الكتاب: الرسائل
المؤلف: السيد الخميني
الجزء: ٢
الوفاة: ١٤١٠
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق: مع تذييلات لمجتبى الطهراني - ربيع الأول ١٣٨٥
الطبعة:
سنة الطبع: ربيع الأول ١٣٨٥
المطبعة: مؤسسة اسماعيليان
الناشر: مؤسسة اسماعيليان - للطباعة والنشر والتوزيع
ردمك:
ملاحظات:

الجزء الثاني
الرسائل
تشتمل على مباحث
والتعادل والترجيح، والاجتهاد، والتقليد، والتقية
تأليف
الأستاذ الأعظم زعيم الحوزة العلمية المرجع الديني الأعلى
الأية العظمى الحاج آقا روح الله الخميني الموسوي
ادام الله أيام افادته
مع تذييلات لمجتبى الطهراني
ربيع الأول 1385
مؤسسة اسماعيليان
للطباعة والنشر والتوزيع
قم - إيران - تلفون 25212
1

هذا كتابنا
ينطق عليكم بالحق
2

رسالة
في التعادل والترجيح
3

بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين مبحث التعارض واختلاف الأدلة. وقبل الورود في المقصد لا بد من ذكر أمور:
الأول
ان مبحث التعارض وان كان بعنوانه أعم من تعارض الاخبار، لكن لما كان البحث عن تعارض غيرها غير معنون في هذا المبحث في هذه الأعصار لأهمية تعارضها وندرة غيره كتعارض قول اللغوي مثلا اختص البحث فيه بتعارض الاخبار فلا بد من عقد البحث في تعارضها واختصاص الكلام به.
فنقول: ان الاخبار العلاجية تدور مدار عنوانين: (أحدهما) الخبران المتعارضان كما في مرفوعة زرارة، وسيأتي الكلام فيها و (ثانيهما) الخبران المختلفان كما في ساير الروايات على اختلافها في التعبير، فالكلام في باب التعارض يدور مدارهما، ومفادهما يرجع إلى امر واحد عرفا ولغة، ولما كان الميزان في تشخيص الموضوعات مصداقا ومفهوما هو العرف فلا بد من عرض المفهومين عليه لتشخيص التعارض واختلاف الأدلة، فإذا صدق العنوان لا بد من العلاج بالرجوع إلى اخبار العلاج والا فلا.
ثم ان التعارض والتنافي لدى العرف والعقلاء في الكلامين الصادرين من المتكلمين مختلف، فان الكلام قد يصدر من مصنفي الكتب ومتعارف الناس في محاوراتهم العادية مما لم يتعارف فيها إلقاء الكليات والمطلقات ثم بيان المخصصات والمقيدات وقرائن المجازات بعدها، وقد يكون صادرا من مقنني القوانين ومشرع الشرائع مما يتعارف فيها ذلك، فإنك ترى في القوانين العرفية إلقاء الكليات في فصل، وبيان حدودها ومخصصاتها في فصول آخر، فمحيط التقنين والتشريع غير محيط الكتب العلمية والمحاورات العرفية المتداولة، ولهذا ترى ان فيلسوفا أو لو
4

ادعى قاعدة كلية في فصل ثم ادعى خلافها في بعض الموارد يقال تناقض في المقال، اللهم الا ان ينبه على انتقاضها في بعض الموارد، ولكن العرف والعقلاء لا يرون التناقض في محيط التقنين والتشريع بين العام والخاص والمطلق والمقيد مع ضرورية التناقض بين الإيجاب الكلي والسلب الجزئي وكذا العكس، لكن لما شاع وتعارف في وعاء التقنين ومحيط التشريع، ذلك لا يعدونه تناقضا.
في انه لا بد من فرض التعارض في محيط التشريع
فلا بد في تشخيص الخبرين المتعارضين والحديثين المختلفين فرض الكلام في محيط التشريع والتقنين وفي كلام متكلم صارت عادته إلقاء الكليات والأصول وبيان المخصصات والشرائط والاجزاء والمقيدات والقرائن منفصلة، فهذا القرآن الكريم يقول - وقوله الحق -: «أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا» مع انه فيه العموم والخصوص والمطلق والمقيد ولم يستشكل أحد بوقوع الاختلاف فيه من هذه الجهة.
وبالجملة سنة الله تعالى في الكتاب الكريم، والرسول الصادع بالقانون الإلهي والأئمة الهدى مع عدم كونهم مشرعين لما جرت على ذلك كما هو المشاهد في الكتاب والسنة لمصالح هم اعلم بها، ولعل منها صيرورة الناس محتاجين إلى العلماء والفقهاء وفيه بقاء الدين ورواج الشريعة وتقوية الإسلام كما هو الظاهر فلا بد وان يكون تشخيص الخبرين المتعارضين والمختلفين مع عطف النظر إلى هذه السنة وتلك العادة.
فالتعارض بناء على ما ذكرنا هو تنافي مدلول دليلين أو أكثر عرفا في محيط التقنين مما لم يكن للعرف إلى جمعهما طريق عقلائي مقبول وصار العرف متحيرا في العمل، فالأدلة الدالة على الأحكام الواقعية غير معارضة للأدلة الدالة على حكم الشك لأن للعرف فيها طريق الجمع المقبول، وكذا لا يتعارض الحاكم المحكوم، وقد ذكرنا ضابط الحكومة في البراءة والاستصحاب، وكذا لا تعارض عرفا بين العام والخاص سواء كانا قطعي السند أو كان أحدهما قطعيا، وسواء كان الخاص قطعي الدلالة أو ظنيها، لأن العرف لا يرى انسلاكهما في الخبرين المتعارضين والحديثين المختلفين.
5

في سر عدم التعارض بين العام والخاص
والسر في تقديم الخاص على العام ما أشرنا إليه من ان التعارف والتداول في محيط التقنين والاخبار الصادرة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام لما كان بيان الأصول والقوانين الكلية منفصلة عن مخصصاتها لا يرى العرف تعارضا بينهما ويكون الجمع بينهما عرفيا عقلائيا.
وان شئت قلت ان أصالة الجد في العام صارت ضعيفة في العمومات الصادرة عن المقننين بحيث لا تقاوم أصالة الجد في الخاص فهي تتقدم عليها لقوتها وضعف مقابلتها للتعارف المشار إليه، هذا في الظاهرين، واما إذا كان الخاص قطعي الدلالة وظني السند فتقديمه عليه أيضا لعدم التخالف بينهما في مقام الجمع والدلالة، ومع عدم تخالفهما لا يكون السند الظني معارضا للظاهر الظني حتى يتشبث بما أفاده العلامة الأنصاري (قدس سره) مما هو بعيد عن الإفهام وغير صحيح في نفسه كما سنشير إليه.
وبالجملة لا يرى العرف بين الخاص والعام تعارضا، لا في الظنيين ولا في الخاص القطعي الدلالة والظني السند والعام، فإذا لم يكن بينهما تعارض فلا يرفع اليد عن السند الظني الحجة لكونه بلا وجه كما لا يخفى، هذا
كله في غير الخاص القطعي دلالة وجهة وسندا واما فيه فالتقدم يكون بالتخصص لأن بناء العقلاء على العمل بالأصول في غير مورد العلم بالخلاف.
كلام الشيخ في وجه تقديم الخاص على العام
ثم ان كلام المحققين مختلف في وجه تقديم الخاص على العام، فالشيخ الأنصاري فصل بين الموارد فقال: ان المخصص إذا كان علميا سندا ودلالة يكون واردا على العام، وان كان ظنيا بحسب الدلالة يكون مع العام من قبيل تعارض الظاهرين فربما يقدم العام وان كان قطعي الدلالة ظني السند، فان قلنا بان اعتبار أصالة الظهور انما هو من حيث أصالة
6

عدم القرينة، يكون دليل اعتبار السند حاكما على أصالة الظهور، واحتمل الورود وامر بالتأمل، وان قلنا بان اعتبارها من جهة الظن النوعي الحاصل من الغلبة أو غيرها فالظاهر ان النص وارد عليه مطلقا.
وذهب المحقق الخراساني في تعليقته إلى الورود مطلقا، وذهب بعض أعاظم العصر إلى الحكومة في غير القطعي سندا ودلالة مطلقا، وذهب شيخنا الأستاذ أعلى الله مقامه إلى ان التعبد بالسند مقدم لتقدمه الرتبي كما أفاد في الشك السببي والمسببي من التقدم الطبعي، والأولى التعرض لبعض ما أفاده الشيخ الأعظم.
في الإشكال على الشيخ الأعظم قدس سره
فنقول اما قضية ورود قطعي السند والدلالة على أصالة الظهور فلا تصح، لأن الورود عبارة عن إخراج فرد حقيقة عن تحت كلي بواسطة إعمال التعبد أو الحكم العقلائي لو فرض تحققه، واما إذا كان حكم العقل أو بناء العقلاء على موضوعين فلا يكون من الورود بل يكون من قبيل التخصص، وما نحن فيه كذلك لأن بناء العقلاء على العمل بالظواهر انما هو في غير مورد العلم بالخلاف، فمورده خارج تخصصا.
واما ما أفاد من حكومة دليل اعتبار السند على أصالة الظهور إذا كان مستندها أصالة عدم القرينة ووروده عليها إذا كان المستند الغلبة (ففيه) ان الأولى هو العكس، لأن مستند أصالة الظهور إذا كان أصالة عدم القرينة يكون بناء العقلاء معلقا على عدم القرينة فإذا أحرزت القرينة ولو بالأصل تتحقق غاية بنائهم، والخاص قرينة، فتقدمه يكون بالورود لا الحكومة، واما إذا كان المستند هو الغلبة لا يكون بنائهم معلقا. بل يكون لأجل نفس الظهور والظن النوعي، فتقدم ظن معتبر آخر عليه لا يكون من الورود قطعا فيمكن ان يكون من باب الحكومة على مبناه.
والتحقيق انه ليس من الحكومة مطلقا، اما على ما فسرها فواضح، لأن بناء العقلاء على الأخذ بالسند لا يكون مفسرا للظاهر وشارحا له، واما بناء على التحقيق في باب الحكومة كما عرفت في الاستصحاب فلان أحد الدليلين لا يتعرض لما لا يتعرضه الاخر، فدليل اعتبار
7

السند إن كان بناء العقلاء مع عدم الردع أو الإمضاء كما هو الحق فيكون هذا البناء كالبناء على العمل بالظواهر فلا معنى لحكومة أحدهما على الاخر بوجه وبأي تفسير فسرت الحكومة، وان كان الدليل اللفظي، فهو وان كان خلاف المفروض لأن الكلام في الأصول اللفظية وبناء العقلاء، لا في الأدلة اللفظية، لكن لا حكومة لمثل قوله: «العمري وابنه ثقتان ما يؤديان عني فعني يؤديان» على أصالة الظهور لعدم تعرضه له ولا يرفع موضوعه تعبدا، فكما ان دليل اعتبار السند يجعل احتمال مخالفته بمنزلة العدم كذلك دليل اعتبار الظهور أيضا، من غير فرق بينهما، وما في بعض كلماته من ان الظاهر من قبيل الأصل ودليل اعتبار السند من قبيل الدليل فيقدم عليه كما ترى (نعم) لو قيل بالمفهوم في آية النبأ، وقيل بان مفهومه عرفا: ان خبر العادل متبين لا يحتاج إلى التبين، لكان لذلك وجه، لكنه من قبيل احتمال في احتمال (وبالجملة) لا أرى للحكومة وجها.
في الكلام مع بعض أعاظم العصر (قده)
واما ما أفاد بعض الأعاظم من ان الخاص بمنزلة القرينة على التصرف في العام ولا ينبغي الشك في حكومة أصالة الظهور في القرينة على أصالة الظهور في ذيها ولو كان ظهور القرينة أضعف منه كما يظهر ذلك من قياس ظهور (يرمي) في قولك: «رأيت أسدا يرمي» في رمي النبل على ظهور (أسد) في الحيوان المفترس، فإنه لا إشكال في كون ظهور (أسد) في الحيوان المفترس أقوى من ظهور (يرمي) في رمي النبل، لأنه بالوضع وذلك بالإطلاق، مع انه لم يتأمل أحد في حكومة أصالة ظهور (يرمي) على أصالة ظهور (أسد)، وليس ذلك الا لأجل كون (يرمي) قرينة على التصرف في (أسد) ونسبة الخاص إلى العام كنسبة (يرمي) إلى (أسد) فلا مجال للتوقف في تقديم ظهور الخاص في التخصيص على ظهور العام في العموم (انتهى).
فهو من دعاويه الغريبة المختصة به رحمه الله، ضرورة ان صيرورة شيء قرينة على صرف ظهور شيء لا يمكن الا بقوة الظهور أو بما أشرنا إليه آنفا وسنشير إليه، أو النظر الحكومتي كما قد يتفق، ومثل: رأيت أسدا يرمي، مع قطع النظر عن المثال الذي
8

صار بواسطة تكرره في الكتب الأدبية وغيرها والاستشهاد به مرارا قرينية (يرمي) معلومة لا يكون لقوله يرمي حكومة على أسد، وما قال: ان القرينة لها خصوصية بها تكون حاكمة على ذيها، مما لا ينبغي ان يصغى إليه، لأن كون هذه الكلمة قرينة على هذه أو بالعكس أول الكلام فأي ترجيح للفظة (يرمي) حتى بها يصرف (أسد) عن ظهوره لو لا الأظهرية، فإذا ألقى المتكلم كلاما إلى السامع فبأي شيء يميز القرينة عن ذيها ويرجح أحدهما على الآخر لصرفه عن معناه الأصلي الحقيقي إلى المجازي فلو علم أولا ان المتكلم جعل الكلمة الفلانية قرينة على صرف صاحبها لم يحتج إلى التشبث بالظهور والحكومة (وبالجملة) لا تكون أصالة الظهور في القرينة حاكمة على ذيها الا في بعض الموارد، ثم لو سلم فأي دليل على ان التخصيص بمنزلة القرينة وهل هذا الا دعوى خالية عن البرهان، ومجرد تقديم العرف، الخاص على العام إذا صدر من متكلم في مجلس واحد لا يدل على الحكومة فان تقديمه عليه معلوم لكن الكلام في وجهه (وبالجملة) كلامه مع وضوح فساده في الدعويين (1) لا يخلو من دور أو شبهة (2) فتدبر.
واما ما أفاده الشيخ الأعظم دليلا على حكومة النص الظني السند على العام بأنا لم نجد ولا نجد من أنفسنا موردا يقدم فيه العام من حيث هو على الخاص وان فرض كونه أضعف الظنون المعتبرة، جار بعينه فيما إذا كان الخاص ظاهرا كالعام، فانا لم نجد موردا يقدم العام على الخاص لا ظهريته منه مع ان غالب موارد العام والخاص من قبيل الظاهرين لا النص والظاهر مع اعترافه بان تعارض الخاص الظاهر مع العام من قبيل تعارض الظاهرين، فمن ذلك يعلم ان تقديم الخاص ليس من باب الحكومة مطلقا.

(1) وهما ان القرينة لها خصوصية بها تكون حاكمة على ذيها غير الأظهرية، وان نسبة الخاص إلى العام نسبة القرينة إلى ذيها
(2) وهو انه ان كان وجه تقديم الخاص على العام قرينية الخاص على التصرف في ظهور العام فتقديم الخاص على العام يتوقف على إحراز قرينيته على التصرف فيه، وإحراز قرينيته فرع تقديمه على العام والا لا يصير قرينة على التصرف فيه بل يمكن ان يكون العام قرينة على عدم إرادة الخاص، وعليه فتقديمه عليه فرع تقديمه عليه تأمل -
9

كلام مع شيخنا العلامة أعلى الله مقامه
واما التقدم الرتبي الذي أفاده شيخنا العلامة (3) والظاهر رجوعه عنه في بحثه ففيه أولا ان دليل اعتبار السند ليس مقدما رتبة على دليل اعتبار الظهور ولو في رواية واحدة، وكذا موضوعهما، لعدم ملاك التقدم الرتبي في السند كما لا يخفى وثانيا لو سلم ذلك في الرواية الواحدة فهو ممنوع بالنسبة إلى روايتين فأي وجه للتقدم الرتبي
لدليل اعتبار سند رواية أو نفس سنده على دليل اعتبار ظهور رواية أخرى أو نفسه مع فقدان مناط التقدم حتى في الرواية الواحدة فضلا عن روايتين وثالثا سلمنا ذلك لكن مجرد التقدم الرتبي ليس موجبا للتقدم كما ذكرنا في الأصل السببي والمسببي

(3) لا بأس بتقريب كلامه رحمه الله حتى يتضح لك ما أفاده الأستاذ دام ظله من الإشكالات، وهو بتقريب منا: ان سند كل رواية مقدم على متنه رتبة فدليل اعتبار السند مقدم على دليل اعتبار الظهور في المتن لتقدم موضوع الأول على الاخر فإذا كان لنا عام وخاص وكان حال سندهما كذلك فيكون دليل اعتبار السند في الخاص مقدما على دليل اعتبار الظهور في متن العام لأن دليل اعتبار السند في الخاص مساو في الرتبة مع دليل اعتبار السند في العام، وعليه فدليل اعتبار السند في الخاص يؤثر في موضوعه وهو السند في الرتبة المتقدمة على انعقاد الظهور في متن العام من غير مزاحم ومعارض ولا معنى لتأثيره الا جعل هذا المضمون بمنزلة المعلوم فدليل اعتبار السند في الخاص يجعل ظهور العام في الخاص بمنزلة معلوم الخلاف فلا يبقى لظهور العام بالنسبة إلى الخاص محل حتى يتعاندا، وبعبارة أخرى يرفع دليل حجية السند موضوع حجية الظاهر بنفس وجوده بخلاف العكس فان دليل حجية الظاهر لا يرفع موضوع حجية السند بنفس وجوده إذ من الواضح انه ليس معنى جعل الظاهر مرادا واقعيا هو عدم صدور ذلك الخاص من الإمام عليه السلام نعم يرفع موضوع حجية السند في الرتبة المتأخرة عن مجيء الحكم ففي المرتبة الأولى لا مانع من مجيء دليل اعتبار السند لتحقق موضوعه في هذه الرتبة فإذا جاء هذا الدليل لتحقق موضوعه يرتفع به موضوع ذلك الدليل -
10

كلام مع المحقق الخراساني (قده)
واما ما أفاده المحقق الخراساني في الكفاية من ان الوجه هو أظهرية الخاص في مفاده من العام، أو كون الخاص نصا والعام ظاهرا، فهو في النص كذلك، لكن كون الخاص الظاهر أظهر من العام ممنوع، فان قوله: «أهن كل عالم فاسق» ليس أظهر في مفاده من قوله: «أكرم كل عالم» لأن هيئة الأمر ومادته في كل منهما سواء وكلمة (كل) في كل منهما بمعنى واحد (والعالم) في كل منهما مفاده واحد و (الفاسق) يدل على المتلبس بالفسق كدلالة العالم على المتلبس بالعلم من غير فرق بينهما، ولهذا لو بدل قوله ذلك بأهن كل فاسق وأكرم كل عالم فاسق، ينقلب الأمر ويقدم الخاص على العام أيضا، وليس لهيئة الكلام ظهور آخر حتى يدعى أظهرية الخاص، ولو سلم لا يكون أظهر، وهذا واضح، مع ان التصادم بين العام والخاص ليس في مقام الظهور ان كان المراد منه دلالة الألفاظ على معانيها اللغوية أو العرفية.
وبعبارة أخرى ليس التصادم بينهما في الإرادة الاستعمالية لأن العام المخصص ليس بمجاز على ما هو المحقق عندهم فلا يكون الخاص موجبا لانصراف العام عما استعمل فيه ليكون قرينة على مجازية العام بل هو مستعمل بمادته وهيئته في معناه الحقيقي، والخاص انما يوجب الكشف عن الإرادة اللبية فيتصرف في أصالة الجد في العام بواسطة الخاص، ولهذا لا ينظر العرف في أظهرية الخاص من العام، بل نفس أخصيته منه موجب للتصرف فيه أي الكشف عن الإرادة الجدية في العام، والسر كل السر هو ما أشرنا إليه سابقا من ان تعارف إلقاء العمومات والأصول وذكر المخصصات منفصلة في بسيط التشريع ومحيط التقنين أوجب ذلك فصار بواسطة هذا التعارف ارتكازيا للعقلاء والعلماء الباحثين في الأدلة الفقهية (1).

(1) وقد يقال في توجيه كلام المحقق الخراساني بوجهين: الأول: ان المراد بأظهرية الخاص ان انطباق عنوان الخاص على افراده انطباق ذاتي وان انطباق عنوان العام على افراد الخاص انطباق عرضي ولهذا يقدم الخاص على العام - الثاني: ان الخاص أقوى دلالة على افراده من العام لأن سعة دائرة افراد العام توجب ضعف دلالته عليها بخلاف الخاص - ويرد على الأول
ان انطباق كل عنوان على مصاديقه انطباق ذاتي أي كلما يوجد مصداق لعنوان ينطبق العنوان عليه ذاتا فإذا اجتمع عنوانان في فرد خارجا كعنواني العالم والفاسق فهو بما انه معنون بهذا العنوان ينطبق عليه العنوان ذاتا وبما انه معنون بذاك العنوان ينطبق عليه العنوان كذلك ولا فرق في ذلك بين ان يكون أحد العنوانين عاما والاخر خاصا كما لا يخفى - ويرد على الثاني ان دلالة العام على الافراد لا يكون من باب الدلالة اللفظية لأن مدلول العام ليس الا نفس العنوان بما هو هو والانطباق على الافراد امر قهري عقلي لا ربط له بالدلالة اللفظية التي تكون محل الكلام واما أداة العموم فهي لتكثير ما يتلوها من العناوين، وعليه فكثرة الافراد أو قلتها لا تؤثر في دلالة اللفظ على العنوان حتى يتصور فيه القوة أو الضعف، بل يمكن ان يقال: ان في إطلاق لفظ الدلالة على مثل ذلك الانطباق تسامحا فتأمل.
11

في بيان أصالتي الحقيقة والجد
ثم اعلم ان الشك قد يقع في ان المتكلم هل أراد من اللفظ معناه المجازي سواء قلنا بان المجازات من قبيل استعمال الألفاظ في غير ما وضعت له أو قلنا بأنها من قبيل استعمالها في معانيها الحقيقية وإرادة المعنى المجازي بدعوى كونه مصداقا للمعنى الحقيقي، ففي قوله أكرم العلماء قد يشك في انه أراد (بالعلماء) هو المعنى الحقيقي أي كل ما يتلبس بالعلم أو الفقهاء خاصة، اما باستعمال اللفظ الموضوع للعام في بعض المصاديق لعلاقة، أو بدعوى كون الفقهاء تمام مصاديق العلماء وتنزيل غيرهم منزلة العدم كما هو الرأي الفصل في مطلق المجازات، ولا شك في ان بناء العقلاء على الحمل على المعنى الحقيقي وهذا أصل عقلائي.
وقد يشك بعد إحراز كون اللفظ مستعملا في معناه الحقيقي ومريدا به ذلك لا الادعائي في ان إلقاء العموم انما هو لأجل البيان القانوني وإلقاء القاعدة ولا يريد إكرام جميعهم جدا بل يريد إكرام الفقهاء مثلا ويأتي بالمخصص في كلام مستأنف، أو يكون كلامه غير مطابق للجد لأجل التقية أو امر آخر، ولا إشكال فيه أيضا في ان الأصل العقلائي هو الحمل على تطبيق الإرادة الاستعمالية للجدية، وهذه هي أصالة الجد، وهذان أصلان لدى العقلاء بكل منهما يحرز حيثية من حيثيات كلام المتكلم.
12

وقد اختلفت كلماتهم في ان المراد بأصالة الظهور وأصالة عدم القرينة هو الأصل المحرز للمعنى الحقيقي أو المحرز للإرادة الجدية، صرح بأولهما شيخنا العلامة على الله مقامه في باب حجية الظواهر ولعله ظاهر كلام الشيخ الأنصاري، وصرح بالثاني بعض أعاظم العصر بل لعل ظاهره رجوع الأصلين إلى امر واحد.
والتحقيق ان في المقام أصلين عقلائيين كل منهما لرفع شك حاصل في كلام المتكلم فإذا شك في مجازيته لا يعتنى به العقلاء وهذا أصل، ومع العلم بإرادة المعنى الحقيقي استعمالا إذا شك في كون الكلام صدر جدا أو لأجل تقية أو إلقاء الكلي القانوني لذكر المخصصات بعده يحمله العقلاء على الجد وهذا أصل آخر، فأصالة الحقيقة وأصالة الظهور والعموم اصطلاحات مناسبة للأول، وأصالة الجد مناسبة للثاني، وأصالة عدم القرينة تناسبهما، ولا مشاحة في الاصطلاح.
والتحقيق كما استقر رأينا عليه في مباحث الألفاظ ان موضوع الاحتجاج وان كان هو ظاهر كلام المتكلم لكن مبنى الحجة ليس أصالة عدم القرينة أو أصالة الظهور في شيء من الموارد بل مبناها أصالة عدم الخطاء والغلط وإلقاء احتمال تعمد الكذب والخيانة ببناء العقلاء في الاخبار مع الواسطة فأصالة الظهور ان ترجع إلى أصالة حجية الظهور فهي تعبير غير صحيح وان ترجع إلى أصالة بقائه فهي تعبير بملازم الشيء كما انهما كذلك لو رجعت إلى أصالة كون الظاهر مرادا استعمالا أو جدا فلا معنى لأصالة الظهور بهذا التعبير الا ان ترجع إلى أحد ما تقدم ونظائره وكيف كان فالظاهر ان المعول عليه عند العقلاء هو ظهور اللفظ وأصالة الظهور أصل عقلائي جامع لأصالة الحقيقة وأصالة العموم، بل للظهور المنعقد في الكلام بواسطة قرائن المجاز، فإذا شك في ان المتكلم ب (رأيت أسدا يرمي) أراد الرجل الشجاع الذي هو ظاهر كلامه أو غيره يتبع ظاهر كلامه المنعقد بواسطة القرينة ويكون المعول عليه أصالة الظهور، والظاهر ان أصالة عدم القرينة ليست أصلا معولا عليه في هذا الباب لا لدى الشك في القرينة ولا لدى الشك في المراد الجدي، فما أفاد المحقق الخراساني في المقام مثل ما أفاد بعض أعاظم العصر من التفصيل لا معتمد عليهما فراجع كلامهما وتدبر.
13

في عدم شمول اخبار العلاج للعام والخاص
الأمر الثاني قد اتضح مما مر ذكره انه لا تعارض في نظر العرف بين الأدلة في موارد التوفيق العرفي بينهما فلا يعمهما اخبار العلاج لأن المأخوذ فيها كما عرفت عنوانان:
الخبران المتعارضان، والخبران المختلفان، وهما لا يشملان ما لا تعارض بينها عرفا، ضرورة ان محط اخبار العلاج هو تعيين التكليف في مقام العمل فإذا كان تكليفه معلوما لا يشمله إطلاق الأدلة، والتعارض البدوي الزائل لا يوجب الشمول، وهذا بوجه نظير الشك في أدلة الشكوك حيث حملوه على الشك المستقر لا الحادث بل المقام أولى منه لأن الشك الحادث شك حقيقة لكنه لم يستقر والخبران اللذان بينهما جمع عقلائي ليسا بمتعارضين عرفا الا صورة لا حقيقة.
نقل كلام العلمين: المحقق الخراساني
وشيخنا العلامة (قدس سرهما)
والعجب من العلمين المحقق الخراساني وشيخنا العلامة حيث ذهبا إلى خلاف ذلك.
قال في الكفاية، ما محصله: ان مساعدة العرف على التوفيق لا يوجب اختصاص السؤالات بغير موارد الجمع لصحة السؤال بملاحظة التعارض البدوي وان يزول عرفا أو للتحير في الحكم الواقعي وان لم يتحير فيه ظاهرا، أو لاحتمال الردع عن الطريقة العرفية وجل العناوين المأخوذة في الأسئلة لو لا كلها يعمها، ودعوى ان المتيقن منها غيرها مجازفة غايته كان كذلك خارجا لا بحسب مقام التخاطب حتى يضر بالإطلاق الا ان يقال: ان
السيرة القطعية كاشفة عن دليل مخصص لاخبار العلاج، أو يقال: ان اخبار العلاج مجملة لا تصلح لردع السيرة.
وقال شيخنا العلامة: ان المرتكزات العرفية لا يلزم ان تكون مشروحة مفصلة عند كل أحد حتى يرى السائل عدم احتياجه إلى السؤال عن حكم العام والخاص المنفصل وأمثاله، وأيد ما ادعى برواية الحميري عن الحجة في الجواب عن
14

ذلك حديثان، اما أحدهما «فإذا انتقل من حالة إلى حالة أخرى فعليه التكبير، واما الآخر فإنه روى انه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية وكبر ثم جلس ثم قام فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير وكذلك التشهد يجري هذا المجرى، وبأيهما أخذت من باب التسليم كان صوابا» (1) مع ان الثاني أخص من الأول، ورواية علي بن مهزيار «قال: قرأت في كتاب لعبد الله بن محمد إلى أبي الحسن اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبد الله عليه السلام في ركعتي الفجر في السفر فروى بعضهم: صلها في المحمل وروى بعضهم:
لا تصلها الا على الأرض، فوقع: «موسع عليك بأية عملت» (2) مع انه من قبيل تعارض النص والظاهر (ثم قال): ودعوى السيرة القطعية على التوفيق بين العام والخاص والمطلق والمقيد من لدن زمن الأئمة يمكن منعها، كيف؟ ولو كانت لما خفيت على مثل شيخ الطائفة فلا يظن بالسيرة فضلا عن القطع بعد ذهاب مثله إلى العمل بالمرجحات في تعارض النص والظاهر كما يظهر من عبارته المحكية عن الاستبصار والعدة (انتهى).
في الإيراد على المحقق الخراساني رحمه الله
وأنت خبير بما في كلامهما اما ما أفاد المحقق الخراساني من صحة السؤال بما ذكر ففيه انه لو كان السؤال عن مورد التوفيق العرفي بالخصوص لكان ما ذكر حقا لصحة السؤال ولو لاحتمال الردع لكن لا يوجب مجرد صحة السؤال شمول إطلاق الأدلة ضرورة ان عدم التعارض بين الأدلة بحسب نظر العرف يوجب صرف السؤال عن مورد التوفيق لو سلم شمول المفهوم عليه ابتداء والا فلنا المنع عن ذلك رأسا، لأن التعارض البدوي ليس بتعارض حقيقة ومعه كيف يشمله عنوان التعارض والاختلاف.
واما السؤال للتحير في الحكم الواقعي فهو انما يصح إذا كان في واقعة خاصة لا في مطلق باب التعارض، ضرورة انه لا ميزان لبيان الحكم الواقعي في تمام موارد التعارض، هذا إذا كان المراد من الحكم الواقعي حكم الواقعة التي تعارض فيها الخبران

(1) الوسائل - كتاب القضاء - الباب 9 - من أبواب صفات القاضي - الروايات 42 -
(2) الوسائل - كتاب القضاء - الباب 9 - من أبواب صفات القاضي - الرواية 7 -
15

كما هو ظاهره، وان كان المراد واقع حكم التعارض فلا يدفع الإشكال بان السؤال عن عنوان المتعارضين أو المختلفين بنحو كلي وهو لا يحمل على غير عنوانه ومتفاهمه باحتمال كون السائل سئل عن مورد ليس من العنوان خطاء أو مسامحة في إطلاق العنوان عليه فتدبر - هذا - مع ان حمل كلامه على ذلك موجب لرجوعه إلى احتمال الردع وهو جعله مقابلا له.
واما احتمال الردع وان كان موجبا لصحة السؤال، لكن إذا سئل عن مورد خاص ولا يوجب ذلك شمول إطلاق الأدلة لمورد التوفيق العرفي ظهر فساد دعوى شمول جل العناوين لو لا كلها له بل لو فرض الشمول عنوانا فلا إشكال في انصراف الإطلاق بواسطة ذاك الارتكاز فلو أضر القدر المتيقن في مقام التخاطب بالإطلاق كان المورد منه بعد الارتكاز العرفي فقوله: ان القدر المتيقن ليس في مقام التخاطب، كما ترى.
كلام مع شيخنا الأستاذ رحمه الله
ومما ذكرنا يظهر النظر في قول شيخنا العلامة أعلى الله مقامه، فان احتمال عدم كون المرتكزات العرفية مشروحة لدى السائل لا يوجب شمول العناوين لغير مصاديقها العرفية (نعم) لو سئل عن مورد التوفيق العرفي كان لما ذكر وجه.
واما الروايتان فرواية ابن مهزيار لا تدل على مدعاه، لأن الظاهر هو السؤال عن حكم الواقعة لا عن علاج التعارض، إذ لا معنى لاستفسار علاج التعارض في واقعة خاصة عن العالم بالواقع (1)، وجوابه أيضا يكون عن الواقع كما هو مقتضى الجمع بين الروايتين أيضا - ورواية الحميري مع ضعفها وشهادة متنها بأنها ليست من الإمام العالم بحكم الواقعة معرض عنها، مع احتمال ورود رواية ذكر فيها انتقال كل حال تفصيلا لا بهذا العنوان فكان التعارض بينهما بالتباين (2) وسيأتي مزيد توضيح لذلك في بابه.

