الكتاب: الاجارة
المؤلف: الشيخ الأصفهاني
الجزء:
الوفاة: ١٣٦١
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق: لجنة التحقيق
الطبعة: الثانية
سنة الطبع: ١٤٠٩
المطبعة: مطبعة مؤسسة النشر الإسلامي
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
ردمك:
ملاحظات:

بحوث في الفقه
الإجارة
1

الكتاب: الإجارة
المؤلف: المحقق آية الله العظمى الشيخ محمد حسين الإصفهاني
المحقق: لجنة التحقيق
الموضوع: فقه
اللغة: عربي
عدد الأجزاء: جزء واحد
عدد الصفحات: 314
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
الطبع: مطبعة مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: الثانية
المطبوع: 2000 نسخة
التاريخ: 1409 ه‍. ق
2

بسم الله الرحمن الرحيم
وهي كما نسب إلى أكثر أهل اللغة بمعنى الأجرة، وظاهر رواية تحف العقول
أنها بمعنى المصدر حيث قال (عليه السلام): وأما تفسير الإجارات فإجارة الإنسان
نفسه أو ما يملك.. إلخ (1)، وهل هي مصدر لأجر الثلاثي كما عن نجم الأئمة (2)،
أو لأجر أو يساوق المؤاجرة كما عن غيره؟ فيه خلاف لا يهمنا البحث عنه. و
المشهور في مفهومها أنها تمليك المنفعة بعوض.
وأشكل ذلك بوجهين: (أحدهما) كما عن شيخنا الأستاذ " قدس سره " من
أن الإجارة تتعلق بالعين فيقال آجرت الدار أو نفسي ولا يقال آجرتك سكنى الدار
ولا عملي (3). فيعلم منه أن معناها لا تعلق له بالمنفعة أو العمل، ولا يتوهم أن
الإجارة إذا أخذت المنفعة في مفهومها فلا بد من إضافتها إلى الدار دون سكناها،
وذلك لأن المراد من كونها بمعنى تمليك المنفعة أنها حصة من طبيعي التمليك الذي
لا يضاف إلا إلى المنفعة كما في تفسير البيع بأنه تمليك عين بعوض لا أن مفهوم
المنفعة هنا ومفهوم العين ومتعلقاتها هناك مأخوذ في مفهوم الإجارة ومفهوم البيع.

(1) تحف العقول: ص 333.
(2) راجع شرح الشافية: ج 3، ص 53.
(3) حاشية المكاسب: ص 32.
3

فمفهوم الإجارة عنده " قدس سره " جعل العين بالأجرة وهي إضافة خاصة في
قبال إضافة الملكية. ويندفع بأن الأجرة لا تكون إلا في قبال العمل والمنفعة
كالثمن في قبال العين فلا محالة يراد جعل العين بالأجرة في قبال منفعتها. ومقتضى
المقابلة والمعاوضة ملكية المنفعة للمستأجر كملكية المؤجر للأجرة فيكون الفرق بين
المشهور وبينه " قدس سره " أن تمليك المنفعة مدلول مطابقي للإجارة عند المشهور،
ومما يتضمنه مفهوم الإجارة على ما أفاده " قدس سره ". نعم في عدم صحة إسناد
الإجارة إلى المنفعة مع كونها بإزاء الأجرة خفاء.
وغاية ما يتخيل في وجهه أن مجرد المقابلة بين المنفعة والأجرة لا يصحح إسناد
عنوان اشتقاقي من الإجارة إليها فإن مصححه هو قيام المبدأ بما يوصف به أو يسند
إليه. والأجير هو العامل لا العمل وإن كانت الأجرة بإزاء العمل كما أن الثواب
بإزاء العمل والمثاب هو العامل دون العمل وليس قيام الأجرة بالعامل من باب
ملكه للأجرة فإنه ربما يكون المالك غيره كما إذا آجر المولى عبده فإن الأجير هو العبد
ومالك الأجرة مولاه، فتأمل.
(ثانيهما) أن المنفعة غير قابلة للمملوكية إما لما توهم من أن المنفعة معدومة حال
الإجارة والمعدوم لا يملك. وإما لما عن بعض من عاصرناه من أهل التدقيق من أن
منفعة الدار سكناها وهي من أعراض الساكن لا من أعراض الدار وعرض
الساكن لو كان مملوكا لكان لموضوعه لا لغيره ومتى لم يملكه المؤجر فكيف يملكه
المستأجر، ولذا ذهب إلى أن الإجارة تمليك العين في جهة خاصة في مدة مخصوصة
في قبال البيع الذي هو تمليك العين من جميع الجهات من دون تقيدها بجهة ولا
بمدة وتبعه في ذلك بعض الأجلة " رحمه الله ".
ويندفع التوهم الأول بما حققناه في محله من أن الملكية الشرعية ليست من
المقولات الواقعية حتى يتوقف العرض منها على موضوع محقق في الخارج بل من
الاعتباريات بمعنى اعتبار معنى مقولي فالمعنى المقولي موجود بوجوده الاعتباري لا
بوجوده الحقيقي المتوقف على موضوع محقق خارجا وقد أقمنا البراهين القاطعة عليه في
4

بحث الأحكام الوضعية من الأصول فراجع (1). واعتبار الملكية لا يحتاج إلا إلى
طرف في أفق الاعتبار وهو كما يمكن أن يكون عينا موجودة في الخارج كذلك يمكن
أن يكون كليا في الذمة بل ربما يكون أوسع من ذلك كما في اعتبار الملكية لكلي
الفقير والسيد في الزكاة والخمس، ومن الواضح أن المنافع وإن كانت معدومة في
الخارج لكنها مقدرة الوجود بتبع وجود العين القابلة لاستيفاء المنافع منها.
ويندفع التوهم الثاني بأن سكنى الدار كما هو مبدأ لعنوان السكانية المنتزع من
ذات الساكن كذلك هو مبدأ لعنوان المسكونية المنزع من الدار كما في كل عنوانين
متضايفين فما هومن شؤون الدار وحيثياتها الموجودة بوجودها هي حيثية المسكونية لا
حيثية الساكنية التي هي من أعراض المستأجر.
غاية الأمر أن حيثية المسكونية وجودها بوجود الدار على حد وجود المقبول
بوجود القابل وفعليتها بفعلية مضائفها القائم بالمستأجر في مقام الاستيفاء، وشؤون
العين قابلة لعروض الملكية لها كنفس العين مع أنه يمكن أن يقال إن حقيقة
السكنى المبدئي وإن كانت عين الكون في الدار وهو عرض لذات الكائن لا للدار،
نعم الكون الأيني من الأعراض النسبية التي لها نسبة غير نسبتها إلى موضوعها، إلا
أن هذا العرض حيث إن له نسبة إلى الدار يكون زمام أمره بيد مالك الدار ولا نعني
بالملكية إلا ذلك.
وأما جعل الإجارة كما قيل تمليكا للعين في جهة خاصة في مدة مخصوصة وأنه
معنى تمليك المنفعة ففيه أن معروض الملكية إن كان نفس تلك الجهة عاد محذور
تعلق الملكية بالمنفعة وإن كان هي العين المخصصة بجهة والعين المتحيثة بحيثية
مخصوصة بما هي مقيدة بها لزم اجتماع ملكين استقلاليين على عين واحدة، وتقيدها
بالجهة تارة وإطلاقها أخرى لا يوجب تعدد الموضوع، والالتزام بخروجها موقتا لا
يمكن مع نفوذ بيعه له وسائر الآثار المترتبة على ملك المؤجر لها كما لا يخفى.

(1) نهاية الدراية: ج 3. ص 56 أوائل بحث الاستصحاب.
5

كما أن العدول عما هو المشهور إلى جعلها بمعنى التسليط على أعين للانتفاع بها
بعوض غير وجيه، لأن المراد من السلطة الانشائية التسببية بالعقد هي السلطنة
الاعتبارية كالملكية الاعتبارية دون السلطنة الفعلية الخارجية والسلطنة التكليفية
والمساوقة للترخيص التكليفي والسلطنة الوضعية المتحققة باجتماع شرايط نفوذ
التصرف المعاملي.
ومن الواضح أن السلطنة الاعتبارية في قبال الملكية الاعتبارية، ولا معنى
لاعتبارها لمالك العين بعد فرض كونه مالكا لأنها دون مرتبة المالكية فليس لكل
أحد بالإضافة إلى عين ملكية اعتبارية وسلطنة اعتبارية.
وأما السلطنة المرتبة على الملكية فهي الوضعية والتكليفية دون الاعتبارية المعبر
عنها بالحق، وعليه فالموجب للعدول إن كان محذور كون المنفعة معدومة فاعتبار
السلطنة على المنفعة مغن عن اعتبار السلطنة على العين لأن تعلق السلطنة بالمنافع
والأعمال المعدومة مما لا شبهة فيه، وإن كان محذور كان عرض الغير غير مملوك
للمؤجر وأنه لا بد من تعلق التمليك بالمملوك ففيه النقض بعدم السلطنة الاعتبارية
لمالك العين حتى يجعلها للمستأجر وإن اكتفى المدعي بكفاية ملك العين في
التسليط عليها وعلى منافعها. فلنا أن نقول بكفاية ملك العين في تمليك منافعها
وإن لم تكن مملوكة له لكونها من أعراض الغير.
هذا مع أن السلطنة إن كانت بمعنى الإحاطة فهي عين الملك وقد تقدم محذور
تعلق الملك بالعين وإن كانت بمعنى التمكن والقدرة على الشئ فهذا المعنى لا مساس
له إلا بالأفعال فلا معنى لاعتباره في الأعيان.
هذا إن كان موجب الرجوع محذور ملك المنفعة. وإن كان العدول لما مر منا
من تعلق الإجارة بمفهومها بالعين فهو لا يقتضي اعتبار التسليط على العين بل مفهوم
الإجارة جعل العين في الكراء.
وينبغي التنبيه على أمور:
الأول: أن الإجارة كغيرها من العناوين المعاملية تملك عقدي لا عقد على
6

التمليك. بيانه: أن الأفعال تارة مباشرية لا يحتاج إلى التسبيب إليها بسبب وأخرى
يحتاج إليه وهو تارة يحتاج إلى سبب طبيعي كالاحراق المتوقف على الالقاء في النار
وأخرى يحتاج إلى سبب جعلي كالمعاملات فإن مضامينها يتوفق حصولها على
التسبب إليها بأسباب جعلية من قوله أو فعل عرفا أو شرعا
وعليه فمضمون الإجارة كالبيع ونحوه أمر لا يحصل إلا بالعقد لا أنه عين
الانشاء على التحقيق بل قد ذكرنا في محله أن مفاهيم المعاملات كغيرها هي
الموضوعة لها ألفاظها بما هي معان ومفاهيم لا بوجوداتها الحقيقية أي ما هو بالحمل
الشائع تمليك مثلا ولا بوجوداتها الانشائية التي هي من شؤون استعمال ألفاظها
فيها، لأن الوضع للانتقال من اللفظ إلى معناه فلا بد من أن يكون المعنى معرى عن
جميع أنحاء الوجود لأن الموجود لا يعرضه الوجود والانتقال ليس إلا الوجود
الادراكي والمقابل لا يقبل المقابل كما أن المماثل لا يقبل المماثل.
نعم إذا وقع مثل هذه الألفاظ في مقام الحدود وشبهها كان المراد الجدي عين
المراد الاستعمالي، وفي غير ذلك مما كان النظر إلى حمل ما هو خارج عن مقام ذاتها
عليها يكون المراد الجدي ما هو بالحمل الشائع بيع أو إجارة مثلا بفناء العنوان في
المعنون والمفهوم في مطابقه كما أنه ربما تقتضي قرينة المقام الحمل على إرادة ما هو
بيع إنشائي مثلا. كما إذا كان المحمول اشتراط نفوذه بشئ فإنه شأن السبب دون
المسبب وبقية الكلام تطلب من غير المقام.
الثاني: أن العهد هو الجعل والقرار سواء كان المجعول تكليفا أم وضعا معامليا
أو غير معاملي كما فصلنا القول فيه في تعليقة البيع والخيارات، والعقد هو القرار
المرتبط بقرار آخر فحيثية الجعل والقرار حيثية العهدية وحيثية الارتباط حيثية
العقدية لا أن العقد هو العهد المشدد المؤكد ليتوهم أن تأكده باللفظ، وعليه
فالايجاب والقبول اللفظيان الإنشائيان عهد وعقد إنشائي، وما يتسبب بهما إليه
من جعل الملكية بعوض عهد لبي اعتباري، وهو من حيث ارتباط أحد القرارين
بقرار آخر مطاوعي عقد لبي معنوي.
7

وهذا الجعل بما أنه عين ايجاد ملكية عين بعوض بيع حقيقي فلا دخل للقول
والفعل في حقيقة العهد والعقد والبيع لا مفهوما ولا مصداقا فاعتبار خصوص اللفظ
أو العربي الماضوي منه في النفوذ يحتاج إلى الدليل فضلا عن لزوم كونه من الحقائق
أو الأعم منه ومن المجازات الشايعة ومنه تعرف أن التسبب إلى حقيقة الإجارة
بقوله: (أعرتك الدار شهرا بعوض كذا) لا مانع منه فضلا عن (بعت سكنى الدار)
فإن أخبار بيع خدمة المدبر والاطلاقات الشايعة القرآنية وغيرها من دون عناية
أصدق شاهد على أن مفهوم البيع عرفا غير مقصور على تمليك عين بعوض وإن كان
البيع المقابل للإجارة المحكوم بأحكام خاصة صنفا مخصوصا من طبيعي معناه
اللغوي والعرفي.
الثالث: قد ذكرنا في محله أن الوفاء بالعقد هو القيام بمقتضاه وعدم التجاوز عنه
بحله وفسخه وبهذا المعنى إذا كان موردا للتكليف المولوي لم يثبت إلا اللزوم التكليفي
دون الوضعي، فإن الأمر بالوفاء والنهي عن النقض لا يتعلقان إلا بالمقدور عليه في
طرف العمل ولازمه انحلال العقد بحله غاية الأمر أنه محرم، وحمل الأمر والنهي على
الارشاد إلى عدم الانحلال والانتقاض وإن كان يلزمه اللزوم الوضعي خلاف
الظاهر من الأمر والنهي.
وأما ما أفاده شيخنا العلامة الأنصاري " قدس سره " في استكشاف اللزوم
الوضعي من إطلاق حرمة التصرف فيما انتقل عنه حتى بعد إنشاء الفسخ (1)، فيرد
عليه أنه خلاف مقتضى الملكية، لا خلاف مقتضى العقد ليكون مصداقا للنقض
المقابل للوفاء المنسوب إلى العهد والعقد، وقد أصلحناه في تعليقتنا على الخيارات
بأن الوفاء كما يكون حقيقيا كذلك يكون عمليا كالتصديق العملي في باب الخبر،
والابقاء العملي والنقض العملي في باب الاستصحاب، والتصرف فيما انتقل عنه
معاملة معه معاملة ما لا عقد على كونه ملكا للغير فهو نقض عملي منهي عنه، ولو

(1) المكاسب: الخيارات ص 215.
8

كان إنشاء الفسخ مؤثرا لكان ما انتقل عنه راجعا إليه وملكا له ولا موجب لحجره
عن ملكه. فحرمته مع هذه الحالة كاشفة عن عدم تأثير إنشاء الفسخ، وهو مساوق
للزومه الوضعي.
لا يقال لا موجب هنا حمل الوفاء والنقض على العملي بخلاف باب الخبر،
فإن التصديق الجناني غير مطلوب قطعا لعدم كون صدق العادل من الأمور
الاعتقادية حتى يجب تحصيل اليقين بصدقه، والتصديق اللساني لا أثر له حيت يؤمر
به، وكذا في باب الاستصحاب، فإن النقض الحقيقي لليقين ليس أمرا اختياريا
حتى ينهى عنه، بل بقاؤه وارتفاعه ببقاء سببه وارتفاعه، فلا يراد إلا النقض
العملي.
لأنا نقول، الموجوب للعدول هو أن الفسخ إن كان عن حق فلا محالة يؤثر
إنشاؤه، ومع تأثيره لا معنى لايجاب الوفاء بعنوانه أو حرمة النقض بعنوانه، وإن لم
يكن عن حق فلا أثر له. فلا يتمكن من الفسخ حتى ينهى عنه. فالنهي عن النقض
الحقيقي لغو على أي تقدير بخلاف النقض العملي بالتصرف فيما انتقل عنه، فإنه
مقدور عليه على أي تقدير. فتحريمه الملازم للزوم صحيح، فيحمل عليه النهي عن
النقض.
9

فصل
الإجارة عقد لازم بمقتضى العمومات المذكورة في كتاب البيع والنصوص
الخاصة في المقام، وعليه فينبغي التعرض لمسائل تتعلق بهذا الباب:
الأولى: ينفسخ عقد الإجارة كالبيع بالإقالة بتراضي الطرفين على فسخ العقد،
وهو مما لا خلاف فيه، إلا أن الأدلة اللفظية قاصرة عن شمولها لما عدا البيع. فإن
خبر ابن حمزة هكذا: " أيما عبد أقال مسلما في بيع " (1) الخبر، ومرسل الفقيه: " أيما مسلم
أقال مسلما ندامة في البيع " (2)، ومرسل الجعفري: " إن رسول الله (صلى الله عليه
وآله) لم يأذن لحكيم بن حزام في التجارة حتى ضمن له إقالة النادم " (3)، والظاهر
من التجارة هو البيع والشراء، وأما خبر سماعة بن مهران: " أربعة ينظر الله إليهم
يوم القيامة أحدهم من أقال نادما " (4) الخبر، فلا إطلاق له بل المراد إقالة النادم
في مورد مشروعيتها، فهو كما إذا قيل: إن من تزوج فله ثواب كذا أي بشرائطه، فلا
يؤخذ باطلاقه.
نعم إذا قلنا بأن التقابل من العقود كما في بعض الكلمات، وهو قطعا من
العقود المتعارفة، فهو كسائر العقود المتعارفة المشمولة للأدلة العامة صحة ولزوما، فلا

(1) الوسائل: ج 12، باب 2، من أبواب آداب التجارة، ح 2، ص 286.
(2) الوسائل: ج 12، باب 2، من أبواب آداب التجارة، ح 2، ص 286.
(3) الوسائل: ج 12، باب 2 من أبواب آداب التجارة، ح 1، ص 286.
(4) الوسائل: ج 12، باب 2 من أبواب آداب التجارة، ح 5، ص 287.
10

يحتاج إلى دليل بالخصوص في كل باب.
ولا يتوهم أن التقايل على طبق القاعدة فلا يحتاج إلى دليل عام أو خاص،
نظرا إلى أن حقيقة المعاقدة متقومة بالالتزامين من الطرفين فمع رفع اليد منهما عن
التزامهما لا معاقدة حقيقة فإنه يندفع بما ذكرناه في محله من أن العهد والعقد أمر
اعتباري شرعا وعرفا، ويتحقق بأسبابه الجعلية شرعا وعرفا. مع تحققه لا يرتفع
إلا بسبب عرفا وشرعا ولا يتقوم بالتزامهما النفساني حتى يرتفع بارتفاعهما قلبا،
وسلطنة المالك على ماله بايقاع التصرفات المشروعة في حد ذاتها أجنبية عن
السلطنة على عقده بحله، وبقية الكلام في محله.
الثانية: في أن الإجارة لا تنفسخ ببيع العين المستأجرة، وتنقيح القول فيه
بالبحث في موارد:
(منها) ما إذا باع المؤجر العين المستأجرة من غير المستأجر، ولا خلاف فيه
عندنا لا من حيث صحة البيع ولا من حيث بقاء الإجارة الصحيحة اللازمة على
حالها، وغاية ما يتوهم اقتضاؤه انفساخ الإجارة تبعية ملك المنفعة لملك العين.
بمعنى أن مالك العين له تمليك منافعها المملوكة له بتبع ملك العين. فإذا خرجت
العين من ملكه لم تكن منافعها التي لها بعد خروجها ملكا له. كما إذا تلفت العين
بعد الإجارة. فانتقال العين كتلفها، وزوال المنفعة عن ملكه كزوالها بتلف العين،
ويندفع بأن العين كما يملكها مالكها ملكية مرسلة لا موقتة وأن بيعها لا يوجب
توقيت ملكها بل تنتقل الملكية المرسلة إلى غيره كذلك يملك منافعها ملكية مرسلة
لا موقتة. فله تقطيعها بالإجارة. فالمنافع التي توجد بعد نقل العين مملوكة لمالكها من
الأول. فلم يلزم تمليك ما لا يملكه فيما بعد البيع، ولا يقاس بتلف العين في بعض
مدة الإجارة. لأنه لا منفعة رأسا هناك. فلا شئ حتى يملكه أو يملكه.
ولا يخفى عليك أن إبطال الإجارة بهذا الوجه من التبعية المتوهمة لا يقتضي
بطلان البيع، كما عن المحق الأردبيلي " قدس سره " حيث قال: ولو كانت المنافاة
11

ثابتة لبطل البيع العارض عليها لا الإجارة. إلخ (1)، فإن التبعية لملك المنفعة
بالإضافة إلى ملك العين. فهو لازم لا ينفك عن ملك العين لا من طرف ملك
العين بحيث لا ينفك ملك العين عن ملك المنفعة. فإنه الذي يقتضي بطلان البيع
دون الإجارة، لأن المفروض حصة الإجارة وسلب منفعة العين عنها. فلا يتمكن
مالك العين من تمليك العين على وجه لا ينفك عن ملك منافعها من حال وقوع
البيع فتدبر. وستجئ انشاء الله تعالى بقية الكلام في المسألة الآتية هذا مع دلالة
غير واحد من النصوص على أن البيع لا ينقض الإجارة.
نعم إذا كان المشتري جاهلا بكون المبيع مسلوب المنفعة فله الخيار بلا كلام
وإنما الكلام في وجهه. وقد ذكر له وجوه:
أحدها: ما عن المشهور من أنه نقص وعيب. وحيث إن العيب هو النقص أو
الزيادة في الخلقة الأصلية. وليس هنا كذلك إلا لزم التخيير بين الفسخ
والامساك بالأرش. ولا يقولون به فلذا أوله غير واحد بأنه عيب حكمي فلا يقتضي
إلا الخيار.
وفيه أنه إن أريد من العيب الحكمي العيب العرفي بالتوسعة في دائرة العيب
وعدم القصر على خصوص النقص والزيادة في الخلفة كما بنينا عليه في محله.
فاللازم إجراء أحكام العيب عليه. ولا يقولون به وإن أريد من العيب الحكمي
تنزيل سلب المنفعة منزلة العيب في خصوص الخيار دون الأرش. فالمدعي يطالب
بالدليل على هذا التنزيل.
ثانيها: ما عن صاحب الجواهر " رحمه الله " من اقتضاء إطلاق العقد تعجيل
التسليم للانتفاع (2) وهو أخص من المدعى، إذ ربما تكون منفعة السنة الآتية مملوكة
بالإجارة فلا يمنع من التعجيل في التسليم مع أن مجرد وجوب التسليم والتعجيل فيه

(1) مجمع الفائدة والبرهان: كتاب الإجارة، ص 9.
(2) جواهر الكلام: ج 27، ص 206.
12

لا يقتضي الخيار إلا إذا وقع موقع الالتزام حتى يثبت الخيار بالتخلف عنه. وليس
تعذر التسليم في مدة خاصة موجبا للخيار فتدبر.
ثالثها: ما عن غير واحد من أنه من باب تخلف الوصف نظرا إلى أن المشتري
إنما اشتراه بعنوان أنه ذو منفعة فتبين أنه مسلوب المنفعة. ورد بأن الوصف إذا لم
يقع العقد مبنيا عليه في مرحلة المعاقدة فلا أثر لتخلفه بل يدخل تحت تخلف الداعي
الذي لا يوجب خيارا.
رابعها: ما عن جامع المقاصد من كونه ضررا فهو يوجب الخيار (1). وفيه أن
الضرر المالي غير مفوض ونقض الغرض المعاملي إنما يوجب الخيار لو كان غرضا
عقديا لا خارجيا متمحضا في الدعوة. ومطلق الضرر ولو بنقض الغرض الشخصي لا
يوجب خيارا عند الأصحاب.
والتحقيق أن خصوصيات المبيع تارة تكون متعلقة للأغراض الشخصية من
المتعاملين ككون العبد كاتبا أو خياطا ونحوهما فلا أثر لها إلا إذا ذكرت في العقد أو
وقع العقد مبنيا عليها وأخرى من الأغراض النوعية العقلائية في مرحلة المعاملة
ككون الدار قابلة للسكنى والدابة قابلة للركوب ومنافع الأعيان المقصودة من شرائها
هكذا فهي بمنزلة الشرط الضمني والتوصيف اللبي لتلك القرينة النوعية ولأجله قلنا
أن خيار الغبن ليس إلا لأجل أن الغرض في باب المعاملات المالية نوعا إقامة مال
مقام مال في المالية فتخلفها من باب تخلف الشرط الضمني وإن لم تؤخذ عنوانا
للمبيع في مقام البيع، ولا بد من ارجاع كلام من قال بأن الخيار لتخلف الوصف
أو لضرر المنطبق على نقض الغرض إلى ما ذكرناه من التوصيف اللبي ونقض
الغرض النوعي
و (منها) ما إذا باع العين المستأجرة من شخص المستأجر والمعروف فيه أيضا
صحة البيع وبقاء الإجارة على حالها فيجتمع على المشتري الثمن والأجرة ولم أجد

(1) جامع المقاصد: ج 1، ص 417.
13

حكاية الخلاف صريحا إلا عن العلامة في الارشاد (1). وما قيل في توجيهه أمور:
أحدها: ما عن جامع المقاصد من أن منفعة العين نماء الملك فتتبعها (2) وحيث
إن مالك العين بالشراء هو المستأجر فكون الأجرة في قبال نماء ملكه يوجب ورود
المعاوضة على مال المالك بماله، وهذا وجه مختص بهذه الصورة دون الصورة السابقة
التي كان المشتري المالك للعين فيها غير مالك المنفعة فلا يرد المحذور، ولكنه وإن
كان كذلك إلا أن منشأ الاشكال في الصورتين واحد وهو استتباع ملك العين
لملك المنفعة مطلقا حتى مع استيفائها بإجارة سابقة وقد عرفت ما فيه.
ثانيها: ما عن المحقق الأردبيلي " قدس سره " في شرحه على الارشاد وهو أن
ملك المنفعة تابع للملك العين فإذا ملك العين يلزم ملكيتها تبعا أيضا وحينئذ فلو
بقيت الإجارة على حالها يلزم كون المنفعة ملكا بالإجارة والبيع أيضا، وهو تحصيل
الحاصل وجمع العلتين على معلول واحد. انتهى كلامه رفع مقامه (3).
ووجه اختصاص هذا المحذور بهذه الصورة أن المالك في هذه الصورة واحد فإن
المشتري هو المستأجر والمملوك أيضا واحد وهي المنفعة الخاصة فليس هناك إلا
ملكية واحدة تصحح انتزاع المالكية من المستأجر المشتري للعين وانتزاع المملوكية
من المنفعة الواحدة، فإذا حصل هذا الواحد بالبيع والإجارة معا لزم اجتماع سببين
على مسبب واحد بخلاف الصورة السابقة فإن مالك العين فيها غير مالك المنفعة
والمالكية والمملوكية متضايفتان والمتضايفان، متكافئان في القوة والفعلية والتعدد
والوحدة فتعدد المالكية يستلزم تعدد المملوكية فلا يلزم ورود سببين على ملكية
واحدة.
نعم يرد على الصورة السابقة أن مقتضى العدد لمكان التضايف اجتماع المثلين

(1) مجمع الفائدة والبرهان: كتاب الإجارة، ص 14 (متن الارشاد).
(2) جامع المقاصد: ج 1، ص 417.
(3) مجمع الفائدة والبرهان: كتاب الإجارة، ص 14.
14

لفرض اجتماع ملكيتين في منفعة واحدة وهو المانع من كون الواحد ملكا لشخصين
بالاستقلال، وهذا المحذور لا يقصر عن محذور اجتماع سببين على مسبب واحد.
والجواب أن التبعية ليست بمعنى عدم انفكاك ملك المنفعة عن ملك العين عن
ملك المنفعة، وإلا لما شرعت الإجارة وليست بمعنى عدم انفكاك ملك العين عن
ملك المنفعة وإلا لما صح البيع في الصورتين لا أنه تنفسخ الإجارة، لأنه بعد اشتغال
المحل بالعرض لا مجال لورود مثله عليه وبعد تأثير السبب المتقدم أثره لا مجال لتأثير
السبب المتأخر ومقتضاه بطلان البيع دون الإجارة بل تبعية ملك المنفعة في
خصوص ما إذا ملك العين بلا سبق استيفاء لمنفعتها، فلا مانع من تمليك المنفعة
استقلالا كما في الإجارة، ولا موجب لاستتباع ملك العين لملك المنفعة مع سبق
استيفائها بإجارة ونحوها كما فيما نحن فيه.
ثالثها: ما عن جامع المقاصد أيضا، (1) وهو أنه كما لا يمكن نكاح المملوكة، ولا
بقاء النكاح بعد الملك. فالملكية مانعة عن حدوث الزوجية وعن بقائها، كذلك
ملك العين يمنع عن عروض ملك المنافع وعن بقاء ملك المنافع.
وتقريبه أن النكاح يقتضي ملك البضع وحده فإذا ملك الرقبة لا يستقل ملك
البضع لعدم بقاء الناقص بعد الاستكمال، وملك المنافع بالاستقلال بعد ملك
العين كذلك، لأن ملك العين يوجب خروج الملك السابق عن حد النقص إلى
الكمال فلا معنى لبقاء النقص على حاله.
والجواب أن الزوجية والملكية شرعا متقابلتان. لقوله تعالى: " إلا على
أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم " (2) والتفصيل قاطع للشركة فلذا لا تجتمعان حدوثا
وبقاء، وأما ملك المنافع بالاستقلال مع ملك العين، فلا دليل عقلا ولا نقلا على
تقابلهما وعدم اجتماعهما، وأما التقريب المزبور الذي هو بمنزلة الجامع لتصحيح
قياس ما نحن فيه بملك الأمة المزوجة فمندفع بأن العين ومنافعها مالان وملكان لا

(1) جامع المقاصد: ج 1، ص 417.
(2) المؤمنون: 6.
15

من باب النقص والكمال، فلا مانع من بقاء ملك المنافع على ما هو عليه من
الاستقلال. ثم إنه يتفرع على ما ذكرنا من التبعية غير المنافية لبقاء الإجارة على
حالها رجوع المنافع إلى المشتري مع ظهور بطلان الإجارة، وإلى البايع مع فسخ
الإجارة بما يسوغ فسخها.
أما في صورة بطلان الإجارة فلأن استتباع ملك العين لملك المنفعة مع الامكان
قهري لا قصدي، وإنما القصدي في باب البيع نفس تمليك العين، فلا يلزم من
رجوع المنافع إلى المشتري مع عدم قصد البايع تخلف العقد عن القصد، بل لو قصد
البايع عدم تمليك المنافع لم يكن له أثر إلا إذا رجع إلى عدم قصد البيع فإن قصد
العدم مع عدم الأثر لقصد ثبوته لغو. فما لم تكن المنفعة مسلوبة ومستوفاة باستيفاء
اعتباري إجاري ونحوه كانت تابعة لملك العين، ومجرد اعتقاد المسلوبية وقصد
السلب لا يحقق السلب، فتبقى على حكم التبعية قهرا. ومنه يظهر أنه لو كان سلب
المنفعة بابقائها لنفسه أو بنقلها إلى غيره بعنوان الشرط في ضمن البيع فظهر بطلان
الشرط بوجه كانت المنفعة عائدة إلى المشتري، إذ لا سلب حقيقة.
نعم إذا قلنا بأن الشرط الفاسد بعد ظهور فساده يوجب الخيار كان للبايع حق
فسخ البيع، وبه يمتاز الشرط الفاسد عن الإجارة الفاسدة الأجنبية عن البيع. كما
أنه لو كانت المعاملة البيعية الواقعة عل العين المستأجرة باعتقاد صحة الإجارة
غبنية كان للبايع الخيار ولو لم يكن هناك شرط. فالمنفعة على أي حال للمشتري،
وإنما الخيار للبايع في صورتي الغبن والشرط، ولو مع عدمه دون الاعتقاد فقط أو
القصد المحض.
هذا كله حكم بطلان الإجارة، وأما في صورة فسخ الإجارة فربما يتوهم أن
ملك العين مقتض لملك المنافع، والإجارة الصحيحة من الموانع، وبعد فسخها
وزوال المانع يؤثر المقتضي أثره كما في كل مقتض ومانع.
ويندفع بأن منزلة الفسخ ليس منزلة انتهاء أمد الإجارة ليصح توهم زوال
المانع، فإن الفسخ لا يوجب التوقيت. بل عنوانه رد المعاملة وعود العوضين إلى ما
16

كانا عليه، فيستحيل عود المنفعة إلى غير البايع المؤجر، فهو بمنزلة المقتضي لملك
البيع وهو على الفرض مؤثر. مضافا إلى أن تمامية المقتضي في مقام الثبوت لا
تجدي في أمثال المقام. بل لا بد من تمامية المقتضي في مقام الاثبات، وبعد عدم
تأثير البيع في ملك المشتري للمنفعة في مدة الإجارة لم يوجد فرد آخر من البيع حتى
يكون مشمولا للمقتضي في مقام الاثبات فتدبر جيدا.
و (منها) ما إذا تقارن البيع والإجارة بأن صدر البيع من المالك والإجارة من
وكيله في زمان واحد، وفيه وجوه: (أحدها) صحتهما معا (ثانيها) بطلانهما معا
(ثالثها) صحة البيع وبطلان الإجارة.
أما وجه صحتهما فربما يستند فيه إلى عدم تنافيهما نظرا إلى أن متعلق أحدهما
العين، ومتعلق الآخر المنفعة، وفيه أن عدم المنافاة الذاتية لا يقتضي عدم المنافاة
بالكلية لثبوت المنافاة العرضية لمكان استتباع ملك العين لملك المنفعة فيتنافيان في
هذا اللازم.
وأما وجه بطلانهما معا فهو ما عرفت من منافاتهما العرضية مع عدم المرجح
لأحد الأمرين فيبطلان معا، وفيه أن بطلان البيع من رأس مبني على أن استتباع
ملك العين لملك المنفعة بنحو اللزوم، ولا يقول به أحد، وإلا لما صح البيع ولو مع
سبق الإجارة، ومنه يظهر وجه الثالث. فيصح بيع العين من دون استتباع لملك
المشتري للمنفعة، ومن دون تأثير للإجارة في تمليك المستأجر المنفعة فتبقى منفعة
مورد الإجارة على ملك البايع وما ذكرنا من صحة البيع وبطلان الإجارة أولى من
التعبير ببطلانهما معا في مورد التزاحم. وعن بعض أعلام العصر طاب ثراه تقوية
الوجه الأول بقوله " رحمه الله ": " لعدم التزاحم. فإن البايع لا يملك المنفعة، وإنما
يملك العين، وملكية العين توجب ملكية المنفعة للتبعية وهي متأخرة عن
الإجارة " (1). انتهى كلامه رفع مقامه.

(1) العروة الوثقى: الفصل الثاني من كتاب الإجارة في ذيل المسألة الثانية.
17

وفيه (أولا) التقدم والتأخر المفروضين بين ملك العين وملك المنفعة تقدم
وتأخر طبعي لا زماني، بداهة حصول ملك العين، وملك المنعة في زمان واحد وهو
زمان تمامية الايجاب والقبول، والتقدم والتأخر الطبعي لا ينافي المقارنة الزمانية
بين المتقدم والمتأخر بالطبع. بل لا ينافي الاتحاد في الوجود، فإن ملاك هذا التقدم
والتأخر كما هو محقق في محله إمكان الوجود. بمعنى أنه يمكن أن يكون للمتقدم
وجود. ولا وجود للمتأخر، ولا عكس كالواحد والاثنين، ومن البين أيضا أن
التنافي في التأثير ليس إلا بلحاظ وجود الأثر خارجا، وفي الوجود الخارجي لهما
المعية والمقارنة الزمانية، ولا تقدم ولا تأخر بلحاظ وعاء التأثير. فما فيه التنافي
لا تقدم ولا تأخر فيه، وما فيه التقدم والتأخر لا تنافي فيه. فتدبره فإنه حقيق به.
(وثانيا) أن ملك المنفعة بمقتضى التبعية متأخر عن ملك العين بالبيع لاعن
الإجارة، لأن الإجارة وإن كانت في عرض البيع المتقدم على ملك المنفعة إلا أن ما
مع المتقدم على شئ ليس متقدما على ذلك الشئ، لأن التقدم والتأخر لا يكون
إلا بملاك مخصوص وهو بين نفس المتقدم والمتأخر لأبين ما مع وغيره.
(وثالثا) أن الإجارة لها المعية مع البيع بالزمان لا بالطبع، فإن المعية الطبعية
إنما تتصور فيما إذا كانا معلولي علة واحدة، فالبيع والإجارة ليس بينهما معية طبعية
كما أنه ليس بينهما تقدم وتأخر طبعي، فلو فرضنا أن ما مع المتقدم متقدم فليس
بينهما المعية حتى تكون الإجارة متقدمة على ملك المنفعة لتقدم البيع عليه.
والتحقيق صحتهما معا، وانتقال العين مسلوبة المنفعة إلى المشتري، وانتقال
المنفعة في مدة خاصة إلى المستأجر، وذلك لأن مالك العين له مالان وملكان وله
السلطنة على نقل كل منهما بالاستقلال، وقد مر أن التبعية ليست بنحو اللزوم بحيث
لا ينفك ملك المنفعة عن ملك العين ولا ملك العين عن ملك المنفعة، واستتباع
ملك العين لملك المنفعة لا يزاحم سلطان المالك على ماله، فله السلطنة على نقلهما
معا في عرض واحد كما له السلطنة على نقل المنفعة قبلا، فالاستتباع إنما هو في
فرض عدم إعمال السلطنة في نقل المنفعة، فليس البيع والإجارة من باب
18

المتمانعين حتى يتوهم أن مانعية الإجارة عن اقتضاء تمليك العين على حد مانعية
تمليك العين عن اقتضاء الإجارة، بل لا استتباع رأسا مع سلب المنفعة إما حقيقة
أو استيفاء اعتباريا، فكما أن الإجارة السابقة لا تبقي مجالا لأصل الاستتباع كذلك
الإجارة المقارنة، كما أن عدم المنفعة حقيقة ليس مانعا عن اقتضاء ملك العين بل
لا اقتضاء له لملك المعدوم كذلك عدمها وسلبها الاعتباري، ومن جميع ما ذكرنا
يظهر حال ما إذا كان المشتري شخص المستأجر، فإن تملك المنفعة بالإجارة
يختلف حكمه مع تملكها بالبيع فله فسخ البيع دون الإجارة وبالعكس
ومما يؤكد ما ذكرنا أن من يستشكل في البيع و الإجارة المتقارنين زمانا بتوهم
التزاحم، لا أظنه يستشكل في البيع المشروط بملك المنفعة لزيد في مدة خاصة أو
المشروط ببقائها على ملك البايع، إذ ليس مخالفا للكتاب ولا منافيا لمقتضى العقد،
لأن اللازم مفارق لا غير مفارق، مع أن نقل المنفعة وسلبها عن العين بالإجارة
كنقلها وسلبها بالشرط، وعدم الاستتباع مع تصرف الوكيل كعدمه مع تصرف
المالك. نعم من يرى صحة الإجارة لتقدمها رتبة على ملك المنفعة التابع لملك العين
ينبغي أن يقول في النقل على وجه الاشتراط بالتزاحم، لأن النقل بالشرط تابع
للبيع وقيد فيه وهو متأخر طبعا عن البيع كتأخر ملك المنفعة بالبيع فهما لازمان في
عرض واحد فتدبر جيدا.
المسألة الثالثة: في بطلان الإجارة بموت المؤجر والمستأجر، وفيه أقوال: قول
بالبطلان مطلقا، وقول بعدمه مطلقا، وقول بالبطلان بموت المستأجر فقط. وقبل
العرض للاستدلال ينبغي أن يعلم أن مقتضى كون هذه المسألة وسابقتها متفرعة
على لزوم الإجارة أن البحث في انفساخ الإجارة الصحيحة وعدمه، وهو أيضا
مقتضى الاستدلال بعمومات لزوم الإجارة، وعليه فينبغي التعبير في عنوان البحث
بالانفساخ وعدمه دون البطلان وعدمه، كما أن المقتضى الوجوه العقلية هنا وفي
المسألة السابقة لعدم ملك المنفعة مقارنا للبيع وللموت هو عدم تأثير العقد دون
تأثيره وانفساخه بالبيع أو الموت.
19

وعليه فلا مجال إلا لدفع الشبهة دون الاستدلال بعمومات اللزوم أو الصحة أو
استصحاب بقاء العقد، إذ ما لم يحرز كون المؤجر مالكا لا مجال لدعوى تأثير تمليكه
بأدلة الصحة أو لدعوى بقاء العقد والتمليك بالدليل أو الأصل، نعم إذا شك في
الصحة شرعا من حيث اعتبار عدم البيع أو عدم الموت أو انفساخ العقد شرعا بطرو
البيع أو الموت، صح الاستدلال باطلاقات أدلة الصحة أو أدلة اللزوم
ولا ينحصر وجه الشبهة في الشبهات العقلية بل اختلاف الفتاوى كاف في
الشك في الصحة أو اللزوم. ثم إن الوجوه العقلية المستدل بها هنا بعضها مشترك مع
المسألة السابقة كتبعية ملك المنفعة لملك العين، وجوابه ما تقدم وبعضها يختص
بالمقام، كما قيل من أن انقضاء مدة الإجارة إما جزء المقتضي للتأثير أو شرط
التأثير، مع مصادفة متمم السبب للموت لا معنى للتأثير كالموت بين الايجاب
والقبول أو كالموت قبل القبض في الصرف مثلا، وهذا غير مناف لكون المؤجر
مالكا للمنفعة المرسلة اللا موقتة بحال حياته، وإنما البطلان لعدم تمامية سبب الملك
للمستأجر.
وفيه أن الأمر كذلك لو كانت تمامية المدة جزء أو شرطا إلا أنه أي دليل على
كونه كذلك، مع ابتنائه على كون جزء السبب أو شرط تأثيره مأخوذا على وجه
تأخر العلة عن معلولها، لعدم تعقل الملك المقارن لتمامية المدة إذ ملك المنفعة المتقدمة
لغو، وعليه فلا يعقل دخل تمامية المدة وعلى فرض المعقولية إنما يلتزم بالشرط
المتأخر إذا كان موجب للالتزام به، ومجرد احتمال شرطيته في الصحة أو في اللزوم
يدفع باطلاقاتهما. وتوهم دلالة بطلان الإجارة بالتلف ولو بعد القبض على ذلك
نظرا إلى أن الموجب عدم انقضاء مدة الإجارة لتلفه قبل الانقضاء مدفوع بأن الوجه
عدم المنفعة في الواقع في المدة المضروبة فلا ملك، لا من حيث عدم تمامية المدة و
عدم تمامية السبب، فالسبب تام لكنه لا منفعة حتى تملك وتملك، لا أن السب
ناقص من حيث عدم تمامية المدة.
20

ومما ذكرنا يظهر فساد وجه اعتباري آخر حكي عن الغنية (1) والخلاف (2)،
وهو أن المستأجر رضي على أن يستوفي المنفعة من ملك المؤجر، فإنه إن أريد
استيفاؤها من ملك المؤجر للمنفعة، فقد بينا أن يملك المنفعة المرسلة اللا موقتة فله
تمليكها، وإن أريد استيفاؤها من العين المملوكة للمؤجر، ففيه أن اللازم في تملك
المنفعة من المؤجر ملكه لها لا للعين لصحة الإجارة من المستأجر بلا شبهة، مع أن
العين مملوكة له حال تمليك المنفعة هنا، وملكه للعين حال الاستيفاء بلا موجب،
ولو فرض إيقاع الإجارة هكذا بأن يتملك منه منفعة العين المملوكة للمؤجر حال
استيفائها التزمنا فيه بمقتضى هذا التقييد بالبطلان، إلا أنه أخص من المدعى كما
لا يخفى.
ثم إنه ربما يستدل للبطلان تارة وللصحة أخرى بخبر إبراهيم بن محمد الهمداني،
وهو كما رواه في الوسائل عن الكافي هكذا: " قال: كتبت إلى أبي الحسن عليه السلام
وسألته عن امرأة آجرت ضيعتها عشر سنين على أن تعطى الإجارة في كل سنة عند
انقضائها لا يقدم لها شئ من الإجارة ما لم يمض الوقت فماتت قبل ثلاث سنين أو
بعدها، هل يجب على ورثتها إنفاذ الإجارة إلى الوقت أم تكون الإجارة منقضية
بموت المرأة؟ فكتب: إن كان لها وقت مسمى لم يبلغ فماتت فلورثتها تلك الإجارة
فإن لم تبلغ ذلك الوقت وبلغت ثلثه أو نصفه أو شيئا منه فتعطى ورثتها بقدر ما
بلغت من ذلك الوقت إن شاء الله " (3). ورواه في الحدائق عن التهذيب بتفاوت في
بعض الكلمات، منها ما لم ينقض الوقت، ومنها أم تكون الإجارة منتقضة، ومنها
وإن لم تبلع في الشرطية الثانية بالواو لا بالفاء (4).
فنقول: أما الاستدلال به للفساد فأحسن وجوهه ما حكي عن غير واحد من

(1) الجوامع الفقهية: كتاب الغنية، ص 540.
(2) الخلاف: ج 2، ص 207.
(3) الوسائل: ج 13، باب 25، من أبواب أحكام الإجارة، ح 1، ص 268.
(4) الحدائق الناضرة: ج 21، ص 541.
21

المشايخ من حمل الوقت في آخر السؤال على مدة أصل الإجارة لا على المدة المضروبة
لدفع الأجرة بقرينة الانفاذ والانقضاء أو الانتقاض، وحمل ما في الجواب أيضا عليه
ليكون الجواب مطابقا للسؤال، وحمل الشرطية الأولى حفظا لتقابلها مع الشرطية
الثانية على عدم بلوغ شئ من مدة الإجارة بأن يكون زمان العقد منفصلا عن زمان
المنفعة المملوكة بالعقد وحمل قوله عليه السلام " فلورثتها تلك الإجارة " على أن
أمرها بيد الورثة ردا وإمضاء أو فعلا وتركا، وحمل قوله عليه السلام فتعطى ورثتها
إلخ. على أن مقدار استحقاقهم الموروث من المرأة ما بلغت المرأة من النصف أو
الثلث دون باقي مدة الإجارة وهذا لازم انفساخ الإجارة بموتها
وأما الاستدلال به للصحة فله تقريبان: (أحدهما) ما هو عين التقريب المزبور،
من حيث إرادة مدة الإجارة من الوقت، ومن حمل الشرطيتين على عدم البلوغ رأسا
وعلى عدم البلوغ بتمامه، إلا أن اللام في قوله عليه السلام فلورثتها لام الاختصاص
لقيام الورثة مقام مورثهم بقرينة قوله عليه السلام " فلورثتها تلك الإجارة " فلا موقع
أصلا للحمل على أن الورثة لهم أن يؤجروا وأن لا يؤجروا كما أنها لهم لا ردها
وإمضاؤها لهم، وقوله عليه السلام " فتعطى " هو دفع الأجرة بالنسبة إلى المنفعة
الماضية لا استحقاق هذه المقدار من الأجرة بل استحقاق فعلية الدفع بالمقدار
المزبور، فالشرطية الأولى مصححة للإجارة والشرطية الثانية غير منافية لها، فإن
استحقاق الأجرة تماما لا ينافي عدم استحقاق الدفع إلا بمقدار ما بلغت المرأة من
النصف أو الثلث.
(ثانيهما) حمل الشرطيتين على الاجمال والتفصيل لا على عدم البلوغ رأسا أو
تماما، فإن الأول خارج عن مورد السؤال وهذا الحمل مما لا بد منه بناء على
نسخة الكافي بالعطف بالفاء فإنه بعنوان التفريع للتوضيح، والكافي أضبط من
التهذيب.
والتقريب حينئذ ما تقدم من كون اللام للاختصاص هذا والظاهر كما
استظهره غير واحد من الأعلام أن المراد بالوقت في تمام الفقرات هو الوقت
22

المضروب لدفع الأجرة لا مدة الإجارة والظاهر من الخبر أن محط نظر السائل هو
الوقت المضروب وأن صدره إنما جئ به تحقيقا لمورد الشرط، وإلا لم يكن وجه
لقوله " على أن تعطى " (إلخ) بذلك التفصيل، وأن الشرطية الأولى بقوله
عليه السلام " إن كان لها وقت مسمى " لا مجال لها إلا بالإضافة إلى الوقت
المضروب، وإلا فإجارة الضيعة لا بد فيها من مدة بخلاف دفع الأجرة فإنه قابل لأن
يكون موقتا وأن لا يكون وحينئذ فالسؤال بملاحظة أن الورثة يجب عليهم كالمورث
انفاذ الإجارة الخاصة المشروطة بالإضافة إلى دفع الأجرة في الوقت المضروب له فلا
يستحقون دفع الأجرة في كل سنة إلا عند انقضائها، أو يسقط الوقت عن الوقتية
فكأنه لا إجارة بهذه الخصوصية المعبر عنه بانقضاء الإجارة وانتقاضها بتوهم حلول
الدين بموت الدائن كالمديون أو أنه شرط عليها خارج عن حقيقة الإجارة، وحينئذ
لا دلالة له على بطلان الإجارة، أو أن منشأ السؤال سقوط الشرط بملاحظة انفساخ
الإجارة فتستحق الورثة أصل الأجرة بالمقدار الذي بلغته المرأة من الوقت كما أفيد
في الشرطية الثانية، فيكون الخبر دليلا على البطلان، مع هذين الاحتمالين لا مجال
للاستدلال بالخبر على الصحة ولا على البطلان، فتبقي العمومات في العقود وفي
الإجارة بالخصوص بلا مخصص لها.
وينبغي التنبيه على أمور:
الأول: أنه بناء على البطلان بهذا الخبر إذا كان المؤجر وليا فمات الولي أو المولى
عليه فالظاهر عدم البطلان، لخروجه عن مورد النص، لأن ظاهره كون المؤجر مالكا
لإضافة الايجار والضيعة إليها، والولي ليس بمالك والمولى عليه ليس بمؤجر (لا يقال)
فإذا كانت الإجارة بالتوكيل ومات الموكل ينبغي القول بالصحة مع أنه باطل (لأنا
نقول) نسبة الإجارة إلى الموكل محفوظة فإن الاسناد كما يتحقق بالمباشرة كذلك
بالتسبيب فيصدق أنه آجر فمات دون عمل الولي فإنه لا يسند إلى المولى عليه. نعم
إذا استندنا إلى الوجوه الاعتبارية في البطلان فالمناط موت المالك أو المتملك سواء
كان كبيرا أم صغيرا وسواء كانت الإجارة بالمباشرة أم بالتوكيل أم بالولاية.
23

الثاني: كما أن الإجارة لا تبطل بالبيع كما تقدم في المسألة الثانية لا تبطل
بالزواج ولا بالانعتاق، لسلب المنفعة بوجه صحيح فتتزوج المرأة مسلوبة المنفعة من
حيث الخدمة المنافية للاستمتاع في وقتها، وينعتق العبد مسلوب المنفعة لفرض
سلطنة المرأة على نفسها من حيث إجارة نفسها للخدمة ولو في الزمان المصادف
للزوجية، ولفرض ملك المولى لمنافع مملوكه مطلقا فله أن يستوفيها بالإجارة المصادف
زمانها لزمان حريته، نعم في نفقة المملوك بحث في أنها على المولى أو على المملوك في
كسبه أو غير ذلك من الوجوه وظاهر بعض الأعلام " رحمه الله " " أنها على المولى
فإنه حيث استوفى منفعته فكأنه باق في ملكه، وظاهره وجوب نفقته من حيث
المالكية مع أن تنزيله باستيفائه منزلة كونه مالكا له حتى تكون نفقة المملوك على
مالكه " (1) يحتاج إلى دليل.
نعم الظاهر أن نفقته على مولاه لا من حيث المالكية بل من حيث لزوم تسليم
العين المستأجرة بحيث يتمكن المستأجر من استيفاء منفعتها وهو موقوف على بذل
النفقة كبذل نفقة الدار إذا احتاجت إلى عمارة أو تخلية ونحوهما مما تتوقف عليه
صلاحية الدار لاستيفاء منفعتها، ولا يقاس بباب الوقف حيث إن نفقة العبد
الموقوف على الغير في كسبه لا على الواقف، كما أن نفقة الدار الموقوفة من منافعها لا
على واقفها، وذلك لعدم الموجب بعد تمامية الوقف لتكفل الواقف ما هو صلاح
العين الموقوفة بخلاف العبد المستأجر كما مر.
الثالث: قد استثني من القول بصحة الإجارة مع موت المؤجر أو المستأجر
موارد: (منها) الأجير الخاص، وفسره في الجواهر من آجر نفسه على أن يعمل بنفسه
عملا مخصوصا، وقد حكم " قدس سره " بانفساخ الإجارة بموته (2).

(1) راجع كتاب الإجارة للمحقق الرشتي: ص 330 في ذيل المسألة الرابعة يجب على المستأجر سقي
الدابة وعلفها.. ".
(2) جواهر الكلام: ج 27، ص 212.
24

والتحقيق أن الأجير الخاص إن أريد به ذلك مع فرض كون وقت العمل
محدودا ومات قبل مجئ الوقت فالإجارة باطلة لا منفسخة، لعدم المنفعة له في ذلك
الوقت فلا شئ حتى يملك أو يملك، وإن أريد به ذلك فقط من دون تحديد بزمان
فمضى زمان يمكن فيه ايجاده فمات فالإجارة صحيحة في نفسها لوجود الطرف
الصالح لتأثير العقد في تمليكه وتملكه، والموت لا بد من أن يكون موجبا لانفساخها
لدخوله تحت عنوان التلف قبل القبض بناء على التعدي من البيع إلى غيره، وإلا فلا
موجب لانفساخها كما لا موجب لبطلانها، نعم للمستأجر فسخ العقد من باب
خيار تعذر التسليم بعد عدم كونه من التلف قبل القبض، ومما ذكرنا تبين ما في
اطلاق التعبير بالبطلان وما في اطلاق التعبير بالانفساخ الذي لا موقع له إلا مع
فرض الصحة حيث لا انحلال مع عدم الانعقاد.
و (منها) ما إذا اشترط على المستأجر استيفاء المنفعة بنفسه كما عن جماعة
التصريح به كالمحقق الأردبيلي (1) وصاحب الحدائق (2) وصاحب مفتاح
الكرامة (3)، بل لم يذكروا من وجوه الأجير الخاص غيره، وحيث إن مورد
الاشتراط ما إذا ملك الكلي أو ملكه فالاشتراط المزبور خارج عن حقيقة الإجارة،
فالمملوك هو الكلي فيكون كسائر الديون، وتعذر الشرط لا يوجب إلا الخيار فمع عدم
الفسخ يؤخذ بدله من تركته لا أنه تبطل الإجارة من الأول ولا أنها تنفسخ من
الحين، والوجه في الكل واضح.
و (منها) ما إذا آجر البطن الأول من الموقوف عليهم العين الموقوفة مدة تزيد على
مدة حياتهم نظرا إلى اختصاص ملكهم بمدة حياتهم بسبب جعل الواقف، ولم أجد
فيه خلافا من أحد وإن كان يظهر التردد من بعضهم إلا أنه لا جزم من أحد
بصحتها.

(1) مجمع الفائدة والبرهان: كتاب الإجارة، ص 10.
(2) الحدائق الناضرة: ج 21، ص 542.
(3) مفتاح الكرامة: ج 7، ص 81.
25

وتحقيق القول فيه أن دعوى الصحة مبنية على أمرين: (أحدهما) أن ملكية
الواقف المجعولة لجميع البطون ملكية واحدة مرسلة والواحد لا يتكثر ولا يتبعض،
وحيث إنها عرض غير قار فلا تتحدد ولا تتقيد بالزمان فلا معنى لتقطيعها وتحديدها
بالأزمنة ليكون تمليكا لجميع البطون لئلا تكون لكل منهم ملكية تامة مرسلة
(ثانيهما) أن الملكية الواحدة المرسلة كما لا يمكن تقطيعها وتحديدها كذلك
إعطاؤها لجميع البطون في عرض واحد، إذ لا يعقل أ ن يكون طرف الواحد
الشخصي متعددا، فإن الإضافات تتشخص بتشخص أطرافها مع أنها على الفرض
إضافة واحدة. والجمع بين هذين الأمرين يقتضي جعل الملكية الواحدة المرسلة
للبطن الأول، ثم بعد انقراضهم للبطن الثاني وهكذا، نظير انتقال ملكية المورث إلى
وارثه، والفرق أنه في الإرث بجعله تعالى وفي الوقف بجعل الواقف، ويؤيده أنه في
مورد جواز بيع الوقف إذا لم يكن للبطن الموجود ملكية مرسلة كيف يتمشى منه
البيع الذي هو التمليك المرسل، وعليه فالملكية المرسلة للعين في كل بطن تستتبع
الملكية المرسلة لمنافعها وحينئذ تصح منه الإجارة ولو زائدا على مدة حياته فتنتقل
العين مسلوبة المنفعة إلى البطن اللاحق بجعل الواقف لئلا يتوهم أنه مناف لتلقي
كل بطن ملك الموقوف من واقفه لا من البطن السابق.
(لا يقال) العين بمنافعها وإن كانت مملوكة للبطن الموجود ملكية مرسلة إلا أنها
متعلق حق البطون اللاحقة ولا تنفذ أنه معاملة كانت فيما كان فيه حق الغير.
(لأنا نقول) ليس لكل بطن بمقتضى جعل الواقف إلا الملكية ولا حق زيادة
عليها لا فعلا ولا في زمانه. هذه غاية تقريب دعوى الصحة
وتندفع المقدمة الأولى بأن الملكية المرسلة لا تتعدد بمعنى أن تكون هناك
ملكيات مرسلة فإنه مناف لفرض وحدتها وأما بسط الملكية المرسلة على البطون فلا
مانع منه إلا توهم امتناع تحددها وتقيدها بالزمان، وهو مدفوع بأن التحدد بالزمان
تارة بالذات كما في الأعراض غير القارة فإن التدرجية عين الحركة المساوقة للتقدر
بالزمان، وأخرى بالعرض كما في الأمور القارة، فإنها وإن لم تتقدر بالزمان لكنه يمر
26

عليها الزمان فيمكن لحاظها مع هذا الزمان ومع زمان آخر، فهذه الواحد المستمر مع
الأزمنة يمكن تقطيعه بلحاظ الأزمنة المارة عليه ويجعل لكل بطن في كل زمان قطعة
من هذا الواحد المستمر، وليس هذا أيضا من تبعض البسيط فإن معنى عدم تبعضه
أن الملكية ليس لها نصف وثلث وربع لا أن هذا البسيط باعتبار استمراره مع
الزمان لا يمكن جعل طرفه في هذا الزمان بطنا وجعل طرفه في زمان آخر بطنا آخر.
وتندفع المقدمة الثانية بأن الواقف ليس له إلا التصرف في ماله بجعل العين
محبوسة عن التصرفات على الطبقات وتسبيل منافعها لهم على الترتيب وليس له بعد
إعطاء ماله من الملكية المرسلة سلبها عنهم وإعطاؤها لغيرهم، فإنه ليس له الولاية
على البطون بالتوريث إلى أشخاص خاصة، نعم له بسط ملكيته على الطبقات،
فإنه تصرف في ماله بحيث لا يستتبع سلطنة على أحد، فإن ملك كل بطن محدود
فينتهي أمده لا أنه ينتزعه عنه ويجعله لغيره.
وأما مسألة جواز البيع شرعا في موارد خاصة فغاية ما يقتضيه البيع أنه تمليك
مرسل لا أنه إعطاء ملكيته المرسلة، فحقيقة البيع هي التمليك لا تمليك المملوك
فضلا عن تمليك المملوك بالملكية المرسلة، وتمام الكلام في محله. وإنما تعرضت
لهذا المقدار تنبيها على أن احتمال الصحة ليس على حد يستغرب وينسب الالتباس
والاشتباه إلى من يميل إليه، مع أن مثل المحقق في الشرايع تردد أولا ثم قال: أظهره
البطلان (1)، والعلامة في القواعد يقول الأقرب البطلان (2) وهكذا، فليس
احتمال الصحة واضح البطلان وبالله المستعان.
(تنبيه): إذا كان المؤجر ناظر الوقف فمات قبل انقضاء مدة الإجارة فهل تنفذ
إجارته مطلقا، أو لا تنفذ مطلقا، أو تنفذ فيما إذا كانت لمصلحة الوقف دون مصلحة
البطون اللاحقة؟ كما عن شيخنا الأستاذ " قدس سره " (3) لأن الواقف له أن يولي

(1) شرايع الإسلام: كتاب الوقف القسم الثالث في شرائط الموقوف عليه.
(2) قواعد الأحكام: ج 1، ص 224.
(3) إجارة المحقق الخراساني، لم يطبع بعد، راجع الذريعة، ج 1، ص 122.
27

أمر ملكه وماله إلى أحد وأما إعطاء الولاية على الموقوف عليهم فلا، لأنه لا سلطان
للواقف إلا على نفسه وماله فلا نظر للناظر إلا في العين الموقوفة وما صلاحها لا
ما هو صلاح الموقوف عليهم.
والجواب إنه لا ريب في أن إجارة العين الموقوفة منوطة بإذنه فكما أنه من باب
الولاية على التصرف في العين الموقوفة لا من باب الولاية على البطن الموجود فكذا
إجارة ما يتعلق بالبطن المعدوم. والسر فيه أن العين صارت بالوقف ملكا لهم
مسلوبة السلطنة بجعل الواقف، والوقوف على حسب ما يقفها أهلها.
ومما ذكرناه يتضح أن اعتبار ولاية المتولي والقيم المعبر عنه بالناظر ليس اعتبار
قيامه مقام البطون وأنه نائب عنهم، فتمضي إجارته عليهم. كيف؟ وقد فرض أنهم
ملكوا مالا مسلوب السلطنة ولا بد من أن يكون كذلك، إذ ليس للواقف ولاية
عليهم حتى يكون له جعل من ينوب منابهم ويقوم مقامهم ليكون سلطانه سلطانهم،
بل اعتبار الولاية له اعتبار قيامه مقام الواقف، فإنه قبل الوقف له الولاية على ماله
بأنحاء التصرفات، فله جعل ماله الولاية عليه باقيا لنفسه أو جعل غيره قائما مقام
نفسه، فلم ينتقل الملك عنه بانشاء الوقف إلا هكذا.
وبما بينا لا يبعد القول بمضي إجارته على البطون المتأخرة سواء كانت لرعاية
مصلحة العين الموقوفة أم الرعاية مصلحة البطون المتأخرة عن زمان حياته، وتمام
الكلام في محله، كما أنه تبين الفرق بين جعل الناظر للوقف وجعل القيم للصبي،
فإنه وإن كان من باب جعل الولاية عليه وعلى ماله كما هو للجاعل، إلا أنه له
جعل الولاية له على الصغير، فتصرف القيم فيما يصادف زمان كبره مع عدم كونه
مما لا بد منه فعلا تداركا لما يفوته في حال كبره محل التأمل كما سيجئ إن شاء الله
تعالى في ملحه.
28

فصل
لا إشكال في إجارة المشاع كبيعه، وغيره من العقود، غاية الأمران استيفاء
المنافع لا بد من أن يكون بإذن الشريك كما في البيع أيضا، ولا يخفى أن إشاعة
المنافع ليست بعين إشاعة العين وإلا لانحصرت قسمتها بقسمة العين فلا تنقسم
منافع الدار إلا بقسمه الدار نصفين بل إشاعتها بملاحظة نفسها وإن كانت لا إشاعة
فيها إلا بلحاظ كونها من شؤون العين وحيثياتها الوجودية، وبهذه الإضافة تمتاز عن
الكلي الذي لا إشاعة فيه. والوجه فيما ذكران بعض الأعيان المشاعة التي لا تقبل
القسمة الخارجية تكون منافعها مشاعة قابلة للقسمة، فلو كانت إشاعتها بعين إشاعة
العين لكانت قسمتها بعين قسمة العين، وإذ ليست القسمة إلا إفراز المشاع وتعيين
اللا متعين، فلا معنى للقسمة مع عدم الإشاعة وهذا كالدابة إذا استأجرها اثنان
بالاشتراك، فإن ركوبها قابل للقسمة بالمدة أو بالفرسخ مع أنها لا تقبل القسمة،
فيعلم منه أن إشاعة المنافع باعتبار نفسها لا بعين إشاعة العين، وحينئذ فكما يمكن
تنصيف سكنى الدار بتنصيف الدار كذلك بتنصيف مدة الإجارة
29

فصل
المعروف بل قيل لا خلاف فيه أن العين المستأجرة كالدابة مثلا أمانة لا
يضمنها المستأجر إلا مع التعدي أو التفريط، ولا بد من تحقيق حقيقة الأمانة حتى
يجدي في غير مقام (فنقول) الأمانة مالكية وشرعية.
والتأمين المالكي على قسمين: تأمين عقدي كالوديعة التي حقيقتها الاستنابة
في الحفظ وهي الأمانة بالمعنى الأخص وتأمين بالتسليط على ماله برضاه، فتكون
أمانة بالمعنى الأعم، وبهذا المعنى أطلقت الأمانة على العين المستأجرة والمرهونة
والعارية والمضارب بها ونحوها، الأمانة الشرعية فيما كان التسليط على المال بحكم
الشارع كما في تسليط الولي على مال القاصر وكالتسليط على اللقطة ومجهول المالك
وغير ذلك.
أما الأمانة المالكية بالمعنى الأعم فتحققها بالتسليط على المال عن الرضا إنما
يستفاد مما ورد في الأبواب المتفرقة من العارية (1) والمضاربة ونحوهما بعنوان " إن
صاحب العارية مؤتمن وإن صاحب البضاعة مؤتمن " خصوصا بعد صمه إلى أن
صاحب الوديعة مؤتمن، مع أنه ليس في هذه الموارد مصداق للتأمين المالكي إلا
تسليطه على ماله عن رضاه. فيعلم منه أن كل تسليط عن الرضا ائتمان، وما يذكر

(1) الوسائل: ج 13، باب 1، من كتاب العارية، ح 1، ص 237.
30

في مقام التقييد من أنه لا بد من أن يكون التسليط بعنوان التسليط منه على ماله لا
بعنوان مال مالكه، وعن الرضا المحض، لا عن لابدية واستحقاق للغير، وأنه لا يكون
مبنيا على أمر غير واقع كل ذلك من المحققات للتسليط عن الرضا لا أمر زائد عليه
و (دعوى) أن صاحب العارية مؤتمن أي بحكمه في عدم الضمان لا أنه مؤتمن من
قبل المالك حقيقة فلذا لا يضمن كما في الجواهر، بل دعوى عدم مصداق عرفا
للأمانة إلا الوديعة (1) (ممنوعة) فإن الجمع بين الوديعة والعارية وبينها وبين
البضاعة في عنوان الائتمان كاشف عن أن كليهما تأمين مالكي حقيقة فلذا لا
يناسبه الضمان كما هو المتعارف في الحكم بعنوان ملازم عرفا له. لا أنه ائتمان
عنوانا ونفي الضمان حقيقة، فإنه خلاف الظاهر.
مضافا إلى التعبير عن مثل هذا التسليط بالائتمان في غير مقام الحكم بعدم
الضمان كما في حكاية إسماعيل بن الإمام الصادق (عليه السلام) حيث قال
(عليه السلام): قد بلغك أنه يشرب الخمر فائتمنته.. الخ (2) وموردها دفع المال
للاتجار به لا الاستيداع. نعم سائر ما ورد في هذه الأبواب من الحكم بعدم التغريم
إذا كان مأمونا هو كالحكم بعدم التغريم " إذا كان عدلا مسلما " في رواية
أخرى (3)، فإن الملحوظ فيها عدم التغريم من حيث التفريط يعني إذا كان مأمونا
ومسلما عدلا فهو لا يفرط، وإلا فالضمان من حيث التلف لا يتفاوت فيه البر
والفاجر وأما قوله (عليه السلام): " بعد أن كان أمينا " (4) فهو محتمل للأمرين: فتارة
يراد بعد أن كان أمينا بالحمل الشايع فهو كقوله (عليه السلام) " إذا كان
مأمونا " (5)، وأخرى يراد بعد أن كان أمينا لك وقد اتخذته أمينا باثبات يده على

(1) جواهر الكلام: ج 27، ص 216.
(2) الوسائل: ج 13، باب 6 من أحكام الوديعة، ج 1، ص 230.
(3) الوسائل: ج 13، باب 4 من أحكام الوديعة، ج 3، ص 228.
(4) الوسائل: ج 13، باب 4 من أحكام الوديعة، ج 5، ص 228.
(5) الوسائل: ج 13، باب 1 من كتاب العارية، ج 3، ص 236.
31

مالك.
ومما ذكرنا في حقيقة الأمانة المالكية بالمعنى الأعم تعرف خروج المقبوض
بالبيع الفاسد عن ضابطة الأمانة لأنه تسليط منه بعنوان أنه مال مالكه بالعقد لا
أنه تسليط منه على مال نفسه، ولا يعقل تأمين المالك على ماله، مع أنه تسليط مبني
على أمر غير واقع فلم يتمحض التسليط عن رضى.
وأما في باب الإجارة فالاشكال من وجهين: (أحدهما) أن اللازم في باب
الإجارة تمكين المستأجر من استيفاء المنفعة لا التسليط على العين.
(ثانيهما) لابدية المؤجر لاستحقاق المستأجر فلا يكشف تسليطه بعد العقد عن
تأمينه وعن رضاه باثبات يده على العين
نعم لا ريب في أن إقدامه على الإجارة عن محض الرضا اقدام منه برضاه على ما
تستدعيه الإجارة من التسليط بضميمة أن الغالب بقاء المؤجر على ما هو عليه من
الرضا، وإلا بشكل الأمر في كونه تأمينا مالكيا وإن كان عدم الضمان مستفادا
من غير واحد من الأخبار.
وينبغي التنبيه على أمور: الأول: أن العين بعد مدة الإجارة هل هي غير
مضمونة كما في المدة أو مضمونة؟ فيه وجهان: (أحدهما) الضمان كما عن
الإسكافي والطوسي على ما في الجواهر (1). (ثانيهما) عدم الضمان كما هو المشهور.
وبناء عدم الضمان على وجوه: (أحدها) إنها أمانة مالكية في المدة وبعدها.
(ثانيها) إنها أمانة شرعية في المدة وبعدها. (ثالثها) إنها أمانة مالكية في المدة وأمانة
شرعية بعدها. (رابعها) إنها أمانة شرعية في المدة ومالكية بعدها كما عن بعض
الأجلة ممن قارب عصرنا.
أما وجه الضمان فعموم على اليد ولا مخصص لها هنا إلا أدلة باب الإجارة
الدالة على عدم ضمان العين المستأجرة الظاهرة في كون الحيثية تقييدية، فلا يعقل

(1) جواهر الكلام: ج 27، ص 216.
32

إطلاقها لما بعد مدة الإجارة لا أن الإجارة حيثية تعليلية لعدم الضمان حيت يعقل
إطلاقها لما بعد المدة، وعدم كون العين أمانة مالكية لما تقدم من الجواهر من أن
مصداق الأمانة المالكية عرفا منحصر في الوديعة، وعدم كونها أمانة شرعية، لما
سيجئ إن شاء الله تعالى من عدم انطباقها على المورد من غير فرق بين مدة الإجارة
وما بعدها.
وأما وجه كونها أمانة مالكية مطلقا فما قدمناه من أن التسليط الخارجي عن
رضى تأمين مالكي بالمعنى الأعم، والظاهر من التسليط على العين بعنوان التأمين
اثبات يده على المال إلى أن يطالبه المالك كما في سائر موارد الأمانات والحقوق،
والتسليط الخارجي ليس كالتسليط الاعتباري انشائيا تسبيبيا حتى يقبل الاطلاق
والتقييد، بل الاستيلاء الخارجي باق حقيقة إلى أن يستولي عليه مالكه، نعم القيد
الذي يكون التسليط به أمانة مالكية وهو الرضا به قابل للاستمرار وعدمه، ومع
الشك فيه يستصحب بقاؤه فيترتب حكم الأمانة شرعا، ومعه لا يبقى مجال للرجوع
إلى عموم اليد لفرض خروج اليد الأمانية عن العموم.
وأما وجه كونها أمانة شرعية مطلقا فهو حصر الأمانة المالكية في الوديعة،
وحيث يجوز شرعا وضع اليد على العين لاستيفاء المنفعة في المدة ولايصالها إلى
مالكها بعده فهي أمانة شرعية مطلقا.
وأما وجه كونها أمانة مالكية في المدة وشرعية بعدها فهو كون الاستيلاء الذي
يقتضيه عقد الإجارة هو الاستيلاء مقدمة لاستيفاء المنفعة فما دام يستحق الاستيفاء
يستحق الاستيلاء، والظاهر تسليط المالك حسب ما يقتضيه عقد الإجارة فهي
أمانة مالكية في المدة، وحيث إنه يجوز بعدها وضع اليد لايصالها إلى مالكها فهي
أمانة شرعية.
وأما وجه كونها أمانة شرعية في المدة ومالكية بعدها فهو أن التسليط في المدة
حيث إنه عن استحقاق المستأجر فلا يكون عن رضا بخلاف ما بعد المدة فإنه لا
استحقاق فيكون عن رضا محض هذا والتحقيق إن التأمين المالكي بالمعنى الأعم
33

المستفاد من أبواب العارية والمضاربة والوكالة ملاكه التسليط على العين عن رضا
محض إما لاستيفاء المنفعة كما في الإجارة، أو للانتفاع بها كما في العارية، أو
للاتجار بها كما في المضاربة، أو لبيعها ونحوه من التصرفات كما في الوكالة، وقد
عرفت أن اللابدية فضلا عن مجرد الاستحقاق لا تنافي بقاء الرضا المحض الذي بعثه
على الإجارة المقتضية للتسليط على ما له في مدة الإجارة، وأن بقاءه بعدها مع الالتفات إلى انقضاء المدة والتمكن من المطالبة بسبب عدم المطالبة الكاشف عن
كون هذا الاستيلاء بقاء عن رضاه كما كان حدوثا، ومع الشك يستصحب بقاؤه
على حاله المحقق للأمانة المالكية تعبدا، فيترتب عليها حكمها من دون وصول النوبة
إلى عموم قاعدة اليد المخصص بما عدا مورد الأمانة.
وأما الأمانة الشرعية فملاكها الترخيص في إثبات اليد على مال الغير لحفظه أو
لايصاله إلى المالك بنحو من أنحاء الايصال كما استفيد من أدلة اللقطة ومجهول
المالك وأشباه ذلك، وليس مجرد الترخيص الشرعي تأمينا شرعيا، مثلا لا ريب في
أن وضع اليد على العين المستأجرة جائز شرعا لكنه إما لكونها أمانة مالكية فيكون
كالترخيص في العارية، فهو من باب إباحة ما أباحه مالكه لا تأمين من الشارع،
وإما لكونها مما يستحق استيفاء المنفعة فيها فهو من باب انفاذ السبب الموجب
لاستحقاق الاستيلاء الموقوف عليه الاستيفاء، لا أنه ترخص ابتدائي من الشارع
كما في اللقطة، فإن الترخيص في الالتقاط ترخيص ابتدائي في وضع اليد على مال
الغير ليوصله إليه بالتعريف أو ليحفظه له خارجا أو في ذمته بعد التعريف، فهو أمين
الشارع لعدم انبعاث هذا الترخيص عن سبب سابق مسوغ لوضع اليد عليه، فتوهم
أن العين في مدة الإجارة أمانة شرعية فاسد، لما عرفت.
وأما بعد المدة وفرض عدم شمول التأمين المالكي له ولو بالأصل، فلعدم
الدليل على الترخيص حتى يكون ترخيصا غير منبعث عن مسوغ له، إذ غاية ما في
الباب أنه لا ريب في وجوب إيصالها إلى مالكها وحرمة إهمالها، ومن الواضح أن
وجوب الرد إلى مالكها وجوب عرضي يتبع حرمة إمساكها كما في كل مورد كانت
34

هناك يد على المال بدون إذن مالكه، فإن إمساكه حرام فرده واجب، وليس
هناك إيجاب الايصال ابتداء حتى يكون حاله كحال الترخيص الابتدائي، فتوهم
أنه أمانة شرعية بعد المدة مع عدم الدليل على الترخيص في وضع اليد ولا على
وجوب الايصال الابتدائي غير التابع لحرمة الامساك فاسد، كما أن توهم كونه
أمانة مالكية في خصوص ما بعد المدة لعدم الاستحقاق المانع من التأمين المالكي
أيضا فاسد، لعدم تحقق الشئ بمجرد عدم المانع فلا بد من إثبات كونه هذا
الاستيلاء بتسبيب المالك عن رضاه كما بينا.
وأما التمسك بقاعدة الاحسان لعدم الضمان بدعوى أن وضع يده على المال
بداعي إيصاله إلى مالكه إحسان إلى مالكه و (ما على المحسنين من سبيل) الشامل
لكل سبيل دنيوي أو أخروي. ففي غاية الاشكال لا لأن إيصال المال إلى مالكه
إحسان ومع فرض التلف قبل وصوله كما هو مورد البحث لا إيصال فلا إحسان.
وذلك لأن الفعل إذا صدر بقصد عنوان حسن من العناوين الحسنة يتصف بالحسن
وإن لم يتحقق مبدأ ذلك العنوان في الخارج، مثلا إذا ضرب اليتيم بداعي التأديب
يصدر منه الضرب حسنا وإن لم يتأدب في الخارج وإذا كذب لا نجاء المؤمن صدر
منه حسنا وإن لم يترتب عليه نجاته خارجا، وكذا العكس، فإنه إذا ضرب اليتيم لا
بقصد التأديب وتأدب به لم يصدر منه الفعل حسنا وإن تأدب، وكذا في الكذب لا
بداعي انجاء المؤمن وترتب عليه نجاته، وذلك لأن الحسن والقبح العقليين اللذين هما
مورد البحث بين العدلية والأشاعرة بمعنى كون الفعل ممدوحا عليه فاعله أو مذموما
عليه، ولا يعقل أن يكون كذلك إلا إذا كان مقصودا، ولا يعقل أن يكون بوجوده
الواقعي مناطا للمدح والذم.
ومنه تعرف أن حديث الحسن الفاعلي والحسن الفعلي غير صحيح في مثل هذا
الحسن أو القبح الذي هو مورد الكلام في الأصول والكلام، فلا اشكال في قاعدة
الاحسان من هذه الجهة، إنما الاشكال فيها من حيث إن العناوين القبيحة من
حيث نفسها لا يتغير قبحها الطبيعي بعروض عنوان حسن بحسن غير لزومي، ألا
35

ترى أن ايصال النفع إلى غيره حسن لكنه لا يرتفع به قبح الكذب بخلاف عنوان
انجاء المؤمن، فإن تركه فيه هلاك المؤمن وهو ظلم قبيح بذاته، ومن البين أن وضع
اليد على مال الغير بدون إذنه ورضاه إساءة إليه وظلم عليه فمجرد داعي الايصال لا
يرفع قبحه، ولذا لو لم يكن دليل على جواز الالتقاط لم يكن الالتقاط بقاعدة
الاحسان جائزا.
(لا يقال) ترك إيصال المال قبيح فحسن الايصال من الحسن اللزومي.
(لأنا نقول) أما إذا لم تكن له يد على المال فايصاله غير واجب وتركه بترك
اليد عليه غير قبيح، وأما إذا كانت يده عليه فايصاله لازم من حيث حرمة إمساكه،
وإيصاله حينئذ من باب ترك الإساءة لا من باب أنه إحسان محض. وبالجملة
قاعدة الاحسان إنما تجدي في موارد جواز وضع اليد حتى يتمحض في الاحسان،
مثلا إذا علم من حال زيد الرضا بوضع اليد على ماله لايصاله فإنه ليس منه تسليط
ليكون أمانة مالكية، إلا أنه إذا كان وضع اليد جائزا فوضع يده عليه لايصاله كان
إحسانا محضا منه، ومع تلفه قبل وصوله لا ضمان بقاعدة الاحسان المخصصة لقاعدة
اليد كتخصيصها بقاعدة الائتمام، ومن جميع ما ذكرنا تبين أن العين في المدة
وبعدها أمانة مالكية إلا في صورة عدم الالتفات إلى انقضاء المدة أو عدم التمكن من
المطالبة، فإنه حينئذ لا كاشف عن أن هذه الاستيلاء عن رضا المالك بقاء إلا
بالأصل، وأما مع العلم بأنه غير راض ببقائها تحت يده بعد المدة وإن لم يلتفت فلا
رافع للضمان، وقد عرفت حال الأمانة الشرعية.
الثاني: هل حال العين المقبوضة بالإجارة الفاسدة كالمقبوضة بالصحيحة غير
مضمونة أو لا؟ فنقول: أما في صورة الجهل بالفساد في المقبوض هنا وإن كان يفارق
المقبوض البيع الفاسد من حيث إنه لا يعقل في البيع أن تكون العين أمانة مالكية،
حيث لا يعقل جعل ملك أحد أمانة عنده، وهذا بخلاف الإجارة فإن العين على
تقديري الصحة والفساد حيث إنها ملك المؤجر قابلة للتأمين المالكي، إلا أن
الإجارة كالبيع في محذور آخر وهو ابتناء اقباض العين على أمر غير حاصل وهو
36

استحقاق الاقباض، فلم يكن التسليط حقيقة عن الرضا حتى يكون هنا مصداقا
للتأمين المالكي.
والتحقيق أن الرضا إذا تعلقت بشئ موصوف بوصف عنواني فمجرد اعتقاد
اتصاف شئ بذلك الوصف العنواني لا يوجب فعلية الرضا لعدم انطباق عنوانه،
وأما إذا اعتقد تحقق الوصف العنواني وتحقق منه الرضا فالرضا الموجود فعلي لا
تقديري، تنجيزي لا تعليقي، لاستحالة تقديرية الموجود الفعلي وتعليقيته فلا محالة
يترتب عليه أثره، نعم عدم الرضا معلق على الالتفات إلى عدم تحقق العنوان،
والاعتبار بالرضا الفعلي وجودا وعدما لا بالرضا التقديري وجودا وعدما، ولأجله
نقول بصحة العقد على الموصوف مع تخلف وصفه، وبصحة العقد مع فساد شرطه
فتدبر جيدا.
ويمكن أن يقال بالفرق بين البيع والإجارة من هذه الحيثية أيضا، بتقريب أنه
كما لا معنى لتأمين المالك على ماله كذلك لا معنى لإناطة تسليط المالك على ماله
بالرضا، فإن العين بعد البيع أجنبية عن البائع فلا معنى لإناطة تسليطه للمشتري
بالرضا، وليس الرضا السابق إلا رضا بالبيع المنوط برضا البائع دون أداء مال
المشتري إليه، فلا كاشف عن التسليط عن الرضا في البيع بخلاف الإجارة لكون
العين ملك المؤجر فتعقل إناطة التسليط عليها برضا مالكها، فالأقوى أن المقبوض
بالبيع الفاسد جهلا مضمون مطلقا دون المقبوض بالإجارة الفاسدة جهلا
وأما إذا علم بالفساد فالمقبوض بالإجارة الفاسدة أولى بعدم الضمان من
المقبوض بالصحيحة، لاشتراكهما في التسليط عن رضا وعدم شبهة الاستحقاق
واللابدية المانعة عن التأمين المالكي عند بعضهم في الإجارة الفاسدة في صورة العلم
بالفساد.
وأما المقبوض بالبيع الفاسد فالتسليط وإن كان عن رضا محض لعلمه بفساد
العقد، لكنه ليس بعنوان إثبات يد الغير على ماله بحيث يبقى على حاله وينتفع به
كما في العارية حتى يكون تأمينا مالكيا بالأمانة بالمعنى الأعم، بل عنوان هذا
37

التسليط هو التسليط المطلق على جميع التصرفات المتلفة وغيرها فكيف يكون تأمينا
مالكيا، إلا أن يقال بعدم شمول قاعدة اليد لليد المأذونة وعدم اختصاص الخارج
باليد الأمانية، نظرا إلى أن مقتضى الغاية أن العهدة إنما هي في مورد لا بد فيه من
أداء المال إلى مالكه، والمال الذي كانت اليد عليه باثبات المالك عليه ليس أدائيا
إلا إذا طالب به المالك بحيث ينتهي أمد الاثبات بمطالبته أو يقال بخروج مثل هذه
اليد بالأولوية، فإنه إذا كان التسليط لمجرد الانتفاع مع بقاء العين موجبا لعدم
فعلية الضمان، فالتسليط المطلق حتى في الاتلاف أولى بأن يكون مانعا عن
الضمان، ولولا هذان الوجهان لزم القول بالضمان مع التلف لقاعدة اليد وعدم
الضمان مع الاتلاف لكونه بإذن مالكه فلا تعمه قاعدة الاتلاف قطعا، وهذا
أيضا في نفسه مبعد آخر لشمول قاعدة اليد لمثله، والله أعلم.
الثالث: هل يصح شرط ضمان العين المستأجرة كالدابة والدار أو لا؟ فنقول:
منشأ الاشكال أمور:
أحدها: معارضة عموم " المؤمنون عند شروطهم " (1) مع عموم الأخبار الناطقة
بالمنطوق أو المفهوم بعدم الضمان بنحو العموم من وجه والترجيح للثاني لموافقته
للشهرة بل لعله لم ينقل الخلاف إلا من بعض متأخري المتأخرين
و (الجواب) ما حرر في محله من تقدم أدلة العناوين الثانوية على أدلة العناوين
الأولية إما بالحكومة وإما بالجمع العرفي أو بوجه آخر فلا نطيل الكلام بذكره
للتسالم على التقديم في هذه الأعصار.
ثانيها: ما عن الجواهر من عدم كون الشرط شارعا بل هو كالنذر والعهد (2)،
ومرجعه إلى عدم سببية الشرط، مع أنه خلاف المعهود منهم في غير المقام وقد نص
على نفوذه في العارية، وليس هذا قياسا فإن الضمان قابل للتسبب إليه وجودا
وعدما، والشرط لا يعقل أن يكون سببا تارة وغير سبب أخرى مع وحدة المسبب

(1) عوالي اللئالي: ج 1، ص 293، ح 173.
(2) جواهر الكلام: ج 27، ص 217.
38

فهذا الوجه كسابقه في وضوح البطلان.
ثالثها: كما في الجواهر أيضا أنه مناف لمقتضى الأمانة الآبية عن التضمين (1).
و (الجواب) أن التأمين تارة عقدي كالوديعة التي هي استنابة في الحفظ فيد
الودعي يد المالك ولا معنى لكون الإنسان ضامنا لنفسه وأخرى تأمين خارجي
بتسليطه للغير على ماله عن رضاه لاستيفاء المنفعة أو للانتفاع به أو للاتجار به فقد
اتخذه في هذه الموارد أمينا على ماله وهذا إنما يكون مع تجرد التسليط عن كل شئ،
وأما إذا سلطه على نحو جعل ماله في عهدته فهذا ضد التأمين فلا يكون التسليط
تأمينا بنفسه حتى ينافي التضمن بل مع تجرده.
نعم إذا كانت العين أمانة شرعية فشرط ضمانها شرط مناف للأمانة، إلا أن
المبنى غير صحيح كما تقدم، بل يمكن أن يقال إن ترخيص الشارع في وضع اليد على
العين ليس ترخيصا أصليا نفسيا ليتمحض في التأمين على أي حال بل ترخيص
على طبق تسليط المالك فإذا سلطه بقول مطلق كان ترخيص الشارع تأمينا وإذا
سلطه جعل العين في عهدته كان ترخيصه على طبق تسليط المالك لفرض التبعية في
الترخيص.
رابعها: إن الشرط مناف لمقتضى العقد، وتحقيق الحال فيه أن المراد بمقتضى
العقد تارة نفس مدلوله، وليس مدلوله إلا تمليك المنفعة بالأجرة، وهذا المعنى لا
اقتضاء فيه بالنسبة إلى الضمان وعدمه.
نعم إذا كانت الإجارة تمليك العين في مدة خاصة بجهة مخصوصة كما قيل و
نقلناه سابقا أمكن دعوى اقتضاء العدم حيث إن الإنسان لا يضمن مال نفسه،
إلا أنه كما عرفت غير صحيح، وأخرى يراد بمقتضى العقد مقتضاه ولو مع الواسطة،
والمفروض عدم المضان بمقتضى بعض الأخبار من دون ملاحظة الأمانة المالكية أو
الشرعية، فشرط الضمان مناف لمقتضى العقد بهذا المعنى المنطبق عليه عنوان

(1) جواهر الكلام: ج 27، ص 217.
39

الشرط المخالف للكتاب والسنة
لكن حيث إن الشرط دائما يتعلق إما بأمر لم يكن وإما بعدم أمر كان فلا بد
من دعوى انقسام اللازم إلى مفارق وغير مفارق وإلى حكم غير قابل للتغير بعروض
عنوان الشرط ونحوه وحكم قابل للتغير، فالمخالفة المانعة شرعا عن نفوذ الشرط هي
المخالفة لما لا يتغير، والمنافاة المانعة عقلا عن نفوذ الشرط هي المنافاة للازم غير
مفارق، فإن انفكاكه محال، ولولا استثناء الشرط المخالف أمكن أن يقال كما مر
بالحكومة أو الجمع العرفي فإن مقتضاهما كون الحكم المرتب على العنوان الأول
حكم طبعي وموضوعه الماهية بشرط لا، إلا أن الاستثناء دل على أن الشرط
قسمان وأن الحكم طوران فلا بد من إحراز أحد الطورين، وعليه فلا بد من نفي
حكم المستثنى بنفي عنوانه بأصالة عدم المخالفة بالعدم الأزلي، حيث لا حكم ولا
شرط ولا مخالفة ولا يقين إلا بانقلاب عدم الحكم وعدم الشرط إلى النقيض مع
الشك في تحقق المخالفة بتحققهما فالأصل عدمها، وأورد عليه غير واحد بأن المخالفة
أخذت في لسان الدليل بنحو وجودها الربطي لا بوجودها المحمولي وبنحو مفاد كان
الناقصة لا التامة، فاستصحاب عدمها المحمولي ومفاد ليس التامة لا ينفي عنوان
الخاص إلا بالملازمة العقلية، لأن بقاء العدم المحمولي إلى زمان وجود طرفي المخالفة
ملازم عقلا لعدم كون الشرط مخالفا، فالأصل مثبت ولا نقول به.
وتحقيق الجواب عنه ما فصلنا القول فيه في باب الشروط من تعاليقنا على
الخيارات للعلامة الأنصاري " قدس سره "، ومجمله أن الوجود الرابط المقابل للوجود
المحمولي هو ثبوت شئ لشئ المختص بالقضايا المركبة الايجابية دون البسيطة، وهو
غير الوجود الناعتي المختص بالأعراض الذي هو قسم من الوجود المحمولي لا قسيم له
كما توهم، والعدم عين الليسية والانتفاء فلا يعقل أن يكون رابطا كما أن الناعتية
مختصة بطرف وجود العرض والعدم النعتي غلط، إذ لا حلول للعدم في الموضوع حتى
يوصف بالناعتية كما توهم، كما أن النسبة الحكمية وهو كون هذا ذاك العامة
لجميع القضايا المركبة والبسيطة مختصة بطرف الثبوت، فليست هناك حالة بين
40

الموضوع والمحمول بحيث تكون عين الليسية والانتفاء فليس لنا عدم ناعتي ولا عدم
رابط ولا نسبة سلبية بل المعقول من العدم في كل ذلك عدم الماهية التي من شأنها
أن تكون موجودة في الموضوع وعدم الربط بين مبدأ المحمول وموضوعه وعدم مطابقة
الموضع لعنوان المحمول.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن السالبة المحصلة حيث إن مفادها سلب النسبة فهي
كما بين في محله أعم من أن تكون سالبة بانتفاء المحمول وأن تكون سالبة بانتفاء
الموضوع فليس المستصحب عدم المخالفة بنحو العدم المحمولي ليرد المحذور بل
المستصحب عدم كون الشرط مخالفا ولو بعدم الموضوع، فلا منافاة بين كون المخالفة
مأخوذة في القضية الايجابية بنحو الوجود الرابط المتقوم بوجود الطرفين وكون عدمها
أعم مما يتوقف على وجود الموضوع ومما لا يتوقف، حيث إن مفاد السالبة المحصلة
دائما سلب النسبة لا النسبة السلبية.
نعم قد ذكرنا في باب الشروط إن هذا التصحيح صحيح فيما إذا كانت سالبة
منطوقية وأما إذا كانت بالمفهوم فهي لها شأن آخر فإن المفهوم تابع للمنطوق سعة
وضيقا ومن جميع الجهات إلا في النفي والاثبات، وإذا كان المنطوق متضمنا لمحمول
مرتب على موضوع محقق فمفهومه سلبه عن موضوعه فيتمحض في السالبة بانتفاء
المحمول، ومفاد الاستثناء إلا شرطا خالف كتاب الله، وليس في الأدلة كل شرط
لا يخالف كتاب الله فهو نافذ حتى يحقق هذا المعنى ولو بنحو السالبة بانتفاء الموضوع
بالاستصحاب، إلا أنه فيما أرسله في الغنية هكذا: الشرط جائز بين المسلمين ما لم
يمنع منه كتاب ولا سنة (1)، فيمكن إثبات عدم المنع منه في الكتاب وأنه شرط لم
يمنع منه الكتاب ولو بنحو السالبة بانتفاء الموضوع لكنه لا وثوق بكونه غير ما ورد في
سائر الأخبار، والله أعلم.
ولشيخنا العلامة الأنصاري، " قدس سره " (2) تقريب الأصل بوجه آخر وهو

(1) الجوامع الفقهية: كتاب الغنية، ص 525.
(2) المكاسب: قسم الخيارات، ص 278.
41

أصالة عدم الحكم غير القابل للتغير وجعله مرجع للأصل المتقدم، ولعله بالنظر إلى
أن نفي عنوان المخالف تارة بنفي المبدأ وهو عدم المخالفة وأخرى بنفي الانتساب المقوم
لعنوانية العنوان وثالثة بنفي المعنون، ومآل الكل إلى نفي العنوان، وحيث إن الحكم
الشخصي الذي هو مورد الكلام قد انقلب عدمه إلى الوجود فلا بد من ارجاع
السلب إلى حيثية عدم قبوله للتغير فيعود محذور استصحاب العدم المحمولي، وإن أريد
استصحاب عدم الحكم المخالف على وجه الكلية فهو لا يشخص حال هذا الحكم
الذي تعلق بخلافه الشرط، فهو نظير أصالة عدم الكر في الحوض فإنها لا تشخص
حال كرية الماء الموجود وعدمها إلا أن يقال إن الموارد تختلف من حيث اجداء
الأصل الكلي وعدمه ففي مثل إماء المشكوك في الحوض حيث إن الغرض الحكم
بعدم انفعاله بورود النجاسة عليه فلا بد من تشخيص حاله وفي مثل الصلاة التي
حدث في أثنائها ما يشك في مانعيته لا حاجة إلى احراز حال ما بعد الحادث وإنما
الغرض الحكم بصحة الصلاة ومن البين أن الصلاة التي لم يحدث فيها مانع
صحيحة وهو قابل للاحراز بالأصل وهنا كذلك فإن الغرض عدم الحكم المخالف
لهذا الشرط في الكتاب واحرازه بالأصل ممكن وإن لم يحرز كون هذا الحكم الجزئي
مخالفا أو غير مخالف فتدبر.
وأما ما يورد عليه من معارضة الأصل المزبور بأصالة عدم الحكم القابل للتغير
فمدفوع بأنه لا حاجة إلى إحراز الموافقة للحكم الذي يقبل التغير حتى يترتب على
عدمه عدم كون الشرط موافقا فلا ينفذ والوجه واضح، وقد بينا في باب الشرط أن
المدار في النفوذ وعدمه على المخالفة وعدمها لا على الموافقة وعدمها فراجع، ومن جميع
ما ذكرنا تبين أن صحة شرط الضمان وإن كانت قوية إلا أن الاحتياط لا ينبغي
تركه.
42

فصل
دخول الخيار في عقد الإجارة
فنقول: الخيارات على أقسام (أحدها) ما ثبت للبيع بعنوانه بدليل يختص به
كخيار المجلس وخيار الحيوان. (ثانيها) ما ثبت للبيع بدليل خاص وبدليل عام
كخيار العيب بل وخيار التأخير وخيار الرؤية، فإن هذه الخيارات وإن كان لها
أدلة خاصة بالبيع لكنها مشمولة لقاعدة نفي الضرر (1) العامة للبيع وغيره. (ثالثها)
ما ليس له دليل خاص كالخيارات التي لا مدرك لها إلا قاعدة نفي الضرر العامة
للبيع وغيره.
أما القسم الأول فلا يجري في غير البيع والوجه واضح.
وأما القسم الثالث فيجري في البيع والإجارة وغيرهما والوجه واضح.
وأما القسم الثاني فهو بمقتضى عموم دليله العام وإن كان يثبت في الإجارة
أيضا لكنه تفارق الإجارة البيع في هذا القسم بأمرين: (أحدهما) عدم ترتب
حكمه الخاص كالأرش في العيب، فإنه على المشهور على خلاف القاعدة فلا يثبت
في غير البيع، وكذا خيار التأخير، إنه بمقتضى دليله الخاص مشروط بعدم اقباض
المبيع وحدوثه محدود بمضي ثلاثة أيام، ولا يعتبر شئ منهما في غير البيع بل يدور
مدار الضرر ولو مع اقباض المبيع وعدم مضي الثلاثة.

