الكتاب: مسائل فقهية
المؤلف: السيد شرف الدين
الجزء:
الوفاة: ١٣٧٧
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع: ١٤٠٧ - ١٩٨٧ م
المطبعة: سبهر - طهران
الناشر: معاونية العلاقات الدولية في منظمة الإعلام الإسلامي - طهران
ردمك:
ملاحظات:

بسم الله الرحمن الرحيم
1

الإمام عبد الحسين شرف الدين الموسوي
قدس الله سره
[مسائل فقهية]
منظمة الإعلام الاسلامي
معاونية الرئاسة للعلاقات الدولية
(267)
3

الكتاب: مسائل فقهية.
المؤلف: الإمام الراحل المرحوم السيد عبد الحسين شرف الدين
الناشر: معاونية العلاقات الدولية في منظمة الإعلام الاسلامي
الجمهورية الإسلامية في إيران - طهران ص. ب / 1313 / 14155.
المطبعة: سبهر - طهران
التاريخ: 1407 ه‍. ق / 1987 م.
طبع منه: 5000 نسخة.
4

مقدمة الناشر:
المرحوم العلامة السيد شرف الدين علم من أعلام العلم والجهاد
والوحدة الإسلامية، قضى عمره المبارك في سبيل ذلك، وقدم تراثا
علميا جهاديا وحدويا لا يمكن أن ينسى، وسيظل يخدم القضية
الإسلامية خير خدمة.
ولقد امتاز أسلوبه بالوضوح والاحترام للرأي المقابل، والدقة،
والموضوعية التامة. الأمر الذي جلب إليه قلوب الأصدقاء والأعداء
معا.
وكان له في مجال تحقيق تفاهم فقهي أكبر بين المذاهب الإسلامية
باع طويل، وتأليفات ثمينة القدر. اخترنا منها هذا الكراس القيم
- رغم صغره - متوخين نفس الأهداف السامية التي عمل لها.
فرحم الله العلامة الجليل شرف الدين، ونفع الجميع بعلمه
الغزير.
معاونية العلاقات الدولية
في منظمة الإعلام الاسلامي
5

[كلمة موجزة]
هذه مسائل فقهية مفرغة بأسلوب واضح متين، اعتمدت الحجة
القوية، وانتهجت السبيل القويم، وحسبها أنها نتيجة فكرة نيرة، ويراعة
بارعة، توفرت على النظريات العلمية الدقيقة فأسلست إليها القياد،
وأخذت بزمامها فتصرفت بها كما تريد، واتجهت بها نحو الحق والصواب
فآزرتهما، وأخذت بناصرهما، وتلك كتب سيدنا العم الأعظم سماحة
الإمام شرف الدين التي تفخر بها المكتبة العربية، أقبل عليها رواد العلم،
وطالبوا الحقيقة يتزودون بزادها العلمي النافع، ويكبرون فيها سداد الرأي
وقوة البرهان، وعظيم الانصاف، والمدافعة عن الحق.
وفي هذه المباحث القيمة ستقرأ علما صحيحا استمده من كتاب الله
وسنة رسوله فلم يستنطق غيرهما، ولم يعتمد سواهما، وستحظى بفروع من
الفقه قليلة في عددها، كثيرة في فائدتها، وإنما أدار سيدنا دام ظله بحثه على
هذا المسائل بخصوصها، وجعلها موضوع رسالته الوجيزة لأن هذه المسائل
7

الفرعية التي نقدمها إليك أيها القارئ الكريم كان الجدل فيها بارزا،
والضجيج حولها متعاليا، والحملات عنيفة، فأراد أن يخفف من حدة
المتحامل، وأن يأخذ بيد المنصف إلى الصواب، وشاء من جهة ثانية أن
يوضح أن الفرقة الجعفرية لا تختار فرعا من الفروع إلا أن تكون فيه على بينة
من أمرها، وحيطة بالغة في اختيارها، فالآية الكريمة المحكمة، والسنة
الصحيحة عليهما المعول، وإليهما المفزع، يأخذانها بالأعناق إلى ما تذهب
إليه، ولا تحيد عنهما فيما تختار.
وهذه المسائل أنموذج صحيح تعطيك صورة صادقة عن الاستنتاج الموفق
والاجتهاد المعتدل، تلمس فيها التوجيه الرفيع، فإنها لا تكترث بغير البرهان
الجلي، والحجة القويمة المستمدين من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه
وآله وسلم.
نور الدين شرف الدين
8

[الجمع بين الصلاتين]
لا خلاف - بين أهل القبلة من أهل المذاهب الإسلامية كلها - في
جواز الجمع بعرفة وقت الظهرين الفريضتين - الظهر والعصر - وهذا في
اصطلاحهم جمع تقديم، كما لا خلاف بينهم في جواز الجمع في المزدلفة
وقت العشاء بين الفريضتين (1) - المغرب والعشاء - وهذا في الاصطلاح جمع
تأخير (2) بل لا خلاف في استحباب هذين الجمعين وأنهما من السنن النبوية
وإنما اختلفوا في جواز الجمع بين الصلاتين فيما عدا هذين.
ومحل النزاع هنا إنما هو جواز الجمع بين الفريضتين بأدائهما معا في وقت
إحداهما تقديما على نحو الجمع بعرفة أو تأخيرا على نحو الجمع بالمزدلفة.

(1) إنما انعقد إجماع أهل القبلة على جواز الجمع بعرفة والمزدلفة للحجاج خاصة،
أما غيرهم فمحل خلاف.
(2) وذلك لتأخير صلاة المغرب عن وقتها وجمعها مع العشاء في وقتها، كما أن الجمع
في عرفة إنما كان جمع تقديم لتقديم صلاة العصر عن وقتها وجمعها مع الظهر في وقتها.
9

وقد صدع الأئمة من آل محمد صلى الله عليه وآله بجوازه مطلقا غير أن التفريق
أفضل، وتبعهم في هذا شيعتهم في كل عصر ومصر، فإذا هم يجمعون غالبا
بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء سفرا وحضرا لعذر أو لغير عذر،
وجمع التقديم وجمع التأخير عندهم في الجواز سواء.
أما الحنفية فمنعوا الجمع فيما عدا جمعي عرفة والمزدلفة بقول مطلق مع
توفر الصحاح الصريحة بجواز الجمع ولا سيما في السفر، لكنهم تأولوها على
صراحتها فحملوها على الجمع الصوري. وسيتضح لك بطلان ذلك قريبا
إن شاء الله تعالى.
وأما الشافعية والمالكية والحنبلية فأجازوه في السفر على خلاف بينهم
فيما عداه من الأعذار كالمطر والطين والمرض والخوف، وعلى تنازع في شروط
السفر المبيح له (1).
حجتنا التي نتعبد فيما بيننا وبين الله سبحانه في هذه المسألة وفي غيرها
إنما هي صحاحنا عن أئمتنا عليهم السلام، وقد نحتج على الجمهور بصحاحهم
لظهورها فيما نقول وحسبنا منها ما قد أخرجه الشيخان في صحيحيهما، وإليك
ما أخرجه مسلم في باب الجمع بين الصلاتين في الحضر من صحيحه
إذ قال:
حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك عن أبي الزبير عن سعيد
ابن جبير عن ابن عباس قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وآله

(1) وذلك أن منهم من اشترط سفر القربة كالحج والعمرة والغزو ونحو ذلك دون
غيره ومنهم من اشترط الإباحة دون سفر المعصية ومنهم من اشترط ضربا خاصا من
السير ومنهم من لم يشترط شيئا فأي سفر كان وبأي صفة كان يراه مبيحا للجمع،
والتفصيل في فقههم.
10

الظهر والعصر جميعا والمغرب والعشاء جميعا (1) في غير خوف ولا سفر.
(قال): وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو
ابن دينار عن أبي الشعثاء جابر بن زيد عن ابن عباس. قال: صليت مع
النبي صلى الله عليه وآله ثمانيا جميعا أظنه أخر الظهر وعجل العصر وأخر المغرب وعجل
العشاء. قال: وأنا أظن ذلك (2) ا ه‍. قلت: إن يتبعون إلا الظن وإن الظن
لا يغني من الحق شيئا.
(قال): حدثنا أبو الربيع الزهراني حدثنا حماد بن زيد عن عمرو بن
دينار عن جابر بن زيد عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وآله صلى بالمدينة
سبعا وثمانيا الظهر والعصر والمغرب والعشاء (3)
(قال): وحدثني أبو الربيع الزهراني حدثنا حماد عن الزبير بين الخريت
عن عبد الله بن شقيق قال: خطبنا ابن عباس يوما بعد العصر حتى غربت
الشمس وبدت النجوم وجعل الناس يقولون: الصلاة الصلاة قال: فجاءه
رجل من بني تميم لا يفتر ولا ينثني: الصلاة الصلاة قال: فقال ابن عباس:
أتعلمني بالسنة لا أم لك؟ ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله جمع بين الظهر
والعصر والمغرب والعشاء. قال عبد الله بن شقيق فحاك في صدري من

(1) لعلك لا تجهل أن اصطلاحهم في الجمع بين الصلاتين إنما هو إيقاعهما معا في
وقت إحداهما دون الأخرى جمع تقديم أو جمع تأخير هذا هو مراد المتقدمين منهم
والمتأخرين من عهد الصحابة إلى يومنا هذا، وهذا هو محل النزاع كما سمعته في الأصل.
(2) وهذا الحديث أخرجه أحمد بن حنبل من حديث ابن عباس ص 221 من
الجزء الأول من مسنده وفي تلك الصفحة نفسها أخرج من طريق آخر عن ابن عباس
أيضا. قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وآله في المدينة مقيما غير مسافر سبعا وثمانيا.
(3) هذا في الاصطلاح لف ونشر غير مرتب وهو جائز ولو قال صلى ثمانيا وسبعا
لكان مرتبا.
11

ذلك شئ فأتيت أبا هريرة فسألته فصدق مقالته (1).
(قال): وحدثنا ابن أبي عمر حدثنا وكيع حدثنا عمران بن حدير عن
عبد الله بن شقيق العقيلي قال: قال رجل لابن عباس: الصلاة فسكت. ثم
قال: الصلاة فسكت. ثم قال: الصلاة فسكت. فقال ابن عباس: لا أم
لك أتعلمنا بالصلاة؟! كنا نجمع بين الصلاتين على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله.
قلت: وللنسائي من طريق عمرو بن هرم عن أبي الشعثاء أن ابن
عباس صلى في البصرة الظهر والعصر ليس بينهما شئ فعل ذلك من شغل،
وفيه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله (2).
(قال مسلم): وحدثنا أحمد بن يونس وعون بن سلام جميعا عن زهير
قال ابن يونس: حدثنا زهير حدثنا أبو الزبير عن سعيد بن جبير عن ابن
عباس. قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وآله الظهر والعصر جميعا بالمدينة في غير
خوف ولا سفر (3) قال أبو الزبير: فسألت سعيدا لم فعل ذلك؟ فقال:
سألت ابن عباس كما سألتني. فقال أراد أن لا يحرج أحدا من أمته.
(قال): وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا: حدثنا أبو
معاوية، وحدثنا أبو كريب وأبو سعيد الأشج واللفظ لأبي كريب قالا

(1) من هو أن الدنيا على الله تعالى وهوان آل محمد صلى الله عليه وآله على هؤلاء أن يحوك في
صدورهم شئ من ابن عباس فيسألوا أبا هريرة وليتهم بعد تصديق أبي هريرة عملوا
بالحديث وهذا الحديث أخرجه أحمد بن حنبل أيضا عن ابن عباس في ص 251 من
الجزء الأول من مسنده.
(2) كما نقله الزرقاني في الجمع بين الصلاتين من شرح الموطأ ص 263 من جزئه
الأول.
(3) وهذا الحديث مما أخرجه مالك في باب الجمع بين الصلاتين من الموطأ،
والإمام أحمد عن ابن عباس في مسنده.
12

- يعني أبا كريب وأبا سعيد - حدثنا وكيع وأبو معاوية كلاهما عن
الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال:
جمع رسول الله صلى الله عليه وآله بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة في غير
خوف ولا مطر.
(قال): وفي حديث وكيع قال: قلت لابن عباس لم فعل ذلك؟ قال:
كيلا يحرج أمته. وفي حديث أبي معاوية قيل لابن عباس: ما أراد إلى
ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته.
(قال): وحدثنا يحيى بن حبيب الحارثي حدثنا خالد بن الحرث
حدثنا قرة بن خالد حدثنا أبو الزبير حدثنا سعيد بن جبير حدثنا ابن
عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وآله جمع بين الصلاة في سفرة سافرها في غزوة تبوك
فجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء. قال سعيد فقلت لابن عباس:
ما حمله على ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته.
(قال): حدثنا يحيى بن حبيب حدثنا خالد بن الحرث حدثنا قرة بن
خالد حدثنا أبو الزبير حدثنا عامر بن وائلة أبو الطفيل حدثنا معاذ بن
جبل. قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وآله في غزوة تبوك بين الظهر والعصر وبين
المغرب والعشاء. قال فقلت: ما حمله على ذلك؟ فقال: أراد أن لا يحرج
أمته. ا ه‍.
قلت: هذه الصحاح صريحة في أن العلة في تشريع الجمع إنما هي
التوسعة بقول مطلق على الأمة وعدم إحراجها بسبب التفريق رأفة بأهل
الأشغال وهم أكثر الناس، والحديثان الأخيران - حديث معاذ والذي
قبله - لا يختصان بموردهما - أعني السفر - إذ علة الجمع فيهما مطلقة لا
دخل فيها للسفر من حيث كونه سفرا، ولا للمرض والمطر والطين والخوف
من حيث هي هي وإنما هي كالعام يرد في مورد خاص، فلا يتخصص به
13

بل يطرد في جميع مصاديقه، ولذا ترى الإمام مسلما لم يوردهما في باب
الجمع في الحضر ليكونا أدلة من جواز الجمع بقول مطلق وهذا من فهمه
وعلمه وإنصافه.
وصحاحه - في هذا الموضوع - التي سمعتها والتي لم تسمعها كلها على
شرط البخاري، ورجال أسانيدها كلهم قد احتج البخاري بهم في
صحيحه، فما المانع له يا ترى من إيرادها بأجمعها في صحيحه؟ وما الذي
دعاه إلى الاقتصار على النزر اليسير منها؟ ولماذا لم يعقد في كتابه بابا للجمع
في الحضر ولا بابا للجمع في السفر؟ مع توفر الصحاح - على شرطه -
الواردة في الجمع، ومع أن أكثر الأئمة قائلون به في الجملة، ولماذا اختار من
أحاديث الجمع ما هو أخسها دلالة عليه؟ ولم وضعه في باب يوهم صرفه
عن معناه؟ فإني أربأ بالبخاري وأحاشيه أن يكون كالذين يحرفون الكلم
عن مواضعه، أو كالذين يكتمون الحق وهم يعلمون.
وإليك ما اختاره في هذا الموضوع، ووضعه في غير موضعه، إذ قال - في
باب تأخير الظهر إلى العصر من كتاب مواقيت الصلاة من صحيحه (1) -:
حدثنا أبو النعمان قال حدثنا حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن جابر بن

(1) تعقبه شيخ الإسلام الأنصاري عند بلوغه إلى هذا الباب من شرحه - تحفة
الباري - فقال: المناسب للحديث باب: صلاة الظهر مع العصر والمغرب مع العشاء،
ففي التعبير بما قاله تجوز وقصور إلى أن قال: وتأويل ذلك بأنه فرغ من الأولى فدخل وقت
الثانية فصلاها عقبها خلاف الظاهر، انتهى بلفظه في آخر ص 292 من الجزء الثاني من
شرحه، قال القسطلاني في ص 293 في الجزء الثاني من شرحه إرشاد الساري: وتأوله
على الجمع الصوري بأن يكون أخر الظهر إلى آخر وقتها وعجل العصر في أول وقتها
ضعيف لمخالفة الظاهر وهكذا قال أكثر علمائهم ولا سيما شارحو صحيح البخاري، كما
ستسمعه في الأصل إن شاء الله.
14

زيد عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله صلى بالمدينة سبعا وثمانيا الظهر
والعصر، والمغرب والعشاء، فقال أيوب: لعله في ليلة مطيرة، قال: عسى.
قلت: إن يتبعون إلا الظن.
وأخرج في باب وقت المغرب عن آدم قال: حدثنا شعبة قال: حدثنا
عمرو بن دينار قال: سمعت جابر بن زيد عن ابن عباس قال: صلى
النبي صلى الله عليه وآله سبعا جميعا وثمانيا جميعا.
وأرسل في باب " ذكر العشاء والعتمة " عن ابن عمر وأبي أيوب وابن
عباس أن النبي صلى الله عليه وآله صلى المغرب والعشاء - يعني جمعهما - في وقت
إحداهما دون الأخرى.
وهذا النزر اليسير من الجم الكثير من صحاح الجمع كاف في الدلالة
على ما نقول كما لا يخفى، ويؤيده ما عن ابن مسعود إذ قال: جمع
النبي صلى الله عليه وآله - يعني في المدينة - بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء
فقيل له في ذلك فقال: صنعت هذا لئلا تحرج أمتي. أخرجه الطبراني (1).
والمأثور عن عبد الله بن عمر (2) إذ قيل له: لم ترى النبي صلى الله عليه وآله جمع بين
الظهر والعصر والمغرب والعشاء مقيما غير مسافر، أنه أجاب بقوله: فعل
ذلك لئلا تحرج أمته.
وبالجملة فإن علماء الجمهور كافة ممن يقول بجواز الجمع وممن لا يقول
به متصافقون على صحة هذه الأحاديث وظهورها فيما نقول من الجواز

(1) كما في أواخر ص 263 من الجزء الأول من شرح الموطأ للزرقاني قال: وإرادة
نفي الحرج تقدح في حمله على الجمع الصوري لأن القصد إليه لا يخلو من حرج.
(2) في حديث تجده في صفحة 242 من الجزء الرابع من كنز العمال عدده في تلك
الصفحة 5078 مسندا إلى عبد الله.
15

مطلقا، فراجع ما شئت مما علقوه عليها يتضح لك ذلك (1) نعم تأولوها حملا
لها على مذاهبهم، وكانوا في تأولها على غمة وفي ليل من الحيرة مظلم،
وحسبك ما نقله النووي عنهم في تعليقه على هذه الأحاديث من شرحه
لصحيح مسلم. إذ قال - بعد اعتبارها ظاهرة في الجمع حضرا -: وللعلماء
فيها تأويلات ومذاهب، فمنهم من تأولها على أنه جمع لعذر المطر.
(قال): وهذا مشهور عن جماعة من كبار المتقدمين (2).
(قال): وهو ضعيف بالرواية الثانية عن ابن عباس من غير خوف ولا
مطر (3).
(قال): ومنهم من تأولها على أنه كان في غيم فصلى الظهر ثم انكشف
الغيم وظهر أن وقت العصر دخل فصلاها فيه (3).
(قال): وهذا أيضا باطل لأنه إن كان فيه أدنى احتمال في الظهر
والعصر فلا احتمال فيه في المغرب والعشاء.
(قال): ومنهم من تأولها على تأخير الأولى إلى آخر وقتها فصلاها فيه فلما

(1) وحسبك تعليق النووي في شرحه لصحيح مسلم والزرقاني في شرحه لموطأ مالك
والعسقلاني والقسطلاني وزكريا الأنصاري في شروحهم لصحيح البخاري وسائر من
علق على أي كتاب من كتب السنن يشتمل على حديث ابن عباس في الجمع بين
الصلاتين حيث صححوه بكل طرقه التي نقلناها عن صحيحي مسلم والبخاري
واستظهروا منها جواز الجمع في الحضر لمجرد وقاية الأمة من الحرج، وما أدري والله ما
الذي حملهم على الإعراض عنها، ولعل هذا من حظ أهل البيت عندهم.
(2) كالإمامين مالك والشافعي وجماعة من أهل المدينة.
(3) على أنه بعيد عن اللفظ غاية البعد ولا قرينة عليه.
(3) هذا خرص ومجازفة ورجم بالغيب.
16

فرغ منها دخل وقت العصر فصلاها فيه فصار جمعه للصلاتين صوريا (1).
(قال): وهذا ضعيف أيضا أو باطل لأنه مخالف للظاهر مخالفة
لا تحتمل.
(قال): وفعل ابن عباس حين خطب فناداه الناس الصلاة الصلاة!
وعدم مبالاته بهم واستدلاله بالحديث لتصويب فعله بتأخيره صلاة المغرب
إلى وقت العشاء وجمعهما جميعا في وقت الثانية وتصديق أبي هريرة له وعدم
إنكاره صريح في رد هذا التأويل.
قلت: ورده ابن عبد البر والخطابي وغيرهما بأن الجمع رخصة فلو كان
صوريا لكان أعظم ضيقا من الاتيان بكل صلاة في وقتها لأن أوائل
الأوقات وأواخرها مما لا يدركه أكثر الخاصة فضلا عن العامة (قالوا) ومن
الدليل على أن الجمع رخصة قول ابن عباس: أراد أن لا يحرج أمته (قالوا)
وأيضا فصريح أخبار الجمع بين الفريضتين إنما هو بأدائهما معا في وقت
إحداهما دون الأخرى إما بتقديم الثانية على وقتها وأدائها مع الأولى في وقتها
أو بتأخير الأولى عن وقتها إلى وقت الثانية وأدائهما وقتئذ معا (قالوا) وهذا هو
المتبادر إلى الفهم من إطلاق لفظ الجمع في السنن كلها وهذا هو محل
النزاع.
(قال النووي) ومنهم من تأولها فحملها على الجمع لعذر المرض أو نحوه
مما هو في معناه (قال) وهذا قول أحمد بن حنبل والقاضي حسين من
أصحابنا واختاره الخطابي والمتولي والروياني من أصحابنا وهو المختار في

(1) وقد تعلم أن أبا حنيفة وأصحابه تأولوا صحاح الجمع حضرا وسفرا بحملها
كلها على الجمع الصوري فقالوا بمنع مطلقا وهذا غريب منهم إلى أبعد غاية وقد كفانا
مناقشتهم والبحث معهم عدة من الأعلام تسمع في الأصل كلامهم.
17

تأويلها، لظاهر الأحاديث.
قلت: لا ظهور في الأحاديث ولا دلالة فيها عليه بشئ من الدوال
والقول به تحكم كما اعترف به القسطلاني في شرحه لصحيح البخاري (1).
وقد تعقبه بعض الأعلام أيضا إذ قال: وقيل إن الجمع كان للمرض
وقواه النووي وفيه نظر لأنه لو جمع للمرض لما صلى معه إلا من به المرض،
والظاهر أنه صلى الله عليه وآله جمع بأصحابه، وبه صرح ابن عباس في رواية ثابتة عنه.
انتهى (2)
قلت: ولما لم يكن لصحاح الجمع تأويل يقبله العلماء رجع قوم من
الجمهور إلى رأينا في المسألة تقريبا من حيث لا يقصدون. وقد ذكرهم
النووي بعد أن زيف التأولات بما سمعت. فقال: وذهب جماعة من الأئمة
إلى جواز الجمع في الحضر للحاجة لمن لا يتخذه عادة وهو قول ابن سيرين
وأشهب من أصحاب مالك، وحكاه الخطابي عن القفال الشاشي الكبير
من أصحاب الشافعي، وعن أبي إسحاق المروزي وعن جماعة من أصحاب
الحديث واختاره ابن المنذر (قال) ويؤيده ظاهر قول ابن عباس: أراد أن لا
يحرج أمته إذ لم يعلله بمرض ولا غيره والله أعلم، هذا كلامه (3) وبه صرح غير

(1) فراجع من شرحه إرشاد الساري باب تأخير الظهر إلى العصر تجد في ص 293
من جزئه الثاني ما هذا لفظه: وحمله - أي حديث ابن عباس في الجمع حضرا - بعضهم
على الجمع للمرض وقواه النووي فتعقبوه بأنه مخالف لظاهر الحديث وتقييده به ترجيح
بلا مرجح وتخصيص بلا مخصص. ا ه‍.
(2) فراجعه في ص 263 من الجزء الأول من شرح الزرقاني لموطأ مالك في باب
الجمع بين الصلاتين.
(3) في ص 455 من الجزء الرابع من شرحه لصحيح مسلم المطبوع في هامش
إرشاد الساري وتحفة الباري شرحي صحيح البخاري ولا يخفى ميل النووي إليه في آخر
كلامه إذ أيده بقول ابن عباس وعلق على قول ابن عباس قوله فلم يعلله بمرض ولا غيره
فكان آخر كلامه ناقصا لتأويله.
18

واحد من أعلامهم (1).
ولعل المحققين منهم في هذا العصر على رأينا كما شافهني به غير واحد
منهم، غير أنهم لا يجرؤون على مبادهة العامة بذلك، وربما يمنعهم الاحتياط
فإن التفريق بين الصلوات مما لا خلاف فيه، وهو أفضل بخلاف الجمع،
لكن فاتهم أن التفريق قد أدى بكثير من أهل الأشغال إلى ترك الصلاة
كما شاهدناه عيانا بخلاف الجمع فإنه أقرب إلى المحافظة على أدائها، وبهذا
يكون الأحوط للفقهاء أن يفتوا العامة بالجمع وأن ييسروا ولا يعسروا
- يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر - وما جعل عليكم في الدين
من حرج - والدليل على جواز الجمع مطلقا موجود والحمد لله سنة صحيحة
صريحة كما سمعت، بل كتابا محكما مبينا، ألا تصغون لأتلو عليكم من
محكماته ما يتجلى به أن أوقات الصلوات المفروضة ثلاثة فقط، وقت
لفريضتي الظهر والعصر مشتركا بينهما، ووقت لفريضتي المغرب والعشاء على
الاشتراك بينهما أيضا، وثالث لفريضة الصبح خاصة، فاستمعوا له وانصتوا
" أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر
كان مشهودا ".
قال الإمام الرازي حول تفسيرها - من سورة الإسراء ص 428 من
الجزء الخامس من تفسيره الكبير - ما هذا لفظه: فإن فسرنا الغسق بظهور

(1) كالزرقاني في شرحه للموطأ وسائر من علق على حديث ابن عباس في الجمع
بين الصلاتين ممن شرح الصحاح والسنن كالعسقلاني والقسطلاني وغيرهما.
19

أول الظلمة كان الغسق عبارة عن أول المغرب (1) وعلى هذا التقدير يكون
المذكور في الآية ثلاثة أوقات: وقت الزوال ووقت أول المغرب ووقت الفجر
(قال) وهذا يقتضي أن يكون الزوال وقتا للظهر والعصر فيكون هذا الوقت
مشتركا بين هاتين الصلاتين، وأن يكون أول المغرب وقتا للمغرب والعشاء
فيكون هذا الوقت مشتركا أيضا بين هاتين الصلاتين (قال) فهذا يقتضي
جواز الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء مطلقا (2)، (قال) إلا أنه
دل الدليل على أن الجمع في الحضر من غير عذر لا يجوز فوجب أن يكون
الجمع جائزا لعذر السفر وعذر المطر وغيره.
قلت: أمعنا بحثا عما ذكره من دلالة الدليل على أن الجمع في الحضر
من غير عذر لا يجوز فلم نجد له - شهد الله - عينا ولا أثرا، نعم كان
النبي صلى الله عليه وآله يجمع في حال العذر وقد جمع أيضا في حال عدمه لئلا يحرج أمته
ولا كلام في أن التفريق أفضل ولذلك كان يؤثره رسول الله صلى الله عليه وآله إلا لعذر
كما هي عادته في المستحبات كلها صلى الله عليه وآله.