(1) وفي الحدائق بعد قوله: على الأرض: فأعلمني كيف تصنع أنت لأقتدي بك في ذلك؟ فوقع (الخبر) وبملاحظة الزيادة التي في الحدائق يستظهر ان سؤاله كان عن حكم الواقعة لا عن علاج التعارض -
(2) أي يحتمل ان يكون الحديث الأول منقولا بالمعنى وكان في المنقول عنه مذكورا بالتفصيل فالمورد مما امر فيه بالتكبير صريحا ويكون التعارض مع الرواية الثانية بالتباين فلا تكون
الرواية مخالفا للقاعدة الكلية، ويمكن حمل النهي عن التكبير في المقام على الكراهة وإطلاق الأمر على الجواز لكثرة استعمالهما فيهما أو حمل الأمر على الاستحباب والنهي على الترخيص من دون ارتكاب تخصيص وعليه فيكون التخيير بين الإتيان والترك مقتضى الجمع العرفي كتقديم الخاص على العام فيكون للمقام جمعان عرفيان وقد ذكر الإمام عليه السلام أحدهما دون الاخر تأمل -
16

واما إنكاره السيرة بدليل ذهاب شيخ الطائفة إلى العمل بالمرجحات في النص والظاهر (ففيه) ان عبارتي العدة والاستبصار لا تدلان على ذلك، خصوصا بعد تصريحه في العدة بان العام والخاص المطلق خارجان عن باب التعارض فراجع ما نقل في الرسائل، هذا مضافا إلى ان بناء شيخ الطائفة ليس على العمل بالمرجحات في العام والخاص والمطلق والمقيد والنص والظاهر في الفقه بالضرورة.
في كلام ابن أبي الجمهور
الأمر الثالث - قد ادعى الشيخ ابن أبي الجمهور الإجماع على ان العمل بالدليلين مهما أمكن خير من ترك أحدهما، والظاهر منه خصوصا بقرينة دعوى الإجماع هو التوفيق العرفي المقبول، ولو ادعى غير ذلك يرده بناء العلماء على العمل بالمرجحات فيما لا يمكن التوفيق العرفي، واستدل عليه بان الأصل في الدليلين الأعمال فيجب الجمع بينهما مهما أمكن لاستحالة الترجيح من غير مرجح، وبيانه على النظم القياسي: انه لو لا وجوب الجمع بينهما مهما أمكن للزم اما طرحهما أو طرح أحدهما وهما باطلان فنقيض التالي حق وهو وجوب الجمع مهما أمكن، بيان الملازمة واضح وبطلان التالي بكلا شقيه مذكور في دليله، فان طرحهما خلاف الأصل وترجيح أحدهما بلا مرجح خلاف العقل وبما قررنا في بيانه يظهر ما في الفصول والقوانين، والجواب ان قوله: مهما أمكن ان كان إمكانا عقليا فبطلان الشق الأول من التالي ممنوع، لأن الدليلين حينئذ يصيران من المتعارضين المتساويين وهما متساقطان عقلا، وان شئت قلت: ان كون الأصل في الدليلين الأعمال مسلم في كل واحد منهما من حيث هو دون مقام التعارض فإنه فيه غير صحيح بنحو الإيجاب الكلي فلا ينتج القياس.
17

كلام الشيخ في موضوع الترجيح بحسب الدلالة وما فيه
الأمر الرابع - يظهر من العلامة الأنصاري في شتات كلماته في المقام الرابع ان تقديم النص حتى الظني السند خارج عن الترجيح بحسب الدلالة سواء كانا مثل العام والخاص أو مثل صيغة الوجوب مع ما يدل على نفي البأس عن الترك، فينحصر الترجيح بحسب الدلالات في تعارض الظاهر والأظهر، وان الترجيح بحسب الدلالات مقدم على سائر التراجيح، ومقتضاه ان يكون النص الظني السند خارجا عن أدلة المرجحات موضوعا، والظاهر والأظهر داخلين فيها موضوعا، خارجين حكما.
وهو لا يخلو عن مناقشة: لأن المراد من التعارض في الحديثين المتعارضين ان كان الحقيقي المستقر فالترجيحات الدلالية كلها خارجة عنه، لأن المراد من الترجيح الدلالي ان يكون العرف لا يرى تعارضا بين الكلامين بحسب المحاورات العرفية ويكون أحد الدليلين قرينة عرفية صارفة للآخر، ومثل ذلك لا يكون من المتعارضين في شيء، لأن المتكلم بذلك لا يتناقض بالمقال ولا يضاد أحد كلاميه كلامه الاخر، وان كان المراد
منه أعم من ذلك ومن التعارض البدوي فلا إشكال في تعارض النص والظاهر، ضرورة تناقض الإيجاب الكلي أو ما بحكمه مع السلب الجزئي أو ما بحكمه وبالعكس، فأكرم كل عالم يناقض لا تكرم النحويين، وكذا لا تصل في الحمام مع قوله:
لا بأس بالصلاة فيه، لكنهما غير متعارض عرفا للجمع المقبول بينهما، وكذا الكلام في ظاهرين يكون الجمع بينهما مقبولا.
فالأولى ان يقال: ان الحديثين اما ان يكون بينهما توفيق عرفي وجمع عقلائي بحسب قانون المحاورة أولا، فالأول خارج عن مصب اخبار العلاج موضوعا أو انصرافا دون الثاني فيجب العمل فيهما بها.
ثم انه يظهر من الشيخ وغيره ان تعارض النص والظاهر مطلقا خارج عن مصب اخبار العلاج بخلاف الظاهرين فان خروجهما مشروط بان يكون بينهما جمع مقبول، وهذا أيضا لا يخلو عن مسامحة ومناقشة، لأن النص والظاهر أيضا مشروط بذلك،
18

والا فلو كان التصرف في الظاهر لأجل النص خلاف قانون المحاورة ولم يكن الجمع بينهما عرفيا مقبولا يكون من المتعارضين، فالميزان الكلي هو كون الجمع مقبولا عرفا، فقوله:
صل في الحمام، ولا تصل في الحمام، من المتخالفين والمتعارضين، مع ان الأول نص في الرخصة والثاني ظاهر في الحرمة لكن الجمع بينهما ليس بمقبول عقلائي فاللازم للفقيه مراعاة مقبولية الجمع عرفا وكونه على قانون المحاورات في محيط التشريع والتقنين كما مر، لا الأخذ بما قيل من حمل الظاهر على النص، فإنه لم يرد فيه نص وما قام عليه إجماع فالمتبع هو ما ذكرناه.
الأمر الخامس
- لما كان موضوع اخبار العلاج هو الخبران المختلفان وهما ما لا يكون بينهما جمع مقبول لدى العرف لا بد من تنقيح موضوع البحث من ذكر الموارد التي ادعى أو يمكن ان يدعى انها من قبيل النص والظاهر أو الظاهر والأظهر أي يكون الجمع بينهما مقبولا، وبعبارة أخرى: الموارد التي تكون خارجة عن تحت اخبار العلاج موضوعا أو انصرافا أو قيل بخروجها، وفيه مباحث:
فيما قيل انه من قبيل النص والظاهر
الأول فيما يمكن ان يقال أو قيل بأنهما من قبيل النص والظاهر، وفيه موارد:
منها ما إذا كان لأحد الدليلين قدر متيقن في مقام التخاطب فإنه وان لم ينفع في تقييد الإطلاق ما لم يصل إلى حد الانصراف الا ان وجوده يرفع التعارض فان الدليل كالنص في القدر المتيقن فيصلح ان يكون قرينة على التصرف في الاخر، مثلا إذا ورد أكرم العلماء ودل دليل آخر على حرمة إكرام الفساق وعلم من حال الآمر انه يبغض فساق العلماء ويكرههم أشد كراهة من فساق غيرهم فيصير فساق العلماء متيقن الاندراج في لا تكرم الفساق ويكون بمنزلة التصريح فيخصص إكرام العلماء بما عدى الفساق منهم، كذا قيل.
وفيه أولا ان القدر المتيقن في مقام التخاطب إذا أوجب الاندراج القطعي بحيث يصير بمنزلة التصريح به لا ينفك عن الانصراف أي انصراف الدليل المقابل فخرج عن
19

محط البحث ففرض عدم الانصراف يناقض فرض تيقن الاندراج الكذائي.
وثانيا انه إذا فرض عدم الانصراف فلا يوجب ظهورا في الكلام فحينئذ لا وجه للتقييد بمقام التخاطب لعدم الفرق بينه وبين غيره فيما هو الملاك بعد إنكار كون القدر المتيقن مضرا بالإطلاق كما هو المفروض، ودعوى انه بمنزلة التصريح إذا كان في مقام التخاطب لا غيره ممنوعة.
وثالثا انه ان أريد بتيقن الاندراج العلم الفعلي بإرادة المتكلم من قوله لا تكرم الفساق العلماء منهم كما هو ظاهر كلامه فهذا العلم الفعلي ملازم للعلم الفعلي بعدم إرادة المتكلم العلماء الفساق من قوله: أكرم العلماء، فحينئذ يخرج المقام من باب التعارض جزما ولا يكون من قبيل تعارض النص والظاهر فإنه بعد العلم الفعلي بمراد المولى من الدليلين خرج المورد عن الجمع في مدلول الدليلين كما لا يخفى، وان أريد به العلم التقديري بمعنى انه ان صدر من المتكلم هذا الكلام وأراد بقوله: لا تكرم الفساق، حرمة إكرامهم جدا يكون فساق العلماء مرادا قطعا لكن يحتمل عدم الصدور أو عدم تطابق الإرادتين فلا وجه لتقدم الدليل المشتمل على القدر المتيقن على غيره لأن مجرد العلم بعدم انفكاك إرادة العلماء عن إرادة غيرهم لا يوجب صيرورة الدليل كالنص لأن العلم بالملازمة مع الشك في وجود الملزوم لا يوجب العلم بوجود اللازم غاية الأمر يصير قوله لا تكرم الفساق بجميع مدلوله معارضا لقوله أكرم العلماء في مورد العلماء الفساق لأجل التلازم بين الإرادتين.
فيما إذا كان التخصيص في أحد المتعارضين مستهجنا
ومنها ما إذا كان التخصيص في أحد العامين من وجه مستهجنا من جهة قلة الباقي بعده وندرة وجوده لأن العام يكون نصا في المقدار الذي يلزم من خروجه تخصيص مستهجن فإذا دار الأمر بين تخصيصه وتخصيص ما لا يلزم منه ذلك يقدم الثاني.
وفيه ان مجرد لزوم استهجان التخصيص في دليل لا يوجب تخصيص دليل آخر
20

به ما لم يكن الجمع عرفيا وصيرورة العام نصا في المقدار المذكور ممنوع (1) فحينئذ لو قلنا بان العامين من وجه خارج عن موضوع الاخبار كما سيأتي التعرض له فيقع التعارض بينهما ويتساقطان في مورد التعارض، وقلة مورد الافتراق لا محذور فيه لأنه ليس من قبيل التخصيص حتى يستهجن وان قلنا بشمول الاخبار له فيقدم الراجح وليس أيضا من قبيل التخصيص حتى يكون مستهجنا فتدبر.
في ورود أحد المتعارضين مورد الاجتماع
ومنها ما إذا كان أحد العامين من وجه واردا في مورد الاجتماع وهو على قسمين:
أحدهما - ان يكون المسؤول عنه أعم من وجه من الدليل الآخر كما إذا إذا ورد قوله: كل مسكر حرام، جوابا عن سؤال حكم الخمر، وورد ابتداء قوله: لا بأس بالماء المتخذ من التمر، فان النسبة بين الخمر والماء المتخذ من التمر أعم من وجه بناء على أعمية عنوان الخمر عن النبيذ كالنسبة بين المسكر وبينه، وهذا لا يوجب التقدم لأنه لا يزيد على التنصيص بان الخمر حرام، وهو لا يتقدم على قوله: لا بأس بالماء المتخذ من التمر، لأن النسبة بينهما عموم من وجه. وثانيهما - ان يكون أخص مطلقا منه كما لو ورد كل مسكر حرام جوابا عن حكم الخمر التمري فان شمول كل مسكر حرام للخمر قوي جدا كاد ان يلحقه بالنص فيقدم على عديله لكن كون هذا من قبيل النص محل إشكال - هذا.

(1) يمكن ان يقال: ان حديث الاستهجان أجنبي عن دلالة الألفاظ على المعاني بخلاف نصية اللفظ في المعنى أو ظهوره فيه والاستهجان وعدمه امر عقلي غير مربوط بمقام الدلالة اللفظية فان التقديم الدلالي لا يثبت بمعونة امر عقلي فلا تأثير لأمر خارجي في كيفية الدلالة، أضف إلى ذلك ان كون لفظ العام شاملا وضعا لافراده كي تكون نصا فيها في موضع المنع لأن أداة العموم أو الهيئات الموضوعة له وضعت لتكثير ما يتلوها من المعاني فلفظ العام بالوضع يدل على المعنى الذي يكون موضوعا له لا على الافراد غير انه بعناية من العقل ينطبق على افراده ولا يخفى ان البحث في المقام في الجمع الدلالي بين الدليلين تأمل -
21

واما عد ورود أحد الدليلين في مقام بيان التحديدات والمقادير والمسافات دون الاخر من قبيل النص والظاهر كما ترى، ضرورة انه بعد تسليم تقدم ما هو من قبيلها على غيرها مطلقا لا تكون الا من قبيل الأظهر والظاهر مثل القضايا المعللة مع غيرها.
في تعارض العموم والإطلاق المبحث الثاني
فيما عد من المرجحات النوعية الدلالية في تعارض الدليلين فقط وهي موارد:
منها تعارض العموم والإطلاق، ولا بد من فرض الكلام في مورد يكون العام والمطلق متساويين من الجهات الخارجية كصدورهما من متكلم لم يعهد منه بيان الخاص والمقيد منفصلا عن العام والمطلق أو صدورهما من متكلم معهود منه ذلك، وأيضا يفرض بعد الفحص عن المقيد والمخصص مثلا وبعد فرض ورودهما قبل وقت الحاجة أو بعده ثم الكلام في التقديم ووجهه حتى لا يختلط الأمر، ولا بأس بالإشارة إلى كيفية تعارض المطلق والمقيد حتى يتبين حال ما نحن فيه.
فنقول: ان تعارض المطلق والمقيد ليس من سنخ تعارض العام والخاص لأن الخاص بمدلوله اللفظي يعارض العام، ضرورة ان الإيجاب الكلي يناقض السلب الجزئي فقوله:
كل عالم يجب إكرامه، ينافي بمفهومه قوله: لا يجب إكرام النحويين ورفع التنافي بأحد الوجوه المتقدمة، واما المقيد فلا يكون بمدلوله اللفظي منافيا للمطلق «بيانه» ان الحكم بالإطلاق ليس لأجل ظهور لفظ المطلق فيه، ضرورة ان اللفظ الموضوع للطبيعة كالبيع والرقبة لا يدل الا على نفس الطبيعة لا غيرها كالكثرات الفردية وغيرها لكن:
جعل المتكلم نفس الطبيعة موضوعة للحكم من دون ذكر قيد في كلامه بما انه فعل اختياري للفاعل المختار الذي بصدد البيان موجب لحكم العقلاء بان موضوع حكمه نفس الطبيعة من غير دخالة شيء آخر فيه فالحكم بالإطلاق وموضوع احتجاج العقلاء لا يكون الا الفعل الاختياري من الفاعل المختار فيقال لو كان شيء آخر دخيلا في موضوع حكمه
22

كان عليه جعل الطبيعة مع القيد موضوعا لا نفسها فالاحتجاج متقوم بجعلها موضوعة مع عدم بيان قيد آخر معها لا بد لدلالة لفظ البيع على الإطلاق أو على الافراد أو على عدم دخالة شيء في مطلوبه ضرورة خروج كلها عن مدلول اللفظ، فإذا ورد دليل آخر بان البيع الغرري باطل لا يكون التعارض بينه وبين قوله: أحل الله البيع، تناقضا في المقال ضرورة ان حكم البيع الغرري غير مقول لقوله تعالى: أحل الله البيع لعدم دلالته على افراد البيع وأصنافه، وان شئت قلت: ان التعارض في المقام بين القولين والتلفظين بما انهما فعل اختياري له، وفي العام والخاص بين الكلامين بما لهما من المدلول.
في وجه تقدم العام على المطلق
إذا عرفت ذلك نقول ان احتجاج العقلاء في المطلق لما كان متقوما على جعل الطبيعة بنفسها موضوعة وعدم ذكر قيد لها يكون أمد هذا الاحتجاج إلى زمان ورود القيد فإذا ورد ينتهى احتجاجهم ويرتفع موضوعه فتقدم العام الأصولي على المطلق انما هو لكون العام غاية لاحتجاج العقلاء بالإطلاق لكونه بيانا للقيد فلا يمكن ان يكون الإطلاق مخصصا للعموم لحصول غايته بوروده، ولو قيل: ان الخاص أيضا غاية لحجية العام (فغير صحيح) لأن العام لما كان دلالته على العموم دلالة لفظية لا يكون مغيا بشيء بل نفس ظهوره الوضعي مع بعض الأصول العقلائية موضوع الاحتجاج وانما الخاص حجة أقوى فتقديمه عليه من قبيل تقديم أقوى الحجتين لكن بنحو ما ذكرنا سابقا (1) ومما ذكرنا يتضح أمور:
منها ان موضوع الحكم في العام الأصولي كل فرد فرد وفي المطلق نفس حيثية الطبيعة من غير دخالة شيء آخر فيها، وانما يستفاد الافراد من العام الأصولي بدلالة لفظة «كل» ولام الاستغراق وأمثالهما ولا يكون المطلق بعد تمامية مقدمات الإطلاق دالا

(1) ولا يخفى ان ما أفاده دام ظله من تقديم التقييد على التخصيص انما هو في فرض تعارض الدليلين في مورد الاجتماع وكان أحدهما مطلقا والاخر عاما واما إذا دار الأمر بين تقييد مطلق وتخصيص عام بدليل ثالث فلا ترجيح بينهما - هذا -
23

على الافراد بل يحكم العقل بعدها بان تمام الموضوع نفس حيثية ما جعل موضوعا من غير دخالة شيء آخر فيه ولهذا يجري ذلك في الاعلام الشخصية أيضا كما إذا امر بإكرام زيد فإطلاقه يقتضى جواز إكرامه في أي حال كان، لا من حيث ان مدلول كلامه ذلك بل من حيث ان جعل زيد موضوعا بلا قيد موجب له، فموضوع الاحتجاج في العام قول المتكلم بما انه لفظ دال على الافراد وفي المطلق جعل نفس الطبيعة من غير اقترانها بشيء موضوعا وهو غير مربوط بسنخ الدلالات، فالإطلاق الشمولي مما لا معنى له ان أريد شموله للافراد كالعام.
ومنها ان نفس جعل الماهية من غير قيد موضوعة للحكم موضوع حكم العقلاء في الاحتجاج منجزا من غير تعليق على عدم البيان المتأخر، ضرورة ان الآمر إذا قال أعتق رقبة ولم يقيدها يكون حجة على العبد والمولى فليس للمولى ان يؤاخذ عبده إذا أعتق الكافرة بعد تمامية مقدمات الحكمة، فما أفاده الشيخ من ان المطلق معلق على عدم البيان وقرره بعض الأعاظم بان البيان أعم من كونه حين التخاطب أو متأخرا عنه ان كان المراد من التعليق ان المطلق ليس بحجة فعلا ومعلق حجيته على عدم ورود البيان متأخرا كما هو ظاهر كلامهما فهو في غير محله، وان كان المراد هو ان المطلق وان كان حجة فعلا لكن لما كان موضوع الحجية عدم بيان القيد يكون أمدها ورود البيان فإذا ورد يرفع موضوعها فالعام بدلالته اللفظية يرفع موضوع الاحتجاج فيكون واردا على المطلق فهو حق.
ومنها ان تقدم العام على المطلق، ليس من باب تقدم الأظهر على الظاهر كما قيل ان شمول العام الأصولي لمورد الاجتماع أظهر من شمول المطلق له لأن المطلق لم يكن له ظهور لمورد الاجتماع كما عرفت فتقدم العام عليه ليس لأقوائية ظهوره بل لرفع موضوع الحجية الذي له أمد، ولا يخلو كلام المحقق المعاصر رحمه الله من تهافت فراجع.
ومما ذكرنا يظهر حال دوران الأمر بين تخصيص العموم بمفهوم الشرط أو الوصف ان قلنا بان المفهوم فيهما بواسطة مقدمات الحكمة وبين قرينية العام لعدم المفهوم فيهما فنأخذ بالعام ونترك المفهومين، لأنه يرفع موضوع المفهوم أي إطلاق الاشتراط و
24

التوصيف أو الشرط والوصف ولا تصلح القضية الشرطية أو الوصفية لتخصيص العموم وهذا بخلاف تعارض الإطلاق مع أحد المفهومين لأن الكل بمقدمات الإطلاق كما ان الأمر كذلك في تعارض المفهومين، وما قيل: ان القضية الشرطية أظهر في المفهوم من الوصفية «مغالطة» لأنها لو كانت أظهر انما هو في دخالة القيد في موضوع الحكم لا في انحصاره وما يستفاد منه المفهوم هو الثاني بمقدمات الإطلاق على القول به لا الأول وجريان المقدمات فيهما سواء، واما الغاية والاستثناء والحصر فلا يبعد ان يكون دلالتها بالوضع ولا إشكال في تقدمها على مفهوم الوصف والشرط.
في دوران الأمر بين النسخ والتخصيص
ومن الموارد دوران الأمر بين التخصيص والنسخ، وقبل تحقيق المقام لا بأس بالإشارة إلى حال المخصصات بل مطلق الصوارف الواردة في كلام الأئمة عليهم السلام بعد مضي زمان طويل عن وقت العمل بالعمومات والمطلقات وغيرها، قالوا ان المحتملات بعد مضي زمان طويل عن وقت العمل بالعمومات والمطلقات وغيرها، قالوا ان المحتملات ثلاثة: أحدها - ان تكون ناسخة لحكمها - ثانيها - ان تكون كاشفة عن اتصالها
بمخصصاتها ومقيداتها وقد اختفت علينا المتصلات ووصل إلينا بنحو الانفصال - ثالثها - ان تكون المخصصات وساير الصوارف مودعة لدى الأئمة عليهم السلام وتأخر بيانها عن وقت العمل غير قبيح إذا اقتضت المصلحة ذلك. اختار الشيخ الأنصاري الاحتمال الأخير، وبعض أعاظم العصر الاحتمال الثاني.
والإنصاف ان جميعها بعيدة، اما احتمال النسخ فهو كضروري البطلان فان احتمال كون أمد نوع أحكام الله تعالى المجعولة في صدر الإسلام إلى زمن الصادقين عليهما السلام وحدوث مصالح في زمانهما مقتضية لتغييرها ونسخها مقطوع البطلان بل ضروري الفساد عند جميع المسلمين، كما ان احتمال كون المخصصات والمقيدات كلها متصلة في كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وعرض الانفصال بعد ذلك أيضا ضروري الفساد، ضرورة ان العامة والخاصة حدثوا الكليات الكثيرة إلى ما شاء الله عن رسول الله صلى الله عليه وآله بنحو التشريع والتقنين من غير ذكر المخصصات والمقيدات ولا يمكن ان يقال: ان المحدثين من الفريقين
25

تركوا الصوارف عمدا أو سهوا وخطاء، ومجرد ورود كثير من المخصصات التي في لسان الأئمة عليهم السلام من طرق العامة أيضا لا يدل على ذلك، وكذا احتمال إيداع نوع الأحكام الواقعية لدى الأئمة عليهم السلام وإخفائها عن ساير الناس بعيد غايته بل يمكن دعوى وضوح بطلانه، لأن ذلك مخالف لتبليغ الأحكام، ودعوى اقتضاء المصلحة ذلك مجازفة، فأية مصلحة تقتضي كون نوع الأحكام معطلة غير معمول بها، مضافا إلى مخالفة ذلك لقوله صلى الله عليه وآله في حجة الوداع: «معاشر الناس ما من شيء يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد أمرتكم به وما من شيء يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة الا وقد نهيتكم عنه» والقول بان إيداعها لدى أمير المؤمنين عليه السلام يكفي في رفع المنافاة كما ترى (1).
في علل الاختلاف بين العامة والخاصة وتأخير بيان المخصصات
والذي يمكن ان يقال: ان علل اختلاف الأحكام بين العامة والخاصة واختفائها عن العامة وتأخير المخصصات كثيرة.
منها ان رسول الله صلى الله عليه وآله وان بلغ جميع الأحكام الكلية على الأمة لكن لما لم يكن دواعي الحفظ في صدر الشريعة وأول بدء الإسلام قوية لم يضبط جميعها بخصوصياتها الا من هو بطانته وأهل بيته ولم يكن في الأمة من هو أشد اهتماما وأقوى ضبطا من أمير المؤمنين عليه السلام فهو لشدة اهتمامه ضبط جميع الأحكام وتمام خصوصيات الكتاب الإلهي تفسيرها وتأويلها وما كانت دخيلة في فهم آيات الكتاب وضوابط السنن النبوية، ولعل القرآن الذي جمعه وأراد تبليغه على الناس بعد رسول الله هو القرآن الكريم مع جميع الخصوصيات الدخيلة في فهمه المضبوطة عنده بتعليم رسول الله، وبالجملة ان رسول الله وان بلغ الأحكام حتى أرش الخدش على الأمة لكن من لم يفت منه شيء من الأحكام وضبط جميعها كتابا

(1) ويشهد على ذلك الحديث المعروف المنقول عن الفريقين: اني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي (الخ) فان التلازم بينهما يعطى ذلك -
26

وسنة هو أمير المؤمنين عليه السلام في حين فات من القوم كثير منها لقلة اهتمامهم بذلك ويدل على ما ذكر بعض الروايات.
ومنها ان الأئمة عليهم السلام لامتيازهم الذاتي من ساير الناس في فهم الكتاب والسنة بعد امتيازهم منهم في ساير الكمالات فهموا جميع التفريعات المتفرعة على الأصول الكلية التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وآله ونزل بها الكتاب الإلهي ففتح لهم من كل باب فتحه رسول الله صلى الله عليه وآله للأمة الف باب حين كون غيرهم قاصرين، فعلم الكتاب والسنة وما يتفرع عليهما من شعب العلم ونكت التنزيل موروث لهم خلفا عن سلف وغيرهم محرومون بحسب نقصانهم عن هذا العلم الكثير النافع فيعولون على اجتهادهم الناقص من غير ضبط الكتاب والسنة تأويلا وتنزيلا ومن غير الرجوع إلى من رزقه الله تعالى علمهما وخصه به فترى في آية واحدة كآية الوضوء كيف اختلافهم مع غيرهم وقس على ذلك، وهذا باب واسع يرد إليه نوع الاختلافات الواقعة في الأمة ولقد أشار إلى ما ذكرنا كثير من الروايات في الأبواب المختلفة.
فالصوارف التي في لسانهم عليهم السلام يمكن صدور كثير منها من رسول الله منفصلا عن العمومات والمطلقات ولم يضبطها على ما هي عليها إلا خازن علمه أمير المؤمنين وأودعها إلى الأئمة عليهم السلام، وانما آخر البيان إلى زمن الصادقين عليهما السلام لابتلاء ساير الأئمة المتقدمين عليهما ببليات كثيرة سد عليهم لأجلها بيان الأحكام كما يشهد به التاريخ فلما بلغ زمانهما اتسع لهما المجال في برهة من الزمان فاجتمع العلماء والمحدثون عليهما فانتشرت الأحكام وانبثت البركات ولو اتسع المجال لغيرهما ما اتسع لهما لصارت الأحكام منتشرة قبلهما. ولو تأملت فيما ذكرنا وتتبعت الاخبار لوجدت ما ذكرنا احتمالا قريبا قابلا للتصديق.
في وجوه ورود العام والخاص والدوران بين النسخ والتخصيص
إذا عرفت ذلك فنقول: انه إذا ورد عام وخاص ودار الأمر بين النسخ والتخصيص فتارة يعلم تقدم صدور العام على الخاص وحضور وقت العمل به ثم ورد الخاص وشك
27

في كونه نسخا أو تخصيصا كما إذا ورد (أكرم العلماء) ثم بعد حضور وقت العمل به ورد لا تكرم فساق العلماء وشك في كونه ناسخا من حين وروده أو مخصصا له من الأول وكان حكم العام بالنسبة إلى الفساق صوريا «وتارة» يعلم تقدم الخاص على العام مع حضور وقت العمل به «وتارة» لا يعلم التقدم والتأخر بل كانا مجهولين من جهات أخرى أيضا فاحتمل ورود الخاص قبل حضور العمل بالعام وبعده وكذا في العام على فرض تقدمه.
فعلى الأول تارة نقول بان دليل استمرار حكم العام هو الإطلاق المقامي أي كون المقام مقام التشريع مع عدم ذكر الغاية للحكم موضوع حكم العقلاء باستمرار الحكم أو موضوع حجية العام لدى العقلاء على جميع الرعية الموجودين في عمود الزمان في جميع الأعصار أو إطلاق الحكم أو متعلقه على القول به.
وتارة نقول بان دليله هو الأدلة الخارجية كقوله حلال محمد صلى الله عليه وآله حلال إلى يوم القيامة وقوله حكمي على الأولين حكمي على الآخرين وتارة نقول بان دليله نفس القضايا الملقاة من الشارع بنحو القضية الحقيقية فيما كانت كذلك فقوله: «يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود» يدل بنفسه على ان كل من وجد في الخارج وكان مؤمنا يجب عليه الوفاء بكل عقد صدر منه في ظرف تحققه وهو حجة على كل من اطلع عليه ومخاطب به في ظرف وجوده في عمود الزمان فان قلنا بان الدليل على الاستمرار هو السكوت في مقام البيان (1) فالظاهر تقدم النسخ على التخصيص بالبيان الذي ذكرنا في دوران الأمر بين التخصيص والتقييد.

(1) وما ذكرناه في المتن هو الذي اخترناه في الدورة السابقة والآن نقول فيما إذا كان العام مقدما وقلنا بان شموله للافراد في الطبقات المتأخرة عن الطبقة الأولى بالإطلاق ودار الأمر بين النسخ والتخصيص لا ترجيح بينهما لأن ما ذكرناه من تقديم التقييد على التخصيص انما هو في فرض تعارض الدليلين في مورد الاجتماع وكان أحدهما مطلقا والاخر عاما واما إذا دار الأمر بين تقييد مطلق وتخصيص عام بدليل ثالث فلا ترجيح بينهما والمقام كذلك لأن الأمر دائر بين كون الخاص مخصصا لعموم العام أو إطلاقه المقامي ولا ترجيح لأن التصرف في كل منهما خلاف الأصل ولا يكون سر التقدم في الدوران المتقدم في العامين من وجه وهو كون
العام بيانا للمطلق وعدم صلاحية المطلق للتخصيص موجودا في المقام لصلاحية الخاص للتصرف في كليهما وتوهم ان التخصيص مستلزم للتصرف في المطلق أيضا بخلاف العكس كما ترى فان التخصيص رافع لموضوع الإطلاق لا تصرف فيه، كتوهم ان العلم التفصيلي بخروج الافراد المتأخرة اما نسخا أو تخصيصا يوجب انحلال العلم فيؤخذ بأصالة العموم في الافراد المتقدمة، فان العلم التفصيلي المتقوم بالعلم الإجمالي لا يعقل ان يصير موجبا للانحلال للزوم رافعية الشيء لعلته بل لنفسه ومما ذكرناه يظهر الحال فيما إذا كان دليل الشمول مثل قوله حلال محمد صلى الله عليه وآله حلال إلى يوم القيامة لو قلنا بكونه من قبيل المطلق لدوران الأمر بين تقييده أو تخصيص دليل آخر ولا ترجيح فضلا عما إذا قلنا بأنه من قبيل العام نعم لو قلنا باستفادة شمول الحكم للافراد مطلقا من نفس القضايا فدار الأمر بين الأقل والأكثر في التخصيص يقتصر على الأقل ويتمسك على أصالة العموم في الافراد المتقدمة المشكوكة في خروجها هذا حال العام المتقدم واما مع تقدم الخاص وحضور وقت عمله ودار الأمر بين كون الخاص مخصصا أو العام ناسخا وأخذنا بالإطلاق المقامي في شمول الخاص للافراد المتأخرة ووقع التعارض بين العام والمطلق فيقدم العام ويحكم بالنسخ إذا كان بينهما عموم من وجه من حيث شمول الافراد في عمود الزمان دون ما إذا كان بينهما العموم المطلق للإشكال في بيانية العام للمطلق الأخص أو تقديم الأخص عليه لضعف أصالة الجد في العموم وبالتأمل فيما ذكر يعلم حال ساير الصور والإنصاف ان صرف العمر في مثل ما ذكر مما لا ثمرة فيه لعدم العلم بتواريخ العمومات والخصوصيات غالبا أو دائما مما لا ينبغي واسئل الله العفو من بفضله (منه دام ظله)
28

وما ادعى بعض أعاظم العصر من ان النسخ يتوقف على ثبوت حكم العام وأصالة الظهور في الخاص الحاكمة على العام يرفع موضوع النسخ «منظور فيه» لأن ذلك على فرض تسليمه انما هو فيما محض الدليل في التخصيص أي لم يكن احتمال النسخ في البين ودار الأمر بين تقديم العام أو الخاص لا فيما دار الأمر بين النسخ والتخصيص فحكومة أصالة الظهور في الخاص على أصالة الظهور في العام لا توجب تقدم التخصيص على النسخ بل لما كانت الحجة على الاستمرار منتزعة من السكوت في مقام البيان يكون الدليل الدال على قطع الحكم بيانا وقاطعا للسكوت فيرتفع موضوع الحجية به كما تقدم بيانه، ومما ذكرنا ظهر الحال في إطلاق الحكم أو
الموضوع.
وان قلنا بان الدليل عليه هو مثل قوله: «حلال محمد صلى الله عليه وآله...» فهو وان كان ضعيفا
29

غايته لكن على فرضه يمكن ان يقال: ان النسخ أيضا يقدم ان قلنا ان قوله: حلال محمد صلى الله عليه وآله إلخ من قبيل الإطلاق لدوران الأمر بين تخصيص العام وتقييد هذا الإطلاق وان قلنا انه من قبيل العموم وان المصدر المضاف يفيد العموم وضعا فيدور الأمر بين تخصيص أحد الدليلين ولا مرجح لأحدهما.
وان قلنا ان الدليل على الاستمرار هو ظهور القضايا الحقيقية فيه يكون النسخ أيضا مقدما لدوران الأمر بين تخصيص العام من الأول أو تخصيصه من زمن ورود الخاص فدار الأمر بين الأقل والأكثر في التخصيص وعلى النسخ يكون التخصيص أقل لأن النسخ بناء عليه تخصيص للعام في الافراد المتأخرة عن ورود الخاص.
هذا كله في العام المتقدم واما إذا كان متأخرا ودار الأمر بين كون الخاص مخصصا له أو العام ناسخا للخاص فحاله كسابقه الا في قضية دوران الأمر بين الأقل والأكثر في التخصيص لأن المورد يكون من دوران الأمر بين كون العام ناسخا للخاص (وبعبارة أخرى) كونه مخصصا له في الافراد التي تتحقق في عمود الزمان أو الخاص المقدم مخصصا للعام وتقديم أحدهما على الاخر غير معلوم، ولا يخفى ان أكثرية التخصيص من النسخ في مثل هذين الموردين ممنوعة، لأن التخصيص بعد حضور وقت العمل بالعام كما هو في الفرض الأول نادر جدا بل وقوعه مشكوك فيه وان كان جائزا بالاحتمال الأصولي (نعم) بعد العلم بوقوعه يكون الاحتمال الذي أبداه الشيخ دافعا للامتناع وكذا تأخر العام عن الخاص أيضا لم يكن شايعا متعارفا حتى يتقدم لأجله على النسخ.
واما مع الجهل بتاريخهما والشك في النسخ والتخصيص الناشئ من ان الخاص ورد قبل حضور العمل بالعام حتى يتمحض في التخصيص أو بعد حضوره حتى يتمحض في النسخ على ما عرفت أو العام ورد بعد حضور وقت العمل بالخاص أو قبله فيدور الأمر بين كون المورد من الموارد التي تتمحض في التخصيص أو الموارد التي يقدم النسخ ففي مثله لا يأتي ما ذكرنا من تقديم النسخ بالوجوه المتقدمة كما هو واضح فلا يبعد ان يكون التخصيص مقدما لكثرته وتعارفه بحيث لا يعتنى العقلاء بالاحتمال المقابل له مع ندرته.
30

وان شئت قلت: كما ان العقلاء لا يعتنون بالاحتمال النادر في مقابل الكثرة كما في الشبهة غير المحصورة بل وفي باب أصالة الصحة في العقود وفي باب العيوب كذلك لا يعتنون باحتمال النسخ الذي لا يعلم وقوعه في الشريعة الا في موارد قليلة جدا في مقابل التخصيص والتقييد الرائج الشائع ولهذا ترى ان بناء فقه الإسلام على التخصيص والتقييد وقلما يتفق ان يتفوه ففيه بالنسخ مع ان في جل الموارد يتردد الأمر بينهما للجهل بتاريخ صدورهما وعروض الاحتمالات المتقدمة عليهما (1) فتحصل مما ذكرنا ان النسخ مقدم على التخصيص في بعض الصور وبالعكس في بعضها ولا يتقدم أحدهما على الاخر في بعضها على بعض الاحتمالات.
ثم لا يخفى ان الظاهر مما ذكروا في وجه تقديم التخصيص على النسخ من كثرته ووجه تقديم النسخ على التخصيص من كون تقييد الإطلاق أهون من التخصيص ان الدليلين وارد ان على موضوع واحد ففي مورد واحد يتشبث كل بما ذكر من وجه التقديم، لكن اتضح بما قدمناه ان مورد التمسك بأهونية التقييد انما هو فيما علم التاريخ ولا يجري في المجهول، ومورد التشبث بالكثرة انما هو في مجهولي التاريخ دون غيره فلا يخلو استدلالهم من الخلط.
في الدوران بين التقييد وحمل الأمر على الاستحباب
ومن الموارد المتقدمة دوران الأمر بين تقييد الإطلاق وحمل الأمر على الاستحباب أو النهي على الكراهة، ومجمل القول فيه: ان الإطلاق في مقام البيان قد يقع في جواب سؤال من يريد العمل به كما لو سئل رجل عن تكليفه الفعلي فيما إذا أفطر يوما من شهر رمضان متعمدا فقال الإمام له: أعتق رقبة، فذهب ليعمل به، ثم بعده ورد دليل على انه لا تعتق رقبة كافرة أو أعتق رقبة مؤمنة، ففي مثل ذلك يكون حمل النهي على الكراهة والأمر على الاستحباب أهون بل متعينا لأن في تقييد الإطلاق محذور

(1) فبما أفاده الأستاذ دام ظله يظهر النظر فيما قاله العلمين العلامة الحائري والمحقق النائيني رحمهما الله من ان كثرة التخصيص لا يوجب ترجيحه عند الشك الا ان تصير كالقرينة المتصلة المحفوفة بالكلام فراجع كلامهما -
31

الإغراء بالجهل الممتنع أو النسخ المستبعد جدا أو كون حكم المطلق بإطلاقه صوريا لمصالح وهو أيضا بعيد جدا، واما حمل النهي على الكراهة أو الأمر على الاستحباب لا محذور فيه الا مخالفة ظاهرهما أو إطلاقهما.
وقد يقع الإطلاق في مقام البيان في جواب مثل زرارة ومحمد بن مسلم وأمثالهما من الفقهاء وأصحاب الجوامع والأصول ممن يكون مقصده جمع المسائل وتدوين الكتب فحينئذ ان قلنا بان للأمر والنهي ظهورا وضعيا أو انصرافيا في الوجوب والحرمة فالحمل عليهما وتقييد الإطلاق أولى، لما ذكرنا سابقا من ان الإطلاق لا يكون من قبيل ظهور اللفظ بل انما يحكم به من السكوت في مقام البيان والأمر والنهي بما لهما من الظهور يصيران بيانا له، واما لو قلنا بأنهما محمولان عليهما قضاء للإطلاق وانما هما موضوعان لمطلق البعث والزجر لكن البعث المطلق من غير الاذن في الترك والزجر من دون الاذن في الفعل يكونان حجة على العبد فترجيح أحد الحملين على الاخر مشكل وان كان التقييد أهون على الظاهر بحكم العرف، واما تحقيق حال الأمر والنهي فموكول إلى محله.
المبحث الثالث ما إذا كان التعارض بين أكثر من دليلين
وهي كثيرة نذكر مماتهما
فيما إذا كان التعارض بين أكثر من دليلين
منها ما إذا ورد عام وخاصان مختلفان موضوعا كما إذا ورد أكرم العلماء وورد منفصلا لا تكرم الكوفيين منهم، وورد ثالث لا تكرم البصريين منهم، فلا إشكال في تخصيص العام بهما من غير لحاظ تقدم أحدهما حتى تنقلب النسبة لو فرض في مورد الا إذا لزم منه محذور التخصيص المستهجن فحينئذ يقع التعارض بالعرض بين الخاصين فمع ترجيح أحدهما يؤخذ به ويخصص به العام ومع التساوي يؤخذ بأحدهما تخييرا أو يخصص به، هذا ان قلنا بشمول اخبار العلاج لمثل هذا التعارض ولو بإلقاء الخصوصية أو فهم المناط القطعي والا فالقاعدة تقتضي تساقطهما لو لا الإجماع على عدم التساقط، ولعله يأتي لبيان ذلك وتحقيقه كلام في مستأنف القول.
32