(1) الوسائل: ج 17، باب 12، من أبواب احياء الموات، ح 3، ص 241.
43

(ثانيهما) إن الخيارات الثابتة بعناوينها للبيع حق فسخ العقد كما هو معنى الخيار
عند علمائنا الأخيار فيكون قابلا للصلح عليه بشئ وقابلا في حد ذاته للانتقال
بالإرث وقابلا للاسقاط والشرط بخلاف ما ثبت بعنوان نفي الضرر فإن المرفوع
بالقاعدة هو اللزوم الضرري من دون إثبات حق بالقاعدة، والجواز الذي هو بديل
اللزوم حكم لا يقبل الأمور المتقدمة، وأما ثبوت تلك الأمور في خيار الغبن مع أن
منشأه القاعدة فلأجل الاجماع على قبوله للاسقاط ونحوه فيكشف عن كونه حقا،
مضافا إلى إمكان الاستدلال بما ورد في باب تلقي الركبان (1) من أنهم بالخيار إذا
دخلوا السوق ولا منشأ له إلا الغبن، ومع ثبوت الخيار بعنوانه يكون حاله حال خيار
المجلس الذي هو ملك الفسخ عندهم، وهل يصح شرط أحد الخيارات المختصة
بالبيع بعنوانه كخيار المجلس والحيوان ونحوهما أو لا؟
وحيث إن قصور الدليل عن إثبات الخيارات الخاصة لغير البيع ليس مقتضيا
لعدمها في غيره ليكون من الشرط المخالف للكتاب والسنة فلا مانع من هذه الحيثية
إلا أن كل واحد من الخيارين المزبورين مخصوص بخصوصية، حيث لو أريد إثباته
بحده لم يكن قابلا للثبوت بالشرط، ولو أريد إثبات مماثله من وجه بالشرط كان
مرجعه إلى شرط الخيار لا إلى شرط خياري المجلس والحيوان، مثلا خيار المجلس
مغيى بالافتراق غير المحدود بزمان معين فاشتراطه بحده شرط مجهول ومع تعين زمان
الافتراق بساعة مثلا كان مرجعه إلى شرط الخيار إلى ساعة، ويشهد له أنه لو مضت
الساعة ولم يفترقا لم يكن خيار ولو افترقا قبل ساعة لم يكن الباقي خيار المجلس،
وكذا خيار الحيوان، فإن له خصوصية بحيث لو تلف المبيع انفسخ البيع وإن حدث
به حدث كان في عهدة البايع، فإن اشترط خيار ثلاثة أيام فقط فهو شرط الخيار
الذي لا اختصاص له بالحيوان ولا بالمشتري، وإن اشترط ذلك الخيار المخصوص
بحكم خاص فمثله غير قابل للاشتراط هنا، فإن تلف المبيع فحيث إنه ملك المشتري

(1) جواهر الكلام: ج 12، ص 326.
44

فالقاعدة تقتضي أن يكون التلف منه، ومع ذلك يختص التلف في الثلاثة بكونه
من البايع بانفساخ العقد، وهنا العين ملك المؤجر وتلفه منه من دون انفساخ.
نعم تبطل الإجارة حيث لا منفعة واقعا حتى تملك وتملك، وبطلان الإجارة
غير الانفساخ وأما ضمان الحدث فهو وإن كان قابلا للاشتراط وليس كالانفساخ
حكما غير قابل للاشتراط إلا أن العين هنا ملك المؤجر وتلف وصفه من مالكه
فاشتراط كونه منه لغو، فشرط خيار الحيوان بحده غير معقول، وشرط خيار ثلاثة أيام
فقط ليس من شرط خيار الحيوان.
نعم كل خيار لا يشتمل على محذور كخيار التأخير لا مانع منه كما إذا
اشترط الخيار مع عدم اقباض العين بعد مضي ثلاثة، فإنه ليس فيه محذور لا من
حيث التقييد بعدم اقباض العين ولا من حيث التحديد بمضي الثلاثة، وكخيار
العيب، فإنه لا يمتاز عن غيره إلا بالأرش واشتراط الخيار بين الفسخ والامساك
بالأرش لا مانع منه لصحة اشتراط التدارك بما به التفاوت.
45

فصل
في ما يتعلق بشرائط العوضين في عقد الإجارة
اعلم أنه ذكر المحقق " قدس سره " في الشرايع شروطا خمسة وهي: معرفة
الأجرة إذا كانت من المكيل والموزون، ومملوكية المنفعة، ومعلومية
المنفعة وإباحة المنفعة، وكونها مقدورا على تسليمها (1).
وزاد عليها بعض أعلام العصر شروطا أخر من بقاء العين باستيفاء المنفعة (2)
فلا تصح إجارة الخبز للانتفاع بأكله ومن صلاحية العين للانتفاع بها، فلا تصح
إجارة الأرض لزراعة مع عدم إمكان وصول الماء إليها ومن إمكان استيفاء المنفعة
فلا تصح إجارة الحائض لكنس المسجد، والظاهر عدم الحاجة إلى هذه الإضافات،
لأن بعضها من مقومات الإجارة، وبعضها مندرج في أحد الشرائط السابقة.
أما مسألة إجارة الخبز للأكل فهي خارجة عن حقيقة الإجارة، لأن المنافع
حيثيات وشؤون للعين تستوفى منها تدريجا وليس للخبز هذا الشأن وأكله إتلافه لا
استيفاء شأن من شؤونه.
وأما إجارة الأرض للزراعة فإن استيفاء المنفعة تابع لا مكانها في مدة الإجارة،
وحيث لا تصلح الأرض للزراعة فعلا فهي غير واجدة لهذه المنفعة، والكلام في

(1) شرايع الإسلام: كتاب الإجارة، الفصل الثاني في شرائطها.
(2) العروة الوثقى: الركن الثالث من الفصل الأول من كتاب الإجارة.
46

شرائط نفوذ الإجارة لا في مقومات حقيقة الإجارة، فما لا منفعة له لا تعقل في حقه
حقيقة الإجارة.
وأما مسألة كنس الحائض فهي منفعة غير مباحة وإذا عممنا المملوكية إلى
ملك التصرف فهي لا تملك هذه المنفعة من نفسها حتى تملكها فهي داخلة في
الشرائط المتقدمة، فالأولى اتباع ما في الشرايع ونحن نتبع أثره في ذكر الشرائط في
طي مسائل:
المسألة الأولى
في معرفة الأجرة إذا كانت من المكيل أو الموزون بالكليل والوزن، وليعلم أن
مانعية الجهالة بما هي لا دليل عليها حتى في البيع ومانعية الغرر في البيع وإن كانت
منصوصة بقوله عليه السلام " نهى النبي صلى الله عليه وآله عن بيع الغرر " (1) إلا أنه لا دليل عليها في غيره إلا ما أرسله الشهيد " قدس سره " في القواعد وهو قوله
عليه السلام " نهى النبي صلى الله عليه وآله عن الغرر " وانجباره بعمل
الأصحاب غير معلوم إلا بملاحظة أنهم يمنعون عن الغرر مطلقا مع أنه لا مدرك له
إلا هذا المرسل فيظن باستنادهم إليه، مع إمكان استفادة المناط من نهي النبي
صلى الله عليه وآله عن بيع الغرر وعدم خصوصيته في نظرهم للبيع، وكما أن أدلة
اعتبار الكيل والوزن مختصة بالبيع فلا موجب لاسرائه إلى غيره مع ارتفاع الغرر
بالمشاهدة، ومنه تعرف أن استحسان كفاية المشاهدة كما في الشرايع (3) ليس
بذلك البعيد. نعم إذا قلنا بعموم رفع الغرر فطريق رفعه مختلف في نظر العرف، ولا
يرتفع الخطر في نظرهم عن المكيل والموزون إلا بكيله ووزنه، فإن الأغراض النوعية

(1) عيون أخبار الرضا: ج 2، ص 45، الباب 31، ح 168.
(2) القواعد والفوائد: ج 2، ص 61، القاعدة 164.
(3) شرايع الإسلام: كتاب الإجارة في ذيل الشرط الثاني من شرائط الإجارة.
47

العقلائية في باب المعاوضات كما تختلف باختلاف الأشياء من حيث الذات
والحقيقة ومن حيث الكيف الصفة كذلك من حيث الكم والمقدار، ولا
يرتفع الغرر من هذه الحيثية إلا بالكيل والوزن، وقد ذكر المحقق " قدس سره "
بمناسبة الأجرة أحكاما وإن لم تكن من فروع شرطية معرفة الأجرة ونحن نذكر تلك
الأحكام في طي مباحث:
المبحث الأول: الأجرة تملك بنفس العقد مقتضى سببية العقد وعدم اشتراطه
شرعا بشئ كالقبض في بيع الصرف والسلف، ولا إشكال ولا خلاف فيه عندنا،
وما ينسب إلى ظاهر القواعد من الفرق بين شرط التأجيل وعدمه لا منشأ له إلا
تعبيره باستقرار الأجرة، والظاهر أن الوجه فيه كون العقد بسبب شرط التأجيل في
معرض الانحلال بسبب التخلف وأعمال الخيار، وهذا غير توقف الملك على انقضاء
الأجل. نعم عن جماعة من العامة حصول الملك تدريجا باستيفاء المنفعة تدريجا،
نظرا إلى أن المنافع معدومة والمعدوم لا يملك وحيث إنها تدريجية الوجود فيعقل
حصول ملك المنفعة الموجودة تدريجا بتدرجية الوجود، وحيث إن الإجارة معاوضة
فلا يعقل ملك تمام الأجرة دفعة وملك ما يقابلها تدريجا فلا محالة تملك الأجرة
تدريجا لا دفعة بالعقد، وقد قدمنا فساد المبنى في أوائل كتاب الإجارة، وأن الملكية
الشرعية والعرفية ليست من الأعراض المقولية الخارجية حتى تتوقف على موضوع
محقق في الخارج بل من الاعتبارات فراجع، مع أن لازم التقريب المزبور أنه لا
تملك المنافع إلا باستيفائها وإلا فلا وجود لها، وعليه فلا فلا تصح الإجارة مع عدم
الاستيفاء في تمام المدة وحينئذ لا يستحق المؤجر شيئا من الأجرة بالعقد بل
بالضمان وتفويت المنافع.
الثاني: المعروف هنا وفي باب البيع أنه مع عدم اشتراط التأجيل يجب
التعجيل من اطلاق العقد ومع اشتراط التعجيل الذي هو مؤكد لما يقتضيه اطلاق
العقد، وتوضيح المقام برسم أمور.
(منها) إن مدلول العقد هنا هو تمليك المنفعة بالأجرة وفي البيع تمليك العين
48

بالعوض، ومن المسلم عندهم أنه ليس في البيع بالثمن المؤجل ولا في الإجارة
بالأجرة المؤجلة تعليق في تمليك العوض ولا تقييد في المملوك بالأجل، لما في الأول
من التعليق في العقود الممنوع عنه فيها ولما في الثاني من عدم قبول الأعيان للتحدد
بالزمان فلا معنى للدرهم الغدى بحيث يكون ظرفا لنفسه نظير الواجب المعلق فإذا لم
يكن تعليق ولا تقييد في المؤجل فلا معنى لاطلاق العقد من حيث مدلوله لنفي
التعليق والتحديد في ما لم يؤخذ فيه أجل
و (منها) إن منشأ وجوب التسليم عند المطالبة أحد أمرين:
الأول: عموم " الناس مسلطون على أموالهم " (1) لأن سلطان الغير على الامتناع
مع مطالبة المالك مناف لسلطان مالكه فوجوب التسليم حينئذ من لوازم الملك الذي
هو مدلول العقد كما أن شرط التأجيل تقييد من المالك لسلطانه على ماله فالعقد
يدل بالمطابقة على المالك وبالالتزام على وجوب التسليم عند المطالبة إلا أن لازم هذا
الوجه عدم جواز امتناع كل من المالكين مع امتناع الآخر، لأن ظلم أحد ومعصيته
لما يجب عليه لا يسوغ ظلم الآخر ومعصيته.
الثاني: الالتزام الضمني بالتسليم بإزاء التسليم المستكشف ببناء العقلاء في
باب المعاوضات، فإن بناءهم على التمليك بإزاء التمليك والتسليط الفعلي بإزاء
التسليط الفعلي على ما أوضحنا حال في مباحث القبض من التعليقة على
الخيارات (2) ولذا لكل منهما الامتناع من التسليم مع امتناع الآخر وعدم استحقاق
الامتناع مع بذل الآخر إلى غير ذلك من فروعه، والتأجيل يقيد هذا المعنى وينتفي
معه الالتزام المضنى المزبور فيبقى عموم دليل السلطنة بالإضافة إلى الآخر على
حاله، فاطلاق العقد في قبال هذا التقييد بالنظر إلى ما اشتمل عليه من الالتزام
بالتسليم المعاوضي يقتضي استحقاق التسليم حالا.

(1) عوالي اللئالي: ج 1، ص 222، ح 99.
(2) تعليقة المكاسب، ج 2، ص 198، في ذيل قول الشيخ الأعظم: يجب على كل من المتبايعين تسليم..
49

و (منها) إن شرط التعجيل يتصور على وجوه بعضها مؤكد لاطلاق العقد
وبعضها غير مؤكد.
أحدها: اشتراط الاسراع في الأداء عند المطالبة، وهذا هو الذي كان يقتضيه
اطلاق العقد وجوبا تارة واستحقاقا أخرى، وهذا هو المتعارف من اشتراط
التعجيل في مقابل الاهمال والمسامحة في التسليم.
ثانيها: اشتراط الاسراع في الأداء طالب أم لم يطالب، وهذا مما لا يقتضيه
العقد بمدلوله الالتزامي على الوجهين، فإن مقتضى سلطنة الناس على أموالهم عدم
سلطان الغير على الامتناع مع الطالبة، فإنه المنافي لسلطان الغير على المطالبة دون
عدم التسليم مع عدم المطالبة، فإنه ليس فيه مزاحمة لسلطان المالك حتى يكون منفيا
بالالتزام، وكذا استحقاق التسليم المعاوضي المتحقق بالالتزام الضمني حاله حال
سائر الحقوق لا يقتضي أداء الحق إلا عند مطالبته.
ثالثها: شرط حق التعجيل بطور شرط النتيجة، وهو غير مؤكد لمقتضى اطلاق
العقد على الوجهين، فإن المراد من كونه مؤكدا أن التعجيل الذي يقتضي اطلاق
العقد وجوبه يقتضي الشرط وجوبه وكذا التعجيل الذي يقتضي اطلاق العقد
استحقاقه يقتضي الاشتراط استحقاقه، فالوجوب والاستحقاق أثر تعلق الشرط لا
متعلق الشرط كشرط حق التعجيل.
رابعها: ما أضاف إلى ما ذكر بعض الأعلام " قدس سره " وجعله مؤكدا للعقد
وهو: " اشتراط عدم حق التأخير بنحو النتيجة، نظرا إلى أن التعجيل في قبال
التأجيل، وشرط الأجل مقتضاه حق التأخير ومقتضى اطلاق العقد عدم حق
التأخير الذي هو شأن التأجيل المقابل للتعجيل، فشرط عدم حق الأخير شرط مؤكد
لمقتضى اطلاق العقد " (1).
وفيه (أولا) أن الحق جعلي قابل للاثبات بالشرط وعدم الحق ليس كذلك

(1) راجع كتاب الإجارة للمحقق الرشتي: ص 84 في ذيل الشرط الثاني.
50

إلا إذا كان هناك مقتض لثبوته فيكون شرط عدمه إبداء للمانع عن ثبوته كشرط
عدم الخيار في العقد المقتضي له، وليس هنا مقتض لحق التأخير حتى يعقل شرط
عدمه، بل لا حق هنا لعدم علته
و (ثانيا) أن هذا الشرط لغو على أي تقدير، فإنه شرط النتيجة فأما أن يؤثر وأما
لا يؤثر فمع تأثيره لا أثر له إلا الخيار الذي لا يقل ترتبه مع عدم تخلف الشرط ومع
عدم تأثيره فالأمر أوضح، وبالجملة إنما تتصور الفائدة لشرط التعجيل من حيث إنه
يوجب تخلفه أو التخلف عنه الخيار وهو يتصور في شرط الوصف وشرط الفعل دون
شرط النتيجة الذي له التأثير وعدمه لا التخلف على الوجهين حتى يترتب عليه
الخيار، وأما قبول الحق للاسقاط فهو فرع الصحة ولا يعقل إلا في اشتراط الحق لا
في اشتراط عدمه إذ ليس هنا شئ يقبل الاسقاط، والاستحقاق الذي هو أثر
الشرط كما عرفت فرع صحة متعلقه فتدبر جيدا.
(خامسها) اشتراط التعجيل المقابل لاشتراط التأجيل فكما في الثاني يستحق
المستأجر تسلم المنفعة قبل تسليم الأجرة فكذا في الأول يستحق المؤجر تسلم الأجرة
قبل تسليم المنفعة، وهذا الشرط غير مؤكد لاطلاق العقد المبنى على التسليم المعاوضي
من الطرفين بل مناف له على حد منافاة شرط التأجيل، ولا مانع صحته كعدم
منافاة شرط التأجيل، لمنافاة كليهما للاطلاق لا للعقد كما في نظائره.
الثالث: لا ريب في صحة شرط التأجيل ولزوم بشرط أن يكون الأجل
مضبوطا، فالكلام في أمرين:
(أحدهما) في صحة الشرط وقد عرفت أنه لا مانع إلا توهم منافاته لمقتضى
العقد، وقد عرفت أن كون الأجرة حالة مقتضى اطلاق العقد من حيث مدلوله
الالتزامي لا أنها مقتضى حقيقة الإجارة حتى على احتمال رجوع التأجيل إلى
التعليق في الملكية أو إلى التحديد في المملوك كما احتملهما شيخنا الأستاذ
" قدس سره " في تعاليقه على كتاب الخيار، فإن التنجيز وعدم التحديد أيضا لازم
اطلاق الملكية واطلاق المملوك، وقد علم من صحة التأجيل في البيع أن التعجيل
51

ليس من اللازم غير المفارق حتى يدخل اشتراط الأجل في مخالفة الكتاب والسنة،
وأما ما عن بعض العامة من أن المنفعة إذا كانت كلية في الذمة فتمليكها من
السلم في المعنى فلا بد من اقباض عوضها حالا فهو على فرض صحته لا يوجب
الحاق الإجارة بيع السلم المشروط باقباض الثمن حالا.
(ثانيهما) في مضبوطية الأجل المشترط، والكلام فيه تارة من حيث مانعية
الجهالة عن نفوذ الشرط وأخرى في فساد الإجارة بنفس اشتراط الأجل المجهول من
حيث سرايته إلى الأجرة المقومة لحقيقة الإجارة. والمعدة هو الثاني، فإنه لولا
السراية لم تبطل الإرادة بفساد الشرط على ما هو المحقق عند المحققين من عدم فساد
العقد بفساد شرطه، أما الأول فمبني عليه صحة ما أرسله الشهيد من نهي النبي صلى
الله عليه وآله عن الغرر (1)، مضافا إلى دعوى انصرافه إلى الالتزامات المعاملية
المستقلة في التحصل دون مثل الشرط الذي هو التزام ضمني تبعي خصوصا إذا لم
يكن متعلقه مالا فإنه لا غرر فيه ولا خطر من حيث عدم ذهاب ماله هدرا بل فيما
إذا كان مالا أيضا لا غرر، لأنه غير مقابل بالمال ليذهب هدرا بذهاب مقابله،
وليس مجرد عدم وصول المال المشترط خطرا وضررا.
نعم إن عممنا الخطر والضرر إلى نقض الغرض المعاملي فوقوعه مع الجهل في
نقض غرضه الواقع موقع الالتزام وقوع في الخطر والضرر، وأما الثاني وهو سراية
الجهالة من الشرط إلى العقد فيكون العقد غرريا فيفسد من ناحية غرريته وإن لم
تكن غررية الشرط منهيا عنها، فمجمل القول فيه أن الشرط تارة بمعنى التقييد
وأخرى بمعنى الالتزام في ضمن الالتزام البيعي أو الإجاري.
أما إذا كان بمعنى التقييد وورد العقد على المقيد سواء كان قيدا للمعوض أم
للعوض فلا محالة يكون أحد العوضين غرريا بذاته، وإذا ورد التقييد على أحد
العوضين كما في التوصيف الذي يوجب تخلفه الخيار فلا غرر في ذات أحد العوضين

(1) القواعد والفوائد: ج 2، ص 61 القاعدة 164.
52

بل في شأن من شؤونه، فالمبيع أو الثمن مثلا غرري عرفا وصفا لا ذاتا.
وعلى أي تقدير فشرط فشرط الأجل ليس كذلك لما عرفت من عدم تحدد الأعيان
بالزمان فلا معنى للدينار المؤجل، وأما إذا كان بمعنى الالتزام فجهالة الملتزم به
ليست جهالة في أحد العوضين بذاتهما ولا بوصفهما، وليس البيع إلا تمليك عين
بعوض، فمع انحفاظهما وعدم ذهابهما هدرا لا معنى لسراية الغرر إلى البيع بما هو بيع
وليس الملتزم به في قبال أحد العوضين ولو لبا حتى يتحقق الغرر والخطر بملاحظة
ما يقابله، ودعوى أنه وإن كان عنوانا بنحو الاشتراط إلا أنه لبا ضميمة لأحد
العوضين مدفوعة بأنه وإن كان داعيا إلى المعاوضة بين العوضين، لكنه يستحيل أن
يكون ضميمة يقابل بجزء مما يقابله، إذ يستحيل أن تؤدي المبادئ النفسانية
المقصودة إلى خلاف ما يقتضيه التسبيب العقدي المعاملي فلم يبق إلا أنه من
الدواعي إلى تبديل أحد العوضين بالآخر.
نعم إذا أريد من الغرر في البيع الخطر في الاقدام المعاملي البيعي فالبيع الخاص
المشتمل على الشرط المجهول خطري وإن لم يكن ذات البيع غرريا خطريا فكما أن
كونه في ضمن العقد يوجب تخلفه الخيار في العقد كذلك يوجب غربية العقد
وخطريته، والله أعلم.
الرابع: في ما إذا وقف المؤجر على عيب في الأجرة، وهي إما كلية أو شخصية
والعيب إما سابق على العقد أو على القبض، وتنقيح الكلام برسم أمور في المقام.
(منها) ما إذا كانت الأجرة كلية فوفاها المستأجر بأداء فرد معيب، والبحث
حينئذ تارة في الانطباق وأخرى في حكمه بعد تحققه.
أما الأول فالاشكال فيه من حيث إن المبيع إذا كان شخصيا والبيع واقع عليه
على أي تقدير، لعدم قابلية البيع للتعليق الممنوع عنه شرعا وعدم إمكان تقييد الفرد
حيث لا سعة فيه حتى يضيق فلا محالة ليس حاله إلا حال تخلف الوصف، المأخوذ
في الموصف الشخصي وأثر تخلفه الخيار، بخلاف المبيع الكلي فإنه قابل للتضييق
فإذا أخذ فيه وصف ولو مثل وصف الصحة ولو بالشرط الضمني فلا محالة يصير
53

الكلي حصة خاصة، والحصص بما هي حصص متقابلات لا يعقل انطباق بعضها
على بعض، ويندفع بأن الوصف على قسمين، تارة يكون مقوما للمبيع فلا محالة لا
يعقل انطباقه على غيره، وأخرى يكون وصفا محضا لا مقوما فالمبيع ذات الكلي
وذات الكلي منطبقة على المعيب.
وأما الثاني فالمشهور فيه كما في " الشرايع " أنه مخير بين الفسخ والابدال (1)،
وظاهر الفسخ في كلماتهم فسخ العقد لا فسخ الوفاء المساوق للابدال فحمل الفسخ
على فسخ الوفاء وجعل الابدال معطوفا بالواو كما في بعض نسخ الشرايع ليكون
توضيحا لفسخ الوفاء بلا موجب.
فنقول: المستند في حكم المسألة إما قاعدة الضرر العامة للإجارة أو أخبار خيار
العيب، ثم إلحاق الإجارة بالبيع بالاجماع ونحوه، فإن كان المستند قاعدة الضرر
فاثبات فسخ العقد بها معينا أو مخيرا مشكل، لأن العقد لم يقع على المعيب حتى
يرتفع لزومه بل الضرر ناشئ من التطبيق والوفاء فهو المناسب رفعه لأجل الضرر،
وأما دعوى استقرار البيع على الفرد المدفوع لأن الكلي عين فرده خارجا كما ادعاها
غير واحد وحينئذ فلزومه ضرري، وحيث إن ضرر هذا البيع المستقر على الفرد
يندفع بأحد الأمرين من رفع أصله ورفع استقراره حكم المحقق " قدس سره "
بالتخيير بين الفسخ والابدال وهي غاية تقريب مرامه " رحمه الله " فمدفوعة بأنه بعد
تعلق المعاملة بالكلي فتطبيق الكلي على فرده إما واسطة في استقرار المعاملة على
الفرد بنحو الوساطة في العروض، لمكان اتحاد الكلي وفرده خارجا فينسب حكم
الكلي إلى فرده، وإما واسطة بنحو الوساطة في الثبوت فالحكم يسري من الكلي إلى فرده
حقيقة وبالذات لا بالعرض والمجاز.
وأما إذا أريدت الوساطة في العرض فهي صحيحة فالكلي مبيع بالذات
وفرده مبيع بالعرض إلا أنه لا يجدي الثبوت العرضي لثبوت حكم الكلي حقيقة،

(1) شرايع الإسلام: كتاب الإجارة في ذيل الشرط الثاني.
54

فلزوم العقد مثلا ليس حكما للعقد الأعم من الحقيقي والعرضي بل للحقيقي، ونسبة
اللزوم عرضا غير مجدية كما هو واضح حيث لا لزوم له حقيقة حتى يرفع الضرر.
وأما إذا أريدت الوساطة في الثبوت فهي غير معقولة لاستحالة خروج المعاملة
التسببية القصدية المتعلقة بنفس الكلي وانقلابها وتعلقها قهرا بالشخص.
(لا يقال) فكيف يكون الفرد مملوكا فإن الوساطة في العروض غير مجدية
لترتيب آثار الملك الحقيقي والوساطة في الثبوت غير معقولة.
(لأنا نقول): حيث إن للمديون ولاية على أداء دينه بما يعينه فله تطبيق كلي
المملوك في ذمته على فرده فيكون الكلي مملوكا بالذات بالبيع مثلا الفرد مملوكا
حقيقة بالتبع لا بالعرض بالوفاء ولكنه ليس للمديون الولاية على قلب المعاملة بين
الكلي وعوضه إلى المعاملة بين الفرد والعوض، ولذا لا ريب في صحة تبرع الأجنبي
بأداء الدين من ماله مع أنه لا شبهة في أنه لا يكون المال المتبرع به مبيعا، وكذا
الوارث يملك ما يأخذه من المديون مع أنه ليس المأخوذ متروكا لمورثه ولا انتقاله إليه
بالإرث كما لا يخفى، هذا كله إن كان المستند قاعدة نفي الضرر، وإن كان المستند
أخبار خيار العيب المتكفلة للرد والأرش.
فنقول: أما فسخ العقد فمبناه أحد أمرين: إما استقرار البيع فيكون المعيب مبيعا
فتعمه الأخبار، وقد مر دفعه، وإما شمول من اشترى شيئا للشخصي والكلي،
ويندفع بأن الشئ وإن كان يصدق على كل شئ إلا أن قوله " عليه السلام " وبه
عيب أو عوار (1) يخصه بالشخصي حيث لا عيب في الكلي بل في ما أداه البايع
وفاء عنه.
وأما فسخ الوفاء بأخبار خيار العيب فتقريبه كما في الجواهر في باب الصرف
والسلف، أن العقد يستقر على ما تعين كلي المبيع فيه (2) إلا أن رد المعيب يختلف

(1) الوسائل: ج 12، باب 16 من أبواب الخيار، ح 2 ص 362.
(2) جواهر الكلام: ج 24، ص 267.
55

مقتضاه، فإن كان شخصيا فرده يستلزم انفساخ العقد لاستحالة زوال الملك
المسبب عن العقد مع بقاء السبب، وإن كان كليا تعين في فرده، فرد الفرد
واستلزامه لزوال ملكه عنه يستلزم زوال التطبيق المعين لملك الكلي فيه لا زوال
العقد، لعدم الملازمة بين زوال الملك عن الفرد وزوال الملك عن الكلي، وعليه
فإذا شملته أخبار رد المعيب والمفروض أن طرفه هو الامساك بالأرش صح القول
بالتخيير بين الابدال والامساك بالأرش.
قلت: أما استقرار البيع لتعمه أخبار خيار العيب فقد مر ما فيه، وأما تعميم
الرد إلى رد العقد ورد الوفاء بحسب مقتضيات المقامات ففيه أن ظاهر أخبار خيار
العيب أنه له الرد واسترجاع الثمن ولا يكون ذلك إلا في رد المعيب وفسخ العقد،
ومن جميع ما ذكرنا يتضح أنه لا مجال إلا للابدال فقط بقاعدة نفي الضرر لا بأخبار
خيار العيب، هذا إذا أمكن الابدال.
وأما إذا تعذر فلا فائدة في فسخ التطبيق حيث لا يندفع به الضرر، فهل له
فسخ أصل العقد هو المشهور في باب السلم عند تعذر المسلم فيه وبه بعض
الأخبار أو يجب عليه الصبر والانتظار كما هو الشأن في الدين الذي لا يتمكن من
وفائه أوله مطالبة القيمة، فإن للمشتري مثلا اسقاط الخصوصية ومطالبة المالية التي
يستحقها في ذمته؟ وجوه أو فقها بالقواعد هو الأخير، إذ التعذر لا يوجب صيرورة
اللزوم ضرريا بعد وقوع العقد على الكلي، وخيار تعذر التسليم إنما المتيقن منه تعذر
تسليم الشخصي الذي لا دافع لضرره إلا الخيار حيث لا يستحق عليه المالية بل
ماله بنفسه متعذر، وليس كالدين الذي لا يتمكن من أدائه حتى ينتظر الميسرة
لفرض تمكنه من أداء القيمة إلا أن ظاهر المشهور فيما يشبه المقام هو الخيار من باب
تعذر التسليم لا من باب خيار العيب والله أعلم.
و (منها) ما إذا كانت الأجرة شخصية معينة، والمعروف بل ادعي عدم
الخلاف فيه أن حالها حال البيع في الرد والأرش، فإن كان اجماع في المسألة فهو
وإلا فلا موجب للأرش، فإن قاعدة نفي الضرر كما مر مرارا لا تنفي إلا اللزوم فلا
56

تجدي لتحقيق حق الخيار فضلا عن استحقاق الأرش، وأخبار خيار العيب مختصة
بالبيع بل بالمبيع المعيب دون الثمن والحق به الثمن هناك للاجماع على اشتراكهما في
الحكم.
نعم إن كان تدارك وصف الصحة بالأرش
على القاعدة فهي مطردة في جميع
موارد فوات وصف الصحة إلا أنه في غاية الاشكال كما فصلنا القول فيه في تعاليقنا
على خيار العيب فراجع.
و (منها) إن الظاهر من غير واحد أنه لا فرق في العيب بين كونه سابقا على
العقد أو سابقا على القبض، وهو فيما إذا كانت الأجرة كلية واضح، إذ المناط
تطبيق الكلي على المعيب فالكلام سبقه على القبض من دون دخل لسبقه على
العقد.
وأما إذا كانت الأجرة شخصية فسبقه فيه أعلى العقد يوجب ورود العقد على
المعيب فتعمه أخبار خيار العيب في البيع وقاعدة الضرر هنا ويرتفع لزومه.
وأما مع حدوثه بعد العقد وقبل القبض فلا تعمه أخبار خيار العيب، لأن
موردها من اشترى شيئا وبه عيب أو عوار فالعيب الحادث بعد العقد حادث في
ملك المشتري، ولا قاعدة الضرر، لأن مورد العقد لم يكن ضرريا حتى يرتفع حكمه
فالضرر الحادث قبلا لقبض كالحادث بعده، وكون إمساكه ضررا على المشتري أو
على المؤجر هنا لا يقتضي تحميل الضرر على البايع والمستأجر مع حدوث الضرر بعد
صيرورته ملكا للمشتري وللمؤجر، فلا مناص من تصحيح ذلك في البيع بقاعدة
التلف قبل القبض ثم الحاق الإجارة بالبيع.
فنقول: قوله عليه السلام " كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بايعه " (1) إما
يراد منه كونه من مال بايعه حكما فخسارته ودركه عليه كما عن الشهيد الثاني
" رحمه الله " (2) وتبعه غيره وأما يراد منه أنه يتلف منه حقيقة، ولا يكون كذلك إلا إذا

(1) عوالي اللئالي: ج 3، ص 212، ح 59.
(2) مسالك الأفهام: ج 1، ص 185.
57

قدر قبل التلف ملكا له، وهو مع بقاء العقد على حاله يوجب اجتماع ملكين
استقلاليين على عين واحدة فلا محالة يلتزم بانفساخ العقد قبل التلف ورجوع إلى
البايع، فإن قلنا بالأول مع عموم التلف لجميع مراتبه ذاتا ووصفا كلا وبعضا
فمفاده في الجميع لزوم غرامة الكل في تلف الكل وغرامة الجزء في تلفه وتدارك ما به
تفاوت الصحيح والمعيب في تلف الوصف، ومقتضاه فيما نحن فيه تعين الأرش لا
تعين الرد ولا التخيير بينهما، وإن قلنا بالثاني كما هو المشهور فالالتزام بمقالة المشهور
من انفساخ العقد في تلف الكل والجزء واجراء حكم خيار العيب في تلف الوصف
في غاية الاشكال، وغاية ما يقال في تقريبه ما عن شيخنا العلامة الأنصاري
" قدس سره " في مباحث التلف قبل القبض (1) وهو أن مقتضى كونه من مال
بايعه حقيقة فرض العقد كأن لم يكن قبل التلف، ومقتضاه في تلف الكل أنه يرد
التلف على ما لا عقد له فيكون ملك بايعه، وفي تلف الجزء كأنه لا عقد عليه
بالخصوص فينفسخ العقد بالنسبة إلى الجزء التالف دون غيره.
وفي تلف الوصف له اقتضاءان: أحدهما انفساخ العقد عن الموصوف بما هو
موصوف فيرجع الانفساخ إلى حيثية الوصف التالف. والثاني استقرار العقد على
ذات الموصوف الفاقد للوصف حيث لا موجب لزوال العقد عنه، ومقتضى استقرار
العقد على المعيب اجراء أحكام خيار العيب عليه، فنلتزم حينئذ بالانفساخ في جميع
مراتب التلف كما هو ظاهر النبوي مع الالتزام بأحكام خيار العيب، لأن اللازم
انفساخ العقد في الوصف فقط إلا أن هذا التقريب غير وجيه ثبوتا واثباتا.
أما ثبوتا فلأن كلا الجزئين من التقريب فيه محذور، أما الانفساخ فالبرهان
قائم على أن ما لا عقد عليه لا حل له وما لا عقد عليه استقلالا وبالذات لا حل له
استقلالا وبالذات ومن الواضح أن الوصف غير مملوك بالذات بل بالعرض
لاستحالة ملك الوصف بما هو وإذا كان مملوكا بالعرض فهو معقود عليه بالعرض،

(1) المكاسب: ص 313.
58

وكل ما بالعرض تابع لما بالذات ثبوتا وسقوطا عقدا وحلا، فإذا فرض شمول التلف
لجميع المراتب وكون العقد منحلا في الوصف كان دليلا على انفساخ العقد في
الموصوف، وليس الانفساخ حكميا حتى يعقل التنزيل في ترتيب أثر الانفساخ في
خصوص الوصف حتى يلزمه بقاء العقد على المعيب.
وأما اللازم الآخر وهو اجراء أحكام خيار العيب فلأن ظاهر أخبار ورود
البيع على المعيب لا تعيب المبيع بقاء، وحيث إن العقد واقع وزواله عن ذات
الموصوف بلا موجب عنده " قدس سره " فليس لازم الانفساخ في الوصف إلا بقاء
العقد على ما زال وصفه المحقق عند حودث العقد، فلا موجب لاجراء أحكام خيار
العيب، ولا دليل على تنزيل بقاء العقد على المعيب منزلة حدوثه، فإن المفروض
دلالة النبوي على الانفساخ الحقيقي من دون تضمنه لتنزيل، فلا بد من الالتزام بما هو
لازم الانفساخ، ولازم الانفساخ الحقيقي ليس إلا بقاء العقد على ما هو معيب لا
تنزيل البقاء منزلة الحدوث، هذا كله فيما يتعلق بمقام الثبوت.
وأما إثباتا فلأن ظاهر قوله صلى الله عليه وآله: " كل مبيع " (1) ما هو مبيع
بالحمل الشايع وليس هو إلا الكل والجزء فتلف مثلهما موجب للانفساخ دون تلف
الوصف الذي ليس مبيعا بالحمل الشايع بل وصف له، ووصف المبيع بالتلف
حينئذ من باب وصف الشئ بحال متعلقه، ومن جميع ما ذكرنا تبين أنه بناء على
وفاء مقام الاثبات لا بد من القول بالانفساخ دون الرد والأرش، فلا دليل على الرد
والأرش بل الرد أولى بلا اشكال، إذ على القول بمقالة الشهيد الثاني " رحمه الله " في
مفاد النبوي (2) يتعين خصوص الأرش كما عرفت.
الخامس: في حرمة فضل الأجرة أو كراهته في الجملة وتوضيح القول فيه: أن
العناوين المحكومة في الأخبار بأحد الأمرين ستة: الدار والبيت وهما بمعنى واحد،
والحانوت والأجير والرحى والسفينة والأرض، أما الدار والبيت والحانوت والأجير

(1) عوالي اللئالي: ج 3، ص 212، ح 59.
(2) الروضة البهية: ج 3، ص 526.
59

فقد نص على حرمة فضل الأجرة فيها من دون ما يصلح للمعارضة وأما الباقي فإما
لا دليل على حرمته أو معارض بأقوى منه.
فنقول: أما حرمة ايجار الدار والحانوت والأجير بأكثر مما استؤجر به فهي
منصوصة في خير أبي الربيع الشامي حيث قال عليه السلام: " إن الأرض ليس مثل
الأجير ولا مثل البيت، إن فضل الأجير والبيت حرام " (1) وفي خبر أبي المغرا: " إن
هذا ليس كالحانوت ولا الأجير، إن فضل الحانوت والأجير حرام " (2)، وفي خبر
إبراهيم بن المثنى: " إن الأرض ليست بمنزلة الأجير والبيت، إن فضل البيت حرام
وفضل الأجير حرام " (3)، ولا ريب في ظهور الحرمة في هذا المعنى المقابل للكراهة
كما في الاستعمالات القرآنية كقوله تعالى: " وحرم الربوا " (4) " حرمت عليكم
الميتة " (5) " قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما " (6) " قل إنما حرم ربي الفواحش " (7)
إلى غير ذلك، وكذا في الأخبار، بل ظهور هذه المادة في مقابل الكراهة في الصدر
الأول كان أقوى من ظهور النهي ونحوه كما يظهر من سؤال (8) المهدي العباسي من

(1) الوسائل: ج 13، باب 20، من أبواب أحكام الإجارة، ح 2 و 3، ص 259.
(2) الوسائل: ج 13، باب 20، من أبواب أحكام الإجارة، ح 4، ص 260.
(3) الوسائل: ج 13، باب 20، من أبواب أحكام الإجارة، ح 5، ص 260.
(4) البقرة: 275.
(5) المائدة: 3.
(6) الأنعام: 145.
(7) الأعراف: 33.
(8) في البحار باب مناظرات الإمام موسى بن جعفر عليه السلام مع خلفاء الجور عن الكافي: أبو
علي الأشعري عن بعض أصحابنا وعلي عن أبيه جميعا عن ابن البطائني عن أبيه عن علي بن يقطين قال:
سأل المهدي أبا الحسن عليه السلام عن الخمر هل هي محرمة في كتاب الله عز وجل فإن الناس إنما يعرفون
النهي عنها ولا يعرفون التحريم لها؟ فقال له أبو الحسن عليه السلام: بل هي محرمة في كتاب الله عز وجل يا
أمير المؤمنين، فقال له في أي موضع هي محرمة في كتاب الله عز وجل يا أبا الحسن؟ فقال قول الله
عز وجل: " إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق " سورة 7 آية 32 فأما
قوله: ما ظهر منها يعني الزنا المعلن، ونصب الرايات التي كانت ترفعها الفواجر للفواحش في الجاهلية،
وأما قوله عز وجل: وما بطن يعني ما نكح الآباء لأن الناس كانوا قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وآله
إذا كان للرجل زوجة ومات عنها تزوجها ابنه من بعده إذا لم تكن أمه فحرم الله عز وجل ذاك، وأما الإثم.
60

الإمام موسى الكاظم عليه السلام، ولا موهم لمعارضة هذه الأخبار إلا ما في حسنة
الحلبي: في الرجل يستأجر الدار ثم يؤاجرها بأكثر مما استأجرها به، قال عليه السلام
" لا يصلح ذلك إلا أن يحدث فيها شيئا " (1)، ومن الواضح أن لا يصلح وإن كان
صالحا لإرادة الكراهة إلا أنه ليس ظاهرا فيما فهو لا اقتضاء من حيث إفادة الحرمة
لا أنه مقتض لعدمها حتى يعارض قوله عليه السلام: (حرام) في غير واحد من
الأخبار (2).
وأما حكم الرحى والسفينة والأرض فنقول: أما الرحى ففيها روايتان:
موثقة أبي بصير (3) وحسنة سليمان بن خالد أو صحيحته والمضمون واحد تقريبا
قال الصادق عليه السلام: " إني لأكره أن استأجر الرحى وحدها ثم أواجرها بأكثر
مما استأجرتها به إلا أن أحدث فيها حدثا أو أغرم فيها غرما " (4)، ومن الواضح أن
الكراهة في لسان الأخبار، وإن لم تتعين لمعناها المقابل للحرمة إلا أنه لا دلالة لها
أيضا على خصوص الحرمة بل المتيقن مطلق المرجوحية المساوقة للكراهة عملا، وأما
السفينة ففيها رواية واحدة عن إسحاق بن عمار عن جعفر عليه السلام عن أبيه
عليه السلام أن أباه كان يقول: " لا بأس أن يستأجر الرجل الدار أو الأرض أو
السفينة ثم يؤاجرها بأكثر مما استأجرها به إذا أصلح فيها شيئا " (5)، فإنها بمفهومها

(8) فإنها الخمرة بعينها، وقد قال الله تبارك وتعالى في موضع آخر: " يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس " سورة 2 آية 219 فأما الإثم في كتاب الله فهي الخمر والميسر وإثمهما كبير كما قال
الله عز وجل، قال فقال المهدي: يا علي بن يقطين هذه والله فتوى هاشمية، قال فقلت له: صدقت والله
يا أمير المؤمنين الحمد لله الذي لم يخرج هذا العلم منكم أهل البيت، قال فوالله ما صبر المهدي أن قال لي
صدقت يا رافضي. (راجع بحار الأنوار: ج 48، ص 149، ح 24).
(1) الوسائل: ج 13، باب 22 من أبواب أحكام الإجارة، ح 4، ص 263.
(2) كما تقدم في خبر أبي الربيع الشامي، وأبي المغرا، وإبراهيم ابن المثنى، في الصفحة السابقة.
(3) الوسائل: ج 13، باب 22، من أبواب أحكام الإجارة، ح 5، ص 263.
(4) الوسائل: ج 13، باب 20، من أبواب أحكام الإجارة، ح 1، ص 259.
(5) الوسائل: ج 13، باب 22، من أبواب أحكام الإجارة، ح 2، ص 263.
61

تدل على ثبوت البأس في الثلاثة، ودلالتها على الحرمة بعد ظهور البأس في نفسه في
الحرمة متوقفة على اشتراك الأرض مع الدار في الحكم حتى يكون الحكم في الكل
حرمة الايجار إلا أنه سيجئ إن شاء الله تعالى إن حكم ايجار الأرض هي الكراهة
فلا محالة يكون المراد من البأس هو الجامع بين الحرمة والكراهة، فلا دلالة للرواية
على حرمة إيجار السفينة بأكثر مما استأجرها به.
وأما الأرض ففيها طوائف من الأخبار (الأولى) ما يدل على الجواز مطلقا كما
في صدر رواية أبي الربيع الشامي (1) وأبي المعزا (2) وابن المثنى (3) المشتمل على
عدم البأس، وأن الأرض ليست كالبيت والحانوت الأجير.
و (الثانية) ما يدل على عدم جواز إجارتها وجواز مزارعتها بالأكثر.
و (الثالثة) ما يدل على عدم جوازهما معا، ولا يمكن حمل الطائفة الأولى المطلقة
على ما إذا أحدث فيها شيئا، لأن حرمة إجارة الدار والحانوت أيضا مقيدة به فلا
مجال لنفي المماثلة بين الأرض والدار والحانوت كما هو صريح الروايات المزبورة،
ولا يمكن تقييدها بجواز المزارعة المعبر عنها في غير واحد من الأخبار بالإجارة، فإنه
مع كونه خلاف الظاهر مخالف لنفي المماثلة بين الأرض والبيت والحانوت أيضا،
فإن ظاهره إن الأرض ليست كالبيت في الإجارة بالأكثر لا أن المزارعة ليست
كالإجارة ليجوز فيها المزارعة بالأكثر.
فالصحيح في الجمع بين الطوائف الثلاث هو حمل الأخبار المانعة على الكراهة
،
لأن قوله عليه السلام: لا بأس نص في الجواز فيقدم على ما هو ظاهر في المنع، كما
أن الطائفة المفصلة بين الإجارة والمزارعة كروايتي الحلبي (4) وإسحاق بن عمار نص
في جواز المزارعة فتقدم على رواية الهاشمي الناهية عن التقبيل بالأكثر بحمل المنع
على مرتبة من الكراهة هي أخف من كراهة الإجارة بالأكثر، فالأقوى في المسألة
حرمة الإجارة بالأكثر في الدار والحانوت والأجير وكراهة الإجارة بالأكثر في الرحى

(1) تقدمت في صفحة 60.
(2) تقدمت في صفحة 60.
(3) تقدمت في صفحة 60.
(4) تقدمت في الصفحة السابقة.
62

والسفينة والأرض إجارة ومزارعة بتفاوت مرتبة الكراهة فيهما، هذا على ما سلكناه
من ملاحظة عناوين ما ورد في الأخبار حرمة وكراهة.
وأما على ما سلكه غير واحد من استفادة الكلية من الأخبار بجعل العناوين
المتقدمة من باب المثال، وأن الحكم للعين المستأجرة بما هي ولذا عبر غير واحد في
عنوان المسألة بإجارة العين المستأجرة بأكثر مما استأجرها، به، فالصحيح هو الحكم
بالكراهة في الكل بتفاوت بين الأعيان المستأجرة شدة وضعفا، إذ بعد إلغاء
الخصوصيات تكون نصوص الجواز ونصوص المنع من باب النص والظاهر، ولا
يمكن ابقاء الحرمة على حالها في خصوص البيت والحانوت والأجير بتوهم أن الدليل
المتكفل للحرمة مخصص للكلية المستفادة من نصوص الجواز وذلك لأنه مناف
لالغاء الخصوصيات الموجب لورود المنع والجواز على العين المستأجرة بما هي عين لا بما
هي أرض أو بيت أو حانوت إلا أن إلغاء الخصوصيات دونه خرط القتاد، وحيث
إن الحكم تحريما وكراهة على خلاف الأصول والقواعد فالأظهر الاقتصار على
ما ذكرنا.
وينبغي التنبيه على أمرين: (الأول) قد استثني في الكلمات من الحرمة أو
الكراهة أمران: أحدهما ما إذا أحدث في العين المستأجرة حدثا ثانيهما ما إذا
اختلفت الأجرتان جنسا.
أما الأول: فهو منصوص في أغلب الروايات التي موردها الأرض والرحى
والسفينة فيقيد بها مطلقاتها، ولا مطلق فيها إلا الأرض، وإلا فروايتا الرحى كلتاهما
مقيدة به كما أن رواية السفينة كذلك، وأما روايات البيت والحانوت والأجير فهي
مطلقا، ولعل السر في عدم تقييدها إما اشتمالها على الأجير الذي لا موقع فيه
لاحداث الحدث وإما لأنها غير مسوقة لحرمة الثلاثة ليكون لها اطلاق بل لجواز
إجارة الأرض وأنها ليست كالبيت والحانوت والأجير في الحرمة، والجواز المقابل
للحرمة لا موقع فيه للاستثناء وإنما المحتاج إلى الاستثناء كراهة إجارتها، والمفروض
ثبوت الاستثناء في أغلب الأخبار المتكلفة للمنع لمحمول على الكراهة جمعا. وأما
63

الثلاثة المنصوص عليها بالحرمة فالأجير لا موقع للاستثناء عليه والدار نص على
الاستثناء فيها في بعض الأخبار والحانوت وإن لم يرد نص بالاستثناء فيه إلا أن
المظنون قويا أنه كرديفه الدار في رفع الحرمة عنه باحداث الحدث فيه والله أعلم.
وأما الثاني: وهو اختلاف الجنس في الأجرة فلم ينص عليه في النصوص.
نعم ربما يستفاد من لزوم التماثل في صدق الأكثرية، فمع الاختلاف لا يقال إن
إحدى الأجرتين أكثر من الأخرى، والظاهر أن صدق الأكثرية في ما يتمحض في
المالية كالدينار والدرهم غير منوط بالتماثل، حيث لا ريب في صدق الأكثرية إذا
كانت إحدى الأجرتين عشرة دراهم والآخر عشرة دنانير وأما فيما لا يتمحض في
المالية كغير النقود فإنه، وإن لم يصدق أكثرية الحنطة من الأرز مثلا لكن مقام
الثمنية والأجرة مقام النقدين في التمحض في المالية، فإنه لم يلاحظ في مقام عوضية
شئ إلا انحفاظ مالية المعوض به، والرغبات النوعية متوجهة نحو المعوض من حيث
كونه حنطة أو شعيرا أو منفعة الدار الكذائية والعمل الكذائي، مضافا إلى عدم
انحصار الأمر في الأكثرية بل يكفي صدق عنوان فضل البيت وفضل الحانوت وفضل
الأجير فإذا كانت إحدى الأجرتين ذات فضل وزيادة على الأخرى، في حيثية المالية
صدق فضل المذكورات.
وأما توهم صدق الربا عفي المتجانسين دون المختلفين فهو ضعيف لعدم
استجماعه لشرائط الربا في المتماثلين، مع أنه لو قلنا بصدق الربا على مطلق الزيادة
فإنما نقول به فيما إذا كان له مساس بالمعاملة الأولى كشرط الزيادة على الثمن
بالتأجيل ولو في خارج المعاملة لا في مثل ما نحن فيه، وهل هو إلا كالبيع ثانيا
بأكثر مما اشتراه به؟ وهو واضح، فالأقوى عدم اجداء اختلاف الجنس في رفع
الحرمة في موردها وفي رفع الكراهة في موردها.
(الثاني) فيما إذا آجر نصف العين المستأجرة بالأكثر أو المساوي. أما الأول فلا
ينبغي الاشكال في حرمته أو كراهته لفحوى ما دل على حرمة إيجار الكل بالأكثر
أو كراهته. وأما الثاني فالكلام تارة في شمول الأدلة المانعة وأخرى في النصوص
64

الخاصة بالمقام.
أما شمول الأدلة العامة فعدم صدق الأكثر مع ملاحظة وحدة الأجرة واضح،
وأما صدق الفضل فالظاهر أيضا عدمه لأن الظاهر فضل الأجرة لا الفضل على
الأجرة، فانتفاعه بما عدا الحصة المستأجرة ثانيا وإن كان فضلا إلا أنه ليس من
فضل الأجرة في الإجارة الثانية، وتوهم أن مقتضى استيجار الدار بعشرة دراهم
إن أجرة نصفها خمسة فإجارة نصفها بعشرة تزيد على الإجارة الأولى بخمسة مدفوع
بأن ظواهر جميع أخبار الباب ملاحظة الإجارة بنحو الوحدة وكذا ملاحظة الأجرة
بنهج الوحدة لا تحليل الإجارة إلى إجارات ولا تقسيط الأجرة على الحصص.
وأما الأدلة الخاصة فمقتضى رواية الحلبي هو الجواز، قال عليه السلام: " لو أن
رجلا استأجر دارا بعشرة دراهم فسكن ثلثيها وآجر ثلثها بعشرة دراهم لم يكن به
بأس ولا يؤاجرها بأكثر مما استأجرها به " (1)، وهو صريح في الجواز في مفروض
المسألة، ويظهر منه بمقتضى المقابلة ما ذكرنا من ملاحظة الأجرة بنحو الوحدة لا
بنحو التقسيط، وعليه فما في مضمرة سماعة (2) الواردة في المرعى محمول على
الكراهة كما هو مقتضى تقديم النص أو الأظهر على الظاهر خصوصا بملاحظة أن
مورد الجواز هو الدار التي تختص بحرمه الإجارة بالأكثر ولا معارض فيها بالخصوص،
ورواية المنع موردها إجارة الأرض التي حكمها الكراهة، وكراهة إجارة البعض
بالمساوي في الأرض لا تقتضي حرمة إجارة البعض من الدار بالمساوي ولا
كراهتها.
السادس من أحكام الأجرة: صحة تنقيصها بالشرط، قالوا: لو استأجره ليحمل
متاعا إلى مكان معين في وقت معين فإن قصر عنه نقص من الأجرة شيئا معينا
صح، وإن شرط سقوط الأجرة على تقدير عدم الايصال في الوقت المعين لم يصح

(1) الوسائل: ج 13، باب 22، من أبواب أحكام الإجارة، ح 3، ص 263.
(2) الوسائل: ج 13، باب 22، من أبواب أحكام الإجارة، ح 6، ص 264.
65

وثبتت أجرة المثل، ولتوضيح الفرق بين الصورتين لا بد من رسم أمور.
(منها) في تحقيق أصل الإجارة على عمل معين في وقت معين، فنقول: أخذ
الزمان المعين تارة بنحو الاشتراط بمعنى الالتزام في ضمن الإجارة مع كون المستأجر
عليه مجرد حمل المتاع إلى المكان المعين وأخرى بنحو تقييد العمل المستأجر عليه
فيكون العمل الخاص من حيث المكان والزمان مملوكا بإزاء الأجرة المعينة في عقد
الإجارة فإن كان الإجارة على نفس العمل وكان الايصال في الزمان المعين شرطا
فسواء تعذر عليه الشرط أم تخلف عن الشرط لم يكن للمستأجر إلا الخيار، فإن
أمضاه ولم يفسخ كان عليه تمام الأجرة بمقتضى مقابلتها لنفس العمل وبقاء
الإجارة على حالها، وإن فسخ العقد رجعت الأجرة بتمامها إلى المستأجر ورجع
العمل الخاص المأتي به الذي هو بمنزلة تلف أحد العوضين بماليته إلى الأجير كما هو
قضية الفسخ ورجوع كل من العوضين إما بنفسه أو بماليته إلى صاحبه الأول.
وإن كانت الإجارة على العمل الخاص زمانا ومكانا فله أقسام ثلاثة:
(أحدها) ما إذا كان العمل في ذلك اليوم متعذرا عليه ذاتا وامتناع صدوره منه
عادة (ثانيها) ما إذا تعذر عليه عرضا مع إمكان صدوره منه لكونه موسعا من حيث
مبدأه (ثالثها) ما إذا سامح وقصر حتى فات وقت إيصاله.
أم الأول فالإجارة فيه باطلة إذ ليس له هذا العمل الخاص فلا يعقل تمليكه
وتملكه، وسيأتي حكم ما أتى به من العمل في غير ذلك الوقت.
وأما الثاني فالإجارة فيه صحيحة وتعذر إيجاد العمل الخاص لعارض لا يوجب
بطلان الإجارة ولا انفساخها من حين عروض العارض بل للمستأجر خيار تعذر
التسليم، ولا يكون من التلف قبل القبض إذ الكلي لا تلف له بل حاله حال الكلي
المتعذر في باب السلف من حيث اقتضاء الخيار، وعليه فللمستأجر إبقاء الإجارة
وقبول العمل المأتي به وفاء عماله على الأجير باسقاط الخصوصية كالوفاء بغير
الجنس في الموارد الأخر وله الفسخ، فإذا فسخ رجعت الأجرة إلى المستأجر ولا ترجع
ماليه العمل الخاص إلى الأجير فإنه لم يوصل العمل الخاص إلى المستأجر حتى يرجع
66

العمل إليه بماليته حيث لا يمكن رجوعه بعينه بل حاله حال الفسخ قبل العمل رأسا
وحال الفسخ في البيع قبل تسليم العين بل أثر الفسخ مجرد ارتفاع إضافة الملكية عن
العين أو العمل، وأما العمل المأتي به في غير وقته فحيث إنه أتى به الأجير في مقام
الوفاء بالإجارة وإن تعذر صيرورته وفاء بالآخرة ولم يقصد المجانية حتى يكون هاتكا
لحرمة عمله فلا محالة يستحق أجره مثل عمله المحترم، فمجرد عدم كونه وفاء يقتضي
عدم استحقاق المسمى لا سقوط عمله عن الاحترام، ومنه تعرف حكم العمل في
القسم الأول، وستأتي إن شاء الله تتمة الكلام فيه عند التعرض لأجرة المثل في
الإجارة الفاسدة.
وأما القسم الثالث فحيث إن المفروض صحة الإجارة وعدم الموجب
لانفساخها لما عرفت من أن الكلي لا تلف له بل قد بينا في محله أن إتلاف المبيع
الشخصي أيضا لا يندرج في التلف الموجب للانفساخ فالأجير يستحق تمام الأجرة
بالعقد والمستأجر يملك العمل الخاص الذي أتلفه عليه الأجير فيضمن الأجير مالية
العمل الخاص للمستأجر وأما العمل المأتي به في غير وقته فحيث إنه أتى به عامدا في
غير وقته والمفروض أنه ضد المستأجر عليه فقد هتك حرمة عمله فلا موجب لأجرة
مثله. وهل للمستأجر خيار تعذر التسليم وإن كان بتقصير من الأجير فيسترجع
الأجرة بالفسخ ولا يضمن شيئا لعدم وصول المستأجر عليه وعدم احترام ما وصل
إليه أولا كما في اتلاف المبيع الشخصي حيث لا يوجب إلا الضمان لا خيار تعذر
التسليم، فإن الخيار لجبر ضرر الصبر إلى أن يتيسر فما يمتنع حصوله لا يجبره الخيار،
ومنه تعرف الاشكال في القسم الثاني أيضا، لأنه لا فرق بين التقصير وعدمه مع
امتناع حصوله، ولا يقاس بتعذر الكلي في باب السلف لامكان الحصول فيما بعد
دون ما نحن فيه.
وبالجملة الضرر المتوهم هنا إما ضرر فوات الغرض المعاملي المتعلق بالعمل
الخاص وإما ضرر ذهاب الأجرة المبذولة بإزاء العمل الخاص الذي لم يصل إليه
وإما ضرر ذهاب الأجرة المبذولة بإزاء العمل الخاص الذي لم يصل إليه
وإما ضرر الصبر إلى أن يرتفع التعذر. أما الأول فهو لا ينجبر بالخيار، لأن الفسخ لا
67

يوجب وصوله إلى غرضه المعاملي، وأما الثاني فالأجرة كانت بإزاء العمل الخاص
ولم يتخلف حتى تذهب الأجرة هدرا لأنه ملكه بالعقد والآن باق على ملكه وله
استيفاؤه بماليته. وأما الثالث فقد عرفت أنه ممتنع الحصول فلا مجال للصبر حتى
يتضرر، فالأقوى، عدم الخيار في القسمين فتدبر جيدا.
ومما ذكرنا يتبين أمران: (أحدهما) إن صحة الإجارة تقتضي استحقاق العمل
للمستأجر والأجرة للأجير بمعنى أن الأول يملك العمل والثاني يملك الأجرة من دون
توقف لحصول الملك على شئ، واستحقاق الأجرة بهذا المعنى غير استحقاق تسليم
الأجرة في قبال تسليم العمل، فتخيل أنه مع عدم تسليم العمل الخاص تبطل
الإجارة كما في غير واحد من الكلمات خلط بين الاستحقاقين، وما عن بعض
تحقيقات الشهيد " رحمه الله " من أن مقتضى الإجارة على عمل خاص عدم
استحقاق الأجرة مع عدمه (1)، فشرط عدمه مؤكد لمقتضى العقد، فإنه يقتضي المنع
من نقيضه، فالعقد لا يبطل بسبب الشرط بتوهم بطلانه بل يبطل من حيث
الاخلال بالمشروط لا من حيث فساد الشرط وفساد العقد بفساده مدفوع بما عرفت
من أن عدم تسليم العمل الخاص لا يوجب البطلان.
(ثانيهما) إن قضية الإجارة المتعلقة بعمل خاص بأجرة خاصة وإن كانت عدم
استحقاق المسمى بعدم العمل رأسا أو بوجود ضده، نظرا إلى أن لازم وقوع المسمى
بإزاء عمل خاص عدم وقوعه بإزاء نقيضه أو ضده عقلا إلا أنه ينفي الأجرة المعينة
لا أجرة المثل لقاعدة الاحترام، فإنه أجنبي عن العقد حتى بالالتزام، فما عن الشهيد
" قدس سره " في كلامه المتقدم من أن العقد يمنع عن نقيضه (2)، فإن مقتضاه عدم
استحقاق الأجرة مع عدم العمل المستأجر عليه مطلقا، وإن شرط عدم الأجرة مؤكد
له لا مناف له، وأنه لا يستحق بالعمل، في غير وقته شيئا حتى أجرة المثل مدفوع بما

(1) راجع الروضة البهية: ج 4، ص 335 و 336.
(2) الروضة البهية: ج 4، ص 335.
68

عرفت من أن استحقاق أجرة المثل للاحترام ليس عدمه من مقتضيات العقد حتى
بالالتزام، فليس شرط عدم الأجرة مؤكدا بل المؤكد ما هو شرط لازمه وهو عدم الأجرة
المسماة فتدبر.
وينبغي التنبيه على أمر وهو: أن ما ذكرنا من أخذ الزمان الخاص تارة من
خصوصيات العمل المستأجر عليه وآخر بنحو الالتزام في ضمن الإجارة لا فرق
فيه بين تعلق الإجارة بعمل كلي ذمي أو بمنفعة عين شخصية، بتوهم أن القيدية
مختصة بالكلي الذمي، فإنه قابل لأن يصير حصة خاصة التقييد دون منفعة العين
الشخصية، وأن الشرطية مختصة بالمنفعة القائمة بعين شخصية، فلا يردان على مورد
واحد بل لكل منهما مورد خاص، فإن هذا التوهم بلا موجب، فإن الكلي الذمي
وإن كان قابلا لصيرورته حصة بتقييده إلا أنه لا يمنع عن إيقاع الإجارة على عمل
كلي ثم الالتزام بخصوصية في مقام إيجاد العمل ولا موجب لانقلاب الاشتراط إلى
القيدية والعنوانية.
وأما منفعة العين الشخصية كركوب هذه الدابة أو الحمل في هذه السفينة وإن
كانت مضافة إلى عين شخصية فليست المنفعة كليا ذميا إلا أنها كالكلي في المعين
قابلة لأن تتطور بأطوار مختلفة من حيث السرعة والبطئ أو غيرهما، فالسير على هذه
الدابة على النحو المتعارف يوجب الوصول إلى المكان المعين في يومين وعلى نحو
السرعة والاتصال في السير يوجب الوصول في يوم واحد، فله استيجار الدابة بهذه
الكيفية كما يمكن أخذ هذه الخصوصية بنحو الاشتراط في ضمن الإجارة.
و (منها) إن عدم الأجرة تماما أو رأسا على تقدير عدم الايصال في اليوم المعين
يمكن أن يقع على أنحاء:
أحدها: أن يقع بنحو الاشتراط مع وحدة الإجارة في قبال تعدد الإجارة تخييرا
أو ترتيبا، والاشتراط المزبور على نحوين: (أحدهما) شرط سقوط الأجرة كلا أو
بعضا على تقدير عدم الايصال، وما يقال في مقام الاشكال عليه وجوه:
الأول: إنه في شرط سقوط الأجرة كلا مناف لمقتضى العقد الإجاري المتقوم
69

حقيقته بالأجرة، ولا فرق بين أن تكون الإجارة بلا أجرة أو الإجارة بشرط عدم
الأجرة، وهذا الوجه ذكره في الجواهر (1)، يندفع بأن شرط السقوط بعنوانه مؤكد
للثبوت لا مناف له، فإن سقوط الأجرة كلا أو بعضا إذا كان صحيحا لعدم المانع
فشرط سقوطه بنحو النتيجة لا مانع منه أيضا.
الثاني: إنه كما أن الاسقاط في ضمن العقد لا يعقل، لأنه فرع الثبوت فهو من
اسقاط ما لم يثبت كذلك شرط سقوطه في ضمن العقد، ولذا قالوا بأن شرط سقوط
الخيار مرجعه إلى شرط عدمه بايجاد المانع عن ثبوته بالعقد، والاشتراط بهذا النحو
سيجئ الكلام فيه إن شاء الله تعالى، ويندفع بأن شرط السقوط منجزا غير معقول،
وأما اشتراط سقوطه بعد ثبوته فليس فيه محذور عقلا، وإنما لا نقول به في الاسقاط
في ضمن العقد إذ لا دليل على نفوذ إنشاء السقوط في ظرف الثبوت، فإن دليل
الاسقاط هي القاعدة المتفق عليها وهي أن لكل ذي حق اسقاط حقه، وظاهر
كونه ذا حق عند الاسقاط وظاهر الاسقاط هو الفعلي دون التعليقي، بخلاف شرط
السقوط فإن مشمول لعموم " المؤمنون عند شروطهم " (2) لأن الالتزام فعلي وإن
كان الملتزم به أمرا تقديريا.
الثالث: إن شرط السقوط بعنوانه كلية تعليقي لتفرعه على الثبوت غير الفعلي إلا
بعد تمامية العقد وأما فيما نحن فيه فالأمر أظهر، لأن المعلق عليه هو عدم الايصال
في اليوم المعين، ولا تعليق في العقود والايقاعات ومنها الالتزام في ضمن العقد كما
ادعى الاتفاق عليه. والفرق بين هذين الوجهين أن مبنى الأول على امتناعه عقلا
ومبنى الثاني على بطلانه شرعا، ويندفع بأن الاتفاق على بطلان التعليق في
خصوص الشرط غير ثابت كما يعرف من نظائره كما في شرط الخيار برد مثل الثمن.
ومن جميع ما ذكرنا تبين أن شرط سقوط الأجرة كلا أو بعضا لا مانع منه،
وعليه فإن كان الايصال في اليوم المعين مأخوذا بنحو الاشتراط فالعمل هو مورد

(1) جواهر الكلام: ج 27، ص 233.
(2) عوالي اللئالي: ج 1، ص 293، ح 173.
70

الإجارة مطلقا فمع عدم الايصال في اليوم المعين يستحق الأجرة وتسقط بالشرط،
ولا موضوع لأجرة المثل، لوقوع العمل وفاء بالإجارة الصحيحة، وإن كان مأخوذا
بنو القيدية لمورد الإجارة فالعمل في غير ذلك اليوم غير مملوك بالإجارة وليس له
أجرة المسمى حتى تكون ساقطة بالشرط، وحيث إنه عمل محترم لم يقدم العامل على
اسقاط احترامه بشرط سقوط أجرة مثله فله أجرة المثل كما قدمنا القول فيه إجمالا.
نعم لو اشترط مجانية العمل على تقدير عدم الايصال كان منه اسقاطا لمطلق الأجرة
إلا أنه خارج عن مورد الكلام.
(ثانيهما) شرط عدم استحقاق الأجرة، فإن كان شرط عدم استحقاق الأجرة
الخاصة رأسا فهو باطل، لأنه إما من باب شرط عدم استحقاق الأجرة عل تقدير
عدم الايصال مع كون الإجارة على أي تقدير، فمرجعه إلى الإجارة بشرط عدم
الأجرة فهو شرط مناف لحقيقة الإجارة ويستحيل تحققها بلا أجرة بل لا يمكن
القصد الجدي إلى الإجارة مع الالتفات إلى حقيقة الإجارة بل هو شرط مناف
للإجارة شخصا كما هو كذلك نوعا، لأن المفروض جعل الأجرة بإزاء العمل في
شخص هذه الإجارة على أي تقدير. وإما من باب الإجارة التعليقية إذا كان المراد
جعل الأجرة بإزاء العمل على تقدير الايصال، والتعليق في العقود مفسد اتفاقا،
فالمانع على الأول عقلي وعلى الثاني شرعي، بل إذا كان الايصال في اليوم المعين
قيدا مقوما لمورد الإجارة فالتعليق أيضا محال، لأن المفروض توقف ملك العمل
الخاص على وجود الخصوصية في الخارج ولا يعقل تأخر ملك العمل الخاص عن
العمل الخاص.
هذا إذا تعلق الشرط بعدم استحقاق الأجرة رأسا، وإن كان شرط عدم
استحقاق بعض الأجرة المفروض في شخص هذه الإجارة فهو بالنظر البدوي وإن لم
يوجب كون الإجارة بلا أجرة ليكون الشرط منافيا لمقتضى عقد الإجارة نوعا إلا أنه مناف لمقتضى شخص هذه الإجارة، لفرض كون الأجرة الخاصة مجعولة بإزاء
العمل، وتوهم أن شرط عدم استحقاق البعض مرجعه إلى إيجاد المانع عن تأثير
71

عقد الإجارة في ملك بعض الأجرة على تقدير عدم الايصال نظير شرط عدم الخيار
في ضمن العقد المقتضي له مدفوع بأن إيجاد المانع هناك لا يوجب خللا في البيع
المقتضي للخيار بخلاف ما نحن فيه، فإن الإضافات تتشخص بتشخص أطرافها،
فمع تغير أحد الطرفين يستحيل بقاء شخص تلك الإضافة، فلا محالة يندرج فيما
سيأتي إن شاء الله تعالى من انعقاد إجارة أخرى بأجرة ناقصة، فإذا كانت الأجرة
التامة بإزاء نفس العمل كان من تغير أحد طرفي الإجارة وإن كان بإزاء العمل
الخاص من حيث الايصال كان من تغير طرفيها، فبقاء شخص تلك الإجارة مع
شرط عدم استحقاق بعض الأجرة محال، وحينئذ فمع حفظ وحدة الإجارة تكون
الإجارة باطلة عل جميع تقادير عدم الاستحقاق، وتثبت أجرة المثل سواء أتى
بالعمل في اليوم المعين أم في غيره، هذا في ما إذا كان عدم الأجرة بعنوان الشرط.
ثانيها: ما إذا كان بفرض إجارة أخرى إما تخييرا أو ترتيبا، أما الإجارة بنحو
التخيير فسيجئ إن شاء الله تعالى أنها على المشهور باطله وعندنا مستحيلة، وأما
الإجارة بنحو الترتيب بأن تكون الإجارة الثانية الواقعة بعنوان الاشتراط مرتبة على
عدم الوفاء بالإجارة الأولى أو عدم الوفاء بالشرط بعد الايصال في اليوم الخاص.
فنقول: إن الايصال المأخوذ في الإجارة الأولى إن كان بنحو الاشتراط فذات
العمل بإزاء الأجرة والأجير بعد تمليك العمل على أي تقدير لا يملك العمل حتى
يملكه للمستأجر على تقدير عدم الايصال فلا الأجير مالك للعمل مرتين ولا المستأجر
بسبب الإجارتين، وليس تقدير عدم الايصال تقدير بطلان الإجارة الأولى، لأن
عدم الوفاء بالإجارة لا يبطلها فضلا عن عدم الوفاء بالشرط كما مر، وإن كان بنحو
المقومية والقيدية لمورد الإجارة الأولى فالعمل في اليوم المعين والعمل في غيره
حصتان من طبيعي العمل إلا أنهما من حيث اضافتهما إلى المتاع المعين إلى المكان
المعين لا يجتمعان في الوجود، لاستحالة تحقق حمل المتاع إلى كربلاء في يوم الجمعة
وحمله إلى كربلاء في يوم السبت لكنه إذا كان الثاني على تقدير عدم الحمل في اليوم
المعين فهو مجامع لعدمه، والتضاد فرع الاجتماع من حيث الوجود، والملكيتان
72

متضادتان بتبع تضاد المملوكين، فإذا كان العملان غير متضادين لمكان الترتب فلا
مانع من تمليك كل منهما، لعدم رجوعه إلى ملك المتضادين وإمكان وجود كل
منهما في ذاته مصحح للإجارة، وصحة الإجارة لا تدور مدار فعلية الوفاء بهما، وعليه
فالمستأجر يملك العمل الخاص بإزاء أجرة تامة ويملك ذات العمل في يوم آخر بأجرة
ناقصة، إلا أن المشهور لا يلتزمون بذلك خصوصا إذا أتى الأجير بالعمل الخاص.
هذا إذا كان ملك نفس العمل نظير الواجب المعلق ثابتا من الأول، فإن مقتضاه
بقاء العمل في ذمته غاية الأمر إنه بعد إتيان العمل في اليوم الخاص لا يبقى مورد
للوفاء بالإجارة الثانية فيملك مالية العمل بإزاء الأجرة الناقصة.
نعم إذا كان بنحو الواجب المشروط فلا ملك من الأول بل بعد عدم الوفاء
بالإجارة الأولى، فمع الوفاء لا إجارة أخرى إلا أنه مع عدم الوفاء يملك العمل على
حد ملك العمل الخاص ولا يلتزمون به. هذا إذا كانت الإجارة الثانية مترتبة على
عدم الوفاء بالإجارة الأولى أو بشرطها، وأما إذا كانت مترتبة على انفساخها بعدم
الايصال بأن يكون الانفساخ بنحو شرط النتيجة معلقا على عدم الايصال نظير شرط
انفساخ البيع معلقا على رد مثل الثمن، فعليه تندفع جملة من الاشكالات المتقدمة
حيث لا مانع من تمليك ذات العمل بعد زوال التمليك الأول، ولا يلزم تمليك
المتضادين حتى على توهمه فيما تقدم، لعدم اجتماع الملكين لا حدوثا ولا بقاء، ولا
يلزم أداء مالية العمل مع الوفاء بالإجارة الخاصة الأولى.
إلا أنه إنما يجدي إذا كان الانفساخ المشروط من الأصل لا من الحين حتى
يكون العمل ملكا للمستأجر بالإجارة الثانية من الأول لئلا يلزم أداء أجرة مقدار
من العمل مع عدم الايصال ولو بعنوان أجرة المثل، حيث لا يعقل ملك العمل
المتقدم بخلاف ما إذا كان الانفساخ من الأصل فتؤثر الإجارة الثانية في ملك
العمل من الأول، فلا يلزم تأخر الملك عن العمل ولا أجرة أخرى غير الإجارة
الثانية، لكن الانفساخ من الأصل وإن كان بسبب الشرط إلا أنه لا بد من تعليقه
على الأمر المتأخر وهو ترك الايصال في اليوم المعين فيبتني على القول بصحة الشرط
73

المتأخر، ودونها خرط القتاد، ومما ذكرنا تبين أن الإجارة الثانية ولو بنحو الترتب
مطلقا لا تخلو من محذور أو محاذير.
ثالثها: ما إذا كان باب الإجارة والشرط باب الجعالة على العمل الخاص وعلى
ذات العمل أو الإجارة على العمل الخاص والجعالة على ذات العمل، والأول لا
محذور فيه أصلا، حيث لا ملك ولا استحقاق من الأول في باب الجعالة بل
يستحق الجعل بالعمل، فأما أن يأتي بالخاص فيستحق الجعل الخاص أو يأتي بذات
العمل فيستحق ما دون ذلك الجعل، والثاني لا يخلو من محذور، فإن مقتضى صحة
الإجارة ملك العمل الخاص فمع عدم إيجاد العمل الخاص وإيجاد ذات العمل
يستحق الأجرة التامة والجعل الناقص وتعود مالية العمل الخاص إلى المستأجر، ولا
يلتزمون به.
و (منها) في بيان ما يتعلق بخبر الحلبي المفصل بين نقص الأجرة وعدمها رأسا.
فنقول: عن محمد الحلبي، " قال: كنت قاعدا عند قاض من القضاة وعنده أبو جعفر
عليه السلام جالس فأتاه رجلان فقال أحدهما: إني تكاريت إبل هذا الرجل
ليحمل لي متاعا إلى بعض المعادن واشترطت عليه أن يدخلني المعدن يوم كذا وكذا
لأنها سوق أتخوف أن تفوتني فإن احتبست عن ذلك حططت من الكراء لكل يوم
احتبست كذا وكذا وأنه حبسني عن ذلك الوقت كذا وكذا يوما؟ فقال القاضي:
هذا شرط فاسد وفه كراه، فلما قام الرجل أقبل إلي أبو جعفر عليه السلام فقال: شرط
هذا جائز ما لم يحط بجميع كراه " (1).
ولا يخفى عليك أن ظاهره أن مورد الإجارة ذات العمل وأن الأجرة بإزاء ذات
العمل وأن الايصال في اليوم المعين بلواحقه بعنوان الاشتراط في ضمن الإجارة بل
نقص الأجرة أيضا بعنوان الاشتراط في ضمن الشرط، فإن نقص الأجرة ليس من
شؤون الايصال حتى يكون شرط إيصال خاص، فلا بد من أن يكون نقص الأجرة

(1) الوسائل: ج 13، من أبواب أحكام الإجارة، ح 2، ص 253.
74

باشتراط آخر في ضمن شرط الايصال، والمراد من فساد الشرط كما قاله القاضي
وجوازه كما أفاده الإمام عليه السلام هو شرط الايصال بما تضمنه وإلا فشرط
الايصال بما هو لا موجب لبطلانه، والظاهر من قوله حططت من الكراء هو الحط
عن استحقاق لمكان اشتراط سقوطه أو اشتراط إسقاطه، فإن إبراء ذمته عن بعض
الأجرة أمره بيد الأجير فله أن يجعله بالشرط للمستأجر، ويحتمل أيضا أن يكون
بعنوان استحقاق تغريمه بما جعله من التفاوت بين الوصول في اليوم المعين وفي يوم
آخر وهو المراد من شرط الأرش.
وعلى أي تقدير لا ينطبق الخبر على الإجارة المخيرة أو المترتبة أو الجعالة بل ظاهر
في الإجارة وشرط النقص في ضمن شرط الايصال، وقد عرفت أن شرط السقوط أو
الاسقاط أو التغريم لا فرق فيه بين تعلقه ببعض الأجرة أو بكلها مع أن ظاهر الخبر
صحة الأول وبطلان الثاني، فلا بد من حمل ذيله على التعبد.
وأما ما نسب إلى شيخنا العلامة الأنصاري " قدس سره " من رجوع الشرط إلى
شرط الأرش، والأرش المستوعب غير معقول، فلا يصح شرط عدم الأجرة رأسا
لرجوعه إلى شرط الأرش المستوعب غير المعقول (1)، ففيه أنه إن كان بعنوان الأرش
وما به التفاوت فهو كما أفاد، إلا أنه ليس بهذا العنوان بل بعنوان التغريم، وأي
مانع من بلوغ التدارك المجعول لكل يوم بمقدار بحيث لو احتبس خمسة أيام كان
التدارك المجعول مساويا للأجرة المقررة في الإجارة.
نعم غاية ما يمكن أن يقال إن الذي أقدم عليه الأجير بمقتضى شرط المستأجر
هو الحط من الكراء لا حط الكراء فلا يجوز حط الكراء، حيث إنه لم يكن موردا
للاشتراط لا أن اشتراطه غير جائز، وتوهم أنه خلاف الظاهر من قوله عليه السلام
شرط هذا جائز ما لم يحط بجميع كراه، حيث إن المراد إحاطة الشرط بجميع الكراء
مدفوع بأن الشرط لم يتعلق بحط الكراء بل تعلق بحط مقدار من الكراء لكل يوم

(1) المكاسب: ص 272.
75

وحيث إنه بعنوان الحط من الكراء وتنقيص الأجرة كما هو المتعارف في مرحلة
ملاحظة التفاوت بين الأيام فلا يؤثر في حط الكراء جميعا بمقتضى مرور الأيام
المجعول لكل منها مقدار من التفاوت، فلا تعرض في الرواية للتفصيل بين شرط
نقص الأجرة وشرط عدم الأجرة رأسا، والله أعلم.
السابع: من أحكام الأجرة على ما في " الشرايع ": تعيينها، وذكر في هذا
الموضوع مسائل ثلاث: (الأولى) ما إذا قال آجرتك الدار كل شهر بكذا (الثانية)
ما إذا قال إن خطته فارسيا فلك درهم وإن خطته روميا فلك درهمان (الثالثة)
ما إذا قال إن عملت هذا العمل في هذا اليوم فلك درهما وإن عملته في الغد فلك
درهم (1). وتحقيق الحال في هذه المسائل يبتني على بيان أمور:
(منها) إن الجهل هو عدم العلم بنحو العدم المقابل للملكة لا بنحو السلب
المقابل للايجاب، فما لم يكن واقع لا معنى للعلم به تارة وللجهل به أخرى وعدم
العلم بعدم المعلوم لا يكون من الجهل المقابل للعلم، فالاستدلال لبطلان الإجارة
في هذه المسائل بالجهل من حيث الأجرة أو من حيث المنفعة أيضا بلا وجه كما
سيجئ إن شاء الله تعالى.
و (منها) إن الابهام له اطلاقات (أحدها) ما هو المعروف في باب اعتبارات
الماهية، فإن النظر إلى الماهية إن كان مقصور بالقصر الذاتي على الذات وذاتياتها
وعدم النظر أصلا إلى ما هو خارج عن مقام الذات كانت الماهية في هذه المرحلة
مبهمة يعبر عنها بالماهية من حيث هي، ولا تستحق في هذه المرحلة إلا حمل ذاتها
وذاتياتها عليها وهي مرحلة الحد.
(ثانيها) الماهية الملحوظة بالقياس إلى الخارج عن مقام ذاتها كالكتابة
بالإضافة إلى الإنسان، فإن الإنسان إذا لو حظ مقيسا إلى الكتابة ولو حظ لا مقترنا
بوجودها ولا بعدمها كانت الماهية غير متعينة بتعين الكتابة لا وجودا ولا عدما وهي

(1) شرايع الإسلام: كتاب الإجارة في ديل الشرط الثاني.
76

الماهية المعبر عنها باللا بشرط القسمي في قبال المتعين بتعين الكتابة وجودا وهو المعبر
عنه بالماهية بشرط شي ء والمتعين بها عدما المعبر عنه بالماهية بشرط لا، ومقسم هذه
الاعتبارات الثلاثة هي الماهية اللا بشرط المقسمي، ولا يكاد يتحقق إلا بأحد
التعينات الاعتبارية الثلاثة، فاعتبار الماهية لا بشرط الكتابة وإن كان نحوا من
التعين للماهية إلا أنها من حيث نفس الكتابة لا تعين لها فلذا يصح اطلاق الابهام
عليها من حيث عدم التعين فتدبر، وعليه فملاحظة الماهية مقيسة إلى الخارج عن
مقام ذاتها وعدم تعينها بأحد الاعتبارات الثلاثة صرف مفهوم لا واقعية له.
(ثالثها) الماهية المرددة كأحد الصاعين من الصبرة مثلا، فإن كلا من
الصاعين وإن كان متعينا بجميع أنحاء التعين الماهوي والوجودي إلا أنه بحسب
فرض الترديد مبهم من حيث خصوص هذا التعين وخصوص ذاك التعين، وهذا
المبهم أيضا لا واقعية له، إذ بعد فرض تعين كل منهما بجميع أنحاء التعين ماهية
ووجودا لا تعين آخر حتى يكون مبهما من حيث ذاك التعين ليكون أمرا ثالثا في
قبال الفردين المتعينين بأنحاء التعين، فالمردد صرف مفهوم لا مطابق له حتى تتعلق
به الملكية أو غيرها من الأمور الاعتبارية فضلا عن الصفات الحقيقية، فإن الأمور
التعلقية تشخصها بمتعلقها، فما لا ثبوت له يستحيل أن يكون مشخصا ومقوما لصفة
جزئية اعتبارية كانت أو حقيقية كما حققناه في ملحه.
و (منها) كما أن المنفعة في ذاتها حيثية وجودية للعين موجودة بوجودها، وحيث
إنها تدريجية الوجود فهي محدودة بالزمان، فالمنفعة غير المتعينة من حيث الزمان بوجه
مفهوم لا مطابق له كذلك الأعيان المتكممة بالمقادير من حيث المن والوزنة وأشباه
ذلك، فكما لا واقعية للمنفعة في قولهم: " آجرتك الدار كل شهر بكذا " كذلك لا
واقعية للعين في قولهم: " بعتك كل من من هذه الصبرة بكذا "، فتوهم أنه من
خصوصيات المنفعة وأن المنفعة غير موجودة وإنما تنزل منزلة الموجود بملاحظة تقديرها
وتحديدها بمدة خاصة فاسد كما عرفت.
77

إذا عرفت ما رسمناه من الأمور فاعلم (أما المسألة الأولى) فتوضيح الحال فيها
أن الوجوه المتصورة في تمليك منفعة الدار كثيرة:
(منها) أن يكون المراد من قولهم آجرتك الدار كل شهر بدرهم تمليك المقدار
الذي يختاره المستأجر خارجا، فإنه لا محالة متعين مع فرض الاستيفاء، فيكون
محذوره جهالة المنفعة والأجرة حال العقد، وهذا أحسن وجه لمن يختار الصحة
ويوافق تعليل القائل بالبطلان بلزوم الجهالة
و (منها) أن يكون المراد تمليك المنفعة الأبدية أي الماهية بشرط شئ بنحو
الاستغراق، فيكون قوله كل شهر بدرهم ميزانا للأجرة وهذا أيضا محذوره الجهالة
حال العقد إلا أنه غير مفروض المسألة، فإن فرض صحته فرض ملكية المنفعة
الأبدية ولا يقولون بخروج المنفعة عن ملكه أبدا ولا يكون المستأجر ملزوما بذلك.
و (منها) أن يكون المراد تمليك المنفعة الملحوظة لا بشرط من حيث المدة طولا
وقصرا، ومقتضاه استحقاق طبيعي المنفعة المقابلة لتطبيقها على شهر أو أكثر،
ولازمه وحدة الأجرة لا كل شهر بدرهم كما هو مفروض المسألة.
و (منها) أن يكون المراد تمليك المنفعة في الشهر الأول بدرهم وما زاد بحسابه،
وهذا يصح في الشهر الأول دون بقية الأشهر إلا أنه أيضا خلاف مفروض هذه
العبارة. وأما ملاحظة المنفعة من دون التعين اللا بشرطي ولا التعين بشرط شئ
عموما أو خصوصا ولو بملاحظة ما يختاره المستأجر فلا يجدي شيئا، لما عرفت من أن
الماهية غير المتعينة بأحد التعينات لا واقعية لها فيستحيل أن تكون مقومة لصفة
الملكية وهذا هو الوجه في عدم صحة مثل هذه الإجارة لا لزوم جهالة الأجرة
والمنفعة، لما تقدم من أن العلم والجهل في ما كان له واقع محفوظ، فما لا واقعية له
لفرض عدم أخذه متعينا بأحد التعينات اللازمة في واقعية المفهوم يستحيل أن يقع
موقع أية صفة كانت حقيقية أو اعتبارية، ومنه يتبين أيضا أنه لا موقع للتمسك
بالاطلاقات والعمومات في تصحيح أمثال هذه المعاملات، فإن مقام الاثبات إنما
يجدي بعد إمكان مقام الثبوت.
78

وأما ما في الشرايع من استناد البطلان إ لي الجهل بالأجرة (1) مع أن المنفعة
أيضا كذلك، فلعله لمناسبة ذكر الفرع في أحكام الأجرة فيناسبه التعليل بلزوم
الخلل في الأجرة، لا لما قيل من أن المنفعة لا مالية لها إلا بلحاظ بذل الأجرة بإزائها
وإلا فمع قطع النظر عن الأجرة وعن مالية المنفعة بلحاظها لا أثر للعلم والجهل بما لا
مالية له، وحيث إن مالية المنفعة متقومة بالأجرة فلا بد من تعليل عدم قبول المنفعة
للملكية بلزوم الخلل في ماليتها من جهة الخلل في الأجرة، ووجه بطلان هذا التخيل
أن مالية المنفعة على حد مالية الأعيان ليست بلحاظ بذل المال فعلا بإزائها في
المعاملة بل بملاحظة قابليتها للمقابلة بالمال، وهذا المعنى محفوظ مع قطع النظر عن
مقام العقد وبذل الأجرة بإزائها فعلا، ولو كانت المالية منوطة بالبذل الفعلي للزم
محذور الدور فيما كانت الأجرة أيضا عملا من الأعمال، فإن مالية كل منهما متوقفة
على مالية الآخر، وحيث عرفت بطلان الإجارة في هذه المسألة فاعلم أن تصحيح
المعاملة بعنوان الجعالة أيضا غير صحيح
أما ما في الجواهر بأن يقول المستأجر للمؤجر: إني قد جعلت لك على كل شهر
أسكنه درهما (2)، فهو خارج عن عنوان الجعل على عمل، فإن مقتضى الجعالة أن
الجعل للعمل وهو هنا الساكن المستأجر مع أن الأجرة للمؤجر.
وأما ما عن بعض الأعلام (3) بأن يجعل المستأجر الأجرة في قبال اسكان
المالك فيندفع عنه الايراد المتقدم إلا أن الجعالة هي جعل شئ على عمل له
مالية، والاسكان لا مالية له بل متعلق بماله المالية وهي سكنى الدار، وكيف كان
فلا بد في الجعالة من أن يكون هناك عمل لمن يأخذ الجعل بحيث تكون له مالية فمع انتفاء أحد الأمرين لا جعالة. هذا كله إذا كانت إجارة الدار بالعنوان المتقدم

(1) شرايع الإسلام: كتاب الإجارة في ذيل الشرط الثاني.
(2) جواهر الكلام: ج 27، ص 235.
(3) كتاب الإجارة للمحقق الرشتي: ص 107، في ذيل الشرط الثاني من شرائط الإجارة.
79

المتساوي النسبة إلى الشهر الأول وغيره لفرض عدم التعين ثبوتا كما لا أثر لما يدل
عليه إثباتا.
وأما إذا قال: آجرتك الدار في هذا الشهر بدرهم وما زاد بحسابه فهو يتصور
بالإضافة إلى ما زاد على وجوه: (أحدها) إجارة ما زاد كل شهر بدرهم، فبالنسبة إلى
ما زاد حالها حال المسألة المتقدمة من عدم الصحة لعدم المعقولية، لكن فساد
الإجارة فيما زاد لا يوجب فساد الإجارة في الشهر الأول لتعدد الإجارة على الفرض
وإن كانتا بانشاء واحد.
(ثانيها) اختصاص عنوان الإجارة بالشهر الأول واستحقاق ما زاد بالشرط،
وحيث إن الشرط متعلق بالمبهم فحاله في عدم المعقولية في تأثيره في الاستحقاق
حال الاستحقاق بالإجارة لا أنه في الحقيقة شرط مجهول ليلزم منه سراية الجهالة في
الشرط إلى العقد حتى يفسد عقد الإجارة في الشهر المعين أيضا فتدبر.
(ثالثها) أن يكون قوله وما زاد بحسابه مواعدة ومراضاة، فليس هناك ملكية
ولا استحقاق بعقد أو ايقاع حتى لا يعقل تعلقه بالمردد أو يقال بلزوم الجهالة في
العقد أو الشرط وعليه يحمل ما في صحيح أبي حمزة (1)، مع أن حمله على الشرط لا
محذور فيه، فإن فيه بعد الاستيجار إلى مكان معين قال المستأجر فإن جاوزته فلك
كذا وكذا زيادة ويسمي ذلك؟ قال لا بأس به، فإن التجاوز عن المكان المعين
أخذ متعينا بالتعين اللا بشرط القسمي، والعوض أيضا على الفرض مسمى ومعين
فلا محذور فيه أصلا. والتعليق في الشرط لا محذور فيه على المشهور.
(وأما المسألة الثانية) وهي الإجارة للخياطة المرددة بين الفارسية والرومية
فالأمر في عدم المعقولية فيها أو ضح من المسألة الأولى، فإن المفروض هناك تصور
ماهية منفعة الدار من دون تعين بأحد التعينات الثلاثة. وأما هنا فلا شئ حتى
يلاحظ غير متعين بأحد التعينات، فاطلاق الابهام عليه بمجرد الفرض، لما مر من أن

(1) الوسائل: ج 13، باب 8، من أبواب أحكام الإجارة، ح 1، ص 249.
80

كل واحد من طرفي الترديد قد أخذ متعينا بجميع أنحاء التعين الماهوي والوجودي
فلم يبق شئ حتى يلاحظ بلا تعين ماهوي أو وجودي. وحيث لا شئ هنا فلا
يعقل أن يكون فرض الترديد مصححا لتعلق أية صفة تعليقية بما لا ثبوت له فكل
هوية تعلقية حقيقية أو اعتبارية حيث إنها متقومة بطرفها فيستحيل تحققها في
الخارج أو في أفق الاعتبار مع عدم الطرف المقوم لها والمشخص لوجودها. وهذا هو
الوجه في عدم المعقولية لا أن العرض يحتاج إلى موضوع معين خارجا حتى يقال بأن
الملكية الشرعية أمر اعتباري لا متأصل كما يؤمي إليه كلام شيخنا العلامة
الأنصاري " قدس سره " في باب بيع أحد الصيعان بنحو الجزئي المردد. وكل ما
يفرض في الفقه بناء على القول به كطلاق إحدى الزوجتين وعتق أحد العبدين
والوصية بأحد الشيئين أو لأحد الشخصين فلا بد من حمله على التعلق بماله تعين
واقعا ولو بعنوان ما يختاره فيما بعد أو ما يقع عليه سهم القرعة وإلا فالمحال لا يقبل
التعبد به شرعا.
ومما ذكرنا تبين حال المسألة الثالثة وهي الإجارة على العمل المردد من حيث
الزمان، فإن المسألتين من واد واحد إمكانا وامتناعا صحة وفسادا.
نعم يمكن تصحيح المسألتين باخراجها من فرض الترديد في الإجارة بارجاعهما إلى
إجارة وشرط، فإن طبيعي الخياطة متقوم بدرز واحد وهي الخياطة الفارسية فهي
المستأجر عليها بدرهم. وزيادة درز آخر المحقق للخياطة الرومية أخذت بنحو
الاشتراط بإزاء درهم آخر. وكذلك طبيعي العمل الزماني متقوم بايجاده في طبيعي
الزمان وهو مورد الإجارة بدرهم والتعجيل فيه بايجاده في اليوم أخذ بنحو الاشتراط
بإزاء درهم آخر، وقد عرفت أن التعليق في الشرط ليس فيه محذور على المشهور. كما
يمكن تصحيحهما بارجاعهما إلى الجعالة لوجود الشرطين المتقدمين من كون الأجر
والجعل للعامل ومن كون العمل مالا. إلا أن محل النزاع من حيث الصحة والفساد
في المتون الفقهية هي الإجارة بنحو الترديد كما هو واضح للمراجع.
وفي الشرايع القول بالصحة في المسألة الثانية بلا تردد، وفي المسألة الثالثة بعد
81

التردد قال: " أظهره الجواز " (1). مع أنك قد عرفت أنهما من واد واحد إمكانا
وامتناعا صحة وفسادا. ولعل وجه الفرق في نظره " قدس سره " أن المسألة الثالثة
كمسألة البيع بثمنين حالا ومؤجلا المعروف فيها الفساد فكذا هنا، لأنه من
الإجارة بأجرتين حالا ومؤجلا. وهو وجه التردد غير الجاري في مسألة الخياطة.
ووجه استظهار الجواز أن اخراج البيع بثمنين عن الترديد والجهالة لا يكون إلا
بالبيع بالأقل وشرط الزيادة في قبال الأجل. وهو من الربا عندهم دون ما نحن فيه،
فإن اخراجه عن الجهالة والترديد بالإجارة، بدرهم موسعا وشرط الزيادة في قبال
التعجيل باتيانه في اليوم، وهو مغاير لتلك المسألة التي لا تصلح إلا بفرض الربا
والله أعلم.
الثامن: من أحكام الأجرة: استحقاق الأجرة بالعمل مطلقا سواء كان للعمل
تأثير في عين مال المستأجر أم لا، وسواء كانت تحت يد المستأجر أم لا. وتوضيح
القول فيها أن المملوك بعقد الإجارة تارة مثل منفعة الدار والدابة، وهي حيثية
وجودية قائمه بالدار والدابة، واخراجها من القوة إلى الفعل باستيفاء المستأجر.
وأخرى مثل العمل القائم بالأجير، وهو على قسمين: فتارة يكون كالحج والصلاة
والزيارة مما لا أثر له في عين للمستأجر، وأخرى كخياطة الثوب وصياغة الخاتم
وبناء الدار مما له أثر في مال المستأجر.
والكلام بعد وجوب التسليم من الطرفين في عقود المعاوضات في أن تسليم
العمل الذي له أثر في مال المستأجر هل هو بمجرد إيجاده كالعمل الذي لا أثر له؟
أو أن تسليمه بتسليم ما فيه الأثر كالثوب، والخاتم مع فرض عدم كونهما تحت يد
المستأجر، وإلا فايجاد العمل مقارن لتسليم الأثر لمكان استيلاء المستأجر عليه
باستيلائه على الثوب والخاتم؟ فالمسألة كلية ذات أقوال ثلاثة:
(أحدها) عدم توقف استحقاق مطالبة الأجرة هنا والثمن في البيع على تسليم

(1) شرايع الإسلام: ج 2، ص 181، كتاب الإجارة في ذيل الشرط الثاني.
82

العمل أو على تسليم المبيع، (ثانيها) توقفه هنا على مجرد إيجاد العمل مطلقا. (ثالثها)
ما نسب إلى الشيخ " قدس سره " وتبعه جملة من الأعلام وهو توقفه فيما له أثر ليس
تحت يد مالكه على تسليم الأثر المتوقف على تسليم ما فيه الأثر.
وتنقيح الكلام وتوضيح المرام برسم أمور في المقام: (منها) إن المراد بعدم
استحقاق الأجرة إلا بتسليم العمل عدم استحقاق المطالبة بها لا عدم استحقاقها
ملكا، لأن الأجرة كالمنفعة والعمل مملوكان بنفس عقد الإجارة، وعقد الإجارة
كعقد البيع في غير الصرف والسلف غير مشروط بالقبض والتسليم، ولا يمكن أن
يكون ملك العمل فعليا بالعقد وملك الأجرة مشروطا بتسليم العمل، فإنه مناف
لفرض المعاوضة بين العمل والأجرة كالمبيع والثمن، فإن المعوضية والعوضية
متضايفتان، والمتضايفان متكافئان في القوة والفعلية، ففعلية أحد المتضايفين دون
الآخر غير معقول للزوم الخلف، فأما لا ملك في العمل أيضا وأما تكون الأجرة
كالعمل مملوكا بالعقد أيضا.
فما عن بعض أعلام العصر " طاب ثراه " (1) من تخصيص ملك الأجرة بأن ملكية
الأجرة متزلزلة وتستقر بتسليم العمل لا محصل له، لأن نسبة العقد وتأثيره في ملك
العمل والأجرة على حد سواء، والمدرك الذي يقتضي توقف استحقاق المطالبة على
التسليم في كلا العوضين أيضا على حد سواء كما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانه، مع أنه لو كان هناك سبب لتزلزل ملكية الأجرة فهو سبب لاتصاف ملكية العمل
أيضا بذلك، إذ يستحيل زوال ملك الأجرة وبقاء ملك العمل، مع أن توقف
استحقاق المطالبة على التسليم أجنبي عن الملكية فلا يوجب اتصافها بالتزلزل، فإن
الامتناع عن تسليم العمل يوجب استحقاق المستأجر للامتناع عن أداء الأجرة
لا زوال ملك الأجرة، ولو فرض انتهاء أمر الامتناع عن التسليم إلى فسخ العقد فكلا
الملكين بهذه الملاحظة متزلزل لكونهما في معرض الزوال.