(1) هذا المعنى نقله الرازي - حول الآية من تفسيره الكبير - عن ابن عباس
وعطاء والنضر بن شميل ونقله الإمام الطبرسي - في مجمع البيان - عن ابن عباس
وقتادة.
(2) أما إذا فسرنا الغسق بتراكم الظلمة وشدتها نصف الليل - كما عن الصادق
عليه السلام - فوقت الفرائض الأربع الظهر والعصر والمغرب والعشاء ممتد من الزوال
إلى نصف الليل، فالظهر والعصر يشتركان في الوقت من الزوال إلى الغروب إلا أن
الظهر قبل العصر ويشترك المغرب والعشاء من الغروب إلى نصف الليل غير أن المغرب
قبل العشاء، أما فريضة الصبح فقد اختصها الله بوقتها المنوه به في قوله سبحانه: وقرآن
الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا.
20

[هل البسملة آية قرآنية؟
وهل تقرأ في الصلاة؟]
اختلفت آراء أهل الرأي من المسلمين في ذلك، فذهب مالك
والأوزاعي إلى أنها ليست من القرآن ومنعا من قراءتها في الفرائض بقول
مطلق سواء أكانت في افتتاح الحمد أم في افتتاح السورة بعدها، وسواء
قرئت جهرا أم إخفاتا، نعم أجازا قراءتها في النافلة (1).
أما أبو حنيفة والثوري وأتباعهما فقرأوها في افتتاح أم القرآن لكن
أوجبوا إخفاتها حتى في الجهريات وهذا يشعر بموافقتهما لمالك والأوزاعي
وربما كان دالا عليه إذ لا نعرف وجها لإخفاتها في الجهريات سوى أنها
ليست من أم الكتاب.

(1) نقل ابن رشد هذا كله عن مالك في صفحة 96 من الجزء الأول من كتابه
بداية المجتهد، وقال الرازي حول البسملة من تفسيره الكبير صفحة 100 من جزئه الأول
ما هذا نصه: قال مالك والأوزاعي أنها ليست من القرآن إلا في سورة النمل ولا تقرأ في
الصلاة لا سرا ولا جهرا إلا في قيام شهر رمضان.
21

لكن الشافعي قرأها في الجهريات جهرا وفي الإخفاتيات إخفاتا عدها
آية من فاتحة الكتاب، وهذا قول أحمد بن حنبل وأبي ثور وأبي عبيد،
واختلف المنقول عن الشافعي في أنها آية من كل سورة عدا براءة أم أنها
ليست بآية من غير أم الكتاب فنقل عنه القولان جميعا، لكن المحققين من
أصحابه قد اتفقوا على أن البسملة قرآن من سائر السور (1) وتأولوا القولين
المنقولين عن إمامهم الشافعي (2).
أما نحن - معشر الإمامية - فقد أجمعنا - تبعا لأئمة الهدى من أهل
بيت النبوة - على أنها آية تامة من السبع المثاني ومن كل سورة من القرآن
العظيم ما خلا براءة، وإن من تركها في الصلاة عمدا بطلت صلاته سواء
أكانت فرضا أم كانت نفلا وأنه يجب الجهر بها فيما يجهر فيه بالقراءة وأنه
يستحب الجهر بها فيما يخافت فيه (3) وأنها بعض آية من سورة النمل ونصوص
أئمتنا في هذا كله متضافرة متواترة تواترا معنويا وأساليبها ظاهرة في الانكار
على مخالفيهم فيها كقول الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام (4) ما لهم؟!
عمدوا إلى أعظم آية في كتاب الله عز وجل فزعموا أنها بدعة إذا أظهروها
وهي بسم الله الرحمن الرحيم ا ه‍.

(1) نقل اتفاقهم هذا وتأولهم لقولي أمامهم جماعة من الأعلام أحدهم الرازي حول
البسملة من تفسيره الكبير صفحة 104 من جزئه الأول
(2) وذلك أنهم قالوا لم يختلف النقل عنه في أصل المسألة وإنما اختلف النقل عنه
في أنها آية تامة من سائر السور أو أنها بعض آية من كل سورة.
(3) إن للإمام الرازي حول البسملة من تفسيره الكبير عدة حجج على الجهر بها وقد
نقل في الثالثة منها أن عليا رضي الله عنه كان مذهبه الجهر ب‍ (بسم الله الرحمن الرحيم)
في جميع الصلوات. وقال: إن هذه الحجة قوية في نفسي راسخة في عقلي لا تزول البتة.
(4) نقله عنه الإمام الطبرسي حول البسملة من الجزء الأول من مجمع البيان.
22

وحجتنا من طريق الجمهور صحاحهم وهي كثيرة.
أحدها: ما هو ثابت عن ابن جريج عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن
عباس في قوله تعالى: ولقد آتيناك سبعا من المثاني. قال: فاتحة الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وقرأ السورة. قال ابن جريج:
فقلت لأبي: لقد أخبرك سعيد عن ابن عباس أنه قال: بسم الله الرحمن
الرحيم آية؟ قال: نعم. وهذا الحديث أخرجه الحاكم في المستدرك وأورده
الذهبي في تلخيصه وصرحا بصحة إسناده (1).
ثانيها: ما صح عن ابن عباس أيضا. قال: إن النبي صلى الله عليه وآله كان إذا
جاءه جبرائيل فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم علم أنها سورة (2).
ثالثها: ما صح عن ابن عباس أيضا. قال: كان النبي صلى الله عليه وآله لا يعلم
ختم السورة حتى تنزل بسم الله الرحمن الرحيم (3).
رابعها: ما صح عنه أيضا. قال: كان المسلمون لا يعلمون انقضاء
السورة حتى تنزل بسم الله الرحمن الرحيم فإذا نزلت بسم الله الرحمن الرحيم
علموا أن السورة قد انقضت (4).

(1) فراجع تفسير سورة الفاتحة من كتاب التفسير من المستدرك للحاكم، ومن
تخليصه للذهبي صفحة 257 من جزئهما الثاني تجد الحديث منصوصا على صحته من
الحاكم والذهبي كليهما.
(2) أخرجه الحاكم في كتاب الصلاة من مستدركه صفحة 231 من جزئه الأول
فقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
(3) أخرجه الحاكم في كتاب الصلاة من مستدركه وأورده الذهبي في التلخيص
مصرحين بصحته على شرط الشيخين. فراجع صفحة 231 من الجزء الأول من
المستدرك وتلخيصه المطبوعين معا.
(4) أخرجه الحاكم في صفحة 232 من الجزء الأول من المستدرك ثم قال: هذا
حديث صحيح على شرط الشيخين وصححه الذهبي على شرطهما أيضا إذ أورده في
التلخيص.
23

خامسها: ما صح عن أم سلمة قالت: كان النبي صلى الله عليه وآله يقرأ بسم الله
الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين إلى آخرها يقطعها حرفا حرفا (1).
وعن أم سلمة أيضا من طريق آخر قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وآله قرأ في
الصلاة بسم الله الرحمن الرحيم وعدها آية الحمد لله رب العالمين آيتين.
الرحمن الرحيم ثلاث آيات. مالك يوم الدين أربع. إياك نعبد وإياك
نستعين. فجمع خمس أصابعه. الحديث (2).
سادسها: ما صح عن نعيم المجمر. قال: كنت وراء أبي هريرة فقرأ بسم
الله الرحمن الرحيم ثم قرأ بأم القرآن حتى بلغ ولا الضالين قال آمين فقال
الناس آمين (3) فلما سلم قال: والذي نفسي بيده أي لأشبهكم صلاة برسول
الله صلى الله عليه وآله (4).
وعن أبي هريرة أيضا قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله يجهر - في الصلاة -

(1) أخرجه الحاكم في المستدرك وأورده الذهبي في تلخيصه مصرحين بصحته على
شرط الشيخين فراجع من المستدرك وتلخيصه الصفحة 232 من جزئهما الأول.
(2) أخرجه الحاكم عن أم سلمة بعد حديثها السابق شاهدا له.
(3) ليس من مذهبنا قول آمين عند انتهاء الفاتحة من الصلاة لا للمنفرد ولا للمأموم ولا
للإمام لكونه ليس منها ولا من القرآن في شئ إجماعا وقولا واحدا، ولم يرو فيه أثر من
طريقنا ولم ينقل عن أحد من أئمتنا بخلاف الجمهور فإنه من شعارهم وقد رووا فيه
أخبارا صحاحا على شرطهم، وحديث أبي هريرة هذا من جملتها فهو من السنن أثناء
الصلاة عندهم.
(4) أخرجه الحاكم في المستدرك بعد حديثي أم سلمة بلا فصل، وأورده الذهبي
ثمة في تلخيصه مصرحين بصحته على شرط الشيخين.
24

ببسم الله الرحمن الرحيم (1).
سابعها: ما صح عن أنس بن مالك قال: صلى معاوية بالمدينة صلاة
فجهر فيها بالقراءة فقرأ فيها بسم الله الرحمن الرحيم لأم
القرآن ولم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم للسورة التي
بعدها حتى قضى تلك القراءة. فلما سلم ناداه من
سمع ذلك من المهاجرين والأنصار من كل مكان: يا معاوية أسرقت
الصلاة أم نسيت؟؟ فلما صلى بعد ذلك قرأ بسم الله الرحمن الرحيم للسورة
التي بعد أم القرآن. الحديث أخرجه الحاكم في المستدرك وصححه على
شرط مسلم (2) وأخرجه غير واحد من أصحاب المسانيد كالإمام الشافعي في
مسنده (3) وعلق عليه تعليقة يجدر بنا إيرادها. إذ قال (4): إن معاوية كان
سلطانا عظيم القوة شديد الشوكة فلولا أن الجهر بالتسمية كان كالأمر المقرر
عند كل الصحابة من المهاجرين والأنصار لما قدروا على إظهار الانكار عليه
بسبب ترك التسمية ا ه‍.

(1) أخرجه الحاكم بعد الحديث المتقدم شاهدا له وأخرجه البيهقي في السنن الكبيرة
كما في صفحة 105 من الجزء الأول من تفسير الرازي.
(2) وأورده الذهبي في تلخيص المستدرك وصححه على شرط مسلم وجعله الحاكم
والذهبي علة ونقيضا لحديث قتادة عن أنس. إذ قال: صليت خلف النبي صلى الله عليه وآله وأبي بكر
وعمر وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم وهذا باطل كما
سنوضحه في الأصل قريبا إن شاء الله تعالى وقد أخرجه الحاكم وما بعده تزييفا له
وشواهد لبطلانه.
(3) راجع من مسنده صفحه 13.
(4) فيما نقله عنه الرازي في الحجة الرابعة من حججه على الجهر بالبسملة صفحة
105 من الجزء الأول من تفسيره الكبير.
25

ولنا تعليقة على هذا الحديث ألفت إليها كل بحاثة فأقول: إن من أمعن
في هذا الحديث وجده من الأدلة على مذهبنا في البسملة وفي عدم جواز
التبعيض في السورة التي تقرأ في الصلاة بعد أم القرآن إذ لا وجه لإنكارهم
عليه إلا بناء على مذهبنا في المسألتين.
ثامنها: ما صح عن أنس أيضا من طريق آخر. قال: سمعت رسول
الله صلى الله عليه وآله يجهر - في الصلاة - ببسم الله الرحمن الرحيم (1).
تاسعها: ما صح عن محمد بن السري العسقلاني. قال: صليت خلف
المعتمر بن سليمان ما لا أحصي صلاة الصبح والمغرب فكان يجهر ببسم الله
الرحمن الرحيم قبل فاتحة الكتاب وبعدها - للسورة - وسمعت المعتمر
يقول: ما آلو أن أقتدي بصلاة أبي، وقال أبي: ما آلو أن أقتدي بصلاة أنس
بن مالك. وقال أنس: ما آلو أن أقتدي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وآله (2). قلت:
آنست من هذا الحديث وغيره أنهم كانوا يقرأون بعد أم القرآن سورة تامة
من بسملتها حتى منتهاها كما هو مذهبنا ويدل عليه كثير من الأخبار (3).
وعن قتادة. قال: سئل أنس بن مالك كيف كانت قراءة رسول
الله صلى الله عليه وآله؟ قال: كانت مدا ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم يمد الرحمن ويمد
الرحيم.

(1) أخرجه الحاكم وأورده الذهبي في باب الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم من
كتابيهما وقالا: رواة هذا الحديث عن آخر هم ثقات وجعلاه علة ونقيضا لحديث قتادة
عن أنس.
(2) أخرجه الحاكم في المستدرك وأورده الذهبي في التلخيص ونصا على أن رواته
عن آخرهم ثقات وجعلاه علة ونقيضا لحديث قتادة عن أنس، الباطل.
(3) فعن ابن عمر أنه كان لا يدع بسم الله الرحمن الرحيم لأم القرآن وللسورة التي
بعدها أخرجه الإمام الشافعي في صفحة 13 من مسنده.
26

وعن حميد الطويل عن أنس بن مالك. قال: صليت خلف النبي صلى الله عليه وآله
وخلف أبي بكر وخلف عمر وخلف عثمان وخلف علي فكلهم كانوا
يجهرون بقراءة بسم الله الرحمن الرحيم.
أخرج هذه الأحاديث كلها وما قبلها إمام المحدثين أبو عبد الله محمد بن
عبد الله الحاكم النيسابوري في مستدركه ثم قال بعد الأخير منها ما هذا
نصه: إنما ذكرت هذا الحديث شاهدا لما تقدمه. ففي هذه الأخبار التي ذكرناها
معارضة لحديث قتادة الذي يرويه أئمتنا عنه - ولفظه عن أنس قال:
صليت خلف النبي صلى الله عليه وآله وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقرأ
بسم الله الرحمن الرحيم - (ثم قال الحاكم) وقد بقي في الباب عن أمير
المؤمنين عثمان وعلي وطلحة بن عبيد الله وجابر بن عبد الله و عبد الله بن عمر
والحكم بن عمير الثمالي والنعمان بن بشير وسمرة بن جندب وبريدة
الأسلمي وعائشة بنت الصديق (رض) كلها مخرجة عندي في الباب تركتها
إيثارا للتخفيف واختصرت منها ما يليق بهذا الباب وكذلك ذكرت في
الباب من جهر ببسم الله الرحمن الرحيم من الصحابة والتابعين وأتباعهم
رضي الله عنهم. انتهى كلامه (1).
قلت: وذكر الرازي في تفسيره الكبير (2) أن البيهقي روى الجهر ببسم الله
الرحمن الرحيم في سننه عن عمر بن الخطاب وابن عباس وابن عمر وابن
الزبير، ثم قال الرازي ما هذا لفظه: وأما إن علي بن أبي طالب رضي الله
عنه كان يجهر بالتسمية فقد ثبت بالتواتر ومن اقتدى في دينه بعلي بن أبي

(1) فراجعه في صفحة 234 الجزء الأول من المستدرك.
(2) أثناء الحجة الخامسة من حججه على الجهر بالبسملة صفحة 105 من جزئه
الأول.
27

طالب فقد اهتدى. (قال) والدليل عليه قول رسول الله صلى الله عليه وآله " اللهم أدر
الحق مع علي حيث دار ".
وحسبنا حجة - على أن البسملة آية قرآنية في مفتتح السور كلها ما
خلا براءة - أن الصحابة كافة فالتابعين أجمعين فسائر تابعيهم وتابعي
التابعين في كل خلف من هذه الأمة منذ دون القرآن إلى يومنا هذا مجمعون
إجماعا عمليا على كتابة البسملة في مفتتح كل سورة خلا براءة.
كتبوها كما كتبوا غيرها من سائر الآيات بدون ميزة مع أنهم كافة
متصافقون على أن لا يكتبوا شيئا من غير القرآن إلا بميزة بينة حرصا منهم
على أن لا يختلط فيه شئ من غيره. ألا تراهم كيف ميزوا عنه أسماء سوره
ورموز أجزائه وأحزابه وأرباعه وأخماسه وأعشاره فوضعوها خارجة عن السور
على وجه يعلم منه خروجها عن القرآن احتفاظا به واحتياطا عليه، ولعلك
تعلم أن الأمة قل ما اجتمعت بقضها وقضيضها على أمر كاجتماعها على
ذلك وهذا بمجرده دليل على أن بسم الله الرحمن الرحيم آية مستقلة في مفتتح
كل سورة رسمها السلف والخلف في مفتتحها والحمد لله على الاعتدال.
وأيضا فإن من المأثور المشهور عن رسول الله صلى الله عليه وآله قوله: كل أمر ذي
بال لا يبدأ ببسم الله الرحمن الرحيم أقطع (1) وكل أمر ذي بال لا يبدأ فيه
ببسم الله فهو أبتر أو أجذم (2) ومن المعلوم أن القرآن أفضل ما أوحاه الله تعالى

(1) أخرجه بهذا اللفظ الشيخ عبد القادر الرهاوي في أربعينه بسنده إلى أبي
هريرة. ورواه السيوطي في حرف الكاف من جامعه الصغير صفحة 91 من جزئه
الثاني، وأورده المتقي الهندي في صفحة 193 من الجزء الأول من كنز العمال و
هو الحديث 2497.
(2) أرسله الإمام الرازي بهذا اللفظ حول البسملة من الجزء الأول من تفسيره.
28

إلى أنبيائه ورسله وأن كل سورة منه ذات بال وعظمة تحدى الله بها البشر
فعجزوا عن أن يأتوا بمثلها، فهل يمكن أن يكون القرآن أقطع؟! تعالى الله
وتعالى فرقانه الحكيم وتعالت سوره عن ذلك علوا كبيرا.
والصلاة هي الفلاح وهي خير العمل كما ينادى به في أعلى المنائر
والمنابر ويعرفه البادي والحاضر لا يوازنها ولا يكايلها شئ بعد الإيمان بالله
تعالى وكتبه ورسله واليوم الآخر فهل يجوز أن يشرعها الله تعالى بتراء
جذماء؟ إن هذا لا يجرؤ على القول به بر ولا فاجر، لكن الأئمة البررة
مالكا والأوزاعي وأبا حنيفة رضي الله عنهم ذهلوا عن هذه اللوازم، وكل
مجتهد في الاستنباط من الأدلة الشرعية معذور ومأجور إن أصاب وإن
أخطأ.
[حجة مخالفينا في المسألة]
احتجوا بأمور:
أحدها: أنها لو كانت آية من الفاتحة للزم التكرار فيها بالرحمن الرحيم،
ولو كانت جزءا من كل سورة للزم تكرارها في القرآن مئة وثلاث عشرة
مرة.
والجواب: إن الحال قد تقتضي ذلك اهتماما ببعض الشؤون العظمى
وتأكيدا لها وعناية بها، وفي الذكر الحكيم من هذا شئ كثير وحسبك
سورة الرحمن وسورتا المرسلات والكافرون، وأي شأن من أهم مهمات
الدنيا والآخرة يستوجب التأكيد الشديد ويستحق أعظم العنايات كاسم
الله الرحمن الرحيم؟ وهل بعثت الأنبياء وهبطت الملائكة ونزلت الكتب
السماوية إلا باسم الله الرحمن الرحيم والهداية، إليه، عز وجل؟ وهل قامت
29

السماوات والأرض ومن فيهن إلا باسم الله الرحمن الرحيم (1): " يا أيها
الناس أذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء
والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون "؟
ثانيها: ما جاء عن أبي هريرة مرفوعا إذ قال: يقول الله تعالى قسمت
الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين.
يقول الله تعالى: حمدني عبدي. وإذا قال: الرحمن الرحيم. يقول الله تعالى:
أثنى علي عبدي. وإذا قال: مالك يوم الدين. يقول الله تعالى: مجدني عبدي.
وإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين. يقول الله تعالى هذا بيني وبين عبدي.
الخبر، ووجه الاستدلال به أنه لم يذكر في آيات الفاتحة بسم الله الرحمن
الرحيم ولو كانت آية لذكرها.
والجواب: إن هذا معارض بخبر ابن عباس مرفوعا وفيه قسمت الصلاة
بيني وبين عبدي فإذا قال العبد: بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى:
دعاني عبدي. الحديث (2) وهو طويل، وشاهدنا فيه أنه قد اشتمل على البسملة
فنقض حديث أبي هريرة. على أن أبا هريرة روى عن رسول الله صلى الله عليه وآله

(1) فالمؤمن يفتتح أعماله كلها باسم الله الرحمن الرحيم فإذا أكل أو شرب أو قام
أو قعد أو دخل أو خرج أو أخذ أو أعطى أو قرأ أو كتب أو أملى أو خطب أو ذبح أو نحر
قال بسم الله الرحمن الرحيم. والقابلة إذا أخذت الولد حين ولادته تقول: بسم الله
وإذا مات قال بسم الله وإذا دخل القبر قيل بسم الله وإذا قام من قبره قال بسم الله. وإذا
حضر الموقف قال بسم الله وهل منجى يومئذ أو ملجأ إلا الله؟ ثبتنا الله بالقول الثابت
في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
(2) نقله المتقي الهندي حول البسملة صفحة 320 من الجزء الأول من الكنز عن
شعب الإيمان للبيهقي.
30

الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة، وكان هو يجهر بها ويقول: إني
لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وآله وقد مر عليك حديثاه في ذلك (1).
ثالثها: ما جاء عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وآله كان يفتتح الصلاة بالتكبير
والقراءة بالحمد لله رب العالمين، ولا حجة لهم به لأنها جعلت الحمد لله
رب العالمين اسما لهذه السورة كما تقول: قرأت قل هو الله أحد، وقرأ فلان
إنا فتحنا لك فتحا مبينا وما أشبه ذلك. فيكون معنى الحديث أنه صلى الله عليه وآله كان
يفتتح الصلاة بالتكبير وبقراءة هذه السورة التي أولها بسم الله الرحمن
الرحيم (2).
رابعها: خبر ابن مغفل إذ قال: سمعني أبي وأنا أقرأ باسم الله الرحمن
الرحيم فقال: يا بني إياك والحدث فإني صليت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وأبي
بكر وعمر وعثمان فلم أسمع رجلا منهم يقرأها (3).
والجواب: أن أئمة الجرح والتعديل لا يعرفون ابن مغفل ولا أثر لحديثه
عندهم وقد أورده ابن رشد حول البسملة من كتابه " بداية المجتهد " (4)
فأسقطه بما نقله عن أبي عمر بن عبد البر من النص على أن ابن مغفل رجل
مجهول.

