أن الرضا وما هو الشرط القلبي الذي هو من
الصفات الموجودة في النفس حين الانشاء، ليس قابلا للانشاء، لعدم
كونه من الاعتباريات، فهو بوجوده الواقعي دخيل في الاسم أو في التأثير،
فكما يصح أن ينشئ المالك بيع داره مخبرا بعدم رضاه بذلك حين الانشاء،
ولكنه يخبر به بعد مدة، كذلك له الاخبار بحصول الرضا به، فلو اطلع
على هذا الأمر القلبي من غير اخباره، فهو أيضا كاف، ففرق بين ما لو كانت
صحة أمر موقوفة على الانشاء، كما في طلاق زوجته، فإنه ما دام لم ينشئ
لا يقع الطلاق، لتقوم صحة طلاق الغير بإنشاء الوكالة له، أو ما يحذو
حذوه، ولكنه إذا طلق فضولا ثم رضي به، فلا يبعد الكفاية، لتمامية

1 - لاحظ المكاسب، الشيخ الأنصاري: 122 / السطر 3، منية الطالب 1: 198 /
السطر 4.
374

العلة التامة، فإنه لو كان يطلق بنفسه فلا يكون إلا إنشاء الطلاق مع
الرضا والإرادة، وهما حاصلان.
ولكن المسألة بعد تحتاج إلى التعمق، والتفصيل في الفضولي إن
شاء الله تعالى.
375