(1) العروة الوثقى: في بداية الفصل الثالث من كتاب الإجارة.
83

و (منها) إن عقد الإجارة بمدلوله المطابقي لا يقتضي إلا تمليك المنفعة والعمل
بإزاء الأجرة والكراء من دون تعرضه ولا تضمنه للتسليم والتسلم كما في عقد البيع،
فالتسليم والتسلم ليسا من مقتضيات العقد ومدرك لزوم التسليم أمران:
أحدهما: إنه من مقتضيات الملك لا من مقتضيات العقد، لقاعدة سلطنة
الناس على أموالهم، فللمالك سلطان على مطالبة ماله وليس لمن بيده المال سلطان
على الامتناع عن دفعه شرعا، إلا لم يكن لمالكه سلطان مطلق على ماله وهو خلف،
وحيث إن السلطنة على المال من لوازم الملك الحاصل بالعقد صح دعوى اقتضاء
العقد لذلك بالالتزام لا بالمطابقة، إلا أن هذا المعنى لا يترتب عليه استحقاق
الامتناع عن الدفع مع امتناع الآخر، فإن ظلم أحد لا يسوغ ظلم الآخر، كما لا
يترتب عليه سائر الثمرات التي ربما نشير إليها.
ثانيهما: إن بناء عقود المعاوضات عند العرف على التسليم المعاوضي كالتمليك
المعاوضي بمعنى أن التمليك في قبال التمليك والتسليط الخارجي في قبال التسليط
الخارجي، ولكن لا بمعنى أنه من مراتب عقد البيع والإجارة وسائر عقود
المعاوضات، بتخيل أن عقد البيع يقتضي المقابلة بين التسليط من طرف والتسليط
من طرف آخر، بالمعنى الجامع بين السلطنة الاعتبارية وهي الملكية والسلطنة
الفعلية المساوقة للتسليم، لفساد هذا التخيل، فإن القابل لأن ينشأ بالعقد ويتسبب
به إليه هي الأمور الاعتبارية دون السلطنة الخارجية والاستيلاء العيني المتحقق
بمباديه لا بالأسباب الجعلية بل بمعنى أن المعلوم من بناء العرف والعقلاء في باب
المعاوضات التزامهم في ضمن العقود المعاوضية بالتسليم المعاوضي، فسبب الملكية
المعاوضية هو العقد وسبب استحقاق التسليم بإزاء التسليم هو الالتزام الضمني، فكما
لا يملك المال إلا بإزاء ملك الآخر كذلك لا يستحق التسلم إلا بإزاء التسليم، لا
توقف استحقاقه على تسليمه ولا توقف جواز المطالبة على تسليمه، بل كما أن
تمليك أحد المالين بإزاء الآخر أوجب التبادل في الملكية في مرتبة واحدة من دون
تقدم وتأخر ولا اشتراط ملكية بملكية كذلك الالتزام بالتسليم بإزاء التسليم أوجب
84

استحقاق التسليم المعاوضي لكل منهما في مرتبة واحدة، وعلى هذا المبني يستحق
كل منهما على الآخر مثل ما يستحقه الآخر عليه، فإذا امتنعا معا عن التسليم
أجبرهما الحاكم، من حيث إن السلطان ولي الممتنع، وكذلك إذا امتنع أحدهما
دون الآخر، ولكل حق الامتناع إذا امتنع الآخر حيث لم يلتزم بالتسليم المطلق بل
بالتسليم المعاوضي، إلى غير ذلك من الثمرات التي فصلنا القول فيها في باب القبض
في تعاليقنا على كتاب الشيخ العلامة الأنصاري " قدس سره " (1).
و (منها) أن الأعمال التي لها آثار خارجية في الأعيان كالخياطة والصياغة
والقصارة وأشباهها ليس إلا إيجاد تلك الهيئات القائمة بالأعيان لا الحركات
القائمة بالأيدي والآلات، فإن الثانية مما يتولد منه تلك الايجادات، والايجادات
الخاصة أفعال توليدية من تلك الأعمال، والفعل التوليدي مغاير وجودا للمتولد
منه، كما في الاحراق المتولد من الالقاء في النار، والبرهان على المغايرة أن الايجاد
والوجود متحدان بالذات مختلفان بالاعتبار بمعنى أن تلك الحيثية التي تطرد العدم
بالذات من حيث قيامها بالفاعل بقيام صدوري إيجاد منه ومن حيث قيامها
بالماهية وجودها وإلا فليس هنا موجود ثالث بين وجود العلة ووجود المعلول، وعليه
فحيث إن وجود الحرق مباين لوجود الملاقاة فكذا إيجادهما المعبر عنهما بالاحراق
والالقاء كل منهما مغاير للآخر، ومنه تبين أن إيجاد الخياطة عين وجودها،
والأعمال التي يتولد منها إيجاد الخياطة وهو فعل الأجير مقدمة لذلك الفعل
التوليدي المستأجر عليه والواقع بإزائه الأجرة، لا أن تلك الأعمال المقدمية هي
المملوكة بالإجارة والواقع بإزائها الأجرة حتى يقال إن مورد الإجارة يؤثر في وجود
صفة في العين، فإن المؤثر هو المتولد منه فعل الخياطة وأما فعل الخياطة فهو عين إيجاد
تلك الهيئة القائمة بالثوب وهو عين وجودها والمفروض أن الخياطة هي الملكوكة بعقد
الإجارة.

(1) تعليقة المكاسب: ج 2، ص 199.
85

و (منها) إن المملوك ينقسم تارة إلى مملوك بالذات وإلى مملوك بالعرض
وأخرى إلى مملوك بالأصالة وإلى مملوك بالتبع، والمراد من المملوك بالذات ما
تقوم به الملكية حقيقة، وبلا واسطة في العروض، وفي قباله ما ينسب إليه الملك
لمكان اتحاده مع المملوك بالحقيقة بنحو من الاتحاد، فالجسم الخارجي كالثوب مثلا
مملوك بالذات وبالحقيقة، وكمه وكيفه مملوك بالعرض، وملاك الذاتية والعرضية
إمكان التفكيك وبذل المال بإزائه، والجسم يمكن أن يبذل المال بإزائه ويملك وأما
طوله وبياضه فلا، فإنه وإن كان طوله وبياضه دخيلا في ماليته إلا أن المال بالحمل
الشايع هو الثوب الأبيض لا الثوب والبياض بخلاف منفعة الدابة وعينها، فإن
منفعتها وإن كانت من حيثياتها وشؤونها القائمة بها إلا أنها قابلة لبذل المال بإزائها
كما يمكن بذل المال بإزاء عين الدابة، فالمنفعة مملوكة بالذات كنفس الدابة وبياض
الدابة مملوك بالعرض.
والمراد من الملوك بالأصالة وبالتبع أن المملوك بالذات والحقيقة ربما يلاحظ
بنفسه ويبذل المال بإزائه في عقد مثلا وربما تعرضه الملكية بتبع ما بذل المال بإزائه،
وهو يتصور في الأعيان والمنافع فالدار مملوكة بالأصالة في عقد البيع والثمن جعل بإزاء
عينها إلا أن ملكية الدار تستتبع ملكية مفتاحها مثلا، فالمفتاح مملوك حقيقة لكنه
باستتباع من المملوك بعقد البيع، وكالدابة وحملها مثلا فإنهما معا مملوكان حقيقة إلا
أن أحدهما مملوك بالأصالة والآخر بالتبع، وهكذا منافع الدار، فربما تكون مملوكة
بالأصالة كما إذا وقعت موقع الإجارة وربما تكون مملوكة بالتبع كما إذا اشترى الدار
فإن الثمن واقع بإزاء نفس الدار لا بإزاء الدار ومنافعها بل المنافع مملوكة بتبع ملك
الرقبة، وكذا الأعمال فإنها تارة تملك بالأصالة كما إذا وقعت موقع الإجارة
وأخرى تملك بالتبع كما إذا ملك العبد بالبيع فإنه يملك رقبته بالأصالة لوقوع الثمن
بإزائها ويملك أعماله بتبع ملك الرقبة على حد ملك منافع الدار والدابة بتبع ملكهما
بالشراء مثلا.
إذا عرفت ما رسمناه من الأمور فاعلم: أن ايجاد هيئة الخياطة في الثوب وهيئة
86

الخاتمية في الخاتم وهيئة البناء في الدار بمقدمات اعدادية من العامل الموجد لتلك
الهيئات هو العمل الواقع بإزائه الأجرة فهو المال بالحمل الشايع والمملوك بالحمل
الشايع، وأما الهيئة الباقية في الأعيان المزبورة المحفوظة بمحالها فليست من عمل
العامل ولا هو مال ولا هو مملوك حقيقة، وليس تسليم العمل بما هو عمل إلا إيجاده
ولا معنى لتسليم الهيئة الباقية في الأعيان مع عدم كونها مالا ومملوكا حقيقة ومع عدم
كونها طرفا لعقد الإجارة المقتضي بنفسه أو بالالتزام الضمني للتسليم المعاوضي، فما
يتوهم تارة من أن مناط مالية العمل هي الهيئة والصفة فلا بد من تسليمه بما هو
مال وأخرى من أن الهيئة مملوكة بعقد الإجارة بالتبع فلا بد من تسليمها مدفوع.
أما الأول: فلأن وجود الهيئة كما مر عين إيجادها بالذات فايجادها بما هو
إيجادها مال ومملوك، وأما بقاء الهيئة والصفة في المحل فلا هو مال ولا مملوك
بالذات وإن كان موجبا لزيادة مالية المحل وهو أجنبي عن العمل ليكون موجبا
لماليته، فإن الوجود المتحد مع الايجاد ذاتا في الأعمال التي توجد بمقدمات
اعدادية، هو المقوم للحدوث والاحداث، وأما البقاء فمستند إلى أمر آخر. مثلا كون
الجسم في مكان بحمله ونقله إليه له مقدمة اعدادية قائمة بالفاعل وأما بقاؤه بعد
حدوثه في المكان فمستند إلى نقله الطبيعي لا إلى الجاعل له فيه، فكذا سائر الهيئات
الموجودة بمقدمات اعدادية، فحدوثها الذي هو عين احداثها ذاتا مستند إلى العامل
وأما بقاؤها فليس بابقاء العامل بل بسبب آخر طبيعي، فما هو مقوم للعمل وتنسب
إليه مالية العمل عين العمل وتسليم العمل إيجاده وما هو غير مقوم له ولا متقوم به لا
هو مال ولا ملاك المالية للعمل فتدبره فإنه حقيق به.
وأما الثاني: فيما مر من أن وجود الهيئة الذي هو عين إيجادها إحداثا هو المملوك
بالأصالة بعقد الإجارة، وتسليمها بعين تسليم العمل لمكان عينية الوجود والايجاد.
وأما الهيئة الباقية فليست بمملوكة لا بالأصالة ولا بالتبع بل بالعرض، بمعنى أن
المملوك هو الثوب المخيط والخاتم بما هو خاتم لا الثوب والهيئة أو الفضة والهيئة، مع أنه لا دليل على لزوم تسليم المملوك بالتبع فإن اللازم بمقتضى عقد المعاوضة أو
87

الالتزام بالتسليم المعاوضي هو تسليم ما يقع بإزائه العوض ثمنا كان أو أجرة، فمجرد
تسليم الدار يوجب استحقاق مطالبة الثمن في البيع ولو مع عدم تسليم المفتاح مثلا،
ومجرد تسليمها يوجب استحقاق الثمن ولو مع كونها مسلوبة المنفعة في مدة.
ومما ذكرنا يظهر أن ما في الجواهر من أن الصفة إنما يملكها صاحب الثوب
تبعا للموصوف لا أنه يملكها بعقد الإجارة (1) صحيح من وجه دون آخر، لأن
المراد إن كان وجود الصفة احداثا الذي هو عين إيجادها فهو مملوك بعقد الإجارة
من حيث الايجاد لا تبعا للموصوف المملوك بسبب سابق، وإن كان وجود الصفة
بقاء فهو مملوك بالعرض لأن وصف ملكه، وقد عرفت أنه غير مملوك بعقد الإجارة
وإن كان بقاء المملوك بعقد الإجارة كما مر توضيحه
فتدبر جيدا.
وينبغي التنبيه على أمور:
(الأول) قد عرفت أن كون التسليم بإزاء التسليم للالتزام الضمني عند العرف
هنا وفي البيع على حد سواء وأن عدم استحقاق الأجرة قبل العمل ليس لدليل
خاص يقتضي تقديم العمل على تسليم الأجرة بل لأن تسليم العمل بايجاده وإيجاده
بتمامه باتمامه فيستحق الأجرة عند تمامية العمل حيث إنه زمان تسليمه بتمامه لا
لوجوب تقديم العمل على دفع الأجرة، وعليه فللعامل الامتناع عن العمل مع امتناع
المستأجر عن دفع الأجرة لا أن المستأجر له حق الامتناع قبل العمل وليس له
الامتناع بعد العمل بل لا بد من أن يكون باذلا للأجرة، غاية الأمر أنه مع بذله لها
لا بد للأجير من إيجاد العمل تحقيقا للتسليم المقارن لتسلم الأجرة. نعم إذا لم يأمن
الأجير من المستأجر باحتمال إيجاد العمل وامتناع المستأجر عند تمامية العمل مع
كونه باذلا غير ممتنع قبله فله الاستيثاق بوضع الأجرة على يد ثالث بعين الوجه الذي
اقتضى التسليم المعاوض بالالتزام الضمني فإن الالتزام لدفع احتمال ذهاب ماله
هدرا خارجا، وهذا أيضا يقتضي تحصيل إلا من من طرف المستأجر عند اقدامه على

(1) جواهر الكلام: ج 27، ص 239.
88

تسليم العمل بايجاده بتمامه.
(الثاني) لا فرق في عدم استحقاق تسلم الأجرة تسليم العمل بين عمل لا
يتوقف على بذل المال وما يتوقف عليه كالحج، فإن مدرك التسليم المعاوضي
بالنسبة إلى كليهما على حد سواء، ولو فرض عدم تمكن الأجير من إيجاد العمل إلا
بأخذ الأجرة لفرض عدم مال له وعدم تمكنه من تحصيله كانت الإجارة باطلة لأن
العمل على الفرض غير مقدور له إلا بالخلف المحال وهو استحقاق الأجرة قبل
العمل مع أنه لا يستحقها قبله. بل الأمر هنا أشكل من البيع، لأن القدرة على
التسليم وإن كانت شرطا فيهما إلا أنه مع الوثوق بالقدرة على التسليم في باب البيع
يصح البيع وإن تبين خلافه، لأن المملوك هي العين دون ما نحن فيه، فإن المملوك
هو العمل والعمل إذا لم يكن مقدورا للأجير واقعا فلا يملكه فلا يعقل أن يملكه
بالإجارة. ومنه يتبين أنه لا مجال لما في الجواهر من تسلط الأجير على الفسخ مع
امتناع المستأجر عن بذل الأجرة (1)، فإن الخيار فرع صحة العقد وقد عرفت أنه غير
صحيح، مضافا إلى أن الامتناع الموجب للخيار هو الامتناع عن حق لا مطلقا
فتدبر.
(الثالث) هل يستحق الأجير بعض الأجرة ببعض العمل المستأجر عليه إذا
كان قابلا لتقسيط الأجرة عليه كصلاة سنة مثلا، فإنه بصلاة شهر أو يوم القابلة
لتقسيط الأجرة عليها يقع موردا للبحث دون بعض الصلاة؟ ولا يخفى عليك أن
استحقاق الأجرة بعد العمل إن كان بدليل خاص في الإجارة أمكن أن يقال كما قيل إن ظاهر قولهم لا يستحق الأجرة إلا بعد العمل عدم الاستحقاق ببعض العمل
المستأجر عليه، وأما إن كان مدرك هذا الحكم اقتضاء عقد المعاوضة أو الالتزام
الضمني العقلائي فلا مجال للاستظهار المذكور.
وتحقيق المقام أنا ذكرنا في باب البيع أن وحدة المملوك مبيعا وثمنا وحدة

(1) جواهر الكلام: ج 27، ص 220.
89

عمومية طبيعية لا وحدة شخصية، لأن الإضافات تتشخص بتشخص أطرافها فكل
جزء جزء من الدار مثلا مملوك فكل جزء مبيع، إذ البيع ليس إلا ايجاد الملكية
والايجاد والوجود متحدان بالذات فيستحيل مع تعدد الوجود وحدة الايجاد بل العقد
اللبي المعنوي أيضا كذلك، فإن القرار المرتبط بقرار آخر وهو العقد لا يستقل
بالتحصل بل متقوم بمتعلقه وهو كون شئ ملكا بعوض، فمع تعدد متعلقه يستحيل
وحدة القرار حقيقة.
نعم البيع الانشائي من حيث إنه لفظ واحد له معنى واحد فهو واحد إلا أنه مما
تسبب به إلى تمليكات حقيقة، وعليه فنقول إن كان التسليط الفعلي بإزاء التسليط
الفعلي من مقتضيات نفس العقد بتعلقه بالتسليط الجامع بين الاعتباري والفعلي
فهو أيضا متعدد كتعدد التسليط الاعتباري، وإن كان باقتضاء الالتزام الضمني
فالبرهان المذكور في التمليك المعاوضي غير جار فيه، بل يتبع كيفية الالتزام،
فيمكن أن يكون الالتزام العقلائي بتسليم كل جزء بإزاء تسليم ما يقابله من الثمن
على حد المعاوضة العقدية فكأنه على طبقه توسعة لدائرة التعويض، ويمكن أن يكون
الالتزام بتسليم الكل بإزاء تسليم الكل على طبق الغرض المعاملي الباعث على بيع
الدار واشترائها بتمامها، ولذا له الخيار عند تخلف هذا الغرض للزوم تبعض الصفقة
عليه عند تبين كون بعضها مستحقا للغير، ومع عدم تعيين أحد الأمرين بأحد
الاعتبارين فالمرجع عموم تسلط الناس على أموالهم، فإنه لم يثبت مقيد للعموم إلا
أنه لا يستحق مطالبة ماله من دون تسليم ما يوازيه من العوض، فله السلطنة على
المطالبة وإن لم يثبت عنوان الاستحقاق الثابت بالالتزام حيث لم يعلم حده،
والغرض أنه بتسليم ما يوازي له السلطنة على مطالبة ما يوازيه، لا أنه يستحقه
بموجب البناء العقلائي ليقال أنه غير معلوم في الفرض.
(الرابع) إذا كانت الأجرة أيضا عملا فهل الأجير لا يستحقها إلا بعد عمل
نفسه، نظرا إلى أن حكم الأجرة بما هي أجرة استحقاق تسلمها بعد العمل، أو
أن الأجير كالمستأجر نظرا إلى أن البدأة بالعمل على الأجير كانت بلحاظ العملية وهي
90

متساوية النسبة إلى عمل الأجير وعمل المستأجر؟ وعليه فحيث لا مرجح ولا
مخصص لأحد العملين ولا معنى للتخيير بين الحقين لشخصين ولا يعقل استحقاق
البدأة لكل منهما على الآخر يسقط اعتبار حق البدأة لكل منهما على الآخر فيجب
تسليمهما معا على وجه المقارنة دون القبلية والبعدية وبعد ما عرفت فلا وجه للقرعة،
إذ لا استحقاق لواحد منهما للبدأة حتى يتعين بالقرعة. إلا أن هذا كله مبني على
اعتبار القبلية والبعدية لدليل خاص، وإن كان اللازم مجرد التسليم بإزاء التسليم
وكان تسليم العمل بايجاده بتمامه، فكل منهما يستحق على الآخر إيجاد العمل مقارنا
لايجاده
والامتناع من الايجاد المقارن يعد من الامتناع عن التسليم الذي يستحقه الآخر
بإزاء تسليمه، والزامه بالبدأة الزام بما لا يستحقه منه، وليس لهما الخيار لأن ضرر
كل منهما مستند إلى امتناع نفسه، كما لا وجه للحكم بالبطلان كما عن بعض
الأعلام " رحمه الله " (1) بتوهم أنه لا فائدة في صحة الإجارة مع تعطيلها، فإنه
كالدور يلزم من وجودها عدمها، انتهى، فإن عدم ترتب الفائدة مع فرض الصحة
التي لا تتحقق إلا بملاحظة ترتب الفائدة خلف لا أنه دور وأنه يلزم من وجوده
عدمه، مضافا إلى أن التمكن من الانتفاع الذي هو شرط صحة العقد لا يزول
بامتناع الطرف عن تسليم العين مثلا بل يزول بامتناع التسليم، المفروض قدرة كل
منهما على تسليم ما بيده، فلا مانع من بقاء العقد على صحته والتعطيل إلى أن
يتراضيا على التسليم المقارن للتسليم.
وأما طريق استيثاق كل منهما من الآخر بحيث ينحفظ به الغرض المعاملي وهو
العمل فلا يجديه كفالة البدن ولا ضمان المال بما هو مال، بل لا بد من التزام ثالث
بايجاد العمل إذا كان مورد الإجارة عملا كليا، والالتزام باستيفاء العمل من

(1) كتاب الإجارة للمحقق الرشتي: ص 116 التنبيه الثاني من التنبيهات المذكورة في ذيل
ال‍ " تفريعان ".
91

العامل إذا كان مباشريا ممن له القدرة على بعثه خارجا نحو العمل.
(الخامس) إذا كان العمل مؤجلا أو المنفعة كذلك كسكنى الدار في الشهر
القابل فهل للمستأجر تأخير الأجرة، نظرا إلى أن الأجير لا يستحق الأجرة إلا بعد
العمل حالا أو مؤجلا أولا، نظرا إلى أن عدم الاستحقاق لم يكن لدليل خاص حتى
يتوهم زيادة التأخير بالتأجيل بل للالتزام الضمني بالتسليم المعاوضي، وقد حقق في
محله أن الالتزام بالتسليم المعاوضي فيما كان لكل منهما مطالبة ماله، ومع فرض
التأجيل في طرف لا معنى للتسليم المعاوضي، وعليه فلا فرق بين البيع والإجارة
وهو الحق.
وأما ما عن بعض الأعلام " رحمه الله " تارة من أن التأجيل في قوة اسقاط حق
المطالبة فيبقي حق المطالبة للآخر سليما عن المعارض وأخرى من أن التأجيل
يقتضي نقصانا في أحد العوضين فإن المعاملة حينئذ بين الملك في الحال والملك في
المستقبل (1)، فكلاهما مخدوش.
(أما الأول) فبأن منشأ التسليم بإزاء التسليم كما مر ليس قاعدة سلطنة الناس
على أموالهم، فإن لكل من المالكين السلطنة على مطالبة ماله وإن لم يسلم ما بيده،
فإن ظلم أحد لا يسوغ الظلم من الآخر، بل المنشأ هو الالتزام الضمني بالتسليم
بإزاء التسليم، ومع كون استحقاق التسليم مؤجلا لا معنى للالتزام المزبور، للزوم
الخلف مضافا إلى أن السلطنة على مطالبة المال ليست من الحقوق حتى تكون قابلة
للاسقاط، إذ ليس لكل أحد يملك مالا ملك وحق بل ملك فقط وله مطالبة ماله
وله تركها.
(وأما الثاني) فلا كلية له، إذ المملوك في البيع فعلي ولا تعليق للملكية على
مضي الأجل كما لا تحديد للملوك، لعدم تقدر الأعيان بالزمان، فما احتمله شيخنا
الأستاذ " قدس سره " في تعليقته على الخيارات من اشتراط الملكية بمضي الأجل

(1) كتاب الإجارة للمحقق الرشتي: التنبيه الثالث.
92

تارة ومن كون المملوك، استقباليا أخرى مخدوش، ولا أظن ذهاب أحد من
الأصحاب إلى أحد الأمرين. نعم تحدد المنفعة والأعمال بالزمان معقول فيصح
كون المملوك أمرا استقباليا في باب الإجارة. إلا أن استحقاق تسلم الأمر
الاستقبالي أمر غير معقول لا أنه معقول غير صحيح لاسقاط حق المطالبة.
المبحث التاسع: مما يتعلق بالأجرة كما في الشرايع استحقاق أجرة المثل في مورد
عدم سلامة الأجرة المسماة لفساد عقد الإجارة (1) على تفصيل ستقف عليه
إن شاء الله تعالى، وحيث إن عمدة المستند قاعدة " ما يضمن بصحيحه يضمن
بفاسده " (2) مع أن المظنون قويا أنها قاعدة متصيدة من الموارد التي حكم فيها
بالضمان لوجود قواعد أخر تقتضي ذلك، ففي الحقيقة تلك القواعد هي مدرك
الضمان، فاللازم تحقيق تلك القواعد وهي قاعدة الاقدام وقاعدة الاحترام وقاعدة
الاتلاف وقاعدة اليد وقاعدة نفي الضرر، فلنتكلم في كل واحدة منها في ضمن
أمور:
أحدها: في قاعدة الاقدام، وقد حكي (3) الاستناد إليها عن شيخ الطائفة في
المبسوط وعن المحقق (4) والشهيد الثانيين (5) رحمهم الله، واعترض عليهم جميع من
تأخر عنهم بأن البايع مثلا لم يقدم إلا على التضمين الخاص وهو كون المبيع مضمونا
بالمسمى
فالمفروض فساده ومع انتفاء الخصوصية لم يبق المطلق. وأجاب عنه
شيخنا الأستاذ " قدس سره " في تعليقة البيع بما نصه: " أنهما أقدما على أصل
الضمان في ضمن الاقدام على ضمان خاص والشارع إنما لم يمض الضمان الخاص
لا أصله " (6) الخ، ومرجعه إلى أنه ليس المقام من بقاء المطلق بعد انتفاء المقيد

(1) شرايع الإسلام: كتاب الإجارة في ذيل الشرط الثاني.
(2) الروضة البهية: ج 3، ص 264 و 265.
(3) الحاكي هو المحقق الرشتي في إجارته، ص 48 ذيل مسألة العين المستأجرة بالإجارة الفاسدة.
(4) شرايع الإسلام: ج 2، ص 14.
(5) الروضة البهية: ج 3، ص 236.
(6) حاشية المكاسب: ص 31.
93

وانتفاء الطبيعي بعد انتفاء فرده، فإن الاقدام أمر وتأثيره شرعا أمر آخر، فعدم
امضاء الخاص ولا يوجب انتفاء المطلق ولا يلازم عدم امضائه.
وتوضيح المرام: أن معنى الضمان بالمسمى كون المبيع مملوكا بالمسمى،
والضمان بالبدل الواقعي كونه متداركا بعد تلفه بالبدل، فلا بد في تصور الاقدام
بحيث يعم الضمانين من تصور الجامع، فنقول: إذا لوحظ العوض بما هو مال
بضميمة الخصوصية ولو حظ طبيعي المعوض المحفوظ مع وجوده ومع تلفه وطبيعي
التعويض المجامع مع كونه عوضا في حال وجود المعوض فيكون تمليكا وعوضا في
حال تلفه فيكون تغريما وتضمينا فلا محلة يكون الاقدام على طبيعي التعويض
بالإضافة إلى طبيعي المعوض وطبيعي العوض اقداما على التضمين في ضمن
الاقدام على التمليك، فكان التعويض في المرتبة الأولى تمليكا بالعوض وفي المرتبة
الثانية وهي تقدير فساد العقد وعدم سلامة المسمى وتلف المعوض تغريما بالبدل،
فإذا فرض مثل هذا الاقدام كان الاقدام الضمني التزاما بالبدل على تقدير التلف
فيكون من شرط الضمان الذي لا شك في معقوليته ونفوذه شرعا، فعدم نفوذ العقد
بما هو تمليك لا يلازم عدم نفوذ الالتزام الشرطي، هذه غاية التقريب لما أفاده
العلامة الأستاذ " قدس سره "
وفيه (أولا) إن تلك الطبيعيات منتزعة مما أقدما عليه لا طبيعات أقدما عليها،
ولا يكاد يشك ذو مسكة أنه لم يقصد في بيعه إلا تمليك العين الخاصة بثمن
مخصوص من دون التفات ولا قصد إلى تلك الطبايع ولو مترتبة، والتضمين
والتمليك قصدي لا قهري.
(وثانيا) إن التضمين الضمني بحيث ينطبق عليه الشرط حيث إن حقيقته
الالتزام بالضمان بالبدل إنما يصح ويؤثر في الضمان إذا كان في ضمن عقد
صحيح، والمفروض فساد العقد في المرتبة الأولى وعدم صحة الشرط الابتدائي ولقد
أجاد بعض الأعلام " رحمه الله " حيث تنبه لعدم إمكان تصحيح الاقدام إلا
بإدراجه تحت عنوان الشرط حيث قال " رحمه الله ": إن الاستناد إلى الاقدام
94

مستقلا أما مسامحة في التعبير أو مردود بعدم الدليل المعتبر على كونه من الأسباب
من دون تلف ولا اتلاف مباشرة أو تسبيبا إلا حديث " المؤمنون عند شروطهم " (1)
غير المعمول به في غير الشروط في العقود الصحيحة (2).
ثانيها: في قاعدة الاحترام، وتقريبها بوجهين: (أحدهما) ما عن بعض أجلة
السادة " قدس سره " وهو أن احترام مال المسلم عدم جواز مزاحمته فيه بالأخذ منه
قهرا عليه كما يجوز بالإضافة إلى مال الكافر الذي لا ذمة له ولا حرمة، وهذا بالنظر
البدوي وإن كان مقتضيا لحرمة مزاحمته ما دامت العين موجودة فلا يفيد إلا الحكم
التكليفي دون الوضعي إلا أن المزاحمة محرمة حدوثا وبقاء، وعدم تداركه بعد اتلافه
ابقاء للمزاحمة، ورفعها بتدارك المال فيجب فيساوق الضمان الوضعي، ويندفع
بأن حقيقة مزاحمة أحد في ماله لا تعقل إلا في المال الموجود ولا تعقل في المعدوم لا
حدوثا ولا بقاء، إلا إذا فرض ثبوت البدل في ذمته ليقال تحرم مزاحمته في المحقق
وجوده خارجا والمقدر وجوده في الذمة، فعدم تداركه وعدم تمكين المالك من
التصرف فيه باخراجه من التقدير إلى التحقيق نوع من المزاحمة، لكن الكلام في
إثباته في الذمة بنفس قاعدة الاحترام، فكيف يعقل أن تكون محققة لموضوعها
(ثانيهما) ما يتوجه في نظري القاصر وهو أن المال المضاف إلى المسلم بإضافة
الملكية له جهتان وحيثيتان: (الأولى) حيثية الملكية، ورعاية هذه الحيثية واحترام
هذا الشأن عدم التصرف فيما هو تحت سلطان الغير إلا بإذنه (والثانية) حيثية
المالية، ورعاية هذه الحيثية واحترام هذا الشأن أن لا يجعله هدرا بحيث يعامل معه
معاملة ما لا مالية له، فالمال المضاف إلى المسلم بإضافة الملكية له حرمتان من
حيث المضاف ومن حيث الإضافة.
ويمكن أن يورد عليه بوجوه: (الأول) إن الدليل على احترام مال المسلم ليس

(1) عوالي اللئالي: ج 1، ص 293، ح 173.
(2) إجارة المحقق الرشتي: ص 49 في ذيل مسألة العين المستأجرة بالإجارة الفاسدة.
95

إلا قوله عليه السلام: وحرمة ماله كحرمة دمه (1)، وظاهر سياق الخبر هو التعرض
للحكم التكليفي دون الضمان الوضعي، فإن الخبر هكذا: عن الصدوق قال قال
رسول الله صلى الله عليه وآله: " سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر وأكل لحمه من
معصية الله وحرمة ماله كحرمة دمه " (2). والظاهر من السياق وتشبيه ماله بدمه هو
أن الأثر المرتب على إراقة دمه بالتعرض لقتاله هو المرتب على التعرض لماله، وهي
شدة المبغوضية المؤثرة في شدة العقوبة المعبر عنها بالكفر، لا من حيث إن دمه يوجب
القصاص والدية فماله يوجب البدل. هذا إذا أريد من الحرمة احترام المال والدم،
وأما إذا أريد منها ما يقابل الحل والجواز فالأمر أوضح.
(الثاني) إن الظاهر من حرمة المال المضاف بإضافة الملكية حرمة المضاف بما
هو مضاف كما في كل أثر مترتب على المتحيث بحيثية، فإن الظاهر كون الحيثية
تقييدية لا تعليلية، ومقتضاه إثبات احترام الإضافة لا احترام ذات المضاف. نعم
يبعده أن حرمة الإضافة والمضاف بما هو مضاف معناه احترام المملوك، واحترام
الملكية لا يقتضي أخذ المال بعنوانه في الموضوع لحرمة التصرف في ملك الغير، فإنها
لا تدور مدار ماليته إلا أن الذي يهون الخطب أخذ عنوان المال فيما يتمحض في
الحكم التكليفي كقوله عليه السلام: " لا يجوز لأحد التصرف في مال غيره بغير
إذنه " (3). ومنه يعلم أن أخذ المال في موضوع هذا الحكم الذي لا يدور مدار المالية
باعتبار غلبة كون المضاف مالا فتدبر.
(الثالث) إن القاعدة لا تعم عمل الحر، لأن الظاهر من إضافة المال بعنوانه
هي إضافة الملكية أو الحقية، وعمل الحر وإن كان في نفسه مالا لكنه غير مضاف
إلى عامله بإضافة الملكية، بل إضافة الكتابة إلى الكاتب والخياطة إلى الخياط من
إضافة العرض إلى موضوعه والفعل إلى فاعله لا الملك إلى مالكه، وصحة إجارة

(1) الوسائل: ج 8 باب 158 من أبواب أحكام العشرة، ح 3، ص 610.
(2) الوسائل: ج 8 باب 158 من أبواب أحكام العشرة، ح 3، ص 610.
(3) الوسائل: ج 17 باب 1 من أبواب الغصب، ح 4، ص 309. وفيه " لا يحل " بدل لا يجوز.
96

نفسه للعمل لا تدل على كونه مملوكا له بل هي كصحة بيعه كليا في ذمته، فإن
البايع لا يملك الكلي بل من حيث سلطانه على نفسه له إجارة نفسه لعمل والتعهد
بمال في ذمته بعوض، فصحة تمليك العمل وتمليك كلي الحنطة مثلا لمكان تلك
السلطنة لا لملك العمل والحنطة قبلا وهو واضح جدا.
(الرابع) إن قاعدة الاحترام وإن شملت المنافع والأعمال المستوفاة إلا أنها
لا تكاد تعم المنافع الفائتة ولا الأعمال القائمة بالعامل من دون تسبيب من
المستأجر، لوضوح أن مجرد وصول نفع من الغير لا يوجب الضمان وإلا لوجب القول
به مع عدم العقد الفاسد أيضا، والعقد الفاسد ليس تسبيبا إلى ايجاد العمل ليجب
حفظ حرمته بأداء بدله بل تسبيب إلى الملكية والمفروض عدم حصولها، وحرمة
العمل لا تقتضي تضمين من لا مساس له به لا عقدا، ولا تسبيبا خارجيا، نعم إذا
قلنا بأن مجرد الإذن خارجا في العمل ببدله يكون موجبا للضمان مع عدم قصد
الإجارة من حيث جعل الملزوم بجعل لازمه ومع عدم قصد الجعالة كما هو المفروض
أمكن أن يقال إنه لا فرق في الاستناد الموجب لحفظ حرمة العمل بين الإذن
بالمطابقة والإذن بالالتزام، ولازم العقد على الاستيجار للعمل الإذن فيه خارجا
وتبقى المنافع الفائتة على حالها من دون موجب لحفظ حرمتها على المستأجر.
ثالثها: في قاعدة الاتلاف، وشمولها للمنافع المستوفاة والأعمال المستوفاة
واضح، فإن اتلاف المنافع التدريجية الوجود باستيفائها تدريجا، وليست كالأعيان
بحيث يكون لها اتلاف محض، وكذا إذا قلنا كلية بشمول الاتلاف للتفويت وهو
المنع من الوجود وابقاء العدم على حاله فهو اعدام من هذه الجهة، فإنه عليه تعم
المنافع التي فوتها دون المنافع الفائتة والأعمال غير المستوفاة، فإنه لا تكاد تعمهما
قاعدة الاتلاف ولو بناء على تعميمها للتفويت، والاستناد الموجب لحفظ حرمة
المال كما مر لا يجدي في صدق الاتلاف التسبيبي، ولذا لا يقول أحد بصدق
الاتلاف بمجرد الأمر والإذن كما هو واضح، وبالجملة فقاعدة الاتلاف أخص من
المدعى.
97

رابعها: في قاعدة اليد وهي أيضا أخص من المدعى فإنها لا تعم إلا المنافع التي
كانت تحت اليد سواء استوفا ها أم فاتت تحت اليد، وأما الأعمال المباشرية القائمة
بالعامل والمنافع الفائتة تحت يد المالك فهي غير مشمولة للقاعدة. نعم عن الشيخ
الأعظم الأنصاري " قدس سره " في مسألة المقبوض بالعقد الفاسد الاشكال في
صدق الأخذ باليد في المنافع (1).
وليس وجه الاشكال عدم صدق الأخذ بالنسبة إلى المنافع، فإن الأخذ بما هو
لا يختص بالأعيان الخارجية بل يعم الأمور المعنوية كالعهد والميثاق فضلا عن
شمول المنافع التي هي من حيثيات العين خارجية وشؤونها، كما أنه ليس وجه
الاشكال إرادة الجارحة المخصوصة من اليد كي يختص بالأعيان القابلة للقبض
بالجارحة، إذ لا ريب في أنها كناية عن الاستيلاء، ولذا لا ريب في صدق وضع
اليد على الأراضي والعقار بالاستيلاء عليها، بل وجه الاشكال أمران:
أحدهما: إن المنافع حيثيات وشؤون للعين موجودة فيها بالقوة لا بالفعل، وإنما
تخرج من القوة إلى الفعلية باستيفائها الذي هو اخراجها من العدم إلى الوجود،
فمع فرض الاستيفاء يكون استيفاؤها عين الاستيلاء عليها إلا أنه لا حاجة في المنافع
المستوفاة إلى قاعدة اليد لكفاية قاعدة الاتلاف، ومع فرض عدم الاستيفاء فلا
شي ء موجود الفعل ليقال بالاستيلاء عليه، والموجود بالقوة معدوم بالفعل فلا
يتصور فيه الاستيلاء فعلا.
نعم الاستيلاء على الموجود بالفعل بالذات استيلاء على الموجود بالقوة
بالعرض، والموجود بالعرض غير الموجود بالتبع فلا حكم له بالذات. بل إذا كان
الموجود بالذات لا يدخل تحت اليد كالحر فمنافعه أيضا كذلك، للزوم ما بالذات فيما
بالعرض، والفرق بين ما بالأصالة وبالتبع وبين ما بالذات، وبالعرض تعدد
الوجود في الأول ووحدته في الثاني مع تعدد الانتساب.

(1) المكاسب: ص 104.
98

والجواب إن الاستيلاء ليس من الأعراض المتأصلة التي لها مطابق في الخارج
حتى يتوقف على وجود موضوع في الخارج تحقيقا بل من الأمور الانتزاعية من كون
الشخص بحيث يتمكن من التصرف في المستولي عليه تصرفا خارجيا، والمنافع وإن
كانت معدومة في الخارج إلا أنها مقدرة الوجود وإمكان التصرف فيها باخراجها من
حد الفرض والتقدير إلى الفعلية والتحقيق خارجا، فكما أن الشخص مستول على
نفس العين كذلك مستول عليه منافعها حقيقة لا عرضا.
نعم حيث إن المنافع قائمة بالعين فلها وجود تبعي كذلك الاستيلاء عليها
بسبب الاستيلاء على العين فالاستيلاء على العين واسطة في الثبوت بالإضافة إلى
الاستيلاء على المنافع لا واسطة في العروض بالنسبة إليها، ومنه تعرف أن الاستيلاء
على الحر المستتبع للاستيلاء على عمله المقدر وجوده أمر معقول. غاية الأمر أن
الاستيلاء الأصيل لا حكم له عرفا وشرعا والاستيلاء التبعي له حكم عرفا
وشرعا، فالتبعية في التحقق لا تقتضي التبعية في العهدة والضمان كما توهم، فإنه
شأن ما بالعرض بالنسبة إلى ما بالذات لا شأن ما بالتبع بالإضافة إلى ما
بالأصالة.
ثانيهما: ما يسنح بالبال من أن مقتضى على اليد ما أخذت حتى تؤدي أن ما
يدخل في العهدة بوضع اليد عليه ما كان أدائيا وكان قابلا للأداء بعد أخذه، وهذا
شأن العين، وأما النافع فما فات منها وهي المأخوذة فغير أدائية بنفسها وما لم تفت
فهي غير مأخوذة ولا كلام فيه، وتوهم أن سلسلة المنافع أخذها بأخذ أحد طرفي
السلسلة وأدائها بأداء طرفها الآخر بأداء العين - يفيد ضد المقصود، لأن الكلام في
ضمان المنافع الفائتة فخروجها عن العهدة بأداء طرفها الآخر معنى عدم ضمان
منافعها الفائتة، كما أن توهم أدائها بأداء بدلها مدفوع بأن أداء بدلها فرع دخولها في
العهدة، والمفروض أن المأخوذ الذي له أداء بنفسه هو الذي يدخل في العهدة فتدبر،
ولا ينتقض بالعين التي تلفت مجرد وضع اليد عليها فإن الامكان الذاتي والوقوعي
محفوظ مع الامتناع بالغير، كما أن جعل الغاية محددة للموضوع حتى يكون الخبر دالا
99

على ضمان المأخوذ غير المؤدى أيضا - غير مجد، لأن الظاهر كونه من قبيل العدم
والملكة لا من قبيل السلب والايجاب ليصدق مع انتفاء الموضوع أيضا.
خامسها: في قاعدة نفي الضرر، وملخص القول فيها أن الضرر المنفي إن كان هو
الضرر غير المتدارك فلازمه أن كل ضرر متدارك شرعا، وهو مساوق للضمان، إلا
أن هذه المعنى غير صحيح كما حقق في الأصول، وإن كان الضرر المنفي هو الحكم
الضرر ي، فتارة يراد منه أن الشارع لم يشرع حكما ضرريا وحكمه بعدم الضمان
ضرري فهو غير مشروع، وأخرى يراد منه أن الأحكام المجعولة بادلتها مقصورة على
غير مورد الضرر كما هو مبنى الحكومة.
فإن أريد الأول فهو واف بالضمان إلا أن يعارض بضررية الضمان على
الضامن في بعض الأحيان، لكن الحق عدم إرادة هذا المعنى وإلا لزم أن تكون أدلة
الخمس والزكاة وبعض النفقات وبعض التغريمات وأشباهها كلها مخصصة لدليل
الضرر.
وإن أريد الثاني كما هو الصحيح فمورده ما إذا كان للحكم موردان ضرري
وغير ضرري وبدليل نفي الضرر يكون مقصورا على غير الضرري، وإذا كان الضمان
ضرريا أو عدم الضمان في مورد ضرريا فلا محالة يكون خارجا بالتخصص
كالخمس والزكاة وأشباههما، ولا حاجة إلى دعوى أن العدم غير مجعول، لكفاية
مجرد استناد بقائه إلى الشارع بعد قبله إلى الوجود وبقية الكلام في محله.
ومن مجموع ما ذكرنا تبين أن ضمان المنافع المستوفاة والأعمال المستوفاة ولو
بالأمر والإذن والمنافع الفائتة تحت اليد - مما يمكن المصير إليه والقول به كما هو
المشهور، وأما النافع الفائتة بعد العقد من دون يد عليها فلا موجب لضمانها والله
أعلم.
وينبغي التنبيه على أمرين: (أحدهما) ربما يقيد ضمان أجر المثل في مورد
العقد الفاسد بأن لا يكون فساده من ناحية اشتراط عدم الأجرة، بل ربما يستظهر
من عبارة الشرايع وغيرها حيث قالوا سواء زادت عن المسمى.. الخ. فإن ظاهرها
100

فرض الأجرة المسماة في العقد، بل يمكن أن يقال بخروجه عن موضوع المسألة
رأسا، فإن الأجرة من مقومات الإجارة لا من شرائط تأثير عقد الإجارة حتى يدخل
في موضوع الإجارة الفاسدة، فلا تعمه قاعدة " ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن
بفاسده " (1) إلا باخراجه عن عنوان الإجارة وادراجه في العارية الفاسدة.
ومختصر الكلام في موضوع الإجارة بلا أجرة أو بشرط عدم الأجرة: إن
العاقد والشارط إن كان ملتفتا إلى حقيقة الإجارة فلا يعقل منه التسبب الجدي إلى
إيجاد الإجارة بلا أجرة، فإن ايجاد الشيء بدون مقومه محال فلا يتوجه إليه القصد
الجدي من المتلفت، وكذا إذا كان قاصدا للإجارة المشروطة بعدم الأجرة، فإن
قصد هذا الخاص المنافية خصوصيته لحقيقة ذات الخاص قصد أمرين متنافيين،
وأما إذا قصد حقيقة الإجارة بقوله " آجرت " ثم بعد انشائه بدا له أن يعقبه بالغاء
مقومه أو بالالتزام بعدم مقومة فإن كان مع بقائه على قصد التسبب إلى حقيقة
الإجارة فهذا القصد الحادث لا يتمشى منه، وإن كان قصده الغاء الخصوصية
ليكون عارية فهو باق على التسبب إلى التمليك لا على التمليك بالأجرة فهو إجارة
انشاء حدوثا وعارية بقاء. ففيه أن انشاء التسليط على الانتفاع هو مفاد العارية
فمجرد الغاء العوض لا يجدي في انعقاده عارية بقاء. وإن كان قصده من الأول هذا
المعنى معبرا عنه بلفظ الإجارة كانت صحته موقوفة على جواز عقد العارية بلفظ
آجرت، وعلى فرض صحته يخرج عن موضوع البحث وهو عدم الضمان في المقبوض
بعقد الإجارة الفاسدة، فإنه مقبوض بعقد العارية الصحيحة.
ومختصر الكلام فيما يترتب على الموضوع الفاسد أو غير المعقول الذي تمشى
القصد إليه من عاقده لعدم التفاته إلى استحالته: هو أن الاعتبار إذا كان بمدارك
قاعدتي ما يضمن وما لا يضمن لا بهما فلا بد من بيان دافع لما تقتضيه قاعدة
الاحترام والاتلاف واليد، ولا دافع لها إلا توهم الإذن في التصرفات بلا عوض

(1) الروضة البهية: ج 3، ص 264 و 265.
101

ومنها الاتلاف والتسليط على المنفعة عن رضاه كذلك وإيجاد العمل مجانا عن
رضاه، ويجاب بأن الإذن والرضا في كل ذلك بعنوان الوفاء ومع الفساد لا وفاء فلا
رضا ولا إذن وقد تكلمنا عليه سابقا، بل الاشكال من حيث إن تسليم العين
لاستيفاء المنفعة وإثبات اليد عليها إنما يكشف عن الرضا من حيث كشف المعلول
عن علته وهو إنما يكون إذا كانا منوطين بالرضا، ومن الواضح أن تسليم ملك أحد
إليه لا يكون منوطا بالرضا، وكذا تسليط المالك على ماله غير منوط بالرضا،
والمفروض أن العاقد المسلم للمال والمسلط للمستأجر يعتقد أن المنفعة مملوكة له
فكيف يكون هذا التسليم والتسليط كاشفا عما لا يكون منوطا به، ومنه تعرف أن
ايجاد العمل مجانا أيضا كذلك، لأن تسليم العمل المملوك للغير بإيجاده لا يكون
منوطا برضاه حتى يقال أنه أوجده مجانا عن رضاه، فحرمة عمله محفوظة كحرمة
منفعة داره مثلا، فالأقوى أن العقد الفاسد المقيد بعدم الأجرة كالمجرد عنه.
(ثانيهما) عن المحقق الأردبيلي " قدس سره " (1) وغيره ممن تبعه على ما حكي
تقييد هذه بصورة الجهل بالفساد، وأما مع العلم بالفساد فلا ضمان لأجرة المثل،
ووجه هذه التفصيل أحد أمرين:
الأول: إنه إن مع العلم بالفساد لم يقصد في باب البيع إلا هبة ماله وهنا إلا
العارية والتبرع بالعمل فلا موجب للضمان.
ويندفع بأن المفروض التسبب إلى البيع والإجارة، غاية الأمر إنه كان قاصدا
للتسبب إلى اعتبار الملكية شرعا فهو مبني على التشريع في السبب وإن كان قاصدا
لاعتبار الملكية عرفا فهو موجد للبيع العرفي أو الإجارة العرفية فلا هبة ولا عارية،
فإن هذه العناوين قصدية لا قهرية.
الثاني: إنه مع اعتقاد الفساد شرعا وعدم تأثير لتشريعه في السبب وعدم أثر
شرعا للمعاملة العرفية فلا محالة يكون تسليطه للغير على ماله عن رضاه الطبعي،

(1) مجمع الفائدة والبرهان: كتاب الإجارة، ص 9.
102

حيث لا اكراه من أحد ولا الزام من الشارع.
ويندفع بأنه بعد إمكان التشريع فالجري على وفقه تسليط منه على مال الغير لا
على مال نفسه ليكون منوطا برضاه حتى يستكشف بمعلوله وكذا بعد فرض المعاملة
العرفية فالجري على وفقها تسليط منه للغير على مال ذلك الغير عرفا لا على مال
نفسه ليكون منوطا برضاه. إلا أن يقال إن هذا المال ينطبق عليه عنوانان عنوان أنه
مال الغير تشريعا أو عرفا وعنوان أنه ماله شرعا حقيقة، والتسليط بلحاظ العنوان
التشريعي والعرفي لا اقتضاء، والتسليط بالنظر إلى العنوان الشرعي مقتض،
فاقدامه من الأول على البيع العرفي المستلزم للتسليط على ماله شرعا حيث كان عن
رضى طبعي مع بقائه على حاله عادة يكفي في الخروج عن مقتضى اليد والاتلاف
للرضا بالاستيلاء والتصرف المستكشف من اقدامه فتدبر.
والأدلة الدالة على أن ثمن الكلب أو الخمر والخنزير سحت وأن أجر المغنية
سحت كلها تقيد الارشاد إلى الفساد ولا تتكفل حكم التسليط عن رضاه مع العلم
بالفساد، والله أعلم بالسداد.
المبحث العاشر: من أحكام الأجرة على ما في الشرايع كراهة استعمال الأجير
قبل أن يقاطع على الأجرة (1)، وقد ذكر غير واحدان جوازه وكراهته مما لا خلاف
فيهما، وهذا مع الفراغ عن لزوم معلومية الأجرة كما ادعي الاجماع عليه يحتاج إلى
توضيح مورد الجواز والكراهة، فإن الإجارة المعاطاتية كالعقدية القولية يشترط فيها
ما يشترط فيها فلا بد من كون المورد إجارة صحيحة أو جعالة صحيحة أو معاملة
مستقلة أخرى صحيحة.
فنقول: إذا كان للعمل أجرة عادية فهي كالمذكورة فيصح تمليكه بماله من
الأجرة إجارة أو الالتزام بتلك الأجرة والإذن في العمل جعالة، وربما تتعين الأولى
كما في الإذن في سكنى الدار فإنه لا يصح من باب الجعالة كما مر سابقا، وعلى أي

(1) شرايع الإسلام: كتاب الإجارة، الشرط الثاني.
103

تقدير فكراهة ترك ذكر الأجرة لا مانع منها لدفع النزاع أو توهم الأجير أنه قد نقصه
المالك حقه، وإذا لم يكن للعمل أجرة عادية بل أجرة المثل فلا محالة لا تصح
الإجارة ولا الجعالة، للزوم معلومية الأجرة والجعل فيهما، فلا موقع لكراهة الجري
على وفق الإجارة الفاسدة مثلا. بل ربما يحرم كما في التصرف بسكنى الدار، ولذا
ذهب غير واحد من الأعلام إلى أنه معاملة مستقلة قامت السيرة عليها، فإن أريد أن
هنا سببا معامليا يتسبب به إلى شئ فالمفروض عدم التسبب إلى تمليك العمل
ولا إلى جعل على عمل بل ولا إنشاء الإباحة حتى تكون الإباحة مسببة عن
إنشائها، بل مورد السيرة ما إذا كان استعمال من أحدهما برضاه وعمل من الآخر
برضاه لا مجانا ولا تبرعا.
وشئ من هذه الأمور ليس سببا يتسبب به إلى شئ، ولا حاجة فيه إلى
دليل خاص يدل على مشروعيته، فإن أذن صاحب الدار في سكنى الدار لا مانع
منه لدليل السلطنة، وحيث إنه غير مجاني على الفرض ومال المسلم محترم فعلى
المستوفي للمنفعة بدل المال المحترم واقعا، وكذا أذن المستعمل للأجير أن يعمل في
داره لا مانع منه، وعمل الأجير برضاه من دون تبرع على الفرض لا مانع منه وعمله
محترم فله البدل واقعا، فكما ليس بحسب مقام الثبوت أمر معاملي انشائي كذلك
لا حاجة إلى إقامة الدليل على المشروعية، فالسيرة لا يستدل بها هنا على الصحة بل
على أن ما بأيدي الناس هو هذا العمل المشروع، والحكم في مثله بكراهة الاتكال
على أجرة المثل لا مانع منه دفعا لما ذكرنا
وأما إثبات الكراهة بالروايتين الواردتين في هذه المسألة بعد تنزيل موردهما
على المتعارف في جميع الأعصار والأمصار فهو أمر هين بعد ورود أمثال هذه
التشديدات في ترك المستحبات وفعل المكروهات والله أعلم.
المبحث الحادي عشر: من أحكام الأجرة على ما في الشرايع أنه يكره أن يضمن
الأجير إلا مع التهمة (1)، ونفس هذا العنوان يدل على أن المورد فيه ما يوجب

(1) شرايع الإسلام: كتاب الإجارة، الشرط الثاني.
104

الضمان وإلا لكان التضمين حراما، كما أن تقييده بعدم التهمة باستثناء صورة
التهمة يدل على أمرين:
أحدهما: أن مورده الاتلاف والتلف بتفريط لا التلف المحض الذي يستوي
فيه البر والفاجر والأمين والخائن والمتهم وغيره.
ثانيهما: إن مورده ثبوت موجب الضمان ظاهرا بقيام بينة أو نكول عن الحلف
وشبههما لا ما إذا ثبت الموجب قطعا، فإنه لا موقع للانقسام إلى المتهم وغيره بخلاف
ما إذا ثبت عليه شرعا مع أنه لم يكن كذلك واقعا لكونه مأمونا غير متهم، والكلام
في كراهة تضمين هذا الموضوع بعد الفراغ عن ضمان الأجير لما يتلف في يده كما
سيأتي إن شاء الله تعالى البحث عنه مفصلا. إلا أن الأخبار بمنطوقها لا تدل على
كراهة التضمين بهذه الخصوصية المفسرة بها عبارة الشرايع في كلمات شراحها (1)
وغيرهم، بل المستفاد منها أمران:
أحدهما: إن أمير المؤمنين عليه السلام أسس أصلا كليا في هذه الموارد احتياطا
على أمتعة الناس فحكم بالضمان بمجرد التلف قبل ثبوت التفريط أو الاتلاف إلى
أن يتبين خلافه (2)، واستثني منه في كلمات الأئمة من بعده عليهم السلام ما إذا كان
الأجير مأمونا غير متهم (3)، ومن المعلوم أن رفع مثل هذا التضمين الاحتياطي بمجرد
كونه مأمونا لا يلازم رفع الضمان الثابت موجبه شرعا بكون مأمونا.
ثانيهما: إنه لا يضمن إذا كان مأمونا بمعنى أنه لا يتسبب إلى تضمينه بطلب
البينة أو استحلافه لا أنه لا يضمن بعد قيام البينة أو نكوله عن الحلف إذا كان
مأمونا.
نعم يمكن أن يقال إنه يستفاد من كراهة التسبب إلى تغريم المأمون غير المتهم
كراهة تغريم المأمون وإلا لما كره التسبب إلى تغريمه، فراجع أخبار الباب الناهية

(1) جواهر الكلام: ج 27، ص 254.
(2) الوسائل: ج 13، باب 29، من أبواب أحكام الإجارة، ح 4، ص 272.
(3) الوسائل: ج 13، باب 29، من أبواب أحكام الإجارة، ح 4، ص 272.
105

عن التضمين في صورة عدم التهمة (1) لا تكاد تجد ورود شئ منها في مورد ثبوت
موجب الضمان شرعا، وعبارة الشرايع وإن فسرت بما ذكرنا إلا أنها لا تأبى عن
الحمل على أحد المعنيين المستفاد من الروايات والله أعلم.
المسألة الثانية
في الشرط الثاني من شرائط العوضين وهو كما في الشرايع مملوكية المنفعة (3)،
والمراد بهذه الملكية هو الاعتبار المتعلق بنفس المنفعة كاعتبار ملكية نفس العين لا
ملك التصرف في المنفعة أو العين، فإن ملك التصرف في المنفعة ثبت اعتباره بما
تقدم منه " قدس سره " في أول البحث حيث قال " رحمه الله ": أن يكون المتعاقدان
كاملين جائزي التصرف، فإن ملك التصرف هو السلطنة على التصرف التي ربما
تنفك عن حقيقة ملك العين والمنفعة كما في الولي والوصي والوكيل، ومنه تعرف أن
تصرف الفضولي والغاصب يخرج بما سبق لا بملك المنفعة، فإن النقص في العاقد لا في
المنفعة المعقود عليها، فلا يخرج بملك المنفعة إلا المباحات الأصلية، حيث إنها
بأعيانها ومنافعها متساوية النسبة إلى البايع والمشتري والمؤجر والمستأجر وعدم ملك
التصرف فيها لا لنقص في المتصرف أصالة بل لنقص في مورد التصرف
وأما ما في الجواهر من أن اعتبار هذا الشرط لعدم تحقق المعاوضة في غير
المملوكة.. الخ (4) فمدفوع بأن معنى كون البيع معاوضة والإجارة معاوضة ليس
لزوم قيام كل من العوضين مقام الآخر فيما له من إضافة الملكية حتى يلزم كون كل
منهما مملوكا قبلا، ضرورة صحة بيع الكلي الذمي مع أنه غير مملوك قبلا للبايع،
وصحة تمليك الحر لعمله بالإجارة مع أن عمله غير مملوك له قبلا، بل لمكان سلطنة

(1) ح 13، باب 29، من أبواب أحكام الإجارة، ح 4، ص 272.
(2) شرايع الإسلام: كتاب الإجارة في ذيل الشرط الثاني.
(3) شرايع الإسلام: كتاب الإجارة في ذيل الشرط الثاني.
(4) جواهر الكلام: ج 27، ص 257.
106

الإنسان على نفسه له أن يتعهد بكلي في ذمته أو بعمل على نفسه، بل معنى كون
البيع والإجارة معاوضة صيرورة كل من العوضين ملكا للآخر بإزاء صيرورته ملكا
له فلا يلزم سبق إضافة المملوكية للمملك.
ومنه تعرف أن المراد بالمنفعة إذا كان مطلق ما يقع موردا للإجارة لم يكن
اعتباره لازما، بل المراد خصوص ما يقابل العمل كما في منفعة الدار والدابة، ومما
ذكرنا يظهر أن الأجرة إذا لم تكن ذمية لزم اعتبار مملوكيتها أيضا فلا يصح جعل
عين مباحة بالإباحة الذاتية أجرة كما لا يصح جعل منفعتها مقابلا بالأجرة، فلا
موجب لتخصيص المملوكية بالمنفعة فتدبر. ولنذكر ما يتعلق بملك المنفعة في طي
مباحث:
المبحث الأول: المنفعة إما مملوكة بتبع ملك العين أو مملوكة بالاستقلال
والانفراد، ومثل في القواعد (1) للملك الاستقلالي بملك المستأجر وفي الجواهر بملك
الموصى له للمنفعة الموصي بها ولملك المنافع في الأوقاف العامة بناء على كون
أعيانها ملكا لله تعالى (2) مقتصرا عليهما وهو الأنسب، إذا ليس الكلام في تعداد
أقسام الملك الاستقلالي بل فيما يصح تمليكه بالإجارة بما هي إجارة، فلا ينبغي ذكر
المملوك بالإجارة، بل المناسب ذكر ما هو مملوك استقلالا بغير الإجارة، وإن كان
الحكم متحدا في الجميع من حيث التمليك الإجاري، ثم إنه كما قيد منفعة الوقف
العام في الجواهر بكون العين ملكا لله تعالى كذلك كان ينبغي تقييد المنفعة بما إذا
كانت ملكا للموقوف عليه، فإن الوقف العام تارة يقتضي ملك المنفعة وأخرى ملك
الانتفاع، مثلا إذا كانت أرض الزراعة أو البستان أو الخان موقوفة على أهل العلم
فلا شبهة في ملك الطبيعي للمنفعة، فلولي الوقف إجارة الأرض والخان مثلا
وايصال الأجرة إلى الموقوف عليه بخلاف وقف المدرسة والقنطرة وأشباههما، فإنه
ليس للموقوف عليه إلا ملك الانتفاع لا ملك المنفعة وإلا جاز نقلها إلى غيره،

(1) قواعد الأحكام: ج 1، ص 226.
(2) جواهر الكلام: ج 27، ص 257.
107

وبقية الكلام في محله.
وأما ما أفاده في الجواهر بعد التمثيل بمنافع الأوقاف العامة من أنه لا ينافي
عموم الوقف جواز إجارة الحاكم ولو لبعض من هو مصرف الوقف.. الخ (1)، فإنما
هو لدفع شبهة أن تمليك المالك لا معنى له، وأما جوابه بأن بعض أهل الوقف الذي
يستأجر الموقوفة متصرف تنظيرا ببيع الزكاة لبعض من هو مصرف لها فلا حاجة
إليه، فإنه يوهم أنه لا يملك بل هو مصرف محض كمصرفية بناء القنطرة مثلا
للزكاة، بل الجواب أن الطبيعي هو المالك دون الأشخاص فلا يملك الشخص إلا
بعد إقباض المتولي، فالإجارة ليست تمليكا للمالك بل تمليك لمن يصلح أن يملك
بعد قبضه بعنوان كون الكلي متعينا فيه بتعيين المتولي.
المبحث الثاني: لا إشكال في جواز إجارة المستأجر من المؤجر وغيره وقد تقدم
بعض الشبهات في نظير المسألة وهو البيع من المستأجر مع دفعها، إنما الاشكال في
ضمان المستأجر إذا سلم العين إلى المستأجر الثاني من دون إذن المالك، وهذا
البحث مبني على ما تقدم من عدم ضمان المستأجر الأول للعين، وإلا فالبحث عن
ضمانه هنا لغو فلا بد حينئذ من بيان الفارق، فنقول: غاية ما يمكن أن يقال في
تقريب المساواة وعدم الضمان بالتسليم أن مقتضى إطلاق الإجارة الأولى من حيث
الاستيفاء كما هو مفروض المقام اطلاقها من حيث الاستيلاء المتوقف عليه
الاستيفاء، وإليه يرجع ما قيل من أن الإذن في الشئ إذن في لازمه.
والجواب عنه (أولا) أن الاستيفاء يتوقف على تمكين المؤجر للمستأجر من
الانتفاع بالعين لا على الاستيلاء الذي يترتب عليه الضمان لولا إذن المالك
(وثانيا) أن جواز التسليم بل وجوبه المساوق للاستيلاء لا ينافي الضمان، فإن
المنافي للضمان هو الائتمان، ووجوب التسليم غير وجوب التأمين، فيجب عليه
التسليم بماله من الحكم.

(1) جواهر الكلام: ج 27، ص 257.
108

(وثالثا) إن التوسعة في الاستيفاء ليس من قبل المالك حتى تقتضي التوسعة في
الاستيلاء بل جواز الاستيفاء حقيقة أو اعتبارا بالإجارة من الغير إنما هو بمقتضى
سلطنة الناس على أموالهم وهو لا يقتضي سلطنة على مال الغير، فالإجارة ثانيا
ليست منوطة بإذن المالك ليكون إذنه في الإجارة إذنا في لازمها. نعم كان للمالك
أن يقيد ملك المنفعة باستيفائه بنفسه أو يقيد دائرة سلطنته باشتراط الاستيفاء
بنفسه، وإذا لم يكن أحد الأمرين كانت مملوكة له وكان مقتضى قاعدة السلطنة
جواز الاستيفاء الحقيقي بنفسه والاستيفاء الاعتباري بالإجارة.
والتحقيق: أن مدرك عدم ضمان العين في الإجارة الأولى كما قدمنا لم يكن
وجوب التسليم والتسليط على العين ليكون حال الإجارة الثانية حال الأولى بل
المدرك كان اقدام المالك، نظرا إلى أن اقدامه ابتداء على الإجارة كان عن رضاه
الطبعي والاقدام عليها اقدام منه على لازمه الغالبي عن رضاه الطبعي فيصدر منه
تسليط المستأجر على عينه عن رضاه وكل تسليط عن الرضا تأمين بالمعنى الأعم،
ومن البين أنه لا اقدام منه على الإجارة الثانية لعدم ارتباطها به حتى يكون اقداما
منه على تسليط المستأجر الثاني، ولا معنى لاقدامه على جواز الإجارة من المستأجر،
فإنه وإن كان لازم ملك المنفعة المطلقة إلا أنه لا معنى للاقدام على الحكم، فلا
منشأ لكون تسليط المستأجر الثاني بتسليط المالك وأنه عن إذنه ورضاه.
ومن جميع ما ذكرنا تبين أن التسليم له مراتب: (إحداها) المساوق للتمكين
من الانتفاع بالعين، وهذا لا شبهة في جوازه بل في وجوبه وهو غير منوط بإذن المؤجر
ولا موجب للضمان لعدم الاستيلاء.
(ثانيتها) المساوق للاستيلاء، ولو فرض توقف استيفاء المنفعة عليه أحيانا فلا
شبهة في جوازه بل في وجوبه لفرض المقدمية. نعم لا شبهة أيضا في أنه بنفسه يوجب
الضمان لولا الرافع، وفي هاتين المرتبتين إن امتنع المؤجر من التمكين أو التسليط
يجبر عليه وإلا فللمستأجر خيار الامتناع من التسليم.
(ثالثتها) المساوق للتأمين، وهذا لا مقدمية له للاستيفاء فلا يستحقه المستأجر
109

من المؤجر فلا يجبر عليه ولا الامتناع منه موجب للخيار، ومنه يظهر ما في جملة من
الكلمات والله مقيل العثرات، هذا كله بحسب القواعد. وربما يستدل لعدم
الضمان بصحيحة علي بن حعفر عن أخيه أبي الحسن عليه السلام قال: سألته عن
رجل استأجر دابة فأعطاها غيره فنفقت، ما عليه؟ قال عليه السلام: " إن كان
شرط أن لا يركبها غيره فهو ضامن لها وإن لم يسم فليس عليه شئ " (1)، وأجيب
عنها في كلام جماعة بأن الصحيحة بملاحظة الشرطية ناظرة إلى الضمان من حيث
الركوب نفيا وإثباتا لا الضمان من حيث التسليم.
بيانه: أن المستأجر بسبب مخالفة الشرط يده عادية فيضمن سواء كان هناك
تسليم وتسليط أم لم يكن إلا التمكين من الركوب، ومورد النفي في الشرطية الثانية هو
مورد الاثبات في الأولى ويمكن أن يقال إن المفروض في السؤال حيث إنه اعطاء
الدابة الظاهر في تسليطه عليها والغالب أيضا هو التسليط وظاهر " لا شئ عليه "
هو نفي الضمان فعلا مطلقا لا نفي الضمان من حيثية والسكوت عن الضمان من
حيثية أخرى مفروضة في شخص القضية وغالبية من حيث العموم، فلا محالة تكون
الصحيحة ظاهرة في نفي الضمان مع عدم شرط الاستيفاء مطلقا، ولأجلها فالقول
بعدم الضمان لا يخلو من وجه كما نسب إلى الأكثر.
المبحث الثالث: قد قيد في كلمات القائلين بصحة الإجارة من الغير صحتها بما
إذا لم يشترط المؤجر عليه استيفاء المنفعة بنفسه، والكلام فيه بأطرافه يتم ببيان أمور:
(منها) إن ظاهر الكلمات، وإن كان اشتراط استيفاء المنفعة بنفسه بإرادة
الشرط الفقهي وهو الالتزام في ضمن الالتزام إلا أن ظاهر جماعة من أعلام
المتأخرين صحة الاشتراط بالمعنى الأعم من تقييد المنفعة بحيث تتضيق دائرة
المملوك ومن الالتزام الموجب لتضيق دائرة السلطنة دون الملكية، فعلى الأول لا
مملوك للمستأجر حتى يملكه غيره، وعلى الثاني له طبيعي سكنى الدار لكنه لا

(1) الوسائل: ج 13، باب 17، من أبواب أحكام الإجارة، ح 1، ص 255.
110

سلطان له إلا على استيفائه بنفسه، والذي ينبغي البحث عنه تصور تضييق دائرة
المملوك بالتقييد،
فنقول: طبيعي سكنى الدار بالمعنى القائم بالساكن وإن كان كليا بالغاء
خصوصيات الساكنين وله حصص بلحاظ سكنى المستأجر وسكنى غيره إلا أنه بهذا
المعنى ليس مملوكا لمالك الدار حتى يملكه غيره موسعا أو مضيقا كما نبهنا عليه في أول
باب الإجارة، وبالمعنى القائم بالدار المعدود من شؤونها وحيثياتها له نحوان من
الوجود: (أحدهما) بالقوة بنحو وجود المقبول بوجود القابل و (ثانيهما) بالفعل بفعلية
مضايفه القائم بالساكن، والثاني وإن أمكن لحاظه فعليا بفعلية مضايفه أياما كان
في قبال فعليته بفعلية مضايفه القائم بالمستأجر خاصة إلا أنه لا يمكن أن يكون
المملوك بالإجارة هذه المرتبة من الوجود إذ مع عدم الاستيفاء رأسا لا مملوك مع أن
المنفعة مملوكة بعقد الإجارة سواء استوفيت أم لا، فلا محالة المملوك بعقد الإجارة
دائما هي المنفعة بوجودها بالقوة فإنها غير منوطة بالاستيفاء.
إلا أن الكلام في أن هذا الموجود بالقوة جزئي بجزئية ما بالفعل الذي يقوم به فما
معنى سعته وتضييقه؟ وحيث إن المتضايفين متكافئان في القوة والفعلية والوحدة
والتعدد وليست فعلية ما بالقوة إلا خروجه من حد إلى حد، فلا بد من أن يكون
الموجود بالقوة قابلا لأن يتعين بتعين مضايفه ومتكثرا بتكثر مضايفه، فتلك الحيثية
القائمة بالدار وإن كانت جزئية بجزئية الدار لا كلية ولو بنحو الكلي في المعين إلا أنها غير متعينة في حد ذاتها، فهي قابلة للقياس إلى سكنى زيد فتكون مسكونية
الدار بالقوة بالنسبة إلى سكنى زيد غير مسكونيتها بالإضافة إلى سكنى عمرو، وهذا
من شأن مقولة الإضافة والأمور الموجودة بالقوة، فكون الموجود بالقوة جزئيا لا ينافي
كونه لا متعين، فيقبل التعينات الخاصة ويقبل بقاءه على حاله من عدم التعين
فيكون وسيعا، فتارة يملك على الوجه الأول وأخرى يملك على الوجه الثاني، وبه
تندفع الشبهة في باب الكسر المشاع، فإن جعله كليا ينافي مقابلته مع الكلي في المعين
وجعله جزئيا ينافي سعته واشاعته وسريانه، ودفعها بما ذكرنا واضح، هذا هو
111

الكلام في تقييد المنفعة بالاستيفاء.
وأما اشتراط الاستيفاء فنقول: الشرط بمعنى الالتزام تارة يتعلق بالوصف
وأخرى بالنتيجة وثالثة بالفعل، ولا موقع لشرط الوصف، فإنه يتوقع اشتراط
الوصف من المؤجر بحيث يتعهد للمستأجر بمنفعة موصوفة بكذا، والالتزام
بالاستيفاء شرط من المستأجر للمؤجر، فلا محالة يكون الاشتراط هنا إما بطور شرط
النتيجة أو بطور شرط الفعل، ولا مجال للأول أيضا، فإن القابل لهذا النحو ما كان
من النتائج التي تتحقق بتعليق الالتزام بها كشرط ملكية كذا أو استحقاق كذا، فإنه
بمجرد تعلق الشرط تتحق تلك النتيجة، ولا نتيجة هنا يترقب حصولها بالشرط إلا
ما سمعناه مشافهة من شيخنا الأستاذ " قدس سره " في بحثه هنا وهو شرط كونه
محجورا عن جميع التصرفات إلا استيفاء المنفعة بنفسه فبمجرد الشرط يكون محجورا،
فالمنفعة مملوكة له إلا أنه لا سلطان له على جميع التصرفات من الإجارة أو التبرع
بالمنفعة ونحوهما إلا على استيفاء المنفعة بالمباشرة، وحيث إن السلطنة إما تكليفية
مساوقة للرخصة والإباحة وإما وضعية مساوقة لنفوذ باستجماع شرائط صحة
التصرف فليس شئ من السلطنتين تحت اختياره حتى يلتزم بحصولها أو عدم
حصولها، فإن الحكم التكليفي بيد الشارع وجودا وعدما، والنفوذ وعدمه تابع لوجود
العلة التامة واقعا وعدمها، فلا معنى لشرط مثل هذه النتيجة، وإنما يصح شرط
النتيجة فيما إذا كانت من الاعتبارات الوضعية التي يتسبب إليها بأسبابها كالملكية
ونحوها.
(لا يقال) كما أن شرط الانتقال إلى الغير صحيح، لأنه من شرط النتيجة
المتحصلة من الأمر الاعتباري القابل للتسبب إليه وهي الملكية كذلك شرط عدم
الانتقال إلى الغير، فإن نسبة القدرة إليه كنسبة القدرة إلى الانتقال وإلا لم يكن
شرط الانتقال مقدورا.
(لأنا نقول) الانتقال قابل لأن يحصل بأسبابه ومنها الشرط وأما عدم الانتقال
فهو بعدم سببه لا بسبب العدم، فإن كان المراد من اشتراطه مجرد بقائه على العدم
112

فهو باق بعدم سببه من دون تأثير للشرط وإن كان المراد من اشتراطه أن لا تنتقل
المنفعة إلى الغير ولو مع وجود سببه فلو شرط انفكاك المعلول عن علته التامة وهو
شرط أمر محال، فينحصر شرط الاستيفاء في شرط الفعل.
و (منها) أنه إذا اشترط على المستأجر استيفاء المنفعة بنفسه فلا يراد منه لزوم
مباشرته له وإلا لزم الاستيفاء مع أن المستأجر له أن يستوفي وله أن لا يستوفي، فلا
محالة يراد من الشرط المزبور أن لا يؤجر الدار وأن لا يتبرع بمنفعتها للغير، وحينئذ يقع
الكلام في أن مثل هذا الاشتراط يمنع عن نفوذ الإجارة الثانية أو لا بل للمؤجر
خيار التخلف عن الشرط، وما قيل أو يمكن أن يقال في تقريب المنع أمور:
أحدها: ما في الجواهر (1)، وتقريبه أن الأمر بالوفاء بالشرط والأمر بالوفاء بعقد
الإجارة الثانية متمانعان لا يمكن فعليتهما معا لكنه يقدم الأول على الثاني لتقدمه
عليه وجودا، لوجود سببه بلا مانع في حال ترقب التأثير منه بخلاف الثاني لوجود
السبب المسبوق بالمانع.
والجواب إن نفوذ عقد الإجارة تابع لوجود جميع ما يعتبر في العقد وفي
المتعاقدين وفي مورد العقد، واشتراط ترك الإجارة لا يوجب خللا في العقد ولا في
المتعاقدين ولا في مورد العقد، فالإجارة لا تبقي المحل للوفاء بالشرط لانقلاب ترك
الإجارة إلى نقيضها بخلاف الشرط، فإنه كما مر لا يوجب الخلل في السبب التام
لنفوذ الإجارة، فلا أمر بالوفاء بالشرط مع وجود الإجارة حتى يمنع عن الأمر بالوفاء
بعقد الإجارة، وسيتضح بعض ما أجملناه فيما سيأتي إن شاء الله تعالى.
ثانيها: ما عن بعض الأعلام من أن نفوذ كل معاملة منوط يملك التصرف ومع
وجوب الوفاء بالشرط بترك الإجارة تحرم الإجارة فيكون المستأجر مسلوب القدرة
شرعا فلا يملك هذا التصرف المعاملي، ولذا قلنا سابقا بأن هذا الشرط يضيق دائرة
السلطنة على التصرفات الثابتة بقوله عليه السلام: " الناس مسلطون على

(1) جواهر الكلام: ج 27، ص 265.
113

أموالهم " (1).
و (الجواب) إن السلطنة تكليفية ووضعية، والأولى تساوق الترخيص التكليفي
في قبال الحرمة، والثانية تساوق النفوذ الوضعي، والقدرة في الأولى بملاحظة عدم
كونه مصدودا من قبل الشارع، والقدرة في الثانية بملاحظة استجماع السبب
المعاملي لشرائط تأثيره، فإن أريد من فني القدرة والسلطنة عدم الرخصة تكليفا فهي
ليست من شروط نفوذ المعاملة بل كما حقق في محله يدل التحريم على نفوذ المعاملة
وإلا لم تكن مقدورة فلم يصح تحريمها مولويا، وإن أريد من في القدرة عدم السلطنة
الوضيعة فهي تابعة لاستجماع السبب لما له دخل في تأثيره، ومع كون العقد واجدا
لما يعتبر فيه من العربية والماضوية وأشباههما، ومع كون العاقد بالغا عاقلا رشيدا
مالكا غير مفلس ولا فيه أحد أسباب الحجر، ومع كون المنفعة مثلا واجدة لما يعتبر
فيها من كونها متمولة ومملوكة ومباحة ونحوها فلا محالة يكون المؤجر مثلا قادرا على
تمليك المنفعة، والحرمة المولوية لا توجب خللا في شئ مما له دخل في النفوذ،
فعدم ملك التصرف بمعنى عدم الجواز تكليفا مفروض إلا أنه غير مناف لنفوذ
المعاملة وبمعنى عدم الجواز وضعا غير مفروض ولا مسلم فتدبر جيدا.
ثالثها: ما عن الشيخ العلامة الأنصاري " قدس سره " في نظائر المقام من
التمسك باطلاق وجوب الوفاء بالشرط حتى بعد إنشاء الإجارة الثانية، فإنه كاشف
عن عدم نفوذ الإجارة وإلا لم يكن محل للوفاء بالشرط.
والجواب ما حقق في محله من لزوم انحفاظ المطلق في مراتب اطلاقه، وبعد
إنشاء الإجارة الثانية حيث يتحمل تأثيره يشك في بقاء المحل للوفاء فيكون من
التمسك بالعموم في الشبهة المصداقية، مضافا إلى ما سيأتي إن شاء الله تعالى من أن
متعلق الشرط إن كان ترك إنشاء الإجارة فقط فبمجرد إنشائه يسقط الشرط عن
اقتضاء الوفاء لعدم المحل له قهرا فكيف يعقل اطلاقه لما بعد المخالفة القهرية؟ وإن

(1) عوالي اللئالي: ج 1، ص 222، ح 99.
114

كان ترك الانشاء الناقل فمقتضى لزوم تعلق الالتزام بالمقدور إمكان تحقق الإجارة
الحقيقية منه فكيف يعقل اطلاق الوجوب لما بعد الانشاء النافذ الذي لا يبقي معه
محل للوفاء؟ فتدبره فإنه حقيق به.
رابعها: إن الإجارة الثانية تصرف مناف للحق الثابت للمؤجر على المستأجر
باشتراط الاستيفاء الراجع إلى ترك الإجارة من الغير وهو باطل.
وتحقيق القول فيه يتوقف على تنقيح أمرين: (أحدهما) صغرى الدليل من
حيث اقتضاء الشرط للحق دون التكليف المحض بالوفاء (ثانيهما) كبرى الدليل
وهو أن كل تصرف مناف للحق فهو باطل.
أما الأول: فطريق استكشاف الحق أحد أمور ثلاثة: إما اقتضاء نفس
الاشتراط، وإما اقتضاء دليل الشرط، وإما اقتضاء آثار الشرط أما اقتضاء نفس
الشرط فتقريبه أنه كما أن الإجارة في الأعمال ليست إلا الالتزام بالخياطة
للمستأجر، ونفس كون الخياطة له دال على الاختصاص الملكي كذلك الشرط،
فإنه أيضا التزام بالخياطة لزيد مثلا، فهناك التزام معاملي اجاري وهنا متمحض
في الالتزام بالعمل له، ويندفع بأن حقيقة الإجارة تمليك العمل بعوض، غاية
الأمر أن مضامين العقود والايقاعات واردة مورد الالتزامات والعهود لا أن تمام
حقيقة الإجارة التزام للمستأجر بعمل، وهنا أيضا لو التزم بملك العمل للمشروط له
كان من شرط النتيجة فيكون سببا للملك، والكلام في شرط العمل، واللام لام
الصلة للالتزام لا لام الاختصاص فالشارط ملتزم للمشروط له بعمل لا أنه يلتزم
بعمل له، وبقية الكلام من هذه الجهة في بحث الشروط.
وأما اقتضاء دليل الشرط فمن البين أن قوله عليه السلام: " المؤمنون عند
شروطهم " (1) إما دليل النفوذ وإما دليل وجوب الوفاء تكليفا وإنما دليل اللزوم
الوضعي، وشئ من ذلك لا يقتضي حدوث حق اعتباري بالشرط ما لم يكن

(1) عوالي اللئالي: ج 1، ص 293، ح 173.
115

نفس الالتزام الشرطي مقتضيا له كما هو واضح
وأما اقتضاء آثار الشرط فأثر الحق جواز النقل فيما يقبله، والحكم كليا لا يقبل
النقل وكذا الانتقال بالإرث، والحكم لا يورث وكذا عدم لزوم المبادرة إلى النقل
إلا بعد المطالبة، وامتثال التكليف غير منوط بالمطالبة وكذا جواز إسقاطه، والحكم
لا يسقط بالاسقاط، والمسلم من هذه الآثار في باب الشروط هو جواز اسقاط
المشروط له للشرط إذا لم يصادف مانعا، وكفى به دليلا وشاهدا على كونه حقا،
ومن جميع ما ذكرنا تبين صحة الصغرى من حيث حدوث استحقاق العمل بالالتزام
به.
وأما الثاني: وهو أن كل تصرف مناف للحق فهو باطل. فتحقيق الحال فيه
أن الحق كلية إما يتعلق بالعين كحق الشفعة وحق الرهانة وحق الجناية من
القصاص والاسترقاق المتعلق برقبة العبد الجاني وإما يتعلق بغير العين بل بفعل أو
ترك كحق ترك الفسخ وحق ترك الإجارة من الغير وكحق عتق العبد عن
المشتري له وحق البيع منه ثانيا.
أما الحق المتعلق بالعين فهو على قسمين: (أحدهما) ما يسري مع العين بسريانها
في أنحاء التقلبات كحق الشفعة، فإن للشريك حق الشفعة وإن انتقلت حصة
الشريك إلى ألف مشتر، وكحق القصاص والاسترقاق فإنه متعلق برقبة العبد من
دون نظر إلى مالكه، فمثل هذا الحق لا يعقل أن يمنع عن نفوذ التصرف مع أنه
يجامعه ولا ينافيه.
(ثانيهما) ما لا يسري بسريان العين بل يزول مع فرض نفوذ التصرف كحق
الرهانة، فإن كون العين محبوسة على الدين لا يجامع الخروج عن ملك المديون،
وكحق الغرماء المتعلق بمال المفلس فلا يجامع خروجه عن ملكه، وكحق الخيار بمعنى
حق استرداد العين بشخصها، فإن رد الإضافة الشخصية المتعلقة بشخص العين لا
يجامع خروجها عن ملك من عليه الحق فإنه لا إضافة شخصية لشخصها حتى ترد،
بخلاف ما إذا كان حق حل العقد أو حق رد العين ولو بماليتها، فإنه محفوظ مع
116

التلف ومع التصرف، ومما ذكرنا تبين أن الحق هنا غير متعلق بالعين أو المنفعة، مع أن مطلق تعلقه بهما لا يكون مانعا.
وأما الحق المتعلق بفعل أو ترك فهو على قسمين: (أحدهما) ما يكون نسبة
التصرف المعاملي إلى مورد الحق نسبة الشئ إلى نقيضه. كالإجارة بالإضافة إلى
تركها المشروط على المستأجر، وكالفسخ بالإضافة إلى تركه المشروط على المشتري
مثلا.
(ثانيهما) ما يكون نسبة التصرف المعاملي إلى مورد الحق نسبة الضد إلى ضده،
كالبيع بالنسبة إلى العتق المشروط على المشتري، فإن كان من قبيل الأول فلا
يعقل أن يكون الحق مانعا عن نفوذ التصرف المعاملي، وذلك لأن متعلق الالتزام
إما ترك إنشاء الإجارة فقط أو ترك الإجارة بالحمل الشايع، فإن كان الأول فلا
محالة تتحقق المخالفة للشرط بمجرد الانشاء فيسقط الحق فلا مانع من تأثير الانشاء،
وتستحيل مانعية الحق عن وجود الانشاء الذي التزم بتركه، وإن كان الثاني فمن
المسلم في محله والمحقق عند أهله أن القدرة على متعلق الشرط شرط صحته، فلا بد
من أن يكون ترك الإجارة بالحمل الشايع مقدورا عليه في ظرف العمل بالالتزام
وأداء الحق، وإذا كان الترك مقدورا عليه كان الفعل مقدورا عليه لاستواء نسبة
القدرة إليهما، بل قد حققنا في محله أن الفعل مقدور عليه بالأصالة والترك بالتبع،
وفرض القدرة على الإجارة بالحمل الشايع فرض النفوذ، وحينئذ يستحيل أن يكون
استحقاق الترك مانعا عن نفوذ الإجارة وإلا لزم من وجوده عدمه وهو محال، إذ لو
منع الاستحقاق عن نفوذه لكان موجبا لعدم القدرة فعلا وتركا ويلزمه عدم نفوذ
الالتزام وعدم تحقق الاستحقاق فافهم واستقم.
وإن كان من قبيل الثاني فالبرهان المتقدم لا يجري فيه، لأن الملتزم به نفس
العتق، ومقدوريته فعلا وتركا لا ربط لها بمقدورية التصرف المعاملي، فلا مانع من
تأثير استحقاق العتق في بطلان التصرف البيعي مثلا واخراجه عن كونه مقدورا
عليه، والوجه في اقتضاء استحقاق العتق بطلان بيع العبد المشروط عتقه أحد أمرين:
117

الأول: إن البيع تصرف في الحق بإزالته باعدام موضوعه وهو اخراج العبد عن
ملكه فلا يبقى مجال لعتقه، مع أن التصرف في الحق ليس إلا لمن له الحق كالملك
فكما لا ينفذ التصرف في الملك إلا من مالكه أو وليه أو وكيله فكذلك لا ينفذ
التصرف في الحق إلا ممن له الحق أو وليه أو وكيله، فحاصل هذا الوجه بطلان
التصرف لفقد ملك التصرف المعتبر في نفوذ المعاملة.
والجواب: إن الولاية المعتبرة في نفوذ التصرف إنما تعتبر في كل تصرف يكون
من شؤون الحق، والتصرفات التي هي من شؤون الحق السلطنة على مطالبته والنقل
إلى الغير وإنشاء سقوطه أو اشتراط سقوطه، فهذه شؤون الحق وأمرها بيد من له
الحق دون غيره، وأما موضوع متعلق الحق وهو العبد فهو ملك المشتري وأمره بيده،
وابقاء موضوع الحق واعدامه ليس من شؤون الحق ليكون أمره بيد من له الحق حتى
يكون بيعه تصرفا في الحق الذي لا يملك أمره فتدبر، بل أمر نفس متعلق الحق وهو
العتق أيضا ليس بيد من له الحق فليس له عتقه بل أمره بيد مالك العبد. نعم
للبايع المستحق اسقاط حقه.
الثاني: إن البيع وإن لم يكن تصرفا في الحق إلا أنه تصرف مناف للحق
الثابت بعلته التامة ولا يجتمعان في الوجود، بداهة عدم امكان استحقاق العتق على
حاله مع انتقال العبد عن المشتري إلى غيره، وإذا تحقق أحد المتنافيين استحال
تحقق ما ينافيه وإلا لزم اجتماع المتنافيين في الوجود وهو خلف، فالتصرف البيعي
وإن كان مستجمعا لجميع ما يعتبر في نفوذه شرعا ولم يوجب استحقاق العتق خللا في
شئ من شرائطه إلا أن التمانع في الوجود مع سبق الاستحقاق مانع عقلي عن وجود
البيع.
والجواب: إن استحقاق العتق والتصرف البيعي يغير متقابلين بالأصالة لا
بتقابل السلب والايجاب ولا بتقابل العدم والملكة ولا بتقابل التضاد إلا بين نفس
العتق والبيع، فإنهما بما هما تصرفان ثبوتيان في موضوع واحد متضادان. نعم بين استحقاق العتق ونفس البيع تقابل بالتبع، نظرا إلى أن استحقاق العتق بقاؤه ببقاء
118