واما ما اختاره المحققون من وقوع التعارض بين مجموع الخاصين والعام لأن مجموعهما مباين له.
ففيه ان مجموع الدليلين ليس من الأدلة بل لا وجود له في الخارج وانما هو اعتبار عقلي، فالموجود في الخارج والصادر من الأئمة عليهم السلام هو كل واحد من الخاصين بخصوصه، والعام لا يباين ولا يعارض مع كل منهما ولا يعارض مع المجموع الذي لا وجود له وهو امر اعتباري، فالتعارض انما هو بين الخاصين لكن بالعرض.
نعم لو علم تلازم حكم الخاصين فقد يقع التعارض بين العام وكل واحد من الخاصين كما إذا قال: أكرم العلماء ولا تكرم العدول منهم ولا تكرم الفساق منهم فمع العلم بتلازم الخاصين يقع التعارض بين كل خاص مع العام كأنه قال لا تكرم العلماء، وقد يقع التعارض بين الجميع كما لو ورد يجب إكرام العلماء ويحرم إكرام فساقهم ويستحب إكرام عدولهم وعلم تلازم حكم الخاصين بمعنى انه إذا حرم إكرام فساقهم حرم إكرام الجميع وان
استحب استحب فهو في حكم ما لو ورد يجب إكرام العلماء ويحرم إكرامهم ويستحب إكرامهم.
هذا كله إذا كان الخاصان لفظيين، واما إذا كان أحدهما لبيا كإجماع أو عقل فان احتف العام به بحيث يكون قرينة على صرفه بحيث ينعقد ظهوره فيما عدى المخصص فلا إشكال في انقلاب النسبة، كما ان الأمر كذلك لو كان أحد اللفظيين كذلك، بل ليس هذا من انقلابها لعدم ظهور العام أو لا في غير مورد التخصيص، وانما الكلام فيما إذا لم يحتف العام بالدليل اللبي وانعقد ظهور العام في العموم، فقد يقال فيه أيضا بانقلاب النسبة لأن اعتبار الأصول اللفظية معلق على عدم القطع بخلافها فيكون العام قاصرا من أول الأمر بالنسبة إلى مورد الخاص واما اللفظي فيكون من قبيل المانع والرافع للحجية (1) (وفيه) ان القطع الحاصل بعد انعقاد ظهور العام أيضا قاطع للحجية كالدليل اللفظي فان أريد بتعليقية الأصول اللفظية هي عدم حجيتها قبل القطع بالخلاف فهو ممنوع

(1) قال الأستاذ دام ظله في بحثه بان العلامة الحائري رحمه الله عدل عما في الدرر إلى هذا القول -
33

بالضرورة، وان أريد بها ان القطع بالخلاف يكشف عن كون المراد الجدي ما عدى مورد الخاص من أول الأمر فهو كذلك لكن المخصص اللفظي أيضا كذلك (وبالجملة) لا وجه معتد به لانقلاب النسبة في اللبي أيضا.
صور ما ورد عام وخاصان بينهما عموم مطلق
ومنها ما إذا ورد عام وخاصان مع كون النسبة بين الخاصين العموم المطلق وفيه صور:
الأولى ما إذا كانا متوافقي الحكم كقوله: لا تكرم النحويين ولا تكرم النحويين من الكوفيين بعد قوله: أكرم العلماء، فحينئذ قد لا يلزم من التخصيص الاستهجان فيخصص العام بهما إذا لم تحرز وحدة الحكم فيهما فيكون في مورد الأخص الخاص، والأخص دليلا على التخصيص وفي غير مورده الخاص مخصصا وان أحرزت وحدته يحمل الخاص على الأخص فيخصص العام به فيخرج النحويين من الكوفيين من العام وبقي الباقي وان لزم الاستهجان، فاما ان يلزم من الخاص فقط أو من كل منهما مستقلا ولا يعقل لزومه من مجموعهما للتداخل بينهما، فما ظن بعض أعاظم العصر فقاس هذه الصورة بالصورة السابقة واضح البطلان، فان لزم من الخاص فقط يحمل الخاص على الأخص ويخصص العام به لأنه مع كونه جمعا عرفيا رافع للاستهجان أيضا وان لزم منهما مستقلا فلا محالة يكون تخصيص الخاص بالأخص مستهجنا فيقع التعارض بين جميعها.
الثانية ما إذا كان الخاصان مختلفي الحكم ويكون الأخص موافقا للعام كقوله أكرم العلماء ولا تكرم فساقهم وأكرم فساق النحويين، فان لم يلزم استهجان يجب تخصيص الخاص بالأخص والعام بالخاص المخصص فيجب إكرام العلماء الا فساقهم ما عدى فساق النحويين، وان لزم من تخصيص العام بالخاص استهجان فحينئذ قد يرفع استهجانه بتخصيصه بالأخص فحكمه كذلك وقد لا يرفع فيقع التعارض بين الخاص والعام ويخصص الخاص بالأخص ان لم يلزم استهجان منه والا فيقع التعارض بينهما أيضا.
الثالثة ما إذا كان كل من العام والخاصين مختلفي الحكم كقوله يجب إكرام العلماء
34

ويحرم إكرام فساقهم ويستحب إكرام فساق النحويين، ومما ذكرنا ظهر حالها أيضا واتضح ما في كلام بعض أعاظم العصر من قياس الصورة الثانية بالأولى.
حول ما إذا ورد عام وخاصان بينهما عموم من وجه
ومنها ما إذا ورد عام وخاصان وكانت النسبة بين الخاصين عموما من وجه، ففيه أيضا الصور المتقدمة، فان كان الخاصان متفقي الحكم كقوله أكرم العلماء ولا تكرم النحويين ولا تكرم الصرفيين فلا إشكال في تخصيص العام بهما مع عدم المحذور المتقدم والا فيعمل على حكمه كما تقدم وان كانا مختلفي الحكم مع اتفاق حكم أحدهما مع العام كقوله أكرم العلماء ولا تكرم النحويين وأكرم الصرفيين فيتعارض الخاصان في النحوي الصرفي ويخصص العام بالخاص المخالف له في غير مورد التعارض فتنقلب النسبة بين العام والخاص المخالف له من العموم المطلق إلى من وجه لا لما ادعى بعض أعاظم العصر من ان العام المخصص بالمتصل أو المنفصل يصير معنونا بعنوان الخاص، وذلك لكونه خلاف التحقيق ولهذا لا يسرى إجمال الخاص المنفصل إليه بل لقطع حجية العام بالنسبة إلى مورد التخصيص، والتعارض بين الأدلة انما هو بعد الفراغ عن حجيتها فالعام المخصص انما هو حجة فيما عدى مورد التخصيص ونسبته مع الخاص عموم من وجه ولعل ذلك مراده أيضا لما صرح به بعد ذلك، واما مع عدم اتفاق حكمه مع العام كقوله: يجب إكرام العلماء ويحرم إكرام النحويين ويستحب إكرام الصرفيين، فيخصص العام بكل من الخاصين فتنقلب نسبته مع كل واحد من الخاصين من العموم المطلق إلى العموم من وجه، فان العلماء غير النحوي الصرفي يفترق من كل من النحوي والصرفي في الفقهاء، والنحوي يفترق عنه في النحوي غير الصرفي والصرفي في الصرفي غير النحوي.
ومنها ما إذا ورد عامان من وجه وخاص، فان أخرج مورد افتراق أحد العامين تنقلب النسبة بين العامين إلى الأخص المطلق وان أخرج خاص آخر مورد افتراق العام الاخر تنقلب إلى التباين وان أخرج الخاص مورد اجتماعهما يرتفع الاختلاف بينهما فيختص كل منهما بموضوع غير الاخر.
35

ومنها ما ورد دليلان متباينان فقد يرد المخصص لأحدهما فتنقلب نسبتهما إلى الأخص المطلق كقوله: أكرم العلماء ولا تكرم العلماء فإذا ورد لا تكرم فساق العلماء يصير مفاد أكرم العلماء أكرم عدولهم وهو أخص من قوله لا تكرم العلماء وقد يرد مخصص آخر ويرتفع الاختلاف بينهما فيختص كل بموضوع كما ورد في المثال أكرم عدول العلماء فيصير مفاد لا تكرم العلماء بعد التخصيص لا تكرم فساق العلماء وهو غير مناف لقوله أكرم عدول العلماء، وقد يرد مخصص وتنقلب نسبتهما إلى العموم من وجه كما لو ورد في المثال أكرم نحويي العلماء ولا تكرم فساق العلماء لأن النسبة بين قوله أكرم العلماء غير الفساق منهم وغير ولا تكرم العلماء غير النحويين أعم من وجه إلى غير ذلك من موارد انقلاب النسبة
فصل
في ان العامين من وجه هل يندرجان في اخبار العلاج؟
قد اتضحت مما قدمنا الموارد التي تكون غير داخلة في الحديثين المختلفين وخارجة عن موضوع البحث في باب التعادل والترجيح لأجل الجمع المقبول بينهما، ولا بد لتنقيح البحث من ذكر بعض الموارد الذي يكون مورد البحث في اندراجه في موضوع أدلة العلاج.
فمنها ما إذا كان بين الدليلين عموم من وجه فهل يندرجان فيها أم لا؟ وعلى الأول فهل تجري فيهما جميع المرجحات صدورية كانت أم لا تجري فيهما المرجحات الصدورية؟ محصل الكلام ان يقال: ان جميع أدلة العلاج يدور مدار عنواني حديثين متعارضين والخبرين المختلفين، فلا حدان يقول: ان الظاهر منهما هو التخالف بقول مطلق وهو يختص بالمتباينين واما العامان من وجه فتنصرف الأدلة منهما فان الظاهر من قوله: «يأتي عنكم الخبران والحديثان المتعارضان فبأيهما آخذ» دوران الأمر بين أخذ أحدهما وترك الاخر وبالعكس رأسا، لا أخذ بعض مفاد أحدهما وترك بعض مفاد الاخر وكذا الأجوبة الواردة فيها كقوله «خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر» وقوله:
«اعرضوهما على كتاب الله فما وافق كتاب الله فخذوه» إلى غير ذلك ظاهرة في الحديثين
36

المختلفين في جميع مفادهما. وبالجملة الناظر في روايات الباب يرى ان محط السؤال والجواب فيها هو الخبران المختلفان بجميع المضمون فالعامان من وجه خارجان عنها فلا بد في مورد تعارضهما من الرجوع إلى القاعدة.
والعجب من بعض أعاظم العصر حيث ادعى ان قول الأئمة عليهم السلام: ما خالف قول ربنا زخرف أو باطل ظاهر في المخالفة بالتباين الكلي (1) قائلا ان المخالفة بقول مطلق هو المخالفة بالتباين وأخرج العامين من وجه عن موضوع المخالفة للكتاب ومع ذلك أدرجهما في موضوع اخبار العلاج مع ان موضوعهما الخبران المختلفان.
وأولى بعدم الاندراج في موضوعها التعارض بالعرض كما إذا ورد دليل بوجوب صلاة الجمعة وآخر بوجوب صلاة الظهر وعلم عدم وجوب أحدهما ووجوب الاخر فان هذا العلم يوجب التعارض بينهما بالعرض لكن لا يصدق الخبران المختلفان والمتعارضان عليهما عرفا وكذا في الخاصين إذا كان ورودهما على العام موجبا للاستهجان فإنه يوجب التعارض بينهما بالعرض، وبالجملة إدراج العامين من وجه في أدلة التعارض مشكل وإدراج المتعارضين بالعرض أشكل، ولعل ما ذكرنا وجه ما نسب إلى المشهور من الحكم بالتساقط في المتكافئين إذا كان بينهما عموم من وجه لكن لازمه عدم العمل بالترجيح فيهما أيضا، اللهم الا ان يدعى ان العامين من وجه وكذا المتعارضين بالعرض وان لم يندرجا فيهما لكن العرف بمناسبة الحكم والموضوع وإلقاء الخصوصية يفهم ان الخبرين الواردين عن الأئمة عليهم السلام إذا تصادما وتعارضا بأي وجه كان لا يجوز طرحهما بل لا بد من الترجيح والأخذ بالراجح ومع فقدانه التخيير فلا يرضى الشارع فيهما العمل على طبق القاعدة وأولى بذلك ما إذا اختلف الخبران في مدلولهما الالتزامي فتدبر جيدا.
واما الأخص المطلق إذا كان تخصيص العام به مستهجنا يعمل معه والعام معاملة الخبرين المختلفين لاندراجهما فيهما حقيقة لكن خروجهما عن أدلة العلاج لأجل الجمع العرفي، ومع عدم الجمع بينهما يعمل معهما عمل التعارض كما انه لو قلنا في الخاصين

(1) هذا مذكور في ذيل الصفحة ولعله للمقرر (منه دام ظله).
37

الذين يكون التخصيص بمجموعهما مستهجنا بان مجموعهما يعارض العام كما قالوا يكون مجموعهما مع العام مندرجين في أدلة العلاج.
هل المرجحات الصدورية جارية في العامين من وجه أم لا؟
ثم انه بناء على شمول اخبار العلاج للعامين من وجه فهل المرجحات مطلقا جارية فيهما كما في غيرهما؟ اختار الشيخ الأعظم ذلك، وأنكر بعض أعاظم العصر جريان المرجحات الصدورية فيهما، قائلا بان التعارض فيهما في بعض المدلول فمعاملة عدم صدور أحدهما في جميع المدلول مما لا وجه له، والتبعيض فيه من حيث الصدور بحيث يكون الخبر صادرا في بعض المدلول وغير صادر في بعض غير ممكن.
أقول: ظاهر المقبولة والمرفوعة: ان ما جرى فيه المرجحات الصدورية هو ما جرى فيه سائرها لأن ما فرض فيه الترجيح بالأعدلية والأصدقية في الحديث والأوثقية عين ما فرض فيه الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة، ورفع اليد عن هذا الظاهر لا يجوز الا بدعوى عدم الإمكان وهي على فرض صحتها شاهدة اما على عدم شمولهما للعامين من وجه رأسا حفظا لأدلة العلاج وحرصا على عدم التفكيك فيها، واما على عدم الأخذ بالمرجح الصدوري في خصوص العامين من وجه لامتناع التفكيك ولا ترجيح ظاهر فيهما، الا ان يقال: ان ذلك لا يجري في ساير الأدلة في باب الترجيح فنلتزم بعدم شمولهما للعامين من وجه بما ذكر، ونأخذ بإطلاق ساير أدلة الترجيح المقصورة بالترجيح الغير السندي.
وكيف كان فالدعوى المذكورة ممنوعة جدا فان عدم الإمكان لا يجوز ان يكون عقليا، ضرورة ان التعبد بذلك بمكان من الإمكان بل لا بد وان يكون عرفيا ان العرف لأجل استبعاد ذلك لا يمكن ان يفهم من اخبار العلاج التعبد بصدور خبر من جهة دون جهة، وفيه ان ما يستبعده العرف انما هو التعبد بصدور رواية وعدم صدورها، واما التعبد بان الرواية صدرت بهذا المضمون لا بذاك فلا يستبعده بوجه، مثلا إذا ورد أكرم العلماء وورد لا تكرم الفساق فتعارضا في العالم الفاسق وورد خذ بما يقول أصدقهما في الحديث يفهم العرف ان الا صدق في الحديث كما انه أبعد من الكذب في أصل الحديث
38

أبعد من التصرف فيه بما يتغير به المعنى بإلقاء قيد أو زيادته مثلا، ففي المثال المتقدم يحتمل ان يكون أحد الخبرين صادرا مع قيد لم ينقله بعض المحدثين والوسائط عمدا أو سهوا وهذا الاحتمال مما لا يعتنى به العقلاء في خبر الثقة، لكن إذا ورد التعبد بالاخذ بما روى أصدقهما حديثا لا يأبون عن الأخذ بقوله في مورد الاجتماع وترك قول غيره فيه، والتفكيك بهذا المعنى غير مستبعد بل هذا ليس تفكيكا بل تعبد بصدور حديث الأوثق بجميع مضمونه وقيوده دون غيره وهذا امر ممكن عقلا وعرفا، فدعوى عدم الإمكان ممنوعة فرفع اليد عن ظاهر أدلة العلاج غير جائز، فإذا تمحض البحث في المتعارضين واتضح حدود الموضوع يقع الكلام في مقصدين
في المتكافئين ومقتضى الأصل فيهما المقصد الأول في المتكافئين
وفيه بحثان:
البحث الأول في مقتضى الأصل فيهما مع قطع النظر عن الاخبار،
والكلام فيه يقع تارة على القول بالطريقية وأخرى على القول بالسببية،
اما على الأول
فان قلنا بان الدليل على حجية الاخبار هو بناء العقلاء، والأدلة الاخر من الكتاب والسنة إمضائية لا تأسيسية وانما اتكل الشارع في مقاصده على ما هو عند العقلاء من العمل بخبر الثقة كما هو الحق فمقتضى القاعدة هو التوقف وسقوطهما عن الحجية. فان الحجة على الواقع عبارة عن تنجز الواقع بها بحيث تصح للمولى مؤاخذة العبد لدى المخالفة في صورة المصادفة، فإذا قامت الأمارة على وجوب صلاة الجمعة وتركها المكلف وكانت واجبة تصح للمولى عقوبته على تركها، ولو أتى بها وكانت محرمة يصح اعتذار العبد بقيام الأمارة المعتبرة على الوجوب وهذا المعنى متقوم بالوصول، فلو قامت الأمارة واقعا على حرمة شيء وارتكبه العبد بعد فحصه واجتهاده وعدم العثور عليها يكون معذورا لا تصح عقوبته كما انه لو قامت أمارة على حرمته لدى المكلف وقامت أمارة واقعا على عدم الحرمة أقوى من الواصلة وارتكبه العبد وكان محرما واقعا تصح عقوبته ولا عذر له بان الأمارة الراجحة قامت واقعا على عدم الحرمة، لأن الأمارة الواصلة حجة عليه ما لم تصل حجة أقوى إليه.
39

وفي حكم ذلك في عدم الحجية ما إذا وصلت الأمارتان وتكاذبتا في المضمون فان كل واحدة منهما إذا كان مبتلى بمعارض ينفي ما يثبته لا يكون عند العقلاء حجة على مضمونه، فلو كانت صلاة الجمعة واجبة واقعا لا تكون الأمارة القائمة على وجوبها حجة عليه إذا قامت أمارة أخرى مثلها على عدم وجوبها فكل واحدة منهما ساقطة عن الحجية، ولا معنى لحجية أحدهما لا بعينه لعدم تعقل ذلك بعد سقوط كل واحد منهما عنها، لأن الواحد لا
بعينه وبلا عنوان لا وجود له والموجود كل واحد مشخصا بشخصية وهو ساقط عن الحجية فلا يعقل ان يكون الواحد لا بعينه حجة.
هذا حال مضمونهما المبتلى بالمعارض واما إذا كان لكل واحد منهما مضمون التزامي موافق للآخر فيمكن ان يقال يصح الاحتجاج بكل منهما على الواقع إذا طابقه لعدم الابتلاء بالمعارض، والعلم بالكذب في المدلول المطابقي لا يوجب السقوط عن الحجية في الالتزامي الذي لا يعلم كذبه، الا ترى انه لو قامت الأمارة على وجوب إكرام زيد وكان ملازما لوجوب إكرام عمرو فترك العبد كليهما فصادف عدم وجوب إكرام زيد ووجوب إكرام عمرو بدليل آخر لم يصل إلى العبد تصح عقوبته في ترك إكرام عمرو لأن في تركه مع قيام الأمارة عليه ليس معذورا، ومجرد كون الوجوب مؤدى أمارة غير واصلة لا هذه ليس عذرا (1).

(1) وقد يقال في تقريب اشتراك المتعارضين في نفي الثالث بالدلالة الالتزامية:
ان الدلالة الالتزامية انما تكون فرع الدلالة المطابقية في الوجود لا في الحجية، وبعبارة أوضح: الدلالة الالتزامية للكلام تتوقف على دلالته التصديقية أي دلالته على المؤدى واما كون المؤدى مرادا فهو مما لا يتوقف عليه الدلالة الالتزامية فسقوط المتعارضين عن الحجية في المؤدى لا يلازم سقوطهما عن الحجية في نفي الثالث لأن سقوطهما عن الحجية في المؤدى انما كان لأصل التعارض واما نفي الثالث فلا معارضة بينهما بل يتفقان فيه.
لكنه يقال: أم لا ان كان مراده بعدم المتابعة في الحجية انه مع العلم بعدم أمارية خبر بالنسبة إلى مدلوله المطابقي كاشفة بالنسبة إلى مدلوله الالتزامي، فهو غير معقول لأنا إذا علمنا بكذب قوله: النهار موجود، كيف يمكن لنا الكشف عن هذا الخبر بان الشمس طالعة مع ان طلوع الشمس يلازمه، وان كان مراده بعدم المتابعة في الحجية ان الشارع جعل اللازم
حجة مع عدم جعله الحجية للملزوم، فهو مع انه خلاف الفرض كما ترى.
وثانيا - ان ما قاله - من عدم توقف دلالة المعنى الالتزامي للكلام على مرادية المعنى المطابقي له فيه ما لا يخفى من الخلط لأن كلامنا فيما إذا كان المعنى الالتزامي للكلام مرادا جدا مع العلم بعدم الإرادة الجدية بالنسبة إلى المدلول المطابقي من دون ان يكون المتكلم في مقام بيان المعنى الالتزامي، وهذا كما ترى مخالف للمحاورات العقلائية الدائرة بينهم ولا أظن ان يلتزم هذا القائل بذاك السبك من الكلام، أضف إلى ذلك ان الكلام لا يدل على المعنى الالتزامي بل يدل على المعنى المطابقي وإذا كان للمعنى المطابقي لوازم تترتب عليه قهرا من دون ان يكون الكلام دالا عليها، ففي إطلاق الدلالة للكلام على المعنى الالتزامي تسامح -
40

لكن الأقوى ما ذهب إليه المحقق الخراساني ويظهر من شيخنا العلامة أيضا وهو كون الحجة على نفي الثالث أحدهما، لأنه مع العلم بكذب أمارة في مدلولها المطابقي لا يعقل بقاء الحجية في مدلولها الالتزامي والمقام من قبيله والنقض المتقدم قياس مع الفارق لعدم العلم بالكذب في المقيس عليه، ولا يخفى ان المراد من أحدهما هو أحدهما المشخص واقعا وان جهل المكلف به. هذا إذا قلنا ان دليل حجية خبر الثقة هو بناء العقلاء وان قلنا بأنه الأدلة اللفظية فلا تخلو اما ان تكون مهملة بالنسبة إلى حال التعارض أو مطلقة بالإطلاق الذاتي أو بالإطلاق اللحاظي على فرض صحته أو مقيدة بعدم التعارض، لا إشكال في عدم الحجية بناء على الاحتمال الأول والرابع واما بناء على الثالث فالقاعدة تقتضي التخيير لأن الإطلاق اللحاظي على فرضه كالتصريح بالاعتبار حال التعارض ومعه لا بد من القول بالتخيير والا فاما ان يكون امرا بالمحال وهو باطل أو لغاية حصول التوقف وهو لغو فلا بد من صون كلام الحكيم عنهما بان يقال انه امر بالعمل حتى في مقام التعارض لحفظ الواقع حتى الإمكان ومقتضى ذلك بدلالة الاقتضاء التخيير فكأنه صرح بالتخيير ابتداء.
(فما يقال) ان الإطلاق لحال التعارض محال لأنه لا يترتب على التعبد بصدور المتعارضين أثر سوى البناء على إجمالهما وعدم إرادة الظاهر في كل منهما ولا معنى للتعبد بصدور كلام يكون نتيجته إجماله (كما ترى).
واما إذا كان لدليل الاعتبار إطلاق ذاتي كما هو أقوى الاحتمالات فهل نتيجته
41

التخيير أيضا بان يقال: ان التصرف في دليل الاعتبار يتقدر بقدره فإذا دار الأمر بين رفع اليد عن دليل الاعتبار بالنسبة إلى حال التعارض مطلقا حتى تصير النتيجة عدم حجية كلا المتعارضين أو رفع اليد عن كل منهما حال الإتيان بالاخر، كان الثاني أولى، ونتيجته التخيير، أو النتيجة هو التوقف بان يقال: ان ما ذكر من تقييد الإطلاق حال الإتيان بالاخر انما هو في التكاليف النفسية مثل قوله أنقذ الغريق، وكأدلة الأصول في أطراف العلم الإجمالي حيث ان كل طرف مرخص فيه بما انه عنوان المشكوك فيه وفي أطراف العلم دار الأمر بين رفع اليد عن كلا الترخيصين أو ترخيص كل في حال الإتيان بالاخر وكذا الحال في مثل أنقذ الغريق حيث ان التكليف متوجه بإنقاذ كل منهما ودار الأمر بين رفع اليد عنه في كليهما أو عن كل في حال الإتيان بالاخر والثاني أولى.
واما إذا كان التكليف طريقيا جعل لأجل كشف كل أمارة عن الواقع وتكون كل أمارة مكذبة للأخرى فلا معنى لذلك فان البناء على طريقية كل أمارة والعمل بها على انها هي الكاشفة عن الواقع في حال ترك الأخرى مما لا محصل له (نعم) لو كان إيجاب العمل على الخبر لمحض التعبد وكان التكليف نفسيا مثل ساير النفسيات كان لذلك الكلام وجه لكنه كما ترى، هذا مضافا إلى ان ما ذكر يرجع إلى ان الأمر إذا دار بين التخصيص والتقييد كان الثاني أولى وهو ممنوع في مثل ما نحن فيه وسيأتي التعرض له عن قريب.
في مقتضى الأصل على السببية
هذا كله بناء على الطريقية كما هو الحق واما بناء على السببية فمقتضى الأصل مختلف حسب اختلاف الاحتمالات في السببية فان قلنا بأنه ليس لله تعالى في كل واقعة حكم مشترك بين العالم والجاهل وأنكرنا المصالح والمفاسد وقلنا بالإرادة الجزافية وان الحكم تابع لقيام الأمارة فحينئذ ان قلنا بان الأمارة إذا قامت على شيء يصير بعنوانه متعلق التكليف لا محيص عن التساقط إذا قامت الأمارتان على الوجوب والحرمة لامتناع جعل الحكمين على موضوع واحد من جميع الجهات، وان قلنا بان التكليف يتعلق بمؤدى الأمارة بما انه كذلك وقلنا بان تكثر العنوانين يرفع التضاد فالأصل يقتضى التخيير
42

لثبوت الوجوب والحرمة على عنوانين غير قابلين للجمع في مقام الامتثال وان قلنا بعدم رفعه التضاد يكون حاله كالأول.
وان قلنا بالمصالح والمفاسد وان الأحكام مشتركة بين العالم والجاهل فحينئذ تارة نقول بان قيام الأمارة يوجب مصلحة أو مفسدة في ذات العناوين إذا كانت الأمارة مخالفة للواقع وتكون المصلحة الآتية من قبل الأمارة أقوى مناطا من المصلحة الواقعية فلا بد من القول بالتساقط أيضا لأن الحكم الفعلي يكون تابعا للأمارة المخالفة، فان كانت الأمارة مخالفة للواقع يكون الحكم الفعلي تابعا لها ومع الجهل بها تتساقطان، وان كان كلتاهما مخالفة له تتساقطان أيضا لامتناع جعل الحكمين الفعليين على عنوان واحد.
وان قلنا ان المصلحة والمفسدة تقومان على عنوان المؤدى بما انه كذلك وتكثر الموضوع كذلك يرفع التضاد فمقتضى الأصل التخيير كباب التزاحم ان قلنا بحدوث المصلحة حتى في الأمارة الموافقة والا فالتساقط، وان قلنا بعدم رفع التضاد به فالأصل هو التساقط للكسر والانكسار الواقعين بين المصلحة والمفسدة فالحكم تابع لأقوى المناطين ومع الجهل به تتساقطان كما انه مع تساويهما كذلك، وان قلنا بان المصلحة انما تكون في متابعة قول الثقة والعمل على طبقه من غير ان يكون للواقع دخالة في ذلك ولا في طريقية الطريق أثر فالأصل يقتضى التخيير، وان قلنا بان الطريق بما انه طريق قامت به المصلحة فكذلك، وان قلنا بان الطريق الفعلي قامت به المصلحة فالأصل هو التساقط.
هذا كله بناء على اعتبار الاخبار من بناء العقلاء. واما إذا قلنا بأنه من الأدلة اللفظية فربما يقال: ان إطلاق أدلة الاعتبار يشمل حال التعارض بينهما فيتردد الأمر بين رفع اليد عن الخبر المبتلى بالمعارض فيكون تخصيصا في أدلة الاعتبار أو رفع اليد عن كل منهما حال الإتيان بالاخر فيكون تقييدا فيها والثاني أولى فالنتيجة هي التخيير (وفيه) ان ما ذكرنا من تقدم التقييد على التخصيص في الدوران بينهما انما هو فيما إذا تعارض عموم عام مع إطلاق دليل فقلنا ان الإطلاق لما كانت حجيته لدى العقلاء من جعل الماهية موضوعة للحكم بلا قيد فهذا الجعل مع السكوت في مقام البيان موضوع
43

الحجية فهو يرفع مع ورود دليل من قبل المولى، والعام بظهوره الوضعي دليل ولا يمكن ان يكون المطلق الكذائي مخصصا للعام، واما ما نحن فيه فلا يكون من هذا القبيل، لأن أدلة اعتبار الأمارات بناء على إطلاقها لها عموم افرادي وإطلاق حالي، ومعلوم ان الأول موضوع الثاني فدار الأمر بين تخصيص العموم بحكم العقل وتقييد الإطلاق وكلاهما خلاف الأصل ولا ترجيح لأحدهما ولا يكون العام بيانا للمطلق كالفرض السابق، وليس
التقييد أقل محذورا من التخصيص لأن رفع موضوع الإطلاق ليس ارتكاب خلاف الأصل في الإطلاق بل خلاف ظاهر فقط في العام.
وبالجملة في تخصيص العام يرتكب خلاف ظاهر فقط وبه يرفع موضوع الإطلاق ورفع موضوعه لا يكون تقييدا ولا خلاف أصل، لأن الإطلاق فرع شمول العام للافراد ومع بقاء العام على عمومه يرتكب خلاف أصل آخر هو تقييد الإطلاق ولا ترجيح لأحدهما.
وما يمكن ان يقال: ان أصالة العموم في الرتبة المتقدمة على أصالة الإطلاق فهي في تلك الرتبة لا معارض لها فالقاعدة تقتضي حفظ العموم لعدم المعارض وارتكاب خلاف الأصل في الإطلاق (كلام شعري) لأن التقدم الرتبي ليس موضوعا لحكم العقلاء في باب الظواهر والمباحث العرفية ولا ينبغي الخلط بين العقليات والعرفيات.
في حال المتكافئين بحسب الاخبار البحث الثاني في حال المتكافئين بمقتضى الاخبار الواردة في المقام
فالأولى نقل ما ارتبط به وتذييله بما يرتبط بفقه الحديث ثم بيان ما يساعد عليه العرف في الجمع بينها فنقول وعلى الله التكلان:
الأولى ما روى في الوسائل (1) عن الطبرسي في جواب مكاتبة محمد بن عبد الله الحميري إلى صاحب الزمان عليه السلام يسألني بعض الفقهاء عن المصلى إذا قام من التشهد الأول إلى الركعة الثالثة هل يجب عليه ان يكبر؟ فان بعض أصحابنا قال: لا يجب عليه تكبير فيجزيه ان يقول: بحول الله وقوته أقوم وأقعد، الجواب في ذلك حديثان اما أحدهما فإنه إذا انتقل من حالة إلى أخرى فعليه التكبير، واما الاخر فإنه روى انه

(1) كتاب القضاء - الباب 9 - من أبواب صفات القاضي وما يجوزان يقضى به الرواية 42 -
44

إذا رفع رأسه من السجدة الثانية وكبر ثم جلس ثم قام فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير وكذا التشهد الأول يجري هذا المجرى فبأيهما أخذت من باب التسليم كان صوابا.
وفي كون هذا الحديث من بابنا هذا إشكال، فان السائل سئل عن حكم الواقعة لا عن تعارض الأدلة فيناسب الجواب عن الحكم الواقعي، ولعل مراده ان التكبير لما كان مستحبا وورد فيه حديثان أحدهما يأمر بإتيانه وثانيهما يرخصه في تركه فالإتيان به صواب لأنه مستحب وكذا تركه، لأن الأخذ بالدليل المرخص في المستحب صواب فالأخذ بكل واحد منهما صواب لا من حيث التخيير في المتعارضين بل من حيث كون الواقع كذلك فعليه يكون أجنبيا عن اخبار العلاج.
ويحتمل ان يكون مراده من كون كليهما صوابا موافقا للواقع كما هو ظاهر الصواب ان قوله: «عليه التكبير» وان كان ظاهرا في الوجوب لكن يرفع اليد عنه بنص قوله: «ليس عليه» ومعنى عدم كونه عليه انه لا يجب عليه، فالحديث المثبت يثبت الاستحباب والاخر يرفع الوجوب وكلاهما صواب، والمراد من الأخذ بأيهما من باب التسليم انه إذا أتيت بالتكبير من باب التسليم أتيت بالمأمور به وان تركته من باب التسليم تركته من باب الترخيص الوارد في الحديث وكلاهما صواب.
وعلى أي حال يخرج الحديث عن باب تعارض الأحوال مع ان كون الأخذ بكل منهما صوابا موافقا للواقع كما هو ظاهره مما لا يعقل فإنه مع فرض التعارض والتكاذب يكون من الجمع بين النقيضين أو الضدين، هذا كله إذا لم تكن الرواية معرضا عنها والا فهي ساقطة رأسا مع انها ضعيفة السند أيضا.
الثانية عن محمد بن الحسن بإسناده عن علي بن مهزيار (1) قال: قرأت في كتاب لعبد الله بن محمد إلى أبي الحسن عليه السلام اختلف أصحابنا في روايتهم عن أبي - عبد الله عليه السلام في ركعتي الفجر في السفر فروى بعضهم صلها في المحمل وروى بعضهم لا تصلها الا على الأرض فوقع: «موسع عليك بأية عملت» وفي الحدائق بعد قوله: على الأرض: فأعلمني كيف تصنع أنت لأقتدي بك في ذلك؟ فوقع (الخبر).