(1) فراجع الحديث السادس والذي بعده من حججنا.
(2) هذا ملخص ما قاله الإمام الشافعي في الجواب عن احتجاجهم بهذا الحديث.
(3) حديث ابن مغفل هكذا أورده الإمام الرازي في حجج مخالفيه في المسألة
صفحة 106 من الجزء الأول من تفسيره. ثم قال: إن أنسا وابن مغفل خصصا عدم ذكر
بسم الله الرحمن الرحيم بالخلفاء الثلاثة ولم يذكرا عليا وذلك يدل على أن عليا كان يجهر
ببسم الله الرحمن الرحيم.
(4) صفحة 97 من جزئه الأول.
31

خامسها: خبر شعبة عن قتادة عن أنس بن مالك (1) قال: صليت مع
رسول الله صلى الله عليه وآله وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقرأ بسم الله
الرحمن الرحيم. ونحوه حديث حميد الطويل عن أنس أيضا (2) قال: قمت وراء
أبي بكر وعمر وعثمان فكلهم كان لا يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم.
والجواب: أنك سمعت في حججنا ما صح عن أنس مما يناقض هذين
الخبرين فأمعن فيما أسلفناه. وقد أورد الإمام الرازي خبر أنس هذا في حجج
مخالفيه. ثم قال: والجواب عنه من وجوه:
الأول: قال الشيخ أبو حامد الأسفراييني: روي عن أنس في هذا الباب
ست روايات، أما الحنفية فقد رووا عنه ثلاث روايات:
إحداها: صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وخلف أبي بكر وعمر وعثمان
فكانوا يستفتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين.
وثانيتها قوله: إنهم ما كانوا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم.
وثالثتها قوله: لم أسمع أحدا منهم قال: بسم الله الرحمن الرحيم.
فهذه الروايات الثلاث توافق قول الحنفية - قال -: وثلاث أخرى
تناقضه:
إحداها: حديثه في أن معاوية لما ترك بسم الله الرحمن الرحيم في
الصلاة أنكر عليه المهاجرون والأنصار وهذا يدل أن الجهر بالبسملة كان
كالأمر المتواتر عندهم، المسلم فيما بينهم.
(قال) وثانيتها: روى أبو قلابة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وأبا بكر وعمر

(1) أخرجه مسلم من طريقين عن شعبة عن أنس في باب حجة من قال: لا يجهر
بالبسملة من صحيحه.
(2) فيما أخرجه مالك في العمل في القراءة من موطئه.
32

كانوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم. (1)
(قال) وثالثتها: أنه سئل عن الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم والإسرار به
فقال: لا أدري هذه المسألة (قال) فثبت أن الرواية عن أنس في هذه
المسألة قد عظم فيها الخبط والاضطراب فبقيت متعارضة فوجب الرجوع إلى
غيرها من سائر الأدلة (قال الإمام الرازي) وأيضا ففيها تهمة أخرى وهي
أن عليا عليه السلام كان يبالغ في الجهر بالتسمية فلما وصلت الدولة إلى
بني أمية بالغوا في المنع من الجهر بها سعيا في إبطال آثار علي عليه السلام (2).
(قال) فلعل أنسا خاف منهم فلهذا السبب اضطربت أقواله (قال) ونحن
مهما شككنا في شئ فلا نشك في أنه إذا وقع التعارض بين قول أمثال
أنس وابن المغفل وبين قول علي بن أبي طالب عليه السلام الذي بقي عليه
طول عمره فإن الأخذ بقول علي أولى (قال) فهذا جواب قاطع في المسألة إلى
أن قال: ومن أتخذ عليا إماما لدينه فقد استمسك بالعروة الوثقى في دينه
ونفسه إلى آخر كلامه (3) قلت: فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي
لولا أن هدانا الله.

(1) وقد أوردنا في حججنا رواية حميد الطويل عن أنس قال: صليت خلف
النبي صلى الله عليه وآله وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي فكلهم كانوا يجهرون بقراءة بسم الله الرحمن
الرحيم.
(2) هذه سيرتهم مع أمير المؤمنين وبنيه في كثير من شرائع الله تعالى حتى التبس
الحق بالباطل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(3) فراجعه في صفحة 106 وآخره في صفحة 107 من الجزء الأول من تفسيره
الكبير.
33

[القراءة في الصلاة]
اختلف الفقهاء في القراءة في الصلاة فذهب أبو بكر الأصم وإسماعيل
ابن علية وسفيان بن عيينة والحسن بن صالح إلى أنها ليست بفرض في
صلاة ما وإنما هي مستحبة.
وهذا شذوذ في الرأي وخروج على الأدلة وخرق لإجماع الأمة.
احتجوا بما رواه أبو سلمة ومحمد بن علي عن عمر بن الخطاب إذ صلى
المغرب فلم يقرأ فيها فقيل له في ذلك فقال: كيف كان الركوع والسجود؟
قالوا: حسن. فقال: لا بأس إذا.
والجواب: أنه إذ لم يرفعه فهو رأيه ولعله كان ممن يرى أن ترك القراءة
سهوا لا يبطل الصلاة والله أعلم.
وذهب الحسن البصري وآخرون إلى أن القراءة إنما تفرض في ركعة
واحدة وهذا كسابقه في الشذوذ وخرق الإجماع.
احتجوا بقوله صلى الله عليه وآله: لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب متشبثين بأن
34

الاستثناء من النفي إثبات وأنه إذا حصلت قراءة الفاتحة في الصلاة ولو مرة
واحدة وجب القول بصحتها بحكم الاستثناء.
والجواب: إن هذا الحديث غير ناظر - بحكم العرف - إلى حال
الصلاة حين تكون مع الفاتحة ولا هو حاكم عليها - وهي في تلك الحال -
بإيجاب ولا بسلب وإنما هو ناظر إليها حين تكون خالية من الفاتحة وحاكم
عليها بأنها - وهي في تلك الحال - ليست بصلاة نظير قوله صلى الله عليه وآله: لا صلاة
إلا بطهور اهتماما منه بالفاتحة وهي جزء الصلاة وبالطهور وهو شرطها،
ونظائر هذا في الكلام كثير ألا ترى أنه لو قيل لا " سكنجبين " إلا بخل
مثلا، لا يفهم أحد من ذلك أن مسمى الخل ولو قطرة أو دونها كاف أوليس
بكاف وإنما يفهمون أن السكنجبين مركب وأن الخل من مهمات
أجزائه فإذا انتفى الخل ينتفي السكنجبين.
على أنه لو تم استدلالهم بهذا الحديث على ما زعموا لا طردت دلالته على
عدم وجوب شئ من أفعال الصلاة وأقوالها إذا حصلت فيها قراءة الفاتحة
كما هو واضح لمن أمعن.
وقال الإمام أبو حنيفة وأصحابه: لا تفرض قراءة الفاتحة بخصوصها في
صلاة ما وإنما يفرض في الصلوات مطلق القراءة واكتفى أبو حنيفة
بقراءة أية آية من القرآن ولو كانت كلمة واحدة نحو " مدهامتان " لكن
صاحبيه أبا يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني إنما اكتفيا بثلاث آيات
قصار نحو: " ثم نظر. ثم عبس وبسر. ثم أدبر واستكبر " أو بآية واحدة تعادل
ثلاث آيات قصار أو تزيد عليها وعلى هذا عمل الحنفية (1).

(1) فراجع فقههم وحسبك " غنية المتملي الكبير والصغير " المنتشران كرسائل
عملية.
35

وأباح أبو حنيفة ترجمة ما يقرأ في الصلاة من القرآن بأية لغة من اللغات
الأعجمية حتى لمن يحسن العربية (1) واكتفى من القراءة بدلا من الفاتحة
والسورة بقول: " دوبلك سبز " - ترجمة مدهامتان بالفارسية - لكن صاحبيه
إنما أجازا الترجمة للعاجز عن العربية دون القادر عليها وعلى هذا عمل
الحنفية.
والقراءة تفرض عندهم في الركعتين الأوليين من كل ثنائية كصلاة
الجمعة والصبح وظهر المسافر وعصره وعشائه، أما غير الثنائيات كصلاة
المغرب وعشاء المقيم وظهره وعصره فإنما تفرض القراءة عندهم في ركعتين
من كل منها لا على التعيين فللمصلي أن يختار القراءة في الأوليين أو
الأخريين أو الأولى والثالثة أو الأولى والرابعة أو الثانية والثالثة أو الثانية
والرابعة فإذا قرأ في الأوليين - مثلا - كان في الأخريين مخيرا إن شاء قرأ
وإن شاء سبح وإن شاء سكت بقدر تسبيحة، هذا مذهبهم منتشرا في
فقههم.
احتجوا لكفاية مطلق القراءة في الصلاة بحديث أبي هريرة الموجود في
الصحيحين (2) إذ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله دخل المسجد فدخل رجل فصلى ثم
جاء فسلم على رسول الله صلى الله عليه وآله وبعد أن رد رسول الله عليه السلام قال له:

(1) هذا متواتر عنه وممن نقله فخر الدين الرازي أول صفحة 108 من الجزء الأول
من تفسيره الكبير ثم قال: واعلم أن مذهب أبي حنيفة في هذه المسألة بعيد جدا ولهذا
السبب فإن الفقيه أبا الليث السمرقندي والقاضي أبا زيد الدبوسي صرحا بتركه.
(2) واحتجوا أيضا بما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة أيضا قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا صلاة إلا بقراءة حيث أطلق القراءة وهذا ما يدعون. والجواب
إن هذا لو صح لوجب حمله على قوله صلى الله عليه وآله: لا صلاة لمن لا يقرأ بفاتحة الكتاب ولا غرو
فإن المطلق يحمل على المقيد إجماعا وقولا واحدا.
36

ارجع فصل فإنك لم تصل فرجع الرجل فصلى كما كان صلى ثم جاء إلى
النبي صلى الله عليه وآله فسلم عليه فقال رسول الله: وعليك السلام ارجع فصل فإنك لم
تصل حتى فعل ذلك ثلاث مرات. فقال الرجل: والذي بعثك بالحق ما
أحسن غير هذا فعلمني. فقال صلى الله عليه وآله إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر
معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تعتدل قائما ثم
اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تطمئن جالسا ثم أفعل ذلك في
صلاتك كلها.
ومحل الشاهد منه قوله: ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن لظهوره
في دعواهم.
والجواب: إن أبا هريرة ممن لا نقيم لحديثه وزنا كما بيناه مفصلا وأقمنا
عليه الحجج القاطعة عقلية ونقلية في كتاب منتشر له أفردناه فليراجعه كل
مولع بالبحث عن الحقائق الساطعة.
وحديثه هذا قد لا يجوز على رسول الله صلى الله عليه وآله لوروده في مقام يجب فيه
البيان، وقد أمعنا فلم نجد ثمة من البيان ما يليق بالأنبياء عليهم السلام لخلوه
من كثير مما أجمعت الأمة على وجوبه في الصلاة كالنية والقعود في التشهد
الأخير وترتيب أركان الصلاة وكذا التشهد الأخير والصلاة على النبي
والتسليم وغيرها، على أن تركه ثلاث مرات يصلي صلاة فاسدة مما لا يتلاءم
مع خلق النبي صلى الله عليه وآله وقد لا يجوز ذلك عليه صلى الله عليه وآله.
وأبو داود أخرج هذه القصة - في باب صلاة من لا يقيم صلبه في
الركوع والسجود من سننه - بالإسناد إلى رفاعة بن رافع (1) الأنصاري - وهو

(1) شهد بدرا وأحدا وسائر المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وشهد معه في بدر أخواه
خلاد ومالك ابنا رافع وشهد رفاعة هذا مع أمير المؤمنين الجمل وصفين وكان من أشد
أوليائه له نصرة بالقول والفعل يعلم ذلك من ترجمته في الإصابة وغيرها من المؤلفات في
أحوال الصحابة.
37

من أهل بدر - وفيها أن النبي صلى الله عليه وآله قال للرجل الذي لم يحسن صلاته إذا
قمت وتوجهت إلى القبلة فكبر ثم اقرأ بأم القرآن وبما شاء الله أن تقرأ.
وأخرج هذه القصة أيضا أحمد بن حنبل وابن حبان بسنديهما إلى رفاعة
بن رافع وفيها أن النبي صلى الله عليه وآله قال لذلك الرجل المسئ صلاته: ثم اقرأ بأم
القرآن ثم اقرأ بما شئت. الحديث (1).
ومن المعلوم أن أبا هريرة ممن لا يوازن رفاعة ولا يكايله في قول ولا في
عمل فحديثه مقدم على حديث أبي هريرة عند التعارض بلا كلام،
ولذلك ترى القسطلاني في فتح الباري يتأول ما جاء في حديث أبي هريرة
بحمله على ما جاء في حديث رفاعة، ومن تتبع أقوال السلف والخلف فيما
جاء في حديث أبي هريرة من قوله: فاقرأ ما تيسر معك من القرآن، تجدهم
جميعا " غير الحنفية " بين مفند (2) ومتأول (3) ودونك إن شئت كلامهم حول
حديث أبي هريرة هذا من شروح الصحيحين كلها (4).

(1) تجده في آخر باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلاة كلها صفحة 441
من الجزء الثاني من إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري أثناء شرحه لحديث أبي
هريرة هذا بنقله عن كل من أبي داود وأحمد وابن حبان.
(2) كبعض المعتزلة والشيعة.
(3) كأعلام غير الحنفية من الجمهور.
(4) قال الإمام النووي حول حديث أبي هريرة هذا في باب وجوب قراءة الفاتحة
من شرح صحيح مسلم: وأما قوله: اقرأ ما تيسر معك من القرآن فمحمول على الفاتحة
فإنها متيسرة أو على ما زاد على الفاتحة أو على من عجز عن الفاتحة ا ه‍.
وقال الإمام السندي أثناء كلامه في حديث أبي هريرة هذا من تعليقه على صحيح
البخاري ما هذا لفظه: قوله اقرأ ما تيسر معك كأنه قال له ذلك بناء على أن المتيسر لمثله
هي الفاتحة (قال): على أنه ورد في بعض الروايات أنه عين له الفاتحة.
38

على أن أبا هريرة نفسه عارض حديثه هذا بما صح عنه إذ قال: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب (1) وقال:
إن رسول الله صلى الله عليه وآله أمرني أن أخرج فأنادي في المدينة أن لا صلاة إلا بالقرآن
ولو بفاتحة الكتاب فما زاد (2) وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: من صلى
صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج فهي خداج فهي خداج فهي
خداج (3).
بقي الأمر الذي نتسائل عنه أعني السبب بأخذ فقهاء الحنفية بظاهر
قوله في حديث أبي هريرة فاقرأ ما تيسر معك من القرآن دون نصوصه
الصريحة بوجوب الطمأنينة قياما وقعودا وركوعا وسجودا، على أن ما أخذوا
به معارض بصحاح صريحة، ومخالف لجمهور المسلمين، وما لم يأخذوا به
مؤيد بالصحاح وعليه الجمهور.
وربما أستدل الحنفية على رأيهم في هذه المسألة بقوله تعالى: فاقرأوا ما
تيسر من القرآن.

(1) أخرجه أبو بكر بن خزيمة في صحيحه بسند صحيح وكذا رواه أبو حاتم بن
حبان ونقله عنهما مصرحا بصحته الإمام النووي في باب وجوب قراءة الفاتحة من شرحه
لصحيح مسلم.
(2) أخرجه أبو داود في باب من ترك القراءة في صلاته من السنن وأخرج ثمة عن
أبي هريرة أيضا من طريق آخر قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله أن أنادي لا صلاة إلا
بقراءة الفاتحة فما زاد.
(3) أخرجه أبو داود في الباب الآنف الذكر ومسلم عن أبي هريرة من طرق كثيرة
في باب وجوب قراءة الفاتحة من كل ركعة من صحيحه.
39

والجواب: إن هذه الآية لا دخل لها فيما نحن فيه من القراءة في الصلاة
قطعا، يشهد بذلك سياقها في سورة المزمل فليراجعها من شاء وليمعن فيما قاله
المفسرون حولها تتضح له الحقيقة.
واحتج الحنفية لجواز ترجمة ما يقرأ في الصلاة من القرآن باللغات
الأجنبية بوجوه:
أحدها: أن ابن مسعود أقرأ بعض الأعاجم: إن شجرة الزقوم طعام
الأثيم، فكان الأعجمي يقرأ طعام اليتيم. فقال له: قل طعام الفاجر ثم
قال: ليس الخطأ في القرآن أن يقرأ: الحكيم. مكان العليم، بل أن يضع آية
الرحمة مكان آية العذاب.
والجواب: إن هذا أجنبي عما نحن فيه لا دلالة به على المدعى بشئ
من الدول، على أنه لو صح لكان رأيا لابن مسعود مقصورا عليه لا تثبت به
حجة.
الثاني: قوله تعالى: إنه لفي زبر الأولين. ومثله: إن هذا لفي الصحف
الأولى صحف إبراهيم وموسى.
ووجه الاستدلال بهذه الآيات أن الأمة مجمعة على أن القرآن لم يكن
بألفاظه العربية في زبر الأولين ولا في صحف إبراهيم وموسى، وإنما كانت
فيها معانيه بألفاظ العبرانية والسريانية.
والجواب: إن هذا كسابقه في عدم الدلالة على المدعى بل هو أبعد
وأبعد بكثير.
الثالث: أنه تعالى قال: وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به،
والأعاجم لا يفهمون اللفظ العربي إلا أن يذكر لهم معناه بلغتهم فيكون
الانذار بها.
40

والجواب: إن هذا إنما يصلح دليلا على جواز تفسير القرآن بلغاتهم
ليأخذوا بحكمه وآدابه وأوامره وزواجره وهذا شئ، والرطانة في الصلاة
المأمور فيها بقراءة القرآن شئ آخر. وأي عربي أو عجمي لا يتبادر إلى ذهنه
من لفظ قراءة الفاتحة تلاوة أم الكتاب بألفاظها المدونة في المصاحف وأي
ذي ذوق لا يصح عنده سلب لفظ قراءة الفاتحة وقراءة القرآن عن الرظانة
بها في الفارسية أو غيرها من اللغات الأجنبية شرقية وغربية.
وللإمام الرازي في تزييف هذه الوجوه - إذ نقلها ابن الحنفية - كلام
آخر فليراجع.
وأنا أربأ بالامام أبي حنيفة أن يخفق في استدلاله هذا الإخفاق أو
يسف في إلى هذا الخصيض؟؟، لكنه عول في استنباط الأحكام الشرعية
الفرعية على القياس والاستحسان، ومن هنا أتي الرجل، وكأنه استحسن
للأعاجم أن تترجم لهم القراءة في الصلاة بلغاتهم إذ وجد ذلك أقرب إلى
فهمهم لمعانيها وأرجى لخشوعهم فيها، وكأنه قاس قراءة الأعجمي بلغته
على سماعه الموعظة وتلقيه دروس العلم. بلغته. وهذه نظرية أتاتورك في
الصلاة لم يأخذها من أبي حنيفة وإنما هي خواطر موارده. وساعد أتاتورك
على هذه النظرية أنه لا يقدر الأدلة الشرعية بل لا يعرفها ولا يتعرف عليها
فيما يستحسنه من وجوه الإصلاح في نظره ولو كان في الأدلة الشرعية ما
يساعد على جواز العمل بالاستحسان لكان لما رأوه وجه، وقد أبته وحظرته
فهيهات هيهات.
وذهب الشافعي ومالك وأحمد وغيرهم إلى افتراض قراءة الفاتحة باللغة
العربية في جميع ركعات الفرض والنفل، ودليلهم على ذلك حديث أبي
هريرة في قصة الأعرابي الذي لم يحسن صلاته لقول رسول الله صلى الله عليه وآله حيث
41

علمه الصلاة فأمره بالقراءة ثم قال له: " أفعل ذلك في صلاتك كلها " (1)
وقد عرفت رأينا في هذا الحديث إذ قلنا إنا لا نقيم له وزنا...
والذي عليه الإمامية - تبعا لأئمة العترة الطاهرة - إن قراءة الفاتحة
بالعربية الصحيحة فرض في الركعتين الأوليين من كل فرض ونفل (2) على
المنفرد والإمام، أما المأموم فيتحمل القراءة عنه إمامه (3) وأما الركعتان
الأخريان فيجب فيهما إما قراءة الفاتحة أو التسبيح على سبيل التخيير بينهما

(1) قال الإمام النووي الشافعي في باب وجوب قراءة الفاتحة من شرحه لصحيح
مسلم: والذي عليه جمهور العلماء من السلف والخلف وجوب الفاتحة في كل ركعة
لقوله صلى الله عليه وآله للأعرابي الذي لم يحسن صلاته إفعل ذلك في صلاتك كلها. قلت: وقد تعلم
أن النووي والشافعي وغيرهما ممن يوجب قراءة الفاتحة في كل ركعة من ركعات الصلاة
لا يتسنى له اعتبار حديث أبي هريرة إلا بحمل قوله فيه: فاقرأ ما تيسر معك من القرآن
على خصوص الفاتحة.
(2) يجب عندنا في كل من الركعتين الأوليين من الفرائض الخمس قراءة سورة
كاملة بعد الفاتحة لثبوت ذلك عن رسول صلى الله عليه وآله في حديث أبي قتادة وقد أخرجه
البخاري في صحيحه وأخرجه غيره، ويجوز عندنا ترك السورة في بعض الأحوال بل قد
يجب مع ضيق الوقت ونحوه من موارد الضرورة، أما النافلة فيجب فيها الفاتحة فقط
ومعنى وجوبها فيها أنها شرط في صحتها.
(3) لقوله صلى الله عليه وآله: من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة وهذا حديث مأثور عند
الجمهور من عدة طرق تجده في مبحث قراءة الفاتحة من كتاب الفقه على المذاهب
الأربعة وتجد ثمة القول بمنع المأموم عن القراءة مأثورا عن أمير المؤمنين والعبادلة في
ثمانين من كبار الصحابة، بل تجد القول بفساد صلاة المأموم إذا قرأ خلف إمامه مأثورا
عن عدة أخرى من الصحابة.
والأحوط عندنا بل الأقوى للمأموم ترك القراءة في الركعتين الأوليين من
الاخفاتية، وكذا في الأوليين من الجهرية إذا سمع من صوت إمامه ولو الهمهمة عملا
بقوله تعالى: وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وانصتوا لعلكم ترحمون. أما إذا لم يسمع حتى
الهمهمة جاز للمأموم بل استحب له القراءة.
42

ولا يتحمل الإمام فيهما عن المأموم عن المأموم قراءة ولا تسبيحا.
وحجتنا على هذا كله نصوص أئمتنا وهم أعدال الكتاب عليهم السلام
على أن قراءة النبي صلى الله عليه وآله في كل من الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب ثاب
في الصحاح والمسانيد كلها من حديث أبي قتادة الحرث بي ربعي وغيره،
والأصل فيما يفعله في صلاته صلى الله عليه وآله هو الوجوب (1) لقوله صلى الله عليه وآله: صلوا كما
رأيتموني أصلي، ولئن ثبت عنه قراءة الفاتحة في الركعتين الأخريين فقد ثب
عنه أيضا الذكر فيهما وصورته: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله
أكبر مأثورا من طرق الأئمة من عترته الطاهرة. وقد يشهد له حديث سعد بن
أبي وقاص الموجود في صحيح البخاري وغيره من الصحاح والمسانيد إذ
شكاه أهل الكوفة إلى عمر حتى ذكروا أنه لا يحسن يصلي، فقال سعد:
والله لقد كنت أصلي بهم صلاة رسول الله ما أخرم عنها، فأركد - أطيل
القيام بقراءة الفاتحة والسورة - في الركعتين الأوليين. وأخف في الركعتين
الأخريين - أي أسرع فيهما اقتصارا على التسبيح أو الفاتحة مجردة عن
غيرها - والله تعالى أعلم.