العبد على ملك المشتري، والبقاء على ملك المشتري وانتقاله إلى غيره متقابلان فلا
يمكن اجتماع الاستحقاق مع التصرف، لعدم امكان البقاء والانتقال معا إلا أن
سبق الاستحقاق المزبور لا يعقل أن يكون مانعا عن التصرف، لأن بقاء
الاستحقاق متفرع على بقاء موضوعه لا أنه حافظ لموضوعه ومبق له، فيستحيل أن
يكون مانعا عن مزيل موضوعه ومعدمه، نظير اجتماع سبب وجود البياض في الجسم
وسبب انعدام الجسم، فإنهما أيضا لا يجتمعان في التأثير إلا أنه لا يعقل مانعية سبب
وجود البياض عن سبب عدم الجسم.
و (منها) أن شرط الاستيفاء بنفسه إن رجع إلى شرط ترك تسليم المنفعة إلى
الغير أو ترك اسكان الغير كما في الرواية المتقدمة في المسألة السابقة حيث قال
عليه السلام " إن كان شرط أن لا يركبها غيره.. " الخ (1)، فإن المراد منه شرط ترك
ما هو فعل نفسه وهو إركاب الغير، فربما يتخيل بطلان الإجارة من وجه آخر غير
ما مر في شرط ترك الإجارة، أما إذا شرط عليه ترك تسليم المنفعة إلى الغير فالوجه في
بطلان الإجارة عدم القدرة على التسليم، وهي معتبرة في البيع والإجارة وكل
معاوضة، والمفروض حرمة التسليم للالتزام بتركه الواجب عليه، والممتنع شرعا
كالممتنع عقلا، ويندفع بأن المدار في اعتبار القدرة على رفع الغرر، ومع الوثوق
بحصول المال في يده لا غرر سواء كان البايع أو المؤجر قادرا على التسليم واقعا أم لا
فضلا عما إذا لم يكن قادرا شرعا، والمفروض هنا امكان حصول المنفعة في يد
المستأجر، فلا غرر ولا خطر في اقدامه على الاستيجار، مع أن القدة اللازمة هنا هي
قدرة المستأجر على التسلم لا قدرة المؤجر على التسليم، فإن الغرر إنما هو للمستأجر لا
للمؤجر، وعلى فرض تعميم القدرة إلى الواقعية والشرعية فلا حرمة بالإضافة إلى
المستأجر، فإن الملتزم بترك التسليم هو المؤجر دون المستأجر، وحرمة أحد المتضايفين
لا تستلزم حرمة المضايف الآخر، فإنها ليست من لوازم التضايف كالقوة والفعلية

(1) الوسائل: ج 13، باب 16، من أبواب أحكام الإجارة، ح 1، ص 255.
119

والوحدة والتعدد فتدبر جيدا.
وأما إذا اشترط عليه ترك اسكان الغير مثلا فربما يتخيل صيرورة المنفعة محرمة
بذلك. وإباحة المنفعة كما سيجئ إن شاء الله تعالى من شرائط صحة الإجارة.
وتقريبه: أن المنفعة إذا كانت عبارة عن سكنى الغير في الدار وهو من أعراضه
القائمة به فهو لم يقع من الغير مورد الالتزام بتركه حتى يحرم عليه لئلا ينفذ تمليكه
إياه بل المحرم ما هو من أفعال المؤجر وهو الاسكان وهو من منافع الدار، فلا بد
في تحريم السكنى من عناية زائدة بادراجه تحت عنوان الإعانة على الإثم، نظرا إلى أن
عنوان الاسكان من المؤجر لا يتحقق إلا بسكنى الغير. فهو بمنزلة الشرط لتحقق
عنوان الاسكان. نظير قبول المشتري في تحقق عنوان التمليك من البايع. فإن ايجاد
الملكية قائم بالبايع إلا أن هذا العنوان لا يتحقق بمجرد إيجابه إلا عند قبول
المشتري.
وأما إذا لم يكن سكنى الغير من منافع الدار كما قدمناه في أول باب الإجارة
بل منفعة الدار من حيثياتها وشؤونها وهي المسكنية والمسكونية المضايفة للساكنية
فإذا لوحظ المبدأ المعبر عنه بالسكنى في طرف الدار عد من منافع الدار. وإذا لوحظ
في طرف الساكن عد من أعراضه القائمة به وحينئذ لا بد في تحريم منفعة الدار
بتحريم الاسكان من تقديم مقدمة. وهي أن تلك الحيثية الموجودة في الدار بالقوة
بنحو وجود المقبول بوجود القابل بما هي لا تتصف بالإباحة والحرمة بل باعتبار
اخراجها من القوة إلى الفعل وهو المراد من استيفائها، ومن البين أن اخراجها من
القوة إلى الفعل بالدخول في الدار والكون فيها المحقق للعنوانين المتضايفين،
والمفروض عدم التزام الساكن المستوفي بترك اخراجها من القوة إلى الفعل حتى
تتصف تلك الحيثية بالحرمة إلا أن التحقيق أن تلك الحيثية بلحاظ مرتبة الفعلية
لها قيامان:
أحدهما: قيامها بالدار قيام حلول ومضايفها الفعلي وهي الساكنية له قيام
بذات الساكن بقيام حلولي كما هو شأن العرض الذي نحو وجوده وجود ناعتي.
120

ثانيهما: قيامها بموجدها بقيام صدوري، والاسكان والمسكنية بهذا الاعتبار من
باب الايجاد والوجود، ولا فرق في اتصاف تلك الحيثية بالحرمة بين أن تكون
بلحاظ قيامها بالساكن المخرج لها من القوة إلى الفعل بدخوله في الدار وأن تكون
بلحاظ قيامها بقيام صدوري بالمتصف بالاسكان باعداده المخرج لها من القوة إلى
الفعل، وتوسط إرادة الفاعل المختار يمنع عن استناد فعله إلى الغير بحيث يكون
سكونه سكونا للمؤجر باعداده كما في استناد القتل إليه باعداده، لا أنه يمنع عن
استناد الاسكان إليه كما عرفت في نسبة التمليك إلى البايع بايجابه مع توقف وجود
الملكية على قبول المشتري برضاه، هذا.
إلا أن مقتضى ما قيل في وجه شرطية إباحة المنفعة من أن المنفعة المحرمة
لا مالية لها ولا هي مملوكة لمالك العين عدم شرطية الإباحة هنا، إذا المفروض كون المنفعة
مملوكة له وإنما التزم بترك التصرف فيها باسكان الغير، وأما الحاق الإجارة بالبيع
لبطلان البيع فيما إذا باع العنب ليعمل خمرا، فإن العنب مملوك إلا أن الانتفاع به
بهذا الوجه حرام ومع ذلك فبيعه لهذه الغاية فاسد، والمنفعة هنا أيضا مملوكة إلا أن
استيفاءها بهذا الوجه الملتزم بتركه حرام فيندفع بأن القول بالبطلان في البيع للنص
لا بحسب القاعدة حتى يجري في الإجارة، مع أن لازم بطلان الإجارة هنا الاقتصار
على ما إذا آجره على وجه يتصدى لاسكانه، لا ما إذا آجره مطلقا أو ليسكن فيه،
ومن جميع ما ذكرنا في هذا الأمر والأمر المتقدم تبين أن الإجارة الثانية صحيحة على
أي تقدير، والله أعلم.
و (منها) في نتيجة القول بالصحة مع شرط الاستيفاء والقول بالبطلان، فنقول:
أما إذا قلنا بالصحة فالكلام تارة في ثبوت الخيار للمالك بملاحظة تخلف المستأجر
عن الشرط، وأخرى في انحلال الإجارة الثانية تحل الإجارة الأولى، أما ثبوت الخيار
فحيث إن منشأه الضرر المنفي بقاعدة نفي الضرر فلا بد من كون اللزوم ضرريا لوقوعه
في ضرر مالي أو نقض الغرض المعاملي المعبر عنه بالضرر الحالي، فإن كانت الإجارة
بالشرط المزبور المضيق لدائرة السلطنة على المستأجر بأقل من القيمة السوقية فلا
121

محالة يقع المالك مع الإجارة الثانية في ضرر مالي فله إعمال الخيار والرجوع ببدل
المنفعة واقعا، وإن لم تكن بأقل من القيمة الواقعية فلا ضرر مالي، والضرر الحالي
إنما يتدارك إذا انحلت الإجارة الثانية بحل الأولى، وأما إذا لم تنحل كما سيظهر
إن شاء الله تعالى فلا أثر للخيار، فلزوم الإجارة الأولى كما لا يرتفع الضرر برفعه
كذلك ليس ضرريا بذاته، وإنما الضرري هي الإجارة الثانية غير المرتبطة بالمالك
فلا يمكن دفع هذا الضرر وهو نقض الغرض المعاملي إلا بأحد وجهين: إما بتقييد
أصل المنفعة حتى لا تنفذ الإجارة الثانية أو بجعل الخيار لنفسه في الإجارة الثانية
على تقدير الإجارة من الغير بالشرط بناء على المشهور من عدم اعتبار التنجيز في
خصوص الشرط كما مر سابقا.
وأما انحلال الإجارة الثانية بعد حل الإجارة الأولى بأعمال الخيار فقد ذكرنا
في مباحث الخيارات أن الإجارة الثانية حيث إنها وقعت صحيحة لازمة بسبب
صحيح ملزم على الفرض، والفسخ كما هو التحقيق والمشهور من الحين، وحق الخيار
باق مع التصرف والتلف، فلا محالة لا تنحل الإجارة الثانية بحل الأولى، وإنما
يقتضي حلها بعد التصرف رجوع المنفعة ببدلها لا بعينها، وتمام الكلام من هذه
الجهة في محله فتدبر.
وأما إذا قلنا ببطلان الإجارة الثانية فيقع الكلام أيضا في مقامين: (أحدهما)
في تعقل الخيار للمالك (ثانيهما) في امكان تصحيح الإجارة الثانية.
أما الأول فنقول: متعلق الشرط إن كان ترك الإجارة بالحمل الشايع ففرض
البطلان فرض عدم التخلف وعدم حصول المخالفة للشرط فلا معنى للخيار، وإن
كان ترك إنشاء الفسخ فحصول المخالفة وجداني فلا بأس بالخيار، كما أنه إذا كان
الشرط متعلقا بترك اسكان الغير في الدار أو ترك اركاب الغير على الدابة فحصولهما
غير مناف لبطلان الإجارة فيأتي حديث التخلف عن الشرط والخيار
وأما الثاني فنقول: امكان تصحيح الإجارة الثانية بملاحظة أن المالك له
اسقاط حقه الثابت له بالشرط فيرتفع المانع عن نفوذ الإجارة الثانية.
122

ويندفع (أولا) بأن وجه بطلان الإجارة الثانية كما تقدم غير منحصر في مانعية
الحق، فعلى القول بغيره من الوجوه المانعة عن نفوذ الإجارة لا يمكن تصحيحها إلا
بزوال نفس الشرط، ولا يمكن إلا بانحلال الإجارة لينحل الشرط المتقوم به،
وانحلالها ولو بالإقالة موجب لبقاء الإجارة الثانية على حالها من البطلان لا
خروجها عنه إلى الصحة
(وثانيا) بأن اسقاط الحق قبل وقوع الإجارة الثانية يوجب خلوها عن المانع
فتنفذ بشمول عموم دليل الصحة لها، وأما بعد وقوع الإجارة فلا، لأن مانعية الحق
عن نفوذ الإجارة الثانية عقلية لا شرعية حتى تكون منوعة للعام إلى نوعين، فيكون
الخالي عن المانع من الأفراد المقدرة الوجود الداخلة في هذا النوع من الأول،
بخلاف المانعية العقلية فإنها لا توجب تصرفا في الدليل الشرعي حتى يكون العام
في مقام الاثبات ذا نوعين، فالعقد الواجد للمانع العقلي مع أنه تمام الموضوع إذا لم
يعمه العامل فلا معنى لشموله له فيما بعد وتمام الكلام في محله، هذا مع اسقاط الحق.
وأما إذا لم يسقط حقه فهل للمالك أن يجيزه لنفسه فإن كانت الإجارة موقتة
بوقت مضيق كحمل المتاع على الدابة في هذا اليوم الخاص بشرط الاستيفاء المعهود
فلا موقع للإجارة، لأن المنفعة في هذا اليوم ملك المستأجر غاية الأمر أن حق المالك
منع عن نفوذ تمليكها للغير. وإن كانت الإجارة موسعة كحمل المتاع في يوم من
أيام الأسبوع بنحو الكلي في المعين بناء على عدم محذور فيه كما سيجئ ء إن شاء الله
تعالى تحقيق القول فيه. فلا مانع من وقوع الإجارة الثانية للمالك بإجازته. فإن
المالك كما له أن يؤجر بنحو الكلي في المعين دابته من شخص آخر كذلك له أن
يجيز.
ولا تتعين المنفعة الخاصة للمستأجر الأول في مثل الكلي في المعين إلا بأحد
أمرين: إما باستيفاء مباشري حقيقة وإما باستيفاء اعتباري إجاري. والمفروض
انتفاء الأول كما أن المفروض بطلان الاستيفاء الإجاري، فالمنفعة الكلية باقية على
حالها للمستأجر الأول من دون انطباق على مورد الإجارة الثانية، فلا مانع من إجازة
123

المالك لنفسه. بل لا مانع من إجازته للمستأجر الأول أيضا فتدخل الأجرة في ملكه
وإن خرجت المنفعة من ملك المالك بناء على ما هو التحقيق في محله من عدم كون
البيع والإجارة معاوضة حقيقية كما يتوهم بل كونهما معاوضة بمعنى كون العين
والمنفعة ذات عوض، ولا يخفى عدم رجوع الإجازة للمستأجر إلى اسقاط الحق
والانطباق القهري بل إجازة حقيقة لا إجارة أخرى مغايرة للأولى.
و (منها) أنه بناء على تقييد المنفعة بالاستيفاء وكون المملوك للمستأجر حصة
خاصة من طبيعي المنفعة يشكل الأمر في ما إذا آجر من غيره واستوفى المستأجر
الثاني المنفعة فإنها غير مملوكة للمستأجر، لأن المفروض أن الحصة الخاصة التي لا
يعقل التعدي منها هي المملوكة له، فلا يعقل أن يكون استيفاء المستأجر الثاني
استيفاء لما ملكه المستأجر الأول، وليست مملوكة للمؤجر أيضا، لأن المنافع متضادة
فلا يعقل مالكية المؤجر للمنافع المتضادة، ولازمه أن لا يكون المستأجر الثاني ضامنا
لما استوفاه لا للمالك ولا للمستأجر الأول. فالاشكال من وجهين من حيث عدم
المملوكية لأحد ومن حيث عدم الضمان لأحد. نعم المستأجر الثاني ربما يكون
ضامنا لما ملكه المستأجر بتفويته لا باستيفائه. فسواء حبسه عن السكنى أم استوفى
السكنى يكون ضامنا بالتفويت، ودفع المحذورين يتوقف على تمهيد أمور:
الأول: إن منافع العين ليست الأعراض القائمة بالأشخاص، بل هي حيثيات
موجودة بوجود العين بالقوة بنحو وجود المقبول بوجود القابل كما مر مرارا.
الثاني: إن التضاد إنما هو في مرتبة فعلية ما بالقوة، فإنه يستحيل فعلية أخرى لا
معها ولا بعدها. وأما في مرتبة الموجودية بالقوة فلا. فالعين حيث إنها قابلة لمنفعة
كذا ولمنفعة كذا تكون المنفعتان موجودتين بوجودها لا بوجودهما المختص بهما في
نظام الوجود حتى يكونا متضادين، والتضاد والتماثل من عوارض الموجودات
الحقيقية الخارجية لا الموجودات بوجود العين كما في كل موجود بنحو الموجود بوجود
قابله.
الثالث: إن التعينات سواء كانت خارجية أم اعتبارية خارجة عن مقام ذات
124

المنفعة الموجودة بالقوة، لأن التعين الخارجي بعين الفعلية، وكيف يعقل تقوم ما
بالقوة بالفعلية، والتعين الاعتباري فرع اعتبار المعتبر، فكيف يعقل أن يكون مقوما
لما بالقوة الذي هو موجود بوجود العين سواء كان هناك معتبر أم لا، وعليه فإذا
لوحظت المنفعة مع قطع النظر عن جميع التعينات فهي في حد ذاتها لا متعين.
الرابع: أن لا متعينية الموجود بالقوة على حد لا متعينية الكسر المشاع لا من
قبيل الكلي بل جزئي بجزئية ما بالفعل وهي العين، وإلا أنه حيث كان موجودا
بوجود القابل لا بوجود خاص به فهو مع جزئيته قابل لعروض التعينات الحقيقية
والاعتبارية عليه.
الخامس: أن اللا متعين من حيث كونه موجودا بالقوة لا يخرج عن اللا متعينية
والقوة إلا بالتعين الفعلي الخارجي لا بالتعين الاعتباري بملاحظته مضافا إلى
المستأجر مثلا. غاية الأمر أن اللا متعين من جميع الجهات بفرض اضافته إلى زيد
مثلا يخرج عن اللا متعينية بهذا المقدار وتبقى سائر جهات القوة والقبول على حالها،
فيكون كما إذا كان من الأول غير قابل لهذه الجهة المفروضة وقابلا لسائر الجهات.
إذا عرفت هذه الأمور تعرف أن جميع جهات القوة والقبول بنهج الوحدة
واللا تعين مملوكة لمالك العين، فربما تنتقل هذه الجهات بنهج الوحدة إلى المستأجر
فيكون قائما مقام المؤجر فيما له من الشأن، وربما تنتقل جهة خاصة من جهات القوة
والقبول إلى المستأجر فتبقى سائر الجهات بنهج الوحدة واللا تعين على ملك مالكها،
وسقوطها عن ملكية مالكها أما بسبب نقلها إلى المستأجر فهو خلف، وأما بلحاظ
تضاد الملكين لتضاد المملوكين فقد عرفت أنه لا تضاد بين الموجودات بالقوة
وجهات القابلية، وإما بلحاظ تعين اللا متعين وانحصاره فيه فلا شئ حتى يبقى على
ملك المؤجر فقد عرفت أنه ليس من قبيل الكلي حتى إذا تعين في فرد لم يبق كلي
على كليته، وإما بلحاظ أن اللا متعين واحد ولا يعقل خروج الواحد عن الملك
وبقاؤه عليه فقد عرفت أنه ليس واحدا فعليا حتى يرد المحذور بل واحد له شيوع
وسعة، فخروج موجود بالقوة لا يستدعي خروج سائر الموجودات الملحوظة بنهج
125

الواحدة عن الملكية، وإما بلحاظ أن الملكية بمعنى السلطنة ولا سلطنة للمالك على
تمليك المنفعتين معا كما عن بعض الأعلام " قدس سره " (1) في رسالته المعمولة في
الإجارة، وهو مدفوع بما مر مرارا من أن السلطنة التكليفية والوضعية غير الملكية التي
هي من الاعتبارات الشرعية والعرفية، ولا منافاة بين ملك اللا متعين من سائر
الجهات وعدم السلطنة على تمليكه، لعدم القدرة على التسليم، كما أن المستأجر
مالك لركوب نفسه ولا يمكنه تمليكه، لعدم امكان حصوله للغير، وسيأتي إن شاء الله
تعالى ما هو أثر الملك.
و (منها) ما يترتب على القول بملك اللا متعين أو ملك سائر المنافع والقول
بعدمه. فنقول: كل منفعة وإن كانت في حد ذاتها مالا ومقتضاه ضمان المنفعة
المستوفاة التي هي مال مضاف إلى المالك إلا أن لازمه ضمان المنافع التي فاتت
تحت يد المستأجر الثاني أو الغاصب مثلا مع أنه لا يقول به أحد، فلذا ربما يتخيل
أن المالية كالملكية فكما أن كل واحدة ملك على البدل كذلك مال على البدل،
والمفروض استيفاء المالك للمالية بالإجارة وأخذ الأجرة المسماة، والتحقيق أن
المنافع كما تكون مملوكة كذلك ذات مالية وكما لا يمكن تمليك منفعة بعد تمليك
منفعة كذلك لا يمكن استيفاء منفعة بعد استيفاء الأخرى حقيقة أو اعتبارا
بالإجارة وأخذ الأجرة.
نعم إذا كانت المنافع متفاوتة في المالية فما يكون أكثر مالية هو المضمون، لأن
ضمانه يتضمن ضمان غيره وزيادة. فإذا فرض أن المنفعة المستوفاة أو الفائتة
بالتفويت مساوية في المالية لمالية المنفعة المملوكة بالإجارة الأولى لا يضمن للمالك
شيئا، لاستيفاء المالك مالية ماله القابلة لبذل المال بإزائه فعلا. فلا يضمن
المستأجر إلا مالية ملكه المستأجر الأول بالتفويت لا بالاستيفاء وإن كانت

(1) كتاب الإجارة للمحقق الرشتي: في ذيل توضيح قول المحقق: لو شرط ذلك فسلم العين إلى
غيره، ص 129.
126

المنفعة المستوفاة أو المفوتة ذات مالية زائدة على مالية ما ملكه المستأجر الأول فهي
مضمونة على المستأجر الثاني للمالك، لأن تلك الزيادة مالية ماله المضاف إليه
بإضافة الملكية، فكأن هذا المال المستوفى بعد استيفاء المالك لمقدار من المالية لا
مالية له إلا بهذا المقدار من المالية الزائدة، وهذا هو أثر كون المنفعة باقية على ملك
مالكها، وأما على القول بعدم ملك المنافع المتضادة فربما يقال بضمان الزيادة
للمالك كما ربما يقال بضمانها للمستأجر.
أما الأول: فتقريبه كما عن بعض الأعلام " قدس سره " إن المنفعة الثانية لا
يملكها المالك لمكان الضدية فيقتصر في الحرمان عنها على مقدار الضدية فكما هو
مالك لجميع المنافع الممكنة الاجتماع فكذلك هو مالك للزائد من أجرة المثل
حيث لم يلزم منه جمع بين البدل والبدل. وهو بظاهره مخدوش، فإن بدل ما لا يملك
لا يملك، والتضاد إنما كان بين المنافع لا بين الماليات القائمة بها حتى يقال إن الزائد
لا مضاد له. نعم هذا إنما يتوجه إذا قلنا بأن المالك كما يملك المال كذلك يملك
مالية المال، وهذه المالية الزائدة لم تكن ضدا لمالية المنافع المتساوية حتى لا تملك،
وملك المالية أمر معقول كما في إرث الزوجة قيمة الأعيان التي لا ترثها، إذ ليس
حقيقته إلا ملك ثمن مالية العين مثلا.
وأما الثاني: فتقريبه كما قرره " قدس سره " في كلام طويل، وملخصه أن
الملك لمكان تضاد المنافع كان بدليا، والمالك كان مالكا الكل منها على البدل،
فانتقلت المنفعة التي لها بدل إلى المستأجر فيقوم المستأجر مقام المالك، كما قالوا
بنظيره في تعاقب الأيدي إن العين بوضع اليد عليها صارت ذات بدل، فاليد الثانية يد
على عين ذات بدل وهكذا إلى آخر الأيدي تتضاعف البدلية، وهذا وجه رجوع
السابق إلى اللاحق إذا رجع المالك إليه، وهو خلط بين البدل بمعنى عدل الشئ
والبدل بمعنى العوض والغرامة، فإن المالك حيث كان مالكا للعين كان مالكا لكل
شأن من شؤونها بحيث له استيفاء كل شأن عند عدم استيفاء الآخر، والمستأجر
ليس له هذا الشأن بل ملك شأنا معينا من شؤون العين، فكيف يعقل أن يقوم
127

مقام المالك فتدبر جيدا.
المسألة الثالثة
في الشرط الثالث من شرائط العوضين وهو كون المنفعة معلومة، وقد مر سابقا
أن مراتب المعلومية من حيث التعيين المقابل للترديد ومن حيث الجهل الموجب
للوقوع في الغرر والخطر ومن حيث الجهالة ولو لم توجب غررا بعضها عقلي
كالتعيين، فإن المردد غير قابل للملكية عقلا، وبعضها شرعي كالمعرفة الموجبة لنفي
الغرر، فإن المستند فيه عموم نهي النبي صلى الله عليه وآله عن الغرر (1). وأما
مطلق العلم المقابل للجهل فلا مدرك له وإن كان ظاهر الأصحاب
" قدس سرهم " اعتباره هنا وفي البيع، وقد مضى بعض الكلام مما يتعلق بالمقام في
الشرط الأول. والبحث عن أحكام ملك المنفعة يتم برسم مباحث:
المبحث الأول: لا بد من تعيين المنفعة وما يقع عليه عقد الإجارة بما يرفع الغرر،
وهو تارة بتعيين الزمان وأخرى بتعيين المحل كخياطة هذا الثوب وثالثة بهما ورابعة
بالعدد كما في ضراب الفحل ولا كلام في شئ من ذلك. إنما الكلام في ما إذا
لوحظ على وجه التطبيق على المدة بحيث يكون أول الخياطة مطابقا لأول المدة
المضروبة وآخرها لآخر ها، هذا مع تعلق عرض عقلائي به لا اشكال في صحته مع
العمل بامكان التطبيق كما لا إشكال في البطلان من العلم بعدم الانطباق. إنما
الاشكال فيما إذا لم يعلم أحد الأمرين.
وملخص القول فيه: إن التطبيق إذ لوحظ قيدا للخياطة فالعمل الخاص لم
يحرز امكان حصوله فهو غرري، وإذا لوحظ بنحو الالتزام في ضمن الإجارة فالشرط
غرري، فتبتني الصحة والفساد على سراية الغرر من الشرط إلى المشروط وعدمها،
وقد مرت الإشارة إليه في البحث عن شرط التأجيل، وقد بينا هناك أن غررية
البيع والإجارة بما هما بيع وإجارة لا يكون إلا بملاحظة الخطر في أحد العوضين

(1) عوالي اللئالي: ج 2، ص 248، ح 17.
128

المتقوم بهما البيع أو الإجارة، ومع عدم تقيد أحد العوضين لا خطر فيهما فلا معنى
للسراية. نعم إن استفدنا من نهي النبي صلى الله عليه وآله عن بيع الغرر حرمة
الاقدام المعاملي البيعي الغرري فلا تبعد دعوى السراية، لأن الاقدام المعاملي
البيعي والإجاري مشتمل على الخطر.
المبحث الثاني: فيما يتعلق بالأجير الخاص، وهو من كانت منافعه الخاصة أو
العامة أو ما تعهده من عمل في الذمة في مدة خاصة مملوكة للمستأجر، وقبل الخوض
في أقسامه وأحكامه ينبغي تقديم مقدمة، وهي أن المراد بالمنفعة على ما تقدم هي
حيثية العين وشأنها القائمة به بالقوة، فالخياطة بسبب قوتها القائمة بالأجير موجودة
بالقوة، ونحو وجودها وجود المقبول بوجود القابل، وحيث إنها بالقوة ولها قبول
تعيينات كثيرة خارجية واعتبارية فهي لا متعينة في نفسها عن جميع تلك التعينات
كما مر في أواخر المسألة الثانية، فملك جميع تلك الموجودات بالقوة وإن لم يكن
له مانع، لما مر من أن التماثل والتضاد من عوارض الموجودات الخارجية بوجوداتها
المختصة بها في نظام الوجود إلا أن تعلق الملك باللا متعين من ناحية التعينات لا
لمحذور التماثل والتضاد بل لخروج تلك التعينات عن حدود تلك الموجودات بالقوة.
نعم في كل منفعة جهة وحدة لوحدة القوة مع قبولها للتعدد. إلا أن مجموعها لا
يندرج تحت قوة أخرى بحيث تكون قوة القوي، فلا بد في فرض ملك جميع المنافع
عند من يرى التضاد فيها من فرض جامع انتزاعي من تلك الموجودات بوجود القوي
ويكفي في خارجيته خارجية مناشئ انتزاعه، وأما نحن ففي سعة من ذلك، لعدم
التماثل والتضاد عندنا كما عرفت. هذا على ما نراه في حقيقة المنافع. وأما عند من
يرى المنافع عبارة عن الخياطة الفعلية والكتابة الخارجية وأنها قبل وجوداتها
معدومة، ولذا قيل بعدم قبولها للملكية لاستحالة ملك المعدوم، فلا بد من أن تجعل
المنافع مقدرة الوجود عرفا وأنها المملوكة وحيث يرون التضاد بين تلك الأفراد فلذا
يقولون بأن المملوك هو القدر المشترك بين تلك الأفراد المقدرة الوجود.
فنقول: إن الكلي بما هو حيث إنه غير قابل للملك إلا باعتباره في الذمة أو
129

بملاحظته في الخارج فلا بد من فرض وجود ذلك القدر المشترك في الخارج، ومن
البين أن الكلي لا يكون خارجيا إلا بخارجية فرده، وإذا تكثرت الأفراد الخارجية
تكثرت وجودات الكلي، وكما أن الأفراد متضادة غير قابلة للملك فكذا الوجودات
من الكلي المتحد مع فرده، ولا يعقل ملكية أحد وجوداته بنحو الترديد، فإن المردد
لا ثبوت له، ولا بنحو التعيين، فإنه خلف في المقام، فلا محيص عن فرض الكلي في
المعين، إذ كما يتصور هذا المعنى في الأفراد المحققة الوجود كالصاع المضاف إلى
مجموع الصيعان المحققة الوجود فلا تعين له إلا تعين الإضافة إلى المجموع مع قبوله
للصدق على كل واحد من آحاد الصيعان، كذلك يتصور الكلي المضاف إلى
الأفراد المقدرة الوجود، فيكون قابلا للانطباق على كل واحد منها كما أنه يقبل
الانطباق على المحقق الوجود بخروجه عن حد الفرض والتقدير إلى الفعلية والتحقيق
في مرحلة الاستيفاء وإيجاد المنفعة خارجا، وسيتضح الفرق بين ما سلكناه وهذا
المسلك بعد تصحيحه بارجاعه إلى الكلي في المعين.
إذا عرفت ما قدمناه من المقدمة المهمة. فاعلم أن المنفعة حيث تكون تارة
خاصة كخصوص الخياطة وأخرى عامة بأحد الوجهين السابقين، وما عقد عليه
ثانيا تارة ضد ما عقد عليه أولا وأخرى مثله، فلا بد من البحث في موارد:
المورد الأول: ما إذا كان أجيرا للخياطة في مدة معينة ثم آجر نفسه للكتابة في
نفس تلك المدة، والمانع من حصته أمور:
أحدها: إن الأمر بالوفاء بالإجارة أمر بايجاد الخياطة فيقتضي حرمة ضدها
وهي الكتابة، والمنفعة المحرمة لا تقبل الملكية فلا تنفذ الإجارة ويرد عليه.
(أولا) إن حرمة الضد مبنية على مقدمية ترك الضد لوجود الضد ومقدمية
وجوده لتركه، وقد حقق في محله عدم المقدمية خصوصا إذا كان تقريبه بهذا الوجه:
وهو أن الخياطة واجبة وتركها حرام والكتابة مقدمة للترك الحرام، وذلك لأنا وإن
قلنا بمقدمية ترك الضد لوجود الضد لكنا لا نقول بمقدمية فعل الضد لترك الضد،
لأن المقدمية بنحو الشرطية لا محالة، والشرط إما مصحح لفاعلية الفاعل أو متمم
130

لقابلية القابل، والعدم لا شئ فلا يحتاج إلى فاعل أو قابل حتى يتصور فيه
المصححية للفاعلية أو المتممية للقابلية.
(وثانيا) إنه على فرض المقدمية لا حرمة مولوية لترك الواجب ولا وجوب
مولوي لترك الحرام حتى تتصف المقدمة على الأول بالحرمة وعلى الثاني بالوجوب.
نعم المقدمة مقدمة لما يستحق العقاب على تركه أو لما يستحق العقاب على فعله من
دون حرمة مثلا للمقدمة ولا استحقاق للعقاب على فعله، ولا دليل على عدم قابلية
المنفعة للملكية حتى مع الحرمة العرضية أو المقدمية لاستحقاق العقاب على فعل
شئ أو تركه.
ثانيها: إن المنافع المتضادة غير قابلة للملكية، وقد مر الكلام فيها.
ثالثها: إن المنافع المتضادة وإن كانت مملوكة إلا أن المالك لا سلطنة له على
تمليك الضد بعد سبق التمليك لضده، لعدم القدرة له على التسليم وهو الصحيح.
هذا حكم الإجارة الثانية من حيث نفسها، وأما من حيث الصحة بإجازة المستأجر
فلا ينبغي الاشكال في أنه لا موقع للإجازة بعنوانها، إذ ليس مورد الإجارة الثانية
ملكا للمستأجر ولا متعلقا لحقه وإن كان كلام بعض أعلام العصر في بعض
تعاليقه على العروة ظاهرا في قبولها للإجازة من المستأجر لكنه سهو من قلمه الشريف
قطعا.
نعم الإجازة بمعنى آخر بحيث يتضمن الابراء إن كان متعلق الإجارة الأولى
عملا كليا ذميا ويتضمن الإقالة إن كان متعلقها منفعة خارجية يختلف تأثيرها
بحسب المباني المتقدمة، فعلى الوجه الأول ترتفع الحرمة والعمل في ظرفه مباح،
واللازم إباحة العمل في ظرفه لا في موقع العقد، فالإجارة الثانية من حين وقوعها
صحيحة، وعلى الوجه الثاني يدخل في مسألة من باع ثم ملك، لأن الفسخ من الحين
فالملك حاصل بعد الإجارة والإقالة، وعلى الثالث لا أثر للإجازة، لأن القدرة على
التسليم ليست بعنوانها شرطا لصحة المعاملة حتى يتوهم ثبوتها في ظرف العمل بل
من حيث رفع الغرر، ومع عدم احراز إمكان الحصول في ظرف العمل تكون المعاملة
131

غررية ولا ينقلب الفاسد صحيحا إلا أن يفرض أن الأجير يعلم بالإقالة بعد
الإجارة الثانية فلا غرر ولا خطر في وقت إيقاع المعاملة، ومن جميع ما ذكرنا تبين
عدم صحة الإجارة الثانية ولو مع الابراء أو الإقالة.
المورد الثاني: ما إذا كان أجيرا للخياطة في مدة معينة فآجر نفسه للخياطة أيضا في تلك المدة، وهي تتصور على وجهين:
أحدهما: ما إذا ملك المنفعة المملوكة للمستأجر الأول، ولا شبهة في كونها
فضولية تتوقف صحتها على الإجازة.
ثانيهما: ما إذا ملك الخياطة من دون تقييد بمملوكيتها للمستأجر الأول. أما على
ما قلنا من أن المنفعة هي تلك الحيثية الواحدة اللا متعينة فالمفروض صيرورتها ملكا
للمستأجر الأول وقيامه مقام المالك فلا حيثية أخرى حتى تملك ثانيا لا كالمنفعة
المضادة لها بحيث تكوم موجودة بل مملوكة وغير قابلة للتمليك، فتكون الإجارة
فضولية قهرا لعينية مورد الثانية مع مورد الأولى، فتقف على إجازة المستأجر الأول.
وأما على المسلك الآخر من كون الخياطة بالإضافة إلى أفرادها المقدرة الوجود
كالكلي في المعين، فالكلي في المعين قابل للتعدد. غاية الأمر أنه بعد تمليك الكلي
الخارجي لا يملك كليا آخر لا أنه لا كلي آخر، وإذا لم ترد الإجارة الثانية على مورد
الأولى، لعدم القصد على الفرض وعدم العينية القهرية، لتعدد الكلي الخارجي فلا
تقبل الإجازة من المستأجر الأول. نعم الإجازة المتضمنة للإقالة توجب إدراج المورد
تحت عنوان من آجر ثم ملك كمن باع ثم ملك. هذا حال تمليك المنفعة.
وأما إذا ملك كلي الخياطة المتعهد بها في الذمة في مدة معينة، فإن كان بنحو
الإشارة إلى مملوك المستأجر الأول فهي فضولية قطعا، وإن كان بالنظر إلى نفس
طبيعي الخياطة في الذمة فربما يتخيل لزوم ورود ملكيتين على طبيعة واحدة، وهو
من اجتماع المثلين فيستحيل ورود الملكية ثانيا بعد ورودها أولا على طبيعي
الخياطة، ويندفع بأن وحدة الطبيعة وحدة نوعية عمومية لا شخصية حتى لا تكون
قابلة لورود الأمثال والأضداد. نعم طبيعي الخياطة في المدة حيث إنها قابلة
132

لإضافات وتعينات توجب الإجارة صيرورتها حصصا بذلك، فلا محالة يكون
المملوك للمستأجر الأول حصة من طبيعة الخياطة ومورد الإجارة الثانية حصة
أخرى، وحيث إنها غير قابلة للتسليم بتسليم فردها في الخارج فلذا لا تنفذ الإجارة
الثانية لا أنها لا حصة أخرى أو أنها غير مملوكة للأجير، وإذا الكلي الذمي مطلقا غير
مملوك للمتعهد بل من حيث السلطنة على نفسه له السلطنة على التعهد بشئ في
ذمته، وحيث إن المانع عدم القدرة على التسليم فلا تجدي الإجازة المتضمنة للإقالة
أو الابراء، لما مر من أن المانع ليس عدم القدرة بعنوانها بل من حيث رفع الغرر
والمفروض العلم بعدم إمكان التسليم حال العقد.
المورد الثالث: ما إذا كان أجيرا لجميع منافعه بالمعنى المتقدم في المتقدمة، وقد
مر آنفا أن مورد الإجارة الثانية عين مورد الأولى بناء على ما سلكناه فيكون فضوليا،
لأنه على الفرض تمليك ما ملكه الغير، وبناء على كون مورد الإجارة الأولى هو
الكلي المضاف إلى مجموع المنافع بنحو الكلي في المعين كما تقدم لم يكن من
الفضولي، لامكان تعدد الكلي في المعين، وإنما لا تصح الإجارة الثانية لا لعدم
الكلي ولا لكونه مملوكا للغير بل لعدم القدرة على تسليم الكلي في المعين بتسليم فرده
بعد فرض صحة الإجارة الولي، وعليه فمقتضى ما ذكرناه صحة الإجارة الثانية
بإجازة المستأجر لأول لمكان العينية، ومقتضى ما ذكروه عدم صحة الإجارة الثانية
بالإجازة، لعدم العينية القهرية، ولا بالإقالة، لعدم انقلاب الفاسد صحيحا كما مر
توضيح كل ذلك.
وينبغي التنبيه على أمور: (الأول) بناء على تمليك جميع المنافع ومنها حيازة
المباح لا شبهة في أنه ليس للأجير أن يصير أجيرا للغير في الحيازة، وحكم الإجازة
من المستأجر قد تقدم، إنما الكلام في أن ما يحوزه الأجير يكون مملوكا بالإجارة
للمستأجر وإن حاز الأجير لنفسه أو لغير المستأجر أم لا؟ قد مر في بعض المباحث
السابقة أن الأجرة لا تقع إلا في قبال المنفعة والعمل لا في قبال العين، مضافا إلى أن عقد الإجارة يؤثر أثره من حين العقد فهو يملك الحيازة سواء حاز الأجير أم لا،
133

ولا معنى لأن يملك ما يحوزه مع أنه لا ثبوت له ولا تعين له إلا معلقا على تقدير
الحيازة خارجا، ومجموع ما يستند إليه في ملك ما يجوزه الأجير بنفس عقد الإجارة
أمور:
(منها) ما عن بعض الأعلام ممن قارب عصرنا من أن الحيازة كالخياطة، فكما
أن أثر الخياطة مملوك بملك الخياطة كذلك أثر الحيازة بعد جعل الشارع إياها سببا
مملوك بملك الحيازة، وكون الأثر تارة هيئة وأخرى عينا غير فارق، لأن منفعة كل
شئ بحسبه.
والجواب: إن أثر الخياطة هي الهيئة بل التعبير بالأثر مسامحة، لأن الخياطة
هي ايجاد الهيئة الخاصة والايجاد والوجود متحدان ذاتا مختلفان اعتبارا بخلاف
الحيازة، فإن أثرها بمقتضى سببيتها شرعا هو ملك ما يحوزه، والملك غير قابل لأن
يملك بالإجارة، ومن ملك السبب ملك المسبب بسببه لا بملك السبب، فإذا حاز
الأجير للمستأجر صار ما حازه ملكا للمستأجر بالحيازة لا بالإجارة، وإذا حاز لنفسه
أو لغير المستأجر لم يصدر منه السبب المملك للمستأجر، كما إذا استأجره لأن يبيع
ويشتري للمستأجر فإذا باع له ملك الثمن من حيث البيع لا من حيث الإجارة وإذا
باع لنفسه أو لغير المستأجر لم يصدر منه سبب مملك لشئ للمستأجر.
(ثانيها) ما يستفاد من الجواهر (1) من أن حيازة الأجير حيازة المستأجر ويده
على المباح يد المستأجر كما أن يد العبد على ما حازه يد مولاه، وليس ذلك إلا لأجل
إن منافعه وأعماله مملوكة لمولاه، وحينئذ فنية الخلاف من الأجير كنية التملك من
أحد بالنسبة إلى ما حازه غيره هذا.
والجواب (أولا) إن حقيقة الإجارة لا تقتضي إلا ملك الحيازة، فالحيازة
للمستأجر ملكا لا أنها له استنادا وانتسابا بحيث تكون اللام لام الصلة لا لام
الاختصاص الملكي، فلو قلنا بأن الحيازة سبب قهري لملكية ما يحوزه الأجير إلا أنه

(1) جواهر الكلام: ج 27، ص 267.
134

يكون لمن حاز كما هو مقتضى قوله: " من حاز ملك " لا أنه مملوك لمالك الحيازة
إلا مع صدق أنه حاز، وقد عرفت أن حقيقة الإجارة تقتضي الصدق والانتساب
بل ملك العمل فقط.
و (ثانيا) إن المملوك بالإجارة وإن كان الحيازة للمستأجر فيتضمن الاستنابة
في الحيازة إلا أن حقيقة ذلك ملك الحيازة له فيملك النيابة لا أنه محقق للنيابة،
فإذ لم يحز الأجير للمستأجر وحاز لنفسه مثلا فقد ترك النيابة المملوكة للمستأجر
كما إذا استنابه بالإجارة في البيع والاشتراء له وباع واشترى لغيره. نعم إن كانت
الإجارة مقتضية لكون الأجير حائزا عن المستأجر بحيث صار نائبا بالإجارة لا
صيرورة الأجير أجيرا على النيابة وقلنا بأن الحيازة سبب قهري للملك لا سبب
قصدي فلا محالة تكون حيازة الأجير حيازة المستأجر فيملك المستأجر ما حازه
الأجير. إلا أن كلا الأمرين محل الاشكال.
أما الأول: فلما مر من أن غاية ما يمكن من اقتضاء الإجارة ملك الحيازة
للمستأجر وهو معنى ملك النيابة لا تحقيق النيابة قهرا.
وأما الثاني: فلأن ما ينبغي أن يكون موردا للنظر والبحث اشتراط الحيازة
بقصد التملك في حصول الملكية بها. وأما نفس حقيقة الحيازة فتوقفها على كونها
لنفسه أو لغيره مما لا ينبغي الاشكال فيه، فإن الحيازة ليست مجرد الاستيلاء على
المباح ولو لغرض آخر غير احتوائه إياه لنفسه للانتفاع به أو لغيره كالاحياء
للموات، فإنه عمارة الموات بالبناء لأن يسكن فيه ونحوه، فالاستيلاء المحض ليس
حيازة بل الاستيلاء لأجل احتوائه للمباح للانتفاع به، وهذا لا محالة يكون إما
لنفسه أو لغيره، وهذا غير قصد التملك، فإنه لو استولى على المباح المباح ليحتويه وينتفع به
يكون حائزا له وإن لم يلتفت إلى أنه مملك له شرعا، فعدم اشتراط قصد التملك وكون
الحيازة سببا قهريا لملك أمر وتحقق الحيازة موضوعا من دون أن يكون لنفسه أو لغيره
أمر آخر، وأما قياس الأجير بالعبد فمدفوع بأن ما حازه العبد يكون مملوكا لمولاه لا من
حيث إن حيازته حيازة مولاه قهرا بل من حيث إن ما يملكه العبد لمولاه.
135

(ثالثها) ما يستفاد من بعض كلمات بعض الأعلام المتقدم ذكره من أن
الحيازة سبب شرعي قهري لملك مالك الحيازة كائنا من كان، وهنا هو المستأجر
دون الأجير الذي لا يملك الحيازة، وفيه أنه إن اعتبر في السبب هاتان الحيثيتان
حيثية المالكية وحيثية الحائزية فإن من حاز ملك دون غيره فلا تكون الحيازة سببا
لملك الأجير، لأنه غير مالك الحيازة ولا لملك المستأجر فإنه غير حائز، مضافا إلى أن
المراد بملك الحيازة ليست الملكية الشرعية التي هي أحد الاعتبارات، لبداهة أن
الحائز يملك إذا لم يكن أجيرا لأحد، وعمل الحر غير مملوك لنفسه بهذا المعنى من
الملك بل له السلطنة شرعا على التملك بأسبابه، فالمنفي عن الأجير هي السلطنة
اللازمة في تأثير حيازته دون الملكية التي هي منتفية على أي حال. فنقول السلطنة
الوضعية المعتبر فيها انتفاء أسباب الحجر كما مر مرارا موجودة، والسلطنة التكليفية
المساوقة للرخصة وإن كانت منتفية بفرض الحرمة المتعلقة بالسبب لكنها كما مر
مرارا لا تمنع عن التأثير خصوصا مثل هذه الحرمة المقدمية الناشئة عن مقدمية وجود
الضد لترك الضد. نعم لا سلطنة له على ايجار نفسه للغير، حيث لا قدرة له على
التسليم بعد فرض كونه أجيرا للغير.
(الثاني) قد عرفت حال ما إذا آجر نفسه لكلي عمل خاص في مدة مخصوصة
بنفسه وأنه لا تصح الإجارة الثانية من حيث عدم القدرة على تسليمه بتسليم فرده،
وأما إذا آجر نفسه لكلي عمل خاص بشرط أن يأتي به في مدة مخصوصة فالمعروف
فيه ثبوت الخيار من ناحية التخلف عن الشرط، وتوضيح القول فيه أنه إذا عمل
لنفسه أو لغيره تبرعا كان التخلف دائرا مدار عمله، وأما إذا آجر نفسه للغير فتارة
يؤجر نفسه بتمليك منفعته الخاصة في تلك المدة وأخرى يؤجر نفسه بالتعهد بالعمل
الخاص مع الالتزام باتيانه في تلك المدة المخصوصة.
فإن كان من قبيل الأول فإن قلنا بصحة الإجارة من حيث عدم المحذور
المتوهم من منافاته لحق الشرط فالتخلف لا يدور مدار العمل للمستأجر الثاني، لأن
فرض صحة الإجارة الثانية ولزومها فرض عدم التمكن من الوفاء بالشرط المفروض
136

في الإجارة الأولى بحيث لو أراد الوفاء لم يتمكن منه، لفرض كون المنفعة الخاصة في
المدة المخصوصة ملكا للمستأجر الثاني، فيستحيل انطباق الكلي المتعهد به للمستأجر
الأول عليها، فقد تعذر الشرط بمجرد الإجارة الثانية لا أنه يتخلف عن الشرط بعلمه
للغير.
وإن كان من قبيل الثاني فالإجارتان والشرطان على نسبة واحدة فلا يتحقق
التخلف إلا بالعمل فإذا عمل للأول فقد تخلف عما اشترطه للثاني وإن عمل للثاني
فقد تخلف عما اشترطه للأول، وأما الجعالة على العمل الخاص في تلك المدة فحالها
حال التبرع من حيث دوران التخلف مدار العمل، إذ ليس في الجعالة استحقاق
العمل من الأول ولا استحقاق الأجرة قبل العمل، فلا تخلف عن الشرط بمجرد
انشاء الجعالة فضلا عن تخلف الشرط وتعذره، فجعل الإجارة والجعالة على نسق
واحد في تخلف الشرط كما عن بعض الأعلام " رحمه الله " بلا وجه إلا بإرادة
الإجارة على الوجه الثاني وإرادة التخلف عن الشرط من تخلف الشرط والله أعلم.
(الثالث) إذا عمل الأجير في تمام المدة المعينة لنفسه أو لغير المستأجر بإجارة أو
جعالة مع عدم لحوق الإجازة أو عدم قبول المورد للإجازة فهل المضمون للمستأجر
الأجرة المسماة لانفساخ العقد أو أجرة المثل للاتلاف أو يتخير المستأجر بين مطالبة
المسمى وأجرة المثل؟ وجوه:
أما وجه الأول فصدق التلف سواء كان السبب قهريا أم اختياريا ومقابلة
التلف للاتلاف مفهوما لا تنافي مساوقتهما وجودا وصدقا، وتؤيده رواية عقبة بن
خالد (1) المتكفلة لحكم الانفساخ بسرقة المتاع، فإنه يستفاد منها عموم التلف
للحقيقي والعرفي، وشموله للقهري والاختياري بعد عدم الفرق بين اتلاف البايع
والأجنبي.
وأما وجه الثاني فقصور دليل الانفساخ من حيث شموله للاتلاف، ومع

(1) الوسائل: ج 12، باب 10، من أبواب الخيار، ح 1، ص 358.
137

الشك فمقتضى أصالة بقاء العقد وأصالة بقاء المبيع مثلا على ملك المشتري ورود
الاتلاف على مال الغير وحكمه ضمان البدل الواقعي.
وأما وجه الثالث فأمران: (أحدهما) صدق التلف بالمعنى الأعم وصدق
الاتلاف، وحيث إن مقتضاهما متنافيان فلا يمكن اعمالهما، ولا موجب لاهمالهما،
ولا معين لأحدهما، فلا محالة يتخير بين مطالبة المسمى والبدل الواقعي، وقد ذكرنا
ما فيه في تعاليقنا على كتاب الخيارات للشيخ العلامة الأنصاري " قدس سره "،
وبينا أن موضوع الحكم بالانفساخ تلف المبيع وموضوع ضمان الغرامة اتلاف مال
الغير، ومع تأثير التلف المحقق موضوعه لا يكون التالف مال الغير ليعمه " من أتلف
مال الغير " والحكم لا يكون حافظا لموضوعه بل مرتب عليه، فمانعية السبب لضمان
الغرامة دورية لتوقف موضوعه على عدم تأثير التلف، دون مانعية سبب الانفساخ،
لفعلية موضوعه مع ورود التلف والاتلاف لأنه المبيع، وبقية الكلام في محله.
(ثانيهما) ما قواه العلامة الأنصاري من أن تعذر التسليم يوجب الخيار، فإذا
فسخ العقد رجع إليه المسمى وإلا كان الاتلاف واردا على ماله فله تضمين المتلف
بالبدل، فهو مخير بين أعمال سبب رجوع المسمى واعمال سبب ضمان الغرامة، وقد
بينا في محله أن التعذر الموجب للخيار ما لا يكون ملحقا بالتلف من حيث امتناعه
عادة وإلا فهو موجب للانفساخ دون الخيار، وعليه فالاتلاف الحقيقي كما هو
المفروض وإن لم يندرج تحت عنوان التلف الموجب للانفساخ إلا أنه لا يكون موجبا
للخيار أيضا، وتوهم أنه آكد من ضرر التعذر الممكن زواله مدفوع بأن ما لا يمتنع
زواله حيث إنه لا يندرج تحت عنوان التلف ولا تحت عنوان الاتلاف فلا محالة هو
ضرر مالي يجب جبره بالخيار، دون التعذر بالتلف المجبور بالانفساخ، ودون التعذر
بالاتلاف المنجبر بضمان الغرامة، ومنه يتضح أنه لا مقتضي للخيار هنا، لأن
الخيار إن كان لجبر الضرر المالي فمالية المال محفوظة بضمان الغرامة وإن كان الجبر
الضرر الحالي ونقض الغرض المعاملي فهو لا يكاد ينجبر بالخيار، لامتناع الوصول إلى
هذا الغرض مع الاتلاف، لفرض فوات المدة الخاصة بالعمل فيها لغير المستأجر،
138

وعليه فالوجه الثاني أقوى الوجوه.
(الرابع) إذا عمل للغير أو لنفسه في بعض المدة قبل أن يعمل للمستأجر الأول
شيئا فحكم المنفعة التي أتلفها على المستأجر من الانفساخ أو ضمان البدل أو
التخيير بين إعمال خيار التعذر وإعمال سبب الغرامة ما تقدم آنفا، حيث لا فرق
بين اتلاف تمام المنفعة أو بعضها، لوضوح شمول مدارك الوجوه الثلاثة للكل
والبعض إنما الكلام في أنه للمستأجر خيار الفسخ في الجميع أو أنه يختص بما أتلفه
الأجير على المستأجر وأنه له الخيار في خصوص الباقي أم لا؟
فنقول: إن كان له خيار في الجميع فهو بملاك التبعض، والتبعض تارة بلحاظ
الملك وأخرى بلحاظ الانتفاع، ففي العقد على ما يملك وما لا يملك حيث إن
الغرض تعلق بملك المجموع فملك البعض مناف لغرضه المعاملي فله الخيار، وفي مورد
تعذر التسليم لم يتخلف الملك بل التخلف راجع إلى الغرض من التملك وهو
الانتفاع به، ففيما نحن فيه لا مجال لخيار التبعض بالملاك الأول إلا على القول
بانفساخ العقد باتلاف البعض، فإنه يتبعض الملك فيتحقق ملاك الخيار على
الوجه الأول.
وأما مع أعمال خيار التعذر فيما أتلفه فيتبعض الملك في الباقي ففيه إن ضرر
التبعض من ناحية اقدامه لا كالانفساخ بحكم الشارع، وأما أعمال الخيار بالملاك
الثاني في الجميع فلا مانع منه من دون ملاحظة إعمال خيار التعذر،
لأن المفروض أن الغرض كما تعلق بملك المجموع كذلك تعلق بالانتفاع بالجموع فله
دفع تبعض الانتفاع الذي هو مناف لغرضه بفسخ العقد رأسا، وأما فسخه في
خصوص الماضي أو في خصوص الباقي فكلاهما مساوق للتبعض، فلا يعقل دفع
التبعض بما يستلزم التبعض، فإنه نظير ما يلزم من وجوده عدمه.
ومن جميع ما ذكرنا تبين أن أعمال الخيار في خصوص الماضي صحيح بملاك
التعذر على القول به واعمال الخيار بملاك التبعض غير جار على أحد الملاكين وجار
على الوجه الآخر لكنه في الجميع لا في البعض من دون فرق بين الماضي والباقي،
139

وحيث إنك قد عرفت في الأمر السابق عدم جريان خيار التعذر في الاتلاف
فالصحيح أنه له خيار التبعض في المجموع، فإن فسخ رجع بالمسمى وإلا فله أجرة
المثل في الماضي واستيفاء الباقي.
(الخامس) إذا سلم الأجير نفسه للمستأجر الأول وعمل له في بعض المدة
الخاصة ثم آجر نفسه لغيره وعمل له باقي المدة فجريان الوجوه المتقدمة حتى خيار
التبعض مبني على حصول القبض الذي معه الانفساخ بالتلف أو الاتلاف وعدمه،
فإن قلنا بحصوله فلا موجب للانفساخ بالعمل في بقية المدة للغير، فإنه من التلف
بعد القبض، ولا موجب لخيار التعذر، لأنه من التعذر على المالك بعد التسليم لا من
تعذر التسليم ولا موجب لخيار التبعض، لأن المفروض أنه بتسلمه نفسه سلم جميع
منافعه لا بعضها دون بعض ليكون له خيار التبعض، وإن قلنا بعدم حصول القبض
المعتبر فلا محالة يكون حال هذه المسألة وسابقتها على نسق واحد.
فنقول: في تحقيق المبنى أن العمل على قسمين: فتارة يقوم بالعمل من دون
تقومه بوجه بالمستأجر كالا جارة لنيابة الصلاة، فإنه غير استيفائية للمستأجر
فتسليمها بايجادها فقط، ولا معنى لكون تسليم نفسه مقدمة للعمل. وأخرى مع
قيامه بالعامل يتقوم باستيفاء المستأجر كما إذا صار أجيرا ليحمل المستأجر من
مكان إلى مكان، فإن الحمل متقوم باستيفاء المستأجر فيتصور كون تسليم نفسه
للمستأجر مقدمة لايجاد المنفعة وتسليمها إلى المستأجر، فحكمه في تسليم منفعته
بتسليم نفسه كحكم تسليم منفعة الدابة بتسليمها.
أما الأول: فتسليم العمل حيث إنه بايجاده في بعض المدة فلا محالة يكون
التسليم مساوقا للايجاد، فمع إيجاده في بقية المدة للغير يكون متمحضا في الاتلاف
وعدم التسليم ولو تبعا، فتجري فيه الوجوه المقدمة كلا.
وأما الثاني: فتسليم المنفعة وإن كان تابع لتسليم العين إلا أن المعتبر في التسليم
المترتب عليه الآثار تسليم العوضين دون غيرهما، وتسليم العين في البيع دفعي، وأما
في الإجارة فتسليم المنفعة تدريجي لتدريجيتها، فتسليم العين في كل زمان تسليم لمنفعتها
140

فيه، فلا بد من ابقاء العين تحت يد المستأجر حتى يكون تسليما للمنفعة في تمام
المدة. ولا فرق فيما ذكرنا بين ما إذا أريد من المنفعة تلك الحيثية القائمة بالعين أو
الموجود بالفعل المتجدد بالزمان، لوضوح أن كل فعلية تكون فعلية ما بالقوة فيتعدد
ما بالقوة بتعدد ما بالفعل، وأما إذا أريد منها ما يقدر وجوده عرفا فتعدد الأفراد
المقدرة بتعدد ما بالفعل، وأما إذا أريد منها ما يقدر وجوده عرفا فتعدد الأفراد المقدرة
بتعدد أبعاض المدة واضح.
(فإن قلت): إذا كان مدار التسليم على مجرد عدم المانع من قبل من يجب عليه
التسليم فلازمه أنه لو حبسه ظالم بعد العقد أن لا ينفسخ العقد مع أنه ينفسخ
بالحبس والغصب من أول الأمر، وإن كان المدار على فعلية الاستيلاء لا مجرد عدم
المانع فلازمه أن ينفسخ العقد إذا حبسه ظالم أو غصب العين ظالم ولو بعد القبض
والتسليم مدة، لأن تسليم المنفعة في هذا الزمان بتسليم العين والمفروض عدمه.
(قلت): المدار على فعلية الاستيلاء، فلا استيلاء حدوثا مع حبس الظالم ولو لم
يكن منع من قبل البايع مثلا، فإن مجرد عدم المانع عن شئ لا يكفي في وجوده إلا أنه بعد وجوده بوجود علته التامة فهو مما يبقي مع عدم الرافع، فالاستيلاء المحقق لم
يرتفع بمنع من قبل البايع بل من قبل الظالم. إذا عرفت ما بيناه من المبنى تعرف
جريان جميع الوجوه المتقدمة في هذه المسألة أيضا.
وقد عرفت أنه للمستأجر خيار التبعض في الكل لا في خصوص الماضي ولا في
خصوص الباقي، لمنافاته لنفي التبعض ودفعه بأعمال خيار التبعض. وما في الجواهر
من الاشكال بل تقوية العدم في الباقي بلا مخصص (1)، وما في كلامه من أنه
كالتبعيض في البيع (2) يقتضي عدم جريان خيار التبعيض في المتعذر وغيره. إلا
أن يريد " رحمه الله " أعمال الخيار في الباقي وهو المتعذر في هذه المسألة بملاك التعذر
لا بملاك التبعض المتساوي النسبة إلى الطرفين، وحينئذ فتقوية العدم منه

(1) جواهر الكلام: ج 27، ص 268.
(2) جواهر الكلام: ج 27، ص 268.
141

" رحمه الله " لما تقدم منه في كتاب البيع من أن مثل هذا التعذر الموجب لامتناع
التسلم لا يوجب الخيار بل يترتب عليه الضمان، وهو وجيه كما قدمناه إلا أن
تعبيره بقوله كما في التبعيض في البيع يوهم إرادة خيار التبعض مع أن مورد كلامه
أيضا خيار التبعض.
(فإن قلت): كما لا مجال لخيار التعذر المساوق للامتناع، لعدم امكان تدارك
هذا الضرر من حيث نقض الغرض المعاملي كذلك لا مجال لخيار التبعض، لأن
الغرض المعاملي وهو الانتفاع بالمجموع لا يتدارك بالخيار حيث لا يصل إلى هذا
الغرض بالفسخ.
(قلت): الضرر المتدارك هنا بالخيار هو قصر الانتفاع على البعض وهو مناف
لغرضه، وبالفسخ يتخلص عن هذا المنافي نظير ضرر امساك المعيب، فالخيار لدفع
هذا الضرر لا للوصول إلى الصحيح.
(السادس) بعد ما عرفت من أن المستأجر الأول تارة له مطالبة المسمى في
الإجارة الثانية وأخرى له مطالبة أجرة المثل فيقع البحث في أن المطالب بالأجرة
هل هو خصوص الأجير أو خصوص المستأجر الثاني أو يتخير بين مطالبة من شاء
منهما؟ فالكلام حينئذ في موردين:
أحدهما: في مورد مطالبة المسمى وهو ما إذا أجاز العقد الثاني، فنقول: إذا
أجاز العقد الثاني وفرض قبض الأجير للأجرة فأما أن يجيز القبض أيضا. وأما أن لا
يجيز، والأجرة تارة شخصية وأخرى كلية. فإن كانت الأجرة شخصية مقبوضة
للأجير وفرض إجازة القبض. كان المطالب بها خصوص الأجير، لأن المال بيده دون
المستأجر، حيث لا مال عنده ولا عهدته عليه، لأن المفروض إجازة القبض الموجب
لخروجه عن ضمان المعاوضة، وإذا فرض عدم إجازة القبض فله مطالبة كل منهما،
أما الأجير فلأن المال بيده و " الناس مسلطون على أموالهم " (1)، وأما المستأجر

(1) عوالي اللئالي: ج 1، ص 222، ح 99.
142

فلأن عهدة التسليم المعاوضي عليه فلا يخرج عنها إلا بالتسليم إلى المالك أو إلى من
إذن له أو أجازه، فكل من الأجير والمستأجر الثاني مطالب بالمسمى كل واحد
بملاك خاص، وإن كانت الأجرة كلية مقبوضة بقبض فردها فمع إجازة القبض
تتعين مطالبة الأجير، لما مر، ومع عدم الإجازة تتعين مطالبة الأجير، لأن ما بيد
الأجير مال المستأجر الثاني دون الأول كالفرض الأول، فتكون الأجرة باقية على
ذمة المستأجر الثاني فلا تخيير هنا أصلا.
نعم هنا شئ آخر وهو قبول القبض للإجازة، ولا يخفى أن الإجازة محققة
لانتساب القبض المجاز إلى المجيز فيترتب عليه ما يترتب على قبض المالك لماله. وما
أشكله الشيخ الأعظم " قدس سره " في كتاب البيع مبني على جعل الإجازة كاشفة
أو ناقلة، فلذا جعل مرجع الإجازة في قبض الثمن الشخصي إلى اسقاط عهدة
المشتري واستشكل في الكلي حيث إنه لا تلف له ليكون له ضمان المعاوضة فليس
فيه إلا تطبيق الكلي على فرده (1)، وذكرنا هناك أن ضمان المعاوضة وهو الانفساخ
بالتلف شرعا قبل القبض حكم لاحق حتى يقبل الاسقاط، والتحقيق أن إجازة
القبض خارجة عن مقسم الكشف والنقل، حيث لا مسبب شرعي يكون القبض
سببا له شرعا حتى يتصور فيه الكشف والنقل، بل أما موضوع له حكم شرعي
كقبض المبيع أو الثمن الشخصي وأما موضوع خارجي واقعي وهو انطباق الكلي على
فرده، فلا شأن لإجازة القبض إلا تحقيق الانتساب إلى المجيز، فيتحقق به موضوع
الحكم الشرعي أو يتعين به الكلي، ولو نوقش في تحقق الانتساب للأمر المتقدم بما به
الانتساب المتأخر، ولذا جعلت الإجازة كشفا ونقلا على خلاف القاعدة لكان مع
بقاء القبض إلى حال الإجازة من الرضا بأمر مقارن لا بأمر متقدم حتى يندرج
تحت عنوان الكشف والنقل، وبقية الكلام في محله فراجع.
ثانيهما: في مورد مطالبة أجرة المثل وفيه وجوه ثلاثة مطالبة الأجير، لأنه

(1) المكاسب: ص 136.
143

المتلف، ومطالبة المستأجر الثاني، لأنه المستوفي للمنفعة المملوكة للمستأجر الأول
على الفرض، والتخيير بين مطالبة كل منهما لوجود السبب من الاتلاف
والاستيفاء مع وحدة البدل لمبدل واحد وعدم المعين لأحد الطرفين. وربما يدعى
تعين مطالبة المستأجر دون الأجير، لأن العامل غير متلف بل مسلم للعمل إلى
المستأجر الثاني نظير تسليم المبيع إلى غير المشتري، فإنه ليس من التلف والاتلاف
بل من التعذر الموجوب للخيار.
توضيحه: أن فعل الخياطة عن إيجادها في الخارج، وكونها متصرمة لتدريجيتها
لا يكون إعداما وإهلاكا وإتلافا لها بل الأخذ والترك والوجود والعدم وهكذا من
مقومات طبيعة الحركات والمتحركات، والعدم البديل لمثل هذا الوجود هو العدم
المطلق، وإعدام المنفعة رأسا إما باعدام العين المتحيثة بتلك الحيثية أو بابقاء عدم
الحيثية من حيث الفعلية على حالها بترك الخياطة مثلا رأسا، والأول إعدام تبعي
والثاني إعدام استقلالي، وكما أن الخياطة للمستأجر الثاني ليست مصداقا للاتلاف
المساوق للاهلاك والاعدام كذلك ليست مصداقا للتفويت، فإن التفويت هو
المنع من الوجود، وفعل الخياطة المملوكة بعينها للمستأجر الأول إيجاد لها في ثوب
المستأجر الثاني فكيف يعقل أن يكون دفعا للوجود، والواحد لا يكون مصداقا
للايجاد والاعدام بالنسبة إلى شخصين وباعتبارين، إذ المفروض أن هذه المنفعة
الفعلية فعلية تلك الحيثية وهي بعينها مملوكة للمستأجر الأول لا كلي العمل حتى
يقال إنه لم يتعين في فرد للمستأجر الأول وتعين في فرد للمستأجر الثاني فهو تفويت
لذلك الكلي حيث إنه غير قابل بعد التعين في فرد أن يتعين في فرد آخر لعدم قابلية
الزمان لوجود فردين منه فتدبر.
والجواب: أن الاتلاف أعم من الاعدام كما يظهر من رواية عقبة بن
خالد (1) في التلف قبل القبض، حيث جعلت السرقة منه مع أنه لا عدم ولا

(1) الوسائل: ج 12، باب 10، من أبواب الخيار، ح 1، ص 358.
144

إعدام، وحيث إن إيجاد الخياطة في ثوب المستأجر الثاني يستحيل انقلابها في تلك
المدة بايجادها في ثوب المستأجر الأول مثلا كانت الخياطة ممتنعة الايصال إلى
المستأجر الأول، ومثله كما قدمنا ليس له خيار التعذر، بل القهري منه من التلف
الموجب للانفساخ، والاختياري منه من الاتلاف الموجب للغرامة، فالتشكيك في
كون الأجير متلفا في غير محله، وأما ما نقلناه في وجه مطالبة المستأجر الثاني من
استيفائه للمنفعة فتوضيح القول فيه: إن الاستيفاء كلية تارة يساوق إيجاد المنفعة
باخراجها من القوة إلى الفعلية كما إذا سكن الدار أو ركب الدابة، فإن الساكن أو
الراكب هو المخرج لمنفعة الدار أو الدابة من القوة إلى الفعل وهو المنتفع بها، وأخرى
ينفك أحدهما عن الآخر كما إذا حمل الأجير المستأجر، فإن مخرج هذه المنفعة من
القوة إلى الفعلية هو الحامل والمنتفع بها هو المحمول، فإن أريد من الاستيفاء ما
يساوق الايجاد ففي مثل الاستيجار للعمل لا إيجاد من المعمول له بل من العامل،
وإن أريد من الاستيفاء مجرد الانتفاع بعمل الغير فهو بمجرده لا يوجب الضمان،
لأن سبب الضمان أما اليد أو الاتلاف وليس شئ منهما هنا. نعم حرمة عمل المسلم
تقتضي الضمان عند المشهور كما تقدم الكلام فيها، فيراد من الاستيفاء حينئذ
تسلم عمل الغير دون مجرد الانتفاع بمال الغير، وأما التضمين بملاحظة وجود أثر
العمل عنده كهيئة الخياطة والكتابة ونحوهما.
ففيه (أولا) أنه أخص من المدعى إذ ليس كل عمل تتعقبه هيئة.
(وثانيا) ما تقدم في البحث عن تسليم المستأجر عليه من أن المملوك بالإجارة
نفس العمل، فإنه الذي تقع بإزائه الأجرة دون الصفات والهيئات، فلا تكون
مملوكة للمستأجر بالإجارة.
(وثالثا) أن الهيئة الموجودة إذا كانت مملوكة للمستأجر الأول كالعمل فلا
معنى للضمان الغرامي بل ينبغي القول بالشركة، ومع فرض تلفها بايجادها في ثوب
المستأجر الثاني بالمتلف لها هو الأجير.
والتحقيق: أن المورد من جزئيات المسألة المتقدمة وهي أن كل مورد يبطل فيه
145

عقد الإجارة كانت المنفعة مضمونة بأجرة المثل، وقد مر هناك أن ضمان الأعمال
يدور مدار اليد والاتلاف بل لدليل احترام عمل المسلم وأنه لا يذهب هدرا،
غاية الأمر أنه لا بد من أن يكون للعمل مساس بالضامن بحيث يكون ترك أداء
بدله هتكا لحرمته، وتسلم العمل واستيفاؤه الذي يكون في غير المقام مفروغ عنه
هنا، فلا ينبغي الاشكال في ضمان المستأجر الثاني للأول على هذا المبنى المعروف.
فما نسبه بعض الأعلام إلى الأكثر من ضمان الأجير والمستأجر الثاني بمعنى تخيير
المستأجر الأول بين مطالبة من شاء منهما في محله، وتعين أحدهما لبعض ما مر بلا
وجه.
بقي هنا أمران: (أحدهما) أنه بعد تدارك الأجير لما أتلفه على المستأجر الأول
هل تصح إجارته الثانية بتخيل اندراجها تحت عنوان " من باع ثم ملك " على القول
به هناك أو لا؟ ومختصر القول فيه إن ما نحن فيه إنما يندرج في تلك المسألة إذا آجر
ثانيا ثم انحلت الإجارة الأولى بإقالة ونحوها قبل العمل.
وأما بعد العمل ومضي المدة فلا، لعدم المقتضي ولوجود المانع، أما عدم
المقتضي فلأن المقتضي لعود الملك هو حل العقد والمفروض هنا عدمه، وتدارك
المالية لا يوجب الملكية بوجه، وأما وجود المانع فلأن المنفعة الفائتة لا يعقل تملكها
وتمليكها، ولا تقاس بكلي المنفعة حيث إنها معدومة، وذلك لأن المنفعة الآتية
قابلة لتقدير الوجود عرفا، والحيثية القائمة بالعين فعلية فيقبل ملك المنفعة بكلا
الاعتبارين، بخلاف المنفعة المتقدمة المتصرمة، فإن تقدير وجودها في ظرف عدمها
المستحيل انقلابه إلى النقيض لغو، كما أن بقاء تلك الحيثية بالقوة مع استحالة
الفعلية محال، فلا معنى لأن يملك المنفعة الفائتة بوجه.
وأما بنحو الكشف حتى تكون المنفعة المتقدمة مملوكة في ظرف وجودها وصدور
العقد فلا مصحح له هنا فإنه شأن الإجازة وإمضاء العقد من حين صدوره،
وتدارك المالية ليس له هذا الشأن حتى يكون كاشفا عن الملك حال صدور العقد،
ومما ذكرنا تبين أنه لو فسخ المستأجر الأول عقد نفسه بعد عمل الأجير للغير لما كان
146

مجديا في صحة الإجارة الثانية.
(ثانيهما) أنه للأجير بعد أداء أجرة المثل للمستأجر الأول الرجوع بها إلى
المستأجر الثاني أو لا؟
فنقول: إن استحقاق الرجوع لأحد أمرين (الأول) صيرورة الأجير بعد دفع
البدل مالكا للمبدل ولو للمعاوضة القهرية شرعا، لئلا يلزم الجمع بين البدل والمبدل
في مالك المبدل، فيكون الأجير قائما مقام المستأجر الأول. ويندفع بأن التضمين في
باب الاتلاف واليد بعنوان التغريم لا بعنوان التعويض شرعا، مع ما مر من أن
المبدل وهو العمل لتصرمه وفواته غير قابل للملك، ولا يقاس بالمكسور، من الشئ
أو الخل المنقلب خمرا، حيث يمكن حق الاختصاص بالموجود لا بالمعدوم، واعتبار
ملك التالف مقدمة لملك بدله في الذمة جزاف، ولا يلزم الجمع بين العوض
والمعوض هنا، إذ التالف غير باق على ملك مالكه حتى يلزم محذور الجمع بل بتلفه
أو إتلافه تشتغل الذمة بدله فيتبدل الملك الخارجي بخروجه عن قابلية الملكية إلى
الملك الذمي.
(الثاني) استقرار الضمان على المستأجر الثاني، فللأجير الرجوع إليه وليس له
الرجوع إلى الأجير كما ذكروا نظيره في باب تعاقب الأيدي من الرجوع للسابق إلى
اللاحق، فإن الملاك كون المال مضمونا ببدله صار مضمونا للاحق ولا لا حق له
حتى يرجع إليه لفرض استقرار الضمان بالتلف عنده. إلا أن هذا المعنى بعد فرض
صحة أصله مخدوش هنا، إذ ليست المنفعة مضمونة على الأجير قبلا إلا بضمان
المعاوضة، ويستحيل أن تكون يده يد ضمان الغرامة، لأن فرض الضمان بالبدل
إذا تلف لا يجامع الانفساخ إذا تلف، وعليه فلا ضمان على الأجير إلا باتلافه الذي
حقيقته هنا جعل المنفعة ممتنعة الوصول إلى مالكها بتسليمها إلى المستأجر الثاني،
وتسليمها وتسلمها متضايفان لا تقدم للأول على الثاني حتى يتوهم انتقال المنفعة
المضمونة إلى المستأجر الثاني، فهو نظير ما إذا وضعت يدان على المال دفعة واحدة ثم
تلف، فإن الضمان بالقوة وبالفعل إلى كليهما متساوي النسبة فلا رجوع لأحدهما
147

إلى الآخر هذا إذا لو حظ العمل المستأجر عليه، وأما إذا لوحظ أثره فيما كان له أثر
حاصل في ملك المستأجر الثاني فعلى فرض اعتباره موجودا يكون للمستأجر الأول
دون الأجير، وعلى فرض اعتباره تالفا لامتناع وصوله إلى مالكه فهو تالف عند
المستأجر الثاني باتلاف الأجير، والاتلاف والتلف كالايجاد والوجود متحدان
بالذات لا تعدد بينهما ولا تقدم ولا تأخر، فلا مقتضي لاستقرار الضمان على
المستأجر الثاني بالخصوص حتى يرجع إليه الأجير، وعليه فعدم استحقاق الأجير
للرجوع قوي جدا فتدبر جيدا.
(السابع) إذا عمل الأجير تبرعا لغير المستأجر، فتارة يبحث فيه عن رجوع
المستأجر إلى الأجير والمتبرع له، وأخرى في رجوع المتبرع له على الأجير إذا رجع إليه
المستأجر، وثالثة في رجوع المتبرع إلى المتبرع له إذا رجع إليه المستأجر.
أما الأول: فالوجه في الرجوع إلى الأجير ما تقدم من أنه متلف بذلك المعنى
المتقدم الذي لا ينافي تسليم العمل إلى الغير، وأما الرجوع إلى المتبرع له فإن كان
مدرك الضمان قاعدة " ما يضمن بصحيحة يضمن بفاسده " (1) فلا ضمان، حيث
إنه ليس في صحيح التبرع ضمان، وبعبارة أخرى ليس هناك عقد معاوضي حتى
يكون فاسده كصحيحه موجبا للضمان، ومنه يعلم أن المدرك إن كان قاعدة
الاقدام فلا ضمان أيضا، حيث لا إقدام من المتبرع له على بذل العوض في قبال
العمل لفرض المجانية. وأما بناء على ما هو التحقيق من عدم العبرة بالقاعدتين بل
باليد والاتلاف والاحترام فلا ينبغي التوقف في ضمان التبرع له، لأنه تسلم مال
الغير، والمفروض أن مال المسلم محترم لا يذهب هدرا، فلا فرق في موجب الضمان
هنا بين سبق عقد الإجارة الفاسدة وعدمه.
وأما الثاني: وهو رجوع المتبرع له على الأجير فمدركه قاعدة الغرور، فالأجير
والمتبرع له وإن تساويا في موجب الضمان للمستأجر كما مر من دون سبق ولحوق

(1) الروضة البهية: ج 3، ص 264 و 265.
148

إلا أن الغرور كما هو مقتضى طبع المسألة هو الموجب لاستقرار الضمان عليه، نعم
إن فرض علم المتبرع له بأن العمل مملوك للغير لم يكن له رجوع إلى الأجير لعدم
الغرور.
وأما الثالث: وهو رجوع الأجير إلى المتبرع له بملاحظة تسليم العمل له وعدم
كون العمل مملوكا له حتى يكون تبرعه هتكا لحرمة عمله فهو وجيه إلا أنك قد
عرفت آنفا قوة عدم رجوع الأجير إلى المستأجر الثاني فضلا عن المتبرع له، فلا
موجب لرجوع الأجير إلا إذا فرض تغرير من المتبرع له بالنسبة إلى الأجير كما إذا
أغفله عن أن هذا اليوم هو اليوم الخاص بالعمل المستأجر عليه، فيستقر الضمان على
المتبرع له بتغريره لا بالتلف عنده.
(الثامن) جمع ما ذكرناه من أول مسألة الأجير الخاص إلى هنا فيما كان العمل
المستأجر عليه أو المتبرع به منافيا للإجارة الخاصة. وأما ما لا ينافي فهو بطبعه لا
مانع منه، إنما الكلام فيما إذا كانت جميع منافعه مملوكة للمستأجر مع خروج أفعاله
العادية قطعا عن مورد الإجارة، فإنه ربما يقع البحث في بعض أفعاله من حيث
اندراجه في تلك المنافع المملوكة وعدمه كاجراء صيغة عقد أو ايقاع فقط للغير،
لقضاء العادة بخروج مثل هذه الأعمال الجزئية عن المنافع المقصودة، أو لفحوى
خروجه بالنسبة إلى أعماله العادية، لعدم منافاته لحقوق الغير، أو أن الأجير الخاص
بهذا الوجه كالعبد المملوك جميع منافعه لمولاه، ولا يبعد جريان العادة على خروج
مثل اجراء الصيغة التي هي كالتحية العادية لأحد وكالتكلم مع الغير أو كالذكر
وتلاوة القرآن عن ظهر القلب وأشباهه، ولا يقاس بالعبد، لأن المانع في العبد ليس
مملوكية منافعه بل لكون قدرته مضمحلة في جنب قدرة مولاه واندكاك سلطانه في
سلطان سيده فلا يتمشى منه شئ إلا بإذنه، مع أن مثل هذه الأفعال الجزئية من
العادية والعقدية في العبد أيضا كذلك، إذ الظاهر من اضمحلال قدرته في قدرة
سيده بقوله تعالى: " لا يقدر على شئ " (1) كون مورده من الأمور المهمة التي ينبغي

(1) النحل: 75.
149

فيها الصدور والورود بإذن مولاه كالاستقلال في البيع والشراء والنكاح والطلاق
بالحمل الشائع لا مجرد إجراء الصيغة التي لا تزيد على التحية والدعاء ونحوهما.
المبحث الثالث: في حكم الأجير العام والمشترك المفسر في بعض الأخبار بأنه
الذي يعمل لي ولك، والجامع بين أفراده من كان فاقدا لبعض ما يعتبر في الأجير
الخاص أو لكله من تعيين المدة الخاصة والمباشرة، فإذا سقطت المباشرة أو ألغيت
المدة المخصوصة أو هما معا كان الأجير عاما ومشتركا، وطبع المسألة يقتضي عدم
تنافي العملين إما لاتساع الزمان أو لعدم المباشرة، فيمكن إيجاد أحدهما بالمباشرة
والآخر بالتسبيب في زمان واحد، لكنه ربما يتخيل التعجيل بوجه بحيث يتنافيان
بالتبع.
وملخص القول في تحرير الموضوع: إن مقتضى مقابلة الأجير العام للأجير
الخاص عدم تقيد العمل بمدة خاصة وزمان مخصوص ولو من ناحية انصراف العقد
إلى إيجاد العمل متصلا بزمان العقد كما يدعى في ما إذا كان له مدة خاصة
كمنفعة الدار سنة حيث لم يعين مبدؤها، فإن الانصراف كالقرينة على تعيين المدة،
ولا فرق في الأجير الخاص بتفاوت الدوال في مقام الاثبات، وعليه فلا تعيين للمدة
في الأجير العام من ناحية العقد من حيث مدلوله المطابقي بخلاف الأجير الخاص،
وحينئذ فاستفادة التعجيل من ناحية أمر آخر كما سيتضح إن شاء الله تعالى. وما
قيل في لزوم كون العمل معجلا أمران.
أحدهما: ما عن الشهيد " قدس سره " من اقتضاء الاطلاق في العقود
التعجيل (1)، ومرجعه كما أشرنا في أوائل أحكام الأجرة، أن شأن البيع تمليك
العين بعوض ومن لوزام الملك وأحكامه سلطنة المالك على ماله، فله السلطنة على
مطالبته متى شاء، وحيث إن هذه السلطنة من لوازم الملك المدلول للعقد بالمطابقة
صح دعوى أن إطلاق العقد يقتضي تعجيل الثمن، فإن المراد إطلاقه من حيث

(1) الروضة البهية: ج 4، ص 313.
150

مدلوله الالتزامي، وهو عبارة أخرى عن إطلاق دليل السلطنة، وشرط التأجيل تقييد
لهذا الاطلاق لا أنه مقيد للملكية أو للمملوك كما احتملهما شيخنا الأستاذ " قدس سره ".
وحينئذ فالفرق بين الأجير الخاص والعام من وجهين (الأول) أن التعيين في
الأول من ناحية العقد بمدلوله المطابقي وفي الثاني بمدلوله الالتزامي. و (الثاني) أن
المملوك على الأول خاص ينتفي بانتفاء وقته وعلى الثاني يبقى على حاله وإن عصى
بامتناعه عن أداء الدين مع المطالبة.
والجواب: بالفرق بين ما نحن فيه وبين الثمن في البيع، لمكان إطلاق مقدم على
إطلاق دليل السلطنة هنا دون البيع.
توضيحه: أن الثمن كالدينار مثلا غير قابل للتقييد باليوم والغد، إذ الأعيان بل
الهيئات والصفات لا تتحدد بالزمان، وإذ لا يعقل التقييد فلا يعقل الاطلاق
لتقابلهما بنحو تقابل العدم والملكة، فلا مجال فيه إلا لاطلاق دليل السلطنة أو
تقييده بشرط عدم المطالبة إلى رأس الشهر، فإذ لم يكن هناك شرط كان إطلاق
العقد بمدلوله الالتزامي مقتضيا للتعجيل، بخلاف المنافع والأعمال، فإنها قابلة
للتحديد بالزمان فهي قابلة للتقييد فتكون قابلة للاطلاق، وحينئذ فالعمل في مورد
التمليك إما أن يلاحظ بنحو اللا بشرط القسمي وإما أن يلاحظ بشرط شئ أو
بشرط لا ولا يعقل غيرها، والمفروض انتفاء لحاظه بشرط شئ وبشرط لا فيتعين
اللحاظ اللا بشرطي، ومقتضاه استحقاق طبيعي العمل دون إيقاعه في هذا الزمان
الخاص أو في زمان خاص آخر، ومع عدم استحقاق خصوصية إيقاعه بعد العقد
متصلا به فلا سلطنة لمالكه على مطالبته في هذا الزمان، وليس امتناع الأجير عن
ايقاعه في زمان خاص امتناعا عن الحق حتى يكون سلطانه عليه مزاحما لسلطان
المالك، فإن سعة السلطنة وضيقها تابعة لكيفية المال.
ثانيهما: ما نسب إليه أيضا من اقتضاء الأمر بالوفاء للفورية (1)، ولذا فرع عليه

(1) روضة البهية: ج 4، ص 313.
151

وجوب المبادرة مع عدم المطالبة، ولو كان لزوم التعجيل لاقتضاء إطلاق دليل
السلطنة لما وجب التعجيل إلا مع مطالبة الحق.
ويندفع (أولا) بما حقق في الأصول من عدم الاقتضاء.
(وثانيا) بأن الوفاء إذا كان بمعنى إبقاء العقد على حاله وعدم نقضه ونكثه فهو
أجنبي عما نحن فيه من التعجيل في العمل، وإذا كان بمعنى الوفاء عملا كالتصديق
العملي في باب الخبر وكالنقض العملي في باب الاستصحاب كما أصلحنا به ما عن
الشيخ الأعظم " قدس سره " في تفسير الوفاء بالعمل فلما ذكر وجه إلا أنه مخدوش
بأن الأمر إذ ا كان متعلقا بالعمل بعنوانه كان اقتضاؤه للفور موجبا للاسراع في
إيجاده، وأما إذا تعلق به بعنوان الوفاء فهو تابع لكيفية ما عقد عليه وما التزم به،
فإذا عقد على عمل كلي موسع من حيث خصوصيات الأزمان فالوفاء به كذلك فلا
معنى لاقتضاء الأمر بالوفاء به إيجاده فورا، ولذا لا معنى لاقتضاء الأمر بالموسع للفور
لزوما، بل مورد الفور إذا كان هناك أمر بعمل لم يعلم حاله من حيث التوسعة
والتضييق، فكما لا يعقل الفور مع فرض التضييق كذلك مع فرض التوسعة، ثم
أنهم فرعوا على التعجيل المزبور بطلان الإجارة الثانية لوجوه.
أحدها: أن الأمر بايجاد العمل المستأجر عليه أولا سواء كان بعنوان أداء ما
يستحقه المستأجر أم بعنوان الوفاء بالعقد يقتضي النهي عن ضده وهو يقتضي
الفساد.
وتوضيح الكلام فيه: أن الفورية إما أن توجب توقيت العمل فيكون كالأجير
الخاص أو لا توجبه بل يجب إيجاده فورا ففورا، فإن كان موجبا للتوقيت فلا مجال
للإجارة الثانية، إما لأن الأجير لا يملك المتضادين، وإما لأنه لا سلطان له على
تمليكهما كما مر الكلام فيه مفصلا، وعلى أي تقدير لا ربط له باقتضاء الأمر بشئ
للنهي عن ضده ولا لاقتضاء النهي للفساد، بل التعجيل اقتضى التوقيت وإن
استفيد من الأمر، نعم هذا المبنى غير معقول، لاستحالة تأثير اطلاق دليلا السلطنة
أو تأثير الأمر بالوفاء في الأمر المتفرع عليه السلطان على المطالبة والوفاء بالعقد وهو
152

واضح، وإن لم يكن موجبا للتوقيت بل مؤثرا في مجرد لزوم التعجيل فالضد حينئذ هو
العمل المستأجر عليه ثانيا، فإنه بعد فرض مقدمية فعله لترك الضد الواجب أو
مقدمية تركه للضد يكون حراما، والمنفعة المحرمة لا تملك بالإجارة، فالبطلان
مستند إلى فقد شرط من شرائط صحة الإجارة وهي إباحة المنفعة لا إلى اقتضاء
النهي للفساد، إذ لا تعلق للنهي هنا بالمعاملة بل بالعمل، وقد مر غير مرة فساد هذا
الوجه من وجوه، لعدم المقدمية أولا، ولعدم الحرمة الحقيقية ثانيا، وعدم اقتضاء
الحرمة لعدم الملكية ثالثا كما تقدم توضيحها سابقا.
ثانيها: أنه بعد تحقق الإجارة الأولى يجب الوفاء بعقدها فورا، ومعه لا يعقل
امضاء عقد الإجارة الثانية بالأمر بالوفاء به فورا، لعدم القدرة على الوفاء به فورا.
ويندفع بأن الصحة إن كانت مسببة عن الأمر بالوفاء أمكن أن تكون استحالة
الأمر بالوفاء كاشفة عن عدم الصحة، وأما إذا لم تكن الصحة مسببة عن الأمر
بالوفاء بل الصحة ثبوتا تابعة لاستجماع شرائط الصحة وإثباتا لوجود دليل دال على
نفوذ الإجارة كما هو كذلك فلا أثر حينئذ لعدم شمول الأمر بالوفاء بالعقد للإجارة
الثانية. نعم عدم القدرة على الوفاء بالعقدين يمنع عن فعلية الأمر بهما تعيينا، وحينئذ
إن كان مرجح للأول أو الثاني كان هو المقدم في الوفاء وإلا كان مخيرا عقلا في
صرف القدرة في امتثال ما شاء من الأمرين.
فنقول: ربما يتخيل أن سبق الإجارة الأولى بالخطاب بالوفاء على الخطاب
بالوفاء بالثانية يجلب القدرة إلى نفسه ويكون معجزا عن الوفاء بالثانية، إلا أنه
ليس على اطلاقه بل فيما إذا كان سبق لأحد الواجبين على الآخر كالقيام في الركعة
الأولى بالنسبة إلى القيام في الركعة الثانية، فإن صرف القدرة في الأول لا مزاحم له
في عرضه بخلاف ما نحن فيه، فإن المفروض وحدة زمان العمل واقتضاء كل من
الأمرين لا يجاد العمل في أول الأزمنة، ومجرد سبق الخطاب مع عدم سبق الواجب
لا أثر له، بل لو فرض فعلية أحد الخطابين لفعلية موضوعه وعدم المزاحم له حال
فعلية الخطاب فصار موضوع الآجر فعليا قبل امتثال الأول لكان الأمر كذلك، فإن
153

فعلية الخطاب مشروطة بالقدرة حدوثا وبقاء معا، فعدم المزاحم حدوثا لا يكفي مع
وجود المزاحم بقاء كما إذا غرق انسان فأمر بانقاذه وقبل الانقاذ غرق شخص آخر،
فإنه لا شبهة في سقوط الأمر عن التعينية الفعلية مع عدم الأهمية.
ثالثها: ما ذكره بعض الأعلام من أن الإجارة الأولى أحدثت حقا للمستأجر
الأول على الأجير، ومقتضاه عدم تأثير الأسباب في تعلق حق آخر يوجب بطلان
الأول. و (يندفع) بأنه لا تأثير لعقد الإجارة إلا في تمليك كلي عمل على ذمة
الأجير، ولا منافاة بين التمليكين، حيث لا تضاد بين العملين حيث لا توقيت في
البين، وليس هناك حق آخر فضلا عن أن يكون بينهما تزاحم، أو يتوهم أن التعهد
بعمل في ذمته بعد الإجارة الأولى تصرف في حق الغير.
رابعها: ما في الجواهر من عدم القدرة على التسليم شرعا في الإجارة الثانية مع أنه شرط الصحة (1)، وجعله بعض الأعلام " رحمه الله " مبنيا على مسألة الضد
وحرمة العمل فلا يكون مقدورا شرعا، وهو مع فساده من وجوه أشرنا إليها خلاف
ما فرضه في الجواهر من عدم ابتنائه على الضد بل بناه على فورية الأمر بالوفاء،
بتقريب أن العمل بالإجارة الثانية بعد فرض فورية الوفاء بالإجارة الأولى غير مقدور
عليه فعلا شرعا، ولا يقاس بما تقدم من أن نسبة القدرة إلى الوفاء بالعقدين على حد
سواء ولذا قلنا بالتخيير، وذلك لأن المفروض هناك صحة الإجارتين فلم يكن
هناك إلا عدم القدرة على امتثال الأمرين بالوفاء بالعقدين فلذا قلنا بالتخيير، وأما
هذا الوجه فالمفروض فيه عدم الفراغ عن صحة الإجارة الثانية وأن القدرة على
امتثال الأمر بالوفاء بعقدها شرط صحته فكيف تتساوى نسبة القدرة إليهما، بل
الإجارة الأولى حيث كانت حال وقوعها بلا مزاحم فهي واجدة للقدرة المعتبرة فيها
بخلاف الثانية المسبوقة بالمزاحم الجالب للقدرة نحوه.
(لا يقال) كما أن القدرة شرط في الأولى حدوثا فكذا بقاء والإجارة الثانية

(1) جواهر الكلام: ج 27، ص 264.
154

تزاحمها بقاء.
(لأنا نقول) لا تزول القدرة بقاء إلا مع فرض إجارة صحيحة يجب الوفاء بها،
والمفروض توقف الصحة ووجوب الوفاء على وجود القدرة فيكف تزول القدرة بقاء
بما يتوقف على ثبوت القدرة التي لا ثبوت لها إلا مع فرض زوال القدرة بقاء.
والجواب: إن القدرة المعتبرة في صحة الإجارة هي القدرة على ذات العمل
المعقود عليه، والمفروض أنه غير مؤقت وأنه موسع، ودون القدرة على امتثال الأمر
الفوري بالوفاء، فإن الدليل على اعتبارها هو دليل نفي الغرر، وإذا كان قادرا على
نفس ما عقد عليه المعتبر رفع الغرر عنه كانت المعاملة صحيحة وإن لم يقدر على
امتثال الأمر بالوفاء فورا.
(لا يقال) إذا كان مقتضى الأمر بالوفاء هو الوفاء فورا ففورا ففي جميع أجزاء
الوقت الذي عقد على الموسع بلحاظه لا يتمكن من العمل بمقتضى الإجارة الثانية
فلا قدرة على ذات العمل الموسع في تمام الوقت لا في خصوص أوله.
(لأنا نقول) إن الملاك في اعتبار القدرة رفع الغرر عن المعقود عليه، فما هو
الشرط في الحقيقة احراز إمكان وصول المعقود عليه إلى مالكه، وهذا المعنى لا يزول
بالأمر بالوفاء ولو كان فورا ففورا، فإن الأمر الفوري لا يقتضي إلا صرف القدرة في
إيجاد متعلقه لا أنه يسلب القدرة حقيقة، فهو قاطع بالتمكن من ايصال العمل إلى
المستأجر وإن ترك واجبا فلا غرر. ومن جميع ما ذكرنا تبين فساد مبنى دعوى
التعجيل وفساد الوجوه المبنية عليه في بطلان الإجارة الثانية.
وينبغي التنبيه على أمور: (الأول) في حكم الإجارة الثانية إذا تضيقت مدة
الإجارة الأولى. (وتفصيل القول فيه) أن متعلق الإجارتين إما كلي العمل في الذمة
وإما الكلي في المعين خارجا فالصور أربع،، ومبنى الصحة والفساد على الفرق بين
الكلي الذمي والخارجي في التعين القهري وعدمه، والوجه فيه أن المملوك في الثاني
هو الكلي الموجود بوجود أفراده في الخارج مع قطع النظر عن تعيناته الخارجية إلا
تعين الإضافة بالمجموع، فالمملوك في الصبرة المشتملة على عشرة أصواع من الحنطة
155