(1) الوسائل - كتاب القضاء - الباب 9 - من أبواب صفات القاضي - الرواية 47 -
45

والظاهر سؤاله عن حكم الواقعة خصوصا بملاحظة الزيادة التي في الحدائق، والظاهر ان جوابه أيضا يكون عن الحكم الواقعي كما هو كذلك، فان المراد من ركعتي الفجر نافلته ويجوز إتيانها في المحمل وعلى الأرض، فالمراد من قوله: «موسع عليك بأية عملت» انك مخير واقعا في إتيانها في المحمل وعلى الأرض، وحملها على الأخذ في المسألة الأصولية لدى تعارض الأحوال في غاية البعد فهي أيضا أجنبية عما نحن بصدده.
الثالثة مرفوعة زرارة المنقولة عن عوالي اللئالي (1) فان في ذيلها بعد الأمر بالاخذ بما يوافق الاحتياط وفرضه موافقتهما أو مخالفتهما له فقال: اذن فتخير أحدهما فتأخذ به وتدع الاخر، وفيه وفي رواية انه عليه السلام قال: اذن فأرجه حتى تلقى إمامك فتسأله.
لكن هذه الرواية مرسلة في غاية الضعف من غير جابر لها فلا يجوز إثبات حكم بها ولهذا أخرجناها عن أدلة العلاج، وتمسك من تأخر عن ابن أبي الجمهور بها بل إجماعهم على العمل بها لا يفيد جبرها وليس كتمسك القدماء واعتمادهم على الحديث لكونهم قريبي العهد بأصحاب الأصول والجوامع وعندهم أصول لم تكن عند المتأخرين (2) فما أفاده شيخنا العلامة من جبرها من جرها بالعمل ليس على ما ينبغي، هذا مضافا إلى احتمال

(1) والرواية هكذا - روى العلامة مرفوعا إلى زرارة بن أعين قال: سئلت الباقر عليه السلام فقلت: جعلت فداك يأتي عنكم الخبر ان أو الحديثان المتعارضان فبأيهما آخذ؟ قال عليه السلام: يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر، فقلت: يا سيدي انهما معا مشهوران مرويان مأثوران عنكم. فقال عليه السلام: خذ بقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك. فقلت: انهما معا عدلان مرضيان موثقان، فقال عليه السلام: انظر ما وافق منهما مذهب العامة فاتركه وخذ بما خالفهم. فقلت: ربما كانا معا موافقين لهم أو مخالفين فكيف اصنع؟ فقال: اذن فتخير (إلخ) راجع المستدرك - كتاب القضاء - الباب 9 - من أبواب صفات القاضي وما يجوز ان يقضى به - الرواية 2 -
(2) ويحتمل ان يكون مستند عمل الأصحاب رواية أخرى غيرها المطابقة لها مضمونا مضافا إلى ان كلمة «المتعارضان» فيها لا توافق ما في لسان الاخبار من التعبير عن الخبرين المختلفين ولعلها من اصطلاحات العلماء كما لا يخفى لمن له أدنى تتبع فيها تأمل -
46

ان يكون قوله في ذيلها: وفي رواية (إلخ) اختلاف نسخ هذه الرواية (1).
الرابعة ما عن الطبرسي عن الحارث بن المغيرة (2) عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلهم ثقة فموسع عليك حتى ترى القائم فترد إليه (3).
وفي كونه من اخبار الباب أيضا إشكال لاحتمال ان يكون المراد جواز العمل بخبر الثقة، وليس فيه دلالة على التوسعة والتخيير في الروايتين المتعارضتين ولا يدل قوله:
«كلهم ثقة» على تعدد الرواية فضلا عن تعارضها (4) وبالجملة لا يمكن الاستدلال بهذه الرواية لما نحن فيه - تأمل (5).
الخامسة وعنه عن الحسن بن الجهم عن الرضا عليه السلام قال قلت يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ولا نعلم أيهما حق؟ قال: فإذا لم تعلم فموسع عليك بأيهما أخذت» (6) لا إشكال في دلالتها على التخيير في الحديثين المختلفين مطلقا كما لا يبعد جبر سندها بعمل الأصحاب على تأمل.
السادسة مرسلة الكليني حيث قال في ذيل موثقة سماعة الآتية في اخبار التوقف وفي رواية أخرى بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك» (7) ويحتمل ان لا تكون رواية

(1) وعليه فتسقط الرواية عن الاعتبار -
(2) الرجل موثق -
(3) الوسائل - كتاب القضاء - الباب 9 - من أبواب صفات القاضي - الرواية 44 - ولا يخفى انها مرسلة -
(4) أضف إلى ذلك ان تعبير الامام عليه السلام «الحديثين» ب‍ «الحديث» في غاية البعد، ويحتمل أيضا اختصاصها بزمان الحضور تأمل -
(5) وجهه ان العمل يخبر الثقة واجب وليس بموسع فلابد من حمله على مورد التعارض فيكون من اخبار الباب، تأمل (نه دام ظله)
(6) الوسائل - كتاب القضاء - الباب 9 - من أبواب صفات القاضي - الرواية 43 - ولا يخفى انها مرسلة وانجبارها بعمل الأصحاب مشكل جدا -
(7) الوسائل - كتاب القضاء - الباب 9 - من أبواب صفات القاضي - الرواية 6 -
47

مستقلة بل إشارة إلى مضمون بعض ما تقدم.
السابعة ما عن الفقه الرضوي: والنفساء تدع الصلاة أكثره مثل أيام حيضها (إلى ان قال): وقد روى ثمانية عشر يوما وروى ثلاثة وعشرون يوما وبأي هذه الأحاديث أخذ من باب التسليم جاز (1) والمظنون كون هذا الكتاب من تصنيف بعض العلماء المطلع على الأحاديث وقد جمع بين شتات الاخبار باجتهاده وروى مضمونها كما يظهر للمتدبر فيه، ولا يبعد ان يكون قوله هذا مأخوذا من الروايات لا رواية مستقلة و (منها) رواية الميثمي المروي عن عيون الاخبار وسنذكرها في ذيل اخبار الإرجاء.
وقد تحصل مما قدمنا ان ما دلت على التخيير وسلمت عن الإشكال دلالة ويمكن دعوى جبرها سندا على تأمل
رواية واحدة هي رواية الحسن بن الجهم، ولا أدري كيف ادعى الشيخ الأنصاري دلالة الاخبار المستفيضة بل المتواترة عليه.
في مفاد اخبار التخيير
ثم - ان اخبار التخيير مع قطع النظر عن معارضاتها لا تدل الا على جواز الأخذ بأحدهما، اما مثل قوله: «فموسع عليك بأيهما أخذت» فواضح، لأنه يدل على التوسعة في الأخذ مقابل التضييق الذي يحكم به العقل والعقلاء بمقتضى الأصل الذي عرفت انه سقوطهما عن الحجية (ودعوى) ان جواز الأخذ مساوق لوجوبه لأن أحدهما ان لم يكن حجة فلا يجوز الأخذ به وان كان حجة فيجب (ممنوعة) لأنهما وان كانا غير حجتين بحسب حكم العقل لكن يجوز الأخذ بأحدهما بدليل وحجة وهو اخبار التخيير، وبالجملة ان جواز الأخذ بأحدهما ليس من حيث حجيته في حال التعارض بل بعد سقوطهما معا بحكم العقل يدل اخبار العلاج على التوسعة في الأخذ بأحدهما.
ومما ذكرنا يتضح انه لو ورد دليل بلفظ الأمر أو فرض اعتبار المرفوعة المعتبرة بالجملة الإنشائية أو الاخبارية في مقام الإنشاء على اختلاف في قوله فتخير أحدهما فلا يدل على

(1) المستدرك - كتاب القضاء - الباب 9 - من أبواب صفات القاضي - الرواية 12 -
48

الوجوب لوروده في مقام حكم العقل بالحظر فلا يستفاد منه إلا رفعه فالقول بوجوب الأخذ بأحدهما على سبيل التخيير تمسكا بالروايات المتقدمة كأنه في غير محله. هذا حال اخبار التخيير.
في نقل اخبار التوقف
واما اخبار التوقف:
فمنها موثقة سماعة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في امر كلاهما يرويه أحدهما يأمر بأخذه والاخر ينهاه عنه كيف يصنع؟ قال: يرجئه حتى يلقى من يخبره فهو في سعة حتى يلقاه» قال الكليني قدس سره وفي رواية أخرى: بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك (1).
ويرجئه من أرجأت الأمر إذا آخرته ومنه قوله تعالى «أرجه وأخاه» ولو لا قوله:
فهو في سعة حتى يلقاه، كان الظاهر رجوع ضمير يرجئه إلى الأمر لكن معه يرجع إلى الأخذ فالمعنى يؤخر الأخذ بواحد منهما حتى يلقى من يخبره فهو في الواقعة في سعة حتى يلقاه ولا يوجب ورود مثل الخبرين المتعارضين الضيق عليه.
والظاهر اتحاد هذه الموثقة مع ما روى الطبرسي عن سماعة عن أبي عبد الله عليه السلام قلت: «يرد علينا حديثان، واحد يأمرنا بالاخذ به والاخر ينهانا عنه، قال: لا تعمل بواحد منهما حتى تلقى صاحبك فتسأله، قلت لا بد ان نعمل بواحد منهما قال: خذ بما فيه خلاف العامة» (2) وانما نقل سماعة أو أحد الرواة بالمعنى لاتحاد الراوي والمروي عنه وتشابه ألفاظهما (نعم) يختلف ذيلهما، وعلى أي حال يكون معنى يرجئه يؤخره ولا يعمل بواحد منهما.
ومنها ذيل مقبولة عمر بن حنظلة الآتية قال: قلت: فان وافق حكامهم الخبرين جميعا، قال: إذا كان ذلك فارجئه حتى تلقى إمامك فان الوقوف عند الشبهات خير

(1) الوسائل - كتاب القضاء - الباب 9 - من أبواب صفات القاضي - الرواية 6 -
(2) الوسائل - كتاب القضاء - الباب 9 - من أبواب صفات القاضي - الرواية 4 -
49

من الاقتحام في الهلكات» (1).
ضمير أرجئه يرجع إلى الأخذ المستفاد من الكلام السابق أي لا تعمل بواحد منها فان مضمون كل منهما مشتبه والوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات، ويحتمل ان يكون المراد بالشبهة هو الأخذ بالخبر والاستناد إليه، أي لا تعمل بواحد منهما حتى تلقى إمامك فان الأخذ بكل منهما من حيث الاستناد والأخذ شبهة والوقوف عندها خير.
ومنها ما عن محمد بن إدريس في آخر السرائر نقلا من كتاب مسائل الرجال لعلي بن محمد ان محمد بن علي بن عيسى كتب إليه يسأله عن العلم المنقول إلينا عن آبائك وأجدادك قد اختلف علينا فيه فكيف العمل به على اختلافه والرد إليك فيما اختلف فيه فكتب «ما علمتم انه قولنا فالزموه وما لم تعلموا فردوه إلينا (2) وقريب منها ما في المستدرك عن محمد بن الحسن الصفار في البصائر (3) وكأنهما رواية واحدة لتقارب ألفاظهما وكأنه وقع اشتباه في بعض ألفاظ رواية الصفار فراجع وتأمل، وعلى أي حال يحتمل ان يكون المراد من الرد إليهم هو ترك العمل بهما فلا يختص بزمان التمكن من اللقاء أو إرجاع الرواية إليهم فيختص به والأول أقرب.
ومنها رواية الميثمي (4) المشار إليها في اخبار التخيير فإنه استدل بها للتوقف أيضا وسيأتي الكلام فيها.

(1) الوسائل - كتاب القضاء - الباب 9 - من أبواب صفات القاضي - الرواية 1 -
(2) الوسائل - كتاب القضاء - الباب 9 - من أبواب صفات القاضي - الرواية 39 -
(3) عن محمد بن عيسى قال: أقرأني داود بن فرقد الفارسي كتابه إلى أبي الحسن الثالث عليه السلام وجوابه بخطه، فقال: نسألك عن العلم المنقول إلينا عن آبائك وأجدادك قد اختلفوا علينا فيه كيف العمل به على اختلافه إذ أفرد إليك فقد اختلف فيه، فكتب وقرأته:
ما علمتم انه قولنا فالزموه وما لم تعلموا فردوه إلينا - راجع المستدرك - كتاب القضاء - الباب 9 - من أبواب صفات القاضي وما يجوز ان يقضى به - الرواية 10 -
(4) راجع الوسائل - كتاب القضاء - الباب 9 - من أبواب صفات القاضي - الرواية 24 -
50

اختيار الشيخ في جمع الاخبار وما فيه
فهذه جملة من الروايات المستدل بها للتخيير والتوقف، وقد اختلف إنظار المحققين في الجمع بينها، اختار شيخنا المرتضى تبعا لبعض الجمع بينها بحمل اخبار الإرجاء والتوقف على صورة التمكن من الوصول إلى الإمام كما يظهر من بعضها قال: «فيظهر منها ان المراد ترك العمل وإرجاء الواقعة إلى لقاء الإمام، لا العمل فيها إلى الاحتياط» وهذا لا يخلو من بعد وإشكال لأن المراد من التمكن اما ان يكون التمكن الفعلي في حال حضور الواقعة ووقت العمل بان يكون الإمام حاضرا في البلد مثلا فهو مخالف لسوق الاخبار، لأن الظاهر منها السؤال عن الواقعة المختلفة فيها الاخبار منهم وكان السائل متحيرا في حكمها لأجله وليس له طريق إلى حكمها يحسم مادة الخلاف والإشكال ولهذا ترى ان سماعة يقول: «لا بد لنا من العمل بأحدهما فأجاب بأنه خذ بما فيه خلاف العامة».
واما ان يكون المراد التمكن ولو في المستقبل في مقابل عدم التمكن مطلقا فحمل اخبار التخيير عليه بعيد، فان حمل مثل رواية ابن الجهم التي هي العمدة في الباب على عدم التمكن مطلقا حمل على الفرد النادر بل من قبيل خروج المورد، خصوصا إذا قلنا بان المراد من قوله في موثقة سماعة: «يرجئه حتى يلقى من يخبره» أعم من لقاء الإمام أو من هو من بطانته وفقهاء أصحابه ممن يعرف فتاواه الصادرة لأجل بيان الحكم الواقعي أو لغيره كما لا يبعد، وحمل اخبار التخيير على زمان الغيبة أبعد مع انه ورد في خبر الحارث بن المغيرة نظير ما في اخبار التوقف لو كان من اخبار التخيير كما عدوه، وبالجملة في كون هذا الجمع عرفيا مقبولا إشكال (1).

(1) قد يقال في الجمع بين اخبار باب التعارض بما يرجع إلى ما قاله الشيخ نتيجة غير انه بتقريب آخر ومحصله: ان اخبار الباب على طوائف أربع: الأولى ما تدل على التخيير مطلقا، والثانية ما تدل على التخيير في زمن الحضور، والثالثة ما تدل على التوقف في زمن الحضور، الرابعة ما تدل على التوقف مطلقا وان لم أقف على رواية تدل عليه ولكن حكى ما يدل على ذلك، والتحقيق في الجمع بينها ان النسبة بين الأولى والثانية وكذا الثالثة والرابعة وان كانت عموما مطلقا الا انه لا تعارض بينهما، فالتعارض بين الأولى والرابعة بعموم من وجه و
بين الثانية والثالثة بالتباين ولا يهمنا البحث عن رفع التعارض بين ما دل على التوقف والتخيير في زمان الحضور لأنه لا أثر له، ونسبة الأولى والثالثة هي العموم والخصوص فيقيد إطلاق الأولى بالثالثة أي بغير زمان الحضور فتنقلب النسبة حينئذ بين الأولى والرابعة إلى العموم المطلق وصناعة الإطلاق والتقييد يقتضى حمل اخبار التوقف على زمان الحضور والتمكن من ملاقاة الإمام فيرتفع التعارض من بينها وتكون النتيجة هي التخيير في زمان الغيبة ويرد عليه أولا انه لا تكون النسبة بين ما تدل على التخيير مطلقا وبين ما تدل على التوقف كذلك عموما من وجه لأن التخيير انما هو عدم التوقف وهل النسبة بين التوقف وعدمه عموم من وجه؟ تأمل.
وثانيا كما ان النسبة بين الأولى والثالثة هي العموم والخصوص فكذلك النسبة بين الثانية والرابعة وصناعة الإطلاق والتقييد تقتضي تقييد اخبار التوقف مطلقا بزمان الغيبة فيعود التعارض بين الأدلة على حاله كما تفطن عليه مقرره فراجع - وثالثا ان ما تدل على التوقف في زمان الحضور يعارض ما تدل على التخيير في هذا الزمان ومع ابتلائهما بالمعارضة كيف يصلح ان يكون الأول مقيدا لإطلاق أدلة التخيير مطلقا أو الثاني مقيدا لإطلاق ما تدل على التوقف مطلقا؟
51

وأشكل منه ما اختاره شيخنا العلامة أعلى الله مقامه وهو حمل اخبار التوقف على النهي عن تعيين مدلول الخبرين بالمناسبات الظنية وهذا لا ينافي التخيير عملا فقد تصدى لتشييد ما أفاده فراجع (1).
(وفيه) ان هذا الحمل لو تمشي في بعض اخبار التوقف فلا يتمشى في بعض آخر فكيف يمكن حمل قوله في خبر سماعة: «لا تعمل بواحد منهما حتى تلقى صاحبك» على النهي عن كشف مدلولهما بل لا يتمشى ذلك في المقبولة وموثقة سماعة لما عرفت من ان معنى الإرجاء لغة وعرفا هو تأخير الأخذ بالخبرين وترك العمل بهما (نعم) حمل رواية الميثمي على ذلك غير بعيد وسيأتي التعرض لها، لكن لا تكون شاهدة على حمل

(1) ولا يخفى ان ما اختاره رحمه الله في الجمع بين الاخبار هو اختيار جل القدماء وصاحب الحدائق أيضا.
52

البقية على ذلك لعدم إمكانه مع انه لا منافاة بين وجوب رد علم الحديثين إليهم وعدم جواز العمل بهما (1).
وجه الجمع بين الاخبار
والذي يمكن ان يقال: ان اخبار التخيير نص في جواز الأخذ بأحدهما، واخبار التوقف ظاهرة في وجوب الإرجاء وحرمة العمل بهما ومقتضى القاعدة حمل روايات التوقف على رجحانه ومرجوحية العمل وحمل اخبار التخيير على الجواز.
بل يمكن ان يقال: ان قوله في ذيل المقبولة: «أرجئه حتى تلقى إمامك» معللا بقوله: «فان الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات» ومسبوقا بتثليث الأمور وقوله: «فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرمات وهلك من حيث لا يعلم» امر إرشادي إلى ما هو أصلح بحال المكلف فان الأقرب ان قوله:
«فمن ترك الشبهات» إرشاد إلى ان أخذ النفس عند الشبهات وردعها عن ارتكابها موجب لتنزهها عن الوقوع في المحرمات ونجاتها عن الهلكة وإرخاء عنانها في الشبهات واعتيادها بالاخذ بها وارتكابها موجب قهرا لا جترائها على المولى وتهون المحرمات عندها وهو موجب للوقوع فيها والهلاك من حيث لا يعلم أي من جهة وسبب لا يعلم ثم بعد ذلك يصير قوله: أرجئه حتى تلقى إمامك (إلخ) ظاهرا في الإرشاد بما يتخلص به عن الاقتحام في الهلكة.

(1) وقد ذكر في المقام وجوه اخر للجمع بين الاخبار كحمل اخبار التخيير على حقوق الله واخبار التوقف على حقوق الناس أو التوقف على المتناقضين والتخيير على غير هما أو حمل التخيير على ما كان المتعارضان في العبادات والإرجاء على ما كانا في المعاملات أو حمل إحداهما على ما كان مختار أو الأخرى على ما كان مضطرا وغير ذلك، ولا يخفى انه لا وجه لها لأنها انما نشأت من بعض خصوصيات لم تكن علة حقيقية كسؤال الراوي في مقبولة عمر بن حنظلة الآمرة بالتوقف عن حقوق الناس وكورود بعض روايات التخيير في المتناقضين وأمثال ذلك، وغير خفي ان المورد لم يكن مخصصا -
53

واما ما يقال: ان الجمع بين الإرجاء والتوسعة في موثقة سماعة مع كون موردها الدوران بين المحذورين دليل على ان الإرجاء ليس في العمل بل في الفتوى وان التوسعة في العمل «ففيه» ان المظنون ان الموثقة عين ما عن الطبرسي كما أشرنا إليه مع ان فيه:
«لا تعمل بواحد منهما» في جواب قوله: «يرد علينا حديثان واحد يأمرنا بالاخذ به والاخر ينهانا عنه» فعلم من ذلك ان المورد لا يلزم ان يكون من الدوران بين المحذورين كما لو ورد خبر بان الحبوة للولد الأكبر فأعطوها إياه وآخر بأنها ليست له فلا تعطوها إياه، ففي مثل تلك الواقعة يمكن تأخيرها والاحتياط في العمل بالصلح أو تأخيرها إلى لقاء الإمام والتخيير في العمل.
وبالجملة لا تكون الموثقة شاهدة لهذا الجمع مع إباء رواية الطبرسي عن ذلك بل إباء الموثقة عنه أيضا، لما عرفت ان معنى الإرجاء هو التأخير وترك العمل.
وقد يستشهد برواية الميثمي على الجمع بين الروايات بحمل اخبار التخيير على التخيير في المستحبات والمكروهات وحمل اخبار الإرجاء على غيرهما، والمناسب نقل هذه الرواية الشريفة بطولها حتى يتضح بطلان هذه الدعوى، فعن عيون الاخبار بإسناده عن أحمد بن الحسن الميثمي انه سئل الرضا عليه السلام يوما وقد اجتمع عنده قوم من أصحابه وقد كانوا يتنازعون في الحديثين المختلفين عن رسول الله في الشيء الواحد، فقال: ان الله حرم حراما وأحل حلالا وفرض فرائض فما جاء في تحليل ما حرم الله وفي تحريم ما أحل الله أو دفع فريضة في كتاب الله رسمها بين قائم بلا نسخ نسخ ذلك، فذلك ما لا يسع الأخذ به، لأن رسول الله لم يكن ليحرم ما أحل الله ولا ليحلل ما حرم الله ولا ليغير فرائض الله وأحكامه كان في ذلك كله متبعا مسلما مؤديا عن الله، وذلك قول الله تعالى:
ان اتبع الا ما يوحى إلى، فكان متبعا لله مؤديا عن الله ما امره به من تبليغ الرسالة، قلت: فإنه يرد عنكم الحديث في الشيء عن رسول الله مما ليس في الكتاب وهو في السنة ثم يرد خلافه، فقال: كذلك قد نهى رسول الله عن أشياء نهى حرام فوافق في ذلك نهيه نهى الله وامر بأشياء فصار ذلك الأمر واجبا لازما كعدل فرائض الله فوافق في ذلك امره امر الله فما جاء في النهي عن رسول الله نهى حرام ثم جاء خلافه لم يسع استعمال ذلك وكذلك فيما امر به لأنا لا نرخص فيما لم يرخص
54

فيه رسول الله ولا نأمر بخلاف ما امر به رسول الله الا لعلة خوف ضرورة فاما ان نستحل ما حرم رسول الله أو نحرم ما استحل رسول الله فلا يكون ذلك أبدا لأنا تابعون لرسول الله مسلمون له كما كان رسول الله تابعا لأمر ربه مسلما له وقال الله عز وجل: «ما آتيكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا» وان الله نهى عن أشياء ليس نهى حرام بل إعافة وكراهة وامر بأشياء ليس بأمر فرض ولا واجب بل امر فضل ورجحان في الدين ثم رخص في ذلك للمعلول وغير المعلول فما كان عن رسول الله نهى إعافة أو امر فضل فذلك الذي يسع استعمال الرخصة فيه إذا ورد عليكم عنا الخبر فيه باتفاق يرويه من يرويه في النهي ولا ينكره وكان الخبران صحيحين معروفين باتفاق النقلة فيهما يجب الأخذ بأحدهما أو بهما جميعا أو بأيهما شئت وأحببت موسع ذلك لك من باب التسليم لرسول الله والرد إليه وإلينا وكان تارك ذلك من باب العناد والإنكار وترك التسليم لرسول الله مشركا بالله العظيم، فما ورد عليكم من خبرين مختلفين فاعرضوهما على كتاب الله، فما كان في كتاب الله موجودا حلالا أو حراما فاتبعوا ما وافق الكتاب وما لم يكن في الكتاب فاعرضوه على سنن رسول الله فما كان موجودا منهيا عنه نهى حرام ومأمورا به عن رسول الله امر إلزام فاتبعوا ما وافق نهى رسول الله وأمره وما كان في السنة نهى إعافة أو كراهة ثم كان الخبر الأخير خلافه فذلك رخصة في ما عافه رسول الله وكرهه ولم يحرمه فذلك الذي يسع الأخذ بهما جميعا وبأيهما شئت وسعك الاختيار من باب التسليم والاتباع والرد إلى رسول الله، وما لم تجدوه في شيء من هذه الوجوه فردوا إلينا علمه فنحن أولى بذلك، ولا تقولوا فيه بآرائكم وعليكم بالكف والتثبت والوقوف وأنتم طالبون باحثون حتى يأتيكم البيان من عندنا.
قال الشيخ الحرفي الوسائل (1): «أقول ذكر الصدوق انه نقل هذا من كتاب الرحمة لسعد بن عبد الله وذكر في الفقيه انه من الأصول والكتب التي عليها المعول وإليها المرجع» (2).

(1) كتاب القضاء - الباب 9 - من أبواب صفات القاضي وما يجوزان يقضى به - الرواية 24 -
(2) ولا يخفى ان محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رواها عن سعد بن عبد الله وهو عن محمد بن عبد الله المسمعي وقال الصدوق: ان شيخنا كان سئ الرأي بالنسبة إلى المسمعي ولكنني قد أخذت الحديث من كتاب الرحمة لسعد بن عبد الله وهو من الأصول والكتب المعول عليها وعرضته على شيخي ابن الوليد ولم يردعه، وكان قدس سره تابعا لما عليه شيخه في الجرح والتعديل.
55

أقول: صدر الحديث يدل على ان الأحاديث الواردة عن رسول الله إذا كانت مخالفة لتحليل الله وتحريمه وفرائضه ومحرماته يجب طرحها، وما ورد عن الأئمة إذا كان كذلك أو مخالفة للأمر والنهي الإلزاميين الواردين عن رسول الله لا يجوز استعماله ويجب طرحه، واما ما ورد في الكتاب والسنة من الا وامر غير الإلزامية والنواهي كذلك ووردت الرخصة من رسول الله صلى الله عليه وآله أو الأئمة عليهم السلام فذلك الذي يجوز استعماله والأخذ به، ثم ذكر الحديثين المختلفين وبين الأمر فيهما على هذا المنوال.
ولا يخفى ان الرخصة والتخيير فيه غير التخيير في الأخذ بإحدى الروايتين المتعارضتين لأن الرخصة والتخيير في امر الفضل ونهى الإعافة الذي يسع استعمال الرخصة فيه ويكون المكلف مخيرا في الأخذ بأحدهما أو جميعهما ليستا الا لأجل عدم المنافاة بين امر الفضل والرخصة في الترك ونهى الإعافة والرخصة في الفعل، فجعل هذه الرواية شاهدة للجمع المتقدم ضعيف كما ان عدها من اخبار التخيير كذلك (نعم) ذيلها ظاهر في وجوب رد الخبرين إليهم وعدم جواز القول فيهما بالآراء والأهواء والاجتهادات الظنية إذا لم نجدهما على أحد الوجوه المتقدمة وذلك لا ينافي التخيير والتوسعة في العمل كما لا ينافي رجحان التوقف وترك العمل بواحد منهما والاحتياط في العمل.
فتحصل مما ذكرنا ان المستفاد من مجموع الروايات بعد رد بعضها إلى بعض ان المكلف مرخص في العمل
بواحد من المتعارضين مخير فيهما على سبيل التوسعة، والأرجح له الوقوف والاحتياط فان الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات، وليس له الاستبداد بالرأي في تخريج الحكم الواقعي بالاجتهادات والظنون غير المعتبرة عند العقلاء المنهي عنها في الشرع، وهذا لا ينافي جواز الأخذ بأحد الخبرين والفتوى على طبقه كما هو مفاد اخبار التخيير لأنه بمقتضى الحجة وهي تلك الاخبار وسيأتي مزيد توضيح لذلك إن شاء الله.
في ان التخيير في المسألة الأصولية بقي التنبيه على أمور:
الأول
- لا إشكال في ان التخيير بالاخذ بأحد الخبرين ليس من قبيل التخيير في
56

المسألة الفرعية بل في المسألة الأصولية، ضرورة ان الأخذ بخبر الثقة أخذ بما هو حجة في الفقه ووجوب الأخذ بأحد الخبرين يجعله حجة على الواقع فيكون تخييرا في المسألة الأصولية، انما الكلام في ان معنى التخيير في المسألة الأصولية هل هو جعل أحد الخبرين طريقا وأمارة إلى الواقع، أو يكون من قبيل الأصل المعول عليه لدى الشك في الوظيفة، أو لا ذاك ولا ذلك كما سنشير إليه.
ويرد على الأول اما أولا - فلان جعل الطريقية والكاشفية مما لا يمكن كما مر الكلام فيه في مباحث الظن واما ثانيا - فعلى فرض إمكانه فلا يمكن فيما نحن فيه لأدائه إلى جعل الطريق إلى المتناقضين فان أحد الخبرين المتعارضين إذا دل على وجوب شيء والاخر على حرمته فجعل الشارع أحدهما طريقا فاختار أحد المجتهدين أحدهما والاخر الاخر لازمه ان يكون كل منهما طريقا إلى الواقع فينجر إلى جعل الطريق الفعلي إلى المتناقضين، هذا، مع ان جعل الطريقية لأحدهما على سبيل الإبهام وجعل المكلف مخيرا بحيث تكون الطريقية منوطة بأخذ المكلف كما ترى.
ويمكن ان يستدل على الثاني بان ظاهر أدلة التخيير يقتضى ذلك لأن مفادها التوسعة للجاهل بالواقع، فهل مفاد قوله في رواية ابن الجهم: «فإذا لم تعلم فموسع عليك بأيهما أخذت» الا كمفاد قوله: «الناس في سعة ما لا يعلمون» فمفادها ليس الا تعيين الوظيفة لدى الشك في الواقع فيكون من قبيل الأصل المعول عليه لدى الشك وهذا لا ينافي كون أحد الخبرين حجة على الواقع بعد إيجاب العمل على طبقه أو حجة للعبد إذا كان مفاد الأدلة التوسعة في الأخذ، لأن الحجة على الواقع غير الأمارة عليه، كما انه لو أوجب المولى الاحتياط في الشبهة البدوية فيصير حجة على الواقع بعد إيجابه ولا يمكن ان يكون طريقا إليه لأن نسبته إلى الواقع ومقابله على السواء، ففي ما نحن فيه ان أوجب الشارع الأخذ بأحدهما لا يجوز للعبد تركهما. فان ترك وصادف مخالفة الواقع يصح عقابه وليس له الاعتذار، كما انه لو عمل على طبق أحدهما وتخلف عن الواقع ليس للمولى عقوبته فيكون أحدهما حجة لا بجعل الحجية كما توهم بل بنفس إيجاب العمل، فتحصل من ذلك ان مفاد الأدلة هو كون التخيير من قبيل الأصل المعول عليه لدى الشك هذا لكن
57

لازم ذلك عدم جواز الأخذ باللوازم العادية والعقلية لأحد المتعارضين وهو كما ترى لا يمكن الالتزام به ولا يلتزمون به.
والتحقيق ان يقال: ان المتفاهم من أدلة الترجيح والتخيير لدى التعارض ان إيجاب العمل على طبق الخبر ذي المزية أو أحدهما إذا تكافئا أو التوسعة في الأخذ بأحدهما ليس الا من حيث كونه خبرا كاشفا عن الواقع وانهما وان تساقطا بنظر العرف لكن لم يتساقطا بنظر الشارع، بل وجوب الأخذ بأحدهما معينا أو مخيرا في حال التعارض كوجوبه قبله، وبالجملة أوجب الشارع العمل به لكونه ذاتا طريقا إلى الواقع، وإيجاب العمل بهذا اللحاظ لا محذور فيه وليس كجعل الطريقية الفعلية إلى المتناقضين.
والحاصل ان العرف يفهم من قوله: «إذا لم تعلم فموسع عليك بأيهما أخذت» ان له الأخذ بأحدهما في حال التعارض كأخذه به قبله، فكما كان يأخذ به وبلوازمه قبله فكذا الحال، وهذا لا ينافي جعل الوظيفة في حال الشك لأن حاصله ان الوظيفة في حال الشك في صدق أحد الخبرين هو الأخذ بأحدهما بما لهما من المفاد مطلقة والتزاما فالوظيفة هو الأخذ بأحد الطريقين بما هو طريق عقلائي فتدبر جيدا.
في حكم تخيير القاضي والمفتي في عمله وعمل مقلديه
الثاني بعد ما عرفت ان التخيير انما هو في المسألة الأصولية وليس من قبيل التخيير في الأماكن الأربعة بين القصر والإتمام فاعلم: انه لا إشكال في تخيير المجتهد في عمل نفسه كما لا إشكال في ان القاضي في مقام فصل الخصومة ليس له تخيير المتحاكمين، لأن فعل الخصومة انما هو بحكمه لا بفتواه فلا بد له من الأخذ بأحدهما ويحكم على طبقه لتفصل الخصوصة.
انما الكلام في المفتي بالنسبة إلى مقلديه فهل التخيير مختص به لكونه في المسألة الأصولية ولكون الخطاب بقوله: «فإذا لم تعلم فموسع عليك» متوجها إليه بان يقال:
ان من يأتيه الخبران ويجيئه الحديثان المختلفان هو المجتهد لا العامي، ويؤيده بل يدل عليه ان الترجيحات انما هي للمجتهدين ويكون نظر المجتهد فيها معتبرا لا العامي
58

فلا بد للمجتهد من اختيار أحدهما والإفتاء به ورجوع العامي به في المسألة الفرعية، أو يشترك العامي مع المجتهد في جميع المسائل الأصولية والفرعية لعدم الدليل على الاختصاص به بل الأدلة ظاهرة في خلافه، ومجئ الخبر لدى المجتهد لا العامي على فرض تسليمه لا يدل على اختصاصه بالحكم كما ان جميع الأدلة في الفروع والأصول تقوم لدى المجتهد ولم تكن مختصة به، بل الظاهر من قوله في رواية ابن الجهم: «فإذا لم تعلم فموسع عليك بأيهما أخذت» ان الحكم الكلي لكل مكلف هو جواز العمل على طبق أحدهما وان هذه التوسعة حكم لجميع المكلفين كما ان الحال كذلك في جميع اخبار العلاج (نعم) يكون نظر المجتهد متعبا في تشخيص موارد الترجيح والتكافؤ لقصور نظر العامي عنه واما حكم المتعادلين أو ذي المزية فلم يكن مختصا به، وبالجملة ما يختص بالمجتهد هو الاجتهاد وبذل الجهد في تشخيص الترجيح والتعادل لا الحكم الكلي فإنه مشترك بين العباد وهذا هو الأقوى.
ثم انه بناء على عدم اختصاص التخيير بالمجتهد فهل يجب عليه الفتوى بالتخيير؟ أو يتخير بين ذلك وبين الأخذ بأحدهما والفتوى على طبقه؟ الظاهر هو الثاني، اما جواز الأخذ بأحدهما والفتوى على طبقه لأنه من شؤون التوسعة على الأخذ بأحدهما، فكما ان له الأخذ بأحدهما للعمل له الأخذ به للفتوى.
وان شئت قلت: كما ان أحد الخبرين حجة على المجتهد في عمل نفسه بناء على وجوب الأخذ وحجة له بناء على جوازه يكون حجة له في جواز الإفتاء به فيكون فتواه على طبق أحدهما فتوى بالحجة وعن الحجة وليست المسألة كالمسائل الفرعية، حيث يجب عليه الفتوى بالتخيير لا التعيين، لأن في هذه المسألة يكون مأمورا بالاخذ بأحدهما أو يكون الأخذ موسعا عليه، والأخذ بأحدهما حكمه جواز الإفتاء كجواز العمل، وفي الحكم الفرعي يكون التخيير الواقعي مشتركا بين العباد أي ان المكلفين مشتركون في العمل، وبالجملة ان هذه التفرقة جاءت
من التفرقة بين المسألة الأصولية والفرعية.
واما جواز الإفتاء بالتخيير فلان المجتهد لما رأى ان الحكم المشترك بين العباد وجوب العمل على طبق أحد الخبرين أو التوسعة لهم في الأخذ بأحدهما يفتى بهذا
59

الأمر أي التخيير بين الإتيان بصلاة الظهر أو الجمعة لأن التخيير في الأخذ بأحد الخبرين ليس الا التخيير في إتيان مضمونها ولا فرق من هذه الجهة بين المسألة الأصولية والفرعية ولا يجب عليه إعلام المقلدين بأنهم مخيرون في المسألة الأصولية (نعم) يجوز له الإفتاء بالمسألة الأصولية أيضا بان يفتى بجواز العمل على طبق أحد الخبرين بعد إحراز التعادل بينهما.
وما يقال ان العمل لا بد وان يكون بعنوان الأخذ بأحد الخبرين فلا بد للمجتهد اما ان يأخذ بأحدهما ويفتى على مضمونه ويكون المعول عليه للمقلد في وجوب الأخذ بأحدهما فتوى المجتهد وفي العمل في أحد الخبرين، واما الفتوى بالتخيير فلا يجوز الا في التخيير في المسألة الفرعية التي يكون المأمور به فيها هو نفس الواقع فيرجع إلى جواز إتيان صلاة الظهر وأو صلاة الجمعة مثلا وللمفتي ان يفتى بذلك وان شئت قلت ان وجوب الأخذ بالخبر طريقي لا نفسي والفتوى بالواقع لوجوبه الطريقي.
في ان التخيير بدوي أو استمراري
الثالث هل التخيير استمراري أو بدوي؟ اختار الشيخ الأعظم ثانيهما واستشكل في إطلاق أدلة التخيير واستصحابه، والحق هو الأول لإطلاق الدليل وجريان الاستصحاب لأن غاية ما يمكن ان يقال في بيان إهمالها: ان للمكلف شكين: أحدهما - الشك في وظيفته عند مجيء الخبرين المتعادلين، وثانيهما - الشك في خصوصياتها بعد تعيين أصل الوظيفة من كون الأخذ بدويا أو استمراريا ولا إشكال في ان السائل في أدلة التخيير كان شاكا في أصل الوظيفة وانه لدى تعادل الخبرين ما يصنع؟ فإذا أجيب بأنه مخير في الأخذ بأحدهما ينشأ له شك آخر في كيفية التخيير وانه دائمي أولا، وهذا موضوع آخر وشك آخر مسكوت عنه في أدلة التخيير سؤالا وجوابا، وبالجملة تكون روايات التخيير في مقام بيان أصل الوظيفة لا كيفيتها - هذا.
لكن الإنصاف ان رواية ابن الجهم التي هي المعول عليها في الباب تدل على ان المكلف ما لم يعلم فموسع عليه بأيهما أخذ، فعلق فيها التوسعة على عدم العلم بحقية
60

أحدهما والظاهر منها ان غاية التوسعة والتخيير هو حصول العلم بحقية أحدهما لا الأخذ بأحدهما مع بقاء الجهل بالواقع، وان شئت قلت: ان ابن الجهم وان كان شاكا في أصل الوظيفة لكن الإمام عليه السلام أجاب بما يفهم منه الوظيفة وكيفيتها جميعا لتعليقه التوسعة على عدم العلم بالواقع وحقية أحدهما.
وما قد يقال: ان قوله: «فإذا لم تعلم» انما هو لفرض السائل عدم العلم بالحق فجرى كلامه على طبق السؤال من غير نظر إلى بيان الغاية (فكلام شعري) واحتمال لا يصادم ظهور الشرطية، ولا يجوز رفع اليد عن ظاهر الكلام لأجله (1).
ومثلها أو أظهر منها في ذلك رواية الحارث بن المغيرة حيث قال ابتداء: «إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلهم ثقة فموسع عليك حتى ترى القائم فترد إليه» بناء على كونها من روايات الباب حيث جعل غاية التوسعة لقاء الإمام والرد إليه واحتمال كون التوسعة إلى لقائه فيها أو التوسعة ما لم يعلم في رواية ابن الجهم انما هي التوسعة في الأخذ ابتداء لا بعد الأخذ كما ترى مخالف لظاهرهما.
في إشكال الشيخ على الاستصحاب وجوابه
فتحصل مما ذكرنا ان أدلة التخيير تقتضي كونه استمراريا وعلى فرض عدم إطلاقها فهل يجوز التمسك بالاستصحاب أم لا؟ استشكل شيخنا المرتضى فيه بدعوى تغير الموضوع لأن الثابت سابقا ثبوت الاختيار لمن لم يختر فإثباته لمن اختار والتزم إثبات للحكم في غير موضعه الأول.