(1) كما نص عليه الإمام السندي في تعليقه على حديث سعد من صحيح البخاري
الذي أشرنا إليه في الأصل.
43

[تكبيرة الإحرام]
أجمع الإمامية - تبعا لأئمة العترة الطاهرة - على أن تكبيرة الإحرام
ركن من كل فريضة وكل نافلة لا تنعقد الصلاة إلا بها. وصورتها - الله
أكبر - خاصة. فلو افتتح المصلي صلاته بتسبيح الله أو تهليله أو بقول الله
كبير أو الله الأكبر أو الله أعظم أو نحوها لا يصح. فضلا عن رطانتها بإحدى
اللغات الأعجمية وحسبنا في ثبوت افتراضها أن رسول الله صلى الله عليه وآله لم يفتتح
صلاة من صلواته كلها إلا بها، وقد عرفت قريبا أن الأصل فيما يفعله في
صلاته صلى الله عليه وآله إنما هو الوجوب لقوله: " صلوا كما رأيتموني أصلي ".
على أن افتراضها ثابت في الكتاب والسنة وإجماع الأمة قال الله تعالى:
" وربك فكبر " وقد انعقد الإجماع على أن المراد به تكبيرة الإحرام لأن الأمر
للوجوب، وغيرها ليس بواجب إجماعا. وقد قال صلى الله عليه وآله: " مفتاح الصلاة
الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم " رواه أبو داود في سننه.
وقال الحنفية إن التحريم ليس ركنا في الصلاة وإنما هو متصل بالقيام
44

الذي هو ركن فيجب فيه استقبال القبلة وستر العورة والكون على طهارة
لا لنفسه بل لاتصاله بالركن، وقالوا لا يشترط فيها اللغة العربية واكتفوا
بترجمتها بأي لغة شاء المصلي سواء أكان عاجزا عن العربية أم قادرا عليها
فتنعقد الصلاة عندهم بقول المصلي: " خدا بزرك " مثلا عوضا عن الله
أكبر، قالوا ويصح الإحرام بالتسبيح أو التهليل وبكل اسم من أسمائه تعالى
بدون أن يزاد عليه شئ. كأن يفتتحها بقول " الله " أو " الرحمن " أو نحو
ذلك من أسمائه الحسنى مجردة مع الكراهة، هذا مذهبهم لا يختلفون فيه،
وحجتهم إنما هي الاستحسان كما سمعت، والجواب هو الجواب والله الموفق
للصواب.
45

[تقصير المسافر وإفطاره]
[تشريع التقصير]
تقصر الفرائض الرباعية في السفر إلى ركعتين سواء أكان ذلك في حال
الخوف أم كان في حال الأمن إجماعا من الأمة المسلمة وقولا وأحدا. قال
الله تعالى: " وإذا ضربتم في الأرض فلا جناح عليكم أن تقصروا من
الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ".
وعن يعلى بن أمية. قال: قلت لعمر بن الخطاب: ليس عليكم جناح
أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا وقد أمن الناس.
فقال: عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وآله عن ذلك
فقال صلى الله عليه وآله: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته. أخرجه مسلم في
صحيحه.
وعن ابن عمر - فيما أخرجه مسلم في الصحيح أيضا - قال: إني
صحبت رسول الله صلى الله عليه وآله في السفر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله
تعالى، وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت عمر
46

فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، ثم صحبت عثمان فلم يزد على ركعتين
حتى قبضه الله. وقد قال الله تعالى: " لقد كان لكم في رسول الله أسوة
حسنة ".
وعن أنس بن مالك - فيما أخرجه الشيخان في صحيحيهما - قال:
خرجنا مع النبي صلى الله عليه وآله من المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى
رجعنا إلى المدينة.
وعن ابن عباس - فيما أخرجه البخاري في صحيحه - قال: أقام
النبي صلى الله عليه وآله في مكة تسعة عشر يقصر، الحديث. قلت: وإنما قصر مع اقامته
تسعة عشر يوما لعدم نية الإقامة.
وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه كان يصلي بأهل مكة إماما بعد الهجرة
فيسلم في الرباعيات على رأس الركعتين الأوليين وكان قد تقدم إلى القوم
بأن يتموا صلاتهم أربع ركعات معتذرا عن نفسه وعمن جاء معه بأنهم قوم
سفر.
وروى ابن أبي شيبة بسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وآله قال: إن خيار أمتي من
شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله والذين إذا أحسنوا استبشروا
وإذا أساؤوا استغفروا وإذا سافروا قصروا.
وعن أنس - فيما أخرجه مسلم في صحيحه من طريقين - قال: صليت
مع رسول الله صلى الله عليه وآله الظهر في المدينة أربعا وصليت معه العصر بذي الحليفة
- مسافرا - ركعتين. إلى كثير من الصحاح الصراح بأن الله عز وجل قد شرع
التقصير في السفر.
47

[تشريع الافطار]
لا كلام في أن الله عز وجل شرع الافطار في شهر رمضان لكل من
سافر فيه سفرا تقصر فيه الصلاة وهذا القدر مما أجمعت الأمة المسلمة عليه،
والكتاب والسنة يثبتانه بصراحة. قال الله تعالى: " شهر رمضان الذي أنزل
فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر
فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم
اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة " الآية.
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا سافر في شهر رمضان يفطر ويعلن للناس
إفطاره وقد عد الصوم في السفر معصية وأكدها وقال: ليس من البر أن
تصوموا في السفر، وستسمع ذلك كله بنصه صلى الله عليه وآله.
وجاء في حديث أبي قلابة - وهو في الصحاح - أن النبي صلى الله عليه وآله قال
لرجل من بني عامر: إن الله وضع عن المسافر الصوم، وشطر الصلاة.
ومن تتبع السنن وأقوال الأئمة حول صلاة المسافر وصومه وجد النص
والفتوى وإجماع الأمة على أن القصر والافطار سفرا مما شرعه الله عز وجل في
دين الإسلام وإن المقتضي من السفر لأحدهما هو بعينه المقتضي للآخر بلا
كلام.
[حكم القصر]
اختلف أئمة المسلمين في حكم القصر في السفر على أقوال، فمنهم من
رأى أن القصر هو فرض المسافر المتعين عليه وهذا قول الإمامية تبعا لأئمتهم،
48

وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه والكوفيون بأسرهم (1).
ومنهم من رأى أن القصر والاتمام كليهما فرض على التخيير كالخيار في
واجب الكفارة، وهذا قول بعض أصحاب الشافعي.
ومنهم من رأى أن القصر سنة مؤكدة، وهذا قول مالك في أشهر
الروايات عنه.
ومنهم من رأى أن القصر رخصة وأن الإتمام أفضل، وبه قال
الشافعي في أشهر الروايات عنه، وهو المتصور عند أصحابه.
والحنابلة قالوا بجواز القصر وهو أفضل من الإتمام ولا يكره الإتمام.
[حجتنا]
احتج الإمامية لوجوب التقصير بصحاح من طريق الجمهور، ونصوص
ثابتة عن أئمة الهدى من أهل البيت عليهم السلام.
فمن صحاح الجمهور ما أخرجه مسلم - في كتاب صلاة المسافرين
وقصرها من صحيحه - عن ابن عباس من طريقين قال: فرض الله الصلاة
على لسان نبيكم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين، وهذا صريح بأن
المسافر إنما أمر بأداء الظهر والعصر والعشاء ركعتين، كما أن الحاضر إنما أمر
بأدائها أربع ركعات، وإذا لا تصح من المسافر إلا أن تكون ركعتين حسبما

(1) أجمع الحنفية على أن قصر الصلاة واجب على المسافر ولا يجوز له الإتمام فإذا
أتم صلاته اعتبروه آثما لتأخير السلام عن نهاية القعود المفروض وهو القعود الأول في
هذه الحال، ومع ذلك فهو متنفل عندهم بالركعتين الأخيرتين لأن الفرض إنما هو
الركعتان الأوليان ولذا يحكمون ببطلان الصلاة إن ترك القعود الأول في هذه الصورة
لأنه ترك فرضا من فرائض الصلاة.
49

فرضت عليه، كما لا تصح من الحاضر إلا أن تكون أربعا كما فرضت عليه
لأن صحة العبادة إنما هي مطابقتها للأمر.
وفي صحيح مسلم أيضا بالإسناد إلى موسى بن سلمة الهذلي. قال:
سألت ابن عباس كيف أصلي بمكة - مسافرا -؟ فقال: ركعتين سنة أبي
القاسم صلى الله عليه وآله.
فأرسل الجواب بكونها ركعتين وكونها سنة أبي القاسم إرسال المسلمات
وهذا من الظهور بتعيين القصر بمثابة لا تخفى على أهل العرف.
وأخرج مسلم أيضا في صحيحه من طريق الزهري عن عروة عن
عائشة: أن الصلاة فرضت أول ما فرضت ركعتين فأقرت صلاة السفر
وأتمت صلاة الحضر. قال الزهري: فقلت لعروة: ما بال عائشة تتم في
السفر؟ قال: إنها تأولت كتأول عثمان.
وفي صحيح مسلم عن عائشة من طريق آخر قالت: فرض الله الصلاة
حين فرضها ركعتين ثم أتمها في الحضر فأقرت صلاة السفر على الفريضة
الأولى.
قلت: من البديهي إذا كان هذا صحيحا أن لا تصح من المسافر رباعية
إذ لم يتوجه إليه من الشارع أمر بها، وإنما أمر من أول الأمر بأدائها ركعتين
وأقرها الله على ذلك فلو أداها المسافر أربعا كان مبتدعا، كما لو أدى
فريضة الصبح أربعا، وكما لو أدى الحاضر فرائضه الرباعيات مثنى مثنى
مثنى.
ومن نصوص أئمة الهدى ما صح عن زرارة بن أعين ومحمد بن مسلم إذ
سألا الإمام أبا جعفر الباقر عليه السلام فقالا له: ما تقول في الصلاة في
السفر؟ كيف هي، وكم هي؟ قال: أن الله سبحانه يقول: وإذا ضربتم في
50

الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة فالتقصير واجب في
السفر كوجوب التمام في الحضر، قالا: قلنا أنه قال: لا جناح عليكم أن
تقصروا من الصلاة، ولم يقل قصروا فكيف أوجب ذلك كما أوجب التمام؟
قال أوليس قال تعالى في الصفا والمروة: فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح
عليه أن يطوف بهما ألا ترى أن الطواف واجب مفترض لأن الله تعالى ذكره
في كتابه، وصنعه نبيه؟ وكذا التقصير في السفر شئ صنعه رسول الله
وذكره الله في الكتاب. قالا: قلنا فمن صلى في السفر أربعا أيعيد أم لا؟
قال: أن كانت قرئت عليه آية التقصير وفسرت له فصلى أربعا أعاد، وإن لم
يكن قرئت عليه ولم يعلمها فلا إعادة عليه (قال عليه السلام): والصلاة في
السفر كل فريضة ركعتان إلا المغرب فإنها ثلاث ليس فيها تقصير تركها
رسول الله صلى الله عليه وآله في السفر والحضر ثلاث ركعات.
قال الإمام الطبرسي بعد إيراد هذا الخبر: وفي هذا دلالة على أن فرض
المسافر مخالف لفرض المقيم (قال) وقد أجمعت الطائفة على ذلك، وأجمعت
على أنه ليس بقصر، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: فرض المسافر
ركعتان غير قصر، انتهى ما قلناه عن مجمع البيان.
وفي الكشاف حول آية التقصير، قال: وعند أبي حنيفة القصر في السفر
عزيمة غير رخصة لا يجوز غيره (قال) وعن عمر بن الخطاب صلاة السفر
ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم (1).

(1) إذا كانت صلاة السفر ركعتين وكانت بالركعتين تماما غير قصر وكان ذلك
كله على لسان نبينا بشهادة عمر فكيف يصح أن تكون رباعية؟ وهل تصح العبادة إذا
وقعت على خلاف ما شرعها الله عز وجل.
51

[حجة الشافعي ومن لا يوجب القصر]
احتجوا بأمور:
أولها: الظاهر من قوله تعالى: فليس عليكم جناح أن تقصروا من
الصلاة. لأن الجناح وهو الإثم إنما يوجب بمجرده الإباحة لا الوجوب.
وقد عرفت الجواب بنص الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام، وكأن
الناس يومئذ ألفوا الإتمام فكانوا - كما أفاده الإمام الزمخشري في كشافه -
مظنة لأن يخطر ببالهم أن عليهم نقصانا في القصر فنفى عنهم الجناح لتطيب
أنفسهم بالقصر ويطمئنوا إليه.
ثانيها: أن عثمان وعائشة كانا يتمان في السفر.
والجواب: أنهما تأولا أدلة التقصير فأخطأ، وقد فسر بعض علماء
الجمهور تأولهما هذا بأن عثمان كان أمير المؤمنين وعائشة كانت أمهم فهما
من سفرهما في حضر مستمر على اعتبار أنهما حيث ما كانا مسافرين فهما في
أهل ودار ووطن. وهذا اجتهاد طريف نرى وجه الطرافة فيه بانكشافه عن
غربة رسول الله صلى الله عليه وآله في دنيا المؤمنين إذ لم يرو عنه في السفر عدم التقصير
وكذلك أبو بكر وعمر وعلي غرباء لهم الله على هذا الأساس.
ثالثها: أحاديث مشهورة أخرجها مسلم في صحيحه صريحة بأن
الصحابة كانوا يسافرون مع رسول الله صلى الله عليه وآله فيكون منهم القاصر ومنهم
المتم ومنهم الصائم في شهر رمضان ومنهم المفطر فيه لا يعيب بعضهم على
بعض.
والجواب: إن هذه الأحاديث لم يثبت شئ منها عن طريقنا على أنها
تعارض صحاحنا المروية عن أئمتنا أعدال الكتاب بل تعارض نفسها
بنفسها كما يعلمه الملم بها وكما ستسمعه قريبا إن شاء الله تعالى.
52

وما من شك في أن حديث الأوصياء من آل محمد هو المقدم في مقام
التعارض ولا سيما بعد تأييده بثلة من صحاح الجمهور.
[حكم الافطار]
اختلف فقهاء الإسلام في حكم الإفطار في السفر فذهب الجمهور إلى
أنه رخصة، وأن المسافر إذا صام صح صومه وأجزأه مستدلين على ذلك
بأحاديث أخرجها مسلم في صحيحه.
فمنها ما عن أبي سعيد الخدري قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وآله لست
عشرة مضت من رمضان فمنا من صام ومنا من أفطر فلم يعب الصائم على
المفطر ولا المفطر على الصائم.
وعنه من طريق آخر قال: كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وآله في رمضان فما
يعاب على الصائم صومه ولا على المفطر إفطاره.
والجواب: إن هذه الأحاديث - لو فرض صحتها - فهي منسوخة لا
محالة بصحاح من طريق الجمهور، وصحاح أخر من طريقنا عن أئمة أهل
البيت عليهم السلام.
وإليك ما صح في هذا الباب من طريق غيرنا عن جابر بن عبد الله.
قال - كما في صحيح مسلم -: أن رسول الله صلى الله عليه وآله خرج عام الفتح إلى
مكة في رمضان فصام حتى بلغ كراع الغميم فصام الناس ثم دعا بقدح من
ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه ثم شرب. فقيل له بعد ذلك: إن بعض
الناس قد صام فقال صلى الله عليه وآله: أولئك العصاة أولئك العصاة.
وأخرج عن جابر أيضا. قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله في سفر فرأى رجلا
53

قد اجتمع الناس عليه وقد ظلل عليه فقال: ما له؟ قالوا: صائم، فقال رسول
الله صلى الله عليه وآله: ليس من البر أن تصوموا في السفر.
وإنما قلنا إن هذه السنن ناسخة لتلك لتأخر صدورها عنها باعتراف
الجمهور، ويدل على ذلك ما في صحيح مسلم وغيره عن عبيد الله بن عبد الله
بن عتبة عن ابن عباس: أنه أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وآله خرج عام الفتح
فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر قال: وكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله يتبعون
الأحدث فالأحدث من أمره.
وعن الزهري - كما في صحيح مسلم وغيره - بهذا الإسناد مثله قال
الزهري: وكان الفطر آخر الأمرين وإنما يؤخذ أمر رسول الله بالآخر فالآخر.
وعن ابن شهاب - كما في صحيح مسلم وغيره - بهذا الإسناد أيضا
مثله. قال ابن شهاب: كانوا يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره ويرونه
الناسخ المحكم.
ومجمل الأمر أنه لو فرض صحة صوم البعض من أصحابه في السفر معه
فإنما كان ذلك قبل التزامهم بالافطار وقبل قوله صلى الله عليه وآله ليس من البر أن
تصوموا في السفر، وقبل قوله صلى الله عليه وآله عن الصائمين: أولئك العصاة أولئك
العصاة.
أما الإمامية فقد أجمعوا على أن الافطار في السفر عزيمة، وهذا مذهب
داود بن علي الاصفهاني وأصحابه وعليه جماعة من الصحابة كعمر بن
الخطاب وابنه عبد الله و عبد الله بن عباس و عبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة
وعروة بن الزبير وهو المتواتر عن أئمة الهدى من العترة الطاهرة، وروي أن
عمر بن الخطاب أمر رجلا صام في السفر أن يعيد صومه - كما هو مذهبنا
ومذهب داود - وروى يوسف بن الحكم. قال: سألت ابن عمر عن
54

الصوم في السفر فقال: أرأيت لو تصدقت على رجل صدقة فردها عليك
ألا تغضب؟ فإنها صدقة من الله تصدق بها عليكم فلا تردوها. وروى عبد
الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله الصائم في السفر كالمفطر في
الحضر. وعن ابن عباس: الافطار في السفر عزيمة. وعن أبي عبد الله الصادق
عليه السلام أنه قال: الصائم في شهر رمضان في السفر كالمفطر فيه في
الحضر. وعنه عليه السلام: لو أن رجلا مات صائما في السفر لما صليت
عليه. وعنه عليه السلام قال: من سافر أفطر وقصر إلا أن يكون سفره في
معصية الله عز وجل، وروى العياشي بسنده إلى محمد بن مسلم عن أبي
عبد الله الصادق عليه السلام. قال: نزلت هذه الآية " فمن كان منكم
مريضا أو على سفر " بكراع الغميم عند صلاة الهجير فدعا رسول الله بإناء
فيه ماء فشرب وأمر الناس أن يفطروا فقال قوم: قد مضى النهار ولو تممنا
يومنا هنا فسماهم رسول الله صلى الله عليه وآله: العصاة فلم يزالوا يسمون العصاة حتى
قبض رسول الله صلى الله عليه وآله.
وحسبنا حجة لوجوب الافطار في السفر قوله عز وجل: " فمن شهد
منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد
الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر " فإن في الآية دلالة على وجوب الافطار
من وجوه.
أحدها: أن الأمر بالصوم في الآية إنما هو متوجه للحاضر دون المسافر،
ولفظه كما تراه: فمن شهد منكم الشهر - أي حضر في الشهر - فليصمه
وإذا فالمسافر غير مأمور فصومه إدخال في الدين ما ليس من الدين تكلفا
وابتداعا.
ثانيها: أن المفهوم من قوله تعالى: فمن شهد منكم الشهر فليصمه إن من
55

لم يحضر في الشهر لا يجب عليه الصوم، ومفهوم الشرط حجة كما هو مقرر في
أصول الفقه، وإذا فالآية تدل على عدم وجوب الصوم في السفر بكل
منطوقها ومفهومها.
ثالثها: أن قوله عز وجل: ومن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من
أيام أخر تقديره فعليه عدة من أيام أخر هذا إذا قرأت الآية برفع عدة وإن
قرأتها بالنصب كان التقدير فليصم عدة من أيام أخر وعلى كل فالآية
توجب صوم أيام أخر وهذا يقتضي وجوب إفطار أيام السفر إذ لا قائل
بالجمع بين الصوم والقضاء، على أن الجمع ينافي اليسر المدلول عليه بالآية.
رابعها: قوله تعالى: يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر، واليسر
هنا إنما هو الافطار كما أن العسر هنا ليس إلا الصوم وإذا فمعنى الآية يريد
الله منكم الافطار ولا يريد منكم الصوم.
[قدر السفر المقتضي للتقصير والافطار]
اختلف أئمة المسلمين في تقديره فقال أبو حنيفة وأصحابه والكوفيون:
أقل ما تقصر فيه الصلاة ويفطر فيه الصائم سفر ثلاثة أيام وأن القصر
والافطار إنما هما لمن سافر من أفق إلى أفق (1).
وقال الشافعي ومالك وأحمد وجماعة كثيرون: تقصر الصلاة ويفطر في
شهر رمضان بقطع مسافة تبلغ ستة عشر فرسخا ذهابا فقط (2)

(1) نقل ابن رشد عنهم هذا في كتابه البداية والنهاية.
(2) هذه المسافة تساوي ثمانين كيلو ونصف كيلو ومئة وأربعين مترا مسيرة يوم
وليلة بسير الإبل المحملة بالأثقال سيرا معتدلا ولا يضر عندهم نقصان المسافة عن المقدار
المبين بشئ قليل كميل أو ميلين.
56

وقال أهل الظاهر: القصر والافطار في كل سفر حتى القريب.
قال ابن رشد. " في صلاة السفر من البداية والنهاية ": والسبب في
اختلافهم معارضة المعنى المعقول من التقصير والافطار في السفر للفظ المنقول
في هذا الباب. وذلك أن المعقول من تأثير السفر في القصر والافطار أنه
لمكان المشقة فيه.
وإذا كان الأمر على ذلك فإنما يكونان حيث تكون المشقة، وعند أبي
حنيفة لا تكون المشقة إلا بقطع ثلاث مراحل، وعند الشافعي ومالك وأحمد
تكون بقطع ستة عشر فرسخا " قال ": وأما من لا يراعي في ذلك إلا اللفظ
فقط كأهل الظاهر فقد قالوا: أن النبي صلى الله عليه وآله نص على أن الله وضع عن
المسافر الصوم وشطر الصلاة فكل من أطلق عليه اسم مسافر جاز له القصر
والفطر " قال ": وأيدوا ذلك بما رواه مسلم عن عمر بن الخطاب أن
النبي صلى الله عليه وآله كان يقصر في نحو السبعة عشر ميلا. ا ه‍.
وعلى هذا فإن أئمة المذاهب الأربعة لم يستندوا فيما حددوه من المسافة
إلى دليل من أقوال النبي أو أفعاله صلى الله عليه وآله وإنما استندوا إلى فلسفة أطلقوا عليها
" المعنى المعقول " وذلك ما لا يرتضيه أئمة أهل البيت ولا تطمئن إليه
الإمامية في استنباط الأحكام الشرعية.
وكان أهل مكة - على عهد النبي صلى الله عليه وآله وأبي بكر وعمر - إذا خرجوا
من مكة إلى عرفات يقصرون في عرفات والمزدلفة ومنى وهذا ثابت لا ريب
فيه.
وأخرج الشيخان في صحيحيهما أن النبي صلى الله عليه وآله كان إذا خرج من مكة
إلى عرفات قصر، وأن أبا بكر وعمر قصرا بعده. وأن عثمان قصر أيضا ثم أتم
57

صلاته بعد ست سنين مضت من خلافته فأنكر الناس عليه (1). وهذا هو
مستند الإمام مالك من قوله بأن تقصير الحجاج في هذه الأماكن سنة مؤكدة
سواء في ذلك أهل مكة وأهل الأقطار النائية فراجع فقه المالكية (2) وهذا
مستندنا في التقصير بسفر مسافته ثمانية فراسخ سواء أكانت امتدادية أو
كانت ملفقة من أربعة في الذهاب وأربعة في الاياب كالمسافة بين مكة
وعرفات، وهي أقل مسافة قصر رسول الله صلى الله عليه وآله فيها الصلاة، وأنها لحجة
بالغة والحمد لله.