كلي الصاع المتعين بالإضافة إلى هذه الصبرة، فكلما بيع من هذه الصبرة صاع
تضيقت دائرة الكلي الخارجي، فإذا انحصر في فرد كان المملوك هو الكلي المضاف
إلى هذا الفرد الموجود بوجوده، ولا نعني من التعين القهري إلا ذلك، وهذا المعنى غير
موجود في الكلي الذمي الذي موطن وجوده الاعتباري هي الذمة فكيف ينقلب
خارجيا بمجرد حصر ما يمكن تطبيقه عليه في فرد، وعليه نقول: إن مدار الصحة
والبطلان في الإجارة الثانية على كون متعلق الإجارة الأولى كليا ذميا أو خارجيا
فتصح الإجارة الثانية على الأول دون الثاني سواء كان متعلق الثانية كليا ذميا أم
خارجيا.
أما الأول: فلأن الفرد المضيق باق على ملك الأجير فله تطبيق كلي ذمي آخر
عليه كما أنه له تمليكه بنحو الكلي في المعين.
وأما الثاني: فلأن متعلق الأولى إذا كان بنحو الكلي في المعين والمفروض تعينه
فيه فلا يصح منه تمليكه بنحو الكلي الخارجي، فإنه مملوك الغير، كما لا يصح
تطبيق الكلي الذمي في الإجارة الثانية، حيث لا يعقل كون ملك شخص فردا
لملك شخص آخر، فلا تصح الإجارة على الأول لعدم الملك وعلى الثاني لعدم القدرة
على التسليم، ومنه تبين حال ما إذا كان مورد الإجارة الثانية مغايرا لمورد الأولى،
فإن مورد الإجارة الأولى إن كان كلي الخياطة في الذمة فالكتابة مملوكة للأجير فله
تمليكها للمستأجر الثاني، كما أنه له تطبيق كلي الكتابة على فردها المملوك له،
بخلاف ما إذا كان مورد الأولى منفعة الخياطة بنحو الكلي في المعين، فإن الأجير إما
لا يملك المتضادين أو لا يمكنه تمليكهما، وكذا لا يتمكن من تطبيق كلي الكتابة
على فردها المضاد لمنفعة الخياطة، لأنه لا يملك فردها أو لا يمكن تطبيق الكلي على
الفرد المضاد للفرد المملوك للغير.
(الثاني) في حكم العمل على طبق الإجارة الثانية من حيث ضمان أجرة المثل
للإجارة الأولى فنقول: أما في مورد صحة الإجارة الثانية فيضمن الأجير فقط أجرة
المثل للمستأجر الأول من حيث تفويت العمل المملوك له بالعمل للغير، وأما في
156

مورد بطلان الإجارة الثانية، فالأجير ضامن للمستأجر الأول من حيث الاتلاف
المحقق بتسليم مملوكه إلى الغير، والمستأجر الثاني ضامن للأول من حيث استيفاء
مملوكه وتسلمه من الأجير، فللمستأجر الأول الرجوع على من شاء منها كما مر
تفصيله في الأجير الخاص. وأما في المنافع المتضادة فالأجير هو الضامن فقط
للتفويت في الكل، والوجه في الكل واضح.
(الثالث) في حكم ما إذا صار الأجير المشترك أجيرا خاصا في الإجارة الثانية
فنقول: أما إذا كان مورد الإجارة الأولى كليا ذميا فلا مانع من صحة الإجارة
الثانية بنحو الأجير الخاص في تمام المدة إلا من حيث كونها مفوتة بنفسها للعمل
على طبق الأولى، حيث لا يعقل تطبيق الكلي الذمي على المنفعة المملوكة بالإجارة
الثانية للغير، وغايته حرمة الإجارة الثانية، وحرمة المعاملة مولويا لا توجب الفساد،
بل لو عمل للأول كان الأجير ضامنا للثاني لأنه سلم ماله إلى الغير، والأول أيضا
ضامن للثاني لاستيفاء ماله، وأما إذا كان مورد الإجارة الأولى بنحو الكلي في
المعين فالإجارة الثانية لتضمنها تمليك مال الغير غير صحيحة، فإنه نظير بيع تمام
الصبرة بعد بيع صاع كلي منها، وعليه فإذا عمل للثاني في تمام المدة كان في تسليم
مال الغير المعدود إتلافا ومن تسلم الثاني لمال الغير المعدود استيفاء منه، فللأول
الرجوع على من شاء من الأجير والمستأجر الثاني.
(الرابع) ما تكرر منا من تفويت الكلي الذمي في صورة الانحصار في فرده مع
عدم تعينه فيه إنما هو إذا لوحظ الزمان الموسع الملحوظ لرفع الغرر مثلا بنحو التقييد
بمعنى الحصة من كلي عمل الخياطة، فإن القيد الزماني كسائر القيود يقبل ملاحظة
الطبيعي متقيدا به ولا يوجب انقلابه إلى الكلي في المعين، وعليه فإذا عمل في مورد
الضيق للمستأجر الثاني سقطت الحصة عن إمكان الوجود بوجود فردها في الخارج
لعدم الفرد لها، وأما إذا لو حظ الزمان الموسع بنحو الاشتراط فالمملوك هو كلي عمل
الخياطة فقط، وهو لا يفوت بذاته أصلا، نعم يتعذر الشرط بعد انقضاء الزمان، فله
الخيار ولا ضمان، لعدم الفوت بالنسبة إلى المعقود عليه بالإجارة.
157

المبحث الرابع: من أحكام المنفعة إنها تملك بنفس العقد، والكلام فيه تارة
بالنظر إلى مقام الثبوت وامكان ملك المنفعة قبل وجودها، وأخرى في مقام
الاثبات وشمول العمومات والاطلاقات لها، ولا بد من التكلم في الأول، فإنه لا
مجال لدعوى الاطلاق ونحوه مع عدم إحراز الامكان، مضافا إلى أنه لا شبهة في المسألة
ظاهرا إلا من حيث عدم قبول المنفعة للملكية فنقول
أم المقام الأول: فملخص تقريبه أن المنافع معدومة حال العقد، والملكية صفة
ثبوتية محتاجة إلى محل ثابت فلا بد من الالتزام بعروض الملكية لها حال وجودها،
وحيث إن وجودها تدريجي فيكن عروض الملكية لها تدريجيا، وحيث إن الأجرة
بإزاء المنفعة فمقتضى المقابلة كون ملك الأجرة تدريجا وإلا لزم الخلف من كونها
عوضا عن المنفعة في الملكية.
ومقتضى هذا التقريب أن المنفعة مع عدم الاستيفاء غير مملوكة ولا يلتزم به
أحد، كما أن مقتضاه أن المؤجر يصح منه التمليك من دون أن يكون مالكا، لأن
المفروض مقارنة ملك المنفعة ووجودها، ولا معنى لأن يملك المؤجر باستيفاء
المستأجر، كما لا يعقل أن يكون المؤجر والمستأجر مالكين معا في زمان واحد، إذا آن
الوجود لا تعدد فيه حتى يملك المؤجر في آن والمستأجر في آن آخر، فإن الآن الآخر
آن وجود منفعة أخرى لا المنفعة الأولى.
وبالجملة المنفعة ليست كالعين حتى يمر عليها زمانان يكون أحدهما زمان ملك
المؤجر والآخر زمان ملك المستأجر ليصح تمليك المنفعة من مالكها، وقد ذكرنا في
أوائل الإجارة إن هذا الاشكال مبني على كون الملكية الشرعية والعرفية التي هي
موضوع للأحكام والآثار من الأعراض والمقولات الواقعية، مع أنا قد بينا في محله
استحالة ذلك بالبراهين القاطعة وأنها اعتبار أمر مقولي، والاعتبار لا يستدعي إلا
الطرف في أفق الاعتبار، والمنافع يقدر وجودها فيتعلق بها الملك الاعتباري، وهو
المصحح لطرفية الكلي مالكا ومملوكا للملك الاعتباري، ولا حاجة إلى العدول إلى
جعل الإجارة تارة سلطنة على العين للانتفاع بها، مع أنها لا تعم عمل الحر، وأخرى
158

سلطنة على الانتفاع بالعين، مع أن الانتفاع متقوم بالمنتفع فلا يقبل الانتقال
اختيارا وقهرا، مضافا إلى أن السلطنة بمعناها الحقيقي ليست إلا الاستيلاء وهو
بحقيقته يتوقف على ما يستولى عليه خارجا وبمعناها الاعتباري حالها حال الملك
الاعتباري، وبعد فرض الاعتبارية أي موجب للعدول عن الملك الاعتباري إلى
التسليط الاعتباري.
وأما المقام الثاني: فالكلام تارة فيما يقتضيه الأصل العملي وأخرى فما يقتضيه
الأصل اللفظي. (أما الأول) فربما يتخيل أن الأصل عدم الاشتراط وعدم اعتبار
ذلك القيد المشكوك في العقد كما في الجواهر (1) وغيره، وقد بينا في محله فقها
وأصولا، إن الأصل المزبور غاية مقتضاه أن الاعتبار الملكي غير مرتب على المتقيد
بهذا القيد، وبالتلازم العقلي يقتضي أن العقد المجرد عنه يؤثر في الملك، ولا عبرة
بالأصول المثبتة.
(وأما الثاني) فهو يتوقف على كون اطلاقات أدلة الوفاء بالعقد وحلية البيع
والإجارة واردة مورد انفاذ الأسباب، وأما إذا كانت في مقام المسببات وأنها محققة
عند الشارع كالعرف فلا تجدي في دفع الشك في اعتبار دخل شئ في تأثير العقد،
وقد أصلحناه في محله فليراجع.
المبحث الخامس: في ما يتعلق بمدة المنفعة من حيث الاتصال والانفصال عن
حال العقد فنقول: في المقام نزاعان كبروي وصغروي.
أما النزاع الكبروي: فمن وجهين: (أحدهما) في لزوم الاتصال وعدمه، وغاية ما
يتوهم في وجه اعتباره أمور:
(منها) منافاة الانفصال للقدرة على التسليم وهي شرط صحة العقد، فإن المعتبر
من القدرة هي القدرة الفعلية حال العقد كما هو مقتضى الأصل في الشرط، فإن
مقتضاه مقارنة الشرط لمشروطه، ولا تجدي القدرة المتأخرة إلا بدليل خاص، ولذا لو

(1) جواهر الكلام: ج 27، ص 271.
159

لم يكن قادرا على تسليم المبيع فعلا مع قدرته عليه بعد زمان معتد به لما صح البيع منه
فعلا، وعدم مقدورية تسليم المنفعة المتأخرة فعلا لتقيدها بالزمان المتأخر في غاية
الوضوح، فلا معنى للقدرة فعلا على الفعل المستقبل.
ويندفع بأن وجه اعتبار القدرة رفع الغرر، وما يقر على تسلميه في ظرفه لا غرر
فيه، فلا موجب لاعتبار القدرة الفعلية، ولا يقاس بالبيع، فإن المملوك فيه غير
محدود بالزمان، فلا بد فيه من القدرة على تسليمه بعد العقد.
و (منها) إن العقود والانشاءات علل للأحكام فيلزم الاتصال، لئلا يلزم
تخلف المعلول عن العلة، وكذا ذكره بعض الأعلام " رحمه الله " نقلا عن أبي
الصلاح، ولا يتم هذا الاستدلال إلا بدعوى مقارنة الملكية للمملوك حتى تكون
الملكية كالمملوك متأخرة عن العقد، ولا موجب لها إلا ما توهمه بعض العامة من أن
المنفعة معدومة والمعدوم غير قابل للملكية فتكون الملكية مقارنة لوجود المنفعة، فكما
توجد تدريجا تملك تدريجا، وقد عرفت بطلانه غير مرة.
و (منها) إن استحقاق التسليم من أحكام العقد ومقتضياته، والاستحقاق
المزبور لا يجامع الانفصال فيكون منافيا لمقتضى العقد.
ويندفع بما حقق في محله من أن استحقاق التسليم ليس من مقتضيات العقد بما
هو بل من مقتضيات الملك، لتسلط الناس على أموالهم، فلا محالة يتبع كيفية المال
المملوك، فإذا كانت المنفعة الحالية مملوكة فلمالكها السلطنة على تسلمها حالا،
وإذا كانت المنفعة الآتية مملوكة كان له السلطنة على تسلمها في ظرفها، فالملك لا
يقتضي سلطانا مطلقا على المال بل على حسب حاله كالثمن المؤجل في البيع
وكالأجرة المؤجلة هنا، ولعل المراد من أن الاستحقاق من مقتضيات اطلاق العقد
لا ذاته هو ما ذكرنا ولا يقاس الاستحقاق المزبور بالملك، بدعوى أنه كما أن
الملكية فعلية والمملوك متأخر كذلك الاستحقاق فعلي وما يستحقه متأخر كما هو
ظاهر بعض الأعلام " رحمه الله " وذلك لأن الحق كالملك إلا أنه ليس لذي المال
ملك وحق وإنما له السلطنة على ماله بحسب حاله، وحيث إن الاستحقاق بمعنى
160

السلطنة فلا يمكن تعلق الاستحقاق فعلا بأمر استقبالي، فإنه محال.
وأما ما قيل في وجه عدم الاعتبار من أن لازمه عدم صحة جميع الإجارات فيما
عدا الجزء المتصل بالعقد من الأزمنة فيندفع بأن للزمان وحدة إتصالية لا أنه آنات
متتالية، فهذا المتصل الوحداني متصل بحال العقد. نعم ربما يتخيل عدم معقولية
الاتصال ولو بجزء من المدة إلا على القول بالجزء الذي لا يتجزأ، وحيث إنه محال
فالاتصال المرتب عليه محال.
وتقريبه: أن كل جزء يفرض متصلا بحال العقد فهو قابل للقسمة وما يفرض
من الجزئين منه متصلا أيضا قابل للقسمة وهكذا إلى ما لا يتناهى، ففرض الجزء
المتصل فرض الجزء الذي لا يتجزأ، وقد دفعنا هذا التوهم الجاري في غير المقام
أيضا بأن القسمة الممكنة متناهية دون الأعم منها ومن الوهمية، ولا شبهة في وقوع
العقد في زمان خاص مع أن ذك الزمان أيضا قابل للقسمة، فبناء على هذا التوهم
يلزم وقوع العقد في ما لا يتناهى، وانطباق المتناهي على غير المتناهي محال، فهذه
المدة المضروبة للمنفعة متصلة خارجا بزمان العقد وإن كانت من حيث قبول
المتصل الواحد للانقسامات غير متناهية، فهي متناهية بالفعل غير متناهية بالقوة،
فلم يلزم استحالة اتصال المدة بحال العقد.
(ثانيهما) أي من وجهي النزاع الكبروي أن المنفعة بلحاظ الزمان تارة تلاحظ
بشرط شئ إما بنحو الاتصال أو بنحو الانفصال، وأخرى بنحو اللا بشرط القسمي
من حيث الاتصال والانفصال، فتكون كالكلي في المعين بلحاظ قطعات الزمان،
وتمليكها في نفسه معقول ولا مانع منه إلا الغرر، وعليه فلا وجه للقول ببطلانه رأسا
أو بصحته كذلك، بل ربما يكون فيه الغرر نحو سكنى الدار شهرا من هذه السنة،
فإنه بلحاظ تفاوت المالية من حيث الصيف والشتاء يدخل فيه الغرر والخطر، وربما
لا يكون فيه الغرر كسكنى شهر من أشهر الشتاء مثلا، وبالجملة الكلية
واللا بشرطية من حيث الاتصال والانفصال غير ضائرة بل المدار بطلانا وصحة على
لزوم الغرر وعدمه.
161

وأما النزاع الصغروي فملخص القول فيه: أنه بعد عدم الاهمال في الواقع يدور
الأمر بين إرادة الاتصال وإرادة الانفصال وإرادة المطلق من القيدين، ومقتضى
القاعدة الحكم باللا بشرطية وعدم الدال على أحد القيدين. إلا أن الموجب للحكم
بالاتصال في قبال الانفصال هو الموجب لنفي الاطلاق، وهو أن التعينات الثلاث
كلها قيود عقلا للماهية، إلا أن بعض القيود العقلية كأنه ليس بقيد عرفا، كما هو
كذلك في النفسية والغيرية والعينية والكفائية والتعيينية والتخييرية في الواجب،
فكون المنفعة المملوكة حالية عند العقد لا يحتاج إلى التنبيه عليه بخلاف المنفعة
الآتية أو الأعم من الحالية والاستقبالية، وأما الاستدلال بأصالة الصحة لا ثبات
الاتصال فهو إنما يصح مع فرض فساد الانفصال والاطلاق لا مطلقا.
المبحث السادس: فيما يتعلق بتسليم المنفعة، والكلام فيه من جهات: (منها) ما
هو ملاك التسليم وما يتحقق به. و (منها) فوات المنفعة وما هو ملاكه. و (منها)
ضمان المستأجر للمؤجر أحيانا. و (منها) مورد الحاجة إلى مراجعة الحاكم، فهنا
مقامات من الكلام:
الأول: في ملاك التسليم الذي معه تستقر الأجرة على المستأجر. فنقول:
المملوك بالإجارة إما منفعة عين شخصية أو منفعة عين كلية، وإما عمل متعلق
بمورد جزئي كحمل هذا المتاع، أو بمورد كلي وهو حمل المتاع، والعمل إما إيجادي
محض كالصلاة نيابة عن الميت، أو متقوم باستيفاء المستأجر كحمله إياه أو حمل
متاعه. " أما المنفعة " فتسليمها الحقيقي وإن كان باستيفائها وتسليم العين الشخصية
أو فرد العين الكلية حينئذ مقدمة لتسليم أحد العوضين وكذا في تسليم العمل مطلقا
إيجاده المحض أو المتقوم باستيفاء المستأجر إلا أن استحقاق مطالبة الأجرة
واستقرارها غير مرتب على التسليم بعنوانه حتى لا يكون استحقاق واستقرار للأجرة
إلا بعد التسليم الحقيقي المساوق للاستيفاء بل على مجرد تمكين المستأجر في تمام
المدة مثلا من استيفاء المنفعة أو العمل، وذلك لما حقق في محله وأشرنا إليه سابقا
من أن مدرك لزوم التسليم أمران:
162

أحدهما: سلطنة الناس على أموالهم، فليس للغير مزاحمته في سلطانه بالامتناع
عن تسليم ماله المملوك له بالعقد مثلا كما هو المفروض هنا، وهذا المدرك لا
يقتضي لزوم التسليم المعاوضي، بل يفيد ضد المقصود هنا من توقف استقرار الأجرة
على تسليم المنفعة، فإن كل مالك له السلطان المطلق على مطالبة ملكه سواء سلم
عوضه أم امتنع عنه، فإن ظلم أحد لا يسوغ ظلم الآخر.
وثانيهما: بناء المتعاملين في عقود المعاوضات على التسليم بإزاء التسليم كالتمليك
بإزاء التمليك، فهو في الحقيقة التزام ضمني في العقد على التسليم المعاوضي، ومن
البين أن ما هو تحت اختيار كل منهما ليس إلا تمكين المالك من استيفاء المنفعة ولو
بالتمكين من الاستيلاء على العين. وأما الأمر القائم بالمستأجر من استيفاء المنفعة أو
من استيلائه خارجا على العين فهو تحت اختيار المستأجر فلا يعقل الالتزام الجدي
من المؤجر بما هو خارج عن اختياره. نعم العمل المباشري المحض كالصلاة نيابة
تسليمه بعين إيجاده الذي هو تحت اختياره، وبالجملة هذا الملاك الذي ذكرناه في
التسليم المتوقف عليه استقرار الأجرة لا فرق فيه بين أن يكون المملوك بعقد الإجارة
منفعة أو عملا استيفائيا ولا بين أن يكون مورد المنفعة المملوكة عينا شخصية أو
كلية، فإن المقدور عليه من تسليم كلي المنفعة بكلي العين ليس إلا بتطبيق الكلي
على فرده وتمكينه منه وإلا فلا تمكين من الكلي مع قطع النظر عنه حتى يلتزم به،
ومرجع ما ذكرناه إلى عدم المقتضي لأزيد من التمكين الذي هو شرط لاستقرار
الأجرة المملوكة بنفس العقد المقيد لا طلاق دليل السلطنة، ففي غيره يتمسك
باطلاق دليل السلطنة، فله مطالبة الأجرة مع التمكين المذكور وليس للآخر الامتناع
عن أدائها.
وأما ما في الجواهر من الاستدلال بعموم الأمر بالوفاء بالعقد (1) فبالنظر إلى أن
مفاده إما إيجاب الوفاء عملا فينطبق على دفع الأجرة فيجب دفعها، وإما لزوم

(1) جواهر الكلام: ج 27، ص 271.
163

وضعي فيفيد عدم انحلال العقد بفسخ المستأجر مع التمكين المزبور، كما أن تمسكه
" قدس سره " باستصحاب الملك بالنظر إلى الشك في انحلال العقد وزوال ملك
الأجرة بانشاء فسخ المستأجر، وإلا فمجرد عدم التسليم الحقيقي بل مع الامتناع رأسا
لا ينفسخ العقد بل يوجب الخيار للباذل على الممتنع. نعم ما ذكره " قدس سره "
وكون العين مضمونة المنافع في يده محل المناقشة، فإن كون منافعها مملوكة بالعوض
أمر مسلم من الأول، وإنما الكلام في استقرار الأجرة واستحقاق المطالبة، وأما كون
العين بمنافعها في ضمان المؤجر فينفسخ العقد بتلفها فهو أجنبي عما نحن فيه، مع أنه
سيجئ إن شاء الله تعالى أنه لا مجال له في باب الإجارة.
(لا يقال) لعل غرضه " رحمه الله " أن ضمان المؤجر ينتقل إلى المستأجر بقبض
العين المستأجرة، ومقتضاه أن يكون تلف المنافع عليه بترك استيفائها فلا مجال
لاستيفائها، فلا مانع من استقرار الأجرة.
(لأنا نقول) غاية ما يقتضيه ضمان المؤجر قبل القبض وهو انفساخ العقد
بالتلف قبل القبض أن لا ينفسخ العقد بالتلف ولو بترك الاستيفاء لا أنه ليس له
حق الاستيفاء أو أنه ليس له حق الفسخ مع ترك الفسخ، ومع أن التلف المنوط به
الانفساخ هو تلف المنفعة حقيقة لا مجرد فوات المنفعة بترك الفسخ، ولذا لو فاتت
المنافع تحت يد المؤجر بامتناع من المؤجر لم يوجب انفساخ عقد الإجارة بل كان
ضامنا ضمان الغرامة بتفويت المنفعة على مالكها.
المقام الثاني: في ملاك فوات المنفعة المملوكة بالإجارة، فنقول: المملوك
بالإجارة تارة منفعة قائمة بعين وأخرى عمل كلي ذمي، وكل منهما إما مؤقت بتوقيت
في مرحلة العقد، وإما لا يكون موقتا كذلك، فإن كانت منفعة قائمة بعين محدودة
بمدة خاصة كسكنى الدار شهرا فلا شبهة في فوات المنفعة بانقضاء الشهر، فاستقرار
الأجرة بتسليم المنفعة في تمام تلك المدة بتسليم العين أو التمكين منه وإن لم يتسلمها،
وفوات المنفعة المملوكة بفوات المدة، فلا يملك منفعة بعدها حتى يبقى مجال
لاستيفائها، ولا فرق في هذه الصورة بين أن تكون المنفعة المحدودة قائمة بعين
164

شخصية أو بعين كلية تسلم فردها المستأجر، فإن فوات المنفعة بفوات مدتها
ضروري، وإنما تفوت علي المستأجر دون المؤجر، لأنه الذي فوتها علي نفسه بترك
استيفائها، بل وكذا لو لم يتسلم العين الشخصية مع بذل المؤجر، أولم يقبل فرد
العين الكلية مع تعيين المؤجر، فإنه الذي فوت علي نفسه منفعته المملوكة بالامتناع
عن التسلم، وملاك التفويت هو الامتناع المزبور سواء كان عن تسلم شخص
العين المستأجرة أم عن ما هو فرد لها، فإن تعين الكلي فيها وإن كان منوطا بقبوله
بمعني أنه لو لم يقبل لم يتعين لا أنه له استحقاق مطالبة غيره حتى لا يكون امتناعه
تفويتا.
وبعبارة أخرى: لا ندعي أن فوات منفعة هذا الفرد بامتناعه تفويت لها،
حيث إنه لا تعين لها حتى يكون الامتناع مفوتا لهذه المنفعة المملوكة له، بل ندعي
أن امتناعه عن تسلم هذا الفرد مع عدم استحقاقه لفرد آخر مفوت لتلك المنفعة
المملوكة القائمة بكلي العين المفروض أنها محدودة بمدة خاصة امتنع فيها عن تسلمها
بتسلم ما يصلح أن يكون فردا لها، وإن كانت المنفعة المملوكة القائمة بعين شخصية
غير مؤقتة، كما إذا آجره الدابة يوما من هذا الأسبوع لئلا يلزم الغرر فالمملوك لا
محالة يعتبر بنحو الكلي في المعين، لأن إرادة منفعة يوم خاص واقعا جهالة، وإرادة
أحد أيام الأسبوع بنحو الترديد محال، فلا مجال إلا لإرادة الواحد المضاف إلى
الأسبوع بنحو الكلي في المعين، وحينئذ فإن سلمه العين الشخصية بعنوان تسليم
المنفعة المملوكة حالا كان من تعيين الكلي في المعين وتعيينه بيد المؤجر، فلا محالة
يكون حال المنفعة حينئذ كالمنفعة المحدودة بيوم مخصوص من حيث فواتها بفوات
المدة الخاصة، وإن سلمه العين بعنوان استيفاء المنفعة متى شاء من الأيام فلا تفوت
المنفعة بفوات ما يمكن فيه الاستيفاء وهو يوم واحد بل بمضي تمام الأسبوع، كما إذا
سلمه الصبرة المشتملة على عشرة أصواع ليختار صاعا منها، فإنه لا تلف للكلي في
المعين إلا بتلف الصبرة جميعا. ففي مثل هذه الصورة يبقى مجال الاستيفاء بعد مضي
يوم أو أزيد مع استقرار الأجرة بمجرد التسليم كما في المثال المزبور أيضا، فإن البايع
165

يستحق الثمن بمجرد تسليم الصبرة، فإن تسليمها تسليم للكلي في المعين سواء عينه
البايع أم لم يعينه، وإن كانت المنفعة المملوكة غير الموقتة بوقت مخصوص قائمة بعين
كلية فلا محالة تكون كلية ذمية.
وتعين الذمي في الخارجي متوقف على قبول المستأجر زيادة على تعيين المؤجر
وتطبيقه، فلا يقاس بالكلي في المعين الذي لا يتوقف إلا على تعيين البايع أو المؤجر،
وحينئذ فإن تسلم العين وقبلها جرى فيها ما ذكرناه في العين الشخصية، وإن لم
يقبلها ولم يتسلمها فالامتناع وإن كان غير مانع عن استقرار الأجرة كما مر غير مرة
إلا أنه يوجب بقاء ما في الذمة على حالها، وحيث إنها غير موقتة بمدة مخصوصة فلا
يكون الامتناع عن تسلمها مفوتا لها بمجرد مضي زمان يمكن استيفاء المنفعة فيه، بل
بمضي تمام الأسبوع مثلا، فيبقى مجال للاستيفاء مع عدم القبول.
ومنه تعرف أن الفرق بين الموقت وغيره والكلي والشخصي أحيانا إنما هو من
حيث فوات المنفعة المملوكة وعدمه من حيث استقرار الأجرة وعدمه. فما في
الشرايع من التفصيل المجمل الذي شرحه الشارحون بالفرق بين الموقت وغيره أو
الشخصي والكلي غير وجيه في مورد كلامه وهو لزوم الأجرة واستقرارها. هذا كله
في المنفعة المملوكة بالإجارة بأقسامها.
وأما إذا كان المملوك بها عملا من الأعمال فهو كلي ذمي دائما سواء كان
متعلقا بجزئي كحمل هذا المتاع أم بكلي كحمل المتاع الموصوف بوصف رافع للغرر،
فهو تارة مؤقت بوقت مخصوص كحمل هذا المتاع في هذا اليوم أو حمل المتاع
الموصوف في هذا اليوم، وأخرى غير مؤقت بوقت مخصوص كحمله بقسميه في يوم
من أيام الأسبوع أو الشهر مثلا فنقول:
أما العمل الموقت بقسميه فقد عرفت أن مجرد بذل نفسه للعمل وهو المقدار
الذي يتمكن من الالتزام به في مقام التسليم المعاوضي كاف في استقرار الأجرة،
ومع فرض تمكينه في تمام المدة المضروبة وامتناع المستأجر عن تسلمه واستيفائه في
تلك المدة يفوت العمل ولا يبقى مجال لايجاده في غيرها بتفويت من المستأجر كما مر
166

في المنفعة الموقتة.
وأما العمل غير الموقت فحيث إن مجال الاستيفاء فيه واسع والكلي الذمي
ليست خارجيته دائرة مدار تعيين المؤجر فقط بتمكينه من إيجاده في هذا اليوم
بالخصوص، والمفروض عدم التوقيت به فلا يفوت العمل بفوات مدة يمكن إيجاد
العمل فيها، فحال العمل غير الموقت بقسميه حال المنفعة الكلية غير الموقتة بل الأمر
فيه أوضح، حيث إن تعيين المؤجر للدابة الكلية لا يلازم الاستيفاء، بخلاف إيجاد
الكلي من العمل، فإنه لا يكون إلا بايجاد فرده لا بالتمكن من إيجاد فرده. وما نسب
إلى شيخنا العلامة الأنصاري " قدس سره " - من الفرق بين العمل الجزئي والعمل
الكلي في استقرار الأجرة بالتمكين في الأول دون الثاني، بتخيل أن العمل الجزئي
مملوك بنفسه فتسليمه تسليم المملوك بخلاف العمل الكلي، فإن فرده غير مملوك
حتى يحصل التسليم بالتمكين من فرده مخدوش من وجوه غير خفية على المتأمل فيما
قدمناه.
المقام الثالث: في ضمان المستأجر للمؤجر أحيانا. فنقول: أما المنفعة الموقتة ولو
بالتبع كما إذا سلمه الدابة بعنوان تسليم المنفعة حالا في مثل الكلي في المعين
فالفائت هو مملوك المستأجر، فلا موقع لضمانه للمؤجر، وكذا في العمل الموقت، فإن
الفائت بمضي الوقت مملوك للمستأجر فلا مورد للضمان.
وأما المنفعة الكلية غير الموقتة والعمل غير الموقت ففيهما تفصيل مجمله: أن
المنفعة الكلية التي عينها المؤجر في دابة خاصة وتسلمها المستأجر، فلا محالة تكون
المنفعة خارجية، لاستحالة خارجية ما تقوم به المنفعة وذمية المنفعة، فتكون حالها
حال المنفعة غير الموقتة القائمة بعين شخصية من كونها لا محالة بنحو الكلي في المعين،
فإن سلمها المؤجر بعنوان تسليم المنفعة حالا كانت المنفعة الحالية مملوكة للمستأجر
وفواتها فوات مملوك المستأجر فلا ضمان، وإن سلمها المؤجر لا بذلك العنوان بل
لأن يستوفي منها المنفعة في يوم يختاره من أيام الأسبوع فلا تفويت من ناحية
المستأجر حتى يضمنها بل من ناحية المؤجر كما هو واضح.
167

هذا في فرض تسلم العين، ومع فرض عدم قبول المستأجر وعدم تسلمه لما عينه
المؤجر فردا لكلي في ذمته فلا يتعين مملوك المستأجر فيه، فلا تكون منفعة الفرد فائتة
منه بل من مالكها وهو المؤجر، ومن الواضح أنه لا موجب لضمان مال الغير إلا
إتلافه أو تفويته أو الاستيلاء بوضع اليد عليه فيفوت تحت يده، ولا يد هنا على
الفرض، ولا اتلاف باستيفائه على الفرض، فليس الموهم لضمانه إلا تفويته بامتناعه
عن تسلمه وهو هم باطل، إذ التفويت في السابق بامتناعه عن استيفاء ما تعين
ملكا له، لأجل أن المخرج لها من العدم إلى الوجود هو المستأجر، فامتناعه عن ذلك
تفويت منه لما يكون أمر إيجاده بيده، بخلاف مال الغير، فإن مجرد امتناعه عن قبول
مال الغير لا يكون منعا منه عن وجوده، وإنما يتحقق فيما إذا حبس الدابة بحيث
امتنع على صاحبها استيفاء منفعتها، وإنما المفوت هنا هو المؤجر بتعطيله لها مع عدم
استحقاق المستأجر لمنفعتها بالخصوص لئلا يكون له بد من تعطيلها. ومما ذكرنا
تعرف عدم الضمان في المنفعة غير الموقتة بأقسامها.
وأما العمل غير الموقت مع بذل العامل نفسه للعمل فإن قبله المستأجر بأن
أحضره في داره للبناء أو للخياطة ومع ذلك لم يستوف منه عمله فهو مفوت للعمل،
وحيث إن العمل قبل وجوده لا يخرج عن الذمة فلا محالة لا يكون الفائت ذلك
العمل المملوك له، بل مجرد العمل المحترم من الأجير، فيكون ضامنا له، فيكون نظير
حبس أجير الغير من حيث ضمانه لما يملكه الأجير، وأما إذا لم يقبله المستأجر
والمفروض عدم تعينه له فكما لا تفويت لما يملكه كذلك لا تفويت لعمل الأجير بل
المفوت لعمله نفسه، ولا يقاس بالموقت الذي لا يتمكن الأجير من العمل للغير أو
لنفسه، ومجرد استحقاق الأجير لتفريغ ذمته وبذله للعمل لا يصحح استناد
التفويت إلى المستأجر، ولا ضمان إلا باليد أو الاستيفاء أو التفويت، وكون عمله
محترما لا يقتضي بتضمين من لا مساس له بالعمل، بل الأجير هتك حرمة عمله
بعدم استيفائه لنفسه أو الغير المستأجر مع تمكنه منه.
والتحقيق: أن قبول المستأجر للعمل وإن لم يوجب خروج الكلي عن الذمية
168

إلى الخارجية إلا أنه يوجب صيرورته كالموقت فإنه مع كليته وذميته يفوت بتعينه
من حيث الوقت، فكذا إذا بذل العامل نفسه للعمل وقبل المستأجر لكنه لم يستوفه
منه، فإنه تفويت منه لعمله المملوك المتعين بتعيين الأجير وقبول المستأجر. ومنه
اتضح أنه لا مورد للضمان في غير الموقت مطلقا.
المقام الرابع: في مورد الحاجة إلى مراجعة الحاكم عند امتناع المستأجر. وبعد ما
عرفت أن استقرار الأجرة في شئ من موارد الإجارة الموجبة لملك المنفعة الشخصية
أو الكلية الموقتة وغيرها، ولملك العمل مطلقا لا يتوقف إلا على تمكين المؤجر
والأجير لا على قبول المستأجر ولا على استيفائه فلا محالة لا ضرر على المؤجر والأجير
من هذه الحيثية، فلا بد من فرض ضرر آخر لا يندفع إلا بمراجعة الحاكم للاجبار أو
للتسلم. فنقول:
أما المنفعة الموقتة أو العمل الموقت فيفوتان بفوات وقتهما بتفويت من المستأجر،
فلا ضرر من هذه الجهة أيضا على المؤجر أو الأجير، وأما من حيث ضرر التلف قبل
القبض فهو لا يكاد يندفع في باب الإجارة باقباض العين، لما سيجئ إن شاء الله
تعالى من انكشاف بطلان الإجارة في بقية المدة، فسواء سلم المنفعة بتسليم العين أم
لم يسلم كان هذا الضرر لاحقا للمؤجر، فلا يندفع باجبار الحاكم على القبض أو
قبضه ولاية على الممتنع.
وأما المنفعة غير الموقتة فإن كانت قائمة بعين شخصية كإجارة الدابة الشخصية
لحمل المتاع بلا توقيت فيتصور فيها ضرر التلف قبل القبض، فللمؤجر دفعا لهذا
الضرر عن نفسه ارجاع أمره إلى الحاكم ليستوفي منفعته، وإن كانت كلية بكلية
العين بلا توقيت، وكذا العمل الذي أيضا هو كلي دائما فوجه الرجوع ما ذكر في غير
هذا المقام من أن بقاء الذمة ضرر فله تفريغها بالرجوع إلى الحاكم، والكلام فيه وما
يتوجه عليه من النقض والابرام موكول إلى محله، وقد فصلنا القول فيه في تعاليقنا على
كتاب الخيارات لشيخنا العلامة الأنصاري " قدس سره ".
فرع: ذكر المحقق " قدس سره " في الشرايع في فروع المسألة أنه لو استأجره لقلع
169

الضرس فزال الألم عقيب العقد سقطت الأجرة (1)، وعلله في الجواهر بتعذر متعلقها
شرعا لعدم جواز القلع (2)، وهو كذلك كما سيجئ إن شاء الله تعالى في أنه من
شرائط الإجارة إباحة المنفعة، وهل هو لكون الإباحة بنفسها شرطا لبعض الأخبار،
كما في رواية تحف العقول أو هو على طبق القاعدة، نظرا إلى أنها غير مملوكة ولا معنى
لتمليك ما لا يملكه؟ الأوجه الأول كما سيجئ إن شاء الله تعالى في محله، لما في
تطبيقه على القاعدة من المناقشة صغرى وكبرى.
أما صغرى: فبالنظر إلى أن المنفعة قابلة لأن تكون تارة مملوكة لمالك العين
وأخرى لا تكون مملوكة له، بخلاف العمل من العمل، فإن عمل الحر كما مر مرارا
غير مضاف إلى عامله بإضافة الملكية، بل بإضافة الفعل إلى فاعله والعرض إلى
موضوعه، وإنما له السلطنة على التعهد بعمل في ذمته، فلا ينقسم العمل من عامله
إلى مملوك وغير مملوك ليقال إنه لحرمته غير مملوك له.
وأما كبرى: فلما أشرنا إليه من أن اللازم في مطلق الإجارة السلطنة على التمليك
لا أن حقيقتها متقومة بتمليك المملوك، بل الأمر كذلك في البيع كما في بيع
الكلي. ودعوى أنه مع حرمة العمل ليس له ملك التصرف أول الكلام، فإن حرمة
العمل تقتضي حرمة هذا التصرف لا التصرف الإجاري بتمليك العمل، والقدرة
على التسليم كما مر منا مرارا أجنبية عن حرمة العمل، لأن الملاك في اعتبارها أن
لا تكون المعاملة غررية، ولا غرر هنا غايته أنه فعل حراما بتسليم المستأجر عليه،
وبقية الكلام فيما سيأتي إن شاء الله تعالى.
المبحث السابع: من أحكام المنفعة كما في الشرايع أنه إذا استأجر شيئا معينا
فتلف قبل قبضه بطلت الإجارة (3)، ويراد به انفساخ عقد الإجارة، لشيوع هذا
التعبير منهم في مثل المقام، والظاهر منهم كما ذكره في الجواهر (4) مع ورود النبوي

(1) شرايع الإسلام: كتاب الإجارة في ذيل الشرط الرابع.
(2) جواهر الكلام: ج 27، ص 277.
(3) شرايع الإسلام: كتاب الإجارة في ذيل الشرط الرابع.
(4) جواهر الكلام: ج 27، ص 277.
170

وهو قوله صلى الله عليه وآله: " كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال
بايعه " (1). ورواية عقبة بن خالد (2) المعروفة في كتاب البيع في المبيع أن إلحاق
الإجارة بالبيع مع عدم النص فيها ليس إلا للاجماع وتسالم الأصحاب، كما ألحقوا
الثمن بالمبيع مع اختصاص النص بالمبيع، وربما يدعى هناك وهنا أن أصل الحكم
على طبق القاعدة، لاقتضاء العقود المعاوضية ذلك بمعنى أن مقتضاها تبديل مال
بمال في الملكية والسلطنة، فإن كان الغرض أن عقد البيع بمدلوله المطابقي له عرض
عريض فيقتضي الاستيلاء والاحتواء الاعتباري والخارجي المعبر عن الأول
بالملكية وعن الثاني بالسلطنة الفعلية والمعبر عنهما تارة أخرى بالمعاوضة الشرعية
والعرفية كما يشهد بذلك التعبير بأنه لعله من مقومات المعاوضة كما في الجواهر (3).
(ففيه) أن مدلول البيع تسبيبي يتسبب إليه بالعقد الانشائي، والسلطنة الفعلية
المساوقة للقبض والاستيلاء الخارجي يستحيل أن توجد بسبب انشائي، بل بمباد
خارجية غير اعتبارية ولا جعلية، وإن كان الغرض أن حصول الملكية الشرعية التي
هي مدلول للعقد منوط بحصول السلطنة الفعلية فهو أمر معقول. إلا أنه لا دليل عليه
إلا في بيع الصرف والسلف في المبيع والثمن معا كما في الأول وفي الثمن فقط كما في
الثاني، ولا دليل على اعتبار القبض في تمام أقسام البيع فضلا عن جميع عقود
المعاوضات، مع أن الشرطية مقتضاها عدم تمامية المعاوضة، والمعروف في التلف
قبل القبض انفساخ العقد بالتلف بعد انعقاده وتأثيره، فلا يكون مثل هذا موافقا
للشرطية فضلا عن المقومية.
والتحقيق: أن التلف قبل القبض في الإجارة لا يحتاج إلى الدليل الخاص وإن
كان في البيع محتاجا إليه، فهو هنا على طبق الأصل بمعنى بطلان الأجرة لا

(1) عوالي اللئالي: ج 3، ص 212، ح 59.
(2) الوسائل: ج 12، باب 10 من أبواب الخيار، ح 1، ص 358.
(3) جواهر الكلام: ج 27، ص 277.
171

انفساخها بعد انعقادها، وذلك لأن المملوك بالبيع هي العين وهي موجودة قارة
حال تأثير العقد في تمليكها للمشتري، فإذا عرضها التلف بعد العقد فقد تلف
ملك المشتري، فتلفها من مال البايع بانفساخ العقد قبل التلف آنا ما حتى يكون
تالفا من البايع لا محالة يتوقف على دليل خاص، بخلاف المملوك بعقد الإجارة،
فإنها المنفعة وهي تدريجية، فإذا لم تكن في المدة المضروبة منفعة لفرض تلف العين
بعد العقد الذي هو وعاء المملوك فلا شئ حتى يملك أو يملك سواء قلنا بأن المنفعة
المملوكة هي حيثية العين وشأنها الموجودة بوجودها بنحو وجود المقبول بوجود القابل، أم
قلنا بأنا المملوك هي تلك المنفعة الخارجية المقدرة الوجود عرفا فعلا، فإنه على
الأول حيث لا عين في ظرف الملكية فلا حيثية ولا شأن في ذلك الظرف لتبعية
وجود المقبول لوجود قابله، وعلى الثاني فهذا المقدر وجوده الذي هو عنوان لما هو
مطابق له ليس له مطابق واقعا في ظرف الملكية، وتقدير وجود ما ليس له وجود
تحقيقي في ظرفه لغو لا يترتب عليه أثر حتى يعتبر عند العرف والعقلاء ملكا لأحد.
هذا كله في التلف الحقيقي.
وأما في التلف التنزيلي فحال الإجارة حال البيع في كون الانفساخ على
خلاف القاعدة، فيحتاج إلحاق الإجارة بالبيع إلى دليل من إجماع ونحوه.
وينبغي التنبيه على أمور: (الأول) أنه إذا تلفت العين المستأجرة بعد العقد
والقبض بلا فاصلة فحكمه على ما سلكناه حكم التلف قبل القبض، لأن ظرف
المملوك بعقد الإجارة ما بعد العقد، فإن المنفعة القابلة لأن يستوفيها المستأجر
بالإجارة لا وعاء لها إلا بعد العقد، فتلفها بعد العقد والقبض بلا فاصلة مرجعه إلى
عدم المنفعة في ظرف قابل لأن تكون مملوكة بالإجارة، وحيث لا منفعة فلا قبض.
وأما ما ربما يوهمه ما في الجواهر (1) وتبعه بعض الأعلام من تفاوت القبض
الذي به يستحق الأجرة والقبض الذي يخرج به عن ضمان المعاوضة بدعوى أنه

(1) جواهر الكلام: ج 27، ص 278.
172

بمجرد قبض العين يستحق الأجرة لكنه لا يخرج به عن ضمان المعاوضة فغير وجيه،
لما مر منا سابقا من أن القبض الذي يستحق به الأجرة قبض المنفعة، وقبض العين
مقدمة له، وحيث لا منفعة فلا قبض لأحد طرفي المعاوضة، بل اللازم إبقاء العين
تحت يده في تمام المدة حتى يكون إقباضا لتمام المنفعة حتى يستحق مطالبة الأجرة
تماما.
نعم يتفاوت المقامان من حيثية أخرى وهي أن مجرد التمكين من الاستيفاء في
المدة المضروبة يوجب استقرار الأجرة، لكنه لا يوجب الخروج عن ضمان المعاوضة
إلا بالاستيلاء عليها في المدة، كما هو كذلك في البيع، فإن مجرد التمكين وبذل العين
يوجب استحقاق مطالبة الثمن وإن لم يخرج عن ضمان المعاوضة إلا باقباض العين
خارجا كما هو صريح رواية عقبة بن خالد.
(الثاني) إذا انقضى بعض المدة ثم تلفت العين صح فيما مضى وبطل فيما بقي،
وهو مما لا اشكال فيه أصلا، حيث لا منفعة واحدة إلا في مدة بقاء العين، وأما على
مسلك القوم من الالحاق بالبيع كما في الجواهر (1)، حيث قال كتلف بعض المبيع
فربما يشكل بما أشكل به البيع من أن المبيع هو الكل دون كل جزء جزء، فلا بد من
دفعه بما مر مرارا من أن تعدد الملكية بتعدد المملوك عقلي لتشخص الإضافات
بأطرافها، وتعدد الملكية يستدعي تعدد التمليك، إذ لا فرق بين الايجاد والوجود
بالذات وإنما الاختلاف بالاعتبار، والبيع ليس إلا التمليك، بل العقد اللبي المعنوي
أيضا متعدد، لأن العقد ارتباط أحد القرارين بالآخر، والجعل والقرار أمر لا يستقل
بالتحصل فلا بد من تعلقه بالملكية فيتعدد بتعددها قهرا، ووحدة العقد كوحدة البيع
وحدة عمومية لا شخصية، وبالجملة بناء على المشهور من انفساخ العقد بعد انعقاده
على خلاف الأصل يحتاج إلى تكلف إقامة الدليل وتكلف التطبيق، وأما على ما
سلكناه فالمسألة عقلية لا مجال للفرق فيها بين الكل والجزء.

(1) جواهر الكلام: ج 27، ص 278.
173

(الثالث) ذكر في الشرايع أنه إذا تجدد فسخ القعد بسبب من الأسباب كان
كما إذا تلفت العين في بعض المدة من حيث الرجوع إلى باقي الأجرة بالنسبة إلى
المنفعة غير المستوفاة، نظرا إلى استيفاء ما مضى قبل الفسخ بعقد الإجارة واستقرار
الأجرة بمقدار المنفعة المستوفاة بعقد الإجارة (1). وربما يقال بالرجوع إلى تمام
الأجرة ورجوع المؤجر إلى أجرة المثل للمنفعة المستوفاة بتقريب أنه يفسخ العقد
الواقع أولا، ومقتضى الفسخ عود كل عوض إلى مالكه.
و (التحقيق) أن المنافع المتقدرة بأجزاء الزمان كالأعيان الخارجية المتعددة
بذواتها ولا أقل من أن تكون كأبعاض عين واحدة، فما أفيد من أن حقيقة الفسخ
تقتضي انحلال العقد رأسا مبني على وحدة العقد، فإما أن يبقى وإما أن ينحل، وأما
بناء على تعدده لبا كما هو كذلك قطعا في مثل جعل الخيار برد مثل بعض الثمن
واستحقاق حل العقد في بعض المبيع، فلا مجال لهذا التقريب، فإنه يفسخ العقد
بالنسبة إلى ما بقي من المدة، ومقتضاه عود المنفعة الباقية وما بإزائها من الأجرة إلى
صاحبهما الأول، وأما ما ذكره المشهور من عدم استحقاق إعمال الخيار في رد بعض
المعيب أو المعيب الذي اشتراه مع الصحيح صفقة واحدة أو عدم استحقاق فسخ
العقد بخيار المجلس إلا في كل المبيع فليس لاقتضاء حقيقة الفسخ ووحدة العقد بل
لقصور في المقتضي في مقام الاثبات كما فصلنا القول فيه في باب الخيارات.
ومما ذكرنا تعرف أن الحق هو التفصيل بين أنحاء الخيارات، فإن كان إعمال
الفسخ بخيار الشرط فهو تابع لكيفية الاشتراط، وإن كان بخيار العيب فهو على ما
ذكروه في محله ليس له إلا حل العقد رأسا أو إبقاؤه كذلك، لقصور دليل الخيار عن
غير ذلك، وتحقيق الكلام من هذه الجهة موكول إلى محله. وربما احتمل هذا القائل
كون صورة البطلان كصورة الفسخ في الرجوع إلى تمام الأجرة المسماة والرجوع إلى
أجرة المثل، وإن حكم بأنه بعيد.

(1) شرايع الإسلام: كتاب الإجارة في ذيل الشرط الرابع.
174

وجه الالحاق أن العقد واحد فإذا تعلق بملكية مجموع المنفعة ولم يؤثر من حيث
عدم المنفعة في بعض المدة فمقتضاه رجوع تمام الأجرة المسماة لفرض البدلية لمجموع
المنفعة، والمنفعة المستوفاة حيث إنه مال محترم لم يبذله مجانا فله أجرة المثل.
ووجه الحكم ببعده أن مقتضى فسخ العقد الواحد انحلاله، فيعود كلا
العوضين إلى ما كانا عليه، بخلاف تأثير العقد الواحد، فإنه لمكان وحدته لا
يقتضي التأثير تماما أو عدم التأثير تماما، بل هذا الواحد لمكان المانع من بعض
مضمونه لا يؤثر، ولعدم المانع عن بعضه الآخر يؤثر، فالتأثير وعدمه يمكن قيامهما
بالواحد، وأما الانحلال والبقاء فلا.
وبعد ما عرفت من الملازمة بين العقد الحقيقي المعنوي والتمليك والملكية تعرف
أن الوحدة تقتضي عدم انعقاد الواحد مع عدم الملكية ولو في بعض متعلقه إلا
بالخلف وفرض تعدد القرار المرتبط بتعدد ما يتقوم به القرار. فتدبر جيدا.
(الرابع) قد عرفت مما مر أن منشأ بطلان الإجارة فيما إذا تلفت العين قبل
القبض أو بعد القبض بلا فاصلة أو في أثناء المدة هو عدم المنفعة إما تماما أو بعضا،
فلا شئ حتى يملك لا أن بطلان الإجارة مستند إلى تعذر التسليم برجوعه إلى شرطية القدرة على التسليم كما عن بعض أجلة السادة " طاب ثراه " وذلك لأن
مقسم القدرة والعجز هو تسليم الملك، وحيث لا ملك فلا موضوع للتسليم حتى
يوصف بالقدرة عليه تارة والعجز عنه أخرى.
وأما إذا تلفت العين بعد انتهاء مدة الإجارة وقبل قبضها، فربما يتوهم كما عن
البعض المتقدم ذكره " رحمه الله " أنه مورد الحكم بانفساخ الإجارة، فإن أريد أنه
بعنوان التلف قبل القبض فهو عجيب، إذ لا مملوك للمستأجر بعد انتهاء مدة
الإجارة حتى ينفسخ العقد ويعود إلى المؤجر ويعود ما بإزائه إلى المستأجر، وإن أريد
رجوع ما مضى من المنفعة غير المقبوضة التي لم يعرضها التلف ولو لم يستوفها
المستأجر فلا موجب له شرعا ولا عقلا، ومجرد عدم قبض المنفعة المملوكة لا يوجب
الانفساخ.
175

فشرط الاندراج تحت عنوان التلف قبل القبض أمران: أحدهما ثبوت منفعة
مملوكة، والآخر عروض التلف، ولا ملك بعد انتهاء المدة وإن عرض التلف، ولا
تلف بالإضافة إلى ما لم يقبضه وإن كان مملوكا. هذا كله في المنفعة الموقتة بوقت
خاص.
وأما إذا كانت منفعة العين الخارجية غير موقتة، ولوحظت بنحو الكلي في
المعين لعدم صحة غيره من الفروض المتصورة. فنقول: إذا كانت منفعة الدابة في
يوم من الأسبوع مملوكة بالإجارة، فإن فرض تلفها بعد العقد فلا مملوك قبضها أم لم
يقبضها. وإن تلفت بعد مضي يوم من الأسبوع، فحيث إن الكلي في المعين يتعين
قهرا بتلف ما عدا فرد منه فلا محالة يكون المملوك هو الفرد غير التالف قبضه أم لم
يقبضه، فمضي مقدار يمكن فيه الاستيفاء لا يوجب الاندراج تحت قاعدة التلف
قبل القبض، فالأمر يدور بين عدم الملك وعدم القبض وبين الملك والقبض وعدم
عروض التلف على المملوك، فالتلف والملك لا يجتمعان حتى يتصور انقسام التلف
إلى ما قبل القبض وما بعده. فتدبره جيدا فإنه حقيق به.
(الخامس) إذا وقع عقد الإجارة على عين كلية وتعينت بتعيين المؤجر وقبول
المستأجر في فرد فهل يأتي حديث التلف قبل القبض بتلف الفرد، من حيث
انفساخ عقد الجارة أو من حيث انفساخ الوفاء كما في الجواهر (1) أو لا يأتي بكلا
الاعتبارين هنا وإن قلنا بأحد الأمرين في البيع، وحيث عرفت إن التالف لم يكن
مملوكا من الأول تعرف أن الفرد التالف كما لم يمكن أن يكون مملوكا بعقد الإجارة
حتى ينفسخ العقد تارة ولا ينفسخ أخرى كذلك الفرد حيث لم يكن مملوكا من
الأول لم يعقل انطباق الكلي المملوك بعقد الإجارة على المنفعة التي لا بعقل وجودها
في ظرف استيفائها، فلا انفساخ لا في العقد ولا في الوفاء.
نعم هذا النزاع يجري في البيع، بدعوى تشخص كلي المبيع بفرده واستقرار

(1) جواهر الكلام: ج 27، ص 279.
176

البيع عليه، فينفسخ إذا تلف قبل قبضه، أو دعوى استحالة انقلاب البيع عما هو
عليه بخروجه عن التعلق بالكلي إلى التعلق بفرده، فلا انفساخ إلا بالإضافة إلى
الوفاء. وقد قدمنا شطرا من الكلام بما يناسب هذا المقام في ما إذا تبين عيب في
الفرد في أوائل كتاب الإجارة فراجع. وعليه فالمنفعة الكلية باقية في الذمة، لعدم
انطباقها على شئ حيث لا شئ، فلا انفساخ لا في العقد ولا في الوفاء. فتدبر
جيدا.
المبحث الثامن: مما ذكر في الشرايع استطرادا بمناسبة اكتراء الدابة، أنه لو سار
عليها زيادة على العادة أو ضربها كذلك أو كبحها بجذب لجامها إلى نفسه
ضمن (1)، وهذا مما لا اشكال فيه. إنما الكلام في التلف كلا أو جزء المتعقب لما
هو المعتاد من السير والضرب والجذب فهل يضمن أولا؟ المحكي عن جماعة من
الأعلام عدم الضمان، لاقتضاء العقد تلك الأمور الجارية على العادة، ولتوقف
استيفاء المنفعة عليها.
أقول: ما يلحق استيفاء المنفعة من المضار على قسمين: (أحدهما) ما يستتبعه
استيفاء المنفعة كهزال الدابة بالسير عليها أو الجرح اللاحق على ظهرها ونحوها.
و (ثانيهما) ما يتوقف عليه استيفاء المنفعة كالضرب للمشي ونحوه.
أما ما كان من قبيل الأول فيحث إنه من لوزام استيفاء المنفعة عادة، فهو مما
يستحقه المستأجر بعين استحقاق استيفاء المنفعة وإلا لم تكن الإجارة مشروعة، ولا
يعقل ضمان ما يستحقه كما لا يعقل أن يكون الإنسان ضامنا لنفسه، وجعل مثله
من مقتضيات العقد لا مانع منه، فإنه على حد استحقاق المنفعة بالإجارة،
وكما أن استيفاء المنفعة غير منوط بإذن صاحب الدابة فإنها مما يستحقه المستأجر
كذلك ما يستتبعه عادة لا ينوط بإذنه بعين ذلك الوجه. وأما ما كان من قبيل
الثاني فلا معنى لجعله من مقتضيات العقد، إذ لا مقتضي له إلا ملك المنفعة

(1) شرايع الإسلام: كتاب الإجارة في ذيل الشرط الرابع.
177

بالمطابقة والسلطنة على استيفاء ماله بالالتزام.
وأما توقف استيفاء المنفعة المملوكة على إتلاف مال الغير فلا يكون بنفسه
رافعا للضمان الثابت بثبوت مقتضيه إلا بابداء مانع عن تأثير الاتلاف، ولذا قلنا
سابقا إن توقف استيفاء المنفعة على الاستيلاء على العين بمجرده لا يرفع الضمان
الثابت بوضع اليد على مال الغير، بل لا بد من تأمين من المالك، إما بالمعنى الأخص
أو بالمعنى الأعم، والتمكين من الاستيفاء هو اللازم على المؤجر لا التأمين بأحد
الوجهين. وتوهم أن الإذن في استيفاء المنفعة إذن فيما يتوقف عليه فاسد، لأن
استيفاء المستأجر لما يملكه غير منوط بإذن المؤجر حتى يكون الإذن فيه إذنا فيما
يتوقف عليه، وجوازه شرعا وإن استلزم جواز ما يتوقف عليه إلا أنه بما له من الحكم
لا أنه أمانة شرعية أو إذن من الشارع في إتلاف مال الغير مجانا، فلا بد من التشبث
بما ذكرناه في المباحث السابقة من أن إقدام المؤجر بطبعه ورضاه على الإجارة
المتوقفة على إثبات اليد على العين تسليط منه على العين برضاه، وهي الأمانة بالمعنى
الأعم كما مر توضيحه، فكذا هنا إقدامه ابتداء بطبعه ورضاه على الإجارة المتوقفة
من حيث استيفاء المنفعة بها على الضرب العادي مثلا رضى منه بالاتلاف
العادي، وبقية الكلام فيما سيأتي إن شاء الله تعالى في أحكام الإجارة مفصلا فانتظر.
المبحث التاسع: من أحكام المنفعة من حيث شرطية معلوميها ما ذكره في
الشرايع من أنه يجوز استيجار المرأة للرضاع مدة معينة بإذن زوجها (1)، وقد
اضطربت كلمات الأصحاب فيه وفي أمثاله كإجارة الفحل للضراب والحمام
للاستحمام والبئر للاستيفاء الشاة للبنها والشجرة لثمرها إلى غير ذلك، ووجه
التعرض لها أن حقيقة الإجارة تقتضي ملك المنفعة لا ملك الأعيان كاللبن في
المرضعة والشاة والماء في الحمام والبئر وهكذا. فإن كانت هذه الأعيان مملوكة بعقد
الإجارة فهي خلاف مقتضاها وإلا فما المملك لها، إذ المفروض أنه لا سبب إلا

(1) شرايع الإسلام: كتاب الإجارة في ذيل الشرط الرابع.
178

الإجارة. فنقول:
أما من يجعل الإجارة تمليك عين في مدة مخصوصة في جهة خاصة فلعله يرى
اندفاع الاشكال بذلك وليس كذلك، فإنه لو تم فإنما يتم فيما كانت هناك عين
مملوكة هي مورد عقد الإجارة، فلا يعم الأعمال التي تتعقبها عين كالارضاع
والاستحمام ونحوهما، مع فساد المبنى كما مر مرارا، كما أن ما سلكه شيخنا الأستاذ
" قدس سره " من أن حقيقة الإجارة جعل العين في الكراء وجعل نفسه بالأجرة،
وأن ملك المنفعة لازم غالبي لها فلا مانع من تأثيرها في ملك العين فقد عرفت في
أول باب الإجارة أن الأجرة والكراء حيث إنهما يقعان بإزاء العمل والمنفعة لا بإزاء
العين على عكس الثمن حيث يقع بإزاء العين لا غير فمرجع جعل الدابة في الكراء
إلى جعل ركوبها في قبال الكراء وجعل نفسه بالأجرة إلى جعل عمله في قبالها.
وهكذا دعوى أن مسيس الحاجة إلى هذه الأمور أوجب شرعية الإجارة فيها،
فإنها مدفوعة بأن مسيس الحاجة يسوغ تشريع المعاملة عليها لا أنه يحقق حقيقة
الإجارة المتقومة بجعل الأجرة بإزاء المنفعة والعمل، فإن هذه الحقيقة لا تكاد
تتحقق بالتعبد. ومنه تبين أن دعوى الاجماع على الصحة في بعضها لا تجدي، فإن
ما ليس من حقيقة الإجارة في شئ لا يكون إجارة بالاجماع أو بدليل آخر تعبدي،
بل غاية ما يقتضيه التعبد صحة المعاملة والمعاوضة وإن خرجت عن حدود البيع
والإجارة وهكذا ما عن غير واحد من أن المنفعة أمر عرفي وربما يكون بعض الأعيان
منفعة عرفا لعين أخرى كاللبن للمرأة وللشاة والثمرة للشجرة والماء للحمام والبئر،
فإنه لو صحت هذه الدعوى لصح تمليك المنفعة ابتداء كما يصح تمليك سكنى
الدار، ولا أظن أن يلتزم أحد بصحة تمليك لبن المرأة أو الشاة إجارة ولا تمليك
ماء البئر والحمام ابتداء بعنوان الإجارة. فيعلم منه أن المنفعة في قبال العين مطلقا،
ويشترط في تمليك هذه الأعيان ما يشترط في غيرها.
إذا عرفت ما ذكرناه فاعلم أن العمل والمنفعة على ثلاثة أقسام: (أحدها) أن
الاستيفاء يستتبع تلف العين كالاستحمام في ماء الحمام بالدخول والخروج
179

وكالارضاع أو الرضاع بدخول اللبن في معدة الصبي وكالضراب بدخول النطفة في
رحم الدابة (ثانيها) أن الاستيفاء يستتبع وجود عين كالاستقاء من البئر وحلب
الشاة واخراج لبنها واقتطاف الثمرة من الشجرة. (ثالثها) ما يتوقف الاستيفاء على
وجوده كالخياطة على الخيط والكتابة على المداد والصباغة على الصبغ أي ما يصبغ
به من الألوان ونحوها، ولا منافاة لحقيقة الإجارة مع شئ من هذه الأقسام.
أما القسم الثالث: فالمستأجر عليه هو الفعل، ولزوم البذل من العامل بنحو
الاشتراط الضمني إن كانت هناك عادة متبعة وإلا فلا بد من اشتراط صحيح،
ومع عدمهما فهو على المستأجر، فلم تلزم ملكية العين بنفس عقد الإجارة.
وأما القسم الأول: فما هو مناف لحقيقة الإجارة اقتضاؤها لملك العين لا
اقتضاؤها لعدم تلف العين كما مر في المبحث المتقدم أن استيفاء المنفعة من الدار
بسكناها يستتبع تلف مقدار منها بالمشي والصعود والنزول، والانتفاع بركوب الدابة
ربما يوجب هزالها أو جرج ظهرها ونحوه، وهذه اللوازم مسوغة ومستحق عليها بعين
تشريع الإجارة واستحقاق استيفاء المنفعة وليس في شئ منها عنوان ملك العين
لينافي عنوان ملك المنفعة الذي هو تمام حقيقة الإجارة.
وأما القسم الثاني: فإنما يشكل به المقام إذا كانت تلك الأعيان الموجودة
مملوكة بنفس عقد الإجارة لا باستلزام ملك المنفعة لملك العين، فكما أن البيع
حقيقته تمليك العين وملك العين يستلزم حقيقة ملك منفعتها ولم يتوهم أحد أن
هذا الاستلزام مناف لحقيقة البيع كذلك إذا استلزم ملك المنفعة ملك العين ينبغي
أن لا يكون موهما لمنافاته لحقيقة الإجارة، ومن قال من الأعلام بالتبعية يريد بها
هذا المعنى من الاستلزام لا التبعية في الغرض ليناقش فيها بأن الغرض الأصيل ربما
يكون في العين لا في العمل مثلا، وهذا المعنى هو التحقيق الحقيق بالقبول. إلا أنه
متفرع على تحقق عمل أو منفعة مملوكين حتى يصح حديث الاستلزام ويرتفع
الاشكال والابهام عن المقام.
فنقول: قد مر غير مرة أن منفعة العين هي الحيثية القائمة بها الموجودة فيها بنحو
180

وجود المقبول وجود القابل. فمنفعة الدار ليست ما هو فعل الساكن فإنه من أعراضه
لا من شؤون الدار بل المضايف لفعل الساكن الذي يصير فعليا بفعلية ما هو قائم
بالساكن، فحيثية كونها مسكنا في قبال ما ليس له هذه الحيثية هي منفعتها
وباستيفاء الساكن تخرج من القوة إلى العفل، وكذا حيثية كون الدابة مركبا
وبركوب الراكب تصير فعلية هي منفعة الدابة لا فعل الراكب، وعليه ففي بعض
هذه الموارد يتصور مثل هذه الحيثية لتصير مملوكة ويكون ملكها مستلزما لملك العين،
كالبئر، فإن منفعتها كونها مستقى وبالاستقاء تصير هذه الحيثية فعلية وتستلزم خروج
عين هي مملوكة بملك تلك الحيثية التي للمستأجر إخراجها من القوة إلى الفعل،
وكالشاة، فإنها محلب ولها هذه الحيثية في قبال غير الحلوب وبمضايفها وهو حلب
الحالب تصير فعلية ويتبعها خروج اللبن، بخلاف الشجرة بالنسبة إلى ثمرتها ولو
كانت غير موجودة، فإن الشجرة وإن كانت قابلة للاثمار إلا أن هذه القابلية غير
استيفائية حتى تكون من النافع التي يمكن استيفاؤها، بل هذا الموجود بالقوة يصير
فعليا لا بالاستيفاء، وليس بعده إلا أخذ الثمرة من الشجرة، فليس هناك منفعة
استيفائية قابلة للملكية حتى يستتبع استيفاؤها عينا مملوكة بالاستلزام، وهكذا
إجارة الشجرة لفروعها وأوراقها، وإجارة المملحة لملحها، فإن كل ذلك ليس له
منفعة استيفائية بل ليس فيه إلا تناول العين منه ابتداء، وإلا فبعد فرض منفعة
استيفائية لا يضر تعقبها بوجود العين، فإنها قابلة للملكية بالاستلزام لا بعقد
الإجارة.
وينبغي التنبيه على أمور: (الأول) أن المرضعة إذا كانت مزوجة وكان
الارضاع بإذن زوجها فلا اشكال، وإن لم يكن بإذنه ففيه قولان معروفان:
(أحدهما) بطلان الإجارة مطلقا.
(ثانيهما) صحتها إذا لم يكن الارضاع منافيا لحق الاستمتاع، واحتمل الصحة
بعض الأواخر ولو مع منع الزوج.
وتوضيح القول في ذلك: أن المانع من الايجار عندهم بعد بطلان القول بأن
181

اللبن مملوك للزوج أو أن جميع منافعها مملوكة له ليس إلا منافاة استحقاق
الاستمتاع لاستحقاق الارضاع، ومع سبق ثبوت الأول بعقد النكاح لا مجال
لثبوت الثاني بعقد الإجارة، وهذا إنما يتم إذا كان الزوج مستحقا عليها الاستمتاع
في جميع الأوقات بنحو الاستغراق حتى يكون ما نحن فيه نظير الأجير الخاص، فإنه
بعد تمليك الخياطة في تمام اليوم لا يملك الكتابة فيه أو لا سلطنة له على تمليكها
على التفصيل المتقدم في الأجير الخاص
وأما إذا لم يستحق الزوج الاستمتاع المستغرق لجميع أوقاتها بالضرورة فلا محالة
يكون الاستمتاع الذي يملكه الزوج بأحد وجوه: إما الاستمتاع في زمان معين أو
الاستمتاع في أحد الأزمنة لا معينا أو الاستمتاع في وقت يشاء الزوج، إما بنحو
الواجب المعلق أو بنحو الواجب المشروط أو الاستمتاع في أوقاتها بنحو الكلي في
المعين غاية الأمر أن ولاية التعيين بيد الزوج، وما عدا الأخير باطل.
(أما الأول) فلعدم المعين شرعا وعرفا.
(وأما الثاني) فلاستحالة ملك المردد عقلا كما مر مرارا.
(وأما الثالث) فلثبوت استحقاق الاستمتاع للزوج شاء أولم يشأ، فلا
الاستحقاق يتوقف على المشية ولا ما يستحقه متقيد بالمشية، بل الزوج إنما يشاء ما
يستحقه وإذا انحصر الأمر في الوجه الرابع تندفع المنافاة بين الاستحقاقين، لأن
استحقاق أحد لكلي في المعين واستحقاق الآخر لكلي آخر في المعين يجتمعان، كما
في تمليك صاع من الصبرة لزيد وتمليك صاع آخر منها لعمرو، فإذا فرض أن
استحقاق المستأجر على نهج استحقاق الزوج لم يكن بينهما تمانع، وإنما التمانع
المتوهم يأتي من ناحية ولاية كل واحد منهما على التعيين، فالاستحقاق المستتبع
للولاية لا يجامع الاستحقاق المستتبع للولاية، وهذا أيضا مدفوع بأن الولايتين بما هما
ولايتان على التعيين أيضا غير متمانعتين، ضرورة أن الولاية ليست إلا السلطنة
والقدرة على تعيين ما يستحقه في فرد، وقد شخص على فعل في زمان مع قدرة
الآخر على مثله أو ضده يجتمعان. إلا أن الضدين حيث لا يجتمعان في زمان واحد،
182

فالتعيين من أحدهما كما لا يجامع التعيين من الآخر كذلك لا يجامع القدرة منه على
إيجاد ضده في ذلك الزمان، ومقتضاه بطلان الإجارة في مورد التعيين للاستمتاع
فقط لا مطلقا، أي بمجرد استحقاقه للاستمتاع أو مع ولايته على التعيين، وكذلك
مقتضاه بطلان الإجارة على الارضاع في زمان معين، فإنها لا تجتمع مع ولاية الزوج
على التعيين في هذا الزمان. إلا أن التحقيق أن مجرد منافاة الولاية على التعيين مع
التعيين لا يوجب خللا في شرط من شرائط صحة الإجارة ونفوذها حتى يجدي هنا
توضيحه: أنه مع تعيين الزوج لما يستحقه من الاستمتاع الكلي في زمان خاص
يستقر ملكه على المعين، وحينئذ فاستحقاق المستأجر للارضاع في هذا الزمان
الخاص مرجعه إلى ملكية الضد لما يملكه الزوج، وكما لا يعقل ملكية الضدين لا
يعقل اجتماع ملكيتين متضادتين ولو لشخصين، وأما إن كان استحقاق المستأجر
للارضاع بنحو الكلي في المعين مع ولاينه على التعيين فالزوجة لا تقدر على تمليك
ضد ما يملكه الزوج كما ليس لها القدرة على تعيين ما تملكه في ضده، فلا تقدر على
إعطاء الولاية على التعيين للمستأجر، فالمملوك للمستأجر حيث إنه كلي ليس ضدا
لما يملكه الزوج إلا أنه لا تقدر الزوجة على تسليمه في هذا الزمان كما لا يقدر
المستأجر على تسلمه وتسليم الكلي بتسليم فرده الذي يتعين فيه، فالإجارة باطلة تارة
من ناحية اجتماع الملكيتين المتضادتين، وأخرى من ناحية عدم القدرة على التسليم
والتسلم، وهذه غاية تقريب بطلان الإجارة سواء كانت معينة من حيث الزمان أم
كانت غير معينة بل كانت بنحو الكلي في المعين من حيث وجوداته الزمانية.
ويندفع هذا التقريب بأن الكلي في المعين لا يتعين بصيرورته فردا إلا بوجوده
خارجا، فلا وجود له بنحو التعين إلا إذا وجد الاستمتاع في الخارج، ومعه لا شبهة
في أنه لا يتحقق الارضاع في الخارج في زمان تحقق الاستمتاع، وأما مجرد مطالبة
الزوج بالاستمتاع فلا يوجب خروج الكلي عن الكلية إلى التفرد والشخصية حتى
يستحيل ملك ضده، وعليه كما لا يلزم اجتماع ملكيتين متضادتين بمجرد المطالبة
كذلك لا يلزم سلب القدرة على تسليم كلي الارضاع بتسليم فرده، لعدم رجوعه إلى
183

ملكين متضادين باستقرار ملك الكلي على فرده.
وأما تخيل كفاية استحقاق المطالبة ووجوب التمكين لحرمة الارضاع أو لحرمة
التطبيق، ولازمه اختلال الشرط في الأول وهي إباحة المنفعة واختلال شرط آخر
في الثاني وهو عدم القدرة شرعا على تسليم الكلي بتسليم فرده المحرم، وما يمتنع شرعا
كالممتنع عقلا فمدفوع بأن حرمة الارضاع لوجوب التمكين مبنية على مقدمية فعل
الضد لترك الضد، وهي ممنوعة كما حقق في محله، وعلى فرض الحرمة المقدمية فكون
إباحة المنفعة شرطا غير مناف لها كما سيجئ إن شاء الله تعالى في محله، ومنه يعلم
أنه حيث لا حرمة فلا تكون القدرة على الارضاع مسلوبة، وعلى فرض الحرمة شرعا
لا دليل على اعتبار القدرة بعنوانها، بل المعتبر إحراز إمكان الوصول خارجا لئلا يقع
في الغرر والخطر وإمكان الارضاع خارجا ولو مع إثمها في ترك التمكين مما شبهة
فيه. ومن جميع ما ذكرنا تبين أن إجارة نفسها للارضاع مع تعيين الزمان ولا معه
لا مانع من صحتها ولو مع تعيين الزوج للاستمتاع في ذلك الزمان بل مع المنع عنه،
إذا لموانع المتوهمة إما غير متحققة أو لا مانعية لها فتدبر جيدا.
فإن قلت: لا نسلم أن تعيين الكلي في المعين لا يكون إلا بايجاد فرده خارجا،
بل إذا كان للزوج الولاية عل تعيينه في فرد من الأفراد المقدرة الوجود كفى في
التعين، كما إذا كان من الأول مالكا للمنفعة المتعينة من حيث الزمان، فإن
المملوك هو الفرد المقدر الوجود، واستيفاؤه باخراجه من حد الفرض والتقدير إلى
الفعلية والتحقيق وعليه فليزم اجتماع ملكين متضادين إذا كان زمان الإجارة
معينا.
قلت: بعد فرض تعلق الملك بالكلي في المعين لا بد في تعلقه بالفرد المقدر
الوجود، إما من قلبه من متعلقه إلى متعلق آخر، وهو محال، وإما من إزالة ملك
الكلي وإحداث ملك بالنسبة إلى الفرد المقدر الوجود، وهو خلاف الواقع، إذ لا
ولاية للزوج على إزالة استحقاقه الثابت له شرعا وإحداث ملك من تلقاء نفسه،
وإنما الثابت له السلطنة على الاستمتاع في زمان يختاره لكونه مالكا للاستمتاع
184

الكلي، فلا يتعين ذلك الكلي بفرده إلا بايجاد فرده خارجا. ومما ذكرنا تبين عدم
صحة قياس ما نحن فيه بملك الفرد المقدر الوجود ابتداء، فإنه ليس فيه محذور
الانقلاب، ولا محذور الإزالة والإحداث. فتدبره فإنه حقيق. به ومع هذا كله
حيث إن المشهور على البطلان إما مطلقا أو فيما ينافي فالأحوط ترك الإجارة في
المنافي بغير إذن الزوج، والله أعلم.
(الثاني) في حكم ما إذا صحت الإجارة ولو لعدم المنافاة لسفر الزوج وغيبته أو
مرضه، فاتفق عود الزوج وزوال المرض، وطالبها بالاستمتاع في الزمان المعين
للإجارة. فهل تنفسخ الإجارة لمصادفتها في الواقع للمانع فهي باطلة واقعا، وهو
المراد بالانفساخ في كلامهم؟ أو تبقى الإجارة على صحتها ويجب عليها تقديم حق
الزوج على حق المستأجر، وحينئذ فهي تفسخ الإجارة، كما هو ظاهر عبارة
الجواهر؟ أو للمستأجر حق الفسخ لتعذر التسليم؟ أما الانفساخ أي البطلان فمبني
على أن المانع منافاة استحقاق الزوج لاستحقاق المستأجر، وأنه لا يمكنها تمليك
ضد ما ملكه الزوج، وأما إذا كان عدم قدرة المرضعة على التسليم مانعا، فحيث إن
الوجه في اعتباره رفع الغرر فمع الوثوق بامكان الحصول تصح الإجارة، والمفروض
هنا ذلك.
وأما بعد فرض صحة الإجارة فالمسألة داخلة في تزاحم الحقين، ومجرد سبق
حق الزوج زمانا لا يوجب التقديم، بل لا بد من الأهمية كما أشرنا إليه في بعض
المباحث السابقة. إلا أن تقديم حق الزوج في كلماتهم كالمسلمات بينهم، وأما
حديث فسخ الزوجة فلا موجب له، حيث لا ضرر عليها في بقاء الإجارة على حالها
حتى من حيث الضرر الأخروي، لفرض وجوب تقديم حق الزوج شرعا، بل لو قلنا
بتساوي الحقين أيضا لا ضرر لفرض التخيير، ولذا أظن أن عبارة الجواهر مصحفة
وأنه تنفسح الإجارة لا أنه تفسخ الإجارة وأما حديث فسخ المستأجر لتعذر التسليم
ففيه أنه يمتنع حصوله بعد فرض تقديم حق الزوج، ولا ضرر هنا حيث ينجبر بالخيار
لأن الضرر إن كان فوات الغرض المعاملي فهو لا يحصل بالفسخ وإن كان ضرر
185

الصبر إلى أن يتيسر كما في تعذر المبيع الشخصي فهو على الفرض ممتنع الحصول لا
أنه ممكن التحصيل بالصبر، بل بانقضاء المدة يستحيل حصول المنفعة الموقتة. وإن
كان بلحاظ ذهاب الأجرة هدرا فالمفروض أنه ملك المنفعة في قبالها والآن على
حاله على الفرض، وحيث إنها فوتت المنفعة على المستأجر بتقديم حق الزوج فهي
ضامنة لمالية المنفعة للمستأجر. فإن جواز الاتلاف بل وجوبه لا ينافي الضمان، ولا
ضرر عليها لفرض بقاء الأجرة المسماة على ملكها، فمقتضى القواعد عدم الخيار لا
للزوجة ولا للمستأجر.
(الثالث) فيما إذا آجرت نفسها للارضاع قبل النكاح، والكلام تارة في بطلانها
إذا كانت الإجارة في مدة خاصة وطالبها الزوج فيها بالاستمتاع، وأخرى في تقديم
حق الزوج فيما إذا كانت الإجارة مطلقة وطالبها المستأجر بالارضاع:
وأما الأول: فقد تقدم الكلام فيه في أوائل كتاب الإجارة وبينا هناك أن
الشخص مالك لمنفعة الدار أو منافعه ملكية مرسلة أبدية غير مرهونة بمجئ زمان
استيفاء المنفعة. وقبل النكاح لم تكن في عرض هذه السلطنة سلطنة للزوج ولا
لغيره على ضد ما لها السلطنة عليه. فحال الزوجة حال الدار المنتقلة بالشراء مسلوبة
المنفعة في مدة خاصة، فليس للزوج حينئذ سلطنة على الاستمتاع حتى تبطل
الإجارة.
وأما الثاني: فحيث إن استحقاق المستأجر غير مختص بهذه المدة الخاصة فلا
مانع من استحقاق الزوج بمطالبة الاستمتاع، وحيث إن استحقاق الزوج أيضا
بنحو الكلي في المعين كاستحقاق المستأجر فلا مانع من نفوذ الإجارة المطلقة
المستدعية لاستحقاق المطالبة للمستأجر، فهناك استحقاقان ثابتان بسببين
صحيحين فيتزاحمان، فإن قلنا بتقديم حق الزوج لمكان السبق الزماني في المسألة
المتقدمة كان السبق الزماني هنا للمستأجر، فيجب تقديم حق المستأجر هنا. وإن
قلنا بأن التقديم لمكان الأهمية فلا تفاوت في أهمية حق الزوج بين سبقه ولحوقه
فيجب تقديم حقه. وحيث إن السبق الزماني لا أثر له في المسألتين، ولم تثبت أهمية
186

في البين فلها التخيير، وإن كان نسب تقديم حق المستأجر هنا إلى ظاهر
الأصحاب، فيعلم منه أن ملاك التقديم سبق الحق زمانا. ولذا قالوا بتقديم حق
الزوج في المسألة السابقة، وحيث إن السبق لا أثر له تعلم قوة القول بالتخيير في
المسألتين والله أعلم.
(الرابع) إذا ماتت المرضعة أو الطفل فتارة تكون الإجارة متعينة بتعين مباشرة
الأجيرة للارضاع ومن حيث شخصية الطفل، وأخرى تكون الإجارة مطلقة من
حيث المباشرة والتسبيب وكون الطفل كليا فهنا مقامان:
الأول: في الإجارة المتعينة بتعين الطرفين. فنقول: أما موت المرضعة فهو موجب
لانكشاف بطلان الإجارة واقعا، حيث لا منفعة بعدم ما له المنفعة في ظرف
الإجارة فلا شئ حتى تملك أو تملك، كما تقدم في التلف قبل القبض، وقد مر
أنه لا معنى لانفساخ الإجارة هنا إلا بطلانها من الأول، لا الانفساخ بعد الانعقاد
كما هو ظاهر المشهور. أما موت الطفل فهو في بادي النظر من باب تعذر تسلم
المنفعة واستيفائها وهو لا يوجب البطلان، لفرض إحراز امكان الحصول حال
العقد، وعدم شرطية القدرة الواقعية ليقال بعدمها بعدم القادر. إلا أنه بحسب دقيق
النظر كالأول لأنه مع تعين المستوفي للمنفعة تكون الحيثية القائمة بالمرضعة حصة
خاصة من طبيعي ارضاعها والمتضايفان متكافئان، فمع عدم المضايف القائم
بشخص الطفل لا ثبوت واقع لمضايفها القائم بالمرضعة، فلا حصة حتى تملك أو
تملك. وإن كان المرضعة مالكة لسائر الحصص أو لطبيعي الارضاع الذي لا
يقبل التحصص بهذه الحصة. فتدبره فإنه حقيق به.
المقام الثاني: في الإجارة المطلقة غير المتعينة بتعين الطرف، فمع موت المرضعة
هل تبطل الإجارة؟ أو هي صحيحة وتؤخذ من تركتها القيمة، كما هو ظاهر العلامة
" قدس سره " في قواعده (1)؟ أو يطالب الوصي أو الوارث العمل؟ ولا موجب

(1) قواعد الأحكام: ج 1، ص 229.
187

لتوهم البطلان إلا على القول ببطلان الإجارة بموت المؤجر وأن المنافع بعد الموت غير
مملوكة له، وكذا الأعمال ولو بنحو الكلي لا تملكها مع مصادفتها لزمان موتها، وقد
أجبنا عنه مرارا فراجع، أو على القول بأنه كالتلف قبل القبض كما عن بعض
العامة في الكلي المسلم فيه إذا تعذر عند حلول الأجل. وقد حقق في محله أن الكلي
بما هو لا تعذر له ولا تلف، بل حيث إن المفروض أن الارضاع الذي اشتغلت به
ذمة المرضعة أعم من المباشري والتسبيبي فهذا الوجه إنما يتم توهمه إذا تعذر الفردان
لا خصوص المباشري.
وأما ما عن العلامة " رحمه الله " من أخد القيمة من تركة المرضعة كما في غيره
من الديون المتعلقة بالتركة (1) فهو أيضا غير وجيه، لأن كونه دينا ومتعلقا بالتركة
غير مناف لتعين الارضاع بالاستيجار، لأن هذا الدين لم يتمحض في المالية حتى
يكون أداؤه بأداء القيمة، بل دين خاص. والخصوصية ممكنة التحصيل فيجب على
ولي أمرها الاستيجار وتعطى الأجرة من تركتها. وفي القواعد الفرق بين موت
المرضعة ومرضها فأوجب الاستيجار في الثاني دون الأول (2) ولا وجه له إلا توهم
اقتضاء تعلقه بالتركة دفع القيمة كما عرفت.
نعم إذا قيل بتعلق الدين بالتركة على حد تعلق إرث الزوجة من الأبنية
باستحقاق الزوجة للمالية القائمة بالتركة فلا محالة يستحق المستأجر مالية العمل في
التركة، ولا يعقل استحقاق العمل في التركة. ولا أظن به " قدس سره " أن يسلك
هذا المسلك في الديون المتعلقة بالتركة، وإذا تعذرت مرضعة أخرى فتارة يكون
المتعذر موقتا وأخرى بالمرة وبالكلية في مدة الإجارة، فإن كان من قبيل الأول قيل
بخيار تعذر التسليم، لأن الصبر عليه إلى أن تتيسر مرضعة أخرى ضرر عليه.
ويندفع بأن مورد العقد ليس شخصيا حتى يكون لزومه مع تعذره الفعلي ضررا
ليرتفع لزومه، بل مورد العقد كلي الارضاع وهو ليس بضرري، لأن الكلي بما هو غير

(1) قواعد الأحكام، ج 1، ص 229.
(2) قواعد الأحكام، ج 1، ص 229.
188

متعذر حتى يرتفع لزومه، وضررية الصبر على تطبيقه على فرده تندفع بمطالبة المالية
فله مطالبة المالية وإسقاط خصوصية العمل وله الصبر إلى أن يتيسر حصول
الخصوصية، والمفروض إحراز القدرة على التسليم حال العقد أيضا، ولا يقاس ما
نحن فيه بتعذر الكلي المسلم فيه حال حلوله لمكان النص المختص به الدال على
الخيار، لا أنه بحسب القاعدة وباقتضاء ضررية لزوم العقد.
نعم في تعذر الشخص لا يندفع الضرر إلا بالخيار، لأن نفس ماله متعذر وليس
ماله ذميا حتى تكون له مطالبة المالية وإسقاط الخصوصية، وإن كان من قبيل
الثاني ففي الجواهر الحكم بانفساخ العقد (1). ولعل وجهه أن الكلي منحصر في
الفردين المباشري والتسبيبي، والمفروض امتناع الأول بالموت وامتناع الثاني بفرض
تعذره في مدة الإجارة بالمرة فتكون هذه الإجارة كالمتعينة من حيث الحكم بالبطلان.
ويندفع بأنه في المعين لا طرف لإضافة الملكية في الواقع فيستحيل التمليك والتملك
بخلاف المطلق، فإن طرف الإضافة هو الكلي الذمي وموطن ثبوته الذمة، وتعذر
فرده في الخارج يوجب امتناع تسليمه بتسليم فرده فإذا كان الشرط هي القدرة
الواقعية صح الحكم ببطلان العقد لفقدان شرطه، وأما إذا كان الشرط هو إحرازها
حال العقد، وهو القابل لأن يكون ملاكه رفع الغرر والخطر فالمفروض أنه محرز فلا
موجب لبطلان الإجارة لا من حيث عدم الطرف ولا من حيث فقد الشرط وعليه
فتصح الإجارة، وحيث لا يمكن تحصيل الخصوصية فللمستأجر مطالبة المالية لسقوط
الخصوصية بتعذرها بالكلية، وأما الخيار للمستأجر فقد مر أنه لا موقع له خصوصا
هنا حيث لا معنى لأن يكون الخيار لجبر ضرر الصبر حيث لا معنى للصبر هنا مع
التعذر المطلق. فتدبره جيدا.
المبحث العاشر: في الشرايع وغيره يجوز استيجار الأرض لتعمل مسجدا (2)،

(1) جواهر الكلام: ج 27، ص 299.
(2) شرايع الإسلام: كتاب الإجارة في ذيل الشرط الرابع.
189

وفي قواعد العلامة " رحمه الله " يجوز استيجار الدار لتعمل مسجدا يصلى فيه (1)، وإنما
تعرضوا له بالخصوص ردا على أبي حنيفة، حيث منع عنه بدعوى أن فعل الصلاة لا
يجوز استحقاقه بعقد إجارة بحال، فلا تجوز الإجارة لذلك.
أقول: الاستيجار تارة لأن يبني في الأرض مسجدا، فما يستحقه بالإجارة فعل
البناء وإيجاده فيها، والصلاة غاية لا أنه مملوك بعقد الإجارة حتى يرد اعتراض أبي
حنيفة، وأخرى لأن يصلي فيها الناس كما هو ظاهر الفرع، ويتعين فيه كلام
العلامة " رحمه الله " من استيجار الدار كذلك، وعليه فالأرض أو الدار وإن كانت
مورد الإجارة كما في إجارة الأعيان دائما إلا أن المملوك بعقد الإجارة هي المنفعة،
وما يتصور منها ليس إلا فعل الصلاة من الناس، وحينئذ فلازمه استحقاق فعل
صلاة الناس فيه كما ذكره أبو حنيفة، وهذا غير مبني على ما نسب إليه من عدم
صحة النيابة والاستيجار لها ولو من الأموات كما عن بعض الأعلام " رحمه الله " في
المقام، فإن المستأجر يملك النيابة عنه في الصلاة دون استحقاق فعل صلاة الناس
لأنفسهم التي أمرها بيدهم، كما لا يقاس بالاستيجار لخياطة ثوب زيد، فإن
الخياطة مملوكة للمستأجر من المؤجر وزيد أجنبي عنه لا يملك شيئا بخلاف ما نحن
فيه، إذ لا مملوك بالإجارة إلا فعل صلاة الناس لأنفسهم مع أن أمرها بأيديهم.
وهذا الاشكال بناء على ما اخترناه في حقيقة المنفعة وأنها حيثية للعين
موجودة بوجودها على حد وجود المقبول بوجود القابل مندفع من أصله، فإن حيثية
الدار مسكنيتها وقبولها لذا المبدأ وهي المملوكة دون سكنى زيد أي ما هو عرض من
أعراضه فكذا هنا، فإن الأرض أو الدار لهما هذه الحيثية وهي كونها مصلى لأحد،
فاستيجار الأرض ليستحق به هذه الحيثية في قبال سائر الحيثيات لا يلزم منه
استحقاق فعل الصلاة من الناس.
وأما على مسلك المشهور على ما يتراءى منهم من أن سكنى الساكن هي منفعة

(1) قواعد الأحكام: ج 1، ص 233.
190

الأرض أو الدار، فقد أصلحناه بأن السكنى وإن كان عرضا للساكن ولا يملكه بما
هو مالك الدار، لكن إيجاده في الدار ليس تحت اختياره وليس زمام أمره بيده بل
بيد صاحب الدار، فبالإجارة يملك إيجاد السكنى فيها، فكذا هنا، فإن فعل الصلاة
بما هي وإن لم يكن مملوكا لمالك الدار لكن أمر إيجادها في داره بيده، فالمستأجر
يملك هذا المعنى، ولا فرق في هذا المعنى بين أن يستأجرها لأن يصلي فيها أو أن
يصلي فيها الناس، فأمر فعل صلاة الناس بيدهم إلا أن ايجادها في الدار بيد
المستأجر فعلا كالمؤجر قبلا.
وأما الاشكال من حيث السفهية لعدم عود نفع إليه، لأن المنتفع بها هو
المصلي لا المستأجر فبذل المال بإزاء ما يعدو نفعه إلى الغير سفه فمندفع بأن
الاستيجار لخياطة ثوب زيد أو لبناء داره أو لكنس المسجد كذلك، ويكفي في
الخروج عن السفاهة عود نفع أخروي من هذا الاستيجار إليه وإن لم ينتفع بنفس
العين المستأجرة.
بقي الكلام في أن هذه الأرض التي جعلت مسجدا هل تترتب عليها آثار
المسجدية؟ أو هي نظير المصلى الذي يؤخذ في الدار بل عبر عنها بالمسجد في لسان
الأخبار؟ ومنشأ التردد كون المسجد الحقيقي لا بد من أن يكون وقفا، والعين مملوكة
للغير والمنفعة لا توقف، مع لزوم التأييد في الوقف، والمنفعة الأبدية لا تملك
بالإجارة، وكلا الأمرين مفقود في وقف الأراضي المفتوحة عنوة فإنه ملك
المسلمين، وتبعية الأرض للآثار وزوالها بزوال الآثار، وإن حكي عن المقدس
الأردبيلي " رحمه الله " صحة جعل الأرض المستأجرة مسجدا حقيقيا (1)، لعدم
الملازمة عنده بين المسجدية والوقفية. وتمام الكلام في محله.
المبحث الحادي عشر: يجوز استيجار الدينار والدرهم على المشهور، وخالف فيه
صريحا ابن إدريس، وتردد فيه جماعة آخرون. وعمدة الاشكال فيه وفي أمثاله

(1) مجمع الفائدة والبرهان: ص 3.
191

كاستيجار التفاح للسم والطعام لتزيين المجلس والشمع لذلك من وجهين:
(أحدهما) من حيث عدم المنفعة. (وثانيهما) من حيث عدم المالية، وبلحاظ الأولى
قيل بالمنع لعدم صحة وقفهما فيكشف عن عدم المنفعة، وبلحاظ الثانية قيل بالمنع
لعد ضمان منفعتهما بغصبهما فيكشف عن عدم مالية منفعتهما.
أما الاشكال الأول فدفعه يتوقف على مقدمة: هي أن المنافع عندهم على
قسمين مقصودة وغير مقصودة، والمراد بالأولى هي المنافع المترقبة من الأعيان، كل
عين بحسبها، فمنفعة الدار سكناها ومنفعة الدابة ركوبها فإن هذه المنفعة هي المقصودة
عند العقلاء من شراء هذه الأعيان، وهي مصححة لمالية الأعيان بحيث لولا تلك
المنفعة المقصودة لم تكن العين ذات مالية.
والمراد بالثانية هي المنفعة الجزئية التي لا تناط مالية العين بوجودها كالشم
في التفاح فإن منفعته المقصودة عند العقلاء أكله لا شمه، ومنفعة الخبز أكله لا
التزين به، ومنفعة النقود صرفها في التكسب لا التزين بها، ورب منفعة تكون
بالإضافة إلى عين مقصودة وإلى عين أخرى غير مقصودة كالشم، فإنه من المنافع
المقصودة بالإضافة إلى الأوراد المتمحضة في أخذها للاستشمام، ومن المنافع غير
المقصودة في التفاح وأشباهه من الفواكه التي لا يقصد بها إلا أكلها. وما ذكره
العلامة في قواعده بقوله " رحمه الله " من انتفاء قصد هذه المنافع (1) لعله هذا المعنى
أي ليست من المنافع المقصودة عند العقلاء، لا أنه لم يقصدها المستأجر أو لم يعلم
قصد المستأجر لها كما توهم من عبارته.
وحيث عرفت انقسام المنفعة إلى قسمين وأن مناط مالية العين هي المنفعة
المترقبة من العين نوعا وأنها مناط مالية العين بحيث لولاها لما كانت العين مالا،
تعرف أن دعوى عدم المنفعة إن كانت بمعنى عدم المنفعة رأسا فهو خلف وخلاف
الواقع لفرض التزيين هنا والشم في التفاح، وإن كانت بمعنى عدم المنفعة المقصودة