(1) و (توهم) ان عدم العلم كما يزول بالعلم الوجداني كذلك يزول بالعلم التعبدي وحيث ان الحكم بالتخيير هنا عبارة عن جعل الطريقية لأحدهما فبعد اختياره يحصل العلم التعبدي بأنه الحق فيتحقق الغاية فلا يصدق انه لا يعلم أيهما حق (مدفوع) بان الحكم بالتخيير هنا عبارة عن جعل الوظيفة في مقام العمل لا جعل الطريق إلى الواقع، أضف إلى ذلك ان الحكم كما لا يمكنه إيجاد موضوعه بنفسه فكذلك لا يمكنه إعدامه أو تبدل موضوعه بموضوع آخر، وعليه فقوله:
فموسع عليك بأيهما أخذت، لا يعقل ان يتبدل موضوعه أي عدم العلم بالحق إلى العلم بالحق تأمل -
61

أقول: الشك الحاصل للمكلف تارة يكون من جهة الشك في كون التخيير استمراريا أولا بعد البناء على ان المسألة أصولية وان في المسألة الأصولية يجوز ان يكون التخيير بدويا واستمراريا (وأخرى) من جهة الشك في كون المسألة أصولية أو فقهية بعد البناء على انها ان كانت أصولية يكون التخيير بدويا وان كانت فقهية يكون استمراريا (وثالثة) من جهة الشك في كون الخطاب في المسألة الأصولية عاما، أو خاصا بالمجتهد، بعد البناء على انه لو كان عاما يكون التخيير استمراريا بخلاف ما لو كان خاصا به، فعلى الأول تارة يفرض كون الموضوع في أدلة التخيير هو ذات المكلف إذا لم يعلم الحق كما هو مفاد رواية ابن الجهم فان ظاهرها ان الحكم بالتوسعة لذات المكلف، وعدم العلم بالحق واسطة لثبوت الحكم له، وأخرى كونه غير العالم بالحق بوصفه العنواني، وثالثة كونه عنوان المتحير في وظيفته، ورابعة كونه عنوان من لم يختر لأحدهما.
والتحقيق جريان الاستصحاب في جميع الصور، اما في الصورتين الأوليين فواضح ولو فرض أخذ موضوع الاستصحاب من الدليل لبقائه قطعا، اما إذا كان ذات المكلف كما هو الحق فمعلوم، واما إذا كان عنوان غير العالم بان أيهما حق، فلان الأخذ بأحدهما لا يجعله عالما بحقية أحدهما، ضرورة ان حكمه بأخذ أحدهما ليس من باب حقيقته أو التعبد بذلك، بل انما هو من باب بيان الوظيفة في صورة الشك على ما ذكرنا في بعض الأمور المتقدمة.
واما في الصورتين الأخيرتين فلان الموضوع فيه عرفي، وعنوان المتحير أو الذي لم يختر وان كانا بحسب المفهوم الكلي مخالفا لعنوان مقابلهما لكن مصداقهما إذا وجدا في الخارج وصدق عليهما العنوانان يثبت لهما الحكم فإذا زال العنوان بقي الموضوع قطعا، لأن المكلف الموجود في الخارج إذا زال عنه عنوان المتحير لا ينقلب عما هو عليه عرفا فيكون إثبات حكم التخيير له بالاستصحاب إبقاء للحكم السابق لا إسراء من موضوع إلى آخر.
نعم لو أريد إثبات الحكم من عنوان المتحير لغيره يكون من إسرائه إلى موضوع آخر، لكن لا نريد الا إثبات التخيير لزيد وعمرو بعد كونه ثابتا لهما لأجل تطبيق العنوان
62

عليهما نظير كلية الأحكام الثابتة للعناوين الكلية السارية منها إلى المعنونات.
وعلى الأخيرتين أي فيما إذا كان منشأ الشك دوران الأمر بين مقطوع الزوال ومقطوع البقاء فجريانه أيضا بلا مانع لأنه اما من جهة بقاء الموضوع فقد تقدم الجواب عنه، واما من جهة دوران المستصحب بين مقطوعين فقد تقدم الجواب عنه في استصحاب القسم الثاني، واما من جهة الشك في المقتضى فقد مر الجواب عنه في محله.
في صور مجيء الخبرين المختلفين في الاخبار مع الواسطة
الرابع ان أدلة التخيير والترجيح مختصة بالخبرين المختلفين، وصور مجيء الخبرين ووصولهما إلينا كثيرة حاصلة من الاخبار مع الواسطة، فربما يرد علينا خبران ممتازان في جميع سلسلة السند كما لو كان لنا طريق إلى الكليني وهو إلى الإمام عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن حماد عن حريز عن زرارة عن أبي عبد الله،
وطريق آخر إلى الشيخ وهو إلى أبي عبد الله بطريق آخر غير طريق الكليني، وربما يرد علينا خبران مشتركان في جميع السلسلة فحدثنا الكليني بطريقه المتقدم بحديث وبما يخالفه، وقد يشتركان في بعض ويمتازان في بعض، وله صور كثيرة كالاشتراك في أول السلسلة أو وسطها أو آخرها.
ثم انه قد يحرز بالقرائن ان ما صدر من الإمام هو أحدهما وانما وقع الاختلاف من بعض النقلة وقد لا يحرز ذلك واحتمل صدورهما، وقد يحرز صدورهما، وأيضا قد يكون الاختلاف من جهة اختلاف نسخ الكتب لأجل الاشتباه الناسخين لا النقلة، وهذا قد يكون في الجوامع المتأخرة كالكتب الأربعة وقد يكون في الجوامع والأصول الأولية كما لو حدثنا الشيخ بإسناده عن كتاب الحسين بن سعيد حديثا وروى الصدوق هذا الحديث عنه بزيادة أو نقيصة أحرز كونهما من اختلاف النسخ وقد لا يحرز ذلك واحتمل كونهما مختلفين لأجل السماع من الشيخ.
ثم انه لا إشكال في شمول اخبار العلاج للاخبار مع الواسطة كما انه لا إشكال في شمولها ولو بإلقاء الخصوصية وفهم العرف للخبرين مع اشتراكهما في جميع السلسلة أو
63

بعضهما فان قوله يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين، وان كان مورده مجيء الرجلين لكن المتفاهم منه عرفا ان الحديثين المختلفين بما هما مختلفان موضوع الحكم وان أتى بهما شخص واحد هذا، مع ان إطلاقات أدلة التراجيح يقتضى ذلك كقوله في صحيحة عبد - الرحمن بن أبي عبد الله: «إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله وقوله في رواية محمد بن عبد الله: إذا ورد عليكم خبر ان مختلفان فانظروا إلى ما يخالف منهما العامة» إلى غير ذلك، ومعلوم ان موضوع اخبار الترجيح والتخيير واحد فإذا حدثنا الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن حماد عن حريز عن زرارة بحديثين مختلفين يصدق عليهما قوله: «إذا ورد عليكم حديثان مختلفان».
واما اختلاف نقل الشيخ والصدوق مثلا عن الجوامع الأولية فالظاهر انه أيضا من اختلاف الحديثين، لأن بناء السلف كان على قراءة الحديث والسماع من المشايخ لا الأخذ من الكتب (نعم) اختلاف نسخ الجوامع المتأخرة انما هو من اشتباه النساخ ولم يندرج في اخبار العلاج، ولو أحرز كون الصادر من الإمام عليه السلام حديثا واحدا وكان الاشتباه من النقلة يشكل الاندراج وان لا يبعد ببعض المناسبات المرتكزة في ذهن العرف، بل إطلاق بعض أدلة الترجيح مع وحدة الموضوع يقتضى الشمول فتدبر جيدا، هذا تمام الكلام في أحكام المتكافئين.
في مقتضى الأصل فيما إذا كان لأحد الخبرين مزية المقصد الثاني فيما إذا كانت لأحد الخبرين مزية
ويتم البحث فيه في ضمن أمور:
الأول
قد عرفت ان مقتضى الأصل الأولى على الطريقية والسببية في المتعادلين واما مع المزية ان لم تكن مرجحة عقلائية فالأصل فيه على الطريقية هو سقوطهما لأن المزية غير العقلائية لا توجب الخروج عن الأصل الأولى لكن الكلام في المقام بعد الفراغ عن لزوم الخروج عن الأصل الأولى بواسطة الإجماع أو الاخبار، وان الأصل مع قطع النظر عن اخبار العلاج ما هو؟ وبالجملة بعد ورود الدليل على لزوم الخروج عن الأصل الأولى ودوران الأمر بين وجوب الأخذ بأحد المتعارضين على سبيل التخيير أو الأخذ
64

بذي المزية على سبيل التعيين هل الأصل يقتضى التخيير أو التعيين؟ والكلام يقع تارة بناء على السببية وتارة على الطريقية. وقد استقصينا الكلام في أقسام الدوران بينهما في مباحث البراءة ولهذا نطوي الكلام هاهنا.
فنقول: لا إشكال في ان مقتضى الأصل على الطريقية هو التعيين وان قلنا بالتخيير في الدوران في غير ذلك لأن مقتضى الأصل الأولى في المقام كما عرفت هو عدم الحجية وسقوط المتعارضين ولا بد من قيام دليل قطعي الاعتبار على جواز العمل أو وجوبه على طبق أحدهما معينا أو مخيرا حتى نخرج عن مقتضاه بل الشك في قيام الدليل على اعتبار أمارة مساوق للقطع بعدم حجيتها، لأن الحجية لا تكون الا مع قيام الدليل ولا يمكن ان يدخلها الشك فإذا شك في قيام الدليل على وجوب العمل أو جوازه على أحد الخبرين تخييرا أو تعيينا بعد قيام الدليل على أصله يكون اعتبار ذي المزية متيقنا وغيره مشكوكا فيه وهو مساوق للقطع بعدم حجيته، واما على السببية فلعله يختلف حسب اختلاف معاني السببية فقد يكونان من قبيل المتزاحمين وقد لا يكونان كذلك والأمر سهل بعد بطلان المبنى.
في حال اخبار العلاج
الثاني - بعد ما علم ان الأصل مع احتمال المزية هو التعيين قد استدل على وجوب الأخذ بذي المزية بوجوه: عمدتها الاخبار الواردة في العلاج.
وقد استشكل على تمامية دلالتها (تارة) بان الاختلافات الكثيرة في نفس تلك الاخبار شاهدة على عدم وجوب الترجيح، فان في بعضها يكون الترجيح بالأعدلية، والأفقهية أول المرجحات، وفي بعضها الاشتهار بين الأصحاب أولها، وفي كثير منها جعل الترجيح بمخالفة العامة بنحو الإطلاق، وفي بعضها بموافقة الكتاب كذلك، وفي بعضها امر بالإرجاء بعد عدم المرجح، وفي بعضها امر بالاحتياط ثم التخيير، فنفس هذه الاختلافات الكثيرة تمنع عن حمل الأوامر فيها على الوجوب فلا بد من حملها على الاستحباب.
وأخرى بان الأمر دائر بين تقييد إطلاقات كثيرة في مقام البيان في اخبار التخيير
65

وحمل الأوامر على الوجوب ولا يمكن تقييدها لأنه قلما يتفق ان يخلو أحد الخبرين عن إحدى المرجحات بكثرتها، لأن كون الخبرين في جميع سلسلة سندهما متساويين في العدالة والفقاهة والورع والأوثقية في النفس ومضمونهما موافقا للكتاب والعامة أو مخالفا لهما ومشهورا بين الأصحاب أو غير مشهور نادر جدا، خصوصا إذا تعدينا إلى المرجحات الغير المنصوصة، فلا بد من حمل الأوامر الواردة في الترجيحات على الاستحباب حفظا لإطلاق اخبار التخيير والتحقيق عدم ورود الإشكالين ومنشأ توهم ورودهما أمور:
منها - توهم اعتبار المرفوعة ولو لأجل اشتهارها بين الأصحاب وعدها من اخبار العلاج، وقد تقدم انها غير صالحة للتمسك ولا يمكن إثبات حكم بها، والاشتهار من زمن ابن أبي جمهور على فرضه لا يصير جابرا فهي مرسلة في غاية الضعف والوهن.
ومنها - عد الأعدلية والأفقهية والأصدقية في الحديث والأورعية مما وقعت في المقبولة من المرجحات للحديثين المتعارضين مع ان المقبولة آبية عنه بل الظاهر لو لم ندع الصريح منها انها من مرجحات حكم الحكمين. وورود الإشكال أو الإشكالات عليها على هذا الفرض لو سلم لا يوجب صحة التمسك بها لترجيح الخبرين وسيأتي مزيد توضيح لذلك.
ومنها - توهم كون الاشتهار بين الأصحاب مما ذكر في المقبولة من مرجحات الخبرين كسائر المرجحات وفي عرضها، مع ان الاشتهار فيها هو الاشتهار في الفتوى كما سيأتي بيانه وفي مقابله النادر الشاذ وهو يجعل الخبر بين الرشد ومقابله بين الغى، بل نفس كون الخبر مجمعا عليه بين الأصحاب بهذا المعنى يجعله حجة، بل نفس هذا الإجماع والاشتهار حجة ومقابله الشاذ النادر الذي أعرض عنه الأصحاب وهو يسقطه عن الحجية ويجعله
بين الغى مع ان ظاهر المقبولة كون الاشتهار بين الأصحاب في مدرك حكم أحد الحكمين من مرجحات حكمه لا من مرجحات الخبرين.
نعم ظاهر ذيله حيث قال: فان كان الخبران عنكم مشهورين انتقال السائل إلى
66

السؤال عن الخبرين وأجاب عن مرجحاتهما وان كان الأقرب كونه من مدرك الحكمين أيضا لوحدة السياق وكون السؤال قبل هذه الفقرة وبعدها عن حكم الحكمين.
فتحصل مما ذكرنا ان المقبولة غير مربوطة بما نحن فيه فالواجب بسط الكلام في فقه الحديث بعد نقله بتمامه لأنه من المهمات، بل يمكن ان يقال: ان هذه المسائل من أهم المسائل الأصولية، فنقول وعلى الله التكلان:
الكلام حول المقبولة
روى المشايخ الثلاثة بإسنادهم عن عمر بن حنظلة قال: سئلت أبا عبد الله عليه السلام عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاء أيحل ذلك؟ قال: من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت وما يحكم له فإنما يأخذه سحتا وان كان حقه ثابتا لأنه أخذه بحكم الطاغوت وانما امر الله ان يكفر به قال الله تعالى: ويريدون ان يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا ان يكفروا به قلت: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران إلى من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكما فانى قد جعلته عليكم حاكما فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنما استخف بحكم الله وعلينا رد، والراد علينا الراد على الله وهو على حد الشرك بالله، قلت: فان كان كل واحد اختار رجلا من أصحابنا فرضيا ان يكون ناظرين في حقهما فاختلفا فيما حكما فيه وكلاهما اختلفا في حديثكم، قال: الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما يحكم به الاخر، قلت: فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على الاخر قال: ينظر إلى ما كان من روايتهم (من روايتهما خ ل) عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه بين أصحابك فيؤخذ به من حكمنا (حكمهما - خ - المستدرك عن الطبرسي) ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك فان المجمع عليه لا ريب فيه، وانما الأمور ثلاثة امر بين رشده فيتبع، وامر بين غيه فيجتنب، وامر مشكل يرد حكمه إلى الله وإلى رسول الله، قال رسول الله: حلال بين وحرام بين و
67

شبهات بين ذلك فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم قلت: فان كان الخبران عنكما (عنكم - فقيه - المستدرك) مشهورين قد رواهما الثقات عنكم، قال: ينظر ما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة فيؤخذ به ويترك ما خالف الكتاب والسنة ووافق العامة، قلت: جعلت فداك أرأيت ان كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة فوجدنا أحد الخبرين موافقا للعامة والاخر مخالفا لهم بأي الخبرين يؤخذ؟ قال: ما خالف العامة ففيه الرشاد فقلت: جعلت فداك فان وافقها (وافقهما - خ - وافقهم - المستدرك) الخبران جميعا قال:
ينظر إلى ما هم أميل إليه حكامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالاخر، قلت: فان وافق حكامهم الخبرين جميعا، قال: إذا كان ذلك فأرجه حتى تلقى إمامك فان الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات (1).
أقول: لا إشكال في ان قوله: «يكون منازعة بينهما في دين أو ميراث» ليس في نظره خصوصيتهما بل ذكرهما من باب المثال وانما نظره إلى جواز الرجوع إلى السلطان والقضاة في المحاكمات فأجاب عليه السلام بان التحاكم عندهم تحاكم إلى الطاغوت وما يأخذه بحكمهم سحت وان كان حقه ثابتا، ثم بعد بيان حكم المسألة سئل عن الوظيفة في المنازعات فأجاب بقوله: «ينظران إلى من كان منكم» (إلخ).
ولا إشكال في قوة ظهور هذه الجمل كل واحدة عقيب الأخرى أي قوله: «من كان منكم ممن روى حديثنا» إلى قوله: «والراد علينا» في الحكم الفاصل للخصومة كما هو واضح، وجعله عليه السلام من كان بهذه الأوصاف حاكما انما هو لأجل منصبه المجعول من قبل الله أي من حيث كونه إماما منصوبا من قبل الله وحاكما وسلطانا على الناس فحينئذ يكون رد الحاكم المنصوب من قبلهم في حكمه ردا عليهم وعلى الله تعالى حقيقة لأن لازم نصب الحاكم هو الأمر بلزوم طاعته فالله تعالى نصب رسول الله والأئمة عليهم السلام سلطانا على العباد وأوجب طاعتهم، وأبو عبد الله عليه السلام نصب الفقهاء حاكما عليهم من حيث كونه سلطانا فحينئذ يكون رد الحاكم المنصوب من قبله ردا عليهم وردهم ردا

(1) الوسائل - كتاب القضاء - الباب 9 - من أبواب صفات القاضي - الرواية 1 -
68

على الله تعالى ولا إشكال في الرواية إلى هاهنا.
ثم سئل عن اختيار كل منهما رجلا من أصحابنا ليكونا ناظرين في حقهما ومراده من الناظرين هو الحكمين كما هو المتعارف بين الناس قوله: «فاختلفا فيما حكما» أي كل منهما حكم في القضية بما يخالف الاخر قوله: «كلاهما اختلفا في حديثكم» أي يكون منشأ اختلافهما اختلاف رأيهما في حديثكم، ويمكن ان يكون الاختلاف في حديثهم هو اختلافهما في معنى حديث واحد أو في حديثين بان استند كل منهما بحديث وأنكر الاخر أو رجحه عليه قوله: الحكم ما حكم به أعدلهما (إلخ) أي النافذ من الحكمين هو حكم الأعدل ولا يلتفت إلى حكم الاخر، ولهذين الجملتين أيضا ظهور قوى في ان الترجيح مربوط بحكم الحاكمين لا بالفتوى والرأي ولا بالرواية.
ويشهد له ما روى الصدوق بإسناده عن داود بن الحسين عن أبي عبد الله عليه السلام في رجلين اتفقا على عدلين جعلاهما بينهما في حكم وقع بينهما فيه خلاف فرضيا بالعدلين فاختلف العدلان بينهما عن قول أيهما يمضى الحكم؟ قال: «ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما فينفذ حكمه ولا يلتفت إلى الآخر» (1) بناء على كونها رواية مستقلة لا قطعة من المقبولة.
وما روى الشيخ بإسناده عن موسى بن أكيل (2) عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «سئل عن رجل يكون بينه وبين أخ له منازعة في حق فيتفقان على رجلين يكونان بينهما فحكما فاختلفا فيما حكما قال: كيف يختلفان؟ قال: حكم كل واحد منهما للذي اختاره الخصمان فقال: ينظر إلى أعدلهما وأفقههما في دين الله فيمضى حكمه» (3) تدل على نفوذ حكم الأعدل الأفقه ومضمونهما عين مضمون المقبولة ومع ذلك لم يستدلوا بهما على الترجيح في باب تعارض الروايتين وليس ذلك الا لعدم ربطهما بما نحن فيه وكذا الحال في المقبولة قوله: المجمع عليه (إلخ) ثم بعد فرض تساوى الحكمين في الفقه والعدالة

(1) الوسائل - كتاب القضاء - الباب 9 - من أبواب صفات القاضي - الرواية 23 -
(2) الرجل موثق.
(3) الوسائل - كتاب القضاء - الباب 9 - من أبواب صفات القاضي - الرواية 48 -
69

أرجعه إلى النظر إلى مدرك حكمهما أي الروايتين اللتين كان حكمهما مستندا إليهما فلما كان منهما المجمع عليه بين الأصحاب يؤخذ به من الحكمين ويترك الشاذ.
في معنى المجمع عليه بين الأصحاب
والظاهر ان المراد من المجمع عليه بين الأصحاب والمشهور الواضح بينهم هو الشهرة الفتوائية لا الروائية، فان معنى المجمع عليه بينهم والمشهور لديهم ليس إلا هي كما ان الموصوف بأنه لا ريب فيه هو الذي عليه الشهرة الفتوائية بحيث كان مقابله الشاذ النادر واما نفس شهرة الرواية مجردة عن الفتوى فهي مورثة للريب بل للاطمئنان أو اليقين بخلل فيها بخلاف ما إذا اشتهر رواية بين الأصحاب بحسب الفتوى بحيث صار مقابله الشاذ
النادر فإنها تصير لأجله مما لا ريب فيها، ومعلوم ان مراده من قوله: «ان المجمع عليه لا ريب فيه» ليس جعل التعبد بذلك بل تنبه بأمر عقلائي ارتكازي بين العقلاء، فان الإجماع والاشتهار بين بطانة كل رئيس يكشف عن رضاه به فإحدى الروايتين إذا كانت بهذه الصفة يؤخذ بها وبالحكم المستند إليها ويترك الشاذ المقابل لها وقوله: انما الأمور ثلاثة (إلخ) كالتعليل لقوله يؤخذ بالمجمع عليه ويترك الشاذ فان الأمور مطلقا لا تخلو من بين الرشد فيتبع والمجمع عليه كذلك وبين الغى فيجتنب والشاذ النادر كذلك وامر مشكل.
وان شئت قلت: أشار بقوله: «هذا» إلى ترتيب قياس بان يقال: ان المجمع عليه لا ريب فيه، وكل ما كان كذلك بين رشده فهو كذلك، ثم يجعل النتيجة صغرى لكبرى أخرى فيقال: ان المجمع عليه بين رشده، وكل ما كان كذلك يجب اتباعه، فالمجمع عليه يجب اتباعه، وعليك بترتيب قياسين آخرين لاستنتاج وجوب الاجتناب عما هو بين غيه ولا يجوز إدراج مقابل المجمع عليه في امر مشكل، ضرورة ان شيئا إذا كان لا ريب فيه وبين الرشد يكون مقابله ومعارضه مما لا ريب في بطلانه وبين غيها ولا يمكن ان يكون أحد طرفي النقيضين واضح الصحة وبين الرشد وطرفه الآخر مشكوكا فيه وفيه الريب فلا يمكن ان تكون إحدى الروايتين المتعارضتين لا ريب فيها ومعلومة
70

الصحة والأخرى مما فيه ريب بل لا بد وان تندرج في قوله: بين غيه، وهذا واضح بأدنى تأمل. ثم على فرض ورود الإشكالات على الأخذ بظاهر هاتين الفقرتين من المقبولة لا يوجب ذلك صرفها عن هذا الظهور القوى المتعاضد بالتكرار مرة بعد أخرى والمتعاضد بالروايتين المتقدمتين وإدراجهما في اخبار العلاج حتى تكون أعدلية الراوي وأفقهيته وقرينيهما من المرجحات، مع ان روايات العلاج بكثرتها وتظافرها خالية عن التعرض لها مع شيوعها وكثرتها.
والتحقيق: ان تلك المذكورات ليست من مرجحات الخبرين المتعارضين رأسا لعدم الدليل عليه الا المرفوعة التي عرفت حالها والمقبولة التي عرفت ظهورها.
واما الاشتهار بين الأصحاب بما صرحت به المقبولة فهو ليس من المرجحات لإحدى الحجتين لما عرفت ان المراد به الاشتهار بحسب الفتوى وكون الطرف المقابل شاذا معرضا عنه وما كان حاله كذلك تسقط عن الحجية، كان في مقابله معارض أولا، واما كثرة الرواية واشتهار النقل مجردا عن الفتوى فلا دليل على كونها مرجحة بل لو دل دليل على وجوب الأخذ بالرواية التي اشتهرت روايتها وترك الشاذ رواية لا يدل على الاشتهار بحسب الرواية دون الفتوى لأن المرسوم المتعارف لدى قدماء أصحابنا هو نقل الرواية في مقام الفتوى وكانت متون الروايات فتواهم فنقل الرواية وشهرتها كانت مساوقة للشهرة الفتوائية كما يتضح ذلك بالرجوع إلى الروايات خصوصا باب وجوب الرجوع في القضاء والفتوى إلى رواة الحديث من كتاب قضاء الوسائل وإلى كتب قدماء أصحابنا كالصدوقين ومن في طبقتهما أو يقرب منهما.
نعم أصحاب الأصول المتقدمة والمتأخرة كانوا يضبطون مطلق الروايات الواصلة إليهم لكن كانت فتواهم أيضا بصورة نقل الرواية بل الفقهاء إلى زمان شيخ الطائفة لم - يكونوا يتعدون في فتاواهم عن متون الروايات على ما صرح به الشيخ في أول المبسوط، فاتضح من ذلك ان قوله: «ان كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات» لا ينافي ما ذكرناه من ان المراد بالاشتهار هو الشهرة الفتوائية لا الروائية، فتحصل مما ذكرنا ان الأعدلية
71

وما يتلوها ليست من المرجحات وكذا الاشتهار.
نعم ما يمكن ان يعد منها في فقرات المقبولة هو موافقة الكتاب ومخالفة العامة على إشكال فيه بان يقال: كانت الفقرات الأولى منها ممحضة في حكم الحكمين حتى انتهى الأمر إلى السؤال عن الخبرين فقال «ان كان الخبران عنكم مشهورين» وهذا وان كان من تتمة السؤال عن حكم الحكمين، والسياق يقتضى ان يكون راجعا إليه، لكن لا يبعد استفادة حكم ما نحن فيه منه، فان السائل كأنه انتقل عن حكم الحاكم إلى مستنده ونظر إلى تعارض نفس الخبرين، ويظهر من الجواب ذلك أيضا حيث قال: «ينظر ما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة» فان المراد بالموصول الخبر لا حكم الحاكم، ولكن مع ذلك لا يخلو عن إشكال.
وكيف كان لا يجوز التمسك بالمقبولة لجعل الأعدلية وما يتلوها وكذا الشهرة من المرجحات ولا نحتاج في جعل موافقة الكتاب ومخالفة العامة منها إليها لورود الاخبار الكثيرة فيهما وسيأتي التعرض لها.
فتحصل من جميع ما ذكرنا من أول البحث إلى هاهنا عدم ورود الإشكالين المتقدمين، اما قضية شهادة اختلاف نفس الاخبار على الحمل على الاستحباب فلأنه بعد عدم اعتبار المرفوعة وعدم كون المقبولة من اخبار العلاج وانحصار المرجح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة انحلت هذه الشبهة فان تقييد إطلاق اخبار العلاج بعد ذلك بصحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله من أهون التصرفات وسنرجع إليه إن شاء الله، واما قضية تقدم حمل الأوامر على الاستحباب على تقييد إطلاق الاخبار الكثيرة الواردة في التخيير لكونه تقييدا بالفرد النادر فلما ظهر سابقا ان ما دل على التخيير منحصر برواية ابن الجهم وان ادعى الشيخ تواترها بملاحظة عده ما لم يكن من هذا الباب منه وهي بملاحظة صدرها حيث قال: ما جاءك عنا فقس على كتاب الله (إلخ) يحمل ذيلها على ما إذا لم تكن الروايتان مخالفتين للكتاب والسنة.
وبما عرفت وستعرف ان المرجح في باب التعارض منحصر بموافقة الكتاب ومخالفة العامة يكون تقييد رواية ابن الجهم من أسهل التصرفات ولا يكون تقييدا بالفرد
72

النادر فإنه لم يرد عليها الا تقييد واحد هو كون التخيير فيما إذا لم يكن أحدهما موافقا للعامة والاخر مخالفا لهم، وهذا كما ترى تصرف واحد كسائر التقييدات الشائعة المتعارفة خصوصا مع حكومة بعض الاخبار الآمرة بالاخذ بخلاف العامة على رواية ابن الجهم كقوله: «ما خالف العامة ففيه الرشاد» بناء على كون ذيل المقبولة من اخبار الباب، وقوله في مرسلة الكليني: «دعوا ما وافق القوم فان الرشد في خلافهم» بل وغيرهما، فان الناظر في اخبار الترجيح من موافقة الكتاب ومخالفة العامة يرى ان الترجيح بهما ليس بمحض التعبد بل لكون الموافقة له والمخالفة لهم طريقا إلى الواقع وان الحق والرشد في موافقته ومخالفتهم فيكون أدلة الترجيح حاكمة على قوله: «إذا لم تعلم أيهما الحق فموسع عليك» فالمسألة خالية عن الإشكال من هذه الجهة فلا محيص عن الأخذ بظاهر الأوامر الواردة في الترجيح ولا بد من استقصاء البحث فيها من عقد بحثين.
في الاخبار الواردة في موافقة الكتاب ومخالفته
البحث الأول في حال الاخبار الواردة في موافقة الكتاب ومخالفته وهي على كثرتها طائفتان:
الأولى ما وردت في مطلق ما وافق الكتاب وخالفه من غير تعرض لتعارض الحديثين والثانية ما وردت في الحديثين المتعارضين.
فمن الأولى ما عن الكليني بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ان على كل حق حقيقة وعلى كل صواب نورا فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه» (1).

(1) موثقة بالسكوني، ولا خفاء في عدم ارتباطه بمقام تعارض الخبرين، بل في مقام تميز الحق عن الباطل - راجع الوسائل - كتاب القضاء - الباب 9 - من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضى به - الرواية 11 - وعن محمد بن مسعود العياشي في تفسيره عن إسماعيل بن أبي زياد السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي عليه السلام انه قال في حديث: فما وافق كتاب الله فخذوا به وما خالف كتاب الله فدعوه - راجع المستدرك - كتاب القضاء - الباب 9 - من أبواب صفات القاضي - الرواية 4 -
73

وقريب منها رواية جميل عن أبي عبد الله عليه السلام (1).
وعنه قال: ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف (2).
وبإسناده عن أيوب بن الحر (3) قال: سمعت أبا عبد الله يقول: كل شيء مردود إلى الكتاب والسنة وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف (4).
وعنه عليه السلام خطب النبي بمنى فقال: أيها الناس ما جاءكم عني يوافق كتاب الله فانا قلته وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله (5).

(1) قال: «الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة، ان على كل حق حقيقة وعلى كل صواب نورا فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه» راجع الوسائل - كتاب القضاء - الباب 9 - من أبواب صفات القاضي - الرواية 38 -
(2) راجع المصدر المذكور آنفا - الرواية 13 - الرواية ضعيفة بأيوب بن راشد - ولا يخفى ان المراد بعدم الموافقة هو المخالفة في الحكم كما هو المتفاهم منه عرفا أي إذا كان للشيء في الكتاب حكم وفي الخبر حكم آخر مخالف له فالحكم الخبري زخرف، ولا يمكن حمله على المعنى الأعم منها ومن ان لا يكون موضوعه في الكتاب أصلا لأنه ينتج ردع الأحكام الثابتة بالأخبار، بل مقتضى ذلك حجية القرآن فقط وطرح الروايات رأسا وهذا كما ترى بديهي البطلان لوجود أحكام كثيرة ثابتة بالأخبار للموضوعات المختلفة من دون ان يكون في الكتاب لها أثر -
(3) الظاهر انها صحيحة لقوة الظن بان ما وقع في سندها يحيى بن عمران الحلبي (منه دام ظله).
(4) راجع الوسائل - كتاب القضاء - الباب 9 - من أبواب صفات القاضي - الرواية 15 - ومعلوم انه لا معنى لعدم الموافقة هنا الا المخالفة في الحكم بالبيان الذي قد عرفته آنفا - وعن محمد بن مسعود العياشي في تفسيره عن أيوب بن الحر قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: كل شيء مردود إلى الكتاب والسنة وكل حديث لا يوافق القرآن فهو زخرف - راجع المستدرك - كتاب القضاء - الباب 9 - من أبواب صفات القاضي - الرواية 6 -
(5) الوسائل - كتاب القضاء - الباب 9 - من أبواب صفات القاضي - الرواية 16 -
ولا يخفى انها صحيحة وعن محمد بن مسعود العياشي في تفسيره عن هشام بن الحكم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في خطبة بمنى أو بمكة: يا أيها الناس ما جاءكم عني يوافق القرآن فانا قلته وما جاءكم عني لا يوافق القرآن فلم أقله - راجع المستدرك - كتاب القضاء - الباب 9 - من أبواب صفات القاضي - الرواية 3 -
74

وعن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال: إذا جاءكم عنا حديث فوجدتم عليه شاهدا أو شاهدين من كتاب الله فخذوا به والا فقفوا عنده ثم ردوه إلينا حتى يستبين لكم (1) إلى غير ذلك (2).

(1) الوسائل - كتاب القضاء - الباب 9 - من أبواب صفات القاضي - الرواية 19 ولا يخفى انها مرسلة بابن بكير - ولا يبعد حمل هذه المرسلة على زمان الحضور لما فيها من الأمر على الرد إليهم حتى يستبين لنا بعد عدم الوقوف على شاهد أو شاهدين من كتاب الله، وهذا لا يمكن الأزمان إمكان التشرف بحضورهم عليهم السلام -
(2) عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال: انظروا أمرنا وما جاءكم عنا فان وجدتموه للقرآن موافقا فخذوا به وان لم تجدوه موافقا فردوه، وان اشتبه الأمر عليكم فقفوا عنده وردوه إلينا حتى نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا - راجع المصدر المذكور آنفا - الرواية 40 - محمد بن مسعود العياشي في تفسيره عن محمد بن مسلم «قال: «قال أبو عبد الله عليه السلام:
يا محمد ما جاءك في رواية من بر أو فاجر يوافق القرآن فخذ به، وما جاءك في رواية من بر أو فاجر يخالف القرآن فلا تأخذ به» - وعن كليب الأسدي قال: «سمعت أبا عبد الله يقول: ما أتاكم عنا من حديث لا يصدقه كتاب الله فهو زخرف» راجع المستدرك - كتاب القضاء - الباب 9 - من أبواب صفات القاضي - الرواية 5 - 7 - لا يقال: ان هذه الروايات ناظرة إلى المخالفة في أصول المذهب لا في الفروع لأنه لا داعي في جعل الروايات كذبا عليهم في الفروع، لأنه يقال: كيف لا يكون كذلك مع ما نقل عن الشيخ في أول التهذيب عن المفيد: ان بعض علماء الشيعة قد خرج من هذا المذهب لكثرة اختلاف الروايات المنقولة عن الأئمة عليهم السلام وليس ذلك الا لدس الا جانب في رواياتهم إهانة عليهم حتى ينتج ذلك، ولا يخفى ان الاختلاف في الفروع لا يوجب الخروج عن الأصول المتقنة تأمل -
75

ومن الثانية رواية الميثمي المتقدمة، ومصححة عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: قال الصادق عليه السلام: إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فردوه (الحديث) (1).
وعن ابن أبي يعفور قال: سئلت أبا عبد الله عليه السلام عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به ومنهم من لا نثق به، قال: إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهدا من كتاب الله أو من قول رسول الله والا فالذي جاءكم به أولى به () ولعلها من الطائفة الأولى (2).
وعن الطبرسي عن الحسن بن الجهم عن الرضا قال: قلت له: تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة، فقال: ما جاءك عنا فقس على كتاب الله عز وجل وأحاديثنا فان كان يشبههما فهو منا وان لم يكن يشبههما فليس منا (الحديث) (3).