(1) تجد ذلك كله في باب الصلاة بمنى وهو أحد أبواب التقصير وأحد أبواب الحج
من الجزء الأول من صحيح البخاري وتجده في كتاب صلاة المسافرين وقصرها من
صحيح مسلم.
وتجد في ص 178 من كتاب الأستاذ الدكتور طه حسين - الفتنة الكبرى - ما
هذا لفظه: ثم عاب المسلمون المعاصرون لعثمان عليه مخالفته للسنة المعروفة المستفيضة
عن النبي صلى الله عليه وآله وعن الشيخين وعن عثمان نفسه في صدر من خلافته وذلك حين أتم
الصلاة في منى وقد قصرها النبي صلى الله عليه وآله والشيخان وقصرها عثمان أيضا أعواما، وقد ذعر
المسلمون حقا حين أتم عثمان الصلاة في منى، فسعى بعضهم إلى بعض وقال بعضهم لبعض، ثم
أقبل عبد الرحمن بن عوف على عثمان فقال له: ألم تصل هنا مع النبي ركعتين؟ قال
عثمان: بلى. فقال عبد الرحمن: ألم تصل مع أبي بكر وعمر ركعتين؟ قال عثمان: بلى.
قال عبد الرحمن: ألم تصل أنت بالناس هنا ركعتين؟ قال عثمان: بلى. قال عبد الرحمن:
فما هذا الحدث الذي أحدثته؟ قال عثمان: فإني قد بلغني أن الأعراب والجفاة من
أهل اليمن يقولون إن صلاة المقيم اثنتان، فأجابه عبد الرحمن بأن خوفك على الأعراب
والجفاة في غيره محله إذ قد صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ركعتين ولم يكن
الإسلام قد فشا بعد والآن قد ضرب الإسلام بجرانه فما ينبغي لك أن تخاف.
(2) وقد نقله النووي عن مالك في شرحه لصحيح مسلم في كتاب صلاة المسافرين
وقصرها.
58

[نكاح المتعة
و
فيه فصول]
[1 - حقيقة هذا النكاح:]
إنما حقيقته أن تزوجك المرأة الحرة الكاملة المسلمة أو الكتابية نفسها،
حيث لا يكون لك مانع في دين الإسلام عن نكاحها، من نسب أو سبب
أو رضاع أو إحصان أو عدة، أو غير ذلك من الموانع الشرعية، ككونها
معقودا عليها لأحد آبائك، وإن كان قد طلقها أو مات عنها قبل الدخول
بها، وككونها أختا لزوجتك مثلا، أو نحو ذلك.
تزوجك هذه المرأة نفسها بمهر مسمى إلى أجل مسمى، بعقد نكاح
جامع لشرائط الصحة الشرعية، فاقد لكل مانع شرعي كما سمعت فتقول
لك بعد تبادل الرضا والاتفاق بينكما: زوجتك أو أنكحتك أو متعتك
نفسي بمهر قدره كذا يوما أو يومين أو شهرا أو شهرين أو سنة أو سنتين
مثلا، أو تذكر مدة أخرى معينة على الضبط فتقول أنت لها على الفور:
قبلت، وتجوز الوكالة في هذا العقد من كلا الزوجين كغيره من العقود،
59

وبتمامه تكون زوجة لك، وأنت تكون زوجا لها، إلى منتهى الأجل المسمى
في العقد، وبمجرد انتهائه تبين من غير طلاق كالإجارة، وللزوج فراقها قبل
انتهائه بهبة المدة المعينة لا بالطلاق - عملا بنصوص خاصة حاكمة بذلك -
ويجب عليها مع الدخول بها (1) أن تعتد بعد هبة المدة أو انقضائها بقرأين، إذا
كانت ممن تحيض، وإلا فبخمسة وأربعين يوما كالأمة - عملا بأدلة خاصة
تحكم بذلك -.
فإذا وهبها المدة أو انقضت قبل أن يمسها فما له عليها من عدة، كالمطلقة
قبل المس (2) وأولات الأحمال في المتعة أجلهن أن يضعن حملهن كالمطلقات،
أما عدة المتوفى عنها زوجها في نكاح المتعة فهي عدة المتوفى عنها زوجها في
النكاح الدائم مطلقا (3).
وولد المتعة ذكرا كان أو أنثى يلحق بأبيه ولا يدعى إلا له كغيره من
الأبناء والبنات، وله من الإرث ما أوصانا الله به سبحانه بقوله عز من
قائل: " يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين " ولا فرق بين
ولديك المولود أحدهما منها والآخر من النكاح الدائم، وجميع العمومات
الشرعية الواردة في الأبناء والآباء والأمهات شاملة لأبناء المتعة وآبائهم
وأمهاتهم، وكذا القول في العمومات الواردة من الأخوة والأخوات وأبنائهما،

(1) وعدم بلوغها سن اليأس الشرعي.
(2) ولا عدة على من بلغت سن اليأس كالمطلقة أيضا.
(3) سواء أكانت مدخولا بها أم لا وسواء أكانت يائسا أم لا وسواء أكانت حبلى
أم حائلا. وعدة الحبلى إذا مات عنها زوجها في كلا النكاحين، أبعد الأجلين - وهما
وضع الحمل ومضي المدة وهي أربعة أشهر وعشر بعد علمها بموت الزوج -
60

والأعمام والعمات والأخوال والخالات وأبنائهم (وأولو الأرحام بعضهم
أولى ببعض في كتاب الله) مطلقا.
نعم نكاح المتعة بمجرده لا يوجب توارثا بين الزوجين ولا ليلة ولا نفقة
للمتمتع بها، وللزوج أن يعزل عنها، عملا بأدلة خاصة تخصص العمومات
الواردة في هذه الأمور من أحكام الزوجات.
هذا نكاح المتعة بكنهه وهذه متعة النساء بحقيقتها، وهذا هو محل النزاع
بيننا وبين الجمهور.
[2 - إجماع الأمة على اشتراعه:]
أجمع أهل القبلة كافة على أن الله تعالى شرع هذا النكاح في دين
الإسلام، وهذا القدر مما لا ريب فيه لأحد من علماء المذاهب الإسلامية
على اختلافهم في المشارب والمذاهب والآراء بل لعل هذا ملحق - عند
أهل العلم - بالضروريات مما ثبت عن سيد النبيين صلى الله عليه وآله فلا ينكره أحد
من علماء أمته، ومن ألم بما يقوله أهل المذاهب الإسلامية كلهم في حكم
هذا النكاح مستقرئا فقه الجميع، علم أنهم متصافقون على أصل مشروعيته
وإنما يدعون نسخه كما ستسمعه إن شاء الله تعالى.
[3 - دلالة الكتاب على اشتراعه:]
حسبنا حجة على اشتراعه قوله تعالى في سورة النساء " فما استمتعتم به
منهن فآتوهن أجورهن فريضة " إذ أجمع أئمة أهل البيت وأولياؤهم على
نزولها في نكاح المتعة وكان أبي بن كعب وابن عباس وسعيد بن جبير
61

والسدي يقرأونها فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى (1) وصرح عمران بن
حصين الصحابي بنزول هذه الآية في المتعة وأنها لم تنسخ حتى قال رجل فيها
برأيه ما شاء (2) ونص على نزول الآية في المتعة مجاهد أيضا فيما أخرجه عنه
الطبري في تفسيره الكبير (3).
ويشهد لذلك أن الله سبحانه قد أبان في أوائل السورة حكم النكاح
الدائم بقوله عز من قائل: " فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث
ورباع " إلى أن قال: " وآتوا النساء صدقاتهن نحلة " فلو كانت هذه الآية في
بيان " الدائم " أيضا للزم التكرار في سورة واحدة، أما إذا كانت لبيان
المتعة فإنها تكون لبيان معنى جديد، وأولو الألباب ممن تدبروا القرآن الحكيم
علموا أن سورة النساء قد اشتملت على بيان الأنكحة الإسلامية كلها،
فالدائم وملك اليمين تبينا بقوله تعالى: " فانكحوا ما طاب لكم من النساء
مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم "
ونكاح الإماء مبين بقول تعالى: " ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح

(1) أخرج ذلك عنهم غير واحد من الأعلام كالإمام الطبري حول الآية من أوائل
الجزء الخامس من تفسيره الكبير، والزمخشري أرسل هذه القراءة في كشافه عن ابن
عباس إرسال المسلمات ونقل عياض عن المازري - كما في أول باب نكاح المتعة من
شرح صحيح مسلم للإمام النووي -: إن ابن مسعود قرأ فما استمتعتم به منهن إلى أجل،
والرازي ذكر في تفسير الآية أنه روى عن أبي بن كعب أنه كان يقرأ فما استمتعتم به
منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن (قال) وهذا أيضا هو قراءة ابن عباس (قال)
والأمة ما أنكروا عليهما في هذه القراءة " قال ": فكان ذلك إجماعا من الأمة على صحة
هذه القراءة إلى آخر كلامه في ص 201 من الجزء 3 من تفسيره الكبير.
(2) ستقف على كلامه في هذا الشأن قريبا.
(3) راجع ص 9 من جزئه الخامس.
62

المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات " إلى أن
قال: " فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف " والمتعة مبينة
بآيتها هذه " فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن ".
[4 - اشتراعه بنصوص السنن:]
حسبنا من السنة في هذا الباب صحاح متواترة عن أئمة العترة الطاهرة.
وقد أخرج الشيخان البخاري ومسلم في اشتراع هذا النكاح صحاحا كثيرة
عن كل من سلمة بن الأكوع وجابر بن عبد الله و عبد الله بن مسعود وابن
عباس وأبي ذر الغفاري وعمران بن حصين والأكوع بن عبد الله الأسلمي
وسبرة بن معبد، وأخرجها أحمد بن حنبل في مسنده من حديث هؤلاء كلهم
ومن حديث عمر وحديث ابنه عبد الله، وأخرج مسلم في باب نكاح المتعة
من كتاب النكاح من الجزء الأول من صحيحه عن جابر بن عبد الله وسلمة
بن الأكوع قالا: خرج علينا منادي رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: إن رسول الله
أذن لكم أن تستمتعوا. يعني متعة النساء. انتهى بلفظه. والصحاح في هذا
المعنى أكثر من أن تستقصى في هذا الاملاء.
[5 - القائلون بنسخه وحجتهم والنظر فيها:]
قال أهل المذاهب الأربعة وغيرهم من فقهاء الجمهور بنسخ هذا
النكاح وتحريمه محتجين بأحاديث أخرجها الشيخان في صحيحيهما وقد أمعنا
فيها متجردين متحررين فوجدنا فيها من التعارض في وقت صدور النسخ ما
لا يمكن معه الوثوق بها. فإن بعضها صريح بأن النسخ كان يوم خيبر، وفي
بعضها أنه كان يوم الفتح وفي بعضها أنه كان في غزوة تبوك، وفي بعضها
63

أنه كان في حجة الوداع، وفي بعضها أنه كان في عمرة القضاء وفي بعضها
أنه كان عام أوطاس. على أنها تناقض ما ستسمعه من صحاح البخاري
ومسلم الدالة على عدم النسخ، وأن التحريم والنهي إنما كانا من الخليفة
الثاني ببادرة بدرت على عهده من عمرو بن حريث، وكان الصحابة قبلها
يستمتعون على عهد الخليفتين كما كانوا يستمتعون على عهد رسول
الله صلى الله عليه وآله، وستسمع كلام عمران بن حصين وعبد الله بن مسعود وعبد الله
ابن عمر وعبد الله بن عباس وأمير المؤمنين فتراه صريحا بأن التحريم لم يكن
من الله تعالى ولا من رسوله صلى الله عليه وآله وإنما كان بنهي عمر، ومحال أن يكون
هناك ناسخ يجهله هؤلاء وهم من علمت مكانتهم في العلم ومنزلتهم من
رسول الله وملازمتهم إياه صلى الله عليه وآله. على أنه لو كان ثمة ناسخ لنبههم إليه
بعض الواقفين عليه، وحيث لم يعارضهم أحد فيما كانوا ينسبونه من التحريم
إلى عمر نفسه علمنا أنهم أجمع معترفون بذلك مقرون بأن لا ناسخ من الله
تعالى ولا من رسوله صلى الله عليه وآله.
على أن الخليفة الثاني نفسه لم يدع النسخ كما ستسمعه من كلامه
الصريح في إسناد التحريم والنهي إلى نفسه، ولو كان هناك ناسخ من الله
عز وجل أو من رسوله صلى الله عليه وآله لأسند التحريم إلى الله تعالى أو إلى الرسول فإن
ذلك أبلغ في الزجر وأولى بالذكر.
وظني أن المتأخرين عن زمن الصحابة وضعوا أحاديث النسخ تصحيحا
لرأي الخليفة إذ تأول الأدلة فنهى وحرم متوعدا بالعقوبة، فقال: متعتان
كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وأنا أحرمهما وأعاقب عليهما: متعة الحج
ومتعة النساء.
64

ومن غريب الأمور دعوى بعض المتأخرين أن نكاح المتعة منسوخ بقوله
تعالى: " والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت
أيمانهم " بزعم أن المتمتع بها ليست زوجة ولا ملك يمين (قالوا): أما كونها
ليست بملك يمين فمسلم، وأما كونها ليست بزوجة فلأنها لا نفقة لها ولا إرث
ولا ليلة.
والجواب: أنها زوجة شرعية بعقد نكاح شرعي كما سمعت، وعدم
النفقة والإرث والليلة إنما هو لأدلة خاصة خصصت العمومات الواردة في
أحكام الزوجات كما بيناه سابقا.
على أن هذه الآية مكية نزلت قبل الهجرة بالاتفاق، فلا يمكن أن تكون
ناسخة لإباحة المتعة المشروعة في المدينة بعد الهجرة بالاجماع.
ومن عجيب أمر هؤلاء المتكلفين أن يقولوا بأن آية " المؤمنون " ناسخة
لمتعة النساء إذ ليست بزوجة ولا ملك يمين، فإذا قلنا لهم: ولم لا تكون
ناسخة لنكاح الإماء المملوكات لغير الناكح وهن لسن بزوجات للناكح
ولا بملك له، قالوا حينئذ: إن سورة " المؤمنون " مكية، ونكاح الإماء
المذكورات إنما شرع بقوله تعالى - في سورة النساء وهي مدنية -: " ومن لم
يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من
فتياتكم المؤمنات " والمكي لا يكون ناسخا للمدني، لوجوب تقدم المنسوخ
على الناسخ، يقولون هذا القول وينسون أن المتعة إنما شرعت في المدينة وأن
آيتها في سورة النساء أيضا، وقد منينا بقوم لا يتدبرون فإنا لله وإنا إليه
راجعون.
65

[6 - صحاح تنم على الخليفة:]
أخرج مسلم - في باب المتعة بالحج والعمرة من صحيحه (1) - بالإسناد
إلى أبي نضرة قال: كان ابن عباس يأمر بالمتعة وكان ابن الزبير ينهى عنها،
فذكر ذلك لجابر، فقال: على يدي دار الحديث تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله
فلما قام عمر (2) قال: إن الله كان يحل لرسوله ما شاء بما شاء (3) فأتموا الحج
والعمرة وأبتوا نكاح هذه النساء فلن أوتى برجل نكح امرأة إلى أجل إلا
رجمته بالحجارة (4).
وهذا ما أخرجه أحمد بن حنبل من حديث عمر في مسنده (5) عن أبي
نضرة أيضا ولفظه عنده ما يلي: قال أبو نضرة: قلت لجابر إن ابن الزبير
ينهى عن المتعة وأن ابن عباس يأمر بها فقال لي: على يدي جرى الحديث
تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله ومع أبي بكر فلما ولي عمر (6) خطب الناس فقال:

(1) صفحة 467 من جزئه الأول طبع مصر سنة 1306.
(2) أي فلما قام بأمر الخلافة، وهذا صريح بأن هذه الأحداث: النهي والتحريم
والانذار لم تكن من قبل.
(3) ليتني أو ليت أحدا غيري يعرف لهذه الكلمة وجها يقتضي تحريم المتعة أتراه
كان يرى أنها من خواص الرسول صلى الله عليه وآله؟ كلا إني لأربابه عن هذا
الوهم.
(4) الرجم حد من حدود الله عز وجل لا يشترعه إلا نبي على أن القائل بالمتعة
مستنبط إباحتها من الكتاب والسنة فإن كان مصيبا فبهما أخذ وإن كان مخطئا فإنما هو
مشتبه لا حد عليه لو فعلها فإن الحدود تدرأ بالشبهات.
(5) صفحة 52 من جزئه الأول.
(6) هذا صريح بأن تحريم المتعة الذي أشاد به الخليفة في خطابه لم يكن قبل ولايته
على الناس.
66

إن القرآن هو القرآن وإن رسول الله هو الرسول وأنهما كانتا " متعتان " على
عهد رسول الله صلى الله عليه وآله إحداهما متعة الحج والأخرى متعة النساء (1).
وهذا صريح فصيح في أن النهي إنما كان منه بعد ولايته وقيامه بأمر
الخلافة، ومثله حديث عطاء - فيما أخرجه مسلم في باب نكاح المتعة من
صحيحه (2) - قال: قدم جابر بن عبد الله معتمرا، فجئناه في منزله، فسأله
القوم عن أشياء، ثم ذكروا المتعة، فقال: نعم استمتعنا على عهد رسول
الله صلى الله عليه وآله وأبي بكر وعمر ا ه‍. وحديث أبي الزبير - كما في الباب المذكور
من صحيح مسلم - قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: كنا نستمتع (3)
بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وأبي بكر حتى
نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث وفي الباب المذكور من صحيح مسلم
أيضا عن أبي نضرة. قال: كنت عند جابر فأتاه آت فقال: إن ابن عباس
وابن الزبير اختلفا في المتعتين فقال جابر: فعلناهما (4) على عهد رسول
الله صلى الله عليه وآله ثم نهانا عنهما عمر.
وقد استفاض قول عمر وهو على المنبر: متعتان كانتا على عهد رسول
الله صلى الله عليه وآله وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما (5) متعة الحج ومتعة النساء. حتى نقل

(1) لا مندوحة عن قبول روايته إذ قال: كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله أما تحريمه
إياهما فلرأي رآه.
(2) صفحة 535 من جزئه الأول.
(3) الظاهر من قوله: كنا نستمتع أن سيرة الصحابة كانت مستمرة على ذلك بعلم
من النبي صلى الله عليه وآله وأبي بكر وعمر قبل نهيه.
(4) فعلناهما ظاهر باستمرار سيرتهم على فعلها كقوله السابق نستمتع وكقوله
استمتعنا.
(5) لا يخفى ظهوره في أن النهي إنما هو منه لا من الله تعالى ولا من رسول
الله صلى الله عليه وآله.
67

الرازي هذا القول عنه محتجا به على تحريم متعة النساء فراجع ما حول آيتها
من تفسيره الكبير.
وهذا متكلم الأشاعرة وإمامهم في المعقول والمنقول " القوشجي " يقول
في أواخر مبحث الإمامة من سفره الجليل - شرح التجريد -: أن عمر قال
وهو على المنبر: أيها الناس ثلاث كن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وأنا أنهى
عنهن وأحرمهن وأعاقب عليهن متعة النساء ومتعة الحج وحي على خير
العمل، وقد اعتذر عنه بأن هذا كان اجتهادا منه وعن تأول، والأخبار في
هذا ونحوه مما يضيق عنه وسع هذا الاملاء.
وقد استمتع على عهد عمر ربيعة بن أمية بن خلف الثقفي أخو صفوان
فيما أخرجه مالك - في باب نكاح المتعة من الموطأ - عن عروة بن الزبير
قال: إن خولة بنت حكيم السلمية دخلت على عمر وقالت له: إن ربيعة بن
أمية استمتع بامرأة فحملت منه فخرج عمر يجر رداءه فقال: هذه المتعة لو
كنت تقدمت لرجمت. أي لو كنت تقدمت في تحريمها والانذار برجم فاعلها
قبل هذا الوقت لرجمت ربيعة والمرأة التي استمتع بها إذ كان هذا القول منه
قبل نهيه عنها، نص على ذلك ابن عبد البر فيما نقله الزرقاني عنه في شرح
الموطأ (1). ولا يخفى ظهور هذا الكلام في أن التصرف في حكم المتعة إنما هو
منه لا من سواه.
[7 - المنكرون عليه:]
أنكر عليه علي أمير المؤمنين فيما أخرجه الثعلبي والطبري عند بلوغهما إلى

(1) حيث يشرح هذا الحديث في الموطأ.
68

آية المتعة من تفسيريهما الكبيرين إذ أخرجا بالإسناد إليه أنه قال، لولا أن
عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شفي.
وأنكر عليه ابن عباس فقال (1): ما كانت المتعة إلا رحمة رحم الله بها أمة
محمد لولا نهيه - أي عمر - عنها ما احتاج إلى الزنى إلا شفي - أي إلا قليل
من الناس كما فسرها ابن الأثير في مادة شفى بالفاء من النهاية، وكان ابن
عباس يجاهر بإباحتها وله في ذلك مع ابن الزبير - حتى في أيام إمارته -
حكايات يطول المقام بذكرها (2) وأنكر عليه جابر كما سمعت من حديثه في
ذلك.
وأنكر عليه ابنه عبد الله كما هو ثابت عنه، وقد أخرج الإمام أحمد في
ص 95 من الجزء الثاني من مسنده من حديث عبد الله بن عمر قال - وقد
سئل عن متعة النساء -: والله ما كنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله زانين ولا
مسافحين. ثم قال: والله لقد سمعت رسول الله يقول: ليكونن قبل يوم
القيامة المسيح الدجال وكذابون ثلاثون أو أكثر.
وسئل مرة أخرى عن متعة النساء فقال - كما عن صحيح
الترمذي - (3): هي حلال. فقيل له: إن أباك نهى عنها. فقال: أرأيت إن
كان أبي نهى عنها وصنعها رسول الله صلى الله عليه وآله أنترك السنة ونتبع قول أبي؟!
وأنكر عليه عبد الله بن مسعود كما هو معلوم عنه وقد أخرج الشيخان

(1) فيما رواه عنه ابن جريج وعمر بن دينار.
(2) ألفتك إلى ما كان منها في صفحة 489 من المجلد 4 من شرح نهج البلاغة
الحميدي أحمد يدي حيث ترجم ابن الزبير أثناء شرحه لقول أمير المؤمنين عليه السلام:
ما زال الزبير منا أهل البيت حتى نشأ ابنه المشؤوم.
(3) نقله عن الترمذي كل من العلامة في نهج الصدق والشهيد الثاني في مبحث
المتعة من روضته.
69

في صحيحيهما واللفظ للبخاري (1) عن عبد الله بن مسعود قال: كنا نغزو مع
رسول الله صلى الله عليه وآله وليس لنا شئ، فقلنا: ألا نستخصي فنهانا عن ذلك ثم
رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل معين، ثم قرأ علينا: " يا
أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب
المعتدين ". وأنت تعلم ما في تلاوة الآية من الانكار الشديد على تحريمها كما
صرح به شارحو الصحيحين.
وأنكر عليه عمران بن حصين فيما استفاض عنه، وقد نقل الرازي (2) عنه
أنه قال: أنزل الله في المتعة آية وما نسخها بآية أخرى وأمرنا رسول
الله صلى الله عليه وآله بالمتعة وما نهانا عنها ثم قال رجل برأيه ما شاء - قال الرازي -:
يريد عمر.
وأخرج البخاري في صحيحه عن عمران بن حصين قال: نزلت آية
المتعة في كتاب الله ففعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وآله ولم ينزل قرآن يحرمها ولم
ينه عنها حتى مات قال رجل برأيه ما شاء.
وأخرج أحمد في مسنده عن أبي رجاء عن عمران بن حصين قال: نزلت
آية المتعة في كتاب الله وعملنا بها مع رسول الله فلم تنزل آية بنسخها ولم ينه
عنها النبي حتى مات.
وأمر المأمون أيام خلافته أن ينادي بتحليل المتعة فدخل عليه محمد بن
منصور وأبو العيناء فوجداه يستاك ويقول - فيما نقله ابن خلكان - (3) وهو
متغيظ: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وعهد أبي بكر وأنا أنهى

(1) في الصفحة الثانية أو الثالثة من كتاب النكاح فراجع.
(2) أثناء بحثه عن حكم متعة النساء حول آيتها من تفسيره الكبير.
(3) في ترجمة القاضي يحيى بن أكثم.
70

عنهما. قال: ومن أنت يا جعل حتى تنهى عما فعله رسول الله وأبو بكر فأراد
محمد بن منصور أن يكلمه فأومأ إليه أبو العيناء وقال: رجل يقول في عمر بن
الخطاب ما يقول نكلمه نحن؟! فلم يكلماه ودخل عليه يحيى بن أكثم
فخلا به وخوفه من الفتنة وذكر له أن الناس يرونه قد أحدث في الإسلام
بهذا النداء حدثا عظيما يثير العامة والخاصة إذ لا فرق عندهم بين النداء
بإباحة المتعة والنداء بإباحة الزنى ولم يزل به حتى صرف عزيمته إشفاقا على
ملكه ونفسه.
وممن استنكر حرمة المتعة وأباحها وعمل بها عبد الملك بن عبد العزيز
بن جريج أبو خالد المكي المولود سنة ثمانين والمتوفى سنة تسع وأربعين
ومئة وكان من أعلام التابعين ترجمه ابن خلكان في وفياته وابن سعد في
ص 361 من الجزء 5 من طبقاته وقد احتج به أهل الصحاح وترجمه ابن
القيسراني في ص 314 من كتاب " الجمع بين رجال الصحيحين " وأورده
الذهبي في ميزانه فذكر أنه تزوج نحوا من تسعين امرأة بنكاح المتعة وأنه
كان يرى الرخصة في ذلك (قال): وكان فقيه أهل مكة في زمانه.
[8 - رأي الإمامية في المتعة:]
أجمع الإمامية - تبعا لأئمتهم الاثني عشر - على دوام حلها، وحسبهم
حجة على ذلك ما قد سمعته من إجماع أهل القبلة على أن الله تعالى شرعها
في دينه القويم وأذن في الإذن بها منادي نبيه العظيم ولم يثبت نسخها عن
الله تعالى ولا عن رسول صلى الله عليه وآله حتى انقطع الوحي باختيار الله تعالى لنبيه
دار كرامته، بل ثبت عدم نسخها بنصوص صحاحنا المتواترة عن أئمة العترة
الطاهرة فراجعها في مظانها من وسائل الشيعة إلى أحكام الشريعة.
71

على أن في صحاح أهل السنة وسائر مسانيدهم نصوصا صريحة في بقاء
حلها واستمرار العمل بها على عهد أبي بكر وشطر من عهد عمر حتى صدر
منه النهي عنها في شأن عمرو بن حريث، وحسبك من ذلك ما أوردناه في
هذه العجالة، إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو
شهيد.
72

[المسح على الأرجل
أو
غسلها في الوضوء]
اختلف علماء الإسلام في نوع طهارة الأرجل من أعضاء الوضوء فذهب
فقهاء الجمهور ومنهم الأئمة الأربعة إلى وجوب الغسل فرضا على التعيين،
وأوجب داود بن علي، والناصر للحق من أئمة الزيدية الجمع بين الغسل
والمسح (1) ورب قائل منهم بالتخيير بينها (2) والذي عليه الإمامية " تبعا لأئمة
العترة الطاهرة " مسحها فرضا معينا (3).