(1) قواعد الأحكام: ج 1، ص 226.
192

المترقبة من العين فلا بد من بيان الملازمة بين عدم المنفعة المقصودة وعدم تحقق
الإجارة، مع أنه لا معنى لها إلا تمليك المنفعة لا تمليك المنفعة المقصودة، فإنه بلا
موجب لغة وعرفا وشرعا، فإن عدم صلاحية المنفعة لجعل العين ما لا يؤثر في عدم
صحة البيع، فإن المفروض أن العين ليست مالا والبيع مبادلة مال بمال، لا في دعم
صحة تمليك المنفعة التي لم تتقيد عرفا وشرعا بكونها مصححة لمالية العين، فإنه
أجنبي عن حيثية قبولها للتمليك وعدم كونه منفعة مقصودة عند العقلاء لا ينافي
تعلق غرض عقلائي بها يخرج المعاملة عن السفاهة، لما عرفت من أن المراد من
المنفعة المقصودة هي المنفعة المترقبة من العين المصححة نوعا لمالية العين لا أن
المنفعة الأخرى التي ليست هي مناط مالية العين غير عقلائية، ولذا ورد أن الأئمة
سلام الله عليهم كانوا أحيانا يستقرضون إظهارا للغني (1)، بل ربما يبعثون به إلى
عمال الصدقات اظهار لكونه زكاة أموالهم (2)، فهذا وأمثاله أغراض عقلائية تدعو
إلى بعض المعاملات من قرض أو إجارة.
وأما عدم صحة الوقف بلحاظ هذه المنافع غير المقصودة فهو غير مسلم، بل
السيرة العملية من صدر الإسلام إلى يومنا هذا على وقف بعض الأعيان لمجرد
التزيين، فهذا ثوب الكعبة فإنه لمجرد التزيين لا أنه وقاية لها عن الحر والبرد، وهذه
القناديل المصوغة من الذهب والفضة المعلقة في المشاهد المشرفة ليست إلا للتزيين
مع أن منافعها المترقبة منها هي الاسراج والإضاءة.
وأما ما يقال - بالنقض بإجارة الحر وأم الولد مع أنه لا يصح وقفهما، فلا
ملازمة بين الوقف والإجارة فهي غفلة عن وجه الاستدلال فإن الملازمة باعتبار
وجود المنفعة وعدمها، فما لا منفعة فيه كما لا يجوز وقفه لا يجوز إجارته، لا دعوى
الملازمة الكلية حتى ينتقض بالحر وأم الولد، ومما يؤيد ما ذكرناه من كفاية مطلق
المنفعة في الإجارة كفاية مطلقها في العارية بلا خلاف ظاهرا، ولا فرق بين الإجارة

(1) راجع الوسائل: ج 3 باب 3 من أبواب أحكام الملابس، ح 1 و 2، ص 342.
(2) راجع الوسائل: ج 3 باب 3 من أبواب أحكام الملابس، ح 1 و 2، ص 342.
193

والعارية إلا أن الأولى ملك المنفعة والثانية ملك الانتفاع مع الكلية المدعاة أن كل
ما تصح اعارته تصح إجارته. هذا تمام الكلام في الاشكال من حيث المنفعة.
وأما الاشكال الثاني من حيث كون أمثال هذه المنافع غير المقصودة أموالا
فتقريبه: أن المنافع المقصودة المترقبة من الأعيان كما أنها مصححة لمالية تلك
الأعيان كذلك هي بنفسها أموال لفرض أنها مقصودة عند العقلاء، ولا نعني
بالمالية التي هي من الاعتبارات العقلائية إلا كونها بحيث يميل إليها النوع ويرغب
فيها العقلاء لا أنها على قسمين منجعلة ومجعولة باقتراح المتعاملين، فإن الاعتبارات
العقلائية لا معنى لإناطتها باعتبار شخص لمسيس حاجته إلى بذل المال بإزائه، فهو
نظير دعوى الشيخ الأجل الأنصاري " قدس سره " من أن النقل تارة باعتبار الشارع
أو العرف وأخرى بنظر الناقل، وعليه فالمنفعة غير المقصودة ليست ذات مالية وإن
بذل بإزائها المال، فإن مصحح البذل تارة مالية المبذول له وأخرى غرض تمس
الحاجة إلى تحصيله.
وحينئذ فدفع الاشكال منحصر فيما ذكرناه في طرف المنفعة من أن الإجارة
حقيقتها لغة وعرفا وشرعا تمليك المنفعة من دون موجب لغة أو عرفا أو شرعا لكونها
مقصودة ولكونها مالا، فإن مصحح بذل الأجرة لا ينحصر في إقامة مال مقام مال
كما يدعى في البيع بل ربما يكون المصحح للبذل تحصيل غرض عقلائي بالانتفاع
بالعين بحيث لا يحصل إلا ببذل العوض، ولا ملازمة بين صحة الإجارة لهذا الغرض
وضمان ملك المنفعة حتى يستكشف من عدم ضمان مثل هذه المنفعة عدم المالية
فيحكم بعدم صحة الإجارة، فإن الضمان عند حصول موجبه من يد واستيفاء
واتلاف وإن كان منوطا بمالية المضمون، فما لا مالية لا ضمان له إلا أن ما
لا ضمان له لعدم كونه مالا لا تصح إجارة مثله دعوى بلا بينة من لغة أو عرف أو
شرع.
والمراد من الملازمة بين الضمان والمالية وعدمه وعدمها هي الملازمة مع
تحقق موجبات الضمان من يد أو استيفاء أو اتلاف، فالنقض بعمل الحر حيث
194

إنه مال ولا يضمن بالفوات إما لعدم إضافة المال إلى الحر بإضافة الملكية وإما لعدم
كون المنفعة مما يستولى عليه إلا عند استيفائه غير وارد، لأن عدم ضمانه ليس من
ناحية عدم المالية بل من ناحية عدم موجب الضمان، مع أن مثل هذه المنافع مع
استيفائها غير مضمونة فيكشف عن عدم ماليتها. فالجواب حينئذ تسليم عدم
الضمان وعدم المالية، وأن الإجارة غير متقومة بمالية المنفعة كما عرفت.
ويمكن أن يقال: إن الفرق بين المنافع المقصودة وغيرها أن المنافع المقصودة
حيث إنها من لوازم وجود العين نوعا فهي مقدرة الوجود دائما بتبع وجود العين
تحقيقا فهي مصححة لمالية العين بقول مطلق ومال كذلك بخلاف المنافع غير
المقصودة فإنها مقدرة الوجود أحيانا عند مسيس الحاجة إليه فهي مال في فرض
خاص لا بقول مطلق، والشاهد على أنها مال في هذا الفرض أنها مقومة عند العرف
وبلحاظه يدخل فيها الغبن، فالشم عند تقدير وجوده له قيمة بحيث لو زادت الأجرة
على ما يتعارف في مثله وكان التفاوت بما يتغابن فيه عرفا أن له خيار الغبن،
وهذه القيمة ليست بالاقتراح كما في بذل المال بإزاء الخلع، فإنه تابع لاقتراح
الزوج من دون أن يكون له في العرف والعادة ملاك وميزان، وعليه فكل ماله
تقدير الوجود دائما كما في المنافع المقصودة فهي مضمونة إذا تحقق فيها موجب
الضمان، وكل ماله تقدير الوجود عند مسيس الحاجة إليه كما إذا استأجر الدينار
للتزيين فهو أيضا مال مملوك، فهو أيضا مضمون عند حصول موجب الضمان فضلا
عما إذا تحقق وجوده كما إذا استوفى هذه المنفعة.
وأما إذا لم تكن المنفعة محققة الوجود بالاستيفاء ولا مقدرة الوجود
بايقاع عقد الإجارة، فلا مال ولا مملوك حتى تكون مضمونة ولو كانت العين تحت
اليد.
ومما ذكرنا تبين صحة الإجارة مع الالتزام بالمالية مع عدم الضمان مع عدم
كون المنفعة مقدرة الوجود أو محققة الوجود، وحينئذ فدعوى أنه لا تضمن هذه
المنفعة ولو باستيفائها كما يؤمي إليه كلام بعض الأعلام " رحمه الله " غير وجيه، كما
195

أن دعوى عدم الضمان مع تقدير وجوده أيضا كذلك، والمناقشة في ضمانها بفواتها
تحت اليد جارية في المنافع المقصودة أيضا، وما ذكرنا من دوران المالية المطلقة
وغيرها مدار تقدير الوجود مطلقا أو في فرض خاص لا دخل له بما قيل في عمل الحر
من أنه ليس بمال قبل المعاوضة ومال بعدها، فإن المالية لا تحدث بالمعاوضة وإنما
الحادث بها هي الملكية، بل مسيس الحاجة إليه يوجب تقدير وجوده فيملك
بالإجارة.
المبحث الثاني عشر: في حكم أخذ الأجرة على الوجبات. والكلام فيه تارة في
منافاة الوجوب بما هو لأخذ الأجرة، وأخرى في منافاة الوجوب التعبدي بما هو
تعبدي لأخذ الأجرة، وثالثة في منافاة الوجوب التعبدي النيابي لأخذ الأجرة، نظرا
إلى أنه لا يقع قريبا عن المنوب عنه فلا يستحق الأجرة، فهنا مقامات من الكلام:
المقام الأول: في بيان منافاة الوجوب بما هو لأخذ الأجرة وعدمها، ومجموع
ما ذكر في وجه المنافاة أمور:
أحدها: أن عمل المسلم ليس بمال وإنما يصح أخذ الأجرة عليه لكون عمل
المسلم محترما وإيجابه يوجب سقوط احترامه لما سيجئ إن شاء الله تعالى.
ثانيها: ما عن الشيخ الأعظم " قدس سره " في مكاسبه من أن عمل المسلم مال
لكنه غير محترم لكون العامل مقهورا عليه من دون دخل أذنه ورضاه (1)، فالايجاب
مسقط لاعتبار إذنه ورضاه المقومين لاحترام المال.
ثالثها: ما عن بعض أجلة العصر (2) من أن الايجاب يوجب سقوط ملك
التصرف، لمنافاة المقهورية في الايجاد للسلطنة على الفعل والترك، وملك التصرف
شرط في نفوذ كل تصرف معاملي.
رابعها: ما نسب إلى الشيخ الأكبر كاشف الغطاء " قدس سره " (3) من أن

(1) المكاسب: ص 63.
(2) راجع تقريرات درس مكاسب النائيني للآملي: ج 1، ص 40.
(3) الناسب هو الشيخ الأنصاري في المكاسب: ص 62، ولعل مأخذ كلام الشيخ الأنصاري هو.
196

إيجاب العمل يوجب صيرورة العمل ملكا لله ومما يستحقه تعالى عليه، وفيما كان له
مساس بالغير كتجهيز الميت يوجب كونه مملوكا ومستحقا لذلك الغير، فلا يمكن
تمليك مملوك أحد.
خامسها: ما نسب إليه " قدس سره " أيضا من عدم ترتب آثار ملك العمل من
الابراء والإقالة والتأجيل على الواجب المستأجر عليه، فيكشف عن عدم الملك.
سادسها: ما كان يحتمله شيخنا الأستاذ " قدس سره " (1) في بحث القضاء من
لغوية بذل العوض على ما يتعين على الأجير.
سابعها: ما حكي توهمه في كلام بعض الأعلام " قدس سره " من أن
الايجاب ينبعث عن فائدة عائدة إلى من يجب عليه، فأخذه الأجرة على ما تعود
فائدته إليه أكل للمال بالباطل.
ويندفع الوجه الأول من حيث نفي المالية عن العمل بما مر منا مرارا من أن
المالية تنتزع عن كل ما يرغب إليه العقلاء لما في العمل من الأغراض والفوائد
العقلائية، وأما نفي المالية عن العمل وتصحيح الاستيجار عليه باحترام علم المسلم
فمدفوع بأنه لا مدرك لاحترام العمل إلا قوله صلى الله عليه وآله: " وحرمة
ماله كحرمة دمه " (2) فالعمل له الحرمة من يحث إنه مال لا من حيث نفسه.
ويندفع الوجه الثاني المشترك مع الوجه الأول في سقوط الاحترام بالايجاب بما
مر مرارا من أن لمال المسلم حيثيتين من الاحترام:
إحداهما: حيثية إضافته إلى المسلم، وهذه الحيثية يقتضي احترامها أن لا
يتصرف أحد فيه بغير إذنه ورضاه وله السلطان على ماله وليس لأحد مزاحمته في
سلطانه، وهي الثابتة بقوله عليه السلام: " لا يجوز لأحد أن يتصرف في مال غيره

شرح بيع القواعد لكاشف الغطاء الغير مطبوع.
(1) هذا التعبير من المؤلف للمحقق الخراساني الذي قضاؤه غير مطبوع.
(2) الوسائل: ج 8، باب 158 من أبواب أحكام العشرة، ح 3، ص 610.
197

بغير إذنه " (1). وبقوله عليه السلام: " لا يحل مال امرئ إلا عن طيب نفسه " (2).
ثانيتهما: حيثية ماليته، ومقتضى حرمتها أن لا يذهب هدرا وبلا تدارك، فلا
يجوز أن يعامل مع مال المسلم معاملة الخمر والخنزير مما لا مالية له شرعا ولا
يتدارك بشئ أصلا، ومن الواضح أن الايجاب واللابدية والمقهورية وسقوط إذنه
ورضاه كلها موجبة لسقوط احترام العمل من الحيثية الأولى دون الحيثية الثانية،
فإن كل تلك الأمور أجنبية عن هذه الحيثية من الاحترام، ولذا جازا كل مال الغير
في المخمصة من دون إذنه مع بقاء المال على حاله من احترامه ولذا يضمن قيمته
بلا اشكال، مضافا إلى أن هدر المال غير هدر المالية كما في مال الكافر الحربي، فإنه
ساقط الاحترام من الجهتين، فيجوز أخذه منه وتملكه بغير عوض بدون إذنه، ومع
ذلك فهو مال ومملوك للحربي، ولذا يجوز ايقاع المعاملة عليه واستيجاره على عمله،
وما يضر بالإجارة كما يضر بالبيع هدر المالية كالخمر والخنزير، فإنه المنافي لجعل
الثمن في قباله ولأخذ الأجرة عليه لا هدر المال. فتدبر جيدا.
ويندفع الوجه الثالث بما مر أيضا مرارا من أن ملك التصرف تارة يراد به
السلطنة تكليفا لانتزاعها من جواز العمل فهو غير مصدود من قبل الشارع فله شرعا
فعله وتركه وزوال هذا الملك بأحد الأمرين من الايجاب والتحريم لمضادتهما مع
الإباحة الخاصة مسلم إلا أنه لا يجدي كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وأخرى يراد به
السلطنة وضعا وهي القدرة على التصرف المعاملي، وهذه السلطنة تابعة لاستجماع
السبب المعاملي لكل ما يعتبر فيه من حيث كونه لفظا عربيا ماضويا منجزا غير
معلق، ولما يعتبر في مورده من كونه ملكا طلقا لم يتعلق به حق الغير مثلا، ومن حيث
كون المتعاملين بالغين عاقلين مختارين غير مكرهين ولا محجورين بأحد أسباب
الحجر، ومن البديهي أن الوجوب لا يزيل شيئا من هذه الأمور، فسلطنته على

(1) الوسائل: ج 17، باب 1 من أبواب الغصب، ح 4، ص 309 وفيه " لا يحل ".
(2) الوسائل: ج 3، باب 2 من أبواب مكان المصلي، ذيل ح 3، ص 425 وفيه اختلاف يسير.
198

التصرف الوضعي المعاملي محفوظة وعدم وجوب العمل ليس من الشرائط. نعم
إباحة العمل في قبال حرمته من الشرائط كما سيجئ إن شاء الله تعالى في محله.
فإن قلت: من شرائط نفوذ المعاوضات القدرة على التسليم، ومع الوجوب لا
قدرة له على الفعل والترك معا شرعا، والقدرة لا تتقوم بطرف الفعل فقط أو بطرف
الترك فقط.
قلت: مدرك اعتبار القدرة على التسليم إن كان وجوب الوفاء بالعقد والعمل
وفاء فمن الواضح أن وجوب العمل يتأكد بوجوب التسليم لا أنه ينافيه، وإنما المنافي
له حرمة العمل، فإنه مع وجوب الوفاء المفسر بوجوب ايجاده متنافيان، وإن كان
مدرك الاعتبار لزوم رفع الغرر كما مر مرارا فيكفيه امكان الحصول للمتعاملين سواء
كان البائع والمشتري قادرين شرعا أو عقلا أم لا، وامكان حصول العمل المستأجر
عليه خارجا مفروض في المقام بلا كلام.
ويندفع الوجه الرابع بأن اقتضاء الايجاب للملك إما بملاحظة أن الملك مساوق
للسلطنة وحقيقتها زمام العمل بيده فعلا وتركا، والفعل قبل الايجاب مملوك
للمكلف بهذا المعنى، فإذا أوجبه عليه فقد انتزع الأمر من يده وأخذه زمام الأمر
بيده، فهو المالك للأمر، وإما بملاحظة أن الملك وإن كان غير السلطنة بل كان
بمعنى الاحتواء والإحاطة فقبل الايجاب لا احتواء من الشارع لنفسه بل كان
المحتوي له هو المكلف فإذا أو جبه الشارع وعينه عليه فقد احتواه لنفسه وعينه
لشخصه وله والإحاطة عليه هذا
فإن كان دعوى الملك الاعتباري بالملاحظة الأولى فهي مدفوعة بأن كون زمام
الأمر بيد المكلف بمعنى أنه له فعله وله تركه تكوينا، وبهذه المعنى دائما للعبد لا
للشارع، وإنما للشرع زمام الأمر تشريعا فله رفعه وله وضعه، وهذا المعنى ثابت
للشارع قبل الايجاب وبعده. نعم تزول بالايجاب السلطنة التكليفية فليس زمام
العمل بيد المكلف شرعا، وهذا معنى زوال الإباحة الخاصة المضادة للوجوب، إما
أن الايجاب يقتضي كون زمام العمل بيد الشارع تكوينا أو تشريعا فلا كما عرفت.
199

فتدبره جيدا.
وإن كان دعوى الملك بالملاحظة الثانية فهي مدفوعة بأن طبيعة الايجاب
تقتضي تعين العمل على المكلف ولا بديته منه لا تعين العمل لنفسه أو لغيره، ومنه
تبين أن ايجاب عمل للغير كالتجهيز لا يقتضي ملك الغير بل المتقضي جعل العمل
للغير لا ايجاب العمل للغير، وهل هذا إلا كاستيجار الأجير لخياطة ثوب زيد أو بناء
داره، فإن مجرد كون العمل له مساس بالغبر لا يوجب كونه مملوكا للغير.
وما ذكرنا هو الجواب عن دعوى اقتضاء الايجاب للملك لا المناقشة في أن
ملكه تعالى ليس من سنخ ملك العباد، فإنه وإن كان كذلك إلا أن ثبوت ذلك
الملك المساوق لإحاطته الوجودية بالاملاك وملاكها لا ينافي ثبوت ملك اعتباري
له يترتب عليه بعض الآثار، وبقية الكلام في محله.
ويندفع الوجه الخامس بأن عدم زوال آثار الوجوب الذاتي لا ينافي زوال آثار
الوجوب العرضي، فالاقالة توجب انتفاء وجوب الوفاء بالإجارة لا وجوب العمل
ذاتا والابراء يوجب عدم استحقاق المستأجر للعمل لا عدم وجوبه في نفسه،
والتأجيل يوجب عدم لزوم التعجيل من حيث استحقاق المستأجر لا من حيث
اقتضاء وجوبه في نفسه للفورية، فلا مانع من صحة الإجارة وترتب هذه اللوازم من
حيث الإجارة لا من حيث وجوبه الذاتي.
ويندفع الوجه السادس بأن تعين العمل منه المساوق لليقين بصدوره منه هو
الموجب للغوية البذل واندراج الإجارة في المعاملة السفهية دون تعين العمل عليه
شرعا فقط، فإنه لا يوجب لغوية البذل للاتيان بأصله أو للتعجيل في إتيانه.
ويندفع الوجه السابع بأن مجرد كون الواجب ذا فائدة عائدة إلى من وجب
عليه، نظرا إلى القواعد المقتضية لاشتمال كل واجب على مصلحة لزومية راجعة إلى
المكلف لا ينافي أن يكون ذا فائدة عائدة إلى المستأجر أيضا وبالجملة الإجارة
ليست بلحاظ تلك المصلحة العائدة إلى شخص العامل، ولا الايجاب يقتضي عدم
اشتمال الفعل على فائدة عائدة إلى المكلف، ولو فرض في بعض الواجبات عدم
200

فائدة عائدة إلى الغير فهو كبعض المباحات التي لا تعود فائدتها إلى الغير، فإنه ليس
باقتضاء من الايجاب أو الإباحة، فتدبر جيدا.
وينبغي التنبيه على أمور: (الأول) ربما يقال كما عن بعض أجلة العصر
" رحمه الله " (1) بناء على منافاة الوجوب لأخذ الأجرة بالفرق بن ما إذا أخذ العمل
بنحو المعنى المصدري فوجوبه لا يمنع عن أخذ الأجرة وبمعنى اسم المصدر فوجوبه يمنع
عنه، ونظرا إلى أن المال الذي تبذل بإزائه الأجرة هو المعنى الاسمي دون المصدري،
وفسر هذا الفرق فيها حكي عنه بوجهين:
(أحدهما) الفرق بين العمل ونتيجة العمل كالخياطة والهيئة القائمة بالثوب،
فما هو المال هي النتيجة فلا يمنع من أخذ الأجرة عليها وجوب العمل، فالاستيجار
ليس على ما هو الواجب بل على ما هو غير واجب.
ويندفع بأن هيئة المخيطية القائمة بالثوب ممولة للعمل لا أنها مال، وإيجاد الهيئة
ليس بمال، كما أن المنافع وإن كانت أموالا إلا أنها ممولة للأعيان أيضا، مضافا إلى
أن الأجرة بإزاء المنفعة القائمة بالمشخص أو الدار أو الدابة والعمل القائم بالأجير،
وأما الأوصاف والأعيان فلا يكون عوضها أجرة.
و (ثانيهما) الفرق بين العمل من حيث الاصدار وهو من حيث الصدور، ومثل
لهما بالطبابة من حيث بذل نفسه لها ومن حيث الإعلام بالدواء فالواجب على
الطبيب بذل نفسه وعدم بخله عن الاعلام بالدواء، وأما ما هو مال ويأخذ بإزائه
الأجرة فهو نفس الاعلام بالدواء وهو غير واجب عليه.
ويندفع مضافا إلى عدم مناسبته للمصدر واسم المصدر وعدم مناسبته للفعل من
حيث الاصدار ومن حيث الصدور بأن بذل نفسه وعدم بخله عملا عين الاعلام
بالدواء بعد عدم وجوب أمر خلقي وهو عدم البخل حقيقة أو الجود حقيقة ومع
العينية فالبذل عملا هو الواجب وهو المستأجر عليه.

(1) تقريرات درس النائيني للمكاسب: ج 1، ص 42.
201

(الثاني) نسب إلى جماعة الفرق بين الواجب العيني فلا يجوز الاستيجار عليه
والواجب الكفائي فيجوز بمعنى عدم منافاة الوجوب الكفائي بما هو وجوب لا بما هو
تعبدي، فإنه سيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى. وحيث إن المباني في حقيقة
الوجوب الكفائي مختلفة فاللازم بيانها وبيان ما يقتضيه عند هؤلاء الجماعة من عدم
منافاته للاستيجار.
فنقول: الوجوب الكفائي إما أن يتعلق بكلي المكلف بما هو أو بصرف وجود
المكلف أو بالكلي الساري في جميع آحاد المكلفين بضميمة خصوصية يمتاز بها
الكفائي من العيني.
(أما الأول) فتقريبه أن الوجوب في الكفائي يتعلق بكلي المكلف بما هو، نظير
تعلق ملك الزكاة والخمس بطبيعي الفقير والسيد، وكما أن الملكية من الاعتبارات
القابلة للقيام بالكلي بما هو، كذلك الايجاب والبعث، فإنهما أيضا من الاعتبارات
العقلائية، فلا مانع من تعلقهما بالكلي، وكما أن إقباض الفقير والسيد يوجب تعين
الكلي فيهما فكذلك من قام بالفعل يتعين فيه الكلي الذي وجب عليه الفعل،
ويستنتج من هذا أن الفعل من الأجير مملوك قبل تعين الكلي فيه، وصيرورته مملوكا
لله تعالى بعد اتصافه بالوجود، فما هو مستأجر عليه حال ورود الإجارة عليه لم يكن
مملوكا لله تعالى على الأجير. واستشهد بعض الأجلة من السادة " قدس سره " لهذا
المعنى بأنه لا يلزم خصوص الأجير بالعمل من باب الأمر بالمعروف، ولو تعين فيه
كلي من وجب عليه جاز إلزامه به.
والجواب إن البعث وإن كان من الأمور الانتزاعية إلا أن حقيقته حيث
كانت موجبة لجعل الداعي حتى تنقدح في نفسه الدعوة فتنبعث منه الإرادة المحركة
للعضلات نحو العمل فلا محالة لا يتعلق بعنوان المكلف بالحمل الأولي بل بالمكلف
بالحمل الشايع ولو بواسطة العنوان الفاني في معنونه ومطابقه. ولو تنزلنا عن ذلك
فمتعلق الإجارة لا بد من أن يكون قابلا للمملوكية في ظرف العمل لا حال عقد
الإجارة والمفروض أن هذه المنفعة مملوكة لله حال وجودها، مع أن توصيف الفعل
202

بعد وجوده بكونه مملوكا لله تعالى لا منشأ له إلا عروض الوجوب عليه حال إيجاده،
فما هو الواجب هو المملوك لله تعالى والوجوب ليس من العوارض الوجودية
للهويات العينية حتى يكون عروضه لها مساوقا للملك. ولو تنزلنا عن ذلك وقلنا
بتعلق الوجوب بالكلي بما هو، وتعلق الإجارة بشخص عمل الأجير الذي هو أحد
مصاديق الكلي فلا بد من تطبيق العمل الكلي القائم بعنوان المكلف على هذا
الشخص من العمل، ولا يعقل الوفاء بمملوك أحد للكلي المملوك لغيره، ومقتضى
هذا المبنى وإن كانت صحة الإجارة إلا أنه يبقى الواجب الكفائي على حاله إن
كان قابلا للتعدد وإلا كان إسقاطا للواجب بغير الإطاعة والامتثال وعلى أي
حال من الاستيجار على الواجب الكفائي بل على الواجب لولا الإجارة، ولا
كلام لأحد في امكان اسقاط الواجب بغير الإطاعة ولا في امكان الإجارة على ما لا
يقع مصداقا للواجب. إنما الكلام في أخذ الأجرة على الواجب على نحو يقع به
امتثال الواجب مع عدم لزوم المحاذير المتقدمة.
و (أما الثاني) وهو تعلق الأمر بصرف وجود المكلف في قبال الوجوب العيني
المتعلق بمطلق وجوده وعليه فالأجير بما هو شخص لم يتعلق به تكليف حتى تكون له
لوازم منافية لأخذ الأجرة، والكلام عليه تارة في المبنى وأخرى في الابتناء.
أما المبنى فمختصر القول فيه: إن صرف الوجود بالمعنى المصطلح عليه في فنه غير
مراد هنا قطعا كما بينا وجهه في محله (1)، فلا بد من أن يراد منه هنا أحد أمرين: أما
ما ذكره بعض الأجلة من أن المراد منه ناقض العدم الكلي وناقض العدم المطلق.
وهو بعد تصحيحه بمعنى أول الوجود الملازم عدمه لبقاء سائر الأعدام على حالها.
يرد عليه أنه أجنبي عن صرافة الوجود، كيف وهو وجود خاص محدود بالأولية،
إلا أنه لا مسرح له هنا، إذا لا معنى لملاحظة أول الوجود في المكلفين ولو صح لصح في
متعلق التكليف أي أول وجود من الفعل وأما تراد الماهية اللا بشرط القسمي أي

(1) راجع الأصول على النهج الحديث: ص 65 طبع مؤسسة النشر الإسلامي باسم " بحوث في الأصول ".
203

ملاحظة وجود المكلف مطلقا من حيث تحصصه بحصة أو تشخصه بمشخص. وعليه
فإذا لوحظ طبيعي وجود المكلف بالحمل الشايع لا بشرط فلا محالة إذا تعلق
بمثله تكليف بفناء العنوان في معنونه يكون جميع حصص المكلفين وأشخاصهم
مكلفين به لا بما هم حصص وأشخاص بل بما هم وجود المكلف، ونتيجة
اللا بشرطية نتيجة ملاحظة الكلي الساري في أفراده، فالأجير بما هو وجود المكلف
محكوم بالفعل، وفعله مملوك لله تعالى، وإيجاب فعله مسقط لاحترامه وسالب لقدرته
على الترك، فتعود المحاذير المتقدمة.
وأما الابتناء فنقول: سلمنا أن الأجير لم يتعلق به التكليف بوجه أصلا إلا أنه
لا شبهة في أن قيامه بالواجب يوجب امتثال التكليف، وإلا لم يعقل التكليف
الذي لا يعقل امتثاله، وليس ذلك إلا من حيث صدق صرف وجود المكلف عليه،
وإذا كان الفعل من صرف وجود المكلف مملوكا لله تعالى ومسلوب الاحترام
والقدرة فعمل الأجير مصداق للمملوك له تعالى ومصداق لما سلب احترامه والقدرة
على تركه.
و (أما الثالث) وهو ملاحظة وجود المكلف بنحو الكلي الساري في جميع أفراده
بحيث يكون الحكم ساريا عقلا بسريان الكلي في أفراده فحكمه متحد مع تعلق
الحكم بذوات الآحاد ولو بنحو فناء العنوان في معنونه وبطور ملاحظة الأفراد الأعم
من المحققة الوجود والمقدرة الوجود بنحو القضية الحقيقية، فلا بد من امتياز الواجب
الكفائي عن الواجب العيني بخصوصية توجب سقوط امتثال هذا التكليف الساري
أو المتعدد بتعدد موضوعه لحاظا دون الواجب العيني، وتلك الخصوصية أحد أمرين.
إما إناطة الوجوب في الكفائي بعدم الفعل من الآخر، وإما كون الوجوب مشوبا
بجواز الترك مع فعل الآخر.
أما الأول: فالمبنى غير صحيح، لأن لازمه عدم حصول امتثال التكليف، لعدم
الوجوب رأسا إذا صدر الفعل منهما مع دفعه لعدم مقارنة الفل من أحدهما مع
الترك من الآخر، وهو على الفرض شرط الوجوب، ولا يذهب إليه أحد.
204

وأما الابتناء فلأن الواجب على الفرض هو الفعل المقارن للترك من الآخر،
وهو على الفرض مملوك لله تعالى ومسلوب الاحترام والقدرة، لأن الفعل بما هو وإن
جاز تركه إلا أن الواجب على الفرض أمر خاص وهو الفعل المقارن للترك من
الآخر، ومثله مما لا يجوز تركه، فهو بملاحظة المقهورية مسلوب الاحترام والقدرة على
الترك، فإذا قام أحدهما بالفعل وكان مقارنا لترك الآخر كان فعله مصداقا
للواجب المملوك المسلوب الحرمة والقدرة، وأما إذا كان مقارنا لفعل الآخر فلا
واجب أصلا على هذا المبنى حتى يدخل تحت عنوان أخذ الأجرة على الواجب
الكفائي.
وأما الثاني: فالمبنى وإن كان صحيحا ولا يلزم من قيامهما معا بالفعل عدم
الوجوب والواجب، لأن جواز الترك لكل منهما محفوظ إلا أن الابتناء ليس على
إطلاقه، لأن الفعل المستأجر عليه إن كان بعد وقوع الفعل من الآخر، فلا واجب
حتى يدخل في عنوان أخذ الأجرة على الواجب وإن كان مقارنا لترك الآخر فمع
فرض الترك لا يجوز له الترك لتعينه عليه بالعرض، ففيه المحاذير المتقدمة كلها،
وإن كان مقارنا لفعل الآخر فنسبة الامتثال إلى كليهما على حد سواء وجواز الترك
محفوظ، فهو غير مسلوب القدرة بل غير مسلوب الحرمة، لعدم المقهورية لفرض انحفاظ
جواز الترك إلا أنه مصداق لما يملكه تعالى بايجابه الذي هو عين احتواء الفعل لنفسه
على الفرض، مع أن اندفاع سائر المحاذير المتقدمة يختص بما إذا أمكن تعدد الفعل
دفعة كالصلاة على الميت، لا كدفنه وتكفينه وتغسيله مثلا، فإنه مع فرض الترك
من الآخر فيه جميع المحاذير المتقدمة فتدبر.
(الثالث) ظاهر شيخنا العلامة الأنصاري " قدس سره " في مكاسبه التفصيل
بين الواجب التعييني والتخييري، فيجوز أخذ الأجرة في الثاني دون الأول (1)
وتوضيح الكلام فيه: أن التخيير تارة عقلي وأخرى شرعي:

(1) المكاسب: ص 63.
205

أما الكلام في التخيير العقلي: فتقريب الجواز أن الواجب هو الكلي والمستأجر
عليه هو الخاص بما هو خاص، فما هو الواجب مغاير لما هو مورد الإجارة، أو أن
الواجب هو صرف الوجود والمستأجر عليه هو الوجود الخاص وبينهما المغايرة كما
عرفت. أما صرف الوجود فقد مر أنه لا يرجع إلى محصل إلا إذا أريد منه ناقض
العدم بمعنى أول الوجود وهو أجنبي عن الصرافة ومرجعه إلى ملاحظة الماهية بشرط
شئ، لأن المفروض أنه أول وجود من الطبيعة لا صرف وجودها، مع أن صرف
الوجود عند القائل به يصدق على المأتي به في الخارج، فيكون مصداقا لما يملكه تعالى
ومصداقا لما سلب عنه الحرمة والقدرة كما مر نظيره.
وأما وجود كلي الفعل فتوضيح القول فيه أن الوجود المضاف إلى طبيعي
العمل لا يخلو من أحد اعتبارات اللا بشرطية والبشرط لائية والبشرط شيئية،
لاستحالة الاهمال في الواقع، وحيث لم يقيد وجود الطبيعة في مرحلة الطلب بوجود
خصوصية ولا بعدمها فلا محالة يكون وجود الفعل ملحوظا بنحو اللا بشرطية من جميع
الخصوصيات وجودا وعدما
فحينئذ إن كان الغرض اللازم تحصيله بجميع وجوداته لازم التحصيل فلا محالة
ينبعث منه طبيعي البعث، فيكون إنشاء البعث بداعي جعل الداعي سنخا ونوعا،
فينتج مطلوبية كل واحد من وجودات الطبيعة من دون دخل لأنحاء التشخصات
وجودا وعدما. وإن كان الغرض اللازم وجودا واحدا منه فلا محالة ينبعث شخص
من البعث، وحيث إن وحدة البعث تقتضي عقلا وحدة المبعوث إليه، لاستحالة
وحدة الحكم وتعدد متعلقه وجودا فالمطلوب وجودا واحد من الطبيعة، فهي قرينة
عقلا على إرادة وجود الماهية بشرط شي من الوحدة، ولا ينافي لا بشرطيته قسميا
من سائر الجهات والخصوصيات، وكما لا يعقل إطلاقه من حيث المرة والمرات مع
استحالة الامتثال عقيب الامتثال كذلك لا يعقل إطلاقه من حيث الوحدة والتعدد
مع استحالة وحدة البعث وتعدد المبعوث إليه.
وعليه فنقول: حيث فرص مطلوبية وجود واحد من طبيعي الفعل فذلك
206

الواحد مملوك لله تعالى ومسلوب الحرمة والقدرة، ومتعلق الإجارة حينئذ لا يخلو إما
أن يكون نفس ما هو الواجب بحده، وإما الواجب المتخصص بخصوصية، وإما
نفس تخصيصه بخصوصية قابلة للانفكاك عن الواجب أو غير قابلة له. فإن كان
المستأجر عليه نفس ما هو الواجب ورد عليه جميع المحاذير المتقدمة، وإن كان
المستأجر عليه هو الواجب المتخصص بخصوصية، فالمستأجر عليه هو الواجب أيضا
بزيادة خصوصية والزيادة غير منافية لكونه مصداق الواجب وهو وجود واحد من
الطبيعي، وإن كان المستأجر عليه تخصيص الواجب في مقام الامتثال بخصوصية
فالمستأجر عليه هو جعل الواجب مقترنا بالخصوصية، ولا فرق بين قبولها للانفكاك
وعدمه، فهو حيث إنه ليس من الواجب لا بما هو ولا بما هي حصة من الطبيعي
فليس مملوكا لله تعالى ولا مسلوب الحرمة والقدرة، ولعله المراد مما أفاده شيخنا
العلامة الأنصاري " قدس سره " من استيجاره لحفر أرض صلبة في مقام الدفن (1)،
فإن مرجعه إلى امتثال الأمر بالدفن بتخصيصه بأرض صلبة، ومثله في غير الواجب
كما إذا استأجر الأجير على الخياطة لزيد أن يوقع الخياطة في داره للتعلم منه أو
لغرض عقلائي آخر، فإن نفس إيجاد الخياطة مملوك لزيد، وايقاع مملوك الغير في
داره مملوك العمرو مثلا، ولكل منهما وفاء. وفي الحقيقة هذا غير داخل في أخذ
الأجرة على الواجب ولو من حيث الفردية، وإنما الداخل فيه كما مر سابقا أن يقع
الامتثال للأمر بالواجب بعينه وفاء للإجارة.
وأما الكلام في التخيير الشرعي: فربما يتوهم جواز أخذ الأجرة على أحد
الفردين على جميع المباني. فنقول:
أم على القول بارجاعه إلى التخيير العقلي بتعلق الأمر واقعا بالجامع مما عليه
شيخنا الأستاذ فيها إذا ترتب غرض واحد على كل واحد من فردي التخيير، بتقريب
أن المعلول الواحد ينتهي إلى علة واحدة سنخا ونوعا. فالأمر في المبنى والابتناء قد

(1) المكاسب: ص 63.
207

تقدم في التخيير العقلي، فلا حاجة إلى الإعادة.
وأما على القول بتعلق الأمر بأحدهما المصداقي أي الفرد المردد، نظرا إلى وحدة
الغرض وتساوي نسبته إلى كل واحد بلا معين، وأن الواجب حينئذ هو الفرد المردد
والمستأجر عليه هو الفرد المعين، فما هو الواجب المملوك المسلوب الحرمة والقدرة
مغاير للمستأجر عليه، فيندفع بفساد المبنى الابتناء معا
أما فساد المبنى فيما مر مرارا من أن عدم تعلق الوجوب بالمردد ليس لما عن بعض
الأجلة " رحمه الله " من توهم كون المحذور مختصا بالإرادة التكوينية، نظرا إلى أن
معلولها هو الفعل خارجا وما يقع في الخارج معين لا محالة، وهذا غير جار في الإرادة
التشريعية والبعث، إذا ليس معلولهما الفعل الخارجي حتى لا يتعلقا إلا بالمعين، وكذا
ليس المحذور أن العرض يحتاج إلى موضوع محقق خارجا، ولا يكون إلا معينا حتى
يقال كما عن شيخنا العلامة الأنصاري " قدس سره " في مسألة بيع صاع من
الصبرة (1) بأن الملكية حيث إنها أمر اعتباري تتعلق بالمردد، بل المحذور العقلي
كما مر مرارا أن المردد بالحمل الشايع لا ثبوت له ذاتا ولا وجودا ولا ماهية ولا
هوية، فلا يعقل أن تتقوم به أو تتشخص به أية صفة كانت حقيقية أو اعتبارية.
وأما كيفية تأثير الغرض الواحد فقد أوضحناها في محله.
وأما فساد الابتناء فلأن من يقول بتعلق الأمر بالمردد يقول بحصول الامتثال
باتيان المعين، وإلا فالمردد لا يقع في الخارج، فلو لم يحصل امتثاله بالمعين لزم لغوية
البعث لفرض عدم الامتثال له. وعليه فالمعين المستأجر عليه لا بد من أن يصير
مصداقا لما يملكه تعالى ولما سلب عنه الحرمة والقدرة إلا بالالتزام بصحة الإجارة
واتيان الفرد الآخر امتثالا للأمر، فغاية ما يقتضيه عدم تعلق الأمر بالمعين عدم لزوم
المحاذير المتقدمة مع إتيان الواجب في غير هذا الفرد، بل لا بد من القول به، إذ كما
أن ايجاب العمل يسلب القدرة على الترك فلا تصح الإجارة كذلك وقوع عقد

(1) المكاسب: ص 196.
208

الإجارة الصحيحة يسلب القدرة على الترك، فلا يعقل بقاء الأمر التخييري على
حاله بل ينقلب تعيينيا متعلقا بالفرد الآخر غير المسلوبة عنه القدرة، فتدبر.
وأما على المبنى المعروف وهو تعلق الايجاب بكل من الصوم والعتق مثلا مع
جواز الترك في كل منهما إلى الآخر فتقريب الجواز أن أحدهما بالخصوص لا يتعين
كونه له تعالى حتى يكون ملكا له، ولا هو مقهور عليه حتى يكون مسلوب الاحترام
أو غير مقدور عليه من حيث تركه.
والجواب عنه بعد تسليم عدم اقتضاء مثل هذا الوجوب المشوب بجواز الترك
لشئ من المحاذير المتقدمة أن غايته صحة الإجارة لا امتثال الأمر، فإنه يتعين الآخر
لكونه مملوكا لله تعالى بعد فرض عدم إمكان أداء ما يملكه تعالى بما يملك المستأجر،
كما أنه بعد صحة الإجارة لا قدرة له على تركه، فلا يبقى الوجوب التخييري على
حاله لعدم القدرة فعلا وتركا على كلا الفردين. نعم المحذور سلب الاحترام مدفوع
بأن وقوع الإجارة عليه مع فرض بقائه على احترامه من قبل ومن بعد لا يمنع من تعلق
الوجوب به وبقائه عليه وامتثاله به، إذ ليس من مقتضيات أداء الواجب أن لا
يكون بمال محترم فتدبر.
(الرابع) على القول بجواز أخذ الأجرة على الواجب لا اشكال في الواجبات
النظامية من الحرف والصناعات المتوقف عليها النظام فإنها كغيرها، وأما على
القول بالمنع كما عن المشهور يرد عليهم النقض بالواجبات النظامية، فإنه لا اشكال
في جواز الأجرة وصحة ايقاع المعاملة عليها.
وأجيب عنه بوجوه: (أحدها) خروجها بالاجماع والسيرة، وهذا إنما يجدي إذا
كان المنع لدليل تعبدي، فإنه يخصص عمومه بما عداد الواجبات النظامية بخلاف ما
إذا كان لأمر عقلي من المملوكية لله تعالى وسلب الاحترام وعدم ملك التصرف،
فإنه لا بد إما من المنع من الملازمة بين الوجوب وهذه المحاذير، وهو خلف، أو
الالتزام بالاشكال، نعم يمكن أن يقال بناء على صحة تمليك مال الغير لنفسه بإذنه
بكشف الإذن من المالك في ايقاع الإجارة وتملك الأجرة. إلا أنهم يتم فيما إذا كان
209

الواجب متمحضا فيه تعالى من دون مساس للغير كما هو كذلك في الواجبات
النظامية، فإن العمل مما يستحقه الغير وتمليك المالك محال سواء كان بعوض أم
بغير عوض، فتدبر جيدا.
(ثانيها) تخصيص الجواز بصورة سبق قيام من به الكفاية بالعمل كما عن جامع
المقاصد وفيه أولا أنه مناف لاطلاق كلام الأصحاب. وثانيا أنه ينقل الكلام إلى
من قام بالعمل أولا فإنه لا شبهة عندهم أنه كغير في جواز الإجارة وأخذ الأجرة.
(ثالثها) ما نسب إلى صاحب الرياض " رحمه الله " من اختصاص المنع
بالواجبات الذاتية النفسية كدفن الميت وتعليم الأحكام، لا الواجبات المقدمية
كالصناعات التي هي مقدمة لحفظ النظام الواجب (1). وفيه أن المنع ليس لدليل
لبي يؤخذ فيه بالمتيقن ولا لفظي ليدعى انصرافه عن الواجب الغيري، بل المانع أمر
عقلي ينافي طبيعة الوجوب نفسيا كان أمر غيريا.
وأما دفعه كما عن بعض أعلام العصر " قدس سره " " بأن تلك الصناعات
مع انحفاظ النظام متحدان في الوجود كالالقاء والاحراق والضرب والتأديب.
والمقدمة المتحدة الوجود مع ذيها لا تجب بوجوب مقدمي لاستحالة التوصل بشئ
إلى نفسه. فالواجب شئ واحد وهي الصناعة التي هي عين حفظ النظام
بها " (2)، فيعود المحذور فهو مدفوع بما حقق في محله من أن الفعل التوليدي يستحيل
أن يكون متحد الوجود مع المتولد منه، لا تحاد الايجاد والوجود بالذات، فكما أن
وجود الحرق غير وجود الملاقاة كذلك ايجاده المعبر عنه بالاحراق غير ايجاد الملاقاة
المعبر عنه بالالقاء فكذا الخياطة وحفظ النظام ايجادا ووجودا.
(رابعها) ما عن جماعة من أن المنع عن أخذ الأجرة يوجب اختلال النظام

(1) رياض المسائل: ج 1، ص 505.
(2) هذا مضمون ما في تعليقة الشيخ محمد تقي الشيرازي على المكاسب المحرمة في بحث مما يحرم
التكسب به، ما يجب على الإنسان فعله، ص 153.
210

فلا بد من الترخيص حفظا للنظام. ولتقريبه وجوه:
الأول: ما عن بعض أجلة السادة " قدس سره " من أن وجوب الصناعات
لحفظ النظام، وإنما يستقيم النظام بالتكسب بها، فيلزم من وجوب التبرع بها نقض
الغرض. هذا ملخص ما أفيد، وعليه فالواجب هو التكسب وهو متقوم بالعوض لا
أنه من أخذ العوض على الواجب، لبداهة أنه لا عوض للتكسب، فيخرج عن
موضوع أخذ العوض على الواجب، وهذا الوجه لا محذور فيه إلا أن الصغرى ممنوعة،
لوضوح أن حفظ النظام يتوقف على نفس تلك الصناعات ولو أتى بها تبرعا لا على
التكسب بها بالخصوص.
الثاني: أنه كما أن انحفاظ نظام جماعة يتوقف على إعمال تلك الصنايع كذلك حفظ نظام الصانعين والمحترفين يتوقف على أخذ العوض للتقوت والتعيش به، فكما
تجب مراعاة النظام من الجهة الأولى كذلك تجب مراعاته من الجهة الثانية، فيكون
الترخيص في أخذ العوض لهذا الوجه كالمخصص العقلي لدليل المنع.
ويندفع بأنه بعد بقاء الوجوب على حاله واقتضائه عقلا للمملوكية وسلب
الحرمة والقدرة يرجع الأمر إلى توقف حفظ النظام على أمر محال، وهو التفكيك بين
الملزوم ولازمه، مع أن انحفاظ نظام الصانعين والمحترفين لا يتوقف على التكسب ولا
أخذ العوض بإزاء أداء الوظيفة الواجبة بتقريب أنه يجب على الجامعة البشرية حفظ
النظام الاجتماعي برفع كل منهم ما يحتاج إليه الغير، فيجب على الصانع والمتحرف
رفع حاجة المحتاجين ببذل ما يتمكنون من الصناعة والحرفة، ويجب على الباقين رفع
حاجة الصانعين والمحترفين ببذل ما يتقوتون ويتعيشون به، والغرض منه أن انحفاظ
النظام يتحقق بهذا المقدار ولا يتوقف على عنوان التكسب ولا على عنوان أخذ
الأجرة على الواجب
والثالث: ما عن شيخنا العلامة الأنصاري " قدس سره " في تقريب هذا الوجه
الرابع (1)، وملخصه بتوضيح مني أن حفظ النظام يتوقف على الصناعات والحرف

(1) راجع المكاسب: ص 63.
211

فتجب، ولا يتوقف على هذا الوجه حفظ النظام ولا إيجاد تلك الصناعات والحرف
على أخذ العوض ولا على الترخيص فيه، لعدم مقدمية شئ منهما لفظ النظام ولا
لتلك الصناعات، لكن حيث إن الناس لا يقدمون على إعمال تلك الصناعات
والحرف إلا لأجل الطمع في الأجرة أو زيادتها فمع المنع من أخذ الأجرة لا يقدمون
على إطاعة التكليف بايجاد تلك الصنايع والحرف أو يختارون الأعمال السهلة دون
الشاقة فلا ينحفظ النظام بواسطة العصيان. وقاعدة اللطف تقتضي الترخيص في
أخذ الأجرة تقريبا لهم إلى إطاعة التكاليف النظامية. ومما ذكرنا تعرف مقابلة هذا
التقريب لغيره ومقابلة هذا الجواب لغيره من الأجوبة.
وفيه (أولا) ما عرفت من أن مرجعه إلى اقتضاء اللطف التكليف بين الملزوم
ولازمه وهو محال.
و (ثانيا) أن جعل الثواب على موافقة التكليف وجعل العقاب على مخالفته
بقاعدة اللطف كما حقق في محله يجدي في التقريب إلى الطاعة هنا وفي غيره، ولا
حاجة إلى أمر آخر يوجب إطاعة التكليف تكوينا، وإلا لجرى مثله في سائر موارد
إطاعة التكاليف.
و (ثالثا) أن الأعمال الشاقة كالسهلة مما يتوقف عليه النظام إما عينا أو
كفاية، وليست من الواجبات التخييرية حتى يختار السهلة منها. فتدبر جيدا.
(خامسها) ما نسب إلى كاشف الغطاء (قدس سره) من أن وجوب تلك
الصنايع ليس مطلقا بل مشروط بالعوض، فلا محالة يستحيل أن يكون شرط
الوجوب مانعا عنه ومنافيا له
والجواب أن المراد ببذل العوض إن كان البذل خارجا فالوجوب وإن كان
بعد البذل والاقدام خارجا إلا أن البذل العقدي بعقد الإجارة بعد الوجوب، فتعود
المحاذير، ومن البين أن البذل خارجا لا يغني عن الإجارة، إذ لا استحقاق للأجرة إلا
بها، وإن كان المراد بذل العوض عقدا فمرجعه إلى ايجاب العمل مقارنا لعقد
الإجارة.
212

ففيه (أولا) أن مثل هذا الايجاب لا ينحفظ به النظام تشريعا لأن شرط
الوجوب غير لازم التحصيل، فله أن لا يؤجر نفسه فلا ينحفظ النظام.
و (ثانيا) أن الايجاب المقارن حيث إنه متعلق بذات العمل فهو يوجب كونه
مملوكا لله تعالى ومسلوبا عنه الحرمة والقدرة مقارنا لعقد الإجارة، فلا يعقل نفوذ مثله
فيما هو مملوك لله تعالى ومسلوب الاحترام حال نفوذه، وأما إيجاب العمل بعد وقوع
عقد الإجارة ولزوم العمل وفاء به فلغو كما لا يخفى
(سادسها) أن حفظ النظام لا يتوقف على إعمال الصناعات والحرف مجانا
وتبرعا حتى يكون وجوبها على وجه المجانية والتبرعية منافيا لأخذ العوض، بل على
ذات العمل على وجه اللا بشرطية من حيث المجانية والتعويض.
ويندفع بأن المنع ليس لدليل ظاهر في المجانية حتى يقال إنه ليس كذلك، بل
بمناسبة الحكم والموضوع من حيث حفظ النظام يكون الواجب هو العمل
اللا بشرط، وإنما المنع لأمر عقلي وهي منافاة طبيعة الوجوب لأخذ الأجرة، فكما أن
تقيد الواجب بالعوض محال فكذا إطلاقه من حيث المجانية والتعويض محال
لاستلزامه التفكيك بين الملزوم ولازمه
وأما ما عن بعض أعلام العصر " قدس سره " (1) من إدراجه تحت الواجب
التخييري وجواز أخذ الأجرة على أحد فردي الواجب فمدفوع بأن الواجب بناء عليه
له فردان عمل مجاني وعمل البعوض، فنفس العمل بأجرة أحد فردي الواجب، لا
أنه من باب أخذ العوض على أحد فردي الواجب، فشبهة استحالة الاطلاق
والتقييد من لوازم كون العمل بعوض أحد فردي الواجب، ولا يكون من لوازم أخذ
العوض على أحد فردي الواجب. فتدبره فإنه حقيق به.
(سابعها) ما عن شيخنا العلامة الأنصاري " قدس سره " من جواز أخذ الأجرة

(1) هو الشيخ محمد تقي الشيرازي في تعليقته على المكاسب المحرمة في بحث مما يحرم التكسب به،
ما يجب على الإنسان فعله، ص 144.
213

على الواجب الكفائي نظاميا كان أو غيره، وعدم. جوازه على الواجب العيني نظاميا
كان أو غيره (1)، ولا يخفى عليك أن هذا ليس دفعا للاشكال بناء على القول بالمنع
كما في سائر الأجوبة، كما أنه التزام بالاشكال في الواجب العيني، فإن المشهور لا
يفرقون في الواجبات النظامية بين العيني والكفائي، ولذا قام " قدس سره " بصدد
دفع الاشكال في الواجب العيني كما إذا تعينت الطبابة على طبيب بارجاع أخذ
الأجرة إلى الأجرة على مقدمة الطبابة وهو الحضور عند المريض، وحيث لا فرق في
المنع في الواجب العيني بين النفسي والغيري فلذا جعل الحضور واجبا كفائيا
بتقريب أن الطبابة وهي الاعلام بالدواء بعد تشخيص الداء متوقفة على الجمع بين
الطبيب والمريض، وهو كما يكون بحضور الطبيب عند المريض كذلك باحضار
الأولياء المريض عند الطبيب.
والجواب أن الواجب العيني أما الطبابة بعنوانها المختص بالطبيب وهي الاعلام
بالدواء فمقدمة هذا الواجب القابلة لأن تجب بوجوبه ليست إلا حضور الطبيب عند
المريض، فإن إحضار الأولياء لا يعقل أن يجب عليهم بوجوب ما يجب على الطبيب
دون الأولياء، ومع اختصاص المقدمة القابلة للوجوب بوجوب الطبابة بالطبيب لا
يعقل أن تكون واجبة على الكفاية وإن كان وجودها ملازما أحيانا لاحضار
المريض عنده، إلا أن الاحضار لا يعقل أن يجب مقدمة، كما لا يعقل أن يكون
الحضور واجبا مقدميا كفائيا.
وأما كون الواجب العيني على الطبيب هو العلاج الواجب أيضا على أولياء
المريض غاية الأمر أن العلاج الواجب على الطبيب باعلام الدواء وعلى أولياء
المريض بالاستعلام واعمال الدواء تحقيقا لعلاجه، فهناك واجبان عينيان على
الطبيب والأولياء، ولكل منهما مقدمة مختصة به واجبة عليه عينا. فليس هناك
واجب كفائي نفسي ولا مقدمي حتى يتخلص به عن محذور أخذ الأجرة على

(1) المكاسب: ص 62.
214

الواجب العيني. ثم إنه " قدس سره " (1) أورد على نفسه من حيث ذهابه إلى عدم
جواز الأجرة على الواجب العيني بنقوض ثلاثة:
أحدها: جواز أخذ العوض للوصي مع وجوب العمل عليه عينا، وأجاب عنه
تارة فيما سبق من كلامه بأنه حكم شرعي لا من باب المعاوضة، وأخرى بأنه من
جهة الاجماع والنصوص المستفيضة على أنه للوصي أن يأخذ شيئا المحمول نصا
وإجماعا على أجرة المثل بملاحظة احترام عمله.
قلت: أما الجواب الأول: فإن أريد منه مجرد نفي المعاوضة المالكية فلا يجدي
كما سيجئ إن شاء الله تعالى. وإن أريد نفي كون المأخوذ عوضا عن عمله المحترم فهو
مناقض للجواب الثاني.
وأما الجواب الثاني: فمجرد قيام الاجماع والنص إنما يجدي فيما إذا كانت الشبهة
في استحقاق العوض وعدمه، لا في منافاة أخذ العوض عقلا لوجوب العمل.
فالتحقيق أن المتصور هنا أمور: (الأول) تجويز التكسب منه تعالى بل ايجابه
فهو غير مناف لشئ لأن التكسب متقوم بالعوض لا أنه من أخذ العوض على
الواجب لكنه غير منطبق على ما نحن فيه، لوضوح أنه لا إيجاب منه تعالى للتكسب
على الوصي، بل إيجاب العمل والترخيص في أخذ الأجرة.
(الثاني) اعتبار الشارع لاستحقاق الصغير لعمل الوصي بعوض، فلا عوض على
الواجب، بل إيجاب العمل منبعث عن استحقاق الصغير له، فهو من باب وجوب
أداء ما يستحقه الغير.
(الثالث) إيجاب العمل على الوصي بأجرة المثل، وإذا كانت طبيعة الوجوب
منافية للأجرة فلا فرق بين أن يكون العوض المنافي بجعل الشارع أو بجعل المكلف،
ولذا قلنا سابقا إن التقييد بالعوض والاطلاق من حيث المجانية والتعويض محال، ومنه
تعرف أنه لا بد في مثل هذا الفرع من استكشاف استحقاق الصغير شرعا للعمل من

(1) المكاسب: ص 62.
215

الوصي، وهو يجامع جعله بعوض، وهذا بجواب مخصوص به وبأمثاله ولا يجري في
الواجبات النظامية، لوضوح أن أحدا من الناس لا يستحق فعل الخياطة من الخياط
والبناء من البناء بحيث يكون فعل الخياطة من باب أداء ما يملكه الغير منه.
ثانيها: وجوب بذل المال للمضطر عينا مع أنه لا شبهة في لزوم العوض عليه،
وأجاب عنه " قدس سره " (1) وتبعه عليه غيره بأن العوض للمبذول لا للبذل، فما هو
الواجب شئ وما يؤخذ عوضه شئ آخر.
قلت: (أولا) إن بذل المال للمضطر إن كان أعم من بذل العين، ومن بذل
العمل فالبذل والمبذول في الثاني شئ واحد، لما مر من أنه ليس بذل العمل إلا
إيجاده ولا أخذه قهرا عليه إلا استيفاؤه وقد عرفت ما في دعوى الفرق بين بذل
العمل والمبذول بلحاظ الاصدار والصدور المفسر بعدم البخل عن الطبابة وبنفس
الطبابة فراجع
و (ثانيا) إن البذل في الأعيان وإن كان غير المبذول إلا أن ملاك سلب
الاحترام عنده " قدس سره " بأخذه منه من دون إذنه ورضاه، وكما أنه يقهر العامل
على عمله ويستوفى منه من دون إذنه ورضاه ويكون هذا سلبا لاحترام عمله كذلك
إذا اضطر إلى طعامه وشرابه، فإنه يؤخذ منه الطعام والشراب قهرا عليه، ومن دون
إذنه ورضاه إذا امتنع عن بذلهما، فالايجاب وإن كان متعلقا بفعله وهو بذله إلا أن
لازمه عدم دخل إذنه ورضاه في التصرف، وهو ملاك سلب الاحترام، والمفروض
أن المال الذي لا احترام له لا عوض له ولا تدارك له نعم بناء على ما قدمنا من أن
لازم الايجاب والترخيص في الأخذ والاستيفاء سقوط احترام ملكه وسلطانه
لا سقوط احترام المال بما هو مال فلا يذهب هدرا يصح قول المشهور بلزوم العوض
للمال، إلا أنه لا فرق فيه بين الأعمال والأعيان، لكنه خلاف مبنى الشيخ
الأعظم " قدس سره " حيث بنى على سقوط الاحترام رأسا بمجرد الايجاب (2).

(1) المكاسب: ص 62 و 63.
(2) المكاسب: ص 62 و 63.
216

ثالثها: وجوب إرضاع اللبأ على الأم المرضعة مع جواز أخذ الأجرة، وأجاب
عنه بأنه من يحث نفس اللبأ يشبه بذل المال للمضطر، فالعوض لللبأ لا للارضاع
الواجب، ومن وجه يشبه عمل الوصي فيكون من ايجاب العمل بعوض شرعا.
قلت: قد عرفت ما في الوجهين من الاشكال.
(الخامس) ذكر جملة ممن جوز أخذ الأجرة على الواجب الكفائي اختصاصه بما
إذا لم يعلم من الدليل ثبوت حق للغير فيه، كما يدعى في تجهيز الميت وإنه للميت
حق التجهيز على الأحياء، وكما في تعليم الجاهل، فإنه ربما يدعى أنه للجاهل حق
التعليم على العالم.
فإن أريد بعد فرض استفادة الحق أن اعتبار الاستحقاق يمنع عن إيقاع العقد
المعاوضي عليه فهو كما أفيد، إلا أنه ليس من حيث أخذ العوض على ما يستحق
منه الغير، بل بعد فرض الاستحقاق شرعا لا يعقل إيقاع أي عقد كان معاوضيا أو
غير معاوضي، لأن جعل المستحق للعمل مستحقا له غير معقول، لأن إما من قبيل
تحصيل الحاصل أو من قبيل اجتماع المماثل مع المماثل وكلاهما محال
وإن أريد أن مجرد الحق يمنع عن كونه بعوض كما ادعيناه في إيجاب العمل
بعوض فهو غير سديد، لأن تمليك العمل مالكيا أو شرعيا كما يكون مجانا كذلك
يكون بعوض بخلاف ايجاب العمل بعوض، فإنه غير مشروط ببذل العوض،
والايجاب إذا كان مطلقا غير منوط ببذل العوض فلا محالة يكون المكلف مقهورا في
إيجاده بعوض من دون إذنه ورضاه، وملاك سقوط العمل عن الاحترام عند من
يقول به كالشيخ الأعظم " قدس سره " في مكاسبه ومن وافقه عليه ليس إلا
مقهوريته المسقطة لإذنه ورضاه، والايجاب المطلق لا يجامع التقييد بالعوض، ولذا
قلنا باستحالة التقييد والاطلاق معا.
وأما الايجاب المنبعث عن استحقاق العمل بعوض فهو من باب وجوب أداء

(1) المكاسب: ص 63.
217

ما يستحقه الغير بعوض، فلا يعقل أن يمنع عن موضوعه المترتب عليه، وعليه فإذا
كان اعتبار الاستحقاق تارة بنحو المجانية وأخرى بنحو العوضية فمجرد دلالة الدليل
على الاستحقاق للعمل لا يجدي في سقوط الاحترام ما لم يدل على أن استحقاق
العمل بنحو المجانية، وحيث إنه عمل محترم لا دليل على اسقاط احترامه فللعامل
مطالبة أجرة مثل عمله وإن لم يتمكن من ايقاع عقد المعاوضة بل مطلق العقد عليه.
نعم من يدعي اعتبار استحقاق الميت للتجهيز والجاهل للتعليم يدعي المجانية،
أيضا، وحيث لا برهان لهم على شئ من الاستحقاق والمجانية فلذا أحالوه إلى
لطف القريحة رزقنا الله تعالى ذلك. وبالجملة إن كان هناك اجماع فهو وإلا فقد
عرفت من جميع ما ذكرنا من أول المسألة إلى هنا عدم منافاة الوجوب بما هو وجوب
لأخذ الأجرة من دون فرق بين أنحائه من العيني والكفائي والتعييني والتخييري،
وعدم دليل على اعتبار الحق والمجانية فيما أرسلوه إرسال المسلمات. فتدبر في أطراف
ما ذكرناه من النقض والابرام، فإنه حقيق بالتدبر التام.
المقام الثاني: في بيان منافاة تعبدية الواجب لأخذ الأجرة عليه، وحيث إن
المانع هي التعبدية فلا فرق في هذه المرحلة بين الواجب والمستحب. والمعروف أن
أخذ الأجرة وقصد استحقاقها مناف للاخلاص المعتبر في العبادة فلا تقع عبادة
حتى يستحق بها الأجرة، كما أن المعروف في دفع المنافاة أن قصد استحقاق الأجرة
بنحو داعي الداعي وفي طول قصد امتثال، لا في عرضه حتى يمنع من الاخلاص
في العبادة. وأورد عليه تارة بأن قصد استحقاق الأجرة في عرض قصد الامتثال
وشريك العلة، وأخرى بتسليم الطولية ودعوى اعتبار الاخلاص طولا كما يعتبر
عرضا بحيث ينتهي إليه تعالى.
أما الأول: فقد بينه بعض أعلام العصر " قدس سره " في تعليقته (1) على

(1) راجع تعليقة الشيخ محمد تقي الشيرازي على المكاسب المحرمة في بحث مما يحرم التكسب به، ما يجب
على الإنسان فعله، ص 143.
218

مكاسب الشيخ الأعظم " قدس سره " بوجهين:
أحدهما: أن تحقق العنوان المستأجر عليه أعني العبادة يتوقف على حصول
أمرين: (الأول) ذات العبادة وهو فعل الصلاة مثلا. و (الثاني) عنوان الامتثال،
فالقاصد إلى العبادة يقصد تحقق العنوان المستأجر عليه بكل من جزئية، فيكون
الداعي بالإضافة إلى نفس الفعل أمرين: (الأول) تحقق هذا الجزء من المستأجر
عليه. و (الثاني) قصد الامتثال، فيكون من قبيل التشريك في الداعي لا من قبيل
داعي الداعي، وإنما يكون من قبيل الداعي للداعي إذا كان المستأجر عليه نفس
الامتثال ومن الواضح أن المستأجر عليه هو العمل العبادي لا التعبد بالعمل. هذا
ملخص ما أفيد.
والجواب أن مورد الإجارة ليس ذات الصلاة وقصد الامتثال حتى يقصد
عنوان المستأجر عليه بجزئيه، بل مورد الإجارة هي الصلاة عن قصد الامتثال،
وليس ذات المقيد والتقيد بما هما ملحوظان بنحو المعنى الاسمي موردا للإجارة، بل
بما هما ملحوظان بنحو المعنى الحرفي بلحاظ المقيد بما هو مقيد، وكما لا يكون ذات
المقيد والتقيد في مورد الأمر بالمقيد واجبين لا نفسيا ولا مقدميا كذلك لا يكون
شئ منهما موردا للغاية وللإجارة، فلا شريك لقصد الامتثال في مرحلة انبعاث فعل
الصلاة عنه، ويكون قصد تحقق العنوان المستأجر عليه وقصد استحقاق الأجرة في
طول فعل الصلاة عن قصد الامتثال، فيقصد بالصلاة المأتي بها بداعي الامتثال
تحقق العنوان المستأجر عليه واستحقاق الأجرة عليه. وبقية الكلام في رسالتنا
المعمولة في هذه المسألة.
ثانيهما: أن الامتثال تارة يكون بذاته داعيا مع قطع النظر عن خصوصية،
وأخرى يكون داعيا باعتبار كون مقتضيا لاستحقاق الأجرة، فالامتثال على الأول
علة تامة للفعل وعلى الثاني علة ناقصة ومتممها حيثية استحقاق الأجرة، فالعلة على
التقريب الأول مركبة من جزئين خارجا وعلى الثاني مركبة تحليلا، لفرض كون
استحقاق الأجرة من خصوصيات الامتثال ومن متمماته في مرحلة عليته.
219

والجواب أن المراد بكون استحقاق الأجرة خصوصية في الامتثال إما كون
الخاص بما هو خاص علة، أو كون ذات الخاص علة، والخصوصية المذكورة شرطا
في تأثير ذات العلة، وكلا الأمرين غير صحيح.
أما الأول: فلأن المفروض كون الفعل المأتي به بعنوان الامتثال موردا للإجارة،
فالغاية الثانية أعني استحقاق الأجرة غاية للمغيى بالغاية الأولى أي الامتثال، فلا
يعقل أن تكون الغاية الثانية غاية للغاية الأولى حتى يعقل أن تكون من خصوصياتها
وشؤونها وأن تكون العلة الغائية أمرا خاصا.
وأما الثاني: فتوضيح الحال فيه أن موافقة المأتي به للمأمور به هي الغاية
لاتيانه من دون جعل وعلية، واستحقاق الأجرة ليس غاية لا لذات الفعل ولا
لغايته، وإلا لزم الخلف من كون مورد الإجارة هو المغيى بما هو مغيى بل غاية للمغيى
بما هو مغيى، ومعنى علية الغاية المترتبة على ذات الفعل تأثيرها في إتيان الفعل بقصد
الموافقة والامتثال، ومعنى علية الغاية المترتبة على المغيى بما هو تأثيرها في فعل الصلاة
عن قصد الموافقة لا في ذات الفعل ولا في نفس الغاية، وأما تأثيرها في قصد الفعل
بعنوان الموافقة فهو معنى كونه علة غائية للمغيى بما هو مغيى، وهو مساوق لانحفاظ
العلة الغائية لذات الفعل، وانبعاث الفعل عن قصده بعنوان الامتثال وموافقة الأمر
وانبعاث قصده بهذه العنوان عن قصد استحقاق الأجرة غير ضائر بعلية العلة لذات
الفعل بنحو التمامية، كما في كل معلول لعلة هي معلولة لعلة أخرى، فإنه لا يوجب
نقصا في علة الفعل ولا دخلا في عليته لذات الفعل. فتدبره فإنه حقيق به.
وأما الثاني: وهو تسليم الطولية واعتبار الاخلاص طولا فلعل الوجه فيه لزوم
تمحض العبادة في وقوعها على وجه الاخلاص، فكأن النتيجة تابعة لأخس
المقدمات، فإذا لم تنته سلسلة العلل إليه تعالى فهي بالآخرة غير خالصة لوجه الله
تعالى، ولذا أجاب جماعة عن النقض بالصلاة لسعة الرزق ولأداء الدين ولقضاء
الحاجة بأن الكل مطلوب من الله تعالى فلم تنقطع سلسلة العلل عنه تعالى.
والتحقيق: أن اعتبار لزوم الاخلاص عرضا لمكان التشريك في العلة المنبعث.
220

عنها العمل، بخلاف عدم الاخلاص طولا، فإن فرضه فرض انبعاث العمل عن
علة تامة متمحضة في الاخلاص الذي لا يراد منه إلا خلوص الداعي عن الشريك.
نعم الخلوص طولا كمال العبادة، ولذا قسمت العبادة المفروغ عن عباديتها إلى
عبادة الأحرار وعبادة التجار وعبادة العبيد.
والوجه في عدم اعتبار الاخلاص طولا هو أن الغرض من الواجب وإن كان
يختلف من حيث ترتبه على ذات الفعل فيكون الواجب توصليا ومن
حيث مساوقته للقرب فيكون تعبديا، ولا تعلم كيفيته إلا من قبل الشاعر، لكن
وقوع الفعل عبادة إنما هو بحكم العقل وضابطه وقوع الفعل على وجه ينطبق عليه
عنوان ممدوح على فاعله من طريق دعوة الأمر، فالفعل المنبعث عن دعوة الأمر عدل
في العبودية واحسان إلى المولى، وهو من العناوين الممدوح على فاعلها بالذات، ولا
يعقل تخلف هذا العنوان الحسن بالذات عن الفعل المأتي به بداعي الأمر كما لا
يعقل تخلف كونه ممدوحا على فاعله عن هذا العنوان الحسن بالذات، ومن الواضح
أن ترتب فائدة دنيوية على هذا الفعل الممدوح على فاعله لا يخرجه عن كونه ممدوحا
على فاعله، فلا يعقل اعتبار غير حصول العنوان الحسن بالذات في صيرورة الفعل
ممدوحا على فاعله، كما لا يعقل مانعية ترتب غرض على الممدوح عن وقوعه ممدوحا
على فاعله مع فرض ترتبه عليه، فإن ما يتفرع على الشئ لا يعقل أن يكون مانعا
عنه.
ومما يشهد لما ذكرنا التسالم على صحة الصلاة المأتي بها بداعي الأمر إذا كانت
غاية الامتثال جلب الثواب أو دفع العقاب، وكون الثواب والعقاب منه تعالى لا
يوجب اتصاف الفعل بعنوان حسن مضاف إلى المولى بذاته ليكون ممدوحا عليه حتى
طولا، فإن كل نفع وضرر منه تعالى، بل كل موجود ينتهي بسلسلة مباديه وعلله إلى
واجب الوجود، ومنه تعرف أنه لا يعقل تأكد العبادية والاخلاص بهما فإنه إنما
يعقل ذلك إذا كانت الغاية بحيث تكون مصححة بذاتها للعبادية، مع أنه من
المتسالم عليه أنه لو صلى بداعي الثواب أو الفرار من العقاب لم تصح صلاته، ولذا
221

قال الشهيد " قدس سره " في قواعده قطع الأصحاب ببطلان العبادة إذا أتي بها
بداعي الثواب أو دفع العقاب (1)، ولا بد من أن يكون مراده " قدس سره " ما إذا
كانت الغاية المزبورة غاية لنفس الفعل لا للمأتي به بداعي الأمر، فإن الغالب
حصولها من الناس بأحد الداعيين، ولا يعقل أن تكون الغايتان غاية لذات الفعل،
إذا لا يترتب على ذات الفعل ثواب ولا يدفع بها فقط عقاب كما لا يخفى.
ومنه تعرف الجواب عما ذكروه فارقا بين الصلاة المأتي بها بعنوان الامتثال
بقصد استحقاق الأجرة، والصلاة المأتي بها كذلك لسعة الرزق ولأداء الدين
ولقضاء الحاجة، فإن شيئا من تلك الغايات لو كانت وحدها لما أثرت في عبادية
العمل فكيف تكون مؤكدة للعبادية والاخلاص، وكونها منه تعالى غير إتيان الفعل
بداعي الالتجاء إليه تعالى في التوسعة أو في أداء الدين أو في قضاء الحاجة حتى
يقال إن الالتجاء إليه تعالى في المهمات غاية العدل في العبودية ونهاية الانقياد له
تعالى، ولا أظن بمن يصحح العبادة أو يلتزم ببطلان العبادة المأتي بها بداعي الأمر
قاصدا به سعة الرزق الموعود بها على فعلها من دون إضافة عنوان الالتجاء وغيره من
العناوين الحسنة إليه. وبقية الكلام في رسالة أخذ الأجرة على الواجبات فراجعها.
وربما يوجه الاخلاص طولا فيما نحن فيه بأحد وجهين، إما بملاحظة عنوان
الوفاء بعقد الإجارة وإما بملاحظة قصد امتثال الأمر الإجاري:
أما الأول: فبتقريب أن الوفاء بالعقد أمر محبوب عقلا وشرعا وهو من صفات
المؤمنين. فغاية العمل العبادي أيضا محبوبة. ويندفع بأن الاتيان لهذه الغاية وإن
كان محبوبا إلا أن الكلام في تصحيح ما بأيدي الأجراء من إتيان الصلاة بداعي
أمرها قاصدا بها استحقاق الأجرة، وليس مجرد تسليم ما يستحقه الغير محققا لعنوان
الوفاء المحبوب عقلا، فإنه قصدي لا يتحقق إلا باتيانه بعنوان الوفاء بالعقد لا
بعنوان أداء مال الغير كسائر موارد أداء مال الغير إليه. وبقية الكلام فيه موكولة إلى

(1) القواعد والفوائد: ج 1، ص 77. الفائدة الثانية.
222

الرسالة المشار إليها.
وأما الثاني: وهو تصحيح الاخلاص بامتثال الأمر الإجاري فهو على قسمين:
(أحدهما) ما عن كاشف الغطاء وصاحب الجواهر " قدس سرهما " بتوسيط الأمر
الصلاتي وتأكيده بالأمر الإجاري فيتأكد الطلب وتتأكد الدعوة والاخلاص، فإن
أريد التأكد الحقيقي وخروج الطلب من حد الضعف إلى حد الشدة فهو موقوف على
ورود الأمرين على موضوع واحد، ومن الواضح أن مورد الأمر الصلاتي ذات الصلاة
ومورد الأمر الإجاري الصلاة المأتي بها بداعي أمرها، ومع تعدد الموضوع يستحيل
تأكد الطلب، وإن أريد مجرد انحفاظ الاخلاص طولا وأن الداعي الأول امتثال
الأمر والداعي الثاني أيضا امتثال الأمر فسلسلة العلل منتهية إليه تعالى من حيث
امتثال أوامره الطولية فهو صحيح، إلا أن مرجعه إلى امكان التحفظ على الاخلاص
إلى الآخر لا تصحيح العبادة المستأجر عليها، إذ لا ملزم من طريق الإجارة موضوعا
وحكما بقصد امتثال الأمر الإجاري كما يتضح إن شاء الله تعالى.
(ثانيهما) بالغاء الأمر بالصلاة عن الوساطة في العبادية، وتصحيح العبادية
بنفس امتثال الأمر الإجاري، وله تقريبان:
الأول: إن الأمر الإجاري وإن كان توصليا مطلقا إلا أن التوصلي لا يجب
التقرب به لا أنه لا يمكن التقرب به، ولا فرق في العبادية بين وقوع العمل بداعي
الامتثال بعنوانه الأولي أو بعنوانه الثانوي.
ويندفع بأن مورد الإجارة إما ذات العمل، فلازمه سقوط الأمر الإجاري
واستحقاق الأجرة بمجرد إيجاد العمل، وهو هنا خلف وخلاف الواقع، وأما العمل
بداعي الأمر الصلاتي، فالمفروض عند هذا القائل عدم كفايته في العبادية
والخلوص في موقع الإجارة، فلا يعقل تعلق الإجارة بمثله، فإنه يلزم من وجوده
عدمه، وأما العمل بداعي امتثال الأمر الإجاري، فيلزم من تعلق الأمر الإجاري بما
أخذ فيه امتثال الأمر الإجاري محذور الدور على المشهور ومحذور الخلف على
التحقيق، وأما العمل بداعي الأمر بلا تعين للأمر الصلاتي والأمر الإجاري حتى
223

يلزم أحد المحذورين، فهو غير معقول، إذا بعد عدم فرض الاهمال في الواقع لا معنى
للتقييد بداعي الأمر إلا اللا بشرط القسمي، وكما أن التقييد بالأمر الصلاتي
والتقييد بالأمر الإجاري محال للمحاذير المتقدمة كذلك الاطلاق محال. فتدبر.
الثاني: أن الأمر الإجاري توصلي فيما إذا كان مورده من التوصليات وتعبدي
فيما إذا كان مورده من التعبديات، نظير الأمر بتصديق العادل، فإنه ايجاب لما أخبر
بوجوبه العادل، فإن كان مورده مثل الصلاة كان مرجع ايجاب التصديق إلى
ايجاب الصلاة، وهو تعبدي، وإن كان مورده مثل رد السلام كان إيجاب الرد
توصليا، فكذا هنا، فإن مورد الإجارة إذا كان مثل الصلاة والصيام كان مرجع
الأمر الإجاري إلى ايجاب الصلاة والصيام، وهما تعبديان، وإذا كان مثل الخياطة
والكتابة كان معنى الأمر الإجاري ايجاب الخياطة والكتابة، وهما توصليان، وما هو
الدليل على لزوم قصد الامتثال في الأمر بالصلاة واقعا هو الدليل على الأمر بها
بالأمر الإجاري، فإنه لا فرق في الصلاة التي سنخها سنخ التعبدي بين أنحاء الأمر
بها.
ويندفع بأن الأمر الإجاري متعلق بالوفاء، وهو عنوان للصلاة المأتي بها بداعي
الامتثال، فلا يعقل أن يتعلق الأمر الإجاري بذات الصلاة، لعدم كونها مصداقا
للوفاء، مع فرض تعلق الأمر الإجاري بالصلاة المأتي بها بداعي الامتثال فهو
توصلي مطلقا نظير الأمر الثاني باتيان الصلاة بداعي أمرها، فإنه توصلي دائما.
فتدبر جيدا في أطراف ما ذكرنا، وقد تحقق بذلك عدم منافاة التعبدية للاستيجار
كعدم منافاة الوجوب بما هو للاستيجار.
المقام الثالث: في ما يتعلق بالنيابة في العبادة وما فيها من الاشكال بحيث يمنع
عن أخذ الأجرة على العمل العبادي النيابي، والاشكال فيها من جهات:
(الأولى) ما هو الاشكال في الواجب التعبدي غير النيابي من منافاة أخذ
الأجرة للتحفظ على الاخلاص المعتبر في العبادة إما عرضا أو طولا.
(الثانية) أن النائب لا أمر له بذات العمل، فلا يمكنه التقرب، وأوامر النيابة
224

توصلية، وعلى فرض تقرب النائب بأمر النيابة فهو تقرب له بالإضافة إلى أمر نفسه
لا بأمر المنوب عنه المتعلق بالمنوب فيه.
(الثالثة) أن التقرب اللازم في العمل العبادي النيابي غير قابل للنيابة، فتقرب
النائب يوجب قرب نفسه لا قرب المنوب عنه، فالقرب المعنوي كالقرب الحسي
فإن تقرب شخص من شخص مكانا يوجب قربه منه لا قرب غيره وإن قصده
ألف مرة، وسيجئ إن شاء الله تعالى توضيح القول في كل جهة من الجهات.
أما الجهة الأولى من الاشكال: فقد أجيب عنها بوجوه كلها مبينة على مغايرة ما
تؤخذ بإزائه الأجرة وما يترتب عليها القرب ويتقوم بالتقرب إما حقيقة أو اعتبارا،
أما التعدد الحقيقي فله تقريبان:
أحدهما: ما فهمه غير واحد من كلمات الشيخ الأعظم " قدس سره " في
مكاسبه (1) من أن النائب له فعلان: جانحي قلبي و جارحي عيني، فما هو فعل قلبي
هو تنزيل نفسه منزلة المنوب عنه وهي حقيقة النيابة وبإزائها الأجرة، وما هو من
أفعال الجوارح وهي ذات الصلاة لا أجرة عليه، فالاخلاص فيها محفوظ بعد كون
الغاية الأخرى مترتبة على فعل آخر، فيكون هذا هو الفارق بين أخذ الأجرة في باب
النيابة وأخذ الأجرة على الواجب التعبدي على نفسه.
ثانيهما: ما حكاه الشيخ الأعظم " قدس سره " (2) في رسالة القضاء عن الميت
من أن الصلاة لها قيدان: (أحدهما) كونها عن قصد القربة. (وثانيهما) كونها عن
الغير، وما تؤخذ عليه الأجرة هو القيد الثاني دون الصلاة بقصد القربة أو نفس
امتثال الأمر، فلا أجرة على المقيد ولا على القيد، وهذا الوجه يفترق عن الوجه
الأول مع تفرعه على التنزيل المزبور بأن الأجرة ليست بإزاء التنزيل بل بإزاء قيد
الصلاة، وهو مباين ذاتا ووجودا مع ذات المقيد ومع القيد الآخر كما في كل مقيد
وقيده، فإن قيده خارج عنه وإن كان التقيد به مقوما له وداخلا فيه، هذا بناء على

(1) المكاسب: ص 345.
(2) المكاسب: ص 345.
225

التعدد الحقيقي.
وأما التعدد الاعتباري فله أيضا تقريبان: (الأول) ما عن بعض الأعلام
" رحمه الله " في كتاب القضاء ناقلا له عن شيخه العلامة الأنصاري " قدس سره "
حيث قال " قدس سره ": وأما ما تلقيناه من الأستاذ فهو: إن النيابة عنوان يلحق
الفعل المنوب فيه وبه يصير متعلقا للإجارة وهو كون الصلاة عن فلان، فالصلاة من
حيث ذاتها عبادة، ومن حيث وصفها أعني تقيدها بكونها عن الغير معاملة محضة،
نظير الصلاة والصوم في البيت، فكما أن اعتبار القربة في الصلاة لا ينافي عدمها من
حيث وقوعها في البيت حتى أنه يجوز أخذ الأجرة على ايقاع الصلاة في البيت
كذلك لا تنافي القربة في فعلها ذاتا عدم القربة نيابة. انتهى كلامه رفع مقامه.
فالعمل القربى والعمل النيابي متحدان وجودا ومختلفان باعتبار ملاحظة ذات
المقيد وملاحظة المقيد بما هو مقيد، فالأجرة بإزاء المقيد بما هو مقيد، كما كانت في
الوجه السابق بإزاء القيد المباين مع ذات المقيد وجودا.
(الثاني) ما هو صريح كلام الشيخ الأعظم " قدس سره " (1) في مكاسبه بعد
النقض والابرام، وهو أن الصلاة الموجودة في الخارج لها اعتباران، بأحد
الاعتبارين هو فعل النائب وباعتبار آخر هو فعل المنوب عنه، فباعتبار كونها فعل
النائب لا يجب التقرب فيها حتى يمنع عن أخذ الأجرة عليه، وباعتبار كونها فعل
المنوب عنه مقربة للمنوب عنه، ولا معنى للاستيجار على فعل الغير، فلا أجرة
عليه بما هو فعل الغير، فلا مانع من وقوعه قربيا محضا عن المنوب عنه، فأخذ
الأجرة إنما ينافي الاخلاص ولو في فعلين إذا كانا فعل شخص واحد، وأما إذا
انتسب إلى شخصين وكان فعلا لشخصين ولو اعتبارا فلا مانع من أن يكون بأحد
الاعتبارين قربيا وبالاعتبار الآخر غير قربي، ومما ذكرنا تبين الفرق بينه وبين سائر
الوجوه حتى الوجه الأخير المبني على مباينة ذات المقيد للمقيد بما هو مقيد اعتبارا،

(1) المكاسب: ص 345.
226

فإن مبنى الجميع على تصحيح الاخلاص ولو مع وحدة الانتساب، ومبنى هذا الوجه
على التصحيح من ناحية تعدد الانتساب هذا مجموع ما وقفت عليه من الجواب عن
الاشكال من الجهة الأولى المشتهرة في كلمات الأصحاب.
والجواب عن الوجه الأول (أولا) أن المستأجر عليه لو كان مجرد النيابة بمعنى
التنزيل النفساني فهو كاف في استحقاق الأجرة وإن لم يتعقبه عمل، وتوهم تقوم
التنزيل بما ينزل فيه وهي الصلاة مدفوع بأن فعل الصلاة يقوم التزيل النفساني في
أفق الاعتبار لا في الخارج، ويستحيل تقوم الفعل القلبي والتنزيل الفرضي بأمر
خارج عن أفق النفس والاعتبار.
(وثانيا) أن مجرد تعدد الوجود يدفع إشكال التشريك في الداعي وصيرورة
أخذ الأجرة جزء العلة، فلا يمنع عن تمحض الخلوص عرضا، وأما طولا فلا، حيث
لا يصلي بقصد القربة إلا لمكان التنزيل ولا ينزل نفسه منزلة الغير إلا لأخذ
الأجرة.
فالاخلاص الطولي غير منحفظ لانتهاء سلسلة العلل الغائية إلى غاية غير قربية،
ومنه يتضح الجواب عن الوجه الثاني، فإن إشكال استحقاق الأجرة بمجرد التنزيل
وإن كان لا يرد عليه، لعدم انفكاك المقيد عن قيده الخارجي، إلا أن الاشكال
الثاني مشترك الورود بين الوجهين، إذ لولا الأجرة لما أوجد الصلاة المتقرب بها
متقيدة بكونها عن الغير، فلا اخلاص طولا، والمفروض عندهم لزوم الاخلاص
طولا، وإلا فما الفرق بين العمل النيابي وغيره في لزوم الاخلاص عرضا وطولا.
وأما الوجه الثالث فمندفع باستحالة انبعاث عمل واحد وعن داعيين مستقلين
ولو باعتبار عنوانين. فلا محالة يكون أحد الداعيين في طول الآخر ومعه لا إخلاص
طولا، ومجرد زيادة عنوان النيابة على العمل القربى لا يوجب الفرق بين التعبدي
الأصلي والنيابي في رعاية الاخلاص طولا، وإرجاع الجواب إلى جعل الأجرة على
التقيد لا على المقيد بما هو مع أنه خلف لا يجدي في انحفاظ الاخلاص الطولي. وأما
227

ما ذكره " قدس سره " (1) من التنظير بايقاع الصلاة في البيت، فإن أريد الاستيجار
على ايجاد الصلاة في البيت فهو مبني على كفاية داعي الداعي، ولا يقولون به على
الفرض. وإن أريد به الاستيجار على الكون في البيت المقارن لفعل الصلاة كما
يشهد له مثال الصوم الذي لا اتحاد له مع الكون في البيت فهو خارج عما نحن فيه
من الاستيجار على العمل القربى النيابي، لا على التنزيل المقارن أو غيره من
المقارنات.
وأما الوجه الرابع فالجواب عنه أن جهة النيابة وصيرورة العامل غيره واسطة
في العروض. فالفعل الصادر بقصد القربة عن النائب بالمباشرة وبالذات فعل
المنوب عنه بالعرض، لا أنه واسطة في الثبوت حتى يتوهم تأخر دعوة استحقاق
الأجرة عن جهة النيابة، ومثله لا يعقل أن يكون ملحوظا في المنسوب إلى المنوب
عنه، بل واسطة في عروضه للمنوب عنه، فهو بعد التنزيل أيضا فعل النائب
بالمباشرة وفعل المنوب عنه بالعرض بملاحظة الهوهوية المتحققة بالتنزيل، وهو
بالوجدان له داعيان طوليان: أحدهما امتثال الأمر بالصلاة والآخر استحقاق
الأجرة على العمل القربى النيابي لا على النيابة. فليس هناك فعل متمحض في
الاخلاص طولا حتى يكون منسوبا إلى المنوب عنه. بل تمام ما هو منسوب إلى
النائب الذات منسوب إلى المنوب عنه بالعرض.
ومن جميع ما ذكرنا تبين أن الغاء حديث التنزيل النفساني والالتزام بأن
المستأجر عليه تفريغ ذمة المنوب عنه بفعل الصلاة بقصد الامتثال عنه وأنه لا أجرة
على نفس العبادة بل على التفريغ لا يجدي شيئا، فإن التفريغ فعل توليدي من
الصلاة عن المنوب عنه. فإن كان الفعل التوليدي عين المتولد منه وجودا فالأجرة
على العبادة بعنوانها الثانوي. وإن كان مغايرا له لم ينحفظ الاخلاص طولا، إذ لا
داعي إلى الصلاة المتقرب بأمرها عن الغير إلا تفريغ ذمته، ولا داعي إلى التفريغ إلا

(1) راجع المكاسب: ص 345.
228

أخذ الأجرة، فلا محيص من القول بكفاية داعي الداعي وعدم لزوم الاخلاص
طولا، فلا مانع من أخذ الأجرة على العمل القربى النيابي، لا على النيابة بمعنى
التنزيل النفساني، ولا على التفريغ التوليدي، مع أنهما لا مالية لهما ولا يقابلان
بالمال عرفا، وإنما المبذول بإزائه المال نفس العمل الصلاتي. فتدبر جيدا.
وأما الجهة الثانية من الاشكال: وهي مطالبة الأمر الذي يتقرب به النائب
حتى يكون عمله عبادة منسوبة إلى المنوب عنه فقد أجيب عنها بوجوه:
أحدها: ما عن بعض الأعلام " قدس سره " في كتاب القضاء من أن النيابة
من الأمور الاعتبارية العقلائية التي لها آثار عند العقلاء، فإذا كانت ممضاة شرعا
كان مقتضاها ترتب تلك الآثار عليها، وإلا فلا معنى لامضائها، فكما أن الضمان
أمر اعتباري عقلائي وفائدة صيرورة الضامن بمنزلة المضمون عنه وصيرورة ما في ذمة
المضمون عنه دينا على الضامن كذلك إذا كان المنوب فيه من العبادات، فإن معنى
ترتب فائدة النيابة الاعتبارية عليها شرعا توجه تكليف المنوب عنه إلى النائب، إذ
لا معنى للمنزلة إلا ثبوت ما كان للمنوب عنه في حق النائب من الأحكام التكليفية
وآثارها، هذا ملخص ما أفيد.
فإن أريد توجه تكليف المنوب عنه إلى النائب حقيقة فهو محال، لأن
الإضافات والاعتباريات تشخصها بتشخص أطرافها، فيستحيل خروجها من حد
إلى حد مع بقائها على شخصيتها.
وإن أريد انتساب تكليف المنوب عنه بعد التنزيل إلى النائب بالعرض، نظرا
إلى أن ذات النائب نزلت منزلة ذات المنوب عنه، فهو هو بالعناية فكذا فعله فعله
بالعناية وكذا أمره أمره بالعناية، ففيه أن التكليف العرضي لا يجدي في الانبعاث
الحقيقي، مع أنه مضايف للبعث الحقيقي، ولا يختلف المتضايفان في القوة والفعلية
والذاتية والعرضية، وقصد الامتثال على الفرض مترتب على الأمر الحقيقي.
وإن أريد أن مقتضى تنزيل الذات منزلة ذات أخرى شرعا جعل تكليف مماثل
جدا لتكليف المنوب عنه، فإن تنزيل ذات النائب منزلة ذات المنوب عنه
229

والهوهوية بينهما كتنزيل المؤدي منزلة الواقع في باب الخبر، حيث لا يكون إلا بجعل ما
يماثل الواقع، فالتكليف المماثل وإن كان حقيقيا في حد نفسه إلا أنه بعناية أنه
الواقع، فهو تكليف حقيقي من حيث ذاته وواقعي من حيث العنوان عناية فكذا هنا،
فتكليف النائب حقيقي من حيث نفسه وتكليف المنوب عنه عينا بالعناية، وهو
معنى توجه تكليف المنوب عنه إلى النائب، وهو غاية ما يمكن توجيه التوجه المذكور
في هذا الكلام، فهو معنى صحيح لكنه لا يقتضي تنزيل نفسه منزلة المنوب عنه إلا
الانتساب العرضي غير المفيد، بل هو أمر معقول يحتاج إلى دليل، وليس مجرد
الامضاء دالا على هذا المعنى، بل على صحة الانتساب وأعمية الغرض المترتب على
الفعل من حيث كونه منسوبا بالذات أو بالعرض كما في التوصليات من العقود
والايقاعات نعم إذا لم يمكن قصد الامتثال إلا بتوجيه تكليف حقيقي إلى النائب
كشف دليل مشروعية النيابة في العبادة بدلالة الاقتضاء عن جعل حكم مماثل
لتكليف المنوب عنه بعناية أنه هو، وسيجئ إن شاء الله تعالى إمكانه بدونه.
ثانيها: ما عن بعض أجلة العصر حاكيا له عن سيده الأستاذ طاب ثراه من أن
مباشرة الفاعل قد تكون دخيلة في الغرض المترقب من الفعل للمولى، فلا يسقط
الأمر بفعل الغير ولو كان توصليا. وقد لا يكون لها دخل في الغرض، فيمكن أن
يكون مثل هذا الأمر محركا للغير نحو هذا الفعل مراعاة لصديقه واستخلاصا له عن
العقاب وعن بعده عن ساحة المولى. وعليه بنى صحة تقرب النائب بأمر المنوب
عنه.
وفيه أن الغرض تارة يترتب على فعل كل منهما بما هما هما، فمثله يجب كفاية لا
عينا وهو خارج عن محل الكلام، وأخرى يترتب على فعل المنوب عنه فقط غاية الأمر
أنه أعم من المباشري والتسبيبي بل على الأعم من ما بالذات وما بالعرض، فمثله
يوجب توجه تكليف حقيقي إلى المنوب عنه فيحركه نحو الفعل الأعم من المباشرة
والتسبيب، ويستحيل أن يكون المحرك المتقوم بالمنوب عنه محركا حقيقة لغيره ولو
كان الغرض أعم، ذا أعمية الغرض لا توجب امكان المحال، غاية الأمر أنه يسقط
230

التكليف بسقوط غرضه الحاصل بفعل الغير إذا كان توصليا، وحيث إن المفروض
تعبدية الواجب فلا يسقط الغرض إلا بفرض قصد الامتثال. والمفروض أنه لا يمكن
قصد الامتثال إلا من طريق محركية الأمر، فما ذكره " رحمه الله " من أنه يأتي
بالفعل مرعاة لصديقه واستخلاصا له من العقاب غير معقول، لمساوقة حصول
الغرض مع التقرب ولا يسقط العقاب ولا يتخلص منه إلا بتحصيل الغرض كما
عرفت.
ثالثها: ما عن شيخنا الأستاذ " قدس سره " على ما أفاده في بحثه لكتاب
القضاء وفي غيره من أن فعل النائب تارة باستنابة من المنوب عنه، وأخرى بمجرد
نيابة الغير من دون استنابته، فإن كان بنحو الاستنابة فالمنوب عنه كما يتقرب بأمره
بفعله المباشري كذلك يتقرب بأمره بفعله التسبيبي، فلا حاجة إلى تقرب النائب
حي يطالب بالأمر المقرب له، فالتوسعة حينئذ في الآلة العاملة لا في الأمر المتعلق
بالعمل، وإن كان لا باستنابته بل بمجرد النيابة عنه تبرعا مثلا فرضى المنوب عنه
بالفعل المحبوب منه كاف في تقربه. ولا حاجة إلى تقرب النائب، ومبنى الشقين معا
على عدم لزوم قصد التقرب من النائب أصلا، بل يأتي بذات العمل القابل
للانتساب إلى المنوب عنه بمقتضى النيابة المسلمة صحتها في نفسها، والتقرب به شأن
المنوب عنه الذي له التكليف إما باستنابته أو برضاه.
ولا يخفى عليك أن الشق الأول وهو التقرب بفعله التسبيبي مبني على امكان
تعلق التكليف بالأعم مما هو تحت اختياره وما هو تحت اختيار الغير. وبالجملة
الفعل التسبيبي ربما لا يتوسط بينه وبين ما يستبب به إليه إرادة الفاعل المختار، فهذا
لا ريب في إمكان تعلق التكليف به، وربما يتوسط بينه وبين ما يتسبب به إليه
إرادة الفاعل المختار، فهو محل الكلام. وما نحن فيه من قبيل الثاني. فصحة الشق
الأول من الجواب مبنية على ذلك. ولتحقيق الحال فيه محل آخر.
وأما الشق الثاني فحيث إنه مشترك مع دفع الاشكال عنده " قدس سره " من
الجهة الثالثة فتحقيق الكلام فيه فيما سيأتي إن شاء الله تعالى. هذا ما وقفت عليه من
231