(1) الوسائل - كتاب القضاء - الباب 9 - من أبواب صفات القاضي - الرواية 32 - الظاهر انها أظهر الروايات في إثبات المطلوب وهو لزوم الترجيح في مقام التعارض بموافقة الكتاب وطرح المخالف الا انه لم يظهر لنا وجه صحة سندها وان صححه الشيخ رحمه الله ولذا عبر الأستاذ دام ظله بأنها مصححة -
(2) لأن الإمام عليه السلام في مقام الجواب أعرض عما فرضه السائل في السؤال من اختلاف الحديث، وأجاب بأمر كلي وهو انه: «إذا ورد عليكم حديث إلخ» فلا يرتبط بمقام تعارض الحديثين، أضف إلى ذلك ان المفروض في السؤال: ان منهم من نثق به ومنهم من لا نثق به، وفي المتعارضين لا بد وان يكون كلاهما موثقين ليتحقق التعارض فلا يكون المقام مقام بيان كيفية ترجيح أحد المتعارضين تأمل -
(3) راجع المصدر المذكور آنفا - الرواية 43 - والأولى إلحاقها بالطائفة الأولى، ووجهه يظهر بالرجوع إلى ما قلنا في رواية ابن أبي يعفور آنفا - وعن الشيخ المفيد في رسالة العدد عن أبي عبد الله عليه السلام: إذا أتاكم عنا حديثان مختلفان فخذوا بما وافق منهما القرآن فان لم تجدوا لهما شاهدا من القرآن فخذوا بالمجمع عليه فان المجمع عليه لا ريب فيه فان كان
فيه اختلاف وتساوت الأحاديث فيه فخذوا بأبعدهما من قول العامة - راجع - المستدرك - كتاب القضاء - الباب 9 - من أبواب صفات القاضي - الرواية 11 -
76

وعن العياشي عنه عن العبد الصالح عليه السلام قال: إذا جاءك الحديثان المختلفان فقسهما على كتاب الله وأحاديثنا فان أشبههما فهو حق وان لم يشبههما فهو باطل (1).
في التوفيق بين الاخبار
وقد استشكل في التوفيق بين الطائفتين لأجل ان الترجيح بموافقة الكتاب فرع حجية الخبرين لأن الترجيحات انما وردت لترجيح إحدى الحجتين على الأخرى وعدم المخالفة للكتاب من شرائط حجية الخبر فقيل (2) في التوفيق بينهما: ان الطائفة الأولى محمولة على مخالفة الخبر للكتاب بالتباين الكلي فما كان كذلك زخرف وباطل، والثانية محمولة على المخالفة بالعموم من وجه أو هو مع العموم المطلق فالذي يكون مرجحا هو المخالفة بأحد النحوين والذي يكون من شرائط الحجية هو عدم المخالفة بالتباين وبهذا يجمع بين الطائفتين.
ولا يخفى على الناظر في الاخبار انه لا شاهد لهذا الجمع بل الاخبار آبية عنه.
اما خبر الميثمي الوارد في المتعارضين فلان المتأمل في صدرها وما فرع عليه من قوله فما ورد عليكم من خبرين مختلفين (إلخ) يرى ان لسانه عين لسان الاخبار الواردة في الطائفة الأولى وان المفروض فيه هو ما ورد من الاخبار في تحليل ما حرم الله ورسوله أو تحريم ما أحل الله ورسوله وان الخبرين المختلفين إذا كان أحدهما كذلك يرفع اليد عنه

(1) راجع المصدر المذكور آنفا - الرواية 52 - يمكن ان يقال: الظاهر منها انها في مقام تميز الحق عن الباطل لا ترجيح المتعارضين بعد حجيتهما وان ذكر في صدرها: «إذا جاءك الحديثان المختلفان» فان التعبير بالحق والباطل فيها نظير التعبير الموجود في روايات الطائفة الأولى من قوله: زخرف وباطل يشهد على ما استظهرناه فتأمل -
(2) القائل هو المحقق النائيني رحمه الله غير انه لم يلتزم في العموم المطلق بالحمل المذكور فراجع كلامه -
77

ويؤخذ بالاخر فلا يمكن الجمع بينه وبين الطائفة الأولى بما ذكر.
واما خبر ابن الجهم عن الرضا عليه السلام فالظاهر منه انه أجاب عن مطلق الخبر سواء كان له معارض أولا، فان السؤال مع كونه عن الأحاديث المختلفة غير عليه السلام أسلوب الجواب فقال: ما جاءك عنا فقس على كتاب الله (إلخ) وظاهره انه بصدد بيان ميزان كلي لكل ما جاء منهم فلا يمكن التفرقة في مضمونه بين حال التعارض وغير حاله مع ان قوله:
«ان كان كذا فهو منا والا فليس منا» لسانه لسان الطائفة الأولى، وكذا رواية ابن الجهم عن العبد الصالح عليه السلام، ورواية ابن أبي يعفور، فإنه مع سؤاله عن اختلاف الحديثين أجاب كليا بقوله: إذا ورد عليكم حديث (إلخ) ومضمونها عين مضمون الطائفة الأولى، وبالجملة من أعطى التأمل في الاخبار حقه يقطع بان الجمع المتقدم غير صحيح والاخبار آبية عنه.
ومن هنا قد يقال: ان مفاد الطائفتين واحد وكانتا بصدد تميز الحجة عن غيرها وليست موافقة الكتاب أيضا من مرجحات إحدى الحجتين ويحمل جميع روايات الباب على المخالفة بالتباين بقرينة صدور ما يخالف الكتاب بالعموم والخصوص والإطلاق والتقييد منهم بضرورة الفقه وإباء هذه الاخبار عن التخصيص والتقييد فالترجيح بعموم الكتاب والسنة إذا كانت النسبة بينهما والكتاب والسنة العموم من وجه أو المطلق لا دليل عليه فسقط هذا المرجح عن المرجحية هذا.
في تحقيق المقام
والذي يمكن ان يقال: ان المخالفة بين الخبرين بحسب مفهومهما أعم من التباين والأعم من وجه والمطلق فهي بمفهومها شاملة لجميع أنواع التخالف، لكن قد ذكرنا في أول مبحث التعارض ان المتخالفين الذين بينهما جمع عقلائي خارجان عن محط السؤال والجواب، وانهما منزلان على مورد تحير العرف في العمل وعدم طريق عقلائي له فقوله: تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة، أو «إذا جاءكم الحديثان المختلفان» وأمثالهما محمولة بواسطة القرائن المتقدمة على ما لا يكون بينهما جمع عرفي وكذا الأحاديث الواردة في ان مخالف القرآن
78

زخرف أو باطل، وأمثالهما محمولة على المخالفة بغير ماله جمع عرفي، فالاختلاف بالعموم والخصوص والإطلاق والتقييد خارج عن محطها بقرينة ورود أمثالها عنهم بضرورة الفقه ولا يمكن ارتكاب التخصيص في هذه الروايات لإبائها عنه، فبمقتضى القرينة الخارجية القطعية تحمل تلك الاخبار على المخالفة بالتباين أو الأعم منه ومن العموم من وجه واما لو لم تكن قرينة داخلية أو خارجية صارفة فلا يجوز رفع اليد عن ظهور المخالفة في المعنى الأعم وإطلاقها.
فحينئذ نقول: ان قوله في مصححة عبد الرحمن بن أبي عبد الله: «فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فردوه» مطلق في مقام البيان فيجب ان يؤخذ به، فالخبران المختلفان إذا لم يكن بينهما جمع عرفي إذا وافق أحدهما كتاب الله وخالفه الاخر يجب أخذ الموافق وترك المخالف سواء كانت المخالفة بالتباين أو الأعم من وجه أو الأعم مطلقا ولا وجه لرفع اليد عن هذا الإطلاق بلا قرينة صارفة ودليل مقيد.
لا يقال: ان القرينة صدر الرواية فإنه ورد في الحديثين المختلفين والمفروض ان المخالفة بين الحديثين محمولة على المخالفة بغير ما يكون بينهما جمع عرفي فوحدة السياق تقتضي ان تكون المخالفة في الذيل كذلك، وبالجملة لا يجوز التفكيك بين الصدر والذيل في رواية واحدة بحمل الصدر على نوع منها والذيل على مطلقها.
فإنه يقال عدم جواز التفكيك بينهما انما هو إذا تعرضا لموضوع واحد كما لو تعرضا لاختلاف الخبرين واما إذا كان الاختلاف في الصدر هو اختلاف الخبرين وفي الذيل هو اختلاف الخبر والكتاب فلا وجه لرفع اليد عن إطلاق الثاني لقرينة قائمة في الأول وهذا ليس من التفكيك الممنوع.
لا يقال: الروايات الأخرى غير هذه المصححة مفادها مطابق للطائفة الأولى فتحمل هذه أيضا على غيرها ليتحد مفاد جميعها وتحمل المخالفة على غير مورد الجمع العرفي للقرينة القائمة في الطائفة الأولى.
فإنه يقال لا منافاة بين الاخبار فإنها مثبتات فلا وجه لرفع اليد عن إطلاق
79

المصححة سيما مع كون تلك الروايات غير واحدة منها واردا في أصل الخبر المخالف بخلاف المصححة.
في ان موافقة الكتاب مرجح، والثمرة بين المرجعية والمرجحية
ثم انه ربما يتوهم ان الأخذ بموافق الكتاب والسنة القطعية ليس من باب الترجيح بل من باب الرجوع إلى الدليل القطعي الصدور فيكون الكتاب والسنة مرجعين لا مرجحين (لكنه فاسد) لكونه مخالفا لظواهر الاخبار مثل قوله «فما وافق كتاب الله فخذوه» فان الظاهر منه هو وجوب الأخذ بالخبر لا العمل بالكتاب والسنة.
وتظهر الثمرة بين المرجحية والمرجعية فيما إذا كانت النسبة بين الكتاب والسنة واحد الخبرين أعم مطلقا، وعلم وحدة الحكم فيصير الخبر مقيدا أو مخصصا لهما بعد ترجيحه بموافقتهما، كما إذا ورد: ان ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة، وورد ان ظاهرت يحرم عليك عتق رقبة مؤمنة وورد في الكتاب أو السنة القطعية: ان ظاهرت أعتق رقبة فإنه بعد تعارض الخاصين وترجيح الموافق لهما يصير حجة ومع العلم بوحدة الحكم يحمل مطلق الكتاب أو السنة على المقيد ويحكم بوجوب عتق رقبة مؤمنة.
لا يقال: في هذه الصورة يكون كلا الخاصين مخالفين لهما ضرورة مخالفة المقيد مع المطلق فإنه يقال: نعم لكن الكتاب والسنة موافقان للمقيد في محل تعارضه مع الخبر المخالف له وهو المناط في ترجيح أحد الخبرين، وفي مورد مخالفته لهما لم يكن مخالفا مع الخبر الاخر المخالف له فتدبر.
في الاخبار الواردة في مخالفة العامة
البحث الثاني في حال الاخبار الواردة في مخالفة العامة وهي أيضا طائفتان:
إحداهما - ما وردت في خصوص الخبرين المتعارضين - وثانيتهما ما يظهر منها لزوم مخالفتهم وترك الخبر الموافق لهم مطلقا.
فمن الأولى مصححة عبد الرحمن بن أبي عبد الله وفيها: فان لم تجدوهما
80

في كتاب الله فاعرضوهما على اخبار العامة فما وافق اخبارهم فذروه وما خالف اخبارهم فخذوه» (1).
وعن رسالة القطب أيضا بسند فيه إرسال عن الحسن بن السري (2) قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فخذوا بما خالف القوم (3).
وعنها بإسناده عن الحسن بن الجهم قال: قلت للعبد الصالح: هل يسعنا فيما ورد علينا منكم الا التسليم لكم؟ فقال: لا والله لا يسعكم الا التسليم لنا، فقلت: فيروى عن أبي عبد الله عليه السلام شيء ويروى عنه خلافه فبأيهما نأخذ؟ فقال: خذ بما خالف القوم وما وافق القوم فاجتنبه» (4).
وبسنده عن محمد بن عبد الله قال: قلت للرضا عليه السلام: كيف نصنع بالخبرين المختلفين؟ فقال: إذا ورد عليكم خبران مختلفان فانظروا إلى ما يخالف منهما العامة فخذوه وانظروا إلى ما يوافق اخبارهم فدعوه» (5).
ومنها ما عن الطبرسي عن سماعة بن مهران عن أبي عبد الله عليه السلام قلت: يرد علينا حديثان واحد يأمرنا بالاخذ به والآخر ينهانا عنه، قال: لا تعمل بواحد منهما حتى تلقى صاحبك فتسأله، قلت: لا بد ان نعمل بواحد منهما، قال: خذ بما فيه خلاف العامة» (6).
ومنها ذيل المقبولة المتقدمة: ان كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة فوجدنا أحد الخبرين موافقا للعامة والآخر مخالفا بأي الخبرين يؤخذ؟ قال:
ما خالف العامة ففيه الرشاد».

(1) راجع الوسائل - كتاب القضاء - الباب 9 - من أبواب صفات النبي - الرواية 32 -
(2) الرجل موثق - ولا يخفى ان ما في الوسائل من الحسين بن السرى غلط -
(3) الوسائل - كتاب القضاء - الباب 9 - من أبواب صفات القاضي - الرواية 33 -
(4) راجع المصدر المذكور آنفا - الرواية 34 -
(5) راجع المصدر المذكور آنفا - الرواية 37 -
(6) راجع المصدر المذكور آنفا - الرواية 45 -
81

ولا يخفى وضوح دلالة هذه الاخبار على ان مخالفة العامة مرجحة في الخبرين المتعارضين مع اعتبار سند بعضها بل صحة بعضها على الظاهر واشتهار مضمونها بين الأصحاب، بل هذا المرجح هو المتداول العام الشائع في جميع أبواب الفقه والسنة الفقهاء.
ومن الطائفة الثانية ما عن العيون بإسناده عن علي بن أسباط قال: قلت للرضا عليه السلام: يحدث الأمر لا أجد بدا من معرفته وليس في البلد الذي انا فيه أحد أستفتيه من مواليك قال: فقال: ائت فقيه البلد فاستفته من أمرك فإذا أفتاك بشيء فخذ بخلافه فان الحق فيه» (1) موردها صورة الاضطرار وعدم طريق إلى الواقع فأرشده إلى طريق يرجع إليه لدى سد الطرق ولا يستفاد منها جواز رد الخبر من طريقنا إذا كان موافقا لهم.
ومنها ما بإسناده عن أبي إسحاق الأرجاني رفعه قال: قال أبو عبد الله: أتدري لم أمرتم بالاخذ بخلاف ما تقول العامة؟ فقلت: لا أدري، فقال: ان عليا لم يكن يدين الله بدين الا خالف عليه الأمة إلى غيره إرادة لإبطال امره وكانوا يسألون أمير المؤمنين عن الشيء لا يعلمونه فإذا أفتاهم جعلوا له ضدا من عندهم ليلتبسوا على الناس» (2) تكون في مقام بيان علة الأمر بالاخذ بخلافهم ولا تدل على وجوبه مطلقا فيمكن ان يكون المراد من الأمر هو الأوامر الواردة في الخبرين المتعارضين ولا تدل على ورود امر بالاخذ بخلافهم ابتداء وفي غير صورة التعارض.
ومنها ما عن الشيخ بإسناده عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله قال: ما سمعته منى يشبه قول الناس فيه التقية، وما سمعت منى لا يشبه قول الناس فلا تقية فيه» (3) لا يبعد ان يكون مراده من شباهة قول الناس هي الشباهة في آرائهم وأهوائهم كالقول بالجبر والقياس والفتاوى الباطلة المعروفة منهم كالقول بالعول والتعصيب فلا تدل على ترك ما خالف العامة مطلقا.

(1) الوسائل - كتاب القضاء - الباب 9 - من أبواب صفات القاضي - الرواية 26 -
(2) راجع المصدر المذكور آنفا - الرواية 27 -
(3) راجع المصدر المذكور آنفا - الرواية 49 -
82

واما قوله في رواية: «شيعتنا المسلمون لأمرنا الآخذون بقولنا المخالفون لأعدائنا فمن لم يكن كذلك فليس منا» (1) وقوله في رواية أخرى: ما أنتم والله على شيء مما هم فيه ولا هم على شيء مما أنتم فيه فخالفوهم فما هم من الحنيفية على شيء (2) فالظاهر منهما المخالفة في عقائدهم وفي امر الإمامة وما يرتبط بها ولا تدلان على رد الخبر الموافق لهم.
واما قوله في صحيحة إسماعيل بن بزيع: «إذا رأيت الناس يقبلون على شيء فاجتنبه» يدل على ان إقبالهم على شيء وإصرارهم به يدل على بطلانه ولا ربط له بما نحن فيه، ولو فرض إطلاقه فلا بد من رفع اليد عنها لعدم الفتوى على طبقها، وعلى أي حال لا إشكال في ان مخالفة العامة من مرجحات باب التعارض.
فتحصل من جميع ما ذكرنا من أول البحث إلى هاهنا ان المرجح المنصوص ينحصر في امرين: موافقة الكتاب والسنة، ومخالفة العامة، ولعل نظر الشيخ الأقدم محمد بن يعقوب الكليني إلى ما ذكرنا حيث لم يذكر عند ذكر المرجحات الأعدلية وما يتلوها (نعم) ذكر الأخذ بالمجمع عليه الذي لا ريب فيه وقد عرفت الكلام فيه.
ثم ان الظاهر من مصححة عبد الرحمن هو وجوب العرض على كتاب الله أولا ومع عدم وجدان الحكم فيه وجوب العرض على اخبار العامة فمقتضاها الترتيب بينهما فيجب تقييد إطلاق ساير الروايات فصارت النتيجة
بعد الجمع المقبول العرفي بين الروايات الترجيح أولا بموافقة الكتاب والسنة ومع عدم وجدان الحكم فيهما يرجح بمخالفة العامة ومع فقدان ذلك فالتخيير (نعم) ورد في المقبولة ترك ما تكون حكامهم وقضاتهم أميل به والأخذ بالاخر ولكن يشكل رفع اليد عن إطلاق دليل التخيير بها

(1) وهي رواية حسين بن خالد عن الرضا عليه السلام - راجع الوسائل - كتاب القضاء - الباب 9 - من أبواب صفات القاضي - الرواية 28 -
(2) وهي رواية أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام - راجع المصدر المذكور آنفا - الرواية 35 -
83

للإشكال في كون المقبولة من أدلة الترجيح، وطريق الاحتياط واضح وهو طريق النجاة.
تتميم - قد ورد في بعض الروايات كمرسلة الحسين بن مختار (1) ورواية المعلى بن خنيس (2) وأبي عمرو الكناني (3) الأخذ بأحدث الخبرين وأخيرهما وما بلغ عن الحي، لكن المتأمل فيها يرى انها ليست في عداد المرجحات بل مفادها مخصوص بزمان حضور الأئمة وانهم عليهم السلام كانوا يفتون بحسب المصالح المقتضية وصلاح حالهم وحال شيعتهم بحسب اقتضاء التقية وغيرها كما يشهد له قوله في ذيل رواية المعلى: انا والله لا ندخلكم الا فيما يسعكم» وفي ذيل رواية الكناني: «أبي عبد الله الا ان يعبد سرا والله لأن فعلتم ذلك انه لخير لي ولكم أبى الله عز وجل لنا في دينه الا التقية» فراجع وتدبر.

(1) وهي هكذا: عنه عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام قال: أرأيتك لو حدثتك بحديث العام ثم جئتني من قابل فحدثتك بخلافه بأيهما كنت تأخذ؟ قال: كنت آخذ بالأخير، فقال لي: رحمك الله - راجع الوسائل - كتاب القضاء - الباب 9 - من أبواب صفات القاضي - الرواية 7 -
(2) وهي هكذا - عنه قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إذا جاء حديث عن أولكم وحديث عن آخركم بأيهما تأخذ؟ فقال خذوا به حتى يبلغكم عن الحي فان بلغكم عن الحي فخذوا بقوله، قال: ثم قال أبو عبد الله عليه السلام انا والله لا ندخلكم الا فيما يسعكم» قال الكليني: وفي حديث آخر: «خذوا بالأحدث» راجع المصدر المذكور آنفا - الرواية 8 -
(3) وهي هكذا عنه قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام يا با عمرو أرأيت لو حدثتك بحديث أو أفتيتك بفتيا ثم جئتني بعد ذلك فسألتني عنه فأخبرتك بخلاف ما كنت أخبرتك أو أفتيتك بخلاف ذلك بأيهما كنت تأخذ؟ قلت: بأحدثهما وأدع الاخر، فقال قد أصبت يا أبا عمرو أبى الله الا ان يعبد سرا اما والله لئن فعلتم ذلك انه لخير لي ولكن أبى الله عز وجل لنا في دينه الا التقية» راجع المصدر المذكور آنفا - الرواية 18 -
84

في انه هل يتعدى من المرجحات المنصوصة
الأمر الثالث هل يتعدى من المرجح المنصوص إلى غيره أم لا؟ ذهب الشيخ المرتضى قدس سره إلى التعدي مدعيا ان التأمل الصادق في أدلة التخيير يقتضى استظهار الاختصاص بصورة التكافؤ من جميع الوجوه كما ان تدقيق النظر في اخبار الترجيح ولو بمعونة الفتاوى يقتضى استنباط وجوب العمل بكل مزية يوجب أقربية ذيها إلى الواقع، ولم ينبه على طريق الاستظهار المدعى من أدلة التخيير.
وقد اتضح مما سبق ان العمدة فيها هي رواية الحسن بن الجهم ولا إشكال في إطلاقها وعدم إمكان ذلك الاستظهار منها بل ولا من ساير الاخبار على فرض عدها من اخبار التخيير.
نعم لو كانت دعواه إهمال أدلة التخيير والقدر المتيقن منها هو صورة التكافؤ من جميع الجهات أو ان الذهاب إلى التخيير ليس لأجل الأدلة اللفظية لقصور ما دل منها سندا كرواية ابن الجهم كان له وجه، لكن قد عرفت بيان إطلاقها، واما قصور سندها فالظاهر جبره بعمل الأصحاب بناء على ان مبنى حكمهم بالتخيير انما هو هذه الروايات لا غير.
ثم انه لو فرض التعدي إلى مطلق المرجحات لا بد من رفع اليد عن وجوب التخيير لندرة مورد لا يكون مرجح ما لأحد الخبرين، اللهم الا ان يقال: ان مبنى فتوى الأصحاب بوجوب التخيير ليس مثل رواية ابن الجهم كما سيأتي بيانه.
في استدلال الشيخ على التعدي من المنصوص
واما قضية استفادة التعدي من أدلة المرجحات فقد استدل عليه بأمور:
منها ما في المقبولة والمرفوعة بالترجيح بالأصدقية والأوثقية فان الترجيح بهما ليس الا من حيث الأقربية إلى الواقع من دون دخالة سبب خاص فيه وليستا كالأعدلية والأفقهية حيث يحتمل فيهما اعتبار الأقربية من السبب الخاص فحينئذ يتعدى منهما إلى كل صفة في الراوي تكون من أجلها كذلك.
85

ومنها يتعدى إلى صفة الرواية لأن أصدقية الراوي وأوثقيته انما تعتبران من أجل حصول صفة الوثوق والصدق في نفس الرواية فإذا كان إحدى الروايتين منقولة باللفظ والأخرى بالمعنى كان الأول أقرب إلى الصدق - هذا ويمكن ان يقال في تأييده: ان صفة الأورعية والأعدلية والأفقهية أيضا تكون معتبرة لأجل الأقربية إلى الواقع من غير دخالة سبب خاص فان صفة الأورعية والأعدلية تقتضي ان يكون الراوي دقيقا في حفظ كلمات الحديث والتورع عن التغيير والتبديل ولو بكلمات مرادفة بنظره وعن النقل بالمعنى فتكون روايته أقرب إلى الواقع نوعا.
وكذا صفة الأفقهية تقتضي الأقربية لأجل كون الأفقه أعرف بمذاق الأئمة وطريقتهم وأعرف بتميز ما صدر منهم لأجل إفادة الحكم الواقعي من غيره فلا ينقل في مقام العمل والفتوى الا ما هو أقرب إلى الواقع بخلاف غير الأفقه، فجميع الصفات المذكورة في المقبولة والمرفوعة مشتركة في حيثية وممتازة في حيثيات وانما جعلت مرجحة من حيثيتها المشتركة وهي أقربية ذيها إلى الواقع دون الجهات الممتازة ثم بعد ما استكشفنا منها كون تمام الملاك والموضوع لوجوب الترجيح هو حيثية الأقربية إلى الواقع نتعدى إلى كل ما كان كذلك، هذا غاية تقريب هذا الدليل، ثم أيد ما ذكره بان الراوي بعد سماع الترجيح بمجموع الصفات لم يسأل عن صورة وجود بعضها وتخالفها في الروايتين ولو لا فهمه ان ما ذكر وأمثاله مزية مستقلة لم يكن وقع للسؤال عن صورة عدم المزية رأسا بل ناسبه السؤال عن حكم عدم اجتماع الصفات - هذا.
ولكن بعد اللتيا والتي وإتعاب النفس في تقريب الدليل لا يجوز التعدي إلى غير ما في النص لأنه بعد ذلك لم يخرج عن التخرص الظني ولم يستند إلى ظهور لفظي قابل للاعتداد والاحتجاج ولم يخرج عن الاستحسان، والإنصاف ان التعدي عن مرجح الحكم كما في المقبولة إلى مرجح الرواية ثم التعدي من المنصوص إلى غيره بهذه التقريبات الظنية الخطابية خارج عن مذاقنا، ولعل الشيخ رحمه الله كان اعتماده على الشهرة والإجماع المنقولين وأراد الاستدلال عليه بالأدلة اللفظية لئلا تخلو الواقعة عن دليل لفظي والا فهذا النحو من الاستدلال خلاف مسلكه في الفقه،
86

ثم ان من الغريب تأييد مرامه بما ذكر من ان عدم سؤال الراوي عن حال تخالفها دليل على فهمه الاستقلال مع إمكان ان يقال: ان الأمر بعكس ما أفاده فإنه لو فهم استقلال الصفات المذكورة في الترجيح كان عليه السؤال عن مورد افتراقها لاحتمال كون إحدى الصفات مع استقلال الجميع أرجح في نظر الشارع بخلاف ما إذا فهم كون المجموع مرجحا واحدا فإنه معه لا وقع للسؤال عن مورد افتراقها لمعلومية عدم الترجيح بها متفرقة بعد كون المرجح مجموعها.
ومنها تعليله الأخذ بالمشهور بقوله فان المجمع عليه لا ريب فيه، توضيحه:
ان معنى اشتهار الرواية كونها معروفة عند الكل كما يدل عليه فرض كونهما مشهورين والمراد بالشاذ هو ما لا يعرفه الا القليل، والمشهور بهذا المعنى ليس قطعيا من جميع الجهات حتى يصير مما لا ريب فيه حقيقة والا لم يمكن فرضهما مشهورين لامتناع تحققها فيهما، ولا الرجوع إلى صفات الراوي قبل ملاحظة الشهرة، ضرورة ان الإرجاع بالأمارة الظنية لا يجوز الا مع فقدان أمارة قطعية، ولا الحكم بالرجوع مع شهرتهما إلى المرجحات الاخر فالمراد بنفي الريب نفيه بالإضافة إلى الشاذ ومعناه ان الريب المحتمل في الشاذ غير محتمل فيه فيكون حاصل التعليل ان كلما كان أقل احتمالا يجب ترجيحه على غيره ومقتضى التعليل التعدي إلى كل ما كان كذلك (انتهى بتوضيح منا).
وفيه ما عرفت ان المراد بالمجمع عليه الذي لا ريب فيه هو الشهرة الفتوائية وعدم الريب هو الحقيقي منه، ضرورة استهجان سلب الريب عن المجمع عليه مع ذكر الكبرى الكلية بقوله: «انما الأمور ثلاثة امر بين رشده وامر بين غيه» وإرادة الإضافي منه.
واما ما أفاده من القرائن على ذلك فمنظور فيه اما قضية عدم جواز الرجوع إلى صفات الراوي من الأفقهية
والأصدقية قبل ملاحظة الشهرة فلان المقبولة بصدد بيان ترجيح حكم أحد الحكمين والظاهر منها ان حكم غير الأفقه وغير الأعدل غير نافذ مع وجود الأفقه الأعدل فحينئذ يكون الترجيح بصفات القاضي مقدما على الترجيح بالشهرة لأن الترجيح بالصفات لتشخيص صلاحيته للحكم وبعد إحرازها ينظر إلى حكمهما فإذا كان أحد الحكمين مخالفا للمجمع عليه لكون مستنده كذلك يرد، و
87

نقض الحكم في صورة مخالفته للإجماع واما عدم جواز الحكم بالرجوع إلى ساير المرجحات مع شهرتهما انما هو فيما إذا كانتا من المجمع عليه وهو غير معقول فالاشتهار الحاصل فيهما مقابل الشذوذ ففرض السائل عدم كون واحد منهما شاذا والاخر المجمع عليه في مقابل امره بالاخذ بالمجمع عليه وترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند الأصحاب فقال: كلاهما مشتهر بين الأصحاب ويكون الفتوى بكل واحد منهما فتوى ظاهر مشهور ليس واحد منهما شاذا نادرا.
ومما ذكرنا ظهر حال استشهاده بامتناع كون الروايتين مشهورتين، لأن المشهور في مقابل الشاذ وهو ممكن ولو سلم ظهور قوله: «كلاهما مشهوران» في تحقق الشهرة بالمعنى المتقدم فيهما برفع اليد عن هذا الظهور السياقي الضعيف لأجل الظهور القوى المستند إلى اللفظ مؤيدا بالتعليل، وإقامة البرهان بقوله: «انما الأمور ثلاثة» والإنصاف ان حمل «لا ريب فيه» على الإضافي في نفسه مما ينبو عنه الطبع السليم فضلا عن احتفافه بما ذكر من التعليل والبرهان.
ومنها تعليلهم لتقديم الخبر المخالف للعامة بان الحق والرشد في خلافهم وان ما وافقهم فيه التقية، فان هذه قضايا غالبية لا دائمية فيدل بحكم التعليل على وجوب ترجيح كل ما كان معه أمارة الحق والرشد.
وفيه مضافا إلى ان التعليل بان الحق في خلافهم انما ورد في رواية علي بن أسباط وموردها انما هو في الجهل بالحكم ابتداء من دون تعارض الروايتين، والأخذ بعموم تعليله مما لا يجوز فهي محمولة على موردها وهو كون العمل مما لا بد منه مع فقد طريق إلى الواقع كما هو مفروض السائل، وان ما ورد في المقبولة ليس إلا قوله: «ما خالف العامة ففيه الرشاد» والظاهر كون الموصول إشارة إلى خصوص الخبر المذكور قبله فلا يستفاد العلية منه انه مع تسليمه يستفاد منه ان مخالفة العامة تكون بمرتبة من الإصابة حتى يكون الحق والرشد فيها وهو لا يدل على ان كل ما كان بنظرنا أقرب إلى الواقع يكون فيه الرشد ولو نوعا وغالبيا (وبالجملة) ما لم يحرز كون مزية بمرتبة مخالفة العامة في الإيصال إلى الحق لا يجوز الأخذ بها، وانى لنا بإثباته.
88

ومنها قوله: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» دل على انه إذا دار الأمر بين الأمرين في أحدهما ريب ليس في الاخر ذلك الريب يجب الأخذ به وليس المراد نفي مطلق الريب كما لا يخفى (انتهى) توضيحه: ان ما لا يريبك المذكور في مقابل ما يريبك لا يجوز أن يكون الحقيقي منه، ضرورة انه إذا دار الأمر بين المتناقضين ويكون أحدهما لا ريب فيه حقيقة يكون الطرف المقابل مما لا ريب فيه أيضا الا انه إذا كان أحدهما مما لا ريب في حقيقته يكون مقابله مما لا ريب في بطلانه، لا انه مما فيه ريب، فإذا جعل مقابله مما فيه ريب يكون لا ريب فيه هو الإضافي منه فيكون محصل الرواية انه إذا ورد أمران أحدهما فيه ريب والاخر ليس فيه هذا الريب يجب الأخذ بالثاني.
وفيه مع كون الرواية مرسلة ضعيفة لا يمكن إثبات حكم بها لكونها مروية عن الذكرى بقوله قال النبي دع ما يريبك إلى ما لا يريبك وعن كنز الكراجكي بقوله «قال صلى الله عليه وآله دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فإنك لن تجد فقد شيء تركته لله عز وجل ان فيها احتمالا أقرب مما ذكر وهو ان ما يريبك هو الشبهة البدوية التحريمية وما لا يريبك هو ثواب الله تعالى فإنه المناسب للتعليل بقوله فإنك لن تجد فقد شيء (إلخ) فكأنه قال:
دع ما فيه ريب لأجل ثواب الله الذي لا ريب فيه فإنك لن تجد فقد ما تركته لله لأنك ترى ثوابه في دار الثواب، واما حمله على ما ذكره فلا يناسب التعليل مع ان فيما ذكرنا يكون قوله «لا ريب فيه» بمعناه الحقيقي الظاهر فيه ولو منع من ظهورها فيما ذكرنا يكون احتمالا مساويا لما ذكر فلا يصح الاستدلال بها.
فتحصل من جميع ما ذكرنا انحصار المرجح المنصوص بخصوص موافقة الكتاب ومخالفة العامة ولا يستفاد من الأدلة التعميم.
لكن هاهنا كلام وهو ان دليل التخيير الذي عرفت انحصاره تقريبا برواية ابن الجهم انما يمكن التمسك بإطلاقه لو تم اعتباره سندا وانا وان احتملنا بل رجحنا جبر سندها لكنه محل إشكال لأن مبنى الأصحاب بوجوب الأخذ بأحد الخبرين تخيير الا يمكن ان يكون تلك الرواية اما أولا فلان مفادها كما أشرنا إليه سابقا ليس الا التوسعة وجواز الأخذ بأحد الخبرين مع ان فتوى الأصحاب وجوب الأخذ بأحدهما تخييرا
89

الا ان يقال: ان مستندهم في التخيير تلك الرواية لا في عدم التساقط واما ثانيا فلان المشهور بين الأصحاب على ما حكى هو وجوب العمل بكل ذي مزية بل عن جماعة الإجماع وعدم ظهور الخلاف فيه مع ان إطلاق رواية ابن الجهم يقتضى الاقتصار على المنصوص من المرجحات، بل لو بنينا على استفادة التعميم من المرجحات المنصوصة من الروايات كما عليه الشيخ يلزم التقييد الكثير المستهجن في دليل التخيير لندرة تساوى الروايتين من جميع الجهات.
في تقريب الترجيح بكل ذي مزية
ولهذا لأحد ان يقول: انه من المحتمل ان يكون مبنى المشهور في الترجيح بكل ذي مزية هو أصالة التعيين في الدوران بين التعيين والتخيير لا لدليل تعبدي أو لفهم التعميم من اخبار العلاج، فينقدح مما ذكرنا: ان رفع اليد عن مقتضى القاعدة في دوران الأمر بين التعيين والتخيير لا يجوز الا بدليل معتبر ولا دليل على التخيير الا رواية ابن الجهم وهي لا تصلح للاستناد فالقاعدة مقتضية للأخذ بكل ذي مزية وهو في النتيجة كما أفاد الشيخ وان اختلف في الاستدلال.
هذا كله بعد تسليم عدم جواز رفع اليد عن كلا المتعارضين والعمل بمقتضى الأصول كما هو كذلك للتسالم بين الأصحاب بل كأنه ضروري الفقه، فإذا يجب في المتعارضين الترجيح بكل ذي مزية توجب الأقربية إلى الواقع بل لو ظن أقربية أحدهما بحيث دار الأمر بين التعيين والتخيير يجب الأخذ به تعيينا بمقتضى القاعدة المتقدمة.
ثم اعلم ان ما اخترناه سابقا في وجه الجمع بين اخبار الإرجاء واخبار التخيير من ان مقتضى حمل الظاهر على النص هو حمل اخبار الإرجاء على الاستحباب انما هو مع قطع النظر عن سند اخبار التخيير أو البناء على الانجبار بعمل الأصحاب والا فمع ضعف سندها ودلالة غالبها فلا تصلح للقرينية فلا بد حينئذ اما من حملها على إمكان ملاقاة الإمام بدعوى ظهور الغاية في الممكنة كما صنع شيخنا المرتضى وقد عرفت ما فيه، واما رفع اليد عن ظهورها في الوجوب بدعوى إعراض المشهور عن ظاهرها لذهابهم إلى وجوب ترجيح كل ذي مزية منصوصة وغيرها.
90

في إمكان كون كل من المرجحين مرجحا للصدور أو لجهته
الأمر الرابع قد اتضح ان المرجح المنصوص منحصر في موافقة الكتاب ومخالفة العامة فكل واحد منهما يمكن
ان يكون ثبوتا مرجحا لأجل الصدور أو لجهته ويمكن ان يكون كل لجهة، لأن الاخبار المخالفة للكتاب والسنة يمكن ان تكون غير صادرة منهم نوعا فجعلت المخالفة أمارة على عدم الصدور أو صادرة لا لبيان الحكم الواقعي بل للاحتشام عن ولاة الجور وتقية منهم، وكذا الاخبار الموافقة للعامة يمكن ان تكون صادرة منهم وانما دس الدساسون في اخبارهم، ويمكن ان تكون صادرة منهم لأجل التقية فلا يتمحض شيء منهما بحسب الثبوت لترجيح الصدور أو جهته بل يمكن إرجاع الترجيح بالأعدلية وما يتلوها وكذا الاشتهار إلى جهة الصدور بوجه.
واما بحسب مقام الإثبات فالاخبار الواردة في الترجيح بموافقة الكتاب مختلفة:
فمنها ما يظهر منه انها مرجحة لأصل الصدور كرواية ابن الجهم حيث قال في الجواب عن ورود الأحاديث المختلفة: «ان ما يشبه كتاب الله وأحاديثنا فهو منا وما لا يشبههما فليس منا» والظاهر من قوله: «ليس منا» أي لم يصدر منا لا انه صدر للتقية، وكذا روايته الأخرى عن العبد الصالح.
ومنها ما يظهر منه انها مرجحة لجهة الصدور كقوله في رواية الميثمي: لأنا لا نرخص فيما لم يرخص فيه رسول الله ولا نأمر بخلاف ما امر به رسول الله الا لعلة خوف ضرورة (إلخ) فان الظاهر منه ان ما خالف رسول الله قد يصدر منهم تقية وخوفا فأمر في اخبار العلاج برد ما خالف السنة من المتعارضين لأجله أو للأعم منه.
واما الاخبار الواردة في الترجيح بمخالفة العامة فلا يظهر منها انها للترجيح الصدوري أو الجهتي (نعم) ربما يرجح من بعض الاخبار الاخر كونها من مرجح أصل الصدور كأخبار الدس كما ان كثرة صدور الاخبار تقية مما يرجح كونها مرجحة لجهة الصدور، والإنصاف ان كلا من الاحتمالين ممكن والجزم بأحدهما لا يخلو من جزاف.
ثم انك قد عرفت ان مقتضى مصححة عبد الرحمن بن أبي عبد الله ان الترجيح بموافقة الكتاب مقدم على الترجيح بمخالفة العامة ولا وجه لرفع اليد عنهما.
91

وما قيل (1) من ان المرجحات الصدورية مقدمة على المرجحات الجهتية وهي على المرجحات المضمونية لتقدم التعبد على أصل الصدور على التعبد على جهته وهو على التعبد على المضمون.
ففيه ما لا يخفى اما أولا فلان تقدم التعبد بالصدور على جهته وهو على مضمونه مما لا أصل له ولا دليل عليه لأن بناء العقلاء على العمل بخبر الثقة بعد تمامية أصل الصدور وجهته وظهوره وساير الأصول العقلائية ومع عدم جريان واحد منها لا يعملون به ولا معنى للتعبد بالصدور الا العمل به، وما لا عمل له بوجه لا يكون موردا للأصول العقلائية ولا للأدلة الشرعية على فرضها، فما يقال: ان التعبد بالصدور مقدم على التعبد بجهته، ان كان مراده هو التعبد العملي شرعا أو البناء العملي لدى العقلاء، فلا معنى له وهو واضح، وان كان غير ذلك فلا محصل له.
واما ثانيا فلأنه لو سلم فإنما هو في غير باب التعارض، ضرورة ان كلية الأصول اللفظية والعقلية تسقط بالمعارضة وتكون الروايتان ساقطتين رأسا فلا بد في العمل بواحد منهما أو تخييرا من التماس دليل وليس الا اخبار العلاج وهي تدل على تقدم الترجيح بموافقة الكتاب.
واما ثالثا لو سلم كل ذلك فلا يقاوم بناء العقلاء للمصححة المصرحة بتقدم الترجيح بموافقة الكتاب على الترجيح بمخالفة العامة، لأن الأدلة الشرعية على فرضها والأصول العقلائية كلها قابلة للتخصيص والردع فلا تغفل.
هذا كله في المرجح المنصوص واما غيره فبناء على ان الترجيح بمطلقه انما هو لأجل دوران الأمر بين التعيين والتخيير فلا ترجيح لمرجح على مرجح الا ما هو أتم ملاكا وأقرب إلى الواقع.
هذا تمام الكلام في مهمات باب التعادل والترجيح والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا أو باطنا وقد وقع الفراغ من تأليفه ليلة الجمعة تاسع شهر جمادى الأولى سنة 1370 في بلدة قم حرم أهل البيت عليهم السلام ومن إخراجه إلى المبيضة يوم الثالث والعشرين من شهر رمضان المبارك سنة الف وثلاثمائة وسبعين هجرية قمرية على هاجرها الصلاة والسلام في «محلات».