(1) نقل عنهما فخر الدين الرازي حول آية الوضوء من تفسيره الكبير وكأنهما وقعا في
حيرة فالتبس الأمر عليهما بسبب التعارض بين الآية والأخبار، فأوجبا الجمع عملا بهما
معا.
(2) كالحسن البصري، ومحمد بن جرير الطبري فيما نقله عنهما الرازي وغيره وكأنهما
حيث كان كل من الكتاب والسنة حقا لا يأتيه الباطل رأيا إن كلا من المسح والغسل
حق وإن الواجب أحدهما على سبيل التخيير.
(3) وهذا مذهب ابن عباس وأنس بن مالك وعكرمة والشعبي والإمام أبي جعفر
الباقر فيما ذكره الرازي في تفسيره نقلا عن تفسير القفال. قلت وعليه سائر أئمتنا عليهم
السلام.
73

[حجة الإمامية]
هي قوله تعالى " وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ".
وقد كفانا الإمام الرازي بيان الوجه في الاحتجاج بهذه الآية بما صدع
به مفصلا إذ قال: حجة من قال بوجوب المسح مبني على القراءتين
المشهورتين في قوله وأرجلكم (قال): فقرأ ابن كثير وحمزة وأبو عمرو وعاصم
- في رواية أبي بكر عنه - بالجر، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم - في رواية
حفص عنه - بالنصب (قال): فنقول: أما القراءة بالجر فهي تقتضي كون
الأرجل معطوفة على الرؤوس، فكما وجب المسح في الرأس فكذلك في
الأرجل، قال: فإن قيل لم لا يجوز أن يقال هذا كسر على الجوار، كما في
قوله: جحر ضب خرب وقوله: كبير أناس في بجاد مزمل، قلنا: هذا باطل
من وجوه، الأول: إن الكسر على الجوار معدود في اللحن الذي قد يتحمل
لأجل الضرورة في الشعر وكلام الله يجب تنزيهه عنه. وثانيها: إن الكسر على
الجوار إنما يصار إليه حيث يحصل الأمن من الالتباس كما في قوله: جحر
ضب خرب، فإن من المعلوم بالضرورة أن الحزب لا يكون نعتا للضب بل
للجحر، وفي هذه الآية الأمن من الالتباس غير حاصل، وثالثها: إن الكسر
بالجوار إنما يكون بدون حرف العطف، وأما مع حرف العطف فلم تتكلم
به العرب (قال): وأما القراءة بالنصب فقالوا أيضا أنها توجب المسح
وذلك لأن قوله: وامسحوا برؤوسكم. فرؤوسكم في محل النصب
- بامسحوا لأنه المفعول به - ولكنها مجرورة لفظا بالباء فإذا عطفت الأرجل
74

على الرؤوس جاز في الأرجل النصب عطفا على محل الرؤوس (1) وجاز الجر
عطفا على الظاهر (قال): إذا ثبت هذا فنقول ظهر أنه يجوز أن يكون عامل
النصب في قوله وأرجلكم هو قول وامسحوا (2) ويجوز أن يكون هو قوله
فاغسلوا (3) لكن العاملان إذا اجتمعا على معمول وأحد كان أعمال الأقرب
أولى (4) (قال) فوجب أن يكون عامل النصب في قوله وأرجلكم هو قوله
وامسحوا (قال) فثبت أن قراءة وأرجلكم بنصب اللام توجب المسح أيضا
(قال) ثم قالوا ولا يجوز دفع ذلك بالأخبار لأنها بأسرها من باب الآحاد (5)
ونسخ القرآن بخبر الواحد لا يجوز ا ه‍.
هذا كلامه بلفظه (6) لم يتعقبه، ولكنه قال: أن الأخبار الكثيرة وردت
بإيجاب الغسل والغسل مشتمل على المسح ولا ينعكس فكان الغسل أقرب

(1) وهذا في كلامه كثير، قالوا: ليس فلان بعالم ولا عاملا وأنشد بعضهم:
معاوي إننا بشر فأسجح * فلسنا بالجبال ولا الحديدا -
وقال تأبط شرا:
هل أنت باعث دينار لحاجتنا * أو عبد رب أخاعون بن مخراق -
بنصب عبد عطفا على موضع دينار.
(2) بل يحب ذلك، ولا يجوز كون العامل فاغسلوا لما ستسمعه.
(3) بل لا يجوز ذلك قطعا لاستلزامه عطف الأرجل على الوجوه، وهذا ممنوع باتفاق
أهل اللغة لعدم جواز الفصل بين العاطف والمعطوف عليه بمفرد فضلا عن الجملة
الأجنبية.
(4) ليس هنا إلا عامل واحد وهو وامسحوا لما بيناه.
(5) بل هي مما لم يثبت عندنا أصلا.
(6) فراجعه في ص 370 من الجزء الثالث من تفسيره الكبير حول آية الوضوء من
المائدة.
75

إلى الاحتياط، فوجب المصير إليه (1) (قال) وعلى هذا الوجه يجب القطع بأن
غسل الأرجل يقوم مقام مسحها الخ.
قلت: أما أخبار الغسل فستعلم رأي أئمة أهل البيت وأوليائهم فيها
قريبا إن شاء الله تعالى.
وأما قوله بأن الغسل مشتمل على المسح فمغالطة واضحة بل هما
حقيقتان لغة وعرفا وشرعا (2) فالواجب إذا هو القطع بأن غسل الأرجل لا
يقوم مقام مسحها، لكن الإمام الرازي وقف بين محذورين هما مخالفة الآية
المحكمة ومخالفة الأخبار الصحيحة في نظره فغالط نفسه بقوله إن الغسل
مشتمل على المسح وإنه أقرب إلى الاحتياط وإنه يقوم مقام المسح ظنا منه
بأنه قد جمع بهذا بين الآية والأخبار، ومن أمعن في دفاعه هذا وجده في
ارتباك ولولا أن الآية واضحة الدلالة على وجوب المسح ما احتاج إلى جعل
الغسل قائما مقامه فأمعن وتأمل مليا.
وعلى هذا المنهاج جرى جماعة من جهابذة الفقه والعربية منهم الفقيه
البحاثة الشيخ إبراهيم الحلبي إذ بحث الآية في الوضوء من كتابه - غنية
المتملي في شرح منية المصلي على المذهب الحنفي - فقال: قرئ في السبعة
بالنصب والجر، والمشهور أن النصب بالعطف على وجوهكم والجر على
الجوار (قال) والصحيح أن الأرجل معطوفة على الرؤوس في القراءتين،
ونصبها على المحل، وجرها على اللفظ، (قال): وذلك لامتناع العطف على

(1) لا يأتي الاحتياط إلا بالجمع بين المسح والغسل لكونهما حقيقتين مختلفتين.
(2) لأن الغسل مأخوذ في مفهومه سيلان الماء على المغسول ولو قليلا والمسح مأخوذ
في مفهومه عدم السيلان والاكتفاء بمرور اليد على الممسوح
76

وجوهكم للفصل بين المعطوف عليه بجملة أجنبية (هي وامسحوا
برؤوسكم) (قال) والأصل أن لا يفصل بينهما بمفرد فضلا عن الجملة
(قال): ولم نسمع في الفصيح ضربت زيدا ومررت ببكر وعمرا بعطف
عمرا على زيدا (قال) وأما الجر على الجوار فإنما يكون على قلة في النعت
كقول بعضهم: هذا جحر ضب خرب، وفي التأكيد كقول الشاعر:
يا صاح بلغ ذوي الزوجات كلهم * أن ليس وصل إذا انحلت عرى الذنب -
بجر كلهم على ما حكاه الفراء (قال) وأما في عطف النسق فلا يكون لأن
العاطف يمنع المجاورة. هذا كلامه بنصه (1).
وممن نهج هذا المنهاج الواضح أبو الحسن الإمام محمد بن عبد الهادي
المعروف بالسندي في حاشيته على سنن ابن ماجة إذ قال (بعد أن جزم بأن
ظاهر القرآن هو المسح) وإنما كان المسح هو ظاهر الكتاب لأن قراءة الجر
ظاهرة فيه وحمل قراءة النصب عليها بجعل العطف على المحل أقرب من حمل
قراءة الجر على قراءة النصب كما صرح به النحاة (قال) لشذوذ الجوار
واطراد العطف على المحل (قال) وأيضا فيه خلوص عن الفصل بالأجنبي
بين المعطوف والمعطوف عليه فصار ظاهر القرآن هو المسح. هذا نصه (2) لكنه
كغيره أوجب حمل القرآن على الأخبار الصريحة بالغسل.
وتفلسف الإمام الزمخشري في كشافه حول هذه الآية إذ قال: الأرجل

(1) فراجعه في ص 16 من غنية المتملي المعروف بحلبي كبير وهو موجود أيضا في
مختصره المعروف بحلبي صغير وكلاهما منشور مشهور.
(2) في تعليقه على ما جاء في غسل القدمين ص 88 من الجزء الأول من شرح سنن
ابن ماجة والذين صرحوا بما صرح به الرازي والحلبي والسندي كثيرون لا يسعنا
استقصاؤهم فحسبنا هؤلاء الأئمة الثلاثة عليهم رحمة الله تعالى.
77

من بين الأعضاء المغسولة الثلاثة تغسل بصب الماء عليها فكانت مظنة
للاسراف المذموم المنهي عنه فعطفت على الثالث الممسوح لا لتمسح، ولكن
لينبه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها (قال) وقيل إلى الكعبين
فجئ بالغاية إماطة لظن ظان يحسبها ممسوحة لأن المسح لم تضرب له غاية
في الشريعة ا ه‍.
هذه فلسفته في عطف الأرجل على الرؤوس وفي ذكر الغاية من
الأرجل، وهي كما ترى ليست في شئ من استنباط الأحكام الشرعية عن
الآية المحكمة ولا في شئ من تفسيرها، ولا الآية بدالة على شئ منها
بشئ من الدوال وإنما هي تحكم في تطبيق الآية على مذهبه بدلا من
استنباط المذهب من الأدلة، وقد أغرب في تكهنه بما لا يصغي إليه إلا من
كان غسل الأرجل عنده مفروغا عنه بحكم الضرورة الأولية، أما مع كونه
محل النزاع فلا يؤبه به ولا سيما مع اعترافهم بظهور الكتاب في وجوب المسح
وحسبنا في ذلك ما توجبه القواعد العربية من عطف الأرجل على الرؤوس
الممسوحة بالاجماع نصا وفتوى.
[نظرة في أخبار الغسل]
أخبار الغسل قسمان:
منها ما هو غير دال عليه كحديث عبد الله بن عمرو بن العاص إذ قال
- كما في الصحيحين - تخلف عنا النبي صلى الله عليه وآله في سفر سافرناه معه فأدركنا
وقدر حضرت صلاة العصر فجعلنا نمسح على أرجلنا فنادى: ويل للأعقاب
من النار (1).

(1) هذه الكلمة - ويل للأعقاب من النار - جاءت أيضا في حديث كل من
عمرو وعائشة وأبي هريرة صحيحة على شرط الشيخين.
78

وهذا لو صح لاقتضى المسح إذ لم ينكره صلى الله عليه وآله عليهم بل أقرهم عليه كما
ترى وإنما أنكر عليهم قذارة أعقابهم، ولا غرو فإن فيهم أعرابا حفاة جهلة
بوالين على أعقابهم ولا سيما في السفر فتوعدهم بالنار لئلا يدخلوا في الصلاة
بتلك الأعقاب المتنجسة.
ومنها ما هو دال على الغسل كحديث حمران مولى عثمان بن عفان.
إذ قال: رأيت عثمان وقد أفرغ على يديه من إنائه فغسلهما ثلاث مرات ثم
أدخل يمينه في الوضوء ثم تمضمض واستنشق واستنثر..... الحديث، (1) وقد
جاء فيه ثم غسل كل رجل ثلاثا. ثم قال: رأيت النبي صلى الله عليه وآله يتوضأ نحو
وضوئي، ومثله حديث عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاري وقد قيل له:
توضأ لنا وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله فدعا بإناء فأكفأ منها على يديه...
الحديث (2) وفي آخره ثم غسل رجليه إلى الكعبين. ثم قال: هكذا كان وضوء
رسول الله صلى الله عليه وآله إلى غير ذلك من أخبار جاءت في هذا المعنى. وفيها نظر من
وجوه:
أحدها: أنها جاءت مخالفة الكتاب الله عز وجل ولما أجمعت عليه أئمة العترة
الطاهرة (3) والكتاب والعترة ثقلا رسول الله صلى الله عليه وآله لن يفترقا أبدا ولن تضل
الأمة ما إن تمسكت بهما فليضرب بكل ما خالفهما عرض الجدار.
وحسبك في إنكار الغسل ووهن أخباره ما كان من حبر الأمة وعيبة

(1) أخرجه البخاري.
(2) أخرجه مسلم.
(3) أجمعوا عليهم السلام على وجوب المسح وتلك نصوصهم في وسائل الشيعة إلى
أحكام الشريعة وفي سائر المؤلفات في فقههم وحديثهم.
79

الكتاب والسنة عبد الله بن عباس إذ كان يحتج للمسح فيقول: (1) افترض
الله غسلتين ومسحتين، ألا ترى أنه ذكر التيمم فجعل مكان الغسلتين
مسحتين وترك المسحتين.
وكان يقول (2): الوضوء غسلتان ومسحتان (3) ولما بلغه أن الربيع بنت معوذ
بن عفراء الأنصارية تزعم أن النبي صلى الله عليه وآله توضأ عندها فغسل رجليه، أتاها
يسألها عن ذلك وحين حدثته به قال - غير مصدق بل منكرا ومحتجا - أن
الناس أبوا إلا الغسل ولا أجد في كتاب الله إلا المسح (4).
ثانيها: إنها لو كانت حقا لأربت على التواتر، لأن الحاجة إلى معرفة
طهارة الأرجل في الوضوء حاجة عامة لرجال الأمة ونسائها، أحرارها
ومماليكها، وهي حاجة لهم ماسة في كل يوم وليلة فلو كانت غير المسح
المدلول عليه بحكم الآية لعلمه المكلفون في عهد النبوة وبعده، ولكان مسلما
بينهم، ولتواترت أخباره عن النبي صلى الله عليه وآله في كل عصر ومصر. فلا يبقى مجال
لإنكاره ولا للريب فيه. ولما لم يكن الأمر كذلك، ظهر لنا الوهن المسقط
لتلك الأخبار عن درجة الاعتبار.
ثالثها: إن الأخبار في نوع طهارة القدمين متعارضة، بعضها يقتضي

(1) كما في صفحة 103 من الجزء الخامس من كنز العمال وهو الحديث 2213.
(2) كما في ص 103 من الجزء الخامس، من الكنز وهذا هو الحديث 2211.
(3) ومنه أخذ الإمام الشريف بحر العلوم في منظومته الفقهية (درة النجف) إذ
يقول:
إن الوضوء غسلتان عندنا * ومسحتان والكتاب معنا -
فالغسل للوجه ولليدين * والمسح للرأس وللرجلين -
(4) أخرجه ابن ماجة فيما جاء في غسل القدمين من سننه وغير واحد من أصحاب
المسانيد.
80

الغسل كحديثي حمران وابن عاصم وقد سمعهما، وبعضها يقتضي المسح
كالحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه، ورواه كل من أحمد، وابن
أبي شيبة، وابن أبي عمر، والبغوي والطبراني والماوردي كلهم من طريق
كل رجاله ثقات (1) عن أبي الأسود عن عباد بن تميم عن أبيه قال: رأيت
رسول الله صلى الله عليه وآله يتوضأ ويمسح على رجليه.
وكالذي أخرجه الشيخ في الصحيح عن زرارة وبكير ابني أعين عن
الباقر عليه السلام أنه حكى وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله فمسح رأسه وقدميه إلى
الكعبين بفضل كفيه لم يجدد ماء.
وعن ابن عباس أنه حكى وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله فمسح - كما في مجمع
البيان - على قدميه.
وحيث تعارضت الأخبار كان المرجع كتاب الله عز وجل لا نبغي عنه
حولا.
[نظرة في احتجاجهم هنا بالاستحسان]
ربما احتج الجمهور على غسل الأرجل أنهم رأوه أشد مناسبة للقدمين من
المسح، كما أن المسح أشد مناسبة للرأس من الغسل إذ كان القدمان لا
ينقى دنسهما إلا بالغسل غالبا بخلاف الرأس فإنه ينقى غالبا بالمسح.
وقد قالوا أن المصالح المعقولة لا يمتنع أن تكون أسبابا للعبادات
المفروضة حتى يكون الشرع لاحظ فيها معنيين معنى مصلحيا ومعنى عباديا،

(1) وصفهم بكونهم كلهم ثقات ابن حجر العسقلاني حيث أورد هذا الحديث في
ترجمة تميم بن زيد من القسم الأول من الإصابة نقلا عمن ذكرناهم من أصحاب
المسانيد.
81

وعنوا بالمصلحي ما يرجع إلى الأمور المحسوسة وبالعبادي ما يرجع إلى زكاة
النفس. فأقول: نحن نؤمن بأن الشارع المقدس لاحظ عباده في كل ما
كلفهم به من أحكامه الشرعية، فلم يأمرهم إلا بما فيه مصلحتهم، ولم ينههم
إلا عما فيه مفسدة لهم، لكنه مع ذلك لم يجعل شيئا من مدارك تلك
الأحكام منوطا من حيث المصالح والمفاسد بآراء العباد، بل تعبدهم بأدلة
قوية عينها لهم، فلم يجعل لهم مندوحة عنها إلى ما سواها. وأول تلك الأدلة
الحكيمة كتاب الله عز وجل وقد حكم بمسح الرؤوس والأرجل في
الوضوء، فلا مندوحة عن البخوع لحكمه، أما نقاء الأرجل من الدنس فلا بد
من إحرازه قبل المسح عليها عملا بأدلة خاصة دلت على اشتراط الطهارة في
أعضاء الوضوء قبل الشروع فيه (1)، ولعل غسل رسول الله صلى الله عليه وآله رجليه
- المدعى في أخبار الغسل - إنما كان من هذا الباب، ولعله كان من باب
التبرد، أو كان من باب المبالغة في النظافة بعد الفراغ من الوضوء والله
تعالى أعلم.
[تنبيه]
أخرج ابن ماجة فيما جاء في غسل القدمين من سننه من طريق أبي
إسحاق عن أبي حية. قال: رأيت عليا توضأ فغسل قدميه إلى الكعبين ثم
قال: أردت أن أريكم طهور نبيكم صلى الله عليه وآله.
قال السندي - حيث انتهى إلى هذا الحديث في تعليقته على السنن -

(1) ولذا ترى حفاة الشيعة والعمال منهم كأهل الحرث وأمثالهم وسائر من لا
يبالون بطهارة أرجلهم في غير أوقات العبادة المشروطة بالطهارة إذا أرادوا الوضوء غسلوا
أرجلهم ثم توضأوا فمسحوا عليها نقية جافة.
82

هذا رد بليغ على الشيعة القائلين بالمسح على الرجلين حيث الغسل من
رواية علي (قال) ولذلك ذكره المصنف من رواية علي وبدأ به الباب ولقد
أحسن المصنف وأجاد في تخريج حديث علي في هذا الباب جزاه الله خيرا
(قال) وظاهر القرآن يقتضي المسح كما جاء عن ابن عباس فيجب حمله
على الغسل (1). هذا كلامه بلفظه عفا الله عنه وعن الإمام ابن ماجة وسائر
علماء الجمهور فإنهم يعلمون سقوط هذا الحديث بسقوط سنده من عدة
جهات.
الأولى: إن أبا حية راوي هذا الحديث نكرة من أبهم النكرات. وقد
أورده الذهبي في الكنى من ميزانه فنص على أنه: لا يعرف، ثم نقل عن ابن
المديني وأبي الوليد الفرضي النص على أنه: مجهول، ثم قال: وقال أبو زرعة:
لا يسمى، قلت: أمعنت بحثا عن أبي حية فما أفادني البحث إلا مزيد الجهل
به، ولعله إنما اختلقه مختلق حديثه والله تعالى أعلم.
الثانية: إن هذا الحديث تفرد به أبو إسحاق (2) وقد شاخ ونسي واختلط
فتركه الناس (3) ولم يروه عنه إلا أبو الأحوص وزهير بن معاوية الجعفي (4)
فعابهم الناس بذلك (5). ولا غرو فإن المحدث إذا اختلط سقط من حديثه كل