وجوه الجواب عن الاشكال من الجهة الثانية.
والتحقيق في دفع الاشكال من هذه الجهة موقوف على تقديم أمرين: (الأول)
أن غاية كل فعل هي فائدته القائمة به، وهي بوجودها الخارجي غاية وبوجودها
العملي علة غائية. والأمر ليس من فوائد الفعل وغاياته بوجوده الخارجي، كيف
وهو متقدم عليه، ولا يعقل بقاؤه بعد وجود الفعل كي يترتب عليه ترتب الفائدة
على ذيها، فليس بوجوده العلمي علة غائية للفعل حتى يوصف بكونه داعيا وباعثا
وإنه يوجب انقداح الإرادة على ما توجبه سائر الغايات الداعية المنبعثة عنها إرادة
الفعل.
(الثاني) أن موافقة المأتي به للمأمور به من عناوين الفعل، وقصد الامتثال
مرجعه إلى قصد إتيان المماثل للمأمور به من حيث إنه كذلك في قبال قصد اتيان
ذات المماثل، وقصد موافقة الأمر مرجعه إلى قصد ما يوافق المأمور به من حيث إنه
كذلك، ولا يخفى عليك أن موافقة المأتي به تارة بالإضافة إلى ذات المأمور به وأخرى
بالإضافة إلى المأمور به بما هو مأمور به. ومرجع الأول إلى موافقة الفرد للطبيعي، وهو
أجنبي عن قصد القربة ولا ينطبق بسبب قصده عنوان من العناوين الحسنة الممدوح
على فاعلها عقلا.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن النائب تارة يأتي بالفعل الموافق لما أمر به النائب عن
المنوب عنه من دون قصد عنوانه بل يدعوه إليه داع آخر، فالفعل المنسوب إلى
المنوب عنه غير عبادي، وأخرى يأتي بالفعل بقصد كونه موافقا لما أمر به المنوب عنه
لا عن المنوب عنه، فالفعل لا يقع عباديا لا عن المنوب عنه ولا عن النائب، إما
عدم وقوعه عباديا عن المنوب عنه فلعدم اتيانه عنه، وإما عن النائب فلعدم
المضايف فيه، إذا لا مأمور به له حتى يقصد كون المأتي به موافقا للمأمور به، ومجرد
كونه موافقا لذات المأمور به لا يجدي في العبادية، وثالثة يأتي بالفعل بقصد كونه
موافقا للمأمور به عن المنوب عنه، فهذا العنوان المقصود حيث إنه عن المنوب عنه
فمضايفه بالإضافة إليه فعلي، بعد فرض انتسابه إلى من كان مضايفه فعليا فيه
232

يمكن اتيان الفعل المعنون بهذا العنوان في ذاته بقصد عنوانه من أي شخص كان،
حيث لا يتفاوت تعنون الفعل بهذا العنوان بتفاوت الأشخاص وإن كان صيرورته
عباديا بقصده لا بد فيها من انتسابه إلى من كان مضايف العنوان فعليا فيه.
ولا يخفى عليك أنه لا منافاة بين ما ذكرنا وما اشتهر من أن الأمر للبعث
والتحريك، وذلك لأن مفاد الهيئة مثلا نزل منزلة التحريك الخارجي، ومن البين
أن التحريك الخارجي عن الحركة كالايجاد والوجود، فلا يعقل أن يكون التحريك
غاية للحركة أو أن يكون وجوده العلمي علة غائية لوجودها، فكذا التحريك
الاعتباري المطابق للتحريك الخارجي ايجاد تشريعي من المولى لمفاد المادة من
العبد. وحيث إن متعلقه فعل اختياري فلا بد من أن يكون موافقة ما أمر به وحركه
المولى نحوه علة غائية لحركته نحو المادة، وبهذا الاعتبار نقول إن الأمر لجعل الداعي.
فتدبر جيدا. ولعله لوضوح هذا عند المشهور لم يتعرض أحد منهم للاشكال في قصد
الامتثال من ناحية عدم الأمر، وإنما تعرضوا لمنافاة أخذ الأجرة لقصد القربة فقط.
وأما الجهة الثالثة من الاشكال: فهي ما قدمناه من أن التقرب المعنوي
كالتقرب الحسي، ومن الواضح أن التقرب والقرب كالايجاد والوجود، فلا يعقل
تقرب النائب وحصول القرب للمنوب عنه. وما لم ينتسب إلى المنوب عنه عمل
قربي له لم تفرغ ذمته عن العمل القربى المكلف به.
وهذا اشكال تفطن له شيخنا الأستاذ " قدس سره " وتبعه عليه بعض أعاظم
العصر " قدس سره " وهذا الاشكال ألجأ شيخنا الأستاذ " قدس سره " إلى الالتزام
بعدم لزوم قصد التقرب على النائب وإن رضى المنوب عنه بما نسب إليه كاف في
مقربية العمل له، كما ألجأ بعض الأعاظم " رحمه الله " إلى إنكار النيابة بالمعنى
المعروف وارجاع النيابة إلى ما يساوق اهداء الثواب. إلا أنك بعد ما عرفت من
الجواب عن الجهة الثانية تعرف الجواب عن هذه الجهة أيضا، لأن التقرب والقرب
وإن كانا من قبيل الايجاد والوجود إلا أن التنافي بين تحصيل النائب القرب لنفسه
وحصول القرب للمنوب عنه، وأما تحصيل القرب للمنوب عنه فهو مع حصول
233

القرب للمنوب عنه في كمال الملائمة.
وقد عرفت أن معنى قصد الامتثال والتقرب هو قصد موافقة المأتي به للمأمور
به، فإذا كان الفعل بهذا العنوان نيابة عن الغير فهو تحصيل الموافقة في العمل المضاف
إلى الغير لما أمر به، فمرجع تقرب النائب إلى ايجاد الفعل بالعنوان الحس مضافا إلى
المنوب عنه فيصدر منه قربيا. وأما ما عن شيخنا الأستاذ " قدس سره " من حديث
رضا المنوب عنه وكفايته في صدور العمل منه قربيا بل كفاية رضاه تقديرا مع الغفلة
عن نيابة الغير عنه قياسا بوقوع نظيره في الصوم كصوم النائم في تمام النهار، فإنه
عبادي ولا معنى لصدوره منه قربيا إلا أنه بحيث لو التفت إليه لكان مرضيا به،
وأما الميت فهو دائم الالتفات ودائم الرضا بما يؤتى به عنه من الخيرات.
فتحقيق القول فيه أن غرضه " قدس سره " ليس تعلق التكليف بالأعم من
الفعل ومن الرضا بما يؤتى به عنه بحيث يكون الرضا أحد فردي الواجب التخييري،
لأنه خلف وخلاف الواقع، إذ لا تكليف إلا بالفعل والكلام في العمل النيابي،
وأيضا ليس غرضه " قدس سره " تعلق التكليف بالأعم من الفعل المباشري والفعل
المرضي به، إذ يستحيل تعلق التكليف بما ليس من ايجادات المكلف لا مباشرة ولا
تسبيبا، وأيضا ليس الغرض أن صدور الفعل مع الرضا به كاف في القربية، فإنه لو
صدر مباشرة عن رضى به لم يكن بمجرده عبادة، بل الغرض أن الفعل المنسوب إليه
بالنيابة المشروعية إذا رضي به المنوب عنه بما هو موافق لأمره وبما هو دين الله عليه
قربي منه بحيث لو صدر منه مباشرة من حيث كونه موافقا لأمره ودين الله عليه
لكان مقربا له بلا شبهة، فتارة تكون العبادة مصداقا ايجاد العمل بعنوان الموافقة،
وأخرى اتخاذ العمل الصادر من النائب لنفسه بعنوان كونه موافقا لأمره بالرضا به.
هذه غاية تقريب المراد مما أفاده " قدس سره " وعلى تقدير التمامية فلا يتم في
النيابة عن الميت، فإن المكلف به هو العمل عن قصد الامتثال، فلا بد في سقوط
هذا التكليف من حصول هذا المقيد في هذا النشأة، فكون العمل في هذه النشأة
وقيده في نشأة الآخرة ليس امتثالا في هذه النشأة للتكليف الذي لا موقع له إلا
234

هذه النشأة الدنيوية.
وأما حديث ارجاع النيابة إلى اهداء الثواب كما عن بعض أعلام العصر
" قدس سره " (1) فحيث إنها ممتازة عن مطلق الهدية، بداهة أنه ليس كل هدية
نيابة، فلذا جعل ايصال ثواب العمل مأخوذا في الداعي، وحيث إنه لا ثواب على
ذات العمل أخذ التقرب فيه أيضا قائلا بأن النيابة هو العمل متقربا إليه تعالى
بداعي ايصال ثوابه إلى الغير، وهو مبني على مباينة القرب والثواب وإلا لبقي
اشكال تقرب النائب وحصول القرب للمنوب عنه على حاله، مع أنه مناف لظاهر
النصوص والفتاوى، فإن الحج الذي يستنيب فيه الحي العاجز لا يراد منه إلا
إسقاط التكليف المتوجه إليه بالاستنابة لا مجرد تحصيل ثوابه كما لا يخفى، مضافا
إلى أن تقرب النائب وايصال الثواب إنما يتصور فيما كان مستحبا في حق النائب
كالحج والزيارة المندوبين، فإنه يتقرب بأمره الندبي لغاية ايصال ثوابه إلى الغير،
وأما القضاء عن الميت وجوبا أو تبرعا فلا أمر للنائب إلا الأمر الوجوبي أو الندبي
بالنيابة لا بالمنوب فيه، وأوامر النيابة توصلية. هذه جملة من الكلام فيما يتعلق بمسألة
أخذ الأجرة على الواجبات.
المبحث الثالث عشر إذا استأجر الدابة لحمل عشرة أرطال مثلا من الحنطة
فحملها خمسة عشر رطلا مثلا. والكلام فيه في مقامين: (أحدهما) في ضمان أجرة
الزيادة. (ثانيهما) في ضمان الدابة.
أما المقام الأول: فتارة يقع الكلام فيما إذا كان المستأجر هو المعتبر والمحمل،
وأخرى فيما إذا كان المؤجر بنفسه معتبرا ومحملا، وثالثة فيما إذا كان الأجنبي معتبرا
ومحملا:
المورد الأول: ما إذا كان المستأجر هو المعتبر والمحمل. وفي ضمان الأجرة وجوه

(1) راجع تعليقة الميرزا محمد تقي الشيرازي على المكاسب في بحث النوع الخامس من المكاسب
المحرمة مما يحرم التكسب به ما يجب على الإنسان فعله، ص 143.
235

وأقوال: (أحدها) ما المشهور من ضمان أجرة مثل الزائد. (ثانيها) ما عن المحقق
الأردبيلي " رحمه الله " من أجرة مثل المجموع من الزائد والمزيد عليه (1). (ثالثها) ما
حكي عن المقنعة (2) والغنية (3) من أجرة الزائد بحساب أجرة المسمى للمزيد
عليه.
ومبنى القولين الأولين على ملاحظة المستأجر عليه بنحو اللا بشرطية عن الزيادة
أو ملاحظته بنحو البشرط لائية. و " تحقيق " القول في هذا المبنى تارة بالنظر إلى
مقام الثبوت واقتضاء اللا بشرطية والبشرط لائية لما ذكر، وأخرى بالنظر إلى مقام
الاثبات، وإن عقد الإجارة على مرتبة من العدد هل مقتضاه البشرط لائية أو
اللا بشرطية؟
فنقول: أما حق القول في مقام الثبوت فهو أن مقتضى لا بشرطية العشرة
أرطال بالنسبة إلى الزيادة هو أن حمل العشرة مملوك بالعقد، والزائد لا معتبر في
مملوكية حمل العشرة ولا مناف المملوكية حمل العشرة، كما في كل لا بشرط بالإضافة
إلى شئ، فإن مقتضاه عدم دخل الخصوصية وجودا وعدما. وليس مرجع
اللا بشرطية إلى الجمع بين القيود بل إلى رفض القيود، ولو فرض ملاحظة الطبيعي
بنحو السريان في جميع مراتب الناقص والزائد لم يكن من اللا بشرط في شئ.
وفيما نحن فيه يلزم منه الغرر كما أشرنا إلى نظائره في المباحث المقدمة. وعليه فالزائد
على حمل العشرة منفعة غير مملوكة للمستأجر وحكم مثل هذه المنفعة المستوفاة
المملوكة للمؤجر ضمان أجرة مثلها.
وأما مقتضى ملاحظة حمل العشرة بشرط لا في مقام التمليك بعقد الإجارة فهو
أن المنفعة المملوكة حصة خاصة لا تجامع حمل الزائد، فلا محالة إذا انضم إلى العشرة

(1) مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان: كتاب الإجارة، ص 3.
(2) المقنعة: ص 98، المطبوع في ضمن الجوامع الفقهية.
(3) المطبوع ضمن الجوامع الفقهية ص 539.
236

حمل ما يزيد عليها لم تكن هذه العشرة موردا للإجارة ولا مثل هذا الحمل مملوكا،
وإلا لزم الخلف من ملاحظة الحمل المزبور بشرط لا في مرحلة المملوكية بعقد
الإجارة. وعليه فهذه المنفعة المستوفاة برمتها وبجملتها باقية على ملك المؤجر فيلزم
أجرة مثلها، إلا أن الالتزام بالبشرط لائية وترتيب ضمان أجرة مثل المجموع فيه
محذوران يجب دفعهما.
(أحدهما) محذور ملك المنافع المتضادة وملك ما لا يمكن اجتماعه في الملك،
فإن الدابة على الفرض ليس لها منفعتان إحداهما مملوكة بعقد الإجارة في مدة خاصة
والأخرى ملك هذه المنفعة المنضمة إلى الزيادة حتى تكون الأولى موردا لعقد
الإجارة والثانية باقية على ملك المؤجر ومضمونة بأجرة المثل.
(ثانيهما): محذور الجمع بين أجرة المسمى وأجرة مثل المجموع: (أما الأول) فلصحة
الإجارة بلا موجب لبطلانها ولا لانفساخها بعدم استيفاء المستأجر. و (أما الثاني)
فلفرض بقاء المنفعة المستوفاة بجملتها على ملك مالكها، فهي مضمونة على من
استوفاها بأجرة مثلها، فلا بد من دفع المحذورين حتى يمكن الالتزام بما ذهب إليه
الورع الأردبيلي " قدس سره " (1) فنقول: أما محذور ملك المنافع المتضادة فمندفع
عندنا بما مر في مسألة الأجير الخاص من أن المراد بالمنفعة ما هو من حيثيات العين
وشؤونها الموجودة فيها بالقوة بنحو وجود المقبول بوجود القابل، ولا تضاد في
الموجودات بالقوة حتى يؤثر في تضاد ملكيتها، وإنما التضاد في مرحلة استيفائها
باخراجها من القوة إلى الفعل، واستحالته تؤثر في عدم امكان تمليكها جمعا، وعدم
امكان تمليك المنفعة أمر وعدم ملكيتها لملك العين أمر آخر، كما عرفت فيما مر من
المنفعة المشروطة باستيفاء المستأجر بنفسه دون غيره، والضمان أثر مملوكية المنفعة
لا أثر صحة تمليكها كما تقدم الكلام فيه.
وأما عند المشهور المتراءى منهم كون المنفعة المملوكة هي الأعراض

(1) مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان: كتاب الإجارة، ص 3.
237

القائمة بالمستأجر فقد تقدم أنهم يعتقدون أن الجامع بين تلك
المنافع هو المملوك لمالك العين، وإذا عينه في نوع خاص كان ذلك سلبا منه لملكه
وسلطانه على الجامع في سائر أنواعه، فلا ملك له بعد الاستيفاء الاعتباري، ومع
ذلك يقولون بضمان المالية الزائدة، ما سيجئ قريبا إن شاء الله تعالى.
وأما محذور الجمع بين أجرة المسمى وأجرة مثل المجموع فمندفع عندنا بأن
المنفعة المستوفاة برمتها وإن لم يكن مملوكة للمستأجر وباقية على ملك المؤجر إلا أن
العين الواحدة لها مالية واحدة من حيث نفسها ومن حيث منافعها، فالمنافع
المتضادة برمتها مال واحد، حيث لا يمكن تمليكها جمعا، فلا يبذل بإزاء كل واحدة
منضمة إلى الأخرى عوض، وحيث إن المنافع المتضادة متفاوتة في المالية إذا لوحظ
كل واحدة منها في نفسها فهذه العين ذات منفعة ماليتها تقدر بعشرة دنانير مثلا،
فإذا استوفيت خمسة منها بعقد الإجارة بقيت الخمسة الأخرى على ملك مالكها،
فيضمن المستأجر هذه الزيادة باستيفاء المجموع الذي لا يملكه، فكأن هذه المنفعة
المستوفاة ماليتها خمسة دنانير، فالمراد من ضمان أجرة مثل المجموع ضمان هذه المالية
المنسوبة إلى المجموع بعد استيفاء المالك لأجرة المسمى. وعليه ينبغي حمل كلام
المقدس الأردبيلي " رحمه الله " لا على ضمان أجرة مثل المجموع في حد ذاته كما لو لم
يكن استيفاء اعتباري لمقدار من مالية منفعة العين. فتدبره فإنه حقيق به.
وأما من يرى عدم ملك المنافع المتضادة وتعين الجامع فيما عينه المالك فهو
أيضا يقول بضمان المالية الزائدة. نظرا إلى أنها مالية ماله التي لم يستوفها بالإجارة،
لكن يبقى عليه أن ضمان المالية الزائدة لا يكون إلا بكون الزائد مملوكا للمضمون له.
وتمام الكلام في هذا المقام قد تقدم في مسألة الأجير الخاص فراجع (1).
وأما الكلام في مقام الاثبات فجملة القول فيه أن مراتب العدد وإن كانت
بشرط لا لتقوم كل مرتبة بعدد خاص، فالخمسة متقومة بخمسة من الآحاد فلو زيد

(1) المقنعة: ص 98 المطبوع في ضمن الجوامع الفقهية.
238

عليها واحد كانت ستة لا خمسة، إلا أن البشرط لائية من حيث الذات تجامع
اعتبارات البشرط شيئية والبشرط لائية واللا بشرطية من حيث الحكم المرتب عليها
كمملوكية الخمسة، فإن لا بشرطيتها ملكا لا تنافي بشرط لائيتها ذاتا كما هو واضح
بعد امعان النظر، وحيث إن اعتبار وجود خصوصية أو عدم خصوصية يحتاج إلى
التنبيه عليه دون عدم اعتبارهما فمقتضى الاطلاق هي اللا بشرطية. هذا تمام
الكلام في مبنى القولين الأولين ثبوتا وإثباتا.
وأما ما حكي عن المقنعة والغنية من أجرة الزائد بحساب المسمى فلا وجه له
حتى إذا صرح المؤجر بذلك، فإنه غير معقول سواء كان بعنوان الإجارة أم بعنوان
الشرط. كما قدمنا القول فيه في مسألة إجارة الشهر الأول بدرهم وما زاد بهذا
الحساب، فإن مرجعه إلى الإجارة بالمبهم أو اشتراط المبهم، وكلاهما محال فضلا عما
نحن فيه الذي لا تصريح ولا تعيين فيه من المؤجر، وأما ما في الجواهر من حمله على
إرادة أجرة المثل، نظرا إلى موافقتها لأجرة المسمى غالبا فمحل نظر في خصوص
المقام، فإن الغالب التعارف من المكاري حمل ما يتعارف حمله على الدابة، والزيادة
عليه تؤجر بأزيد من أجرة المسمى. نعم هو في مثل إجارة الدار أو الدكان كذلك
والله أعلم.
ثم إنه لا فرق في ضمان المستأجر لأجرة الزائد بين تعمده وخطأه كما في غيره
من موارد الضمان، كما لا فرق بين علم المؤجر وجهله بحمل الزائد بل مع إذنه في
الحمل إذ مجرد الإذن لا يثبت به التبرع وقصد المجانية، بل يأذن له حتى يستوفي منه
أجرة مثل الزائد. نعم مع جهل المستأجر يكون إذن المؤجر تغريرا للمستأجر ومعه لا
ضمان على المغرور، إلا أن يقال بعدم الغرور إلا فيما يصح الاستناد إليه والاعتماد
عليه شرعا. والمؤجر وإن كان مالكا للدابة ويده عليها إلا أنه يصح الاعتماد على
إذنه في التصرف من حيث يده بحيث لو ظهرت الدابة لغيره كان ضمان أجرة المثل
عليه، لا من حيث اخباره بأن المحمول هو المقدار المعقود عليه ليكون تغريرا إذا تبينت
الزيادة، فإن هذا الاخبار أجنبي عن يده التي يصح الاستناد إليها.
239

المورد الثاني: ما إذا كان المؤجر هو المعتبر والمحمل من دون مباشرة للمستأجر
ولا أمر ولا إذن منه، ولا اشكال في أن الخسارة عليه ولا ضمان لا جرة المثل على
المستأجر، لأن مجرد وصول نفع إليه بايصال المؤجر المحمل لا يوجب الضمان
واحترام المال لا يقتضي ضمان من لا يدله ولا استيفاء منه ولو بأمره وإذنه، ومنه
يعلم أنه لو أمره المستأجر بالحمل أو أذن فيه كان ذلك استيفاء منه فيكون ضمان
أجرة الزائد على المستأجر عالما كان بالزيادة أو جاهلا بها، وأما لو هيأه المستأجر
واعده للحمل فحمله المؤجر فهل هو استيفاء منه في صورة علم المؤجر أو تقرير منه في
صورة الجهل؟ لا يبعد الأول بحسب العرف والعادة، وأما الثاني فمحل الاشكال،
لأن قبول أخبار ذي اليد في كل شئ لا دليل عليه، فلو فرض أن اعداده للحمل
بمنزلة الاخبار بأنه القدر المستأجر عليه لم يكن وجه لقبوله حتى يكون ذلك تغريرا
منه.
المورد الثالث: ما إذا كان المعتبر والمحمل أجنبيا، فإن كان من غير أمر ولا إذن
من المؤجر والمستأجر فلا اشكال في ضمانه لأجرة المثل، وإن كان بإذنهما معا
فالضمان على المستأجر، لما عرفت من أنه بمنزلة استيفائه كما إذا إذن للمؤجر في
الحمل، وقد مر أن إذن المؤجر غير مجد في رفع الضمان مع عدم قصد التبرع، ومنه
تعرف ما إذا كان الإذن من خصوص المستأجر، فإنه استيفاء منه، وأما إذا كان
بإذن المؤجر خاصة لم يكن رافعا لضمان الأجنبي المباشر للاستيفاء كما كان كذلك
بالإضافة إلى المستأجر، وأما إذا كان الأجنبي جاهلا والمؤجر الذي أذن له عالما
ففيه شبهة التغرير. وقد عرفت أنه لا تغرير فيما لا موجب للاعتماد عليه شرعا،
فالضمان على الأجنبي المحمل.
تنبيه: كلام القوم في المقام مسوق للضمان من ناحية الحمل والاستيفاء، وأما
إذا كانت الدابة تحت يد المستأجر المحمل للزائد فهو بواسطة تعديه عن مقدار
الاستحقاق يضمن جميع المنافع الممكنة الاستيفاء لا خصوص الزائد، لأن يده
عادية والمنافع الفائتة تحت اليد العادية مضمونة.
240

وأما المقام الثاني: وهو ضمان الدابة بالتلف ففيه صور:
الأولى: ما إذا كان المحمل هو المستأجر بلا إذن ولا تغرير من المؤجر وفيه وجوه
وأقوال: (أحدها) ما هو المشهور من ضمان تمام قيمة الدابة. (ثانيها) ضمان
نصفها كما نسب إلى العلامة " رحمه الله " في الارشاد (1). (ثالثها) التوزيع على الزائد
والمزيد عليه فيضمن القيمة بالنسبة إلى ما لا يستحق، وتوضيح المقام يستدعي
تمهيد مقدمة أمام الكلام.
فنقول: لا ريب في استناد التلف إلى هذا الحمل الشخصي المتقوم بعشرين
رطلا مثلا لا إلى ذات الزائد ولا إلى ذات المزيد عليه، لأن الزائد إن كان كالمزيد
عليه عشرة لم تكن العشرة على الفرض متلفا فلهيئة الاجتماع والانضمام دخل في
التلف، وقد قرر في محله أن الواحد بالحقيقة لا يستند إلى الواحد بالاعتبار، وبين سر
حمل العشرة رجال لحجر واحد لا يقوم بحمله إلا عشرة، فيتوهم استناد الحمل
الواحد إلى العشرة التي هي واحدة بالاعتبار، بتقريب أن لكل واحد من العشرة
تأثيرا في الحمل بحيث لا يبين أثره إلا عند الانضمام على حد انضمام بعض أجزاء
الحجر إلى بعض بحيث لو انقسم الحجر إلى عشرة أجزاء لكان كل من العشرة قابلا
لحمله ففي الحقيقة قد استند الواحد بالانضمام إلى الواحد بالانضمام، وفيما نحن فيه
كذلك، فإن كل رطل من العشرين رطلا له أثر ضعيف في وهن الدابة ولا تظهر
تلك الآثار إلا عند انضمام الأرطال بعضها ببعض، وذلك الثقل الطبيعي المتصور
بصورة الوحدة هو المتلف للدابة، فيصح أن حمل كل رطل له دخل في التلف،
فيوهم أن مقدارا منه بحق ومقدارا منه بغير حق، فلا يضمن إلا ما هو بغير حق،
وليس حمل ما هو غير مستحق بعد ما هو مستحق حتى يتوهم أن التلف مستند إلى
الجزء الأخير من السبب، كما إذا جرحه بحق ثم جرحه بغير حق فتلف، فإن التلف ينسب إلى الأخير فيضمن تمام الدية، إذ ليس المراد من الحمل مجرد الوضع على

(1) شرح الارشاد: كتاب الإجارة ص 3 في ذيل قوله: ولو زاد..
241

ظهر الدابة حتى يتصور حمل المجموع دفعة تارة تدريجيا أخرى، بل المراد سوق الدابة
وتسييرها بما عليها من المحمول، وهو الموجب لتلفها لا مجرد وضع المحمول على
ظهرها.
وبعد ما عرفت من استناد التلف إلى الزائد والمزيد عليه منضما أحدهما إلى
الآخر، نقول: إن ملك المنفعة واستحقاقها وإن كان لا بشرط على الفرض إلا أن
السلطنة على استيفاء ماله واستحقاقه للاستيفاء بشرط عدم الانضمام إلى ما لا
يستحقه، ولا يعقل أن يكون لا بشرط حتى من حيث الاستيفاء منضما أو غير
منضم، لأن مقتضاه تجويز التصرف في مال الغير عند الانضمام إلى ماله، وإذا
كانت السلطنة على الاستيفاء بشرط لا من حيث الانضمام فلا سلطنة له على حمل
ما يستحقه ملكا منضما، فهذا الحمل المنضم غير مأذون فيه شرعا، والمفروض استناد
التلف إلى هذا الحمل الشخصي الذي لا سلطنة له عليه، فلا تنصيف ولا توزيع،
بل يضمن تمام القيمة لاستناد التلف إلى الزائد والمزيد عليه المنضم أحدهما إلى
الآخر. وقد مر أنه لا يستحق هذا النحو من الاستيفاء، وقد تبين أيضا أنه لا منافاة
بين استناد التلف إلى المجموع بالمعنى المزبور وضمان تمام القيمة، ولا حاجة إلى
دعوى استناد التلف إلى الجمع والضم، لأن الجمع والضم لا يتلف شيئا، وإنما
المتلف ما هو بالحمل الشائع منضم ومجموع، وهو غير مستحق فهو المضمن.
الصورة الثانية: ما إذا كان حمل الزائد بإذن المؤجر، وهو إذن في الاتلاف كما
إذا آجر الدابة لحمل المجموع، فكما أن الاتلاف مستند إليه وإن كان المستأجر
مباشرا للتحميل فكذا إذا أذن له في حمل الزائد، فللمستأجر حينئذ حمل المجموع
المتلف بالملك والإذن معا، فإذن المؤجر في الاستيفاء وإن كان يجامع الضمان
لأجرة المثل، حيث إنه لا يرتفع إلا بقصد التبرع والإذن أعم، إلا أن الإذن في
الاتلاف غير مقيد بشئ، حيث لا فرق في عدم ضمان التلف بين جواز الحمل
للإجارة وجوازه للإذن، والمباشر في كليهما المستأجر، ولا فرق مع إذن المؤجر بين
علمه بالزيادة وجهله بها، فهو كما لو آجره الدابة لحمل عشرين رطلا مع جهله بأنه
242

متلف عادة، فكما أنه لا ضمان معه على المستأجر كذلك لو أذن له مع جهله
بالزيادة الموجبة للتلف.
الصورة الثالثة: ما إذا كان المؤجر هو المحمل للمجموع والتلف مستند إليه سواء
كان عالما أم جاهلا وسواء كان المستأجر عالما أم جاهلا، بل لا فرق أيضا بين أمر
المستأجر وإذنه للمؤجر ولو كان المؤجر جاهلا والمستأجر عالما، لما عرفت من أنه لا موقع
للتغرير هنا مع عدم الموجب لاستناد المؤجر إلى أمر المستأجر أو إذنه حتى يتحقق
الغرور بسببه فضلا عما إذا أعده المستأجر وهيأه للحمل، فإن كل ذلك وإن كان
محققا للاستيفاء المؤثر في ضمان الأجرة إلا أنه لا تأثير لشئ منها لا في الاتلاف
ولا في التغرير الموجبين لضمان الدابة.
الصورة الرابعة: ما إذا كان الأجنبي محملا سواء كان عالما أو جاهلا أو كان
بأمر المستأجر أو إذنه. وقد عرفت حال التغرير. نعم إذا كان بإذن المؤجر كان إذنا
منه في الاتلاف.
الصورة الخامسة: ما إذا كان التحميل بالاشتراك بين المؤجر والمستأجر بأن
حملاها معا، والكلام تارة فيما إذا كان لكل منهما يد بالاشتراك على الدابة وأخرى
يتمحض في حملهما من دون يد للمستأجر، كما أن الكلام تارة في ضمان الأجرة
وأخرى في ضمان قيمة الدابة. أما إذا كان لهما يد فمقتضى اجتماع اليدين غير
التابعة إحداهما للأخرى وكونها من كل يدا على النصف بالإشاعة هو ضمان
المستأجر لنصف القيمة ولو كان التلف لا من ناحية الحمل، وأما إذا لم يكن
للمستأجر يد فيضمن أجرة نصف الزائد لاستيفائه بتحميلها إياه، وعلم المؤجر وإذنه
لا يرفع هذا الضمان كما مر مرارا.
وأما ضمان قيمة الدابة فالمعروف في كل سبب متلف بالاشتراك هو ضمان
القيمة أو الدية بحسب النسبة، فالنصف إذا كان المتلف اثنين والثلث إذا كانوا
ثلاثة وهكذا. إلا أن الكلام في مساعدة دليل " من أتلف " لهذا المعنى، وذلك لأن
الواحد ليس له إلا تلف واحد والاتلاف بمقتضى اتحاد الايجاد والوجود أيضا واحد
243

والمتلف أيضا واحد ولو بالاعتبار، فالاثنان المشتركان في الاتلاف متلف واحد،
وهذا الواحد بالاعتبار إنما يضمن، فتنتصف القيمة إذا كانا أجنبيين، وأما إذا
كان أحدهما المالك فحيث إن الإنسان لا يضمن ماله بضمان الغرامة فلا يعقل أن
يكون مثل هذا الواحد بالاعتبار ضامنا حتى ينتج تنصيف المضمون به، والمفروض
أن الاتلاف مضمن لا الدخل في الاتلاف، ولا يقاس باليد من المؤجر والمستأجر،
لأن المفروض هناك يدان مستقلان كل واحدة على النصف المشاع، فالسبب
بالإضافة إلى كل نصف غير السبب في الآخر، بخلاف الاتلاف الواحد القائم
بواحد بالاعتبار المتقوم بالمالك والأجنبي، لكن في الشرايع في باب الديات
التصريح بضمان دية القتل مع اشتراك المقتول في قتل نفسه، حيث قال
" قدس سره " لو رمى عشرة بالمنجنيق فقتل أحدهم سقط نصيبه من الدية لمشاركته
في قتل نفسه، وضمن الباقون تسعة أعشار الدية.. (1) الخ، وهو كالمفروض في
المقام من حيث الاشكال بحسب مقام الثبوت وإن كان الظاهر من صاحب الجواهر
" رحمه الله " (2) هناك عدم الخلاف فيه.
وأما هنا ففصل بين علم المؤجر بالزيادة وجهله بها فحكم بعدم الضمان مع
العلم وتنظر فيه مع الجهل، ولعله لاستلزام العلم للإذن المسقط لحكم الاتلاف
دون القتل هناك، ويمكن أن يقال بعد تعميم الموصول في " من أتلف " لصورة
الاشتراك: إنه لا حاجة إلى تنزيل المتعدد منزلة الواحد، بل يصدق على كل منهما
أنه متلف بالاشتراك، فللموصول هنا فردان رتب عليهما الضمان، وحيث إن
أحدهما المالك فلا ضمان عليه، ومقتضى تعدد المصداق وتعدد الضمان وإن كان
ضمان كل منهما للمال الواحد إلا أن المتفاهم عرفا من الضمان بالاشتراك لمال
واحد وهو التنصيف. هذا نبذة مما يتعلق بالصور المهمة من صور المسألة وحكم الباقي
يعرف مما مر ومن الكتب المفصلة.

(1) شرايع الإسلام: كتاب الديات في ذيل بحث الأسباب.
(2) جواهر الكلام: ج 43، ص 107.
244

المسألة الرابعة
من شرائط الإجارة كما في الشرايع إباحة المنفعة (1)، والكلام تارة في ما
تقتضيه القاعدة وأخرى فيما تقتضيه نصوص الباب، فهنا مقامان من الكلام:
المقام الأول: في اقتضاء تحريم المنفعة لبطلان المعاملة حتى ينتج شرطية إباحة
المنفعة لصحة الإجارة. وما قيل أو يمكن أن يقال في ذلك وجوه:
أحدها: أن المنفعة المحرمة غير مملوكة، فلا ملك حتى يملك بالإجارة المتقومة
بتمليك المنفعة وتملكها.
وفيه (أولا) ما مر مرارا من أن منفعة الدار مثلا هي الحيثية القائمة بالدار وهي
كونها مسكنا دون السكنى الذي هو من أعراض الساكن، وتلك الحيثية موجودة
بوجود الدار على حد وجود الدار على حد وجود المقبول بوجود القابل، فما هو قابل للتحريم هو السكنى
الذي هو من أعراض الساكن، وهو غير مملوك ولا يملك بالإجارة، وما هو مملوك
وهي تلك الحيثية وهي التي تملك بالإجارة غير قابلة لأن توصف بالحرمة. نعم
اخراجها من القوة إلى الفعل بعين استيفائها الذي هو عين ذلك العرض القائم
بالساكن يوصف بالحرمة، مع أن المنفعة مملوكة سواء استوفيت أم لا. فتدبر.
و (ثانيا) أنه بعد التنزل في المنفعة كما هو كذلك في العمل المستأجر عليه،
حيث إنه المملوك والموصوف بالحرمة، نقول: بأي وجه تكون الحرمة منافية للملكية
مع أنها لا تقابل لها بالذات بأحد أنحاء التقابل من التناقض والتضاد والتضايف
بين المتعاندين في الوجود، والتقابل بالعرض والتبع فرع شرطية الإباحة للتملك
بالإجارة حتى يقال إن الملك ملزوم للإباحة فلا يعقل اجتماعه مع ضد لازمه. ومن
المعلوم أن الكلام في الشرطية هنا.
ثانيها: أن المنفعة المحرمة لا مالية لها فلا تقبل المعاوضة عليها. وقد عرفت أن

(1) شرايع الإسلام: كتاب الإجارة الشرط الخامس.
245

المنفعة بما هي من شؤون العين غير موصوفة بالحرمة وهي مورد المعاوضة، وما هو
موصوف بالحرمة وهو استيفاؤها ليس موردا للمعاوضة. وأما العمل المستأجر عليه
فهو وإن كان مورد الحرمة والمعاوضة معا إلا أنه إذا كان في حد ذاته ما لا عند
العقلاء فالمنع عنه منع عن إيجاد المال، كما أن الأمر باتلاف العبد الجاني أمر
باعدام المال، لا أنه في شئ من المقامين اسقاط لماليته.
ثالثها: أن المنفعة المحرمة والعمل المحرم وإن كانا ملكا ومالا إلا أن الشارع
بتحريمهما سلب احترامهما والمال غير المحترم لا يعوض بشئ، لفرض عدم الحرمة له
فهو هدر عند الشارع.
وفيه ما عرفت مرارا من أن هدر المال غير هدر المالية، فمال الكافر الحربي عينا
ومنفعة وعملا مسلوب الحرمة من حيث الملكية فيجوز أخذه منه قهرا عليه، ومن
حيث المالية لجواز أخذه بلا عوض قهرا عليه، ومع ذلك يصح ايقاع المعاوضة عليه
عينا ومنفعة وعملا، فالاحترام من حيث المالية فضلا عن الملكية ليس من شرائط
نفوذ التصرف المعاملي.
رابعها: أن ملك التصرف بمعنى السلطنة عليه من شرائط نفوذ المعاملة، ولا
سلطنة على التصرف شرعا مع تحريمه شرعا، فالحرمة سالبة للقدرة والسلطان على التصرف
وفيه ما مر مرار من أن السلطنة الوضعية مفوضة مع التحريم، والسلطنة
التكليفية المنتزعة عن الترخيص في العمل ليست من شرائط نفوذ المعاملة كلية،
وفي خصوص المقام يحتاج إلى دليل، والمفروض التكلم في اقتضاء التحريم بما هو
لبطلان المعاملة.
خامسها: عدم القدرة على التسليم شرعا، لفرض حرمته السالبة للقدرة شرعا
والممنوع شرعا كالممتنع عقلا، مع أن القدرة على التسليم من شرائط نفوذ المعاوضة.
وفيه ما قدمناه (1) في أوائل البحث عن أخذ الأجرة على الواجبات من أن

(1) ص 198 في ذيل دفع الوجه الثالث.
246

مدرك اعتبار القدرة إن كان وجوب الوفاء بالعقد بتخيل أن التسليم وفاء به فلا
محالة إذا حرم العمل حرم التسليم فكيف يجب الوفاء بالعقد، فالأمر كما قيل، وإن
كان مدرك اعتبارها دليل نفي الغرر فالمدار على الغرر، وحرمة العمل أجنبية عن
الغرر والخطر من حيث حصوله من العامل الأجير.
المقام الثاني في ما تقتضيه نصوص الباب عموما وخصوصا في المنفعة المحرمة
والعمل المحرم. فنقول:
أما العمل المحرم فيكفي في عدم جواز الإجارة له ما في رواية تحف العقول المتلقاة
بالقبول وفيها " كل أمر نهي عنه من جهة من الجهات فمحرم على الإنسان إجارة نفسه
فيه.. الخ " (1) فما عن مفتاح الكرامة من قوله " رحمه الله ": ولا أجد ذلك في
أخبارنا.. الخ (2). لعله لعدم الاعتماد عليها لبعد عدم الظفر بها مع سعة باعه
" قدس سره " في التتبع في الأخبار وفي كلمات علمائنا الأخيار، بل يمكن استفادة
الملاك من قوله صلى الله عليه وآله: " إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه " (3). وإن
كان الظاهر من الشئ هو العين دون العمل، كما أن الظاهر من الثمن عوض المبيع
لا أجر العمل.
وأما المنفعة المحرمة ففيها روايتان: إحداهما حسنة ابن أذينة " قال: كتبت إلى
أبي عبد الله عليه السلام عن الرجل يواجر سفينته أو دابته ممن يحمل فيها أو عليها
الخمر والخنازير؟ فقال: (لا بأس) (4) (ثانيهما) ما عن صابر أو جابر " عن الرجل
يواجر بيته فيباع فيه الخمر؟ قال: (حرام أجرته) " (5). والمشهور حمل الأولى كما هو
ظاهرها على الإجارة للحمل ممن يفعل ذلك لا الإجارة لحمل الخمر والخنزير، وحمل
الثانية على الحمل لهذه الغاية وإن كان بعيدا عن التفريع بالفاء، كما ذكروا في بيع
العنب ممن يعمل خمرا ولأن يعمل خمرا من صحة الأول وبطلان الثاني، للجمع بين

(1) تحف العقول: ص 334.
(2) مفتاح الكرامة: ج 7، ص 134.
(3) عوالي اللئالي: ج 2، ص 110، ح 301.
(4) الوسائل: ج 12، باب 39 من أبواب ما يكتسب به، ح 2 و 1، ص 126 و 125.
(5) الوسائل: ج 12، باب 39 من أبواب ما يكتسب به، ح 2 و 1، ص 126 و 125.
247

الأخبار في تلك المسألة، ومجمل القول في المسألتين أن الأعيان على قسمين:
(منها) ما تتمحض جهة الانتفاع به في الحرام كالخمر، فإن المنفعة المترقبة منها
شربها، وكالخنزير، فإن المنفعة المترقبة منه أكله، وهكذا غيرهما مما يتمحض نوعا
في المحرم.
(ومنها) ما لا تتمحض جهة الانتفاع به في الحرام كغير المذكورات من الأعيان
المباحة التي يمكن الانتفاع بها على جهة الحلال والحرام كالعنب، فيؤكل تارة أو
يشرب عصيره ويعمل خمرا أخرى، وكالخشب يجعل سريرا تارة ويجعل صليبا
أخرى.
وقد استفيد من رواية تحف العقول أن ما تمحض في الجهة المحرمة لا يجوز
ايقاع أي عقد عليه (1)، فيفهم منه أن تمحضه في الانتفاع المحرم يوجب سقوطه عن
المالية شرعا لتقومها بالمنفعة الخاصة به، والمفروض أن الشارع أسقط هذه المنفعة
عن درجة الاعتبار، وأن ما لم يتمحض في الجهة المحرمة باق على ماليته وإن انتفع به
المشتري مثلا في جهة الحرام، ومن البين أن قصد الغاية المحرمة لا يضيق دائرة العين
كلية كانت أو شخصية، كما أن المفروض عدم انحصار جهة الانتفاع به في الحرام
كالخمر و الخنزير، ومجرد قصد الغاية غير المحللة لا يوجب إلا عنوان الإعانة على
الإثم، والبيع المعنون بهذا العنوان وإن كان حراما إلا أن مثل هذه الحرمة لا يوجب
فساد البيع، وليس في أخبار باب بيع العنب رواية تدل على حرمة بيع العنب
ليعمل خمرا، بل الموجود حرمة بيع الخشب ممن يعمل صنما أو صليبا (2)، مع دلالة
الروايات المستفيضة على جواز بيع العنب ممن يعمل خمرا (3)، بل على جواز بيع
الخشب ممن يعمله برابط (4)، فحمل المشهور على التفصيل بين قصد الغاية المحرمة

(1) تحف العقول: ص 334.
(2) الوسائل: ج 12، باب 41 من أبواب ما يكتسب به، ص 127.
(3) الوسائل: ج 12، باب 95 من أبواب ما يكتسب به، ص 168.
(4) الوسائل: ج 12، باب 41 من أبواب ما يكتسب به، ح 1، ص 127.
248

وعدمه بلا وجه، وبقية الكلام في محله.
وأما الأعمال فهي قابلة للتقييد وصيرورتها حصة خاصة كالكتابة إذا قيدت
بنسخ كتب الضلال والحمل المقيد بحمل الخمر مثلا، فتكون هذه الحصة في
الأعمال كالخمر والخنزير في الأعيان من سقوط ماليتها باسقاط هذه الجهة من
الانتفاع منها، فالأمر في باب الإجارة على العمل أوضح من البيع لغاية محرمة، وأما
المنافع فهي على المشهور كالأعمال فهي قابلة للتوسعة والتضييق، فمع التقييد بالجهة
المحرمة كانت هذه الحصة من المنفعة كالخمر والخنزير في سقوطها عن المالية شرعا
بمقتضى الكلية المستفادة من رواية تحف العقول (1)، وأما بناء على مسلكنا في
حقيقة المنفعة فالإجارة وإن تعلقت بالخاص وهي المحرزية للخمر أو الحاملية لها إلا
أن المحرم هو مضايف هذه الحيثية، فالإجارة واقعة على ملازم الحرام لما بين
المتضايفين من التلازم دون العلية، وتلك الكلية لا تعمها.
فتحصل من جميع ما ذكرنا أن العمل المحرم لا يصح ايقاع الإجارة عليه،
لفرض اسقاط ماليته بحكم الشارع، والدليل عليه رواية تحف العقول الدالة على حرمة
الإجارة على كل عمل محرم (2)، وأما المنفعة المحرمة فبناء على المشهور أيضا تندرج
تحت الكلية المستفادة من الرواية المزبورة من أن كل شئ فيه جهة من جهات
الفساد ولم يكن فيه جهة من جهات الصلاح فاجارته محرمة (3)، والمنفعة الخاصة
وهي المحرزية للخمر والمسكنية لبيع الخمر أو الحاملية للخمر كذلك، وأما على ما
سلكناه من عدم اتصاف تلك الحيثية بالحرمة حتى عند فعليتها بفعلية مضايفها، فإن
غايته التلازم مع الحرام فالأمر فيه مشكل، وكونه إعانة على الإثم إذا قصد تمليك
تلك الحيثية بعنوان حصول ملازمها لا يوجب إلا حرمة المليك لا الفساد،
والالحاق بالبيع لغاية محرمة قياس، مع ما عرفت من عدم الدليل على الفساد هناك
حتى مع قصد تلك الغاية. وأما مع اشتراطها في ضمن العقد، فإن كان بمعنى

(1) تحف العقول: ص 334.
(2) تحف العقول: ص 334.
(3) تحف العقول: ص 334.
249

التقييد فقد عرفت أن العنب كليا كان أو شخصيا لا يتحصص ولا يتشخص
بالغاية، وإن كان بمعنى الالتزام في ضمن البيع فغايته اشتراط أمر حرام فلا ينفذ،
أما أنه مفسد للعقد فلا، إلا أن الشهرة والاجماعات المحكية في المسألة في باب البيع
وفي باب الإجارة للمنفعة المحرمة كافية للفقيه كما هو المرسوم في هذا الفن.
تنبيه: لا يخفي أن ما ذكره في الشرايع بعد اعتبار إباحة المنفعة من استيجار
الحائط المزوق للتنزه بالنظر إليه (1) ينبغي ذكره سابقا في طي ما يساوقه من
استيجار الدينار والدراهم للتزيين وأشباهه، من حيث عدم كون منفعة التنزه
والتزيين من المنافع المقصودة وإلا فالتنزه بالنظر ليس فيه شبهة الحرمة حتى يناسب
اشتراط إباحة المنفعة، فما صنعه العلامة " قدس سره " في قواعده من اشتراط كون
المنفعة مقومة (2) وذكر هذه الفروع مفرعا لها عليها أنسب والأمر سهل.
المسألة الخامسة
من شرائط نفوذ الإجارة القدرة على التسليم، ومدرك اعتبارها كلية في البيع
وغيره أمور:
أحدها: السفه، حيث إن بذل المال بإزاء ما لا يمكن تسلمه غير عقلائي، فلا
تعمه الاطلاقات المسوقة لا نفاذ المعاملات العرفية العقلائية. و " يندفع " بأن
السفاهة ليست دائمية، لامكان الانتفاع بالعبد الآبق بعتقه، نعم هذا المعنى
مخصوص بالبيع ونحوه لا في مثل الإجارة المقصورة على الانتفاع بمنافعه، مضافا إلى
أن بذل مال قليل بإزاء مال كثير محتمل الحصول ليس سفها، بل ربما يقال إن
الامتناع عنه سفه، وهذا جار في الإجارة أيضا.
ثانيها: أن لازم العقد لزوم التسليم، وهو مشروط بالقدرة، فيكشف عدمه عن
عدم تأثير العقد، والا لزم انفكاك اللازم عن ملزومه. وتوضيح الجواب بأن المراد

(1) شرايع الإسلام: كتاب الإجارة في ذيل الشرط الخامس.
(2) قواعد الأحكام: ج 1، ص 226.
250

من كون لزوم التسليم من لوازم العقد، إما كونه من مقتضياته عند الاطلاق، وإما
كونه من لوازم المعقود عليه وهو الملك، وإما كونه من أحكام العقد لكون التسليم
مصداقا للوفاء الذي وجوبه من أحكام العقد، وحيث إن حكم الشئ باقتضاء
موضوعه عبر عنه باللازم، والكل مخدوش.
أما الأول: وهو اقتضاء العقد لوجوب التسليم أو استحقاقه ففيه: أن مدلول
العقد في البيع تمليك العين وفي الإجارة تمليك المنفعة، لا التمليك واعتبار وضعي
أو تكليفي آخر، ولا معنى لتقييد الملكية أو المملوك بما يتمكن من تسليمه، لأن
مرجع الأول إلى تعليق البيع والإجارة وهو مبطل لهما، مرجع الثاني إلى كون المبيع
أو المنفعة حصة خاصة، هو يتصور في الكلي دون الشخصي كبيع هذه الدابة أو
ركوب هذه الدابة ومقتضى البيع والإجارة من حيث الاشتراط بالقدرة لا يتفاوت
بتفاوت الموارد من حيث الكلية والجزئية.
وأما الثاني: وهو كونه من لوازم الملك فهو صحيح بمقتضى سلطنة الناس على
أموالهم، فلهم المطالبة وليس لمن بيده المال الامتناع عن تسليمه، إلا أن حرمة
الامتناع فرع التمكن من التسليم لا أنها مطلقة حتى يكشف عن أن القدرة مفروضة
الحصول، فاللازم ليس من اللوازم غير المفارقة حتى يستحيل انفكاكه وحتى يكون
كاشفا عن ملازمة حصول الملك للقدرة على التسليم.
وأما الثالث: وهو اقتضاء وجوب الوفاء بالعقد لوجوب التسليم، وما لا يقدر
على الوفاء به لا يعقل حصوله فهو مدفوع (أولا) بأنه مبني على كون الأمر بالوفاء
تكليفيا لا إرشادا إلى اللزوم الوضعي، وعلى فرض كونه تكليفيا لم يكن مقتضاه
القيام بعهده بعدم حله، بل تكليفا بالوفاء عملا كما أشرنا إليه في محله وفي بعض
المباحث المتقدمة. و (ثانيا) بأنه لو كان دليل الوفاء دليلا على صحة العقد بحيث
تنتزع صحته عن لزوم الوفاء به كان عدم لزوم الوفاء عملا بعدم القدرة كاشفا عن
عدم الصحة، وأما إذا كان الأمر بالوفاء من أحكام العقد الصحيح فاشتراطه
بالقدرة وتخلفه عنه عند عدمها لا يكشف عن عدم صحة العقد.
251

ثالثها: الروايات المتضمنة للنهي عن بيع ما ليس عنده بإرادة عدم السلطنة
عليه فلا قدرة له على تسليمه وتوضيح الجواب عنها أن المراد بكونه عنده أما معناه
الحقيقي المساوق للحضور وأما معناه الكنائي، وهو إما ملك العين أو السلطنة
الاعتبارية على التصرف فيها المعبر عنها بملك التصرف السلطنة الخارجية على
التصرفات المماسة للعين ومنها القدرة على تسليمها، ومن البين أن معناه الحقيقي غير
مراد، لصحة بيع الغائب اجماعا.
والأول من معانيه الكنائية خلاف الظاهر، فإنه من بيع ما ليس له لا ما ليس
عنده، مع أنه مرتبط ببيع الفضول الذي لا يملك العين، وملك العين مفروض هنا
والثاني من معانيه الكنائية أيضا غير مرتبط بما نحن فيه، فإن البائع يملك أمر
المبيع، وعدم كونه مالكا للتصرف إذا كانت القدرة شرطا بدليل آخر صحيح إلا
أن الكلام في دلالة هذه الروايات على إناطة ملك التصرف بالقدرة على التسليم،
فلا يعقل اثبات اعتبارها بما يتوقف صدقه على اعتبارها.
والثالث من تلك المعاني الكنائية أيضا غير مراد، إذ لا شبهة في عدم إناطة نفوذ
البيع بالسلطنة الخارجية على التصرفات الخارجية المماسة للعين الملازمة لحضورها
عنده دائما، وخصوص السلطنة الخارجية على خصوص التسليم غير مراد إلا بنحو
العموم الذي لا يمكن الالتزام به، وتخصيصها باخراج جميع التصرفات وقصرها على
خصوص التصرف بالتسليم في غاية البعد من مفاد هذه الأخبار.
رابعها. ما دل على النهي عن بيع الغرر أو عن الغرر (1)، نظرا إلى أن بيع ما
لا يقدر على تسلمه خطري، والنهي في باب المعاملات له ظهور ثانوي في الارشاد إلى
الفساد، الغرر وإن كان معناه الحقيقي مساوقا للخديعة، كما تشهد له
الاستعمالات الراجعة إلى هذه المادة، وتفسيره بالخطر من باب التفسير بلازمه
الغالبي كما أن تفسيره بالغفلة تفسير بلازمه الدائمي، حيث إن الغافل ينخدع

(1) عوالي اللئالي: ج 2، ص 248، ح 17.
252

والملتفت لا ينخدع، وكذا التفسير بما لا يؤمن معه من الضرر وبعدم كونه على عهدة
وثقة تفسير بلازمه الغالبي، والتفسير بما له ظاهر محبوب وباطن مكروه تفسير بمورده
ومحله، إلا أن الظاهر عدم إرادة معناه الحقيقي وهي الخديعة التي لا شبهة في حرمتها،
كما لا شبهة في عدم بطلان البيع معها، بل غايته خيار التدليس أحيانا، وإرادة
خصوص الخطر الذي هو لازمه الغالبي مستند إلى فهم العامة والخاصة، لاتفاقهم
ظاهرا على ذلك كما يتضح بالمراجعة إلى استدلالات الفريقين به في أبواب
المعاملات، وأما الحاق الإجارة بالبيع فسمتنده إما فهم المناط القطعي أو ما أرسله
الشهيد " قدس سره " في قواعده من أنه " نهى النبي صلى الله عليه وآله عن
الغرر " (1).
ومن جميع ما ذكرنا تبين أنه لا مستند لاعتبار القدرة على التسليم إلا دليل نفي
الغرر، وحيث إن المدار على الغرر فالمعتبر في نفوذ المعاملة ما لا يكون الاقدام عليه
خطريا إما بالعمل أو بالوثوق بحصوله في يده. دون القدرة بعنوانها فضلا عن القدرة
الواقعية.
وينبغي التنبيه إلى أمور مهمة: (الأول) إن الحاجة إلى دليل على اعتبار القدرة
على التسليم إنما هو فيما كان لوجود المملوك مقام ولتسليمه مقام آخر كالعين في
البيع. فإن المفروض وجودها إلا أنه مقدور على تسليمه تارة وغير مقدور على تسليمه
أخرى. وكالمنفعة. فإنها موجودة بوجود الدابة مثلا. إلا أن تسليمها بتسليم الدابة
مقدور عليه تارة وغير مقدور أخرى. بخلاف الأعمال. فإن ايجادها ووجودها
وتسليمها وتسلمها واحد. فعدم القدرة على تسليم العمل مرجعه إلى عدم القدرة على
إيجاده. وما يمتنع إيجاده غير قابل للملكية من دون حاجة إلى دليل آخر كدليل
الغرر وغيره. كما أن العمل الذي يشك في القدرة عليه لا يمكن تمليكه منجزا.
وتمليكه معلقا فاسد.

(1) القواعد والفوائد: ج 2، ص 61، القاعدة 164.
253

(الثاني) حيث إن المدار على الغرر، وملاكه نفيا وإثباتا الوثوق بامكان حصوله
في اليد وعدم الوثوق به، وهما وجدانيان لا مجال للشك فيهما، فلا أثر لمانعية الغرر أو
شرطية عدمه، وأما إذا كان المدار على القدرة بعنوانها فربما يتخيل الفرق بين شرطية
القدرة ومانعية العجز كما في الجواهر (1)، فإنه لا بد من احراز الشرط ويكفي عدم
احراز المانع، لكون عدمه مطابقا للأصل، إلا أن مانعية العجز غير معقولة، لا لما
أفاده الشيخ الأجل " قدس سره " في كتاب البيع من أن العجز أمر عدمي والمانع ما
يلزم من وجوده العدم، لما ذكرنا في محله من أن المانع بهذه المعنى غير معقول في نفسه،
لأن استلزام الوجود العدم إما بنحو استلزام المقتضي لمقتضاه وإما بنحو استلزام
الشرط لمشروطه وأما بنحو استلزام المعد للمعد له، والكل محال.
أما الأول: فلأن المقتضي يترشح عن مرتبة ذات مقتضيه، والعدم لا شئ
فيكف يعقل أن يكون في مرتبة أمر وجودي حتى يترشح منه، وإلا لرجعت حيثية
الثبوت إلى حيثية النفي.
وأما الثاني: فلأن الشرط إما مصحح فاعلية الفاعل أو متمم قابلية القابل،
والعدم لا يحتاج إلى فاعل ولا إلى قابل حتى يحتاج إلى مصحح أو متمم.
وأما الثالث: فلأن المعد ما يقرب الأثر إلى مؤثره، والعدم لا مؤثره، والعدم لا مؤثر له حتى
يحتاج إلى مقرب لأثره إليه، وعليه فالوجه في عدم صدق المانع على العجز وعلى
غيره ما يسمى مانعا في الألسنة أن المانع ما يقتضي ضد ما يقتضيه مقتض آخر،
كسبب وجود البياض في المحل لسبب وجود السواد فيه، وكالعقد على ملكية عين
خاصة لزيد والعقد على ملكيتها لعمرو في زمان واحد، ومن الواضح أن العجز
بالإضافة إلى عقد البيع ليس كذلك، إذ ليس للعجز أثر هو ضد الملك الذي هو أثر
العقد حتى يمنع عن تأثيره، بل غاية ما في الباب أن عدمه شرط تأثير العقد، وليس
كل ما كان عدمه شرطا يكون وجوده مانعا، نعم كل ما كان مانعا بحقيقة المانعية

(1) جواهر الكلام: ج 27، ص 308.
254

يكون عدمه شرطا لتأثير السبب الآخر عقلا، وإلا لزم انفكاك المعول عن علته
التامة فتدبر جيدا. وبقية الكلام موكولة إلى ما ذكرناه في تعاليقنا على كتاب البيع
للعلامة الأنصاري " قدس سره ".
(الثالث) ربما يقال بصحة بيع الضال والمجحود والمغصوب المحتمل حصولها في
اليد الخارج به عن السفه، نظرا إلى أن المانع منحصر في الغرر، وهو مرتفع بوجوه:
أحدها: أنه بالفحص عنه إما يحصل في اليد أو يحصل اليأس منه، وهو بمنزلة
التلف الموجب لانفساخ العقد الموجب لرجوع الثمن إلى صاحبه. فهذا البيع مأمون
العاقبة من الخطر، لوصول المبيع أو بدله إليه.
ثانيها: أنه مع تعذر تسليمه له خيار التعذر، فله الفسخ واسترجاع الثمن فلا غرر.
ثالثها: أنه له اشتراط الخيار برد الثمن مع عدم وصول المبيع إليه.
رابعها: أنه مع امتناع تسليم المبيع للمشتري الامتناع من تسليم الثمن فلا خطر
أيضا.
والجواب: عما عدا الأخير أن الحكم بالانفساخ والخيار مرتب
على العقد الصحيح فكيف يصحح به العقد، ونفوذ الشرط مشروط بكونه في ضمن
العقد الصحيح التزاما بالخيار في العقد الصحيح لا مطلقا فكيف يصحح به العقد.
وأما الأخير فهو مدفوع بأن الامتناع عن تسليم الثمن مع كونه مال البائع لا
يوجوب تدارك ما ذهب من ملكه ولو بقي في يده، أبدا، مضافا إلى أن الغرر بمعنى
الخطر من حيث المالية وإن ارتفع في الكل إلا أن الخطر من حيث تخلف الغرض
المعاملي على حاله لا ينجبر لا بالانفساخ ولا بالفسخ. نعم الحق امكان رفع الغرر
بشرط رد الثمن أو مثله على تقدير عدم وصول المبيع إلى المشتري، لما اشتهر بينهم في
بيع العين الغائبة من رفع الغرر بالالتزام بالوصف، وسره أن رفع الغرر موقوف على
الالتزام بالوصف. وهو لا يتوقف على رفع الغرر بل هو بنفسه رافع للغرر، فلا
تتوقف صحة الشرط إلا على صحة العقد من غير جهة الغرر، وعليه فيصح البيع
بشرط الخيار لرفع الغرر، وكذا يصح بشرط ايصال المبيع المحتمل حصوله ووصوله،
255

وأما حديث الغرر من ناحية تخلف الغرض المعاملي وهو الانتفاع بالعين الموقوف على
تسلمها فمدفوع، أما في صورة الالتزام بالايصال فهو كالالتزام بالوصف من باب
التحفظ على الغرض المعاملي في مرحلة العقد المعتبر فيها ارتفاع الغرر، وأما في صورة
الالتزام بالخيار فلأن الغرض النوعي المعاملي من الاشتراء والتملك هو الانتفاع
بالملك، فمع بقاء الملك وعدم الانتفاع به يكون تخلف الغرض صحيحا، وأما في
طرف الفسخ وزوال الملك فلا معنى لأن يكون الانتفاع غرضا معامليا، ولذا ليس
الشراء كلية بشرط الخيار من تخلف الغرض المعاملي. فتدبره جيدا.
(الرابع) في الشرايع بمناسبة التسليم ما نصه: لو استأجر شيئا ومنعه المؤجر
سقطت الأجرة، وهل له أن يلتزم ويطالب المؤجر؟ فيه تردد، والأظهر نعم..
الخ (1). ومقتضى سقوط الأجرة انفساخ العقد، ومقتضى المطالبة بالبدل بقاء
العقد، فيحمل على التخيير بين أعمال أحد السببين على أردأ الوجهين في التخيير
كما سيجئ إن شاء الله تعالى.
وبالجملة ففي المسألة وجوه ثلاثة: (أحدها) الانفساخ ورجوع المسمى إلى
المستأجر. (ثانيها) بقاء العقد وتضمين المؤجر بضمان الغرامة بقاعدة الاتلاف (2).
(ثالثها) التخيير بين مطالبة المسمى ومطالبة أجرة المثل لما أتلفه المؤجر على
المستأجر.
أما الأول: فالوجه فيه عموم التلف للاختياري والقهري، وعموم الاختياري
لما إذا استند إلى البائع أو الأجنبي. ومستند العموم في الأول رواية عقبة بن
خالد (3)، حيث إن موردها التلف التنزيلي بسرقة المتاع وهي اختيارية. وفيه أن

(1) شرايع الإسلام: كتاب الإجارة في ذيل الشرط السادس.
(2) وهي كما نص عليها السيد البجنوردي في ج 2 من القواعد الفقهية هكذا: " من أتلف مال الغير
بلا إذن منه فهو له ضامن ".
(3) الوسائل: ج 12، باب 10 من أبواب الخيار، ح 1، ص 358.
256

الانفساخ باعتبار التلف من البائع قهرا بالسرقة، لا باعتبار الاتلاف من الأجنبي
اختيارا إذا لا اتلاف من الأجنبي بمجرد السرقة بالاختيار ليقال بأنه لا فرق بين
التلف والاتلاف ولا بين البائع والأجنبي.
وأما الثاني: فلعموم قاعدة الاتلاف لما إذا كان مبيعا وقبل قبضه مع انصراف اطلاق التلف في قوله عليه السلام: " كل مبيع تلف.. الخ " (1). وعدم
الدليل على عموم التلف للاختياري المساوق للاتلاف كما عرفت، بل مع الشك
يحكم ببقاء العقد وعدم الانفساخ فالاتلاف وارد على مال الغير تعبدا، لئلا يقال
إنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية لاحتمال الانفساخ.
وأما الثالث: فله تقريبان: (أحدهما) أن مطلق التلف سبب لضمان
المعاوضة، ومطلق الاتلاف سبب لضمان الغرامة، ولا يمكن إعمال السببين
لتضاد الأثرين، ولا موجب لاهمالهما. ولا معين لأحدهما فيتخير بينهما. فله إعمال
سبب ضمان المعاوضة ومطالبة المسمى. وله إعمال سبب ضمان الغرامة ومطالبة
القيمة وأجرة المثل. وقد بينا في بعض المباحث المتقدمة أنه ليس المورد مورد
التزاحم، لأن شمول قاعدة التلف قبل القبض مزيل لموضوع قاعدة الاتلاف.
والقاعدة لا تتكفل حفظ موضوعها، بخلاف قاعدة التلف، فإن موضوعها محفوظ لا
يزول بشمول قاعدة الاتلاف، فإن موضوعها المبيع، بل يزول حكمها. فمانعية قاعدة
الاتلاف عن شمول قاعدة التلف دورية. فراجع ما علقناه على كتاب الخيارات
لشيخنا العلامة الأنصاري " قدس سره " (2).
(ثانيهما) وجود سبب الخيار وهو تعذر التسليم، ووجود سبب ضمان الغرامة
وهو الاتلاف، فله إعمال الخيار واسترجاع الثمن أو الأجرة المسماة، وله ابقاء العقد
ومطالبة بدل ما أتلفه. وليس كونه ذا خيار رافعا لموضوع قاعدة الاتلاف، لأن
الخيار فرع بقاء العقد وبقاء كل من العوضين ولو بماليته على ملك صاحبه الفعلي،

(1) عوالي اللئالي: ج 3، ص 212، ح 59.
(2) حاشية المكاسب: ج 1،: ص 75.
257

نعم بعد أعمال الخيار وصل إليه ماله ورجع التالف إلى متلفه، كما أنه مع إعمال
قاعدة الاتلاف وأخذ بدل ماله لا أثر للخيار لوصول ماله إليه. إنما الكلام في
شمول تعذر التسليم الموجب للخيار للتعذر بالاتلاف، فإن عدم اندراج التلف
بالاتلاف تحت التلف الموجب للانفساخ لا يدرجه تحت عنوان التعذر الموجب
للخيار، بل التعذر إن كان موجبا لامتناع تسلميه عادة فهو ملحق بالتلف الموجب
للانفساخ لو لم يتحقق عنوان آخر يمنع عن اقتضائه له، وإن لم يكن موجبا للامتناع
عادة بل يمكن الوصول إليه فهو ضرر مجبور بالخيار، فما لا يكون منجبرا بالانفساخ
ولا منجبرا بالتغريم ينجبر بالخيار، وما كان مجبورا بأحد الأمرين ليس فيه ضرر حتى
ينجبر بالخيار. ولا موجب لخيار تعذر التسليم في مورده إلا قاعدة نفي الضرر (1). ومما
ذكرنا تبين أن الأوفق بالقواعد إعمال قاعدة الاتلاف من دون انفساخ ولا فسخ
بالخيار.
(الخامس) فوات المنفعة على المستأجر تارة باستيفاء المؤجر وأخرى بمنع المستأجر
عن الانتفاع بالعين بحبسه مثلا وثالثة بعدم تسليم العين لأن ينتفع بها، والأول
داخل في عنوان الاتلاف، والآخران داخلان في عنوان التفويت. فإن قلنا بأن
الاتلاف المضمن أعم من اعدام الموجود والمنع من الوجود. فالوجوه الثلاثة المتقدمة
في الأمر السابق جارية في جميع صور الاتلاف بالمعنى العام. وإن قلنا باختصاص
الاتلاف بصورة استيفاء المنفعة وعدم عمومه للتفويت، فإن كانت المنفعة المفوتة
فاتت تحت يد المؤجر جرت الوجوه المتقدمة أيضا، غاية الأمر أن سبب ضمان
الغرامة تارة هو الاتلاف وأخرى هو اليد وإن كانت المنفعة الفائتة خارجة عن
اليد كما إذا آجر الدابة الشاردة المتمكن من إعادتها فأهمل في إعادتها حتى مضت
المدة، فإنه بعد فرض عدم الضمان بالتفويت وعدم اليد لا محالة يتمحض الحكم في

(1) كقوله صلى الله عليه وآله: " لا ضرر ولا إضرار في الإسلام ". راجع عوالي اللئالي: ج 1،
ص 383، ح 11.
258

الانفساخ بعدم قبض المنفعة بقبض العين في تمام المدة، وهو الملاك في انفساخ عقد
الإجارة دون عنوان التلف، لئلا يتوهم أن التفويت إذا لم يكن اتلافا فالفوات
ليس تلفا، فلا تلف قبل القبض لاتحاد الايجاد والوجود.
وأما الاشكال في الانفساخ بالتلف تحت اليد العادية، لانصرافه إلى التلف
غير المنجبر بضمان الغرامة كالتلف في ما لم يكن تحت اليد أو كان تحت يد غير
عادية فهو مشترك الورود مع التلف المساوق وجودا للاتلاف، فلا خصوصية لكونه
تحت اليد العادية، فلا غموض في المسألة كما تخيله بعض الأعلام " رحمه الله " (1)،
بل ربما أمكن توهم العكس وهو اندراج التلف تحت اليد العادية في التلف الموجب
للانفساخ دون التلف بالاتلاف، نظرا إلى أن الدخول تحت اليد العادية نزل منزلة
التلف الموجب للانفساخ، كما في سرقة المتاع في رواية عقبة بن خالد، فكيف
بالتلف تحت اليد العادية، لكنه مندفع بأن التنزيل بلحاظ عدم رجاء عود المسروق
عادة، لا بلحاظ دخوله في عهدة الغير حتى يكون التلف تحت اليد العادية أولى به.
(السادس) إذا منعه المؤجر في بعض المدة ثم سلمه العين فبالإضافة إلى المنفعة
الفائتة في بعض المدة يجري جميع ما ذكر في تمام المدة، نعم يمتاز عنه بزيادة خيار
التبعض. وهل هو على جميع الوجوه أو على مبنى الانفساخ فقط؟ ربما يقال
بالاختصاص، ولعله بملاحظة التبعض في أثر العقد وهو الملك. فإن المعقود عليه
ملك المجموع. فإذا انفسخ في البعض من المجموع لزم التبعض في الملك فله الخيار،
بخلاف ما إذا قلنا بتعين التغريم. فإن العقد أثر أثره. والتغريم مؤكد لبقاء أثر العقد
على حاله في الفائت والباقي. وكذا إذا قلنا بالخيار من ناحية تعذر التسليم، فإن
الخيار مؤكد لبقاء العقد، وإعماله اقدام منه على التبعض. وهذا مبني على قصر خيار
التبعض على التبعض في الملك.
وأما إذا كان أعم منه ومن التبعض في الغرض المعاملي وهو الانتفاع بالمجموع

(1) راجع إجارة المحقق الرشتي في ذيل الشرط السادس من شرائط الإجارة، ص 301.
259

فالتبعض في الغرض كما يجري على مبنى الانفساخ كذلك على مبنى التغريم. فإن
الملاك فوات الانتفاع بالمجموع مع تعلق الغرض المعاملي به. فلزوم العقد وقصر
الانتفاع على البعض ضرر لا ينجبر إلا بالخيار في فسخ العقد رأسا، ومنه تبين أن
خيار التعذر في الفائت لا يكون جبرا لهذا الضرر، وأما أن التبعض في الغرض
المعاملي يوجب الخيار أيضا فلما حقق في البيع من أنه إذا تعذر تسليم بعض المبيع
دون بعض كان له الخيار بفسخ العقد رأسا مع أن تعذر البعض لا يوجب خروجه
عن الملك، بل لا يوجب إلا التبعض في الغرض.
وأما فسخ العقد رأسا أو الالتزام به كذلك فيختلف باختلاف موجبات
الخيار، فإن كان الخيار بعنوان التبعض فاللازم فسخ العقد رأسا لا في خصوص
الفائت ولا في خصوص الباقي، لأن الفسخ دفعا لتبعض الانتفاع لا يعقل أن
يوجب التبعض وإلا لزم من عدمه وجوده وإن كان الخيار لأجل التعذر فلا بد من
قصر الفسخ على خصوص المتعذر وهو الفائت. وأما دعوى وحدة العقد فإما أن يبقى
أو ينحل كما عن بعض أعلام السادة. فقد عرفت الجواب عنها في مسألة التلف قبل
القبض، كما أن ذهاب المشهور إلى لزوم الفسخ رأسا أو الالتزام بالعقد تماما في
بعض الخيارات كخيار العيب وخيار المجلس فليس لقصور في مقام الثبوت بل
لقصور في مقام الاثبات.
وأما الخيار المنبعث عن نفي الضرر فلا محالة يكون مقدار اقتضاء نفي الضرر كما
أشرنا إليه سابقا. نعم إذا قلنا بقصر خيار التبعض على التبعض في الملك ففي مورد
تعذر المنفعة في بعض المدة له خيار التعذر. فإذا التزم بالعقد فقد تحمل الضرر
بنفسه. وأما إذا فسخ العقد في الفائت لزمه تبعض الملك في الباقي. وهو على
الفرض ضرر. فله إعمال الخيار في الباقي. وليس هذا اقداما منه على الضرر لأن
مجرد تبعض الملك مع عدم لزومه ليس ضررا مستقرا لا يتمكن من دفعه. فاستقرار
الضرر وعدم التخلص عنه مستند إلى حكم الشارع بلزوم العقد في الباقي، لا إلى
إعمال الفسخ في الماضي فله رفعه بأعمال الفسخ في الباقي فتدبر.
260

(السابع) إذا سلمه المؤجر في بعض المدة ثم منعه في بعضها الآخر فهل تجري
الوجوه المتقدمة بالنسبة إلى المنفعة الممنوع عن استيفائها بعد تسليم العين أو هو
كاسترداد المبيع بعد إقباضه لا يوجب تلفه انفساخ العقد؟ وحيث عرفت مرارا أن
اقباض المنفعة باقباض العين وإن المنافع تدريجية الوجود فاقباض العين في زمان
اقباض لمنفعتها في ذلك الزمان، وليس إقباضا لمنافعها في جميع الأزمنة، فتجب
إدامة ذلك وإبقاء العين تحت يد المستأجر، فالمنع في زمان مساوق لعدم إقباض
المنفعة في ذلك الزمان، فيكون فواتها حينئذ تلفها قبل إقباضها، فيجري فيه تعين
الانفساخ وتعين التغريم والتخيير بين مطالبة المسمى ومطالبة أجرة المثل بالنسبة إلى
الفائت، وعلى جميع التقادير له خيار التبعض بالإضافة إلى الغرض المعاملي، كما
يجري فيه الرجوع إلى الأجرة المسماة في المجموع تارة وفي خصوص الفائت أخرى
على الوجه المتقدم في عكس المسألة. نعم في مثل التلف بالاستيفاء أو التفويت
مع وجود المنفعة المملوك في مدة الإجارة في قبال التالفة بتلف العين، فإنه مورد
البطلان دون الانفساخ لا مدرك لالحاق الإجارة بالبيع إلا الاجماع، ولا إجماع مع
الخلاف خصوصا من الأكابر.
فحينئذ يتوجه الاشكال إلى كثير من هذه الفروع المختلف فيها، إلا أن الظاهر
أن الاجماع على القاعدة بمعنى أن تلف المنفعة قبل قبضها موجب للانفساخ كالبيع.
والاختلاف في التطبيق إما من حيث التلف وإما من حيث كون قبض المنفعة
كقبض العين والمثال ذلك، فلا تضر هذه الاختلافات بالاجماع الموجب للالحاق.
والمتبع في مقام التطبيق نظر كل فقيه يتصدى للتطبيق. وقد عرفت الحال في ذلك.
(الثامن) في الشرايع: لو منعه ظالم قبل القبض كان الخيار بين الفسخ ومطالبة
الظالم بأجرة المثل (1) انتهى.
وما اختاره هنا هو الذي اختاره في ما إذا منعه المؤجر من التخيير الذي هو

(1) شرايع الإسلام: كتاب الإجارة في ذيل الشرط السادس.
261

أحد الوجوه الثلاثة في المسألة وإن كان تعبيره " قدس سره " في المسألة المتقدمة
أحسن، لأن مبناه على مطالبة المسمى بالانفساخ، ولذا عبر عنه بسقوط الأجرة، لا
على المطالبة بالعمال خيار التعذر وفسخ العقد، ولذا عبر عن الشق الآخر وهو
الاتلاف بعد القبض بقوله " رحمه الله ": لم تبطل الإجارة أي لم تنفسخ كما يعبر
كثيرا بالبطلان عن الانفساخ. نعم تعين الانفساخ هنا أظهر من المسألة المتقدمة
لأن السرقة إذا كانت منزلة منزلة التلف الموجب للانفساخ كان اتلاف الأجنبي
أولى بذلك، لأن التلف في سرقة الأجنبي لعدم رجاء عوده عادة. والاتلاف موجب
لامتناع عوده عقلا، لأن المنفعة المحدودة بزمان خاص يستحيل عودها بعد فواتها،
لاستحالة إعادة المعدوم، وهذا لا يوجب أن يكون اتلاف المؤجر كذلك، لأن
التلف من البائع إذا كان مقصورا على القهري فهذا الاتلاف بالنسبة إلى البائع أو
المؤجر اختياري لا قهري، بخلاف سرقة الأجنبي أو إتلافه، فإنهما بالنسبة إلى البائع
قهري. وبالجملة إذا عرض المبيع ما يوجب عدم عوده عادة أو امتناع عوده عقلا فهو
موجب لانفساخ العقد إذا كان قهرا على البائع.
لا يقال تعين الضمان بالمسمى في رواية عقبة بسبب السرقة لا ينافي التخيير
بين ضمان المسمى وضمان الغرامة، لتعذر الثاني بسبب عدم معرفة السارق الموجب
لتعذر الرجوع إليه، ومع تعذر أحد فردي التخيير يتعين الفرد الآخر.
لأنا نقول ظاهر الرواية تعينه من حيث نفسه لا من حيث عدم معرفة السارق،
ليكون فارقا بين مرود الرواية ومورد اتلاف الأجنبي أو يلحق به الغاصب المعلوم
الذي يتعذر استرداد المال منه، وإنما قلنا بأن الظاهر من الرواية هو التعين بالذات
لا بالعرض، فإنه قد علق رفع الضمان بالمسمى على اقباض البائع للمتاع، فمع تلفه
حقيقة أو تنزيلا لا يرتفع الضمان، لا أنه معلق على عدم وجود من يمكن الرجوع
إليه حتى يكون فارقا بين المسألتين. ومما ذكرنا يتضح أنه لا يراد منها تعين الضمان
بالمسمى بعد الفسخ بإعمال خيار التعذر فإن الظاهر تعينه منجزا لا معلقا على
الفسخ.
262

وأما ما عن بعض أجلة السادة " قدس سره "، من أن وجه التخيير هنا أقوى
من المسألة المتقدمة فلعله ملاحظة صدق التعذر باتلاف الأجنبي دون ما إذا أتلفه
البائع مثلا، فإنه لم يتعذر بل جعله ممتنعا على نفسه.
ويندفع: بأنه كذلك إذا كان المدار على عنوان التعذر بدليل لفظي، وأما إذا
كان المدار على ضررية لزوم البيع من جهة عدم امكان التسليم فالميزان هو الضرر
الناشئ من التعذر من دون فرق بين أسبابه. ومن جميع ما ذكرنا تبين أن الأوفق
بظاهر الرواية في هذه المسألة تعين الضمان بالمسمى بالانفساخ دون الرجوع إلى
الأجنبي فضلا عن التخيير.
وأما مطالبة المؤجر بأجرة المثل بناء على عدم الانفساخ وعدم الفسخ بخيار
التعذر، نظرا إلى أن المنفعة في ضمان المؤجر إلى أن يحصل القبض، فهو خلط بين
ضمان الغرامة وضمان المعاوضة حتى على مسلك من يرى أن الضمان قبل القبض
بمعنى ضمان الغرامة كما ينسب في محله إلى الشهيد الثاني " رحمه الله " (1) فإن هذا
القائل يعتقد أنه مضمون بعوضه تعبدا لا بالبدل الواقعي، فلا فرق بين الرجوع إلى
المؤجر من باب ضمان المعاوضة أو من باب ضمان الغرامة، فإنه على أي حال لا
يسترد إلا المسمى.
(التاسع) في الشرايع: ولو كان بعد القبض لم تبطل الإجارة وكان له الرجوع إلى
الظالم (2) انتهى.
قلت: حيث إن تسليم المنفعة واقباضها باقباض العين، والمنافع تدريجية
الوجود. فقبض العين في كل زمان قبض لمنفعتها في ذلك الزمان، فلا يعقل قبض
المنافع دفعة بقبض العين التي لا تدرج في وجودها، فكذا في قبضها، وحينئذ فما
الفارق بين منع المؤجر وغصب الأجنبي بعد قبض العين من الابتداء، حيث أطلق

(1) الروضة البهية: ج 4، ص 352.
(2) شرايع الإسلام: كتاب الإجارة في ذيل الشرط السادس.
263

الانفساخ في الأول وفصل في الثاني، ولا يمكن بناء الفرق على حصول القبض
بالتخلية، لحصولها هنا وعدم حصولها هناك، لأن المفروض منع المؤجر في الأثناء
وذلك لأن التخلية وتمكين المستأجر من قبض العين واستيفاء المنفعة وإن كانت
كافية في استقرار الأجرة، لأنها القدر الذي التزم به المؤجر كما سمعت سابقا، إلا
أن التخلية غير كافية في الخروج عن ضمان المعاوضة، كما هو ظاهر رواية عقبة بن
خالد المشتملة على أنه اشترى المتاع و تركه عنده (1)، فإن الظاهر أن تمكين البائع
مفروض والمشتري أبقاه على حاله بالاختيار، ومع ذلك حكم بالضمان بسرقة
المتاع، والظاهر أن الفرق بين منع المؤجر في الأثناء وغصب الأجنبي بعد تسلم العين
ينشأ من الفرق بين حدوث القبض وبقائه، فإن الاقباض حدوثا ايجاد الاستيلاء
على العين، والاقباض بقاء إدامة استيلائه على حاله بعدم استرداده. فمنع المؤجر في
الأثناء ضد لإدامة العين تحت يده فلا قبض منه بقاء، بخلاف غصب الأجنبي،
فإن المؤجر لم يوجد ضد إدامة العين تحت يده، ولا يجب عليه التحفظ على ما أقبضه
بمنع الظالم للمستأجر، فلا موجب لانفساخ العقد. وأما التلف بآفة سماوية في
الأثناء فلما مر من أنه من باب بطلان الإجارة بعد الطرف للملكية في الواقع.
ومما ذكرنا تبين حال الخيار بالنسبة إلى الغصب قبل القبض وبعده، فإنه إذا
سلم العين بعد غصب بالغاصب كان أثر العقد من حيث الملك والانتفاع مبعضا فله
الخيار، بخلاف الغصب بعد القبض، فإنه حيث لم ينفسخ العقد لم يلزم من ناحية
العقد تبعض لا في الملك ولا في الانتفاع، فلا موجب لخيارية العقد.
(العاشر) قال في الشرايع: إذا انهدم المسكن كان للمستأجر فسخ الإجارة إلا
أن يعيده صاحبه ويمكنه منه. وفيه تردد (2) انتهى.
وتفصيل القول بأن المسكن إذا انهدم، تارة تفوت به المنفعة المقصودة منه كلية

(1) الوسائل: ج 12، الباب 10، من أبواب الخيار، ح 1، ص 358.
(2) شرايع الإسلام: كتاب الإجارة في ذيل الشرط السادس.
264

لعدم امكان إعادته، وأخرى لا تفوت كلية لامكان الإعادة، وما يمكن فيه
الإعادة، تارة يمكن بسرعة بحيث لا تفوت المنفعة في شي ء من المدة عرفا، وأخرى
مع فواتها في بعض المدة ثم ما يمكن إعادته تارة يعيده المؤجر وأخرى لا يعيده مع
إمكانها وتمكنه منها.
فنقول: أما ما لا يمكن فيه الإعادة كلية فمقتضى قاعدة التلف قبل القبض
انفساخ العقد على المشهور وبطلانه على التحقيق، لعدم امكان المنفعة المقصودة في
هذه المدة واقعا، فلا يعقل تقدير وجودها بوجود الحيثية القائمة بالعين، فحيث لا
منفعة لا ملك ليملك، لا أنها تملك وينفسخ العقد.
وأما ما يمكن فيه الإعادة بسرعة، فحيث لا فوات لتلك الحيثية المصححة
لتقدير الوجود عرفا فلا موجب للانفساخ، حيث لا تلف لطرف المعاوضة عرفا، كما
لا موجب للخيار أصلا. فميزان الانفساخ أو البطلان عدم امكان الإعادة، وميزان
عدمهما رأسا عدم فوات المنفعة في شئ من المدة عرفا. ومنه تبين الفرق بين العين
والمنفعة في البيع والإجارة، حيث لا عود للعين بعد تلفها الحقيقي. فبمجرد التلف
ينفسخ العقد، بخلاف المنفعة، فإن الطرف للمعاوضة هي النفعة لا العين، حتى
يتوهم أنه بمجرد الانهدام ينفسخ العقد. وإعادة البناء لا توجب عود العقد.
وأما ما يمكن فيه الإعادة لكنه بمرور زمان معتد به. فبالإضافة إلى الزمان
الذي لا بد من مروره ينفسخ العقد بالنسبة إلى منفعة المسكن في هذا الزمان،
وبالإضافة إلى ما بعده مما هو زمان الامكان لا ينفسخ أعاد المؤجر أم لم يعد،
لامكان تقدير وجود المنفعة بامكان إعادة البناء الذي تقوم به تلك الحيثية المصححة
لاستيفاء المنفعة، وأما ما أمكنت إعادته وأهملها المؤجر فيجوز للمستأجر إلزام المؤجر
بالإعادة، لأن المفروض إنه مالك للمنفعة المقدرة الوجود وتسليمها الواجب الذي
يلزم به حدوثا بتسليم العين وبقاء بإعادة البناء، ومع الامتناع وعدم إمكان الاجبار
له خيار الامتناع عن التسليم، لقاعدة نفي الضرر. هذا بالنسبة إلى المنفعة الممكنة
الاستيفاء بإعادة البناء.
265

وأما بالنسبة إلى المنفعة الفائتة فلها حكمان: أحدهما ما مر من انفساخ العقد أو
بطلانه، فيرجع ما يختص بها من أجرة المسمى. ثانيهما أن للمستأجر خيار التبعض
من حيث الملك ومن حيث الغرض المعاملي. وأما ما في الشرايع من الحكم بالخيار
قبل الإعادة (1) فربما يوجب بأنه من خيار تخلف الوصف، نظرا إلى أن مورد عقد
الإجارة هي عرصة الدار. وأما التركيب والتأليف المقابل للانهدام فهو وصف
للمعقود عليه، فلا يكون الانهدام موجبا للانفساخ بل موجب لتخلف الوصف
الموجب للخيار. ولا يخفى أنه في غاية البعد عما عليه العرف، فإن المعقود عليه
عندهم هو الدار بما هو دار، لا بما هي عرصة موصوفة بالتأليف والتركيب وفي قبال
هذا التوهم أن مجرد الانهدام من باب التلف قبل القبض وإن أعيد بسرعة بحيث لا
تفوت معه منفعة أصلا، نظرا إلى أن الإعادة إحداث لبناء جديد، والمعقود عليه
كان متقوما بتلك الهيئة المؤلفة المنعدمة.
وفيه: أن طرف المعاوضة وهي المنفعة الخاصة على حالها على الفرض،
والتبدل فيما تضاف إليه غير ضائر، لعدم كونه مقوما عرفا للدار التي ملك المستأجر
منفعتها. ومما ذكرنا تبين وجه ما نقلناه عن الشرايع (2)، فإن الحكم بالخيار دون
الانفساخ لأن الغالب امكان الإعادة، والخيار مع عدم الإعادة مع امكانها والتمكن
منها كما هو الغالب إنما هو للامتناع عن تسليم المنفعة. نعم لم يتعرض لخيار التبعض
بالنسبة إلى المنفعة الفائتة، والأمر سهل.
(الحادي عشر) في الأعذار الشرعية والعقلية المانعة من استيفاء المنافع الموجبة
لانفساخ العقد تارة ولحق الفسخ أخرى.
(فمنها) ما تقدم من زوال الألم عن الضرس الذي استؤجر على قلعه، لكون قلعه
حراما مع عدم الألم، والظاهر انكشاف بطلان الإجارة من الأول دون انفساخ
العقد، لأن الإباحة في ظرف العمل وفي ظرف استيفاء المنفعة شرط صحة الإجارة

(1) شرايع الإسلام: كتاب الإجارة في ذيل الشرط السادس.
(2) شرايع الإسلام: كتاب الإجارة في ذيل الشرط السادس.
266

دون الإباحة في ظرف عقد الإجارة.
و (منها) ما إذا استأجر المرأة لكنس المسجد مباشرة في وقت خاص فحاضت
المرأة في مدة الإجارة، فإن حرمة كنسها في هذه المدة مانعة عن انعقاد الإجارة
صحيحة، لا أنها تنعقد صحيحة وتنفسخ بعروض الحيض لما مر آنفا. نعم الكلام في
الموضوع وهي حرمة الكنس من الحائض، فإن الكنس بعنوانه ليس من تروك
الحائض، بل المحرم لبثها في المسجد، ولا اتحاد للكنس واللبث وجودا حتى يحرم
الكنس، بل الكنس متوقف على اللبث المحرم، ولا تسري الحرمة من المقدمة إلى
ذيها، بل تسري من ذيها إلى المقدمة الأخيرة من مقدماته، والقدرة على التسليم
ليست بعنوانها شرطا واقعا، بل اللازم عدم الغرر. ولا غرر ولا خطر، لامكان
التسليم بل وثوقه به حال العقد، ولذا لو فعلت محرما وأتت بالكنس استحقت
الأجرة، بل لو قلنا بأن القدرة بعنوانها شرط فالكنس مقدور عليه واقعا وإنما تحرم مقدمته شرعا
وحرمة المقدمة وإن منعت عن وجوب الوفاء بعقد الإجارة إلا أن صحة الإجارة
لا تدور مدار وجوب الوفاء لعدم انتزاعها منه بل هو مترتب عليها، وربما لا يترتب
لمانع منه بالخصوص. وتعذر العمل الكلي في ذمتها بمعنى عدم امكان إيجاده شرعا
لاستلزامه الحرام لا يوجب الخيار. فإن التعذر بالنسبة إلى تسليم العين الشخصية أو
المنفعة الشخصية يوجبه حيث لا ينجبر هذا الضرر وهو الصبر إلى أن يتيسر إلا
بالخيار بخلاف العمل الكلي، فإنها لا تتمكن شرعا من تسليمه بشخصه وتتمكن
من تسليمه بماليته. فلا مانع من استقرار الأجرة وبقاء الأجرة ومطالبة الأجيرة
بمالية العمل، كما هو مقتضى الجمع بين القواعد.
و (منها) ما إذا استأجر المرأة للارضاع وصادف مطالبة الزوج للاستمتاع فإنه
يجب عليها التمكين المنافي للارضاع، ومرجعه إلى فقد شرطا الإجارة وهي إباحة
المنفعة. وقد مر منا أن وجوب التمكين لا يقتضي حرمة الارضاع إلا بناء على
مقدمية ترك الضد لوجود الضد أو مقدمية فعله لترك ضده. وقد حقق في محله
بطلانها خصوصا الثانية. ومنه يظهر حال فقدها لملك التصرف المشروط نفوذ
267

المعاملة به، لأن عدم ملك التصرف بمعنى الحرمة قد عرفت ما فيه، وبمعنى عدم
السلطنة الوضعية أول الكلام كما مر تحقيقه في غير مقام. وقد مر تفصيل هذه المسألة
من جهات النقض والابرام فراجع.
و (منها) ما إذا عرض المستأجر مرض يمنعه عن استيفاء المنفعة مع قيدية
مباشرته له، فإنه أيضا ينكشف به بطلان الإجارة دون انفساخها، فإن هذه الحصة
في الواقع غير قابلة للفعلية، لعدم قابلية الحصة المضايفة لها، فلا يعقل تمليكها.
و (منها) ما إذا استأجر الدابة للحج مثلا فحدث مانع عن السلوك كالثلج
القاطع للطريق فإن حاله كما تقدم من أن المفروض عدم امكان استيفاء المنفعة
بعدم امكان سلوك الطريق، ومثله لا يتوقف على كون المباشرة قيدا لفرض عدم
امكان سلوك الطريق في نفسه. نعم إذا اختص به العذر المانع عن السلوك فبطلان
الإجارة يتوقف على قيدية المباشرة، فمع عدم القيدية يملك منفعة الدابة، فله أن
يؤجرها من الغير. ولا موجب لا للانفساخ ولا للبطلان ولا للخيار.
و (منها) ما إذا استأجر دارا فعرض خوف عام يمنع عن سكنى البلد، فإن مثل
هذه المنفعة المحفوفة بهذا المانع لا مالية لها، فتبطل الإجارة من هذه الجهة، وإذا كان
العارض خوفا شخصيا يكون عذرا له شرعا أو عرفا عن استيفاء المنفعة فلا موجب
لبطلان الإجارة أو للخيار، فإن حرمة استيفاء المنفعة عليه لعارض لا دخل لها بحرمة
المنفعة حتى مع قيد المباشرة، فإن غايته أن المملوك حصة ملازمة لحصة محرمة. وقد
مر نظيره في مسألة كنس الحائض فلا يقاس العذر الشرعي بعدم التمكن من
الاستيفاء واقعا كالمرض الذي لا يتمكن معه من استيفاء المنفعة. ولعل من يفرق
بين العذر العام والخاص نظره إلى ما ذكرنا من أن عموم العذر مساوق لسقوطه عن
المالية، بخلاف الخاص منه فإنه يختلف باختلاف الأعذار واختلاف المقامات،
فلا ينتقض بمثل قلع الضرس مع زوال الألم، لأنه من العمل المحرم الذي لا تقع
عليه الإجارة شرعا، لا من حيث العذر العام أو الخاص من الاستيفاء. ومما ذكرنا
يعلم حال غيره من الفروض والأمثلة.
268

فصل
في أحكام الإجارة
وفيها مسائل حسب ترتيب ما في الشرايع:
المسألة الأولى: في ما إذا وجد بالعين المستأجرة عيبا، فتارة يوجب نقصا في
المنفعة وأخرى لا يوجب نقصا فيها. وظاهر المحقق " قدس سره " في الشرايع ثبوت
الخيار بين الفسخ والامضاء بالأجرة من غير نقصان ولو كان العيب موجبا لفوات
بعض المنفعة (1)، بل نسب عدم الأرش مطلقا إلى المشهور وإن كان أصل الخيار مع
عدم نقص في المنفعة محل الكلام. وتنقيح المرام وتوضيح المقام برسم أمور.
(منها) أن الخيار مع عدم نقص المنفعة مبني على أن مورد عقد الإجارة ومصبه
هي العين، فإنها المنسوبة إليها الإجارة بعنوانها وإن كانت متضمنة لملك المنفعة أو
كان ملك المنفعة من لوازمها.
ومن الواضح أن الرغبات العقلائية تختلف باختلاف الأعيان المستأجرة
لاستيفاء منافعها ولو مع تساوي المنفعة بين الصحيح والمعيب، فركوب الدابة وإن
كان لا يتفاوت مع كون الدابة مقطوعة الأذن والذنب إلا أن الأغراض العقلائية
تتفاوت في استيجار الدابة الصحيحة والمعيبة، وكذا سكنى الدار، فإن سكنى الدار
الجيدة مع غيرها وإن فرض على نهج واحد بلا تفاوت، بل ربما يزيد بعض مرافق
الردي منها على الجيد منها، لكنه مع ذلك تتفاوت الرغبات بلحاظ أعيانها، وإذا
.