(1) القائل هو المحقق النائيني رحمه الله.
92

رسالة
في الاجتهاد والتقليد
93

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين في الاجتهاد والتقليد، ونذكر مهمات مباحثهما ونترك ما لا ثمرة مهمة فيه وتتم في ضمن فصول:
في ذكر شؤون الفقيه
فصل نريد ان نبين فيه انه من لا يجوز له ان يرجع إلى غيره في تكاليفه الشرعية ومن يجوز له العمل على طبق رأيه ويكون معذورا أو مثابا لو عمل به، ومن يجوز له الإفتاء، ومن له منصب القضاء ويكون حكمه فاصلا للخصومة، ومن يكون له الولاية والزعامة في الأمور السياسية الشرعية، ومن يكون مرجعا للفتيا ويجوز أو يجب لغيره الرجوع إليه.
ولما كانت ديانة الإسلام كفيلة لجميع احتياجات البشر من أموره السياسية واجتماعاته المدنية إلى حياته الفردية كما يتضح ذلك بالرجوع إلى أحكامه في فنون الاحتياجات وشؤون الاجتماع وغيرها فلا محالة يكون لها في كل ما أشرنا إليه تكليف. فلنذكر العناوين الستة في أمور:
الأول
ان الموضوع لعدم جواز الرجوع إلى الغير في التكليف وعدم جواز تقليد الغير هو قوة استنباط الأحكام من الأدلة وإمكانه ولو لم يستنبط شيئا منها بالفعل، فلو فرض حصولها لشخص من ممارسة مقدمات الاجتهاد من غير الرجوع إلى مسألة واحدة في الفقه بحيث يصدق عليه انه جاهل بالاحكام غير عارف بها لا يجوز له الرجوع إلى
94

غيره في الفتوى مع قوة الاستنباط فعلا وإمكانه له من غير فرق بين من له قوة مطلقة أو في بعض الأبواب أو الأحكام بالنسبة إليها (1) لأن الدليل على جواز رجوع الجاهل إلى العالم هو بناء العقلاء ولا دليل لفظي يتمسك بإطلاقه ولم يثبت بنائهم في مثله، فان من له قوة الاستنباط ويتهيأ له أسبابه ويحتمل في كل مسألة ان تكون الأمارات والأصول الموجودة فيها مخالفة لرأي غيره بنظره ويكون غيره مخطئا في اجتهاده ويكون له طرق فعلية إلى إحراز تكليفه لم يعذره العقلاء في رجوعه إليه.
وبالجملة موضوع بناء العقلاء ظاهرا هو الجاهل الذي لا يتمكن من تحصيل الطريق فعلا إلى الواقع لا مثل هذا الشخص الذي تكون الطرق والأمارات إلى الواقع وإلى وظائفه موجودة لديه ولم يكن الفاصل بينه وبين العلم بوظائفه وتكاليفه الا النظر والرجوع إلى الكتب المعدة لذلك فيجب عليه عقلا الاجتهاد وبذل الوسع في تحصيل مطلوبات الشرع وما يحتاج إليه في إعمال نفسه.
وما قد يتراءى من رجوع بعض أصحاب الصناعات أحيانا إلى بعض في تشخيص بعض الأمور انما هو من باب ترجيح بعض الأغراض على بعض كما لو كان له شغل أهم من

(1) وعليه فأقرب التعاريف للاجتهاد ما هو المعروف من انه الملكة أو القدرة والقوة التي يقتدر بها على استنباط الأحكام من الأدلة، فمن له تلك القوة لا يجوز له الرجوع إلى الغير فيما يستنبطه من غير فرق بين ان يكون له ملكة استنباط مطلق الأحكام أو بعضها بناء على إمكان التجزي ووقوعه فيه كما هو الحق، لأن تلك القوة وان كانت بسيطة غير انها ذات مراتب وتتدرج إلى الكمال شيئا فشيئا وهي في كل مرتبة ملكة اجتهاد، (وتوهم) ان مدارك الأحكام متشتتة في جميع أبواب الفقه ولا يمكن الاجتهاد في باب من دون مراجعة إلى الأبواب الاخر لاحتمال وجود المعارض فيها (مدفوع) بان أدلة الأحكام في مثل زماننا هذا وما قاربه مبوبة ومعلوم محالها وقد جمع أصحابنا الأدلة المربوطة بكل باب فيه بحيث تطمئن النفس بعدم ما يصلح لأن يستدرك به في الطهارات مثلا في أبواب الحدود والديات ولا يتوقف الاجتهاد في باب على الاطلاع على جميع أبواب الفقه بشراشره (نعم) لو شك في تحقق القوة وحصولها فمقتضى الأصل عدمها فلا بد من إحرازها.
95

تشخيص ذلك الموضوع، أو يكون من باب الاحتياط وتقوية نظره بنظره، أو من باب رفع اليد عن بعض الأغراض لأجل عدم الأهمية به وترجيح الاستراحة عليه وغير ذلك وقياس التكاليف الإلهية بها مع الفارق.
نعم يمكن ان يقال ان رجوع الجاهل في كل صنعة إلى الخبير فيها انما هو لأجل إلقاء احتمال الخلاف وكون نظره مصيبا فيه نوعا ومبنى العقلاء فيه هو المبنى في العمل على أصالة الصحة وخبر الثقة واليد وأمثالها، وهذا محقق في الجاهل الذي له قوة الاستنباط وغيره (نعم) الناظر في المسألة إذا كان نظره مخالفا لغيره لا يجوز له الرجوع إليه لتخطئة اجتهاده في نظره واما غيره فيجوز له الرجوع إليه بمناط رجوع الجاهل إلى العالم وهو إلقاء احتمال الخلاف، لكنه محل إشكال خصوصا مع ما يرى من كثرة اختلاف نظر الفقهاء في الأحكام ولهذا يحتمل ان يكون للانسداد دخالة في ذلك الرجوع، ويحتمل ان يكون مبنى المسألة سيرة المتشرعة والقدر المتيقن منها غير ما نحن فيه، والمسألة مشكلة وسيأتي مزيد توضيح إن شاء الله.
في بيان شرائط الاجتهاد الثاني موضوع جواز العمل على رأيه
بحيث يكون مثابا أو معذورا في العمل به عقلا وشرعا هو تحصيل الحكم الشرعي المستنبط بالطرق المتعارفة لدى أصحاب الفن أو تحصيل العذر كك، وهو لا يحصل الا بتحصيل مقدمات الاجتهاد وهي كثيرة:
منها العلم بفنون العلوم العربية بمقدار يحتاج إليه في فهم الكتاب والسنة، فكثيرا ما يقع المحصل في خلاف الواقع لأجل القصور في فهم اللغة وخصوصيات كلام العرب لدى المحاورات، فلا بد له من التدبر في محاورات أهل اللسان وتحصيل علم اللغة وساير العلوم العربية بالمقدار المحتاج إليه.
ومنها الأنس بالمحاورات العرفية وفهم الموضوعات العرفية مما جرت محاورة الكتاب والسنة على طبقها والاحتراز عن الخلط بين دقائق العلوم والعقليات الرقيقة وبين المعاني العرفية العادية، فإنه كثيرا ما يقع الخطاء لأجله كما يتفق كثيرا لبعض
96

المشتغلين بدقائق العلوم حتى أصول الفقه بالمعنى الرائج في أعصارنا الخلط بين المعاني العرفية السوقية الرائجة بين أهل المحاورة المبنى عليها الكتاب والسنة والدقائق الخارجة عن فهم العرف، بل قد يقع الخلط لبعضهم بين الاصطلاحات الرائجة في العلوم الفلسفية أو الأدق منها وبين المعاني العرفية في خلاف الواقع لأجله.
ومنها تعلم المنطق بمقدار تشخيص الأقيسة وترتيب الحدود وتنظيم الإشكال من الاقترانيات وغيرها وتمييز عقيمها من غيرها. والمباحث الرائجة منه في نوع المحاورات لئلا يقع في الخطاء لأجل إهمال بعض قواعده، واما تفاصيل قواعده ودقائقه الغير الرائجة في لسان أهل المحاورة فليست لازمه ولا يحتاج إليها في الاستنباط.
ومنها - وهو من المهمات - العلم بمهمات مسائل أصول الفقه مما هي دخيلة في فهم الأحكام الشرعية، واما المسائل التي لا ثمرة لها أو لا يحتاج في تثمير الثمرة منها إلى تلك التدقيقات والتفاصيل المتداولة فالأولى ترك التعرض لها أو تقصير مباحثها والاشتغال بما هو أهم وأثمر، فمن أنكر دخالة علم الأصول في استنباط الأحكام فقد أفرط، ضرورة تقوم استنباط كثير من الأحكام بإتقان مسائله وبدونه يتعذر الاستنباط في هذا الزمان وقياس زمان أصحاب الأئمة بزماننا مع الفارق من جهات.
وظني ان تشديد نكير بعض أصحابنا الأخباريين على الأصوليين في تدوين الأصول وتفرع الأحكام عليها انما نشأ من ملاحظة بعض مباحث كتب الأصول مما هي شبيهة في كيفية الاستدلال والنقض والإبرام بكتب العامة، فظنوا ان مباني استنباطهم الأحكام الشرعية أيضا شبيهة بهم من استعمال القياس والاستحسان والظنون، مع ان المطلع على طريقتهم في استنباطها يرى انهم لم يتعدوا عن الكتاب والسنة والإجماع الراجع إلى كشف الدليل المعتبر لا المصطلح بين العامة (نعم) ربما يوجد في بعض كتب الأعاظم لبعض الفروع المستنبطة من الاخبار استدلالات شبيهة باستدلالاتهم لمصالح منظورة في تلك الأزمنة، وهذا لا يوجب الطعن على أساطين الدين وقوام المذهب.
والإنصاف ان إنكارهم في جانب الإفراط كما ان كثرة اشتغال بعض طلبة الأصول والنظر إليه استقلالا، وتوهم انه علم برأسه وتحصيله كمال النفس وصرف العمر في المباحث
97

الغير المحتاج إليها في الفقه لهذا التوهم في طرف التفريط والعذر بان الاشتغال بتلك المباحث يوجب تشييد الذهن والأنس بدقائق الفن غير وجيه.
فالعاقل الضنين بنقد عمره لا بد من ترك صرفه فيما لا يعنى وبذل جهده فيما هو محتاج إليه في معاشه ومعاده وهو نفس مسائل علم الفقه الذي هو قانون المعاش والمعاد وطريق الوصول إلى قرب الرب بعد العلم بالمعارف، فطالب العلم والسعادة لا بد وان يشتغل بعلم الأصول بمقدار محتاج إليه وهو ما يتوقف عليه الاستنباط ويترك فضول مباحثه أو يقلله، وصرف الهم والوقت في مباحث الفقه خصوصا فيما يحتاج إليه في عمله ليلا ونهارا.
ومنها علم الرجال بمقدار يحتاج إليه في تشخيص الروايات ولو بالمراجعة إلى الكتب المعدة له حال الاستنباط، وما قيل من عدم الاحتياج إليه لقطعية صدور ما في الكتب الأربعة أو شهادة مصنفيها بصحة جميعها أو غير ذلك كما ترى.
ومنها وهو الأهم إلا لزم معرفة الكتاب والسنة مما يحتاج إليه في الاستنباط ولو بالرجوع إليهما حال الاستنباط والفحص عن معانيهما لغة وعرفا وعن معارضاتهما والقرائن الصارفة بقدر الإمكان والوسع وعدم القصور فيه، والرجوع إلى شأن نزول الآيات وكيفية استدلال الأئمة عليهم السلام بها.
والمهم للطالب المستنبط الأنس بالأخبار الصادرة عن أهل البيت فإنها رحى العلم وعليها يدور الاجتهاد والأنس بلسانهم وكيفية محاوراتهم ومخاطباتهم من أهم الأمور للمحصل.
فعن معاني الاخبار بسنده عن داود بن فرقد قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول:
«أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا ان الكلمة لتنصرف على وجوه فلو شاء إنسان لصرف كلامه كيف شاء ولا يكذب» (1) وعن العيون بإسناده عن الرضا عليه السلام قال: «من رد متشابه القرآن إلى محكمه فقد هدى إلى صراط مستقيم، ثم قال عليه السلام ان في أخبارنا محكما كمحكم القرآن ومتشابها كمتشابه القرآن فردوا متشابهها إلى محكمها ولا تتبعوا

(1) الوسائل - كتاب القضاء - الباب 9 - من أبواب صفات القاضي - الرواية 31 -
98

متشابهها دون محكمها فتضلوا» (1).
ومنها تكرير تفريع الفروع على الأصول حتى تحصل له قوة الاستنباط وتكمل فيه، فان الاجتهاد من العلوم العملية وللعمل فيه دخالة تامة كما لا يخفى.
ومنها الفحص الكامل عن كلمات القوم خصوصا قدمائهم الذين دأبهم الفتوى بمتون الاخبار كشيخ الطائفة في بعض مصنفاته، والصدوقين ومن يحذو حذوهم ويقرب عصره أعصارهم لئلا يقع في خلاف الشهرة القديمة التي فيها في بعض الموارد مناط الإجماع ولا بد للطالب الاعتناء بكلمات أمثالهم وبطريقتهم في الفقه وطرز
استنباطهم فإنهم أساطين الفن مع قربهم بزمان الأئمة وكون كثير من الأصول لديهم مما هي مفقودة في الأعصار المتأخرة حتى زمن المحقق والعلامة.
وكذا الفحص عن فتاوى العامة سيما في مورد تعارض الاخبار فإنه المحتاج إليه في علاج التعارض بل الفحص عن اخبارهم، فإنه ربما يعينه في فهم الأحكام (2).
فإذا استنبط حكما شرعيا بعد الجهد الكامل وبذل الوسع فيما تقدم يجوز له العمل بما استنبط ويكون معذورا لو فرض تخلفه عن الواقع.
ثم اعلم ان موضوع جواز الإفتاء أيضا عين ما ذكر. فإنه إذا اجتهد واستنبط الحكم الواقعي أو الظاهري فكما يجوز له العمل به يجوز له الإفتاء به وهذا واضح.
البحث حول منصب القضاء
الثالث موضوع القضاء ليس هو ما تقدم لأنه لما كان من المناصب المجعولة فلا بد من ملاحظة دليل جعله سعة وضيقا، وكذا الحال في الحكومة ونفوذ الحكم في الأمور السياسية مما يحتاج إليه الناس في حياتهم المدنية.

(1) الوسائل - كتاب القضاء - الباب 9 - من أبواب صفات القاضي - الرواية 25 -
(2) وأما ما عن بعض المحققين من انه يشترط ان يعرف علم الكلام بمقدار لا يكون مقلدا في مثل مسألة الحسن والقبح العقليين فهو حسن، واما ما قاله رحمه الله من قوة قدسية زائدا على الشروط المذكورة فهو خارج عن فهمنا.
99

فنقول: لا إشكال في ان الأصل عدم نفوذ حكم أحد على غيره قضاء كان أو غيرها نبيا كان الحاكم أو وصى نبي أو غيرهما، ومجرد النبوة والرسالة والوصاية والعلم بأي درجة كان وساير الفضائل لا يوجب ان يكون حكم صاحبها نافذا وقضائه فاصلا، فما يحكم به العقل هو نفوذ حكم الله تعالى شأنه في خلقه لكونه مالكهم وخالقهم، والتصرف فيهم بأي نحو من التصرف يكون تصرفا في ملكه وسلطانه، وهو تعالى شأنه سلطان على كل الخلائق بالاستحقاق الذاتي، وسلطنة غيره ونفوذ حكمه وقضائه يحتاج إلى جعله، وقد نصب النبي للخلافة والحكومة مطلقا قضاء كانت أو غيرها، فهو صلى الله عليه وآله سلطان من قبل الله تعالى على العباد بجعله.
قال تعالى: النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم (1).
وقال: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فان تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول (2).
وقال: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما (3).
ثم بعد النبي صلى الله عليه وآله كان الأئمة عليهم السلام واحدا بعد واحد سلطانا وحاكما على العباد ونافذا حكمهم من قبل نصب الله تعالى ونصب النبي بمقتضى الآية المتقدمة، والروايات المتواترة بين الفريقين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصول المذهب وهذا مما لا إشكال فيه.
وانما الإشكال في امر القضاء والحكومة في زمان الغيبة بعد قضاء الأصل المتقدم وبعد دلالة الأدلة على ان القضاء والحكومة من المناصب الخاصة للخليفة والنبي والوصي.
قال تعالى: «يا داود انا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق» (4) دل على ان جواز الحكومة بالحق من متفرعات الخلافة وغير الخليفة لا يجوز له

(1) سورة الأحزاب - الآية 6 -
(2) سورة النساء - الآية 62 -
(3) سورة النساء - الآية 68 - وقبلها: وما أرسلنا من رسول الا ليطاع باذن الله -
(4) سورة ص - الآية 25 -
100

الحكم حتى بالحق (تأمل) وانما قلنا بجوازها لكون الأمر في مقام رفع الحظر فلا يستفاد منه الا الجواز.
وتدل عليه أيضا صحيحة سليمان بن خالد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «اتقوا الحكومة فان الحكومة انما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين لنبي أو وصى نبي» (1) ورواية إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين لشريح: «يا شريح قد جلست مجلسا لا يجلسه الا نبي أو وصى نبي أو شقي» (2) فلا بد من الإخراج من الأصل والأدلة من دليل معتبر.
فنقول: انا نعلم علما ضروريا بان النبي صلى الله عليه وآله المبعوث بالنبوة الختمية أكمل النبوات وأتم الأديان بعد عدم إهماله جميع ما يحتاج إليه البشر حتى آداب النوم والطعام وحتى أرش الخدش لا يمكن ان يهمل هذا الأمر المهم الذي يكون من أهم ما يحتاج إليه الأمة ليلا ونهارا، فلو أهمل والعياذ بالله - مثل هذا الأمر المهم أي امر السياسة والقضاء لكان تشريعه ناقصا وكان مخالفا لخطبته في حجة الوداع، وكذا لو لم يعين تكليف الأمة في زمان الغيبة أو لم يأمر على الإمام ان يعين تكليف الأمة في زمانها مع اخباره بالغيبة وتطاولها كان نقصا فاحشا على ساحة التشريع والتقنين يجب تنزيهها عنه.
فالضرورة قاضية بان الأمة بعد غيبة الإمام عليه السلام في تلك الأزمنة المتطاولة لم تترك سدى في امر السياسة والقضاء الذي هو من أهم ما يحتاجون إليه خصوصا مع تحريم الرجوع إلى سلاطين الجور وقضاتهم وتسميته رجوعا إلى الطاغوت وان المأخوذ بحكمهم سحت ولو كان الحق ثابتا، وهذا واضح بضرورة العقل، ويدل عليه بعض الروايات.
وما قد يقال: ان غيبة الإمام منا فلا يجب تعيين السائس بعد ذلك (غير مقنع) فأي دخالة لأشخاص الأزمنة المتأخرة في غيبته روحي له الفداء خصوصا مثل الشيعة الذين يدعون ربهم ليلا ونهارا لتعجيل فرجه.
فإذا علم عدم إهمال جعل منصب الحكومة والقضاء بين الناس فالقدر المتيقن

(1) الوسائل - كتاب القضاء - الباب 3 - من أبواب صفات القاضي - الرواية 3 -
(2) الوسائل - كتاب القضاء - الباب 3 - من أبواب صفات القاضي - الرواية 2 -
101

هو الفقيه العالم بالقضاء والسياسات الدينية العادل في الرعية خصوصا مع ما يرى من تعظيم الله تعالى ورسوله الإكرام والأئمة عليهم السلام العلم وحملته وما ورد في حق العلماء من كونهم حصون الإسلام (1) وأمناء (2) وورثة الأنبياء (3) وخلفاء رسول الله (4) وأمناء الرسل (5) وانهم كسائر الأنبياء (6) ومنزلتهم منزلة الأنبياء في بنى إسرائيل (7) وانهم خير خلق الله بعد الأئمة إذا صلحوا (8) وان فضلهم على الناس كفضل النبي على

(1) وهي رواية علي بن أبي حمزة عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام وفيها: «لأن المؤمنين الفقهاء حصون الإسلام كحصن سور المدينة لها» أوردها المحقق النراقي في عوائده.
(2) وهي رواية إسماعيل بن جابر عن أبي عبد الله عليه السلام انه قال: العلماء أمناء، راجع المصدر المذكور آنفا.
(3) وهي صحيحة القداح وضعيفة أبي البختري أو مصححته عن أبي عبد الله عليه السلام انه قال: «العلماء ورثة الأنبياء» راجع الوسائل - كتاب القضاء - الباب 8 - من أبواب صفات القاضي - الرواية 2 - والمستدرك - الرواية 45.
(4) وهي مرسلة الصدوق، قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: اللهم ارحم خلفائي، قيل: يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال: الذين يأتون من بعدي يروون حديثي وسنتي، راجع الوسائل - كتاب القضاء - الباب 8 - من أبواب صفات القاضي - الرواية 49 ولا يخفى انها مروية بطرق مختلفة، وسيأتي البحث عنها في تعاليقنا الآتية -
(5) عن السيد فضل الله الراوندي في نوادره بإسناده عن موسى بن جعفر عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: الفقهاء أمناء الرسل (الخبر) راجع المستدرك - كتاب القضاء - الباب 11 - من أبواب صفات القاضي - الرواية 29 -
(6) عن جامع الاخبار عن النبي صلى الله عليه وآله انه قال: «أفتخر يوم القيامة بعلماء أمتي فأقول علماء أمتي كسائر أنبياء قبلي» أوردها المحقق النراقي في عوائده -
(7) وهي ما عن الفقه الرضوي انه قال: منزلة الفقيه في هذا الوقت كمنزلة الأنبياء في بنى إسرائيل - راجع المصدر المذكور آنفا -
(8) عن الاحتجاج في حديث طويل: قيل لأمير المؤمنين عليه السلام: «من خير خلق الله بعد أئمة الهدى ومصابيح الدجى؟ قال: العلماء إذا صلحوا» راجع المصدر المذكور آنفا -
102

أدناهم (1) وانهم حكام على الملوك (2) وانهم كفيل أيتام أهل البيت (3) وان مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه (4) إلى غير ذلك، فان

(1) عن المجمع عن النبي صلى الله عليه وآله انه قال: «فضل العالم على الناس كفضلي على أدناهم» راجع المصدر المذكور آنفا -
(2) عن أبي الفتح الكراجكي في كنز الفوائد عن أمير المؤمنين عليه السلام انه قال:
«الملوك حكام على الناس والعلماء حكام على الملوك» راجع المستدرك - كتاب القضاء - الباب 11 - من أبواب صفات القاضي - الرواية 17 -
(3) عن الإمام الهمام أبي محمد العسكري عليه السلام في تفسيره قال: قال علي بن موسى عليه السلام: «يقال للعابد يوم القيامة: نعم الرجل كنت همتك ذات نفسك (إلى ان قال) ويقال للفقيه يا أيها الكافل لأيتام آل محمد عليهم السلام الهادي لضعفاء محبيهم ومواليهم قف حتى تشفع لمن أخذ عنك أو تعلم منك فيقف فيدخل الجنة معه فئاما وفئاما حتى قال عشرا وهم الذين أخذوا عنه علومه وأخذوا عمن أخذ عنه وعمن أخذ عمن أخذ عنه إلى يوم القيامة، فانظروا كم فرق بين المنزلتين» وعن أبيه عليه السلام قال: تأتى علماء شيعتنا القوامون بضعفاء محبينا وأهل ولايتنا يوم القيامة والأنوار تسطع من تيجانهم (إلى ان قال) فلا يبقى هناك يتيم قد كفلوه ومن ظلمة الجهل أنقذوه ومن حيرة التيه أخرجوه الا تعلق بشعبة من أنوارهم (الخبر) وقريب منهما روايات آخر عنه عليه السلام راجع المصدر المذكور آنفا - الرواية 22 - 23 - 24 - 26 - 27 - 28 -.
(4) عن الحسن بن علي بن شعبة في تحف العقول من كلام الحسين بن علي عليهما السلام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويروى عن أمير المؤمنين عليه السلام اعتبروا يا أيها الناس بما وعظ الله به أولياءه من سوء ثنائه على الأحبار إذ يقول: لو لا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم (إلى ان قال) وأنتم أعظم الناس مصيبة لما غلبتم عليه من منازل العلماء لو كنتم تسعون ذلك بان مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه فأنتم المسلوبون تلك المنزلة وما سلبتم ذلك الا بتفرقكم عن الحق واختلافكم في السنة بعد البينة الواضحة (الخبر) راجع المصدر المذكور آنفا الرواية 16 -
103

الخدشة في كل واحد منها سندا أو دلالة ممكنة، لكن مجموعها يجعل الفقيه العادل قدر المتيقن كما ذكرنا.
في الاستدلال بمقبولة عمر بن حنظلة
ومما يدل على ان القضاء بل مطلق الحكومة للفقيه مقبولة عمر بن حنظلة (1) وهي مع اشتهارها بين الأصحاب والتعويل عليها في مباحث القضاء مجبورة من حيث السند، ولا إشكال في دلالتها فإنه بعد ما شدد أبو عبد الله عليه السلام النكير على من رجع إلى السلطان والقضاة وان ما يؤخذ بحكمهم سحت ولو كان حقا ثابتا قال قلت: فكيف يصنعان قال ينظران إلى من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكما فانى قد جعلته عليكم حاكما (إلخ) دلت على ان الذي نصبه للحكومة هو الذي يكون منا، فغيرنا ليس منصوبا لها ولم يكن حكمه نافذا ولو حكم بحكمهم، ويكون راوي الحديث والناظر في حلالهم وحرامهم والعارف بأحكامهم وهو الفقيه، فان غيره ليس ناظرا في الحلال والحرام وليس عارفا بالاحكام بل راوي الحديث في زمانهم كان فقيها.

(1) وإليك متنها - روى المشايخ الثلاثة بإسنادهم عن عمر بن حنظلة قال: سئلت أبا عبد الله عليه السلام عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة أيحل ذلك؟ قال: من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت وما يحكم له فإنما يأخذه سحتا وان كان حقه ثابتا لأنه أخذه بحكم الطاغوت وانما امر الله ان يكفر به قال الله تعالى ويريدون ان يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا ان يكفروا به، قلت: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران إلى من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكما فانى قد جعلته عليكم حاكما، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنما استخف بحكم الله وعلينا رد، والراد علينا الراد على الله وهو على حد الشرك بالله، قلت: فان كان كل واحد اختار رجلا من أصحابنا فرضيا ان يكونا ناظرين في حقهما فاختلفا فيما حكما فيه وكلاهما اختلفا في حديثكم، قال: الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما يحكم به الاخر (إلخ).
104

فان الظاهر من قوله: «ممن روى حديثنا» أي كان شغله ذلك وهو الفقيه في تلك الأزمنة، فان المتعارف فيها
بيان الفتوى بنقل الرواية كما يظهر للمتتبع، فالعامي ومن ليس له ملكة الفقاهة والاجتهاد خارج عن مدلولها.
وان شئت توضيحا لذلك فاعلم انه يمكن ان يستدل على الاختصاص بالمجتهد وخروج العامي بقوله: «نظر في حلالنا وحرامنا» لا من مفهوم النظر الذي يدعى انه بمعنى الاستنباط والدقة في استخراج الأحكام، وان كان لا يخلو من وجه، بل لقوله: «حلالنا وحرامنا» فان الحلال والحرام مع كونهما من الله تعالى لا منهم انما نسبا إليهم لكونهم مبينين لهما وانهم محال أحكام الله فمعنى النظر إلى حرامهم وحلالهم هو النظر إلى الفتاوى والاخبار الصادرة منهم فجعل المنصب لمن نظر في الحلال والحرام الصادرين منهم أي الناظر في اخبارهم وفتاواهم وهو شأن الفقيه لا العامي، لأنه ناظر إلى فتوى الفقيه لا إلى اخبار الأئمة.
ودعوى إلقاء الخصوصية عرفا (مجازفة محضة) لقوة احتمال ان يكون للاجتهاد والنظر في اخبارهم مدخلية في ذلك، بل لو ادعى أحد القطع بان منصب الحكومة والقضاء بما لهما من الأهمية وبمناسبة الحكم والموضوع انما جعل للفقيه لا العامي ليس بمجازف.
ويمكن الاستدلال بقوله: «عرف أحكامنا» من إضافة الأحكام إليهم كما مر بيانه ومن مفهوم عرف، فان عرفان الشيء لغة وعرفا ليس مطلق العلم به بل متضمن لتشخيص خصوصيات الشيء وتمييزه من بين مشتركاته، فكأنه قال: انما جعل المنصب لمن كان مشخصا لا حكامنا ومميزا فتاوانا الصادرة لأجل بيان الحكم الواقعي وغيرها مما هي معللة ولو بمؤنة التشخيصات والمميزات الواردة من الأئمة عليهم السلام لكونها مخالفة للعامة أو موافقة للكتاب، ومعلوم ان هذه الصفة من مختصات الفقيه وغيره محروم منها و (بالجملة) يستفاد من الفقرات الثلث التي جعلت معرفة للحاكم المنصوب ان ذلك هو الفقيه لا العامي.
ويدل على المقصود قوله فيها: «وكلاهما اختلفا في حديثكم» فان الظاهر من الاختلاف فيه هو الاختلاف في معناه لا في نقله وهو شأن الفقيه، بل الاختلاف
105

في الحكم الناشئ من اختلاف الروايتين لا يكون نوعا الا مع الاجتهاد ورد كل منهما رواية الآخر وليس هذا شأن العامي، فيدل هذه الفقرة على ان المتعارف في تلك الأزمنة هو الرجوع إلى الفقيه.
ويدل عليه أيضا قوله: «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما» وقوله فيما بعد:
«أرأيت ان كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة» فان المستفاد من جميع ذلك كون الفقاهة مفروغا عنها في القاضي ولا إشكال في عدم صدق الفقيه والأفقه على العامي المقلد.
ويدل قوله: «فانى قد جعلته حاكما» على ان للفقيه مضافا إلى منصب القضاء منصب الحكومة. أية حكومة كانت، لأن الحكومة مفهوما أعم من القضاء المصطلح والقضاء من شعب الحكومة والولاية، ومقتضى المقبولة انه عليه السلام جعل الفقيه حاكما وواليا، ودعوى الانصراف غير مسموعة، فللفقيه الحكومة على الناس فيما يحتاجون إلى الحكومة من الأمور السياسية والقضائية والمورد لا يوجب تخصيص الكبرى الكلية.
هذا مع منع كون المورد خصوص القضاء المصطلح، فان قوله في الصدر «فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة» يدل على أعمية المورد مما يكون مربوطا بالقضاء كباب القضاء أو إلى السلطان والوالي، فان ما يرجع إليه غير ما يرجع إلى القضاة نوعا، فان شأنهم التصرف في الأمور السياسية، فمع أعمية الصدر من القضاء لا وجه لاختصاص الحاكمية به (فحينئذ) مقتضى الإطلاق جعل مطلق الحكومة سياسية كانت أو قضائية للفقيه، وسؤال السائل بعده عن مسألة قضائية لا يوجب اختصاص الصدر بها كما هو واضح (1)

(1) وتوهم ان السائل كان من أول الأمر بصدد السؤال عن مسألة قضائية حيث سئل عن المنازعة في الدين أو الميراث وان النزاع فيهما نزاع في مسألة قضائية لا حكومية (سخيف غايته) بداهة ان لكل منازعة شخصية جهتين: جهة قضائية وجهة حكومية غير ان الثانية في طول الأولى سواء كان المتنازع فيه امرا ماليا أو حقوقيا أو غيرهما فكل منازعة أو لا يرجع إلى القاضي ليحكم بما هو الحق بينهما، فإذا تراضيا وأخذ بحكم القاضي فهو والا فيرجع الأمر إلى الحاكم لإجراء هذا الحكم، فشأن القضاة رفع التداعي بالقضاء بالحق ومن شأن الحاكم إجراء هذا
الحكم لمنع التعدي بحقوق الناس وحفظ النظام، وعليه فان السؤال عن مسألة الدين أو الميراث لا يوجب اختصاصه بمسألة قضائية لأنه ذو جهتين، وقوله بعد ذلك: فتحاكما إلى السلطان أو القضاة يشهد على ما قلناه، ويظهر منه ان السائل كان من أول الأمر بصدد السؤال عنهما وصراحة الصدر فيما هو الأعم من الجهة القضائية والحكومية مما لا خفاء فيه.
106

وقوله: إذا حكم بحكمنا، ليس المراد الفتوى بحكم الله جزما، بل النسبة إليهم لكون الفقيه حاكما من قبلهم فكان حكمه حكمهم ورده ردهم.
هل الاجتهاد المطلق شرط أم لا
ثم ان الجمع المضاف وان كان يفيد العموم وكذا المصدر المضاف ولازمه جعل المنصب لمن عرف جميع الأحكام لكن لا يستفاد منهما العموم في المقام.
اما أولا فلان وقوع الفقرات في مقابل المنع عن الرجوع إلى حكام الجور وقضاتهم يمنع عن استفادة العموم، بل الظاهر ان يكون المنصب لمن عرف أحكامهم ونظر في حلالهم وحرامهم في مقابل المنحرفين عنهم الحاكمين باجتهادهم ورأيهم، بل الظاهر صدق قوله: عرف أحكامنا وغيره على من عرف مقدارا معتدا به منها، والمراد برواية الحديث ليس هو الرواية للغير، ضرورة عدم مدخليتها لجعل المنصب، بل المراد ان يكون فتواه على طبق الرواية ولما كان المرسوم في تلك الأزمنة الإفتاء بصورة الرواية قال: روى حديثنا.
واما ثانيا فلان الظاهر من قوله: «عرف أحكامنا» هو المعرفة الفعلية وهي غير حاصلة بجميع الأحكام لغير الأئمة، بل غير ممكن عادة، فجعل المنصب له لغو فليس المراد معرفة جميع الأحكام. وصرفها إلى قوة المعرفة وملكة الاستنباط مما لا وجه له فيجب صرفها على فرض الدلالة إلى معرفة الأحكام بمقدار معتد به.
واما ثالثا فعلى فرض إمكان المعرفة الفعلية لجميع الأحكام لا طريق لتشخيص هذا الفقيه، فمن أين علم انه عارف فعلا بجميع الأحكام فلا معنى للأمر بالرجوع إليه فلا بد من الحمل على غيره، لكن يجب ان يكون بحيث يصدق عليه انه ممن روى الحديث
107

وعرف أحكامهم وهو من عرف مقدارا معتدا به منها، وعليه تحمل صحيحة أبي خديجة الآتية، فاعتبار الاجتهاد المطلق سواء كان بمعنى الملكة أو بمعنى العلم الفعلي مما لا دليل عليه بل الأدلة على خلافه نعم لا إشكال في اعتبار علمه بجميع ما وليه.
ثم ان الرواية لما كانت في مقام التحديد وبيان المعرف للمنصوب يجب أخذ جميع القيود فيها قيدا الا ما يدل العقل أو يفهم العرف عدم دخالته كما أشرنا إليه، وفقه الحديث كما وبيان الأحكام المستفادة منه موكول إلى كتاب القضاء.
ومما يمكن الاستدلال عليه للمطلوب صحيحة القداح (1) وضعيفة أبي البختري (2).
ففي الأولى: «وان العلماء ورثة الأنبياء ان الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ولكن ورثوا العلم فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر».
وفي الثانية قال: ان العلماء ورثة الأنبياء وذلك ان الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا وانما أورثوا أحاديث من أحاديثهم فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ حظا وافرا الحديث (3).
بان يقال: ان مقتضى اخباره بان العلماء ورثة الأنبياء ان لهم الوراثة في كل شيء كان شأن الأنبياء، ومن شأنهم الحكومة والقضاء، فلا بد وان تكون الحكومة مطلقا مجعولة لهم حتى يصح هذا الإطلاق أو الاخبار، وتذييلهما بقوله: «ولكن ورثوا العلم أو انما ورثوا الأحاديث» لا يوجب تخصيص الوراثة بهما لعدم استفادة الحصر الحقيقي منهما حتى الثانية اما أولا - فلأنهما في مقابل عدم وراثة الدرهم والدينار فالحصر إضافي - واما ثانيا - فلان الحمل على الحقيقي موجب لمخالفة الواقع لأن ميراث الأنبياء لا ينحصر بهما، فالزهد والتقوي وساير الكمالات من ميراث الأنبياء كما ان الولاية والقضاء منه.