(1) تطبيقا للقرآن على مذهبه بدلا من استنباط المذهب من القرآن.
(2) كما نص عليه الذهبي حيث أورد أبا حية في الكنى من ميزانه فقال: تفرد عنه
أبو إسحاق بوضوء علي فمسح رأسه وغسل رجليه إلى الكعبين ثلاثا ثلاثا.
(3) كما هو مذكور في أحواله - واسمه عمر بن عبد الله السبيعي - من معاجم
التراجم كميزان الاعتدال وغيره.
(4) كما نص عليه الذهبي إذ أورد أبا حية وحديثه هذا في ميزان الاعتدال.
(5) حتى قال الإمام أحمد وقد ذكر زهير بن معاوية هو ثبت فيما يرويه عن المشائخ
(قال) وفي حديثه عن أبي إسحاق لين سمع منه بآخره. انتهى. وقال أبو زرعة: زهير بن
معاوية ثقة إلا أنه سمع من أبي إسحاق بعد الاختلاط. أه‍. وقال الذهبي (بعد أن نقل
عن أحمد وأبي زرعة ما قد سمعت) قلت: لين روايته عن أبي إسحاق من قبل أبي
إسحاق لا من قبله.
83

ما لم يحرز صدوره عنه قبل الاختلاط سواء أعلم صدوره بعد الاختلاط
كهذا الحديث أم جهل تاريخ صدوره لأن العلم الإجمالي في الشبهات
المحصورة يوجب اجتناب الأطراف كلها كما هو مقرر في أصول الفقه.
الثالثة: إن هذا الحديث يعارض الأحاديث الثابتة عن أمير المؤمنين
وعن أبنائه الميامين أهل بيت النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة
ومهبط الوحي والتنزيل، ويخالف كتاب الله عز وجل. فليضرب به عرض
الجدار.
[إلى الكعبين]
الكعبان في آية الوضوء، هما: مفصلا الساقين عن القدمين (1) بحكم
الصحيح عن زرارة وبكير ابني أعين إذ سألا الإمام الباقر عنهما (2) وهو
الظاهر مما رواه الصدوق عنه أيضا (3) وقد نص أئمة اللغة على أن كل
مفصل للعظام كعب (4).
وذهب الجمهور إلى أن الكعبين هنا إنما هما العظمان الناتئان في

(1) وقيل هما قبتا القدمين والأول أحوط وأقوى.
(2) في حديث رواه الشيخ الطوسي بسنده الصحيح إليهما وقد قالا للإمام فأين
الكعبان؟ قال عليه السلام: ها هنا يعني المفصل دون الساق.
(3) روى الصدوق عن الباقر وقد حكى صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله. فقال:
ومسح على مقدم رأسه وظهر قدميه دون عظمي الساقين.
(4) ومعاجم اللغة تعلن ذلك فراجع.
84

جانبي كل ساق. واحتجوا بأنه لو كان الكعب مفصل الساق عن القدم
لكان الحاصل في كل رجل كعبا واحدا فكان ينبغي أن يقول وأرجلكم
إلى الكعاب كما أنه كان الحاصل في كل يد مرفقا واحدا قال وأيديكم
إلى المرافق.
قلت: ولو قال هنا إلى المرفقين لصح بلا إشكال ويكون المعنى
فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى مرفقي كل منكم وامسحوا برؤوسكم
وأرجلكم إلى الكعبين من كل منكم فتثنية الكلمتين في الآية وجمعهما
في الصحة سواء وكذلك جمع إحداهما وتثنية الأخرى ولعل التفنن في
التعبير قد اقتضاه.
هذا إذا كان الحاصل في كل رجل كعبا واحدا، أما إذا كان
الحاصل في كل رجل كعبين فلا يبقى لكلامهم وجه، وقد أجمع علماء
التشريح على أن هناك عظما مستديرا مثل كعب البقر والغنم تحت عظم
الساق حيث يكون مفصل الساق والقدم يسمى كعبا أيضا (1) وعليه فمسح
كل رجل ينتهي إلى كعبين اثنين هما المفصل نفسه والكعب المستدير
تحته. وفي تثنية الكعب في الآية دون المرفق نكتة لطيفة وإشارة إلى

(1) وقد ذهب محمد بن الحسن الشيباني والأصمعي إلى أن الكعب في آية الوضوء
إنما هو هذا العظم تحت الساق. وكان الأصمعي يقول: إن العظمين الناتئين في جانبي
الساق يسميان المنجمين، وظن الرازي إن هذا هو مذهب الإمامية فرد عليهم بأن العظم
المستدير الموضوع تحت الساق شئ خفي لا يعرفه إلا المشرحون بخلاف الناتئين في طرفي
كل ساق فإنهما محسوسان (قال) ومناط التكاليف العامة يجب أن يكون أمرا ظاهرا لا
خفيا. والجواب أن الرازي لما رأى الإمامية يمسحون إلى مفصل الساق ظنهم يقولون بما
قاله الشيباني والأصمعي ولم يدر أن الكعب عندهم هو المفصل نفسه المحسوس المعلوم
لكل أحد.
85

ما لا يعلمه إلا علماء التشريح. فسبحان الخلاق العليم الحكيم.
86

[المسح على الخفين والجوربين]
اختلف فقهاء الإسلام في المسح على الخفين والجوربين اختلافا
كثيرا لا يحاط به في هذه العجلة، وبالجملة فالبحث عنه يتعلق بالنظر
في جوازه وعدم جوازه، وفي تحديد محله، وفي تعيين محله، وفي صفة
محله، وفي توقيته، وفي شروطه، وفي نواقضه.
أما الجواز ففيه ثلاثة أقوال:
أحدها: الجواز مطلقا سفرا وحضرا.
ثانيها: الجواز في السفر دون الحضر.
ثالثها: عدم الجواز بقول مطلق لعدم ثبوته في الدين، والأقوال الثلاثة
مروية عن الصدر الأول وعن مالك (1).
وأما تحديد محله فاختلفوا فيه أيضا بين قائل بأن الواجب من ذلك

(1) نص على هذا الإمام الفقيه الأصولي الفيلسوف ابن رشد في ص 14 من الجزء
الأول من كتابه بداية المجتهد ونهاية المقتصد.
87

مسح أعلى الخف وإن مسح أسفله مستحب (1) وقال بأن الواجب مسح
ظهورها وبطونها (2) وقائل ثالث بأن الواجب مسح الظهور دون البطون فإن
مسح البطون لا واجب ولا مستحب (3). ورب قائل بالتخيير بين مسح
الباطن والأعلى فأيهما مسح كان واجبا (4).
وأما نوع المحل فإن القائلين بالمسح على الخفين اختلفوا في المسح
على الجوربين فأجازه قوم ومنعه آخرون (5).
وأما صفة الخف فقد اختلفوا في المسح على الخف المخرق فمنهم
من قال بجواز المسح عليه ما دام يسمى خفا وأن تفاحش خرقه (6) ومنهم
من منع أن يكون في مقدم الخف خرق يظهر منه القدم ولو يسيرا (7) ومنهم
من أجاز المسح عليه بشرط أن يكون الخرق يسيرا (8).
وأما التوقيت فقد اختلفوا فيه، فمنهم من ذهب إلى أنه غير مؤقت وأن
لابس الخفين يمسح عليهما ما لم ينزعهما أو تصيبه جنابة (9) ومنهم من

(1) هذا رأي الشافعي.
(2) هذا مذهب ابن نافع.
(3) هذا مذهب أبي حنيفة وداود وسفيان وجماعة آخرين.
(4) هذا رأي أشهب.
(5) أجازه سفيان الثوري وأبو يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني ومنعه أبو حنيفة
والشافعي وآخرون.
(6) هذا مروي عن سفيان.
(7) هذا أحد قولي الشافعي في المسألة.
(8) هذا مروي عن مالك وأصحابه وحدد الخرق أبو حنيفة بأن يكون أقل من
ثلاثة أصابع.
(9) هذا مروي عن مالك.
88

ذهب إلى أن ذلك مؤقت بوقت خاص للحاضر ووقت آخر للمسافر (1) ولهم
هنا اختلاف في وصف السفر واختلاف في مسافته.
وأما شرط المسح على الخفين فهو أن تكون الرجلان طاهرتين عند
لبس الخفين بطهر الوضوء وهذا الشرط قال به أكثرهم، لكن روي عن
مالك عدم اشتراطه (2) واختلفوا في هذا الباب فيمن غسل رجليه ولبس
خفيه ثم أتم وضوءه هل يكتفي بما كان منه من غسل رجليه قبل لبسهما
أم لا بد من المسح عليهما؟ فهنا قولان (3)
وأما النواقض المختلف فيها فمنها نزع الخف. فقد قال قوم ببقاء طهارته
إذا نزع خفيه، حتى يحدث حدثا ينقض الوضوء وليس عليه غسل رجليه (4)،
وقال بعضهم بانتقاض طهارته بمجرد نزع خفيه (5) وقال آخرون ببقاء طهارته
إن غسل قدميه بعد نزع الخفين، أما إذا صلى ولم يغسلهما أعاد الصلاة بعد
غسلهما (6) إلى غير ذلك من أقول لهم مختلفة ومذاهب تتعلق بالمسح على
الخفين متباينة لسنا الآن في صدد تفصيلها.
والذي عليه الإمامية خلفا عن سلف - تبعا لأئمة العترة الطاهرة -
عدم جواز المسح على الخفين، سواء أكان ذلك في الحضر أم في السفر،

(1) هذا مذهب أبي حنيفة والشافعي.
(2) ذكر ذلك ابن لبانة في المنتخب وقد روي عن ابن القاسم عن مالك.
(3) فممن قال بالاكتفاء أبو حنيفة وممن قال بعدمه الشافعي.
(4) وممن قال بهذا القول داود وابن ليلى.
(5) هذا رأي الحسن بن حي.
(6) فممن قال بذلك الشافعي وبكل واحد من هذه الأقوال الثلاثة قالت طائفة
من فقهاء التابعين.
89

وحسبنا حجة على هذا قوله عز من قائل: وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى
الكعبين، لاقتضائه فرض المسح على الأرجل أنفسها. فمن أين جاء المسح
على الخفين؟ أنسخت هذه الآية؟ أم هي من المتشابهات؟ كلا بل هي
- إجماعا وقولا واحدا - من المحكمات اللاتي هن أم الكتاب، وقد أجمع
المفسرون (1) على أن لا منسوخ في سورة المائدة المشتملة على آية الوضوء إلا آية
واحدة هي: " يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله " إذ قال بعضهم
بنسخها دون ما سواها من آيات تلك السورة المباركة.
أما الأخبار الدالة على الترخيص بالمسح على الخفين فلم يثبت منها
شئ على شرطنا، وقد دلنا على وهنها مضافا إلى ذلك أمور:
أحدها: أنها جاءت مخالفة لكتاب الله عز وجل، والمأثور عن رسول
الله صلى الله عليه وآله أنه قال: إذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله
فإن وافقه فاقبلوه وإلا فردوه (2).
ثانيها: أنها جاءت متعارضة في أنفسها ولذا كثر الاختلاف بين
مصححيها العاملين على مقتضاها كما علمته مما أشرنا إليه قريبا. فإنهم إنما
تعارضوا في أقوالهم لتعارضها إذ هي مستندهم في تلك الأقوال (3).

(1) نقل هذا الإجماع فخر الدين الرازي ص 371 من الجزء 3 من تفسيره الكبير.
(2) تجد هذا الحديث في آخر ص 371 من الجزء الثالث من تفسير الرازي.
(3) كما اعترف به ابن رشد في أول صفحة 15 من الجزء الأول من بدايته حيث
ذكر اختلافهم في تحديد محل المسح. فقال: وسبب اختلافهم تعارض الأخبار في ذلك،
واعترف به أيضا في ص 16 حيث ذكر اختلافهم في توقيت المسح إذ قال: والسبب في
اختلافهم اختلاف الآثار في ذلك (قال) وذلك أنه ورد في هذا ثلاثة أحاديث ثم
أوردها بنصها فكان الأول فيها صريحا في كون الوقت ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ويوما
وليلة للمقيم، وكان الثاني نصا في الترخيص بالمسح على الخفين ما بدا للمكلف أن يمسح
من غير توقيت لا في الحضر ولا في السفر، وكان نص الثالث مخالفا لسابقيه... ومن أراد
التوسع في معرفة اختلاف الأئمة الأربعة حول هذه المسألة فعليه بكتاب الفقه على
المذاهب الأربعة الذي أخرجته وزارة الأوقاف المصرية تحقيقا لرجاء الملك فؤاد الأول.
90

ثالثها: إجماع أئمة العترة الطاهرة (علي وبنيه الأوصياء) على القول
بعدم جواز المسح على كل حائل سواء في ذلك الخف والجورب والحذاء
وغيرها من سائر الأجناس والأنواع (1) وأخبارهم صريحة بالمعارضة لأخبار
الجمهور (2) الدالة على الجواز، والقاعدة المسلمة في الأخبار المتعارضة تقديم ما
وافق منها كتاب الله عز وجل هذا إذا تكافأت سندا ودلالة. وأنى يكافأ
ثقل رسول الله صلى الله عليه وآله وأعدال كتاب الله تعالى وسفن نجاة الأمة وباب
حطتها وأمانها من الاختلاف.
رابعها: أنها لو كانت حقا لتواترت في كل عصر ومصر لأن الحاجة إلى
معرفة طهارة الأرجل في الوضوء حاجة - كما قلنا سابقا - عامة لرجال
الأمة ونسائها، وهي حاجة لهم ماسة في كل يوم وليلة من أوقات حضرهم
وسفرهم، فلو كانت غير المسح المدلول عليه بالآية لعلمه المكلفون في عهد
النبوة وبعده، ولكان مسلما بينهم في كل خلف ولا سيما مع مجيئه عبادة
محضة غير معقولة المعنى (3) غريبة في باب العبادات تستوجب الشهرة بغرابتها.

(1) روى إجماعهم (ع) على هذا غير واحد من أعلام الإمامية أحدهم الإمام السيد
علي الطباطبائي في كتابه البرهان القاطع، وأعلام الإمامية يدينون الله متقربين إليه
بالعمل على ما يقتضيه مذهب أئمة أهل البيت في الفروع والأصول منذ عهدهم عليهم
السلام إلى يومنا فهم أعرف الناس بفقههم وحديثهم وسرهم وعلانيتهم.
(2) أخبارهم المعارضة لأخبار الجمهور في هذه المسألة كثيرة حتى قال الإمام
الطباطبائي في برهانه القاطع حيث ذكرها: ولا يبعد تواترها.
(3) لكن الإمام أبا حنيفة يرى أن الوضوء من الواجبات التوصلية لا تتوقف صحته
على نية كغسل الثوب المتنجس وهذا الرأي في المسح على الخفين في الخصوص
كما ترى.
91

ولما لم يكن الأمر كذلك ظهر لنا وهن أخبارها المسقط لاعتبارها.
خامسها: أنه لو فرض صحتها لوجب أن تكون منسوخة بآية المائدة
لأنها آخر سورة نزلت، وبها أكمل الله الدين وأتم النعمة ورضي الإسلام
دينا فواجبها واجب إلى يوم القيامة، وحرامها حرام إلى يوم القيامة كما
نصت عليه أم المؤمنين عائشة وقد قالت لجبير بن نفير - إذ حج فزارها - يا
جبير تقرأ المائدة؟ قال نعم. قالت: أما أنها آخر سورة نزلت فما وجدتم فيها
من حلال فاستحلوه وما وجدتم فيها من حرام فحرموه (1).
لكن الجمهور يتشبثون في بقاء حكم المسح على الخفين بعد نزولها
بحديث جرير: إذ بال فتوضأ فمسح على خفيه. فقيل له: تفعل هذا؟ قال
نعم رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله بال ثم توضأ فمسح على خفيه.
رواه مسلم وروى أن هذا الحديث كان يعجبهم وعلل ذلك بأن إسلام
جرير كان بعد نزول المائدة (2).
قلت: بل أسلم قبل نزول المائدة بدليل حضوره حجة الوداع مع رسول

(1) أخرجه الحاكم في أول تفسير سورة المائدة ص 314 من الجزء الثاني من
المستدرك، ثم أخرج نحوه عن عبد الله بن عمرو بن العاص وقال بعد إيراد كل من
الحديثين: هذا الحديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقد أورده الذهبي في
تلخيصه مرمزا إلى صحته على شرط الشيخين.
(2) قال النووي في تعليقه على هذا الكلام: معناه أن الله تعالى قال في سورة
المائدة: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى
الكعبين. فلو كان إسلام جرير متقدما على نزول المائدة لاحتمل كون حديثه في مسح
الخف منسوخا بآية المائدة فلما كان إسلامه متأخرا علمنا أن حديثه يعمل به، إلى آخر
كلامه. قلت: من أين لنا العلم بتأخره وقد بينا في الأصل تأخر المائدة.
92

الله وقد أمر صلى الله عليه وآله يومئذ - كما ترجمته من الإصابة نقلا عن
الصحيحين - أن يستنصت الناس.
فإسلامه لا بد أن يكون قبل تلك الحجة، ونزول المائدة لم يكن قبلها
يقينا (1).
وأيضا أخرج الطبراني عن جرير - كما في ترجمته من الإصابة - قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن أخاكم النجاشي قد مات وموت النجاشي إنما
كان قبل نزول المائدة إذ لا كلام في أنه مات قبل السنة العاشرة.
وللقسطلاني هنا تشبث آخر غريب إذ قال - حول المسح على
الخفين -: وليس المسح بمنسوخ لحديث المغيرة الصريح بمسح النبي صلى الله عليه وآله
خفيه في غزوة تبوك وهي آخر غزواته والمائدة نزلت في غزوة المريسيع إلى
آخر كلامه.
قلت: غزوة المريسيع هي غزوة بني المصطلق كانت لليلتين خلتا من
شعبان سنة خمس وقيل سنة أربع كما في البخاري نقلا عن ابن عقبة وعليه
جرى النووي في الروضة وقيل سنة ست للهجرة، وقد نزلت بعدها المائدة
وكثير من السور، وإنما نزلت فيها آية التيمم وهي قوله تعالى في سورة
النساء: وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو
لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم
وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا.
والرواية في ذلك ثابتة عن عائشة أخرجها الواحدي في كتابه أسباب
النزول فراجع لتكون على يقين من أن القسطلاني قد اشتبهت عليه آية

(1) وحسبك ما أخرجه البخاري من نزول بعض آياتها على رسول الله صلى الله عليه وآله يوم
عرفة وهو على راحلته في حجة الوداع.
93

الوضوء بآية التيمم، على أن المغيرة وجريرا ممن لا نحتج بهم، وعن
قريب تقف على ما أر ابنا في المغيرة، ولجرير سيرة مع الوصي أوجبت
لنا الريب فيه أيضا.
سادسها: أن عائشة أم المؤمنين كانت - على مكانتها من السنة
والفطنة ومكانها من مهبط الوحي والتشريع - تنكر المسح على الخفين
أشد الانكار، وابن عباس - وهو حبر الأمة وعيبة الكتاب والسنة لا
يدافع - كان من أشد المنكرين أيضا وقد بلغا في إنكارهما أبعد غاية
يندفع فيها المنكر اندفاع الثائر، ألا تمعن معي في قولها (1) لأن تقطع
قدماي أحب إلي من أمسح على الخفين. وفي قوله:
لأن أمسح على جلد الحمار أحب إلي من أن أمسح على الخفين.
بجدك هل يجتمع هذا الشكل من الانكار مع اعتبار تلك الأخبار؟!
كلا بل لا يجتمع مع احترامها وإذا كانت هذه أقوال المشافهين بها
العارفين بغثها وسمينها فكيف يتسنى لنا الركون إليها على بعدنا
المتنائي عنها قرونا وأحقابا.
ومن أمعن محررا في إنكار الأدنين من رسول الله صلى الله عليه وآله كزوجته وابن
عمه وسائر الهداة القادة من عترته اضطره ذلك إلى الريب في تلك
الأخبار.
ومن هنا تعلم أن القول بتواترها إسراف وجزاف. أتبلغ حد التواتر ثم
يجهلها هؤلاء السفرة البررة؟! أو يتجاهلون بها؟! سبحانك هذا بهتان
عظيم.

(1) تجد قولها هذا في أول صفحة 371 من الجزء الثالث من تفسير الرازي، وهناك
كلمة ابن عباس.
94

بل لو كانت متواترة ما أنكرها عبد الله بن عمر (1) والإمام مالك في
إحدى الروايتين عنه (2)، ولا غيرهما من السلف الصالح صالح المؤمنين.
وأجحف كل الإجحاف من قال: أخاف الكفر على من لا يرى المسح
على الخفين (3). روي أن المسح على الخفين لا هو من فصول الدين ولا هو
من الضروريات من فروعه ولا هو مما افترضه الكتاب ولا هو - بإجماع
الأمة - مما أوجبته السنة وإنما هو مجرد رخصة عند قوم من المسلمين
دون آخرين منهم فأي جناح بتركه عملا بما افترضته آية الوضوء؟ وقد
أجمع أهل القبلة على صحة العمل بمقتضاها وتصافقوا على استباحة
الصلاة بذلك بخلاف المسح على الخفين فإن صحة الوضوء معه ورفع
الحدث به واستباحة الصلاة فيه محل خلاف بين المسلمين فهل يخشى
الكفر على من أخذ بالاحتياط؟! وما رأيكم في عائشة وعلي وابن عباس
وسائر أهل البيت إذ لم يروا المسح على الخفين يا مسلمون؟!
[المسح على العمامة]
ذهب علماؤنا إلى عدم جواز المسح على العمامة، وهذا مذهب

(1) قال عطاء كما في ص 372 من الجزء الثالث من تفسير الرازي: كان ابن عمر
يخالف الناس في المسح على الخفين لكنه لم يمت حتى وافقهم. قلت: وإنكاره على سعد
إذ رآه يمسح على خفيه ثابت في صحيح البخاري.
(2) تجد الروايتين عنه في ص 372 من الجزء الثالث من تفسير الرازي وفي مظان
ذلك من الكتب الفقهية.
(3) فممن قال ذلك الكرخي كما نقله عنه القسطلاني في صفحة 4 من الجزء الثاني
من إرشاد الساري.
95

الشافعي وأبي حنيفة ومالك وخالف الإمام أحمد بن حنبل وأبو ثور
والقاسم بن سلام والأوزاعي والثوري (1) والخلاف منقول عن غيرهم أيضا
فقالوا بالجواز قياسا على الخف وعملا بحديث المغيرة بن شعبة أن رسول
الله صلى الله عليه وآله مسح بناصيته وعلى العمامة وفي بعض طرقه أنه مسح على
العمامة ولم يذكر الناصية.
وحسبنا كتاب الله عز وجل " وامسحوا برؤوسكم "، وسنة رسوله
مسحه بناصيته صلى الله عليه وآله وهذا مسلم لا يحتاج إلى بيان، والإجماع منعقد
عليه منقولا ومحصلا والحمد لله رب العالمين.
ولا حجة لهم بالقياس على الخف لأن دين الله لا يصاب بالقياس
على أن المسح على الخف ممنوع كما علمت.
أما حديث المغيرة فباطل وإن أخرجه مسلم وقد قال فيه أبو عمر بن
عبد البر أنه حديث معلول (2) قلت ولعل أبا حنيفة والشافعي ومالكا إنما لم
يأبهوا به لكونه معلولا عندهم أيضا.
وللمغيرة سيرة مكر وخداع وتقلب واحتيال وارتماس في الموبقات
وانغماس في الشهوات وانطلاق في الغدر وتجاوز للحدود فيما يحب
وفيما يكره ولا سيما مع من يواليهم من أعداء آل محمد صلى الله عليه وآله ومع من
يعاديهم من أولياء الله ورسوله.
دخل في الإسلام حقنا لدمه من بني مالك وذلك أنه وفد مع جماعة
من أشرافهم على المقوقس وهو في الإسكندرية ففاز المالكيون دونه

(1) هذا الخلاف نقله ابن رشد في بدايته عن أحمد وأبي ثور والقاسم ونقله الرازي
في تفسيره عن الأوزاعي والثوري وأحمد.
(2) نقله عنه ابن رشد في ص 10 من الجزء الأول من بدايته.
96

بجائزة الملك فحمله الطمع بها على الغدر بهم فدعاهم إلى الشراب وهم
مستسلمون لصحبته فجعل يسقيهم حتى إذا أخذ السكر مأخذه من
مشاعرهم عدا عليهم فقتلهم عن آخرهم فصفيت له أموالهم، وحيث لم
يجد معتصما من أهلهم غير الالتحاق بالاسلام وفد على رسول الله صلى الله عليه وآله
وهو في المدينة فدخل عليه يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فقبل
إسلامه جريا على سنته في ذلك مع المؤمنين ومع المنافقين، وحين
عرض عليه أموال بني مالك ترفع عنها وكان له أخذها لأنها من أموال
المحاربين المستحلين منه ما حرم الله تعالى لكن لما كان أخذها غدرا
أبت نفسه القدسية قبولها فأوفرها عليه (1) هذا إسلامه يعطيك صورة من
مبادعه ودواهيه، وقد شهد عليه أبو بكرة - وهو من فضلاء الصحابة - وأصحابه
بما يوجب الحد في قضية مشهورة من حوادث سنة 17 للهجرة (2)
فكيف نعارض القرآن الحكيم بحديثه يا أولي الألباب؟!
[هل لمسح الرأس حد؟]
ذهب علماؤنا إلى أنه لا حد في مسح الرأس لا للماسح ولا

(1) أخرج هذه القضية ابن سعد في ترجمة المغيرة ص 25 من الجزء الرابع من
كتاب الطبقات بسنده إلى المغيرة نفسه قال: كنا قوما من العرب متمسكين بديننا
ونحن سدنة اللات فأر أني لو رأيت قومنا قد أسلموا ما تبعتهم لكن أجمع نفر من بني مالك
الوفود على المقوقس فأجمعت الخروج معهم. الحديث وقد سمعت مضمونه.
(2) تجد تفصيلها في ترجمة يزيد بن زياد الحميري من وفيات الأعيان لابن خلكان
وأشار إليها أصحاب المعاجم في التراجم إذ ترجموا المغيرة والشهود عليه وهم: أبو بكرة
وشبل بن معبد الصحابيان ونافع بن الحارث بن كلدة وزياد بن أبيه وهي مما لا يخلو
منها كتاب يشتمل على حوادث سنة 17 للهجرة.
97

للممسوح، بل يكفي عندهم مسماه ولو بأقل مصاديقه الغرفيه (1) وهذا مذهب
الشافعي أيضا وذهب الإمامان مالك وأحمد وجماعة آخرون إلى أن الواجب
مسح الرأس كله، وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن الواجب مسح ربعه
بثلاث أصابع حتى أن مسحه بأقل من ذلك لا يجزي عنده.
حجتنا قوله تعالى: وامسحوا برؤوسكم إذ المراد الصادق المسح
بالرأس مطلقا، وهذا كما يتحقق بالاستيعاب وبالربع يتحقق بأقل
مسمى المسح ولو بجزء من إصبع ممرا له على جزء من الرأس ولا دليل
على شئ مما قالوه بالخصوص ولو أراد الاستيعاب لقال سبحانه:
وامسحوا رؤوسكم كما قال: فاغسلوا وجوهكم، ولو كان المراد قدرا
مخصوصا لبينه كما فعله في غسل اليدين إذ قال إلى المرافق وفي مسح
الرجلين إذ قال إلى الكعبين.