(1) شرايع الإسلام: كتاب الإجارة الفصل الثالث في أحكامها
269

كان كذلك فنفس عيب العين مقتض للخيار من دون نظر إلى تفاوت بين
الصحيح والمعيب من حيث المنفعة. وإذا بنينا على الحاق الإجارة بالبيع في خيار
العيب بما هو، نظرا إلى دعوى الاجماع على الالحاق، ولذا لم يستشكل أحد في
جريان خيار العيب فيما إذا كانت الأجرة معيبة كما تقدم، فلا محالة نقول هنا بخيار
العيب بما هو لا من حيث تخلف الوصف أو تخلف الالتزام الضمني بالصحة، نظرا
إلى اقتضاء العقد إطلاقا أو انصرافا لصحة مصبه ومورده.
و (منها) أن الظاهر عدم ثبوت الأرش هنا أي مع عدم نقص المنفعة. إما بناء
على كون الخيار من باب تخلف الوصف أو الشرط فواضح، إذ مقتضى ضررية
اللزوم ارتفاعه فقط. ولا دليل على الأرش إلا في خصوص خيار العيب، وإما بناء
على أن الخيار من باب خيار العيب لالحاق الإجارة بالبيع بالاجماع فلأن الأرش
تدارك شرعي لنقص في أحد العوضين من حيث المالية. ومن البين أن طرفي
المعاوضة هي المنفعة والأجرة، فاللازم في باب الأرش ثبوت العيب المنقص لمالية
المعيب بالإضافة إلى الصحيح. والمفروض عدم العيب المنقص في المنفعة، كما أن
المفروض أن الأجرة بإزاء المنفعة لا بإزاء العين المستأجرة. فما فيه العيب والخيار لا
شئ بإزائه، وما بإزائه شئ لا عيب فيه.
(لا يقال) لا شبهة في تفاوت الأجرة بين ركوب الدابة الصحيحة والمعيبة، فهو
نقص مالي في أحد العوضين، فلم لا يتدارك.
(لأنا نقول) ليس كل نقص مالي في أحد العوضين متداركا بالأرش بل النقص
المالي عن عيب في أحد العوضين لا عن شئ آخر وإن كان عيبا لا في أحد
العوضين.
و (منها) إذا كان العيب في العين المستأجرة موجبا لنقص في المنفعة، فإن كان
النقص من حيث الكم بحيث يفوت من المستأجر جزء من المنفعة كخراب بعض
بيوتات الدار فلا ينبغي الاشكال في سقوط الأجرة بمقداره. وللمستأجر خيار
التبعض، وإن كان النقص من حيث الكيف فثبوت خيار العيب بآثاره ولوازمه
270

مبني على تعقل العيب في المنفعة كما يتعقل في العين، حتى يكون الحاق الإجارة
بالبيع موجبا لجريان خيار العيب فيه بما هو، وإلا فخيار تخلف الوصف أو الشرط
لعله لا كلام فيه. ومنشأ الاشكال كما عن بعض الأعلام " قدس سره " " هو أن
العيب ما زاد أو نقص عن الخلقة الأصلية " (1) كما في الرواية (2). وهذا أمر مختص
بالأعيان. والمنافع ليس لها خلقة أصلية حتى يتصور فيها زيادة ونقص، وأما مطلق
النقص الكيفي المفروض هنا فليس عيبا.
ويندفع بأن العيب أوسع مما ذكر ضرورة أن الخارج عما هو المعتاد المعبر عنه
بمجراه العادي أيضا معيب كالأرض الثقيلة الخراج أو كانت محل نزول العساكر،
فإنه لا زيادة ولا نقص في خلقتها الأصلية ومع ذلك فهي معيبة بالخروج عن مجراها
العادي. وعليه فالمنفعة وإن لم يتصور العيب بالمعنى الأول فيها لكنه يتصور فيها
العيب بالمعنى الثاني، فخيار العيب فيها معقول من حيث نفسها لا من حيث نقص
العين، وثمرته ثبوت الأرش أيضا. فإن أحد طرفي المعاوضة معيب يتفاوت مع
الصحيح في المالية والقيمة.
وأما دعوى أن هذا الخيار لو كان من خيار العيب لسقط بالتصرف ولو في
بعضه كما هو كذلك في باب البيع، حيث لأرد مع التصرف فهي مدفوعة بأن
عدم السقوط هنا لخصوصية في المقام لأن الرد وعدم الرد مع التصرف فيما إذا أمكن
مع التصرف أن يرد وأن لا يرد. والمنفعة نفس استيفائها مساوق لتلفها فلا يعقل لها
رد.
و (منها) إذا كان العيب في العين أو في المنفعة أيضا قبل العقد فلا كلام في
الخيار، وأما إذا كان بعد العقد وقبل القبض فلا ضرر من ناحية العقد، كما لم يقع
الاشتراء أو الاستيجار على المعيب بل ضرر وارد على ملك المشتري والمستأجر فلا

(1) كتاب الإجارة للمحقق الرشتي: في ذيل الفصل الثالث في أحكامها، ص 311.
(2) الوسائل: ج 12، باب 1 من أبواب أحكام العيوب، ح 1، ص 410.
271

موجب لتحميله على البائع والمؤجر. وقد تقدم في الأجرة المعيبة نقل ما أفاده الشيخ
الأعظم " قدس سره " في باب خيار العيب وباب تلف الوصف قبل القبض (1).
وتقدم الاشكال من وجوه عليه فراجع (2).
وأما إذا كان العيب بعد القبض وقلنا بأن ما قبل القبض ملحق بما إذا كان
قبل العقد ففي لحوقه بما قبل القبض هنا وجه، لأن قبض العين دفعي وقبض المنفعة
تدريجي. فالعيب الحادث بعد العقد دائما قبل القبض في المنافع فتدبر.
و (منها) أنه لو استوفى بعض المنفعة فبان العيب فيها قلنا بعدم سقوط الخيار
بالتصرف، فإن كان الخيار للعيب فقد تقرر في محله أنه ليس له إلا رد الجميع أو
إمساك الجميع بالأرش. فهنا لا بد له من فسخ العقد كلا أو إمضاء العقد وأخذ
الأرش، لا لاقتضاء إعمال الخيار حل العقد رأسا بل لقصور مقام الاثبات كما
تقدم. وإن كان الخيار لا لأجل العيب بل للضرر فله أعمال الفسخ في الكل لضرر
التبعض وله أعمال الفسخ في المدة الباقية الضرر الصبر على ما ينافي غرضه المعاملي.
وتوهم عدم معقولية الفسخ بالإضافة إلى المنفعة المستوفاة لانعدامها
باستيفائها، والمعدوم لا يقبل النقل والانتقال حتى يعود إلى مالكه الأول إشكال
غير مختص بالمقام لجريانه في كل مورد تلف أحد العوضين فيه بيعا كان أو إجارة.
وقد فصلنا القول فيه في أحكام الخيار في تعاليقنا على كتاب الخيارات للشيخ
الأعظم " قدس سره ".
نعم في خصوص خيار العيب له حل العقد برد المعيب فلا خيار مع التلف.
ومنه يتضح أنه إذا استوفى مقدارا من المنفعة ثم بان العيب ليس له أعمال الخيار من
باب أنه ليس له إلا رد المجموع كما مر، ورد المجموع غير ممكن لفرض فوات المنفعة
بمقدار. والمعدوم لا يعاد، بل له الامساك بالأرش.
و (منها) أن العين المستأجرة إذا كانت كلية فدفع إلى المستأجر فردا معيبا

(1) من المكاسب: ص 313.
(2) ص 56 من هذا الكتاب.
272

فالحكم من حيث الانطباق ومن حيث الخيار في نفس العقد أو من حيث الخيار
في التطبيق ومطالبة الابدال مع التمكن والخيار في أصل العقد مع عدمه قد تقدم في
الأجرة إذا كان الفرد المدفوع معيبا فراجع.
المسألة الثانية: قال " قدس سره " في الشرايع: إذا تعدى في العين المستأجرة
ضمن قيمتها وقت العدوان (1). انتهى.
والظاهر أن الظرف قيد للقيمة لا للضمان لأن الضمان بالتعدي لا يعقل أن
يكون في غير وقت التعدي. مع أنه سبق منه أصل الحكم بالضمان بالتعدي
والتفريط. فلا موجب لإعادته. فما في الجواهر من استظهار قيديته للضمان (2) محل
نظر.
وبالجملة كون المضمون به قيمة وقت العدوان أحد الأقوال في المسألة. وهو
موافق لصحيح أبي ولاد لقوله عليه السلام: " قيمة بغل يوم خالفته " (3) بناء على
قيدية الظرف للقيمة، وفي المسألة أقوال كثيرة والمهم منها قولان آخران: قول بقيمة
يوم التلف وهو المشهور، وقيمة يوم الدفع والأداء، وهو مختار غير واحد من المحققين
من المتأخرين.
وعمدة دليل الضمان عموما النبوي المشهور وهو قوله صلى الله عليه وآله:
" على اليد ما أخذت حتى تؤدي " (4) وهذا النبوي وإن كان راويه أشقى البرية
سمرة بن جندب إلا أن الأصحاب تلقوه بالقبول. فالاعتراض على سنده غير
مقبول. وتوضيح القول في دلالته واستفادة أحد الأقوال منه مبني على أمور:
أحدها: أن الثابت على ذي اليد إما وجوب أداء المأخوذ أو وجوب دفع بدله أو

(1) شرايع الإسلام: كتاب التجارة الفصل الثالث في أحكامها، المسألة الثانية.
(2) جواهر الكلام: ج 27 كتاب الإجارة في ذيل المسألة الثانية، ص 316.
(3) الوسائل: ج 13، باب 17 من أبواب أحكام الإجارة، ح 1، ص 255.
(4) عوالي اللئالي: ج 1، ص 224، ح 106.
273

وجوب حفظه أو أن عهدته على ذي اليد، وما عدا الأخير مخدوش.
أما وجوب تأدية المأخوذ فلكونه كاللغو، لأن معناه أنه يجب تأدية المأخوذ حتى
تتحقق التأدية، كما إذا قيل يجب أن يصلي حتى يصلي، فإن استمرار كل حكم
حتى يتحقق متعلقه من الواضحات.
وأما وجوب دفع البدل فهو منجزا بمجرد وضع اليد غير معقول. إذ لا تدارك
قبل التلف، مع أن مثله لا يعقل أن يكون مغيى بالتأدية، فأما لا مغيى وإما لا معنى
لأن يغيى.
وأما وجوب دفع البدل معلقا على التلف، فإن كان مرجعه إلى جعل قضية
حقيقية متكفلة لوجوب دفع بدل التالف فمن المستحيل فعلية مثله بفعلية موضوعه
مع هذه الغاية، لأن امكان التأدية مع فعلية التلف المحقق لفعلية حكمه متنافيان.
فلا معنى لجعل حكم على موضوع لا يمكن أن يكون فعليا مع فرض غايته، وإن كان
مرجعه إلى جعل حكم على تقدير فالتقدير والغاية متنافيان. فلا يعقل تحقق الحكم
بتحقق ما علق عليه مع كونه مغيى بهذه الغاية.
وأما وجوب الحفظ فهو من حيث نفسه وإن لم يكن بديهيا إلا أن استمراره إلى
حصول رده إلى صاحبه بديهي، حيث لا يترقب وجوب حفظه بعد رده إلى صاحبه
حتى يغيى بالايصال إلى صاحبه، فهو أيضا من حيث جعله مغيى بهذه الغاية كاللغو.
وبعد بطلان الشقوق المتقدمة نقول: الظاهر من إثبات عين على اليد جعلها في
عهدة ذي اليد وأنه المأخوذ به والمرجع في أمره. والعهدة اعتبار عقلائي لها آثار عرفا
وشرعا.
ثانيها: أن عهدة العين لا تختص بحال بقائها بل مع تلفها أيضا يصح بقاء
اعتبار العهدة من دون أن تتبدل بذمة المثل والقيمة، بل إلى الآخر اعتبارها اعتبار
عهدة نفس العين المأخوذة لأن المقوم لاعتبار العهدة ولو في حال وجودها خارجا هو
وجودها العنواني الفاني فيما هو بالحمل الشائع عين، لاستحالة كون العين الخارجية
بهويتها العينية مقومة لهوية اعتبارية، وإلا لزم إما تأصل الاعتباري أو اعتبارية
274

المتأصل، كما مر نظيره في كون المعقود عليه هي ملكية الشئ بوجوده العنواني لا
بوجوده الخارجي كي تنعدم إضافة الملكية بتلف العين وينحل العقد، لأن القرار
المرتبط بقرار آخر لا يستقل بالتحصل. وعليه فعهدة العين المأخوذة باقية من أول
وضع اليد عليها إلى ما بعد تلفها.
ثالثها: أن للعين المأخوذة شؤونا ثلاثة: حيثية شخصيتها الممتازة عن سائر
الأشخاص، وحيثية طبيعتها النوعية وهي كونها حنطة أو شعيرا مثلا، وحيثية
ماليتها التي بلحاظها يبذل العوض بإزاء العين بما هي مال بالحمل الشائع. ومن
البين أن مالية كل عين لا تعين لها في حد ذاتها، فإنها من الاعتباريات التي تختلف
باختلاف الأزمنة والأمكنة، فلا بد في الحكم بتعين المالية بلحاظ زمان خاص من
معين في مقام الاثبات حتى تتعين قيمة يوم التلف أو يوم القبض أو يوم الدفع
ونحوها، وأقصى ما يمكن أن يقال في تعيين قيمة يوم التلف، هو أن للعين مراتب
من المالية قبل التلف وحال التلف وبعد التلف، ومن البين أن الماليات المتجددة
للعين قبل تلفها وإن كانت ماليات فعلية للعين الموجودة لكنها مع وجود العين غير
تداركية، لأنها غير تالفة بتلف العين، فلا أثر لعهدة العين مع وجودها إلا وجوب
ردها، ولا تقاس الماليات المتجددة بالمنافع الفائتة المضمونة مع بقاء العين أيضاء،
لأن المنافع كالأعيان أموال، فلها الضمان بتلفها سواء كان المال التالف عينا أم
منفعة بخلاف الماليات، فإنها غير مضمونة وإنما المضمون هو المال، فلا يقاس تلف
المالية بتلف المال.
وأما الماليات المتجددة بعد تلف العين، فهي أولا ماليات فرضية بفرض وجود
العين لا أنها فعلية تحقيقية، وثانيا أنها غير تالفة بتلف العين فليس تداركية. فالمالية
التي لتلفها بتلف العين تدارك هي المالية حال التلف، فإنها مالية فعلية تالفة
بتلف العين، فهي التي لها التدارك دون غيرها من الماليات السابقة واللاحقة.
ويمكن أن يقال في تقريب قيمة يوم الدفع أن اعتبار العهدة المغياة بالأداء
اعتبار بقاء العين بماليتها إلى حال أدائها بأداء ماليتها، وما ذكر في تقريب قيمة يوم
275

التلف مما اقتضاه عنوان تدارك المالية، ولازم التدارك تلف ما يتدارك، وليست
غاية العهدة تدارك العين بماليتها بل غايتها أداء ما فيها. والأداء مقتض للبقاء لا
للتلف، فالأنسب بملاحظة الغاية هي قيمة يوم الدفع وهو يوم أداء العين بماليتها
المفروض بقاؤها إلى حال الأداء فتدبره فإنه حقيق به.
كما يمكن أن يقال في تقريب قيمة يوم القبض ووضع اليد على العين أن العين
المأخوذة بمالها من المالية هي التي لها اعتبار العهدة، لا كل مالية ولو لم تكن مأخوذة
بأخذ العين، فما عدا المالية المأخوذة بأخذ العين لم يرد عليه العهدة، بل ماليات
وردت على ما في العهدة، والمالية التي لا عهدة لها لا تداركية ولا أدائية، وحينئذ
فتتوافق قاعدة اليد مع صحيحة أبي ولاد، حيث قال عليه السلام: " نعم قيمة بغل
يوم خالفته " (1) وعليه فالأحوط التصالح مع المالك والله أعلم.
المسألة الثالثة: لو اختلف المؤجر والمستأجر في القيمة فالمشهور أن القول قول
المستأجر، ونسب إلى الشيخ " رحمه الله " أن القول قول المؤجر (2)، ومستنده صحيح
أبي ولاد (3)، فإنه صريح في أن الحلف حق المالك، ومستند المشهور أصالة عدم
الزيادة كما عن بعض الأعلام " رحمه الله " (4) وأصالة البراءة كما في الجواهر (5)،
وهو مبني على ما هو المتعارف من كون المالك مدعيا للزيادة من دون فرض سبق
اليقين بها، وإلا فلو فرض اتفاقهما على قيمة معينة سابقا وادعى المستأجر نقصانها
بتنزل قيمتها فالأصل مع المالك لبقائها على ما كانت عليه.
ثم إن مبنى ضمان القيمة كما أشرنا إليه، تارة دلالة حديث اليد (6) على

(1) الوسائل: ج 13، باب 1 من أبواب أحكام الإجارة، ح 1، ص 255.
(2) النهاية: ص 446.
(3) الوسائل: ج 13، باب 17 من أبواب أحكام الإجارة، ح 1، ص 255.
(4) الإجارة للمحقق الرشتي، ص 355، في بحث التنازع.
(5) جواهر الكلام: ج 27، ص 342.
(6) عوالي اللئالي: ج 1، ص 224، ح 6 10.
276

وجوب دفع القيمة على تقدير التلف، وأخرى تبدل عهدة العين بعد تلفها بذمة المثل
أو القيمة، وثالثة بقاء العهدة على حالها إلى أن تسقط بأداء بدل العين، فكما أن
مقتضى الأصل البراءة عن القيمة الزائدة على ما هو المتيقن في الشبهة الحكمية فكذا
في الشبهة الموضوعية، وكما أن الأصل عدم اشتغال الذمة بأزيد من المتيقن في الشبهة
الحكمية فكذا في الموضوعية، بخلاف ما إذا قلنا ببقاء العين في العهدة وأنها لا
تسقط إلا بأداء بدلها فإنه بأداء الأقل لا يقطع بسقوط العهدة المتيقنة من دون فرق
حينئذ بين الشبهة الحكمية والموضوعية، وعليه فالأصل بناء على المبنيين الأولين مع
المستأجر وبناء على المبنى الأخير مع المالك، فيكون مقتضى هذه الرواية موافقا
لصحيحة أبي ولاد (1).
والتحقيق أن المالية لها اعتبارات ثلاثة وهي اعتبار بشرط شئ وبشرط لا
ولا بشرط، والأولان وإن كانا متضمنين لخصوصية وجودية أو عدمية يجب التنبيه
عليها، دون المطلق واللا بشرط القسمي، فإنه يكفيه عدم الدال على إحدى
الخصوصيتين، إلا أنه قد اعتبرت في باب القيميات بشرط لا، لأن كل ماهية
بالإضافة إلى ماهية أخرى بشرط لا وإن كانت طولية، فماهية الشجر مثلا لها جهة
وجدان الجسمية والقوة النباتية وجهة فقدان سائر الأشياء، ولذا لا يدخل الشجر في
حد الإنسان، والداخل فيه جهة وجدانها فقط وهي الجسمية والنمو، وعليه فالمالية
القائمة بماهية هي بشرط لا بالإضافة إلى ما عداها هي التالفة، وهي المتداركة،
وليس في الخارج ما يتمحض في المالية ولا حيثية له إلا حيثية المالية إلا النقود
المجعولة أعواضا لمجرد ماليتها، لكن الذمة لا تشتغل بالدينار والدرهم أو غيرهما من
النقود الرائجة في المعاملات، لعدم تعين شئ منها، ولاستحالة الاشتغال بأحدها
المردد. ولا جامع إلا المالية وهي أمر بسيط ليس لها قلة وكثرة وزيادة ونقص إلا
باعتبار ما يتحقق به في الخارج وهي أنواع النقود فما تشتغل به الذمة أو يجب شرعا

(1) الوسائل: ج 13، باب 17 من أبواب أحكام الإجارة، ح 1، ص 255.
277

تداركه ليس فيه قلة وكثرة حتى يجري فيه الأصل بل القلة والكثرة فيما يتحقق به ما
اشتغلت به الذمة. وعليه فحال الضمان بمعنى وجوب دفع القيمة وبمعنى اشتغال
الذمة حال العهدة في أن الأصل فيها الاشتغال وبقاء تلك المالية إلى أن يتحقق في
الخارج قطعا، والأصل حينئذ على جميع المباني مع المالك. وبقية الكلام في محله.
المسألة الرابعة: في الشرايع: من تقبل عملا لم يجز أن يقبله غيره بنقيصة على
الأشهر إلا أن يحدث فيه ما يستبيح به الفضل (1) انتهى.
ومستنده صحيح أبي حمزة (2) على النقل الصحيح وصحيح محمد بن
مسلم (3)، ومضمون الثاني عن الرجل يتقبل العمل فلا يعمل فيه ويدفعه إلى آخر
فيربح فيه؟ قال عليه السلام: " لا، إلا أن يكون قد عمل فيه شيئا " والأول
كالثاني فيما عدا الاستثناء وفي بعض الأخبار الأخر نفي البأس عن التقبيل مع
العمل (4)، ومفهومه ثبوت البأس مع عدمه. ومستند المجوزين صحيح أبي حمزة على
ما نقله ابن إدريس في السرائر (5) وحكاه العلامة في التذكرة مستدلا به للجواز
بقوله عليه السلام: " لا بأس " (6) ولكن حيث إنهما نقلاه عن تهذيب الشيخ. وقد
نص أهل الخبرة في الأخبار والاطلاع على خلو تهذيب الشيخ من هذه الزيادة، فلا
اعتبار بهذا المدرك. واستندوا أيضا إلى قوله عليه السلام في خبر علي الصائغ: " لا
يصلح ذلك " (7) بدعوى ظهوره في الكراهة.
وفيه: أن " لا يصلح " ليس ظاهرا في الكراهة، بل يصلح لها وللحرمة، فلا
يعارض ما دل على الحرمة. واستندوا أيضا إلى ما روي عن الحكم الخياط، قال

(1) شرايع الإسلام: كتاب الإجارة في ذيل الفصل الثالث.
(2) الوسائل: ج 13، باب 23 من أبواب أحكام الإجارة، ح 4، ص 265.
(3) الوسائل: ج 13، باب 23 من أبواب أحكام الإجارة، ح 1، ص 265.
(4) الوسائل: ج 13، باب 23 من أبواب أحكام الإجارة، ح 2، ص 265.
(5) السرائر: ص 271.
(6) تذكرة الفقهاء: ج 2، ص 291.
(7) الوسائل: ج 13، باب 23 من أبواب أحكام الإجارة، ح 6، ص 266.
278

قلت لأبي عبد الله عليه السلام: " إني أتقبل الثوب بدرهم وأسلمه بأقل من ذلك لا
أزيد على أن أشقه؟ قال عليه السلام: لا بأس بذلك. ثم قال عليه السلام: لا بأس
فيما تقبلت من عمل استفضلت فيه " (1). نظرا إلى ذيل الرواية، حيث إنه
عليه السلام نفى البأس عنه بلا تقييد منه. والقيد المذكور في السؤال من الراوي دون
الإمام عليه السلام.
ولعل النكتة في ذكر الكلية بعد الجواب أن التقبيل الذي يطلب فيه الفضل لا
بأس به مطلقا بلا حاجة إلى إعمال عمل ولو مثل شق الثوب، ولكنه كما يحتمل
ذلك يحتمل التعميم في مثل الفرض المذكور الذي هو القدر المتيقن في مقام
التخاطب، ومع فرض الاطلاق فمقتضى القاعدة حمل المطلق على المقيد. فلا تصل
النوبة إلى حمل الظاهر على النص بملاحظة أن أدلة المنع ظاهرة في المنع. وقوله
عليه السلام: (لا بأس) نص في الجواز مضافا إلى المروي من أن فضل الأجير حرام،
فإن الظاهر إضافة المصدر إلى الفاعل لا المفعول، لكنه يبعده ورود مثله في مساق
البيت والحانوت كما تقدم الكلام فيه، حيث قال عليه السلام: " إن الأرض ليست
مثل الأجير ولا مثل البيت، إن فضل البيت وفضل الأجير حرام " (2).
تنبيه: الكلام في تسليم العين في مورد التقبيل من آخر من حيث لزوم كونه بإذن
مالكها وإلا لكان الأجير ضامنا كالكلام في العين المستأجرة إذا آجرها المستأجر
من غيره حرفا بحرف فراجع. نعم يمتاز المقام بخصوصية وهي أن الغالب فيمن
يتقبل الخياطة أنه لا يخيط بنفسه، بل يدفعه إلى صناعه وأجرائه كما هو المرسوم في
مثل الخياطة، فالإذن في الاستيلاء على العين لعمل الخياطة المتعارف كونه
بالتسبيب لا بالمباشرة إذن في تسليط الغير، كما أن ما نحن فيه أولى من المسألة
المتقدمة من وجه آخر بالنسبة إلى نفس الأجير، فإن استيلاء المستأجر على العين

(1) الوسائل: ج 13، باب 23 من أبواب أحكام الإجارة، ح 2، ص 265.
(2) الوسائل: ج 13، باب 20 من أبواب أحكام الإجارة، ح 2 و 3، ص 259.
279

بإذن المالك لم يكن إلا بملاحظة أن إقدام الملك برضاه على الإجارة المقتضية
لتسليط المستأجر مقدمة لاستيفاء المنفعة هو الرافع للضمان وإلا فتسليطه بعد عقد
الإجارة من باب اللابدية التي لا يكشف عن الرضا باستيلاء المستأجر بخلاف ما
نحن فيه، فإن مالك العين هو مالك العمل، فليس تسليمه للعين مقدمة لاستيفاء
عمل الغير إلا عن رضاه بعد العقد. فتدبر جيدا.
المسألة الخامسة: في الشرايع: يجب على المستأجر سقي الدابة وعلفها ولو أهمل
ضمن. انتهى (1).
أما تنقيح الكلام في المسألة الأولى وهي وجوب السقي مثلا، فالكلام فيه تارة
في أصل الوجوب وأخرى في الرجوع بعوض ما بذله على المالك.
(أما الأول) فنقول: حفظ الدابة بسقيها وعلفها، تارة بجهة غير مرتبطة بالإجارة
كحفظ النفس المحترمة والمال المحترم، فإنه لو وجب حفظها من هاتين الجهتين لم
يكن مختصا بالمستأجر بما هو بل جميع المكلفين كذلك، وأخرى بجهة مرتبطة بمرحلة
الإجارة، إما من حيث اقتضاء عقد الإجارة أو الشرط الصريح أو الضمني فيه أو
من حيث اقتضاء التسليم على وجه التأمين.
أما الحفظ من جهة كونها نفس محترمة فلا يجب في غير الآدمي، ولذا لا يجب
التقاط الحيوان إذا خاف عليه التلف. والحفظ بعد الالتقاط من حيث كونها أمانة
شرعية يجب حفظها من التلف، كما أن الوجوب على مالكها من حيث وجوب نفقة
المملوك على مالكه لا من حيث حفظ النفس المحترمة التي لا فرق فيها بين المالك
وغيره. نعم إن كان المملوك عبدا أو أمة يجب حفظه بجميع أنحاء الحفظ حتى من
الآفات الواردة عليه كالحر من دون فرق بين المالك وغيره، ومن دون فرق بين كونه
أجيرا أو لا، ومن دون فرق بين حضور مالكه وعدمه إذا أهمل الواجب في حقه.
وأما الحفظ من حيث كونه مالا محترما فلا يجب أصلا، ولذا لا يجب التقاطه بل

(1) شرايع الإسلام: كتاب الإجارة الفصل الثالث المسألة الرابعة.
280

يكره وإنما الواجب ما كان تحت اليد من حيث كونه أمانة شرعية أو مالكية كما
سيجئ الكلام فيه إن شاء الله تعالى. هذا هو الكلام في الحفظ من الجهتين غير
المرتبطتين بمرحلة الإجارة.
وأما الحفظ من الجهات المربوطة بها فنقول: أما عقد الإجارة بما هو فلا اقتضاء
له إلا لتمليك المنفعة فقط. نعم من يقول بأنها تمليك العين في مدة خاصة بجهة
خاصة فربما يوهم وجوب الحفظ من حيث إن نفقة المملوك على مالكه. وأما
اقتضاء الشرط الصحيح الصريح فهو تابع لكيفية الاشتراط ولا كلام فيه. وأما
اقتضاء الشرط الضمني فهو إنما يسلم إذا دفعه المالك إلى المستأجر من دون أن يكون
هو أو عملته وأكرته مع الدابة، كما في البغلة في صحيح أبي ولاد (1) فإن المتعارف
في مثله كون الدابة في كفالة المستأجر، وفي غيره لا دليل على الالتزام الضمني
بحفظه.
وأما اقتضاء التأمين إجراء أحكام الأمانة عليه ومنها حفظها بسقيها وعلفها،
فمختصر القول فيه أن التأمين تارة عقدي كالوديعة وأخرى خارجي، وتمام حقيقته
التسليط عن رضاه. فالأول حيث إن حقيقته الاستنابة في الحفظ فلا بد من رعاية
حال ما تعهد بحفظه بجميع شؤونه ما دام العقد باقيا، والثاني ليس مقتضاه إلا كون
استيلائه عن رضا المالك، فلا يضمن إلا بالتعدي أو التفريط الموجب لخروج اليد
عن كونها مأذونة، وكون ترك الحفظ تفريطا فرع وجوب الحفظ ومعنى التأمين
بالمعنى الأعم أن المالك حيث رآه أمينا مأمونا من التعدي والتفريط فلذا سلطه على
ماله ولم يشترط عليه الضمان بجعل تسليطه مقيدا به.
(وأما الثاني) وهو الرجوع بعوض ما بذله في مقام حفظه فنقول: إن وجوب
الحفظ بأي وجه من الوجوه المتقدمة لا اقتضاء من حيث المجانية وعدمها، ومجرد
احترام العمل أو احترام المال المبذول لا يوجب الرجوع إلى من وصل نفع العمل أو

(1) الوسائل: ج 13، باب 17 من أبواب أحكام الإجارة، ح 1، ص 255.
281

المال إليه إلا إذا كان مستوفيا له بالمباشرة أو بوكيله أو بأمرهما وإذنهما أو بأمر
الحاكم مع فقدهما. نعم في باب الوديعة حيث إن حقيقتها الاستنابة في الحفظ
فطبعها آب عن التعويض لنفس الحفظ وإلا لكانت إجارة على العمل لا وديعة
موجبة لتنزيل الودعي منزلة المالك في حفظها الذي لا عوض لمالكها.
وأما ما يتوقف عليه الحفظ من مال أو عمل راجع إلى مقدمات الحفظ فطبع
الوديعة كطبع الإجارة لا اقتضاء من حيث التعويض وعدمه، فلا بد من فرض
الاستيفاء من المالك أو من ينوب منابه بأحد وجوه الاستيفاء، إلا أن الاشكال في
الأمانة الشرعية كاللقطة إذا احتاج الملتقط في حفظها لمالكها ولو في مدة
التعريف إلى بذل المال، فإنه لا معنى لاستيفاء الشارع كما لا استيفاء من المالك،
لكنه يكفي في جواز الرجوع بعض النصوص الواردة في اللقيط، حيث جوز بيعه فيما
أنفق عليه، كما أنه يكفي في الأمانة المالكية بالمعنى الأعم ما في صحيحة أبي ولاد،
حيث قال: " جعلت فداك فقد علفته بدراهم فلي عليه علفه؟ قال عليه السلام: لا
لأنك غاصب " (1)، فيستفاد منه أن غير الغاصب له الرجوع بما أنفق على الدابة.
ومما ذكرنا يظهر أن جواز الرجوع منوط بإذن من المالك أو من الشارع مع عدم قصد
التبرع بما أنفق. هذا بعض الكلام في المسألة الأولى من حيث وجوب الحفظ ومن
حيث جواز الرجوع على المالك.
وأما المسألة الثانية: وهي الضمان مع الاهمال في حفظ الدابة بترك السقي
والعلف فمختصر الكلام فيها أن وجوب حفظ النفس المحترمة لا يوجب تركه إلا
الإثم، وكذا حفظ مال المسلم، فإن كون حفظ المال في عهدته غير كون المال في
عهدته ليتوهم ضمانه، كما أن وجوب الحفظ من حيث الالتزام صريحا أو ضمنا لا
يقتضي تركه إلا ترك الوفاء بالشرط من دون اقتضاء للضمان. نعم ترك الحفظ
من حيث الأمانة خيانة، واليد حينئذ مضمنة. وهذا هو محل الكلام

(1) الوسائل: ج 13، باب 17 من أبواب أحكام الإجارة، ح 1، ص 256.
282

المسألة السادسة: في الشرايع: إذا أفسد الصانع ضمن ولو كان حاذقا كالقصار
يخرق. الخ (1) والكلام تارة فيما تقتضيه القاعدة، وأخرى في ما تقتضيه أخبار
الباب.
أما الأول: فتوضيح المرام برسم أمور في المقام: (منها) أن قيام المبدأ بشئ
يصحح إسناده إليه إذا لم يؤخذ في نفس المبدأ عنوان قصدي كالتعظيم، فالإرادة
والاختيار غير مقومة للاسناد إلا إذا فهم اعتباره من الخارج، كما في متعلقات
التكاليف، فإن البعث لجعل الداعي إلى الفعل، فلا بد من توسط الإرادة تحقيقا
للدعوة، وكما في المعاملات من العقود والايقاعات فإنها تسبيبية قصدية، بل ربما
يعبر فيها زيادة على الاختيارية والقصد المقوم لها صدورها عن طيب النفس والرضا
الطبعي. وأما مقولة الأسباب كالاتلاف المضمن واليد المضمنة، فليس فيهما
خصوصية التكليف، ولا خصوصية العقود والايقاعات حتى يعتبر فيها الاختيارية
والعمد والقصد فيكفي في ذلك مجرد الاستناد الكافي فيه قيام المبدأ.
و (منها) أن الاتلاف تارة مباشري وأخرى توليدي أو تسبيبي، والغالب
حصول الأخيرين بايجاد شرط أو معد يترتب عليهما التلف ما لم يتوسط بين الشرط
والمشروط والمعد والمعد له إرادة فاعل مختار. فالالقاء في النار المتولد منه الاحراق
ليس إلا إيجاد الشرط وهي الملاقاة للنار، ولا منافاة بين عدم استناد المشروط إلى
شرطه واستناده إلى موجد شرطه، فإن الشرط لا فعل له حتى يتولد منه المشروط
بخلاف موجد الشرط، فإن إيجاده له فعل له فيصح تولد فعل منه، فالاحراق فاعله
الطبيعي هو النار وفاعله غير الطبيعي هو الملقي، وهو فعل النار بالذات وفعل الملقي
بالعرض. وتقديم الطعام المسموم إلى الغافل إيجاد مقدمة إعدادية، فينسب القتل إلى
السم بالذات وإلى موجد المعد بالعرض، وهكذا في سائر الأمثلة، وعليه فالحمال إذا
عثر فانكسر ما حمله متلف، لأنه بعثرته عن غير اختيار كسر المحمول بغير اختيار،

(1) شرايع الإسلام: كتاب الإجارة الفصل الثالث المسألة الخامسة.
283

فالكسر وإن كان فاعله الطبيعي اصطكاك المحمول مع الأرض، إلا أنه مترتب على
العثرة القائمة بالحمال ترتب المعد له على المعد فيكون متولدا من فعل غير اختياري
قائم بالحمال، بخلاف ما إذا هب ريح شديد فأوقعه على الأرض فكسره، لعدم تولد
الكسر من الحمل. وعدم استناد هبوب الريح إلى الحمال فتدبر.
و (منها) أن التلف الذي يترتب على أعمال الصنعة ربما يكون لخطأ الصانع
وسبق يده بحيث جاز حد الختان مثلا، وربما يكون لعدم قابلية المحل لضعف مزاج
الطفل وعدم تحمله للجرح، وكعدم قابلية الثوب للقصارة على الوجه المتعارف من
الفرك والدلك، لكونه عتيقا ينخرق بالقصارة، ومثله وإن كان كالأول اتلافا من
الصانع نظير ما إذا جرح انسانا ضعيف المزاج فقتله، فإنه لا شبهة في أن القتل لمثل
هذا الشخص مستند إليه، إلا أن الأمر في مثل هذه الإجارة دائر بين صحتها وعدم
الضمان وفسادها والضمان كما نبهنا عليه في بعض المسائل المتقدمة من أن استيفاء
المنفعة إذا كان لازمه العادي نقصا في العين لا يوجب الضمان كركوب الدابة في مدة
طويلة، فإنه يوجب هزالها وجرح ظهرها وأشباه ذلك، فكذا هنا، فإن قصارة هذا
الثوب ملزوم عادة لخرقه، فهو اتلاف مأذون فيه من قبل مالكه وكذا ختان الطفل
الضعيف إذا كان جائزا بحسب الظاهر لأبيه وجاز له الاستيجار شرعا، فهو اتلاف
مأذون فيه شرعا ومن قبل الولي، وإن كان مع العلم بكون الختان مضرا لم يجز للولي
ختانه ولما جاز شرعا الاستيجار له.
وأما الطبيب الحاذق المباشر، فتارة نقول إنه مكلف بحفظ النفس المحترمة
بعلاج المرض، فمثل هذا يستحيل أن يستلزم الضمان، فإن التلف لا يكون إلا
بخطأ منه، فالموضوع وهو علاج واقعا وإلا لا نسد باب الطبابة وعلاج المرضى مع
مسيس الحاجة إليه، ومثله لا ضمان معه، وعليه ينزل أخذ البراءة من المريض أي
الإذن في العلاج على نحو لا ضمان معه، وإلا فاشكال البراءة عن الضمان قبل
حدوث موجبه موجه، والإذن في اتلاف نفسه أو طرفه غير سائغ شرعا، فلا محيص
عما ذكرناه. هذا مختصر القول فيما تقتضيه القاعدة.
284

وأما الثاني: وهو ما يستفاد من أخبار الباب (1)، وهي ما ورد في القصار
والصباغ والنجار وما أوردوه في باب الديات في الطبيب والبيطار والختان من
تضمين الجماعة المذكورين فيما جنته أيديهم (2)، وفي جملة منها اعطاء الضابط بقولهم
عليهم السلام: " كل عامل أعطيته أجرا على أن يصلح فأفسد فهو ضامن " (3) وهو
موافق لما قدمناه من اقتضاء قاعدة الاتلاف، وذلك لأن قصارة الثوب بفركه
ودلكه المعتاد اصلاح للثوب وبفركه ودلكه الشديد ولو خطأ افساد له حيث إنه
يخرقه، وأما الثوب العتيق الذي لا يحتمل الفرك والدلك العادي فهو متمحض في
الافساد وليس مجمعا للاصلاح والافساد، فهو خارج عن مدلول هذه الكلية.
وقد عرفت أن مقتضى القاعدة عدم الضمان، لأنه اتلاف مأذون فيه، وليس
لهذه الأخبار الواردة في جناية الصانع في صنعته معارض، نعم الأخبار فيما يتلف
تحت أيديهم من الأعيان التي هي موارد للأعمال المستأجر عليها مختلفة، وهي
مسألة أخرى سيجئ البحث عنها إن شاء الله تعالى.
المسألة السابعة: قال " رحمه الله " في الشرايع: أما لو تلف في يد الصانع لا بسببه
من غير تفريط ولا تعد لم يضمن.. الخ (4). والكلام فيه تارة في مقتضى القاعدة
وأخرى في مقتضيات أخبار المسألة:
أما الأول: فقد مر أن العين التي هي مورد عمل الأجير أمانة بالمعنى الأعم أي
سلطه مالكها عليها برضاه، بل هو أولى بذلك من العين المستأجرة، حيث إن
التسليط على العين المستأجرة مما لا بد منه مقدمة لاستيفاء المنفعة، ومع اللابدية لا
يمكن استكشاف الرضا بعد العقد، ولذا التجأنا إلى دعوى أن اقدامه على الإجارة

(1) الوسائل: ج 13، باب 29 من أبواب أحكام الإجارة، ص 271.
(2) الوسائل: ج 19، باب 24 من أبواب موجبات الضمان، ص 194.
(3) الوسائل: ج 13، باب 29 من أبواب أحكام الإجارة، ح 11، ص 275.
(4) شرايع الإسلام: كتاب الإجارة المسألة الخامسة.
285

المقتضية للتسليط بعد العقد كان عن رضاه والظاهر بقاؤه بخلاف ما نحن فيه، فإن
المستأجر هنا هو مالك للعمل، فدفع العين إلى الأجير مع عدم اللابدية يكشف
قطعيا عن الرضا. ومن الواضح كما قدمناه سابقا أن اليد المأذونة لا ضمان عليها إلا
إذا خرجت عن كونها مأذونة بتعد أو تفريط، فما في الشرايع هنا موافق للقاعدة.
وأما الثاني: وهو ما هو مفاد الأخبار فهي مختلفة، ففي بعضها كرواية معاوية
بن عمار عدم الضمان مطلقا قال: " سألته عليه السلام عن الصباغ والقصار؟ قال
عليه السلام: ليس يضمنان " (1) وفي بعضها الآخر عدم التضمين إن كان مأمونا،
كما في الصحيح عن أبي بصير: " لا يضمن الصائغ ولا القصار ولا الحائك إلا أن
يكونوا متهمين " (2). وفي بعضها وهو الأغلب التضمين مطلقا والأصل فيه ما عن
أمير المؤمنين عليه السلام من تأسيس أصل كلي في ضمان هؤلاء احتياطا على أمتعة
الناس (3)، بل في بعضها " لا يصلح الناس إلا أن يضمنوا " (4). وفي الصحيح عن
الحلبي قال: " قال أبو عبد الله عليه السلام: كان أمير المؤمنين عليه السلام يضمن
القصار والصائغ احتياطا على أموال الناس وكان أبي يتطول عليه إذا كان
مأمونا " (5). وظاهره التطول عملا مع جواز التغريم كما هو صريح رواية أخرى:
" كان يضمن القصار والصواغ ما أفسد، وكان علي بن الحسين عليه السلام يتفضل
عليهم " (6). فإن مورده الجناية في الصنعة. وقد مر أنها موجبة للضمان. والغرض أن
التفضل والتطول منهم عليهم السلام مطلقا أو فيما إذا كان مأمونا لا يقتضي
اختصاص الحكم الاحتياطي الذي أسسه أمير المؤمنين عليه السلام بصورة التهمة

(1) الوسائل: ج 13، باب 29 من أبواب أحكام الإجارة، ح 14، ص 274.
(2) الوسائل: ج 13، باب 29 من أبواب أحكام الإجارة، ح 11، ص 274.
(3) الوسائل: ج 13، باب 29 من أبواب أحكام الإجارة، ح 6، ص 272.
(4) الوسائل: ج 13، باب 29 من أبواب أحكام الإجارة، ح 9، ص 273.
(5) الوسائل: ج 13، باب 29 من أبواب أحكام الإجارة، ح 4، ص 272.
(6) الوسائل: ج 13، باب 29 من أبواب أحكام الإجارة، ح 20، ص 275.
286

وعدم كونه مأمونا.
نعم جملة كثيرة من الروايات قيدت التغريم بصورة التهمة، وحينئذ يستفاد من
ارجاع بعضها إلى بعض أن المستأجر له التضمين في صورة التهمة على خلاف قاعدة
الأمانة بالمعنى الأخص والأعم فإن مقتضاها أن المؤتمن على المال لا يضمن بلا
تعد ولا تفريط، وأنه لا يكلف باثبات التلف.
والتحقيق: أن هذا الأصل المؤسس من أمير المؤمنين عليه السلام ليس مقتضاه
الضمان بالتلف، كيف وفي ذيل الرواية وكان عليه السلام لا يضمن من الغرق
والحرق والشئ الغالب ونحوه غيره، مع أنه بقيام البينة على التلف لا ضمان قطعا،
فيعلم منه أنه لا ضمان بالتلف، وإنما يخالف هذا الأصل قبول دعوى التلف فإن في
سماع دعواهم ضياع أموال الناس لخفة مؤنة دعوى التلف. ولذا قيدوه بصورة
التهمة وحكموا بعدم الضمان فيما إذا كان موثوقا مأمونا، وإلا فالتلف مما يستوي فيه
الموثوق وغيره والأمين وغيره. فلا بأس بالعمل بهذه الأخبار على خلاف قاعدة قبول
قول الأمين في دعوى التلف. وأما أن تكليف مدعي التلف إقامة البينة أو
يستحلف فالأخبار فيه مختلفة، وسيجئ البحث عنه في أواخر باب الإجارة
إن شاء الله تعالى.
المسألة الثامنة: قال " رحمه الله " في الشرايع: ما استأجر أجيرا لينفذه في
حوائجه كانت نفقته على المستأجر إلا أن يشترط على الأجير (1). انتهى.
لا ريب في أن عقد الإجارة لا اقتضاء من حيث استحقاق النفقة، إلا إذا
كانت هناك عادة مستقرة على كون نفقة الأجير المنفذ في حوائج المستأجر عليه،
فإنه بمنزلة الالتزام الضمني بالنفقة، ولعله يختلف باختلاف الأعصار والأمصار.
وربما يدعى أن الأجرة إذا لم تكن وافية بمؤنته مع استغراق أوقاته للعمل المنفذ فيه
كان ذلك قرينة على أنه في كفالة المستأجر، فيكون التزاما ضمنيا مبنيا عليه العقد.

(1) شرايع الإسلام: كتاب الإجارة المسألة السادسة.
287

و (فيه) عدم صلاحية عدم وفاء الأجرة للقرينة المحققة للالتزام الضمني ما لم
تكن عادة متبعة توجب وقوع العقد عليه، بل اللازم في مثل الفرض أن لا يؤجر
نفسه مطلقة بل مشروطة بالنفقة، فمرجع الأمر إلى أنه ليس له الإجارة المطلقة، لا
أن الإجارة المطلقة منه صحيحة وعدم وفاء الأجرة قرينة على التقييد.
وأما صحة الإجارة المطلقة مع فرض عدم النفقة ولو بالاستدانة فمحل الاشكال
لا من حيث وجوب التكسب لوجوب تحصيل النفقة فتحرم الإجارة المطلقة،
لابتنائه أولا على مسألة الضد ولا نقول بها، وثانيا على اقتضاء حرمة الإجارة
لبطلانها ولا نقول باقتضاء مجد الحرمة المولوية المتعلقة بنفس الإجارة لبطلانها مع
استجماعها لشرائط النفوذ حتى ملك التصرف، إذ لا تزول بالحرمة إلا السلطنة
التكليفية وهي إباحة الإجارة دون السلطنة الوضعية التي لا تزول إلا بفقد شرط من
شرائط الصحة، بل في خصوص المقام لا يتمكن من تسليم العمل في تمام المدة
خارجا، حيث لا قوة على العمل، بل لا حياة للعمل إلا بما يتقوت به. والمفروض
عدم ما يتقوت به من جميع الوجوه، وسيجئ إن شاء الله تعالى بعض الكلام في مسألة
إجارة العبد ثم عتقه (1).
واستدل لوجوب النفقة على المستأجر بما رواه في الكافي (2) والتهذيب (3) عن
سليمان بن سالم قال: " سألت أبا الحسن عليه السلام عن رجل استأجر رجلا
بنفقة ودراهم مسماة على أن يبعثه إلى أرض، فلما أن قدم أقبل رجل من أصحابه
يدعوه إلى منزله الشهر والشهرين فيصيب عنده ما يغنيه من نفقة المستأجر، فنظر
الأجير إلى ما كان ينفق عليه في الشهر إذا هو لم يدعه فكافى به الذي يدعوه، فمن
مال من تلك المكافاة أمن مال الأجير أم من مال المستأجر؟ قال عليه السلام: إن

(1) في المسألة الثانية عشرة: ص 295.
(2) الكافي: ج 5، ص 287 باب إجارة الأجير وما يجب عليه، ح 2.
(3) التهذيب: ج 7 ص 212، باب الإجارات، ح 15.
288

كان في مصلحة المستأجر فهو من ماله وإلا فهو على الأجير " (1).
وموضع الاستدلال ما في جواب الإمام عليه السلام بدعوى أن المراد منه أن
البقاء عنده إن كان في مصلحة المستأجر والاشتغال بالعمل الذي فيه صلاحه فهو
مستحق للنفقة، فما دفعه بعنوان عوض ما ينفق عليه محسوب على المستأجر، وإن لم
يكن البقاء عنده للاشتغال بما هو صلاح المستأجر فلا نفقة له، فما دفعه محسوب
عليه لا على المستأجر.
ويندفع بأن استحقاق النفقة مفروض في السؤال. إما بعنوان الجزئية للأجرة
كما هو ظاهر صدر الرواية، حيث جعلها في عرض الدراهم المسماة واقعا عليهما عقد
الإجارة، وإما بعنوان الشرطية في ضمن عقد الإجارة، لتعارف أمثال هذه
العبارات فيما كان مأخوذا في العقد ولو بنحو الشرطية، والرواية مسوقة للسؤال عن
حال النفقة المتعينة بين المستأجر والأجير، فلا يتوهم بطلان الإجارة إما لجهالة جزء
الأجرة أو لجهالة ما اشترطه في العقد، وحينئذ فوجه السؤال بعد فرض استحقاق
النفقة بأحد الوجهين أن ما يستحقه من المستأجر مقدار النفقة، حتى يمكنه
احتساب ما كافى به من دعاه على المستأجر أو النفقة الفعلية، حتى يكون ما كافى
به محسوبا عليه لفرض عدم فعلية النفقة، فأجاب الإمام عليه السلام: بأن البقاء إن
كان للعمل المستأجر عليه فهو مستحق للنفقة ببيان لازمه، وهو احتساب ما كافى
به على المستأجر، وإلا فلا عمل للمستأجر في هذه المدة، حتى يستحق مقدار النفقة،
إلا أن الظاهر أن بقاءه للعمل المستأجر عليه مفروض في كلام السائل، حيث قال:
فيصيب عنده ما يغنيه من نفقة المستأجر. فلولا كان بقاؤه لعمل المستأجر لم يكن
له نفقة حتى يغنيه ما يصيب عن النفقة. وكذا قوله: فنظر إلى ما كان ينفق عليه في
الشهر، وعليه فتكون فعلية النفقة مفروضة في كلام السائل، إلا أنه يتوهم أن
الانفاق في هذه المدة لولا الدعوة، حيث إنه مما وطن المستأجر على بذله، فلا يضره

(1) تهذيب الأحكام: ج 7، ص 212، ح 15.
289

احتساب ما يكافى به عليه، فأجاب الإمام عليه السلام: بأن هذه المكافاة، إن
كانت مصلحة للمستأجر كانت من المال المصروف في مصالح المستأجر فيحتسب
عليه، وإلا كان احسانا محضا من الأجير بلا ارتباط بالمستأجر. ولعله أقرب إلى
المفهوم من العبارة من السابق، فلا يرتبط بمسألة النفقة أصلا.
ويستدل أيضا بما في ذيل الرواية المتقدمة، وهو هكذا: " وعن رجل استأجر
رجلا بنفقة مسماة ولم يفسر شيئا على أن يبعثه إلى أرض أخرى، فما كان من نفقة
الأجير من غسل الثياب أو الحمام فعلى من؟ قال عليه السلام: على المستأجر " (1).
ووجه الاستدلال بالجواب واضح، إلا أن أصل النفقة مفروض، وحيث إنه كان
بلا تفسير ولا تفصيل فهل تدخل لوازم السفر من غسل الثياب ودخول الحمام في
النفقة الملتزم بها؟ فأجاب عليه السلام: بدخولهما فيه بلازمه، وهو أنهما على
المستأجر، حيث إنه التزم بالنفقة، لا من حيث إن الأجير يستحق عليه تعبدا، حتى
يقال إذا استحق مثل أجرة غسل الثياب والحمام فالمأكل والملابس بطريق أولى.
والله أعلم.
المسألة التاسعة: قال " رحمه الله " في الشرايع: إذا آجر مملوكا له فأفسد كان ذلك
لازما لمولاه في سعيه.. الخ (2).
في المسألة وجوه بل أقوال في ضمان المولى، قول بالضمان مطلقا، وقول بعدمه
مطلقا، وقول بالضمان في كسب العبد فقط، وقول بالتفصيل بين تفريط العبد
فيضمن ويتبع به بعد انعتاقه، وعدم التفريط فعلى المولى في كسب العبد. ومقتضى
أدلة التغريمات من حيث الاتلاف والتلف تحت اليد، وخصوص أدلة افساد
الصانع ما استؤجر عليه عدم الفرق بين الحر والعبد، فالعبد هو الضامن في جميع
الموارد، وحيث لا مال له يتبع به بعد عتقه، إذ لا معنى لكونه ضامنا في كسبه، فإنه

(1) الكافي: ج 5، ص 287، ب 145، ح 2.
(2) شرايع الإسلام: كتاب الإجارة المسألة السابعة.
290

لا يخرج الضامن عما اشتغلت ذمته بأداء مال الغير، ومنافعه على الفرض لمولاه.
نعم يستثنى من ذلك صورة تسبيب المولى إلى العمل الذي يترتب عليه الافساد
خطأ، ومنه ما إذا آجره المولى لقصارة الثوب أو للختان ونحوهما. ومنها يظهر أن
التفصيل المحكي عن المسالك وجيه في خصوص المقام لدوران أمر الاتلاف
المنسوب إلى العبد بين العمد والخطأ. والمولى لم يتسبب بايجاره إلى التعمد منه، بل
إلى نفس العمل الذي ربما يترتب عليه التلف بعروض الخطأ.
وأما ما يقتضيه الخبران الواردان في إجارة العبد وافساده، فالكلام تارة في
موافقة كل منهما للقاعدة ومخالفته لها، وأخرى في معارضتهما وعدمها، ومختصر القول
في المقامين أن للروي هنا روايتان:
(إحداهما) ما روي في الكافي والتهذيب في الحسن عن أبي عبد الله عليه السلام
قال: " قضى أمير المؤمنين عليه السلام في رجل كان له غلام استأجره منه صائغ أو
غيره، قال عليه السلام: إن كان ضيع شيئا أو أبق فمواليه ضامنون " (1). وحيث إن
الظاهر التضييع في العمل المستأجر عليه بلا تعمد، فيوافق الضمان على المولى، لما مر
من أنه اتلاف من المولى بالتسبيب.
(ثانيتهما) صحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام " في رجل استأجر
مملوكا فيستهلك مالا كثيرا؟ فقال عليه السلام: ليس على مولاه شئ وليس لهم أن
يبيعوه ولكنه يستسعى وإن عجز عنه فليس على مولاه شئ ولا على العبد
شئ " (2). وهي مخالفة للقاعدة من وجهين: (أحدهما) كونه ضامنا بمال الغير.
و (ثانيهما) عدم ضمان ما أتلفه عند عجزه عن السعي بحيث لا يتبع به بعد انعتاقه،
لكنها صحيحة لا بد من الأخذ بها ولو على خلاف القاعدة، كما أنه في جناية العبد
أيضا يقتل أو يسترق مع أنه بنفسه مال المولى، إلا أنها حيث كانت معارضة للرواية

(1) الكافي: ج 5، ص 302، ح 1، التهذيب: ج 7، ص 213، ح 18.
(2) الوسائل: ج 13، باب 11 من أبواب أحكام الإجارة، ح 3، ص 252.
291

الأولى فلا بد من التوفيق بينهما حتى يمكن تحكيمها على القاعدة.
وما ذكر في الجمع بينهما وجهان: (أحدهما) أن الحسنة الحاكمة بضمان المولى
مطلقة، فيجب تقييد ضمان المولى بجعله في كسبه لا في مطلق ماله، وهو وجيه لولا
قوله عليه السلام " أو أبق " عطفا على ضيع. فإن ضمان المولى عند إباقه ليس إلا
للأجرة. وهذا الضمان ضمان المعاوضة المقتضي لانفساخ المعاملة. وضمان
التضييع والافساد ضمان الغرامة. فلا بد من إرادة الجامع بينهما وهي الخسارة سواء
كان الذاهب منه عين المال كالأجرة المسماة أم بذل مال الغير كضمان التالف.
ومن الواضح أن هذا المطلق الجامع لا يعقل تقييده بكسب العبد. بداهة أن تقييد
المطلق يوجب تقييد جميع أفراده. مع أنه لا معنى لأن يكون رجوع الأجرة المسماة في
كسبه.
(ثانيهما) إن الكسب أحد أفراد مال المولى. فهو من باب المثال فيوافق ضمان
المولى مطلقا. وهو فاسد لصراحة الصحيحة في أنه مع عجز العبد عن الكسب لا
يضمن مولاه شيئا. فكيف يعقل أن يكون الكسب والسعي من باب المثال وإنه
من باب كونه أحد أفراد أموال المولى، خصوصا مع التأكيد صدرا وذيلا على أنه
ليس على مولاه شئ، والمظنون قويا اختلاف موردهما وعدم ارتباط الثانية
بمقامنا، فإن ظاهر استهلاك مال كثير من المستأجر صدور اتلافات كثيرة منه لا
الخطأ في صنعة استأجر عليها بخلاف الأولى، فإن ظاهرها تضييع شئ قد استؤجر
عليه في عمل الصياغة ونحوها، فلا اتحاد بينهما في المورد. والحكم في الثانية وإن
كان أيضا على خلاف القاعدة إلا أنه لا بد من العمل بها لصحتها وعدم المعارض
لها. والله العالم
المسألة العاشرة: قال " رحمه الله " في الشرايع: صاحب الحمام لا يضمن إلا ما
أودع وفرط في حفظه أو تعدى (1) انتهى.

(1) شرايع الإسلام: كتاب الإجارة المسألة الثامنة.
292

عدم الضمان تارة بعدم المقتضي وهو الاستيلاء، وأخرى بوجود الرافع وهو
التأمين. ولا ريب في أن صاحب الحمام له الاستيلاء على الحمام وما فيه، وإنكار
كون الثياب تحت استيلائه مكابرة. وأما التأمين فهو على قسمين: فتارة عقدي
وهي الوديعة. ومعها لا ضمان إلا مع التفريط في حفظ الثياب أو التعدي فيها،
وأخرى خارجي وهي الأمانة بالمعنى الأعم وهو مجرد تسليط الغير على المال عن
رضاه، وهو هنا كذلك.
وقد عرفت سابقا أن حفظ المال المحترم غير لازم إذا لم يكن استيداع من المالك
الراجع إلى الاستنابة في الحفظ أو ما هو بمنزلته شرعا من الحكم بايصال المال إلى
مالكه كاللقطة بعد الالتقاط فإذا لم يكن الحفظ واجبا لم يكن تركه تفريطا، حتى
تكون الأمانة بالمعنى الأعم كالأمانة بالمعنى الأخص. والفارق ما ذكرناه، ومنه
تعرف سر التعليل لعدم الضمان بقوله عليه السلام: " فإنه إنما أخذ الجعل على
الحمام ولم يأخذه على الثوب " (1) فإنه لو أخذ الأجرة على حفظ الثياب كان مكلفا
بحفظها، فترك التحفظ عليها تفريط، وحاله حال الوديعة بخلاف ما إذا لم يكن
حفظ الثياب في عهدته لا من حيث الاستيداع ولا من حيث الإجارة على الحفظ،
فإنه لا موجب لضمانها، لفرض الاستيلاء عن الرضا وعدم لزوم الحفظ. وأما ما في
رواية أخرى عن أمير المؤمنين عليه السلام: " أنه أتي بصاحب حمام وضعت عنده
الثياب فضاعت، فلم يضمنه، وقال عليه السلام: إنه أمين " (2) فمحمول على
الأمانة بالمعنى الأعم، ومعها لا ضمان.
فكل من الروايتين ناظرة إلى إحدى الجهتين: (إحداهما) إلى جهة التسليط عن
الرضا، (والثانية) إلى عدم لزوم التحفظ ليكون تفريطا منه بترك التحفظ. ومما
ذكرنا تعرف حكم مسألة الإجارة على حفظ الثياب، فإنه مكلف بالتحفظ على

(1) الوسائل: ج 13، باب 29 من أبواب أحكام الإجارة، ح 3، ص 271.
(2) الوسائل: ج 13، باب 27 من أبواب أحكام الإجارة، ح 1، ص 270.
293

الثياب عما يمكن التحفظ منه، فلو تلفت بآفة سماوية أو بما غلب عليه كالسرقة
غيلة مع كمال التحفظ فإنه لا ضمان مع أحد الأمرين بخلاف ما إذا ترك التحفظ
عليها فضاعت أو سرقت، فإنه مع عدم استحقاق الأجرة لعدم العمل بمقتضى
الإجارة يضمن التالف. وما روي في الصحيح " عن رجل استأجر أجيرا فأقعده
على متاعه فسرق؟ قال عليه السلام: هو مؤتمن " (1) محمول على ما هو الغالب من
السرقة غيلة ولو مع التحفظ، فلم يبق إلا كون يده على المال. والمفروض أن
المستأجر سلطه عليه عن رضاه. وهو المحقق للائتمان بالمعنى الأعم. نعم إذا اشترط
عليه ضمان المتاع كان ضامنا له ولو بتلف سماوي. فإن معه لا تأمين. فإنه ضد
التضمين، لا أنه أمانة مضمونة كما مر منا سابقا.
الحادية عشرة: الابراء حيث إنه يختص بالكلي الذمي فما في الذمة سواء كان
أجرة كلية أم منفعة دابة كليه أم عملا من الأعمال سواء تعلق بعين شخصية أم لا
كان قابلا للابراء، وإذا كانت الأجرة عينا شخصية أو منفعة عين جزئية أو كانت
المنفعة المعقود عليها جزئية بجزئية العين، فهي غير قابلة للابراء. فلا تقابل بين
الأجرة والمنفعة، كما لا يعقل جريان الجزئية في العمل بتوهم تعلق الخياطة بعين
خاصة، فإن جزئية المورد لا توجب تعلق الملكية بأمر في الخارج كمنفعة الدار
الجزئية، بل تتعلق بعمل تعهد به في الذمة، ولا مطابق له إلا ما يتعلق بالثوب
الخاص، فانحصار الكلي الذمي في فرد خارجا لا يوجب خروجه عن الكلية الذمية
القابلة للابراء، نعم من يرى المنفعة المملوكة بعقد الإجارة من أعراض المستأجر فلا
فرق عنده في الكلية والجزئية إلا بتعلق ذلك العرض بعين شخصية أو بعين كلية.
وهذه الكلية والجزئية جارية في العمل المستأجر عليه، إلا أن المبنى فاسد كما مر
مرارا، مع أن هذا المبنى أيضا لا يقتضي خروج العمل المتعلق بعين شخصية عن
قابلية الابراء، فإنه عمل تعهد به في ذمته بخلاف سكنى دار خاصة. فإنه لا تعهد

(1) الوسائل: ج 13، باب 4 من أبواب أحكام الإجارة، ح 2، ص 227.
294

به من المؤجر ليملكه المستأجر عليه نظير الكلي في المعين، فإنه ليس ذميا قابلا
للابراء. فتدبره جيدا.
الثانية عشرة: إذا آجر مملوكه ثم أعتقه قبل انقضاء مدة الإجارة يقع الكلام فيه
في مقامين: (أحدهما) في صحة الإجارة والعتق معا. (ثانيهما) في أن نفقة العبد في
مدة الإجارة بعد انعتاقه على المؤجر أو على المستأجر أو على العبد أو على بيت المال
أو على المكلفين كفاية.
أما المقام الأول: فحيث إن الشبهة فيه عقلية وليس منشأ الاشكال في صحة
العتق والإجارة دخل شئ فيهما شرعا. فلا معنى للتمسك بالعمومات والاطلاقات
لنفوذهما كما في الجواهر (1)، وعمدة المحذور عقلا ما تقدم في أوائل كتاب الإجارة
من تبعية ملك المنفعة لملك العين (2)، وكما لا تصح الإجارة لمصادفتها لزمان الحرية
فلا تبعية. كذلك لا يصح العتق لسبق الإجارة بوجه صحيح فلا يبقى مجال للعتق،
لأنه موجب لتفكيك الملزوم عن لازمه. وقد تقدم أن ملكية العين ملكية مرسلة لا
موقتة كما في الوقف. وملكية العين كذلك تستلزم ملك المنفعة الأبدية أيضا ملكية
مرسلة لا موقتة، فلم يبق مجال للاشكال إلا بناء على أن المعدوم لا يملك، فملكية
المنفعة في كل زمان مقارنة للمنفعة في ذلك الزمان. ومن البين أنه في زمان
الانعتاق لا ملك للمؤجر، بل يملكها نفس العبد المنعتق كسائر الأحرار. وقد تقدم
غير مرة دفعه من اعتبارية الملكية وتقدير وجود المنافع الآتية وعلى أي حال فتوهم
رجوع العبد بأجرة مثل عمله إلى مولاه باطل. فإن عمله إن كان مملوكا لمولاه فلا
معنى لرجوعه إلى الغير فيما يملكه الغير، وإن كان مملوكا لنفسه فالإجارة الواقعة من
مولاه فضولية قابلة للرد والإجارة، ولا يعقل التفويت من مولاه بالإجارة المنوطة
بإجازته، فلا يعقل عنوان الرجوع إلى أجرة مثل عمله.
وأما المقام الثاني: فالكلام تارة في بطلان الإجارة في مقدار من الزمان

(1) جواهر الكلام: ج 27، ص 332.
(2) ص 11.
295

الواجب على العبد تحصيل نفقته مع عدم وجوبها على مولاه، لانقطاع علاقة الملكية
الموجبة للنفقة وعدم وجوبها على المستأجر، لعدم الموجب لها رأسا مع فرض عدم مال
للعبد ليتقوت به ويحفظ به حياته، فلا بد من التكسب عليه. وهو لا يجتمع مع صحة
الإجارة في جميع الأوقات، وأخرى بعد صحة الإجارة حتى من هذه الجهة فنقول:
أما صحة الإجارة مطلقا فمنشأ بطلانها في خصوص زمان التكسب لتحصيل
النفقة. إما منافاة وجوب التكسب لمالكية المولى لهذه المنفعة في هذا الزمان فلا
يملك حتى يملك، وإما منافاته للقدرة على التسليم المشروطة بها صحة الإجارة
المطلقة.
وتندفع الأولى بأن عدم تمكن المولى من بذل النفقة أو امتناعه عن بذلها لا
يوجب خروج منفعة العبد عن ملكه، بل يجب عليه مع عدم مال آخر بذل منفعة
العبد له من باب ايصال النفقة إليه، ومع الامتناع يجب على العبد استيفاء المنفعة
المملوكة لمولاه لتدارك نفقته، كما في المضطر إلى أكل مال الغير، فإن الاضطرار
والوجوب على الطرفين لا يوجب خروج المال عن ملك صاحبه. فيعلم مما ذكرنا أن
هذه المنفعة في هذا الزمان أيضا مملوكة لصاحبها، فله تمليكها للغير واقعا.
وتندفع الثانية بأن القدرة على التسليم والتسلم لا تنافي وجوب بذل المال
المقبوض للمستأجر. فهذه المنفعة المقبوضة بقبض العين حدوثا وبابقائها تحت يده
بقاء يجب على المستأجر بذلها في هذا الزمان، كما إذا آجره الدار في مدة واضطر
مسلم إلى سكناها في بعض المدة، فإنه لا منافاة بين صحة الإجارة ووجوب بذل
السكنى للمضطر. ولا يتوهم أحد أن الاضطرار أو الوجوب مناف لصحة الإجارة أو
مساوق لعدم قدرة المستأجر على تسلم المنفعة.
وأما تعيين من تجب عليه النفقة بعد صحة الإجارة من جميع الوجوه، فمختصر
القول فيه إما على المستأجر فلا موجب له بعد عدم الاشتراط عليه وعدم عادة مستمرة
وعدم كونه من الأجير المنفذ في حوائجه. وإما على المؤجر فلضعف ما قيل في وجوبها
عليه من أنه كالباقي على ملكه لوصول عوض نفقته إليه في هذه المدة، فإنه في قوة
296

تنزيل غير المالك منزلة المالك في وجوب نفقة المملوك عليه. وهو محتاج إلى الدليل
بعد زوال علاقة الملكية المقتضية لوجوب النفقة.
وإما على العبد فما قيل في وجوبها عليه أمران:
أحدهما أن تسليم العمل إلى المستأجر واجب عليه، لا لوجوب الوفاء لأنه ليس
طرفا للعقد بل لأن منفعته مملوكة للغير. وأداء ما يستحقه واجب. وهو يتوقف على
تحصيل النفقة بمقدماته، ومنها التكسب في مقدار من زمان الإجارة، وحيث إن
المقدمة محرمة لأنها مملوكة للغير فلا معنى لاستيفاء مال من الغير لايصال ماله الآخر
إليه.
ثانيهما: أنه يجب عليه حفظ حياته بالتكسب في زمان، فإنه مقدم على كل
حق. وتشتغل ذمته بعوضه للمستأجر، كما في غيره من موارد الاضطرار إلى
التصرف في مال الغير.
وفيه: أن حفظ حياته بمال الغير فيما إذا لم يتمكن من تحصيل نفقته ولو
بالاستدانة من الغير، ومع فرض عدم التمكن يجب عليه تحصيله من بيت المال المعد
لمصالح المسلمين ومعه لا اضطرار يسوغ التصرف في مال الغير، بل مع عدم بيت
المال أيضا، حيث إنه يجب على المسلمين كفاية. نعم مع عدم قيام أحد بمؤنته يسوغ
له التصرف في ما يملكه المستأجر من منافعه من دون تعين له أيضا، فإنه أحد أفراد
المال الذي لا يملكه. ومنه تعرف أنه إذا لم تجب النفقة على المؤجر كانت نفقته ابتداء
في بيت المال ثم على الناس كفاية ثم على العبد بالتصرف في مال الغير.
نعم الأوجه أن نفقته على المؤجر من حيث وجوب تسليم المنفعة حدوثا وبقاء،
وتسليمها باقباض العين حدوثا وبإدامة العين بحيث يمكن الانتفاع بها على الوجه
المقصود. ولذا تجب عليه نفقة دابته من هذه الحيثية، وتجب عليه عمارة داره إذا
خربت في مدة الإجارة، فكذا هنا، فإن إدامة العبد تحت يده بحفظ حياته الذي هو
مساوق لحفظ العين المستأجرة للانتفاع بها.
الثالثة عشرة: قال " قدس سره " في الشرايع: إذا آجر الوصي صبيا مدة يعلم
297

بلوغه فيها بطلت في المتيقن.. الخ (1).
ينبغي تنقيح الكلام في مقامين: (أحدهما) في إجارة ما يملكه من الدار والعقار
ونحوهما. (ثانيهما) في إجارة نفسه وتمليك منافع بدنه.
أما المقام الأول: فالمانع من إجارة أمواله حتى ما بعد بلوغه هو أن المنافع
المصادفة لزمان بلوغه مما يملكه الكبير، ولا ولاية للولي إلا على ما يملكه الصغير.
ويندفع بما مر مرارا من أن المنافع المستقبلة للدار ونحوها مملوكة لمالك العين
فعلا، وإنما المتأخر ذات المملوك لا أن الملكية لتدرجية المنافع لا بد من أن تكون
مقارنة لها، لئلا يلزم ملك المعدوم كما توهم. وعليه فتصرف الولي إنما هو فيما يملكه
الصغير لا فيما يملكه في زمان كبره. والمفروض أو الولي له ولاية التصرف في كل ما
يملكه الصغير فعلا، فمقتضى القاعدة نفوذ تصرفه مطلقا وإن كان بتمليك المنافع
المصادقة بذاتها لزمان البلوغ، إلا أن يقال بمناسبة الحكم والموضوع أن جعل الولي
للصبي لئلا يفوت عليه ما يتعلق بنفسه وبماله من المصالح في صغره، والمصلحة
الرجعة إلى منافع أملاكه في زمان كبره لا تفوت بترك إجارة الولي، بل قابلة لأن
يستوفيها الصغير بعد كبره، فلا مقتضي للولاية على مثل هذا التصرف، ولا ينتقض
بولاية متولي الوقف حيث تنفذ تصرفاته على البطون المتأخرة المصادفة لما بعد حياته
وعدم ولايته عليهم، لما ذكرنا في أوائل كتاب الإجارة من أنه ليس من باب الولاية
على البطون، فإن البطن المعدوم كالبطن الموجود، فكما لا ولاية له على البطن
الموجود كذلك على البطن المعدوم، بل من باب الولاية على العين الموقوفة بمنافعها.
وأن ولاية التصرف فيها عينا ومنفعة راجع إليه. ولا يتلقى البطن المعدوم ملك
المنفعة من الواقف إلا كتلقي البطن الموجود ملكا مسلوب الولاية على التصرف فيه،
وإلا فليس للواقف الولاية على البطون الموجودة والمعدومة، فراجع ما قدمناه.
ومما ذكرنا أولا في وجه التعميم من كونه تمليكا لما يملكه الصغير فعلا يتضح

(1) شرايع الإسلام: كتاب الإجارة المسألة العاشرة.
298

الفرق بين ما نحن فيه وبين إجارة البطن السابق زائدا على مدة حياته، فإنه لا يملك
منفعة العين الموقوفة ملكية مرسلة بل ملكية موقتة بحياته. نعم إذا قيل بأن كل طبقة
تملك العين والمنفعة ملكية مرسلة، وأنه تنتقل هذه الملكية المرسلة منهم إلى الطبقة
المتأخرة نظير انتقال الملك إلى الوارث، غاية الأمر أنه هناك بجعل الشارع وهنا
بجعل الواقف، أمكن القول بنفوذ الإجارة مطلقا، إلا أن المبنى غير صحيح كما قدمنا
القول فيه في أوائل مباحث الإجارة.
وأما المقام الثاني: فتحقيق القول فيه أن الحر لا يملك منافع بدنه على حد ملك
المولى لمنافع عبده، بل من حيث السلطنة على نفسه كما له السلطنة على تمليك كلي
عينا أو عملا بتعهده في ذمته كذلك له السلطنة على تمليك منافعه، والولي قائم
مقام الصغير في هذه السلطنة، فله السلطنة على تمليك منافع الصغير، وأما المنافع
المصادفة لزمان كبره فهي منافع الكبير، والمفروض عدم السلطنة للولي إلا على
الصغير ومنافعه لا على الكبير ومنافعه، وهذا هو الوجه في المنع. لا أن المنافع الآتية
ليست أموالا فعلية للصغير. فإن نظر المانع إن كان إلى عدم كونها مملوكة للصغير
فالمنافع التي تصادف زمان صغره أيضا غير مملوكة له، وإن كان إلى عدم ماليتها إلا
في ظرف وجودها. فإن الملكية تتقدم على ذات المملوك والمالية منتزعة من ذات
المنفعة فلا تتقدم عليه، ففيه أن المنافع المصادفة لزمان صغره أيضا كذلك مع أنه
يصح تمليكها، فالوجه ما ذكرنا من عدم السلطنة على تمليك منافع الكبير، ولا
يعقل أن تكون المنافع الآتية منافع الصغير. فتدبره فإنه حقيق به.
إلا أن يقال إن الصغر لو لم يكن مانعا شرعا لكان للصغير فعلا تمليك جميع
منافعه المصادفة لزمان صغره وكبره. والشارع لمكان مانعية الصغر في نظره جعل هذه
السلطنة لوليه، وحينئذ فيجاب عنه بما أجبنا به في إجارة أملاكه من عدم المقتضي
للولاية المطلقة. ولا ينتقض بالنكاح المنقطع زائدا على مدة صغرها نظرا إلى ما ورد
من أنهن مستأجرات، فمرجعه إلى تمليك المنافع المصادفة لزمان كبرها فإن النكاح
مغاير للتمليك.
299

ونظير هذه العبارة ورد في الدائم أيضا كقولهم عليهم السلام: " قد اشتراها
بأغلى الثمن ". فالزوجية مرسلة كانت أو موقتة متعلقة بشخصها لا بمنافعها.
والمفروض أن الولي له السلطنة على تزويج الصغيرة. وليس التزويج كالتمليك
المتعلق بالمنافع بحيث ينحل إلى تزويجات كانحلال التمليك إلى تمليكات لئلا يكون
للولي السلطنة على بعض ما ينحل إليه التزويج المنقطع، كما ليس له السلطنة على
ما ينحل إليه التمليك بالنسبة إلى زمان الكبر، بل الزوجية الحادثة بالعقد زوجية
واحدة شخصا لا نوعا أولا وآخرا. فتدبر جيدا.
الرابعة عشرة: قال " قدس سره " في الشرايع: إذا تسلم أجيرا ليعمل له عملا
فهلك لم يضمنه.. الخ (1).
الكلام تارة في الحر صغيرا كان أو كبيرا وأخرى في العبد. أما الكلام في الحر
فهو خارج عن مورد الضمان الغرامي إتلافا وتلفا.
وأما الأول: فلأن موضوع قاعدة الاتلاف مال الغير، والحر لا مال ولا مضاف
إلى الغير. نعم اتلافه أو اتلاف طرف منه له ديات مقررة شرعا.
وأما الثاني: فلأن التلف تحت اليد لا يتصور في الحر، لا لأن الحر لا يدخل
تحت اليد، لما مر مرارا من أن دخول الإنسان تحت استيلاء أحد لا فرق فيه بين
كونه مضافا إلى غيره بإضافة الملكية وعدمه. نعم الاستيلاء عليه بالإضافة إلى نفسه
لا أثر له شرعا، وإنما له الأثر بالإضافة إلى منافعه، فإن الاستيلاء عليه واسطة في
ثبوت الاستيلاء على منافعه وفوات المنافع تحت يده يوجب الضمان، وإلا فلا يعقل
الاستيلاء على منافعه استقلالا، بل الأمر كذلك حتى في المنافع المملوكة للغير، فإنه
لا شبهة في كونها مضمونة، مع أنه لا استيلاء عليها استقلالا بل يتبع الاستيلاء على
العين. وبالجملة لا نقول بضمان اليد في الحر، لكنه لا لعدم اليد بل لأن اليد
المضمنة بلحاظ غايتها لا تعم الاستيلاء على الحر، فإنه لا تأدية له، فالغاية تدل على

(1) شرايع الإسلام: كتاب الإجارة المسألة الحادية عشرة.
300

اختصاص اليد بما كان مضافا إلى غيره وكان أدائيا. وما ذكرنا في إتلاف الحر
وتلفه لا اختصاص له بالبالغ العاقل بل يعم الصغير والمجنون. نعم في الاتلاف الموجب
للدية المقررة ربما يحصل الفرق بين الصغير والكبير والعاقل والمجنون، من حيث قوة
المباشر تارة وضعفه أخرى، وهو غير ما نحن فيه. وأما الكلام في العبد فحاله حال
الدابة في أن تلفها حال الإجارة وفي أثنائها غير موجب للضمان، لأن المفروض أن
العين أمانة مالكية بالمعنى الأعم، ولا ضمان إلا مع التعدي والتفريط الموجب
لخروج اليد عن كونها مأذونة. وأما بعد انقضاء الإجارة فكون العين باقية على كونها
أمانة مالكية أو تكون أمانة شرعية أو مضمونة. فقد قدمنا الكلام فيه في أوائل
مباحث الإجارة مفصلا والمختار هناك الوجه الأول. فراجع وتدبر.
الخامسة عشرة: قال " قدس سره " في الشرايع: إذا دفع سلعة إلى غيره ليعمل
فيها عملا.. الخ (1).
توضيح المقام أن دفع السلعة للعمل أو الأمر بالعمل أو الإذن في العمل
وأشباهها، تارة بقصد التسبب بتلك الأفعال إلى الاستيجار وتملك منفعة الغير أو
عمله بالأجرة، وأخرى لا بذلك القصد بل لمجرد استيفاء العمل منه لا مجانا كأكل
مال الغير بالضمان، فإن كان من قبيل الأول فهي إجارة معاطاتية صحيحة إذا
استجمعت الشرائط وإلا فهي باطلة. وقد مر أنه في كل موضع تبطل فيه الإجارة
تثبت أجرة المثل مع استيفاء العمل أو المنفعة، وإن كان من قبيل الثاني، فقد تقدم
في البحث عن كراهة استعمال الأجير قبل أن يقاطعه على الأجرة أن السيرة قائمة
على مثله، وليس مثله سببا معامليا يتوقف على دليل على مشروعيته، فإنه من أحد
الطرفين استعمال عن رضى، ومن الآخر عمل عن رضى لا بقصد التبرع،
وبضميمة احترام مال المسلم عينا كان أو منفعة أو عملا يثبت العوض أو أجرة
المثل، ومن البين أن دفع السلعة ليعمل فيه أو طلب البناء للبناء أو الجلوس بين

(1) شرايع الإسلام: كتاب الإجارة المسألة الحادية عشرة.
301

يدي الحلاق لحلق رأسه وأشباهها أمور متداولة، تمام حقيقتها استيفاء العمل
بعوض لا تملك العمل بعوض، فلا مجال للتشكيك في الضمان بمجرد عدم صدق
الاتلاف، فإنه يكفي استيفاء مال محترم من المسلم في عدم ذهابه هدرا.
وأما ما ذكره في الشرايع من الشقين وهما كون العامل تارة من عادته العمل
بالأجرة وأخرى عدم كونه كذلك (1)، فلا أثر له في أصل استحقاق الأجرة
بالعمل، بل من حيث كون العادة المزبورة بمنزلة القرينة النوعية على أنه عمل بقصد
الأجرة لا متبرعا، بخلاف العمل من غير المعتاد، فإنه يحتمل منه قصد التبرع بلا
قرينة على عدمه، إلا أن قوله معتبر من حيث إنه أبصر بنيته ولا يعرف إلا من قبله.
كما أن ما أفاده " رحمه الله " من عدم استحقاق الأجرة إذا لم يكن للعمل أجرة
عادة ليس المراد منه عدم مالية العمل، فإنه من باب السالبة بانتفاء الموضوع بل
المراد أن العمل وإن كان في نفسه متمولا لكنه لم تجر العادة على أخذ الأجرة
عليه كالاستيداع فإن الاستيداع بطبعه لا يقع إلا من باب الاحسان وإن كان حفظ
مال الغير قابلا للاستيجار عليه. إلا أن الالتزام بعدم استحقاق الأجرة لجريان
العادة على التبرع بمثله مشكل فإنه لا يسقط احترام مال المسلم بجريان العادة على
التبرع به مع عدم تبرع شخص العامل به. ومقام التنازع في قصد الأجرة وعدمه
مقام آخر من حيث إن جريان العادة على التبرع في مثله قرينة على التبرع.
ومن حيث إنه أعرف بقصده وهو الأوجه، لأن استحقاق الأجرة متقوم
بأمرين أحدهما كون العمل محترما والثاني عدم قصد التبرع لا قصد الأجرة حتى
يقال بعدم مطابقة دعواه للأصل. وعليه فالقول قول العامل. إلا أن تكون القرينة
العادية موجبة لظهور حال العامل في التبرع فإنه حاكم على الأصل فيكون قوله
مخالفا للظاهر المعتبر شرعا. فالقول حينئذ قول المستوفي لعمله. والله أعلم.
السادسة عشرة: قال " قدس سره " في الشرايع: كل ما يتوقف عليه توفية

(1) شرايع الإسلام: ج 2، ص 188، المسألة الثانية عشرة.
302

المنفعة.. الخ (1).
تنقيح المقام أن لا اقتضائية عقد الإجارة مما عدا ملك المنفعة مما لا اشكال
فيه، إلا أن الموجب للمقدمات المتوقف عليها استيفاء العمل أو المنفعة دعوى
وجوب تسليم العمل وتسليم المنفعة، فتجب مقدماتهما على من يجب عليه ذوها.
والتحقيق أن الكلام في مقامين: أحدهما في مقدمات العمل، وثانيهما في
مقدمات تسليم المنفعة.
أما المقام الأول: فنقول: العمل تارة كالصلاة المشروطة بالطهارة والتستر
ونحوهما المتوقفة على تحصيل الماء والساتر ونحوهما. فهذا العمل الخاص إذا كان
واجبا بعقد الإجارة تجب مقدماته، وأخرى كالخياطة والكتابة وهي تنحل إلى هيئة
ومادة. فهيئة الخياطة هي الهيئة الاتصالية بين بعض أجزاء الثوب وبعضها الآخر،
ومادتها المتقومة بها الهيئة هو الثوب والخيوط وكذا الكتابة هيئة نقش خاص وهي
حالة في القرطاس بمداد.
ومن البين بعد التأمل أن العمل المستأجر عليه نفس ايجاد الهيئة وهو الذي
يستحقه المستأجر من الأجير، ومقدمات ايجاد الهيئة بما هو ايجاد الهيئة ما هو الدخيل
في صدوره لا ما هو الدخيل في حلوله. فمثل آلات الخياطة من الأبرة ونحوها من
مقدمات الصدور، ومثل الخيط كالثوب من مقدمات الحلول فهما من مقدمات
تسلم الهيئة لا من مقدمات اصدارها. وما ذكرنا ليس تفصيلا في مقدمات
الواجب المطلق بل من باب نفي مقدمية الثوب والخيط لما هو الواجب على الأجير،
ومثله آلات البناء ومقدمة صدور العمل والتركيب الخاص على العامل.
وأما ما يتقوم به التأليف والتركيب وبمنزلة المادة للهيئة فهو على المستأجر
كالآجر والجص ونحوهما. هذا هو القول الكلي من حيث اقتضاء المقدمية ولكنه ربما
تكون العادة جارية على كون بعض مقدمات الحلول على العامل كالخيط في الخياطة

(1) شرايع الإسلام: كتاب الإجارة المسألة الثالثة عشرة.
303

والمداد في الكتابة فإذا كانت مستقرة عليه ولو في عصر ومصر فهي متبعة وبمنزلة
الالتزام الضمني في المعاملة لا باقتضاء الإجارة ولا باقتضاء وجوب مقدمة العمل
الواجب.
وأما المقام الثاني: فنقول: قد مر مرارا أن تسليم المنفعة بتسليم العين وإدامتها
تحت يد المستأجر على نحو يمكن استيفاء المنفعة المقصودة منها، فكما يجب تسليم الدار
فارغة حتى يتمكن من الانتفاع بها كذلك يجب تسليم ما هو اللازم للانتفاع
بسكانها من بيت الخلاء والبالوعة فارغتين ليمكن استيفاء المنفعة منهما، وكما أنه من
لوازم سكنى الدار أن يكون لها باب، فلا بد من وضع الباب لو لم يكن لها باب أو
تجديده إن فرض تلفه، كذلك بحسب العادة يحتاج الباب إلى المفتاح، فلا بد من
تسليمه ابتداء وتجديده إن فرض ضياعه وتلفه، حيث عرفت سابقا أنه لا فرق بين
الحدوث والبقاء في تمكين المستأجر من استيفاء المنفعة.
وأما حديث لزوم المحمل والكجاوة على المكاري أو على المستأجر فهو تابع
لكيفية الإجارة، فإن استأجر بغلا مثلا لحمل المحمل والكجاوة عليه فهما على
المستأجر، وإن تملك منفعة ركوب المحمل والكجاوة فهما على المكاري.
وأما تنقية بيت الخلاء والبالوعة بعد انتهاء مدة الإجارة فليست على المستأجر، لأن
امتلائهما من لوازم استيفاء المنفعة، كتلف بعض أجزاء الدار من كثرة الاستعمال
العادي، فإنه من لوازم الاستيفاء الذي يستحقه المستأجر. وأما الرماد الحاصل من
الطبخ فهو ليس من لوازم الانتفاع بالمطبخ، فإن لازمه وإن كان تسويد المطبخ فلا
يجب تبييضه، إلا أنه ليس لازم الانتفاع بالمطبخ جمع الرماد فيه، كما هو لازم
الانتفاع بالبلوعة وبيت الخلاء، فالأظهر أن أمثال الرماد والكناسات كلها على
المستأجر. والله أعلم بأحكامه.
السابعة عشرة: في التنازع وفيه فروع: (الأول) إذا اختلفا في أصل وقوع
الإجارة، فإن كان قبل استيفاء المنفعة فلا شبهة في أن القول قول المنكر سواء كان هو
المالك أم طرفه، وإن كان بعد الاستيفاء المقتضي لأجرة المثل لولا الإجارة فطبع
304

المسألة يقتضي أن يكون المالك منكرا لها مع زيادة أجرة المثل على المسماة، وأن
يكون المتصرف منكرا مع زيادة الأجرة المسماة على أجرة المثل، وحينئذ يصح ما
أفاده في الشرايع من أن القول قول المنكر بيمينه (1). فما أفاده بعض الأعلام
" رحمه الله " (2) هنا من المناقشة في يمين المنكر في بعض الصور، مجرد فرض خارج
عما يقتضيه طبع المسألة.
(الثاني) إذا اختلفا في قدر ما وقع عليه عقد الإجارة سواء كان النزاع في طرف
المنفعة أم في طرف الأجرة فالمعروف أن القول قول منكر الزيادة، وقيل المنفعة وإنه
من باب التداعي. ومبنى المسألة على أن مورد العقد معوضا كان أو عوضا. هل
لوحظ بشرط لا كما تقتضيه مراتب الكسور والأعداد، فالنصف مثلا بشرط لا في
قبال الكل، والخمسة بشرط لا في قبال الستة والسبعة مثلا، أو أن مورد العقد لا
بشرط، فالأقل معوضا كان أو عوضا متيقن والزائد مشكوك فيه. والحق هو الثاني.
لما تقدم من أن بشرط لائية مراتب الأعداد كالكسور إنما هي بالإضافة إلى أنفسها
لا بالنسبة إلى الحكم المرتب عليها. والمراد من لا بشرطية المورد إنه مملوك بالعقد من
دون دخل شئ في مملوكيته وجودا وعدما، وليس الاطلاق اللا بشرطي جمعا بين
القيود حتى ينافي إنكار الزائد، بل رفض للقيود وجودا وعدما.
(الثالث) إذا اختلفا في رد العين المستأجرة فالمعروف فيها أن القول قول المالك
كما هو مقتضى الأصل، وهو المعروف في رد العين المرهونة وفي رد العارية ورد مال
المضاربة ورد ما بيد الوكيل، مع أن دعوى التلف مسموعة من الكل ويقبل قول
مدعيه بيمينه، وليس ذلك إلا لكونه أمينا للمالك، وكما أن عدم تصديقه في دعوى
التلف يندرج تحت عنوان اتهام المؤتمن. وقد ورد " أنه لا تتهم من ائتمنته "، فكذا

(1) لا يخفى: أن ما في الشرايع هكذا: " فالقول قول المالك " ومنشأ نسبة المحقق الأصفهاني هذا القول
إلى الشرايع هو المحقق الرشتي في كتاب الإجارة، حيث قال: " فالقول قول منكرها مع يمينه ".
(2) راجع كتاب الإجارة للرشتي ص 355 في ذيل الفصل الرابع في التنازع.
305

عدم تصديقه في الرد. ودعوى أن الاتهام الممنوع في المؤتمن بالتأمين العقدي وهي
الوديعة بلا دليل، مع صدق الائتمان في الموارد المذكورة لقوله عليه السلام:
" صاحب العارية مؤتمن وصاحب البضاعة مؤتمن " (1) وإلا فلا وجه لعدم تضمينه
بالتلف ولا لقبول قوله في التلف. نعم فيما نحن فيه يبتني قبول قوله على كون العين
بعد انقضاء مدة الإجارة أمانة مالكية. وقد مر سابقا (2) تقويته. فالانصاف إنه لو
لم يكن اجماع في المسألة كما أن المظنون عدمه لكان القول بأن دعوى الرد كدعوى
التلف في جميع الموارد المذكورة في غاية الوجاهة.
(الرابع) إذا اختلف المستأجر والأجير في تلف ما بيد الأجير من المتاع فهل
يكلف الأجير بإقامة البينة لأنه مدع، أو يستحلف لأنه أمين؟ قد تقدم في المسألة
السابقة أن الأصل الذي أسسه أمير المؤمنين عليه السلام من باب الاحتياط على
أمتعة الناس (3)، وليس من باب تضمين الأجير لما يتلف في يده على خلاف قاعدة:
الأمانة بالمعنى الأعم، بل تأسيس أصل في باب دعوى التلف، وأن المتهم يضمن
لولا أحد الأمرين من إقامة البينة، كما هو مقتضى الأصل الأولي ومقتضى جملة
أخبار الباب، أو الحلف كما هو مقتضى الأصل الثانوي في باب الأمانة ومقتضى جملة
أخرى من أخبار الباب. ويمكن أن يقال إن مقتضى الاحتياط على أمتعة الناس
بصفة مؤنة دعوى التلف صحة مطالبة البينة من مدعي التلف، كما أنه يجوز
الاقتصار على التحليف، كما في غيره من موارد الأمانة، وإلا فتعين الحلف ليس
احتياطا على أمتعة الناس، كما أن جواز الاقتصار على الحلف لا ينافي جواز مطالبة
البينة، كما أن التفضل على الأجير المأمون بعدم تحليفه فضلا عن مطالبة البينة منه
لا ينافي جواز كل منهما. ويؤيد ما ذكرنا من جواز كلا الأمرين لخصوصية في المقام
ما في خبر أبي بصير " لا يضمن الصائغ ولا القصار ولا الحائك إلا أن يكونوا

(1) الوسائل: ج 13، باب 1 من أبواب أحكام العارية، ح 6.
(2) الوسائل: ج 13، باب 29 من أبواب أحكام الإجارة.
(3) الوسائل: ج 13، باب 29 من أبواب أحكام الإجارة.
306

متهمين فيخوف بالبينة والتحليف لعله يستخرج منه شيئا " فإن ظاهره جواز كل
من مطالبة البينة والاستحلاف.
(الخامس) لو قطع الخياط قباء فقال المالك أمرتك بقطعه قميصا إلى آخر ما أفاد في
الشرايع (2). والظاهر أن النزاع في الأمر المحقق لاستيفاء العمل لا بنحو يتسبب به إلى
الاستيجار وتملك المنفعة، فإنه على الثاني من التداعي، لتباين قطع القباء وقطع
القيمص، بخلاف الأول، فإن قطع القميص لم يتحقق ليكون استيفاء من المالك
بالأمر، فلا نزاع إلا في استيفاء قطع القباء من المالك وعدمه، وحيث إن الثاني
مطابق للأصل فالقول قول المالك، وحيث لم يتحقق منه ما يوجب استيفاء عمل
الخياط فليس له أجرة المثل على عمله، بل يضمن أرش الثوب لأنه تصرف غير
مأذون فيه.
وليكن هذا آخر ما قصدنا تحريره في باب الإجارة. والحمد لله أولا وآخرا
والصلاة على نبينا محمد وآله باطنا وظاهرا في السادس من شهر جمادي الآخرة
1358 ه‍ بيد العبد الجاني محمد حسين الغروي الأصفهاني عفي عنه.

(1) الوسائل: ج 13، باب 29 من أبواب أحكام الإجارة، ح 11، ص 274.
(2) شرايع الإسلام: كتاب الإجارة، في ذيل الفصل الرابع في التنازع.
307