(1) راجع أصول الكافي - كتاب فضل العلم - باب ثواب العالم والمتعلم - الرواية 1 -
(2) الوسائل - كتاب القضاء - الباب 8 - من أبواب صفات القاضي - الرواية 2 - وعن الشيخ المفيد في الاختصاص عن الصفار عن السندي بن محمد عن أبي البختري مثله - راجع المستدرك كتاب القضاء - الباب 8 - من أبواب صفات القاضي - الرواية 45 -
(3) ولا يخفى ان المحقق النراقي رحمه الله ادعى استفاضة مضمونها -
108

ولكن للنظر فيه مجال واسع، فان قوله: «العلماء ورثة الأنبياء» ليس إنشاء بل اخبار، ويكفي في صدقه كونهم ورثة في العلم والحديث، ولا يلزم الاخبار عن وراثتهم كونهم وراثا في جميع شؤونهم (نعم) لو كان في مقام الإنشاء والجعل يمكن دعوى إطلاقه على إشكال لكنه ليس كذلك كما لا يخفى (1).
بحث حول مشهورة أبي خديجة وصحيحته
ومن الروايات الدالة على المطلوب مشهورة أبي خديجة (2) وهي ما روى الشيخ عن محمد بن علي بن محبوب وطريقه إليه صحيح في المشيخة (والست) عن أحمد بن محمد أي ابن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن أبي الجهم، هو بكير بن أعين وقد مات في حياة أبي عبد الله عليه السلام وهو ثقة على الأظهر، لكن إدراك الحسين إياه بعيد،

(1) وبتقريب آخران في قوله: «العلماء ورثة الأنبياء» احتمالين:
الأول - ان يكون إنشاء لجعل الوراثة، وهذا لا يتم الا فيما يقبل الجعل كالقضاء والولاية ونحوهما فمقتضى إطلاقه انه كل ما يكون للأنبياء فهو للعلماء أيضا، فيخرج عن هذا الإطلاق ما قام به الدليل على خلافه، ولكن لا سبيل إلى هذا الاحتمال بعد ملاحظة صدر صحيحة القداح وإليك نقلها: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة، وان الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا به، وانه يستغفر لطالب العلم من في السماء ومن في الأرض حتى الحوت في البحر، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على ساير النجوم ليلة البدر، وان العلماء ورثة الأنبياء (إلخ) فان الجملات الاخبارية الواقعة قبل قوله: «العلماء ورثة الأنبياء» تورث الاطمئنان بأنه اخبار لا إنشاء، فان سياقها آب عن هذا الاحتمال.
الثاني - ان يكون اخبارا وعليه فقد يقال: ان الاخبار عن الوراثة بقول مطلق من غير تقييد بشيء يقتضى ان تكون في جميع الشؤون والا فلا يصح الاخبار مطلقا، (وهو مخدوش) بان ذيل الحديث قرينة على ان الاخبار عن الوراثة كان في العلم والحديث لا مطلقا فراجع وتأمل -
(2) الوسائل - كتاب القضاء - الباب 11 - من أبواب صفات القاضي - الرواية 7 -
109

بل الظاهر عدم إدراكه وكذا من في طبقته كما يظهر بالرجوع إلى طبقات الرواة ففي الرواية إرسال على الظاهر، وأبو الجهم يروى عن أبي خديجة سالم بن مكرم وهو ثقة، فلا إشكال فيها الا من جهة الظن بالإرسال، ولو ثبت اشتهار العمل بها كما سميت مشهورة فيجبر ضعفها من جهته.
قال: بعثني أبو عبد الله إلى أصحابنا فقال: «قال لهم: إياكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تدارىء (1) في شيء من الأخذ والعطاء ان تحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفساق اجعلوا بينكم رجلا قد عرف حلالنا وحرامنا فانى قد جعلته عليكم قاضيا وإياكم ان يخاصم بعضكم بعضا إلى السلطان الجائر».
تدل على جعله منصب القضاء لرجل عارف بحلالهم وحرامهم، وتقريب الدلالة يظهر مما مر في المقبولة الا انها أظهر دلالة من المشهورة بجهات، كما ان المستفاد منها جعل الحكومة مطلقا للفقيه دون هذه، بل يمكن ان يقال بدلالتها على الحكومة أيضا، فان صدرها عام في مطلق الخصومات سواء كانت راجعة إلى القضاة أو إلي الولاة، والقاضي أعم لغة وعرفا عاما من الاصطلاحي، وذيلها يؤكد التعميم، فان التخاصم إلى السلطان ليس في الأمور القضائية بحسب التعارف في جميع الأزمنة سيما في تلك الأزمنة ومن ذلك يمكن التمسك بالصحيحة فان أهل الجور هم الولاة والقاضي حاكم بالجور والظاهر من أهل الجور هو المتصدي له وهم الولاة.
وقريب منها صحيحة أبي خديجة على الأصح (2) قال قال أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام: إياكم ان يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه بينكم فانى قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه (3) وهاهنا روايات آخر استدلوا بها للمطلوب قاصرة سندا أو دلالة أو كليهما لا بأس

(1) تدارى: تدافع في الخصومة.
(2) سيأتي وجه صحة سندها عن الأستاذ دام ظله -
(3) وقد يقال: ان كلمة العلم والعرفان الواردة في الروايات ظاهرة في العلم الوجداني بالاحكام وعرفانها على ما هو الواقع ولا يحصل ذلك الا للأئمة عليهم السلام فلا يجدى الاستدلال
بها في المقام (ولكنه يقال): ان ما يظهر من سياق المقبولة من قوله: «نظر في حلالنا وحرامنا» هو استفادة الحكم بالنظر والاجتهاد لا العلم الوجداني بالحكم، وكذا غيرها من الروايات المذكورة فيها لفظا العلم والعرفان فان المراد منه المكتسب بالطرق الظاهرية الاجتهادية بداهة انه لا علم وجداني بالاحكام لأحد غيرهم حتى المستمع منهم عليهم السلام لأنه ليس في يد من يأخذ منهم الا ظواهر الألفاظ المحتملة فيها إرادة خلافها لجهات شتى ولا تدفعها الا الأصول الظاهرية العقلائية والمبنية عليها الاجتهاد لتحصيل الواقع هذا، وبعد هذا لا نحتاج في الجواب إلى القول بان الوظيفة مقطوع وان كان الحكم مظنونا حتى يناقش فيه بان ظاهر عرفان الأحكام عرفانها بأنفسها لا عرفان الوظيفة.
110

بذكرها تأييدا (1) وقد أشرنا إلى مضامينها في أوائل هذا البحث.
فيما يستدل به على استقلال العامي في القضاء وجوابه
فتحصل مما ذكرنا ان القضاء بل الحكومة مطلقا من مناصب الفقهاء وهذا مما لا إشكال فيه بالنسبة إلى منصب القضاء فان الإجماع بل الضرورة قاضيان بثبوته للفقيه

(1) منها - مرسلة الصدوق المروية في الوسائل (كتاب القضاء - باب 8 - من صفات القاضي الحديث 49) قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: قال رسول الله صلى الله عليه وآله:
اللهم ارحم خلفائي، قيل: يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال: الذين يأتون من بعدي يروون حديثي وسنتي. ورواه في المجالس عن الحسين بن أحمد بن إدريس، عن أبيه، عن محمد بن أحمد، عن محمد بن علي. عن عيسى بن عبد الله، عن أبيه، عن آبائه، عن علي عليه السلام مثله وزاد: «ثم يعلمونها» الظاهر من قوله: «يروون حديثي وسنتي» أي من كان شغله رواية الحديث وهو الفقيه نظير ما استظهره الأستاذ دام ظله في المقبولة من قوله: «عمن روى حديثا» وعليه فمن كان فقيها فهو خليفته وللخليفة ما كان للمستخلف عنه من الشؤون المربوطة به وقد كان للنبي الحكومة والقضاء فللخلفاء ذلكما، وبالجملة الظاهر من الخلافة هو الحكومة والقضاء ونحوهما مما هو المناسب لها لا نقل الحديث عنه لأنه لم يكن من شؤونه حتى يكونوا خليفة في ذلك (نعم) خرج
بالدليل مثل مختصات مقام النبوة فلا يكون لهم، هذا دلالتها.
واما سندها فالحق فيه ان يقال: ان مرسلات الصدوق على قسمين لأنه تارة يقول: روى عنه عليه السلام مثلا بأنه كذا، فلا يصح ان يعتمد بما رواه بهذا النحو من الإرسال كما لا يخفى، وأخرى يقول: «قال عليه السلام» ومن هذا الإرسال يكشف ان طريقه إليه معتبر عنده بحيث لا يأبى عن استناد القول إليه بنحو البت والجزم، فهذا الإرسال لا يضر - تأمل.
ويمكن تأييد المرسلة بعدة روايات اتحدت معها مضمونا وهي ما رواه في الوسائل في الباب المتقدم ذكره عن الرضا عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله:
«اللهم ارحم خلفائي ثلث مرات، فقيل له: يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال: الذين يأتون من بعدي ويروون عني أحاديثي وسنتي فيعلمونها الناس من بعدي» ورواه في معاني الاخبار عن أبيه، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن اليعقوبي، عن عيسى بن عبد الله العلوي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام مثله، وعن صحيفة الرضا بإسناده عن آبائه عليهم السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله قريب منه، وعن عوالي اللئالي عنه صلى الله عليه وآله مثله وزاد في آخره:
«أولئك رفقائي في الجنة» راجع المستدرك - كتاب القضاء - الباب 8 - من أبواب صفات القاضي - الرواية 10 - وعن القطب الراوندي في كتاب لب اللباب عن النبي صلى الله عليه وآله قال: رحمة الله على خلفائي، قالوا وما خلفاؤك؟ قال: الذين يحيون سنتي ويعلمونها عباد الله (الخبر) راجع المصدر المذكور آنفا - الرواية 48 - وعن السيد هبة الله في مجموع الرائق عن أمير المؤمنين عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله قال:
أدلكم على الخلفاء من أمتي ومن أصحابي ومن الأنبياء قبلي؟ هم حملة القرآن والأحاديث عني وعنهم في الله ولله عز وجل (الخبر) راجع المصدر المذكور آنفا - الرواية 52 - ومنها - التوقيع الرفيع: اما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فإنهم
حجتي عليكم وانا حجة الله عليهم (الوسائل - الباب 11 - من أبواب صفات القاضي) - وفيه - مضافا إلى قصور سنده انه لا يصح التمسك به لأن صدره غير منقول إلينا ولعله كان مكتنفا بقرائن لا يحصل معها إطلاق حتى يمكن التمسك به للمطلوب.
ومنها - ما في تحف العقول: ان مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه» (المستدرك - الباب 11 - من أبواب صفات القاضي) (وفيه) مع ضعف سندها يظهر من صدرها وذيلها انها وردت في حق الأئمة عليهم السلام.
ومنها - ما عن دعائم الإسلام عن جعفر بن محمد عن آبائه عليهم السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله انه قال في حديث: والفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا، قبل:
يا رسول الله ما دخولهم في الدنيا؟ قال: اتباع السلطان فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على أديانكم» راجع المصدر المذكور آنفا - ومنها - ما عن العلامة الحلي في التحرير عن رسول الله صلى الله عليه وآله انه قال: «علماء أمتي كأنبياء بنى إسرائيل» راجع المصدر المذكور آنفا - ولا يخفى ما فيهما من الضعف سندا ودلالة.
111

في زمن الغيبة كما ان الأقوى ثبوت منصب الحكومة والولاية له في الجملة وبيان حدودها ومتفرعاتها موكول إلى محل آخر. انما الإشكال في جواز القضاء للمقلد مستقلا أو بنصب الحاكم أو وكالته واستدل على استقلاله بأمور:
112

منها قوله تعالى في سورة النساء (1) «ان الله يأمركم ان تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل ان الله نعما يعظكم به» فان إطلاقه شامل للمقلد العامي، ومعلوم انه إذا أوجب الله تعالى الحكم بالعدل بين الناس لا بد من إيجاب قبولهم ومن نفوذه فيهم والا لصار لغوا.
وفيه ان الخطاب في صدر الآية متوجه إلى من عنده الأمانة لا إلى مطلق الناس وفي ذيلها إلى من له الحكم وله منصب القضاء أو الحكومة لا إلى مطلق الناس أيضا كما هو ظاهر بأدنى تأمل (فحينئذ) يكون المراد ان من له حكم بين الناس يجب عليه ان يحكم بينهم بالعدل، هذا مضافا إلى انها في مقام بيان وجوب العدل في الحكم لا وجوب الحكم فلا إطلاق لها من هذه الحيثية.
ويدل على ان الأمر متوجه إلى من له الأمر مضافا إلى ظهور الآية ما روى الصدوق بإسناده عن المعلى بن خنيس عن الصادق عليه السلام قال قلت له قول الله عز وجل

(1) الآية - 61
113

«ان الله يأمركم ان تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل، فقال: عدل الإمام ان يدفع ما عنده إلى الإمام الذي بعده وامر الأئمة ان يحكموا بالعدل وامر الناس ان يتبعوهم (1) وليس هذا تفسيرا تعبديا خلاف ظاهر الآية بل هو ظاهرها، لأن الحكومة بين الناس لما كانت في جميع الطوائف شأن الأمراء والسلاطين لا يفهم العرف من الآية إلا كون الخطاب متوجها إليهم لا إلى الرعية الذين ليس لهم امر وحكم.
ومنها مفهوم قوله في المائدة: «ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون» وفي آية: هم الظالمون، وفي ثالثة: هم الفاسقون (2) دلت بمفهومها على وجوب الحكم بما أنزل الله وإطلاقه شامل للعامي المقلد.
وفيه ان الآيات الكريمة في مقام بيان حرمة الحكم بغير ما أنزل الله ولا يستفاد منها جواز الحكم أو وجوبه لكل أحد، لعدم كونها في مقام البيان من هذه الجهة، والإنصاف ان لهذه الآيات وغيرها مما استدل بها المحقق صاحب الجواهر (قده) ليس إطلاق يمكن ان يتمسك بها للمطلوب. مضافا إلى انه لو كان لها إطلاق ينصرف إلى من كان صاحب الأمر والحكم دون غيره.
ومنها ما روى الصدوق بسنده عن أحمد بن عائذ، وليس في طريقه إليه ما يمكن القدح فيه الا الحسن بن علي الوشاء وقد قال فيه النجاشي: كان من وجوه هذه الطائفة، وقال: كان هذا الشيخ عينا من عيون هذه الطائفة وقد روى عنه الأجلة كابن أبي عمير وأحمد بن محمد بن عيسى وأحمد بن محمد بن خالد ومحمد بن عيسى ويعقوب بن يزيد والحسين بن سعيد وغيرهم، وعن العلامة الحكم بصحة طرق هو فيها، بل قد يقال: انه من مشايخ الإجازة فلا يحتاج إلى التوثيق، وكيف كان فالأقوى وثاقته، وأحمد بن عائذ ثقة روى عن أبي خديجة سالم بن مكرم الجمال وقد وثقه النجاشي قائلا انه ثقة ثقة، ووثقه الشيخ في موضع على ما عن العلامة وان ضعفه في موضع كما عن الفهرست، والأرجح وثاقته.
قال: قال أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق: إياكم ان يحاكم بعضكم بعضا إلى

(1) الوسائل - كتاب القضاء - الباب 1 - من أبواب صفات القاضي الرواية 6 -
(2) الآيات: 44، 45، 47.
114

أهل الجور ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه بينكم فانى قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه (1) فإنها بإطلاقها تشمل المقلد لأن المراد بالعلم هو الأعم من الوجداني، والمقلد عالم بهذا المعنى لأن له طريقا إلى الواقع.
وفيه ان العلم بشيء من قضاياهم مختص بالفقيه أو منصرف إليه لأن العامي اما ان يتكل إلى فتوى الفقيه في القضاء فلا يصدق عليه انه يعلم شيئا من قضاياهم بل هو يعلم فتوى الفقيه في القضاء وهو طريق إلى حكم الله تعالى، واما ان يتكل باخبار الفقيه بقضاياهم وهذا غير جائز لأنه لا يزيد عن رواية مرسلة غير جائزة العمل مع انه على فرض صحة السند لا يجوز له العمل بها الا مع الفحص عن معارضها وإعمال ساير مقدمات الاستنباط
وهو خارج عن المفروض، وبالجملة العلم بفتوى الفقيه لا يوجب انسلاكه في قوله: «يعلم شيئا من قضايانا» نعم، يمكن الاستدلال بها لثبوت منصب القضاء للمتجزي وهو ليس ببعيد (2).
ومنها صحيحة الحلبي قال: قلت لأبي عبد الله: ربما كان بين الرجلين من أصحابنا المنازعة في الشيء فيتراضيان برجل منا، فقال: «ليس هو ذاك انما هو الذي يجبر الناس على حكمه بالسيف والسوط» (3) فان إطلاق قوله: رجل منا، يشمل المقلد وترك الاستفصال دليل العموم، وأيضا حصر عدم الجواز فيمن يجبر الناس بسيفه وسوطه دليل على جواز الرجوع بغيرهم مطلقا.
وفيه ان الظاهر من قوله: ليس هو ذاك، كون الكلام مسبوقا بسابقة بين المتخاطبين غير منقولة إلينا ومعه يشكل الاعتماد على الإطلاق وترك الاستفصال مضافا إلى عدم

(1) الوسائل - كتاب القضاء - الباب 1 - من أبواب صفات القاضي الرواية 5 -
(2) يمكن ان يقال: ان لفظة «من» بيانية لا تبعيضية لأن لفظة «شيئا» مبهم بل كونها تبعيضية خلاف ما يقتضيه المقام والسياق فان الظاهر منه انه عليه السلام كان في مقام نصب القاضي نصبا عاما ومجرد العلم بقضية أو حكم لا يناسب هذا المنصب فيكون المراد: فانظروا إلى رجل منكم يعلم قضايانا، وعليه لا مجال للاستدلال بها لثبوت منصب القضاء للمتجزي تأمل.
(3) راجع المصدر المذكور آنفا - الرواية 8 -
115

الإطلاق لعدم كونه في مقام البيان بل هو في مقام بيان حكم آخر والحصر إضافي، ضرورة عدم جواز الرجوع إلى قضاة العامة ممن ليس سيف وسوط، مضافا إلى عدم جواز الاعتماد بالحصر أيضا مع معهودية القضية بينهما وعدم نقل الرواية بجميع خصوصياتها لنا، مع ان معهودية كون شأن القضاء لأشخاص معينة وهم فقهاء الفريقين يمنع عن الإطلاق وعلى فرض الإطلاق يقيد بمثل المقبولة.
وقد يستدل لجواز الرجوع إلى المقلد بان الاجتهاد بهذا المعنى المتعارف في زماننا لم يكن في الصدر الأول بل المحدثون فيه مثل المقلدين الآخذين أحكام الله من الفقهاء فقوله في المقبولة: «ممن روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا» ليس المراد منه المجتهد أي من له قوة الاستنباط بالمعنى المعهود في أعصارنا لعدم وجوده في زمان الأئمة عليهم السلام، بل المراد منه من علم الأحكام بأخذ المسائل من الإمام أو الفقيه كما كان كذلك في تلك الأزمنة.
وفيه انا لا ندعي ان المناط في الفقيه المنصوب في المقبولة هو واجديته لقوة الاستنباط ورد الفرع إلى الأصل بالنحو المتعارف في زماننا بل نقول: ان الموضوع هو من يتصف بما فيها من كونه ممن روى حديثهم ونظر في حلالهم وحرامهم وعرف أحكامهم على نحو ما حررناه في فقه الحديث وهو صادق على المحدثين والفقهاء في العصر الأول من أصحاب الأئمة كما هو صادق على فقهاء عصرنا فإنهم مشتركون معهم فيما هو مناط المنصب، وامتياز المجتهدين في زماننا عنهم انما هو في امر خارج عما يعتبر في المنصب وهو تحصيل قوة الاستنباط بالمشقة وبذل الجهد وتحمل الكلفة في معرفة الأحكام مما لم يكن فقهاء العصر الأول محتاجين إليه، فمعرفة الأحكام في العصر الأول كانت سهلة لعدم الاحتياج إلى كثير من مقدمات الاجتهاد، وعدم الاحتياج إلى التكلف وبذل الجهد مما نحتاج إليها في هذه الأعصار مما هي غير دخيلة في تقوم الموضوع بل دخيلة في تحققه، فقيود الموضوع وهي ما عينت المقبولة من الأوصاف كانت حاصلة لهم من غير مشقة ولفقهائنا مع تحمل المشاق واما المقلد فخارج عن الموضوع رأسا لعدم صدق الأوصاف عليه كما أوضحنا سبيله سابقا، هذا مع ان المنصوبين للقضاء من
116

قبل خلفاء الجور والحق كانوا من الفقهاء الواجدين لقوة الاستنباط كشريح المنصوب من قبل أمير المؤمنين وكابن أبي ليلى وابن شبرمة وقتادة وأضرابهم.
هل يجوز للفقيه نصب العامي للقضاء أم لا؟
فتحصل من جميع ذلك ان منصب القضاء مختص بالفقهاء ولاحظ للعامي منه، فهل يجوز للفقيه نصب العامي العارف بمسائل القضاء تقليدا أم لا؟ ربما قيل بالجواز مستدلا بعموم أدلة ولاية الفقيه، وتقريبه: ان للنبي والوصي نصب كل أحد للقضاء مجتهدا كان أو مقلدا عارفا بالمسائل بمقتضى سلطنتهم وولايتهم على الأمة وكل ما كان لهما يكون للفقيه الجامع للشرائط بمقتضى أدلة الولاية، وردت كلتا المقدمتين:
اما الأولى فلمنع جواز نصب العامي للنبي والوصي بمقتضى مقبولة عمر بن حنظلة الدالة على ان هذا المنصب انما هو للفقيه لا العامي، ويستفاد منها ان ذلك حكم شرعي إلهي وفيه ان المقبولة لا تدل الا على نصب الإمام الفقيه، واما كون ذلك بإلزام شرعي بحيث يستفاد منها ان الفقاهة من الشرائط الشرعية للقضاء فلا.
ويمكن ان يستدل لذلك بصحيحة سليمان بن خالد المتقدمة عن أبي عبد الله قال:
«اتقوا الحكومة فان الحكومة انما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين لنبي أو وصى نبي» فان الظاهر منها انها مختصة بهما من قبل الله ولا يكون لغيرهما أهلية لها، غاية الأمر أن أدلة نصب الفقهاء لها تكون مخرجة إياهم عن الحصر وبقي الباقي.
بل يمكن ان يقال: ان الفقهاء أوصياء الأنبياء بوجه لكونهم الخلفاء والأمناء ومنزلتهم منزلة الأنبياء من بنى إسرائيل فيكون خروجهم موضوعيا لا يقال: بناء عليه لا معنى لنصبهم حكاما لأنهم الأوصياء فيكون المنصب لهم بجعل الله لأنا نقول: ان المستفاد من الصحيحة ان هذا المنصب لا يكون الا للنبي والوصي وهو لا ينافي ان يكون بنصب النبي أو الإمام لكن بأمر الله تعالى وحكمه فإذا نصب الله تعالى النبي حاكما وقاضيا ونصب النبي الأئمة كذلك والأئمة الفقهاء ويكون الأئمة والفقهاء أوصياء النبي يصح ان يقال:
ان الحكومة منحصرة بالنبي والوصي ويراد منه الأعم من الفقهاء (تأمل).
117

وبالجملة حصر الحكومة بالنبي والوصي يسلب أهلية غيرهما خرج الفقهاء اما موضوعا أو حكما وبقي الباقي، مع ان الشك في جواز نصب النبي والإمام العامي للقضاء باحتمال اشتراطه بالفقاهة وعدم ظهور إطلاق ينفيه يكفي في عدم جواز نصب الفقيه إياه وعدم نفوذ حكمه لو نصبه.
واما المقدمة الثانية فأجيب عنها بمنع عموم ولاية الفقيه لأن المنصف المتأمل في المقبولة صدرا وذيلا وفي سياق الأدلة يقطع بأنها في مقام بيان وظيفتهم من حيث الأحكام الشرعية والقضاء بين الناس لا مطلقا، مع انه لو سلم استفادة العموم منها لا بد وان تحمل على ذلك احترازا عن التخصيص الأكثر المستهجن فان أكثر ما للنبي والإمام غير ثابتة للمجتهد فلا يجوز التمسك بها لما نحن فيه الا بعد تمسك جماعة معتد بها من الأصحاب ولم يتمسك بها في المقام الا بعض المتأخرين.
وفيه ان المستفاد من المقبولة كما ذكرنا هو ان الحكومة مطلقا للفقيه وقد جعلهم الإمام حكاما على الناس ولا يخفى ان جعل القاضي من شؤون الحاكم والسلطان في الإسلام فجعل الحكومة للفقهاء مستلزم لجواز نصب القضاة فالحكام على الناس شأنهم نصب الأمراء والقضاة وغيرهما مما يحتاج إليه الأمة كما ان الأمر كذلك من زمن رسول الله والخلفاء حقا أو باطلا، ولعل الآن كذلك عند العامة وليس ذلك الا لمعروفية ذلك في الإسلام من بدو نشئه.
فالقول بان الاخبار في مقام بيان وظيفتهم من حيث الأحكام الشرعية والقضاء بين الناس، ساقط اما بيان الأحكام الشرعية فليس من المناصب فلا معنى لجعله، وتخصيصها بالقضاء لا وجه له بعد عموم اللفظ ومطابقة الاعتبار، والانصراف لو كان فهو بدوي ينشأ من توهم كون مورد المقبولة هو القضاء، ودعوى مساوقة المقبولة للمشهورة وهي مختصة بالقضاء فكذلك المقبولة كما ترى، مع انك قد عرفت عدم اختصاص مورد المقبولة ولا
المشهورة بالقضاء واما تخصيص الأكثر فممنوع جدا، فان مختصات النبي وان كانت كثيرة لكن ليس شيء منها مربوطا بمقام سلطنته وحكومته الا النادر القليل لو كان،
118

فما هو ثابت للنبي والوصي من الحكومة والولاية في الأمور السياسية والحسبية هي الشؤون التي ثابتة للفقهاء أيضا والمستثنى منها قليل جدا، وما هي من مختصات النبي فليست من شؤون الحكومة الا النادر منها فراجع مختصاته وقد جمعها العلامة في أول نكاح التذكرة حتى يتضح لك الأمر، واما مختصات الأئمة فمع عدم كثرتها فهي أيضا غير مربوطة بمقام الحكومة الا النادر على فرضه.
هل يجوز توكيل العامي للقضاء؟
واما توكيل الفقيه مقلده العارف بمسائل القضاء لتوليه تشبثا بإطلاق أدلة الوكالة ففيه ما لا يخفى على المتأمل.
اما أو لا فلان القضاء غير قابل للتوكيل لما يستفاد من الأدلة كما عرفت اختصاصه بالفقيه فيعتبر فيه مباشرة الفقيه ولو شك في ذلك ليس دليل ولا أصل يتشبث - به لإحراز القابلية فالأصل الأولى محكم مع الشك.
واما ثانيا فلعدم إطلاق في أدلة الوكالة يحرز به نفوذ الوكالة في كل امر إذ ليس فيها ما يتوهم فيه ذلك الا صحيحة معاوية بن وهب عن أبي عبد الله انه قال: من وكل رجلا على إمضاء امر من الأمور فالوكالة ثابتة أبدا حتى يعلمه بالخروج منها كما أعلمه بالدخول فيها (1) وصحيحة هشام بن سالم عنه عليه السلام في رجل وكل آخر على وكالة في امر من الأمور واشهد له بذلك الشاهدين فقام الوكيل فخرج لإمضاء الأمر، فقال: اشهدوا انى قد عزلت فلانا عن الوكالة، فقال: ان كان الوكيل أمضى الأمر الذي وكل فيه قبل العزل فان الأمر واقع ماض على ما أمضاه الوكيل، كره الموكل أم رضى، قلت: فان الوكيل أمضى الأمر قبل ان يعلم العزل أو يبلغه انه قد عزل عن الوكالة فالامر على ما أمضاه؟ قال:
نعم (إلى ان قال) ان الوكيل إذا وكل ثم قام عن المجلس فأمره ماض أبدا والوكالة ثابتة حتى يبلغه العزل عن الوكالة بثقة يبلغه أو يشافه بالعزل عن الوكالة (2).

(1) الوسائل - كتاب الوكالة - الباب 1 - الرواية 1 -
(2) الوسائل - كتاب الوكالة - الباب 2 - الرواية 1 -
119

وهما كما تراهما لا إطلاق لهما لإثبات قابلية كل شيء للوكالة أو نفوذها في كل شيء لكونهما في مقام بيان حكم آخر وهو واضح.
وتوهم كون التوكيل في الأمور من الأمور العقلائية الغير المحتاجة إلى الدليل فعدم الردع يكفي في ثبوته لكل شيء فيه ان التمسك ببناء العقلاء مع عدم الردع انما هو في الأمور الشائعة المتداولة بين الناس بمرأى ومنظر من الشارع وعدم ورود ردع منه كالعمل بالظواهر، وخبر الثقة والوكالة في مثل النكاح والطلاق والبيع والشراء وأمثالها من المعاملات تكون كذلك، واما الوكالة في القضاء فلم تكن متعارفة بينهم حتى يتمسك ببنائهم، وليس البناء على امر كلي حتى يتمسك بإطلاقه أو عمومه، فالحق عدم جواز التوكيل للعامي فيه.
في تشخيص مرجع التقليد والفتوى
الرابع في تشخيص موضوع جواز التقليد وان من يجوز الرجوع إليه في الفتوى؟ هل هو الأعلم أو المجتهد المطلق وان لم يكن هو الأعلم أو الأعم منه ومن المتجزي؟ فيقع الكلام تارة في صورة عدم اختلافهما في الفتوى، وأخرى مع عدم معلومية اختلافهما، وثالثة مع معلوميته إجمالا، ورابعة مع معلوميته تفصيلا، ولا بد قبل الورود في بيان الأدلة من تأسيس الأصل.
فنقول: لا إشكال في ان الأصل حرمة العمل بما وراء العلم عقلا ونقلا كما لا إشكال في ان التقليد أي الأخذ بقول الغير ومتابعة رأيه في العمل عمل بغير العلم سواء كان دليله بناء العقلاء كما سنتعرض له أو التعبد الشرعي من إجماع أو غيره، وقد خرج من الأصل تقليد الفاضل إجماعا بل ضرورة لوضوح عدم كون الناس كلهم مكلفين بتحصيل العلم والاجتهاد وبطلان وجوب العمل بالاحتياط أو التجزي فيه، فلا إشكال في جواز الاكتفاء بتقليد الأعلم وخروجه عن حرمة العمل بغير العلم فبقي الرجوع إلى غيره تحت الأصل ولا بد من خروجه عنه من التماس دليل - هذا.
واما التمسك بدليل الانسداد بان يقال: يجب على العامي عقلا العمل
120

بقول الأعلم والا لزم اما إهمال الوقائع فهو باطل بالضرورة للعلم الإجمالي بالتكليف أو تحصيل العلم حقيقة أو اجتهادا وهو باطل للعلم الضروري بعدم وجوبه على الناس وللزوم اختلال النظام، واما الاحتياط فهو باطل أيضا للزوم العسر والحرج بل اختلال النظام، واما الأخذ بقول المفضول وهو باطل لقبح ترجيح المرجوح على الراجح (فهو ليس في محله) لعدم تمامية مقدماته لأن العلم الإجمالي منحل بما في فتاوى الاحياء من العلماء وليس للعامي زائدا على فتاواهم علم فيكون تكليفه الاحتياط في فتاواهم أي العمل بأحوط الأقوال، ولزوم العسر والحرج منه فضلا عن اختلال النظام ممنوع، ولأن الأخذ بقول غير الأعلم من قبيل ترجيح المرجوح ممنوع اما أو لا فلان كثيرا ما يتفق موافقة فتوى غير الأعلم لفتوى الميت الذي هو أعلم من الاحياء واما ثانيا فلان فتوى الفقهاء من قبيل الأمارات فقد يكون بواسطة بعض الخصوصيات فتوى غير الأعلم أقرب إلى الواقع، ثم على فرض تمامية المقدمات لا تكون نتيجتها الأخذ بقول الأعلم بل يلزم عليه التبعيض في الاحتياط بما دون العسر والحرج، وقد يقرر الأصل بان الأصل عدم حجية رأي أحد على أحد خرج منه رأي الأعلم وبقي غيره.
وقد تشبث القائلون بجواز الأخذ من غير الأعلم بأصول غير أصيلة:
في تقرير الأصل لجواز تقليد المفضول
منها ان أصالة حرمة العمل بالظن قد انقطعت بما دل على مشروعية التقليد في الجملة ولا ريب انه إذا كان المجتهدان متساويين من جميع الجهات في جواز الرجوع إلى كل منهما تخييرا بحكم العقل بعد عدم جواز طرح قولهما وعدم وجوب الأخذ بأحوطهما ويستكشف من حكم العقل حكم شرعي بجواز الرجوع إلى كل منهما تخييرا فإذا صار أحدهما أعلم من الاخر يشك في زوال التخيير فيستصحب بقائه ويتم في غيره بعدم القول بالفصل.
وأجيب عنه بان الاستصحاب غير جار في الأحكام العقلية لامتناع حصول الشك مع بقاء الموضوع بجميع حدوده فالشك فيها معلول اختلاف الموضوع ومعه لا يجري الاستصحاب.
121

وفيه ان جريانه في نفس حكم العقل وان كان ممنوعا لكن في الحكم الشرعي المستكشف منه لا مانع منه من قبل اختلاف الموضوع لأن اختلافه عقلا لا يضر به مع بقائه عرفا.
والحق في الجواب ان يقال: ان الحكم الشرعي المستكشف من حكم العقل بناء على تمامية الملازمة لا يعقل ان يكون بمناطه غير مناط حكم العقل ومع زوال المناط لا يعقل بقائه كما لا يعقل بقاء حكم العقل، ففيما نحن فيه إذا كان حكم العقل بالتخيير بمناط تساويهما واستكشف حكم شرعي متعلق بالموضوع لأجل هذا المناط فلا يعقل بقاء حكم العقل والشرع المستكشف منه مع زوال التساوي.
نعم يمكن ان يكون مناط آخر غيره علة للتخيير أيضا فمع زوال المناط الأول والحكم المعلول له بقي الحكم بالتخيير لذاك المناط فحينئذ لا يجري استصحاب شخص الحكم لأن ما هو بمناط حكم العقل زال قطعا وغيره مشكوك الحدوث فبقي استصحاب الكلي وهو وان جرى في بعض الموارد لكن لا يجري فيما نحن فيه لأن
الجامع بين التخييرين من المخترعات العقلية الغير المجعولة لتعلق الجعل بكل من التخييرين لا الجامع بينهما القابل للصدق عليهما، فالجامع بينهما ليس حكما ولا موضوعا ذا حكم فلا يجري استصحاب الكلي أيضا في المقام، وان شئت تفصيل ذلك فراجع باب استصحاب الأحكام العقلية واستصحاب الكلي.
هذا مضافا إلى إمكان معارضة هذا الاستصحاب باستصحاب آخر وهو استصحاب الحجية التعينية فيما إذا انحصر المجتهد في شخص ثم وجد من هو المفضول منه فيشك في جواز الرجوع إلى غيره فيستصحب عدم الجواز الثابت للمفضول قبل اجتهاده أو الحجة التعيينية ويتم في غيره بعدم القول بالفصل تأمل (1) واما تمسكهم بأصالة البراءة وأمثالها فهو في مقابل أدلة حرمة العمل بالظن (غريب) فلا نطيل بتعرضه، فتحصل مما ذكرنا ان الأصل مع القائلين بعدم جواز تقليد غير الأعلم مع وجود الأعلم.

(1) وجهه: ان المستصحب لا مجعول ولا موضوع لأثر مجعول.
122

بحث حول بناء العقلاء
ثم انه قبل الورود في أدلة الطرفين لا بأس بالتدبر في بناء العقلاء وبيان مقتضى ارتكازهم في أصل التقليد وفي باب تقليد الأعلم فنقول: المعروف ان عمدة دليل وجوب التقليد هو ارتكاز العقلاء فإنه من فطريات العقول رجوع كل جاهل إلى العالم ورجوع كل محتاج إلى صنعة وفن إلى الخبير بهما فإذا كان بناء العقلاء ذلك ولم يرد ردع من الشارع عنه يستكشف انه مجاز ومرضي، ولا يصلح ما ورد من حرمة اتباع الظن للرادعية لما ذكرنا في باب حجية الظن من ان مثل هذه الفطريات والأبنية المحكمة المبرمة لا يمكن فيها ردع العقلاء بمثل عموم (الظن لا يغنى من الحق شيئا) بناء على عدم الخدشة في دلالته وغير ذلك فإنه لا ينقدح في ذهنهم احتمال الخلاف في تلك الفطريات غالبا الا مع التنبه فلا ينقدح في بالهم ان مثل تلك العمومات رادعة عن مثل تلك الارتكازات فلا بد من ردعهم عن مثلها من التصريح والتأكيد، ولهذا بعد ورود أمثال ما يدعى الردع بها لم - ينقدح في ذهن من في الصدر الأول عدم جواز ترتيب الملكية على ما في يد الغير وأثر الصحة على معاملات الناس وعدم قبول قول الثقة والعمل بالظواهر فإذا يكون أصل التقليد ورجوع الجاهل إلى العالم جائزا.
إشكال على بناء العقلاء
وهاهنا شك وهو ان ارتكاز العقلاء وبنائهم على امر انما يصير حجة إذا أمضاه الشارع وانما يكفي عدم الردع ويكشف عن الإمضاء إذا كان بنائهم على عمل بمرأى ومنظر من النبي أو الأئمة عليهم السلام كبنائهم على أصالة الصحة والعمل بقول الثقة وأمثالهما مما كان بنائهم العملي متصلا بزمان المعصومين، واما إذا كان بنائهم على عمل في موضوع مستحدث لم يتصل بزمانهم فلا يمكن استكشاف إمضاء الشارع لمثله وما نحن فيه من هذا القبيل، فان علم الفقه أصبح في أعصارنا من العلوم النظرية التي لا تقصر عن العلوم الرياضية والفلسفية في حين كان في أعصار الأئمة عليهم السلام من العلوم الساذجة البسيطة
123

وكان فقهاء أصحاب الأئمة يعلمون فتاواهم ويميزون بين ما هو صادر من جراب النورة وغيره ولم يكن الاجتهاد في