(1) وحيث كان رسول الله صلى الله عليه وآله يمسح على مقدم رأسه اختصوه بالمسح اقتصارا
على القدر المتيقن.
98

[ستة فروع خلافية]
[1 - مسح الأذنين]
أجمع الإمامية - تبعا لأئمة العترة الطاهرة - على أن مسح الأذنين ليس
من الوضوء في شئ إذ لا دليل عليه من كتاب أو سنة أو إجماع، بل
صريح الكتاب أن الوضوء غسلتان - للوجه ولليدين - ومسحتان:
- للرأس وللرجلين -.
وقال الحنابلة: بافتراض مسح الأذنين مع صماخيهما، ونقل ابن رشد
هذا القول عن أبي حنيفة وأصحابه (1).
وقال الشافعي ومالك مسحهما سنة. واختلفوا في تجديد الماء لهما وعدم
تجديده، وشذ قوم منهم فذهبوا إلى أنهما يغسلان مع الوجه. وقال آخرون:
يمسح باطنهما مع الرأس ويغسل ظاهرهما مع الوجه.
والشافعي يستحب فيهما التكرار كما يستحبه في مسح الرأس.

(1) راجع من كتابه بداية المجتهد ص 11 من جزئه الأول تجده ينقل ذلك عن أبي
حنيفة وأصحابه.
99

احتجوا بأخبار واهية لم يثبت شئ منها عندنا، والشيخان البخاري
ومسلم لم يأبها في شئ منها، وإنما اعتبرها معتبروها مع ضعفها عندهم
لجبرها بشهرة العمل فيما بينهم.
لكن أئمة الهدى من ثقل رسول الله صلى الله عليه وآله لم يأبهوا بها وهم أهل بيت
النبوة وأهل البيت أدرى بالذي فيه وحسبنا الثقلان.
[2 - هل يجزئ غسل الرأس بدلا من مسحه؟]
أهل المذاهب الأربعة متفقون على أن غسل الرأس في الوضوء يكفي عن
مسحه غير أنهم اختلفوا في كراهة ذلك وعدم كراهته، فالحنفية والمالكية
قالوا بكراهته محتجين بأنه خلاف ما أمر الله به، والشافعية قالوا: إنه ليس
بمكروه لكنه خلاف الأولى. والحنابلة قالوا: إنه إنما يجزئ الغسل هنا بدل
المسح بشرط إمرار اليد على الرأس.
أما الإمامية فمجمعون على عدم الإجزاء لأنه خلاف ما أمر الله به
وخلاف الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وآله من مسح ناصيته الشريفة دون
غسلها، وإذن يكون تشريعا في العبادة باطلا في نفسه مبطلا لها. وقد علمت
مما قلناه آنفا أن الغسل والمسح حقيقتان مختلفتان لا يغني أحدهما عن
الآخر.
[3 - الترتيب في الوضوء:]
أجمع الإمامية - تبعا لأئمة العترة الطاهرة - على اشتراط الترتيب في
100

أفعال الوضوء على نسق ما هو مرتب في آيته الكريمة (1).
وذهب المالكية والحنفية وسفيان الثوري وداود إلى عدم اشتراطه
وعدم وجوبه واعتبروه سنة لا يبطل الوضوء بمخالفتها. وقالوا بصحة وضوء
المتوضئ إذا ابتدأ بغسل رجله اليسرى منتهيا من الوضوء بغسل وجهه على
عكس الآية في كل أفعاله.
حجتنا الكتاب والسنة. أما الكتاب فلتبادر الترتيب منه وأن كان
العطف فيه بالواو، لا بثم ولا بالفاء، لأن الواو كثيرا ما يعطف بها الأشياء
المرتبة ولا تجوز في ذلك وهذا ثابت باستقراء كلام العرب لا ريب فيه
لأحد، ولذا قال الكوفيون من النحاة بأنها حقيقة في الترتيب والنسق
بالخصوص وإن كانت ثم والفاء أظهر منها في ذلك.
وأما السنة فوضوء رسول الله صلى الله عليه وآله إذ كان ملتزما فيه بالترتيب، سواء
أكان وضوؤه لإحدى الفرائض الخمس أم كان لغيرها من واجب أو
ندب، وقد كان مدة حياته صلى الله عليه وآله على طهارة يسبغ الوضوء كلما انتقض
ويسبغ الوضوء على الوضوء. وربما قال: إنه نور على نور. وقد أجمعت الأمة
على أنه صلى الله عليه وآله لم يتوضأ قط إلا مرتبا ولولا اشتراط الترتيب وافتراضه في
الوضوء لخالفه ولو مرة واحدة أو صدع بجواز المخالفة بيانا للحكم كما هي
سنته، وحيث لم يخالف الترتيب ولم يصدع بجواز المخالفة علمنا عدم
جوازها، على أن الأصل العملي يوجب هنا إحراز الشئ المشكوك في
شرطيته واستصحاب الحدث جار مع عدم إحرازه.

(1) واشترطوا الترتيب في نفس الأعضاء فأوجبوا غسل الأعلى قبل الأسفل اقتداء
بأئمتهم وعملا بنصوصهم عليهم السلام.
101

[4 - الموالاة:]
ذهب علماؤنا - تبعا لأئمتهم عليهم السلام - إلى أن الموالاة بين أفعال
الوضوء شرط في صحته، وضابطها أن لا يجف العضو السابق - عند اعتدال
الزمان والمكان ومزاج المتوضئ - قبل الفراغ من العضو اللاحق.
وذهب الشافعية والحنفية إلى أن الموالاة ليست بفرض ولا بشرط ولا
بواجب، وإنما هي سنة. فيكره عندهم التفريق بين الأعضاء إذا كان بغير
عذر أما للعذر فلا يكره وذلك كما إذا كان ناسيا أو فرغ الماء المعد لوضوئه
فذهب ليأتي بغيره ليكمل به وضوءه.
وذهب المالكية إلى أن الموالاة فرض مع الذكر والقدرة، ساقطة مع
النسيان ومع العذر.
حجتنا فعل رسول الله صلى الله عليه وآله إذ كان يوالي في وضوئه كما كان يرتبه ولم
يرو عنه التراخي في أفعال الوضوء مطلقا كما لم يرو عنه عدم ترتيبها، ولولا
اشتراط الموالاة لتركها ولو مرة واحدة أو صدع بجواز تركها بيانا للحكم
الشرعي جريا على سنته في التشريع عن الله تعالى، وحيث لم يفعل علمنا
عدم الجواز.
على أنه لا خلاف في صحة الوضوء جامعا لهذه الشرائط أما إذا لم يكن
جامعا لها فصحته محل النزاع، وأئمة أهل البيت عليهم السلام لا يرونه
حينئذ رافعا للحدث ولا مبيحا للصلاة فاحتط لدينك. والاحتياط هنا مما
لا بد منه لأن الأصل العملي يوجب إحراز الشئ المشكوك في شرطيته،
واستصحاب الحدث جار مع عدم إحرازه كما أسلفناه.
102

[5 - النية:]
أجمع الإمامية - تبعا لأئمة الثقلين - على اشتراط النية في صحة الوضوء
والغسل لكونهما من العبادات التي أمر الله بها " وما أمروا إلا ليعبدوا الله
مخلصين له الدين " وهذا مذهب الشافعي ومالك وأحمد وداود وأبي ثور وكثير
من أئمة الجمهور.
وقال الحنفية: أن وجوب الوضوء والغسل بالماء المطلق ليس إلا توصليا
إلى الطهارة التي تحصل بمجرد سيلانه على الأعضاء سواء أكان ذلك عن نية
أم لم يكن عن نية بل ولا عن اختيار نظير غسل الثوب المتنجس لأن الماء
مطهر بطبعه، وقالوا إذا سقط شخص بالماء بدون اختيار أو دخل الماء عابثا
أو بقصد التبرد أو النظافة أو كان حاكيا لفعل غيره أو مرائيا فشمل الماء
أعضاء وضوئه صح له أن يصلي بهذا الوضوء حتى لو كان عند دخول الماء
كافرا فأسلم عند خروجه إذ لم يشترطوا الإسلام في صحة الوضوء.
نعم اشترطوا النية في صحة التيمم لأن الصعيد غير مطهر بطبعه وإنما
طهوريته تعبدية فلا بد في التيمم به من نية، وكذا الوضوء والغسل بنبيذ التمر
أو سؤر الحمار أو البغل لأن طهورية هذا النبيذ والسؤرين تعبدية كالصعيد.
وبالجملة فقد فصلوا في الوضوء والغسل بين ما كان منهما بنبيذ تمر أو
سؤر الحمار أو البغل وبين ما كان بغير ذلك من المياه المطلقة فاعتبروا
الأول عبادة غير معقولة المعنى فأوجبوا لها النية كالتيمم واعتبروا الثاني من
الواجبات التوصيلية إلى النظافة المحسوسة كالطهارة من النجاسة.
وما أدري من أين علموا أن غرض الشارع من الوضوء والغسل ليس إلا
الطهارة المحسوسة التي يوجدها سيلان الماء بمجرد طبعه؟! وقد علم كل
مسلم ومسلمة أن الوضوء والغسل إنما هما لرفع أثر الحدث استباحة للصلاة
103

ونحوها مما هو مشروط برفعه وهذا غير محسوس ولا مفهوم لولا التعبد بالأوامر
المقدسة الصادرة من لدن حكيم مطلق، بكل حقيقة ودقيقة تخفى على
الإنس والجن والملائكة وسائر المخلوقات: نعم، نؤمن بأن الوضوء لرفع أثر
الحدث الأصغر وأن الغسل لرفع الحدث الأكبر تعبدا كما نؤمن بفرائض
الصلاة والصوم والزكاة والحج كيفا وكما ووقتا.
ومجرد حصول النظافة المحسوسة بالوضوء، والغسل في كثير من الأوقات
لا يجعلهم توصليين إليها كما أن إنعاش مستحقي الزكاة بأدائها إليهم لا
يخرجها عن العبادة فيجعلها توصلية إلى إنعاشهم، وكذلك الخمس
والكفارات وسائر الصدقات والعبادات المالية، ولو كان الغرض من
الوضوء والغسل مجرد الطهارة المحسوسة لما وجبا على المحدث إذا كان في غاية
النظافة والنقاء وهذا خارق لإجماع المسلمين، مخالف لما هو ثابت عن سيد
النبيين إذ قال صلى الله عليه وآله لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ.
وقال صلى الله عليه وآله: لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول.
وقد يستدل على اشتراط النية هنا بالكتاب والسنة مضافا إلى ما
يقتضيه الأصل العملي من وجوب إحراز الشرط المشكوك في شرطيته
واستصحاب بقاء الحد في صورة التوضؤ بغير نية.
أما الكتاب فمجموع آيتي المائدة والبينة فإن آية المائدة وهي:
(إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم) إلى آخرها تثبت الصغرى في
شكل القياس وهي أن الوضوء والغسل مما أمرنا به، وآية البينة وهي: (وما
أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) تثبت كبرى الشكل وهي كل ما
104

أمرنا به يجب الاخلاص لله فيه، لكن في هذا الاستدلال نظرا بل إشكالا.
وأما السنة فوضوء رسول الله صلى الله عليه وآله إذ كان ملتزما فيه بالترتيب
وبالنيات بناء على أن التقدير إنما صحة الأعمال كائنة بالنيات، لكن
للحنفية أن يقولوا: تقديره إنما كمال الأعمال بالنيات وحينئذ لا يصلح
دليلا على ما نقول. وقد يقال في جوابهم: أن التقدير الأول أولى لأن الصحة
أكثر لزوما للحقيقة من الكمال فالحمل عليها أولى لأن ما كان ألزم للشئ
كان أقرب خطورا للذهن عند إطلاق اللفظ ا ه‍. ومع ذلك فإن فيه تأملا.
ونحن الإمامية في كل ما ندين الله به تبع لأئمة العترة الطاهرة،
ومذهبهم عندنا حجة بنفسه لأنهم أعدال كتاب الله، وعيبة سنن رسول
الله صلى الله عليه وآله، وسفن نجاة الأمة، يسلم من ركبها ويغرق من تخلف عنها، وباب
حطة يأمن من دخلها، والعروة الوثقى لا انفصام لها، وأمان الأمة من
الاختلاف، وأمنها من العذاب، وبيضة رسول الله التي تفقأت عنه،
وأولياؤه وأوصياؤه، ووارثو علمه وحكمه، وأولى الناس به وبشرائعه عن الله
تعالى كما هو مبرهن عليه في محله من مراجعاتنا الأزهرية وغيرها.
[6 - الوضوء بالنبيذ:]
أجمع الإمامية - تبعا للأئمة من آل محمد صلى الله عليه وآله - على اشتراط الإطلاق
في ماء الوضوء والغسل سواء أكان في الحضر أم في السفر، وأجمعوا أيضا
على أنه تعذر الماء تعين على المكلف تيمم الصعيد طيبا. وهذا مذهب
الشافعي ومالك وأحمد وغيرهم.
وذهب الإمام أبو حنيفة وسفيان الثوري إلى جواز الوضوء والغسل بنبيذ
105

التمر (1) في السفر مع فقد الماء (2)، وكرهه الحسن البصري وأبو العالية رفيع بن
مهران، وقال عطاء بن أبي رباح: التيمم أحب إلي من الوضوء بالحليب
واللبن (3) وجوز الأوزاعي الوضوء والغسل بسائر النبيذ (4) بل بسائر المائعات
الطاهرة (5).
حجة الإمامية ومن يرى في هذه المسألة رأيهم - مضافا إلى الأصول
العملية - كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وإجماع الأمة.
أما الكتاب فقوله تعالى: " فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا
بوجوهكم وأيديكم " إذ أطلق الأمر بالتيمم مع فقد الماء ولم يجعل وسطا
بينه وبين الصعيد.
وأما السنة فحسبنا قوله صلى الله عليه وآله: الصعيد الطيب وضوء المسلم إن لم يجد
الماء، الحديث. وهو كالآية في الإطلاق وعدم الواسطة.
وأما الإجماع فلأن أهل القبلة كافة في هذه المسألة على رأي واحد،

(1) النبيذ فعيل بمعنى مفعول وهو الماء الذي ينبذ فيه نحو التمر والزبيب لتخرج
حلاوته إلى الماء وهو نوعان مسكر وغير مسكر ومحل النزاع هنا إنما هو غير المسكر، أما
المسكر فلا خلاف في عدم جواز الوضوء به نبيذا كان أم غير نبيذ.
(2) هذا القول متواتر عن أبي حنيفة وقد نقله عنه ابن رشد في بداية المجتهد والإمام
الرازي حول آية التيمم ص 375 من الجزء 3 من تفسيره الكبير، وأورده السندي في
باب الوضوء بالنبيذ من تعليقته على سنن ابن ماجة نقلا عن أبي حنيفة والثوري.
(3) نقل البخاري في أول باب لا يجوز الوضوء بالنبيذ ولا المسكر من صحيحه عن
كل من الحسن البصري وأبي العالية وعطاء ما قد نقلناه في الأصل عنهم فراجع.
(4) كما نص عليه القسطلاني في ص 43 من الجزء الثاني من إرشاد الساري.
(5) كما نقل ذلك عنه الإمام الرازي في ص 375 من الجزء 3 من تفسيره إذ قال:
ذهب الأوزاعي والأصم إلى أنه يجوز الوضوء والغسل بسائر المائعات الطاهرة.
106

ومن خالف فيه فإنما هو شاذ خارق لإجماع المسلمين لا يعبأ بشذوذه. كمن
شذ بقوله لا يجوز الوضوء بماء البحر (1) مثلا.
احتج أبو حنيفة والثوري ومن رأى رأيهما بما روي عن ابن مسعود من
طريقين:
أولهما: عن العباس بن الوليد بن صبيح الخلال الدمشقي عن مروان بن
محمد الطاطري الدمشقي عن عبد الله بن لهيعة عن قيس بن الحجاج عن
حنش الصناعي عن عبد الله بن عباس عن ابن مسعود: أن رسول
الله صلى الله عليه وآله قال له ليلة الجن: معك ماء؟ قال: لا إلا نبيذ في سطيحة (2) قال
رسول الله صلى الله عليه وآله: تمرة طيبة وماء طهور صب علي. قال فصببت عليه
فتوضأ به.
أخرج هذا الحديث من هذا الطريق محمد بن يزيد بن ماجة القزويني
في باب الوضوء بالنبيذ من سننه ولم يخرجه من هذا الطريق أحد من
أصحاب السنن سواه فيما أعلم لظلمانه المتراكم بعضها على بعض، فإن
العباس بن الوليد لم يكن بثقة ولا مأمونا وقد تركه جهابذة الجرح والتعديل
حتى سئل عنه أبو داود - كما في ميزان الاعتدال - فقال: كان عالما
بالرجال والأخبار لا أحدث عنه. وأنت تعلم أنهم إنما تركوه لوهنه. أما
شيخه مروان بن محمد الطاطري فقد كان من ضلال المرجئة. وأورده
العقيلي في كتاب الضعفاء. وصرح بضعفه ابن حزم تعلم هذا كله من

(1) كان عبد الله بن عمرو بن العاص لا يجيز الوضوء بماء البحر كما هو مشهور عنه.
وقد نقل الرازي عنه ذلك حول آية الوضوء من سورة المائدة.
(2) السطيحة من أواني الماء ما كان من جلدين قوبل أحدهما بالآخر فسطح عليه
تكون صغيرة وكبيرة.
107

ترجمته في ميزان الاعتدال. على أن شيخه عبد الله بن لهيعة ممن ضعفه أئمتهم
في الجرح والتعديل فراجع أقوالهم في أحواله من معاجم التراجم كميزان
الاعتدال وغيره تجده مشهودا عليه بالضعف من ابن معين وابن سعيد
وغيرهما، وهناك مغامز أخر في غير هؤلاء الثلاثة من رجال هذا الطريق
لسنا في حاجة إلى بيانها.
أما الطريق الثاني من طريقي الحديث فينتهي إلى أبي زيد مولى عمرو
بن حريث عن عبد الله بن مسعود: أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال له ليلة الجن:
عندك طهور؟ قال: لا إلا شئ من نبيذ في أداوة قال صلى الله عليه وآله: تمرة طيبة
وماء طهور فتوضأ.
أخرجه ابن ماجة والترمذي وأبو داود. وليس فيما رواه أبو داود فتوضأ
به وهذا الحديث باطل من هذا الطريق أيضا كما هو باطل من طريقه
الأول. وحسبك في بطلانه أن مداره على أبي زيد مولى عمرو بن حريث
وهو مجهول عند أهل الحديث كما نص عليه الترمذي وغيره وقد ذكره
الذهبي في الكنى من ميزانه فنص على أنه لا يعرف، وأنه روى عن ابن
مسعود وأنه لا يصح حديثه. وأن البخاري ذكره في الضعفاء وأن متن
حديثه: أن نبي الله صلى الله عليه وآله توضأ بالنبيذ. وأن الحاكم قال: إنه رجل مجهول.
وأنه ليس سوى هذا الحديث " الباطل ".
وبالجملة فإن علماء السلف أطبقوا على تضعيف هذا الحديث (1)
بكلا طريقيه على أنه معارض بما أخرجه الترمذي في صحيحه وأبو داود في

(1) كما نص عليه القسطلاني والشيخ زكريا الأنصاري في شرحيهما للبخاري
فراجع باب لا يجوز الوضوء بالنبيذ ولا المسكر ص 43 والتي بعدها من الجزء الثاني من
كل من الشرحين المطبوعين معا.
108

باب الوضوء من سننه وصححه الأئمة كافة عن علقمة أنه سأل ابن مسعود
فقال له: من كان منكم مع رسول الله ليلة الجن؟ فقال: ما كان معه أحد
منا.
ولو فرض صحته وعدم معارضته لكانت آية التيمم ناسخة له لأن ليلة
الجن كانت في مكة قبل الهجرة وآية التيمم مدنية بلا خلاف (1).
ويجوز حمل الحديث - لو فرضت صحته - على أنه كان في الإداوة مع
الماء تميرات قليلة يابسة لم تخرج الماء عن الإطلاق وما غيرت له وصفا.
واحتج الأوزاعي والأصم ومن رأى رأيهما في الوضوء والغسل بسائر
المائعات الطاهرة وأن الله تعالى إنما أمر بالغسل والمسح وهما كما يتحققان
بالماء المطلق يتحققان بغيره من المائعات الطاهرة.
والجواب: إن الله عز وجل أوجب التيمم عند عدم الماء فتجويز الوضوء
بغيره يبطل ذلك وهذا ما يجعل الغسل المأمور به في الآية مقيدا بالماء كما هو
واضح والحمد لله على الفهم.
ولعل الحنفية إنما جوزوا الوضوء باللبن الممزوج بالماء فيما حكي عنهم (2)
استنادا إلى ما استند إليه الأوزاعي والأصم حاتم بن عنوان البلخي.
هذه ما يسر الله تعالى لعبده وابن عبديه، عبد الحسين بن الشريف
يوسف بن الجواد بن إسماعيل بن محمد بن محمد بن شرف الدين إبراهيم بن

(1) كان الوضوء قبلها سنة مستحبة ولم يكن التيمم مشروعا حتى نزلت آيته بعد
الهجرة.
(2) ممن حكى ذلك عنهم الإمام القسطلاني في باب لا يجوز الوضوء بالنبيذ ولا
المسكر ص 44 من الجزء الثاني من إرشاد الساري وإليك نصه بلفظه قال: وأما اللبن
الخالص فلا يجوز التوضؤ به إجماعا فإن خالطه ماء فيجوز عند الحنفية ا ه‍.
109

زين العابدين بن علي نور الدين بن نور الدين علي بن الحسين آل أبي الحسن
الموسوي العاملي والحمد لله رب العالمين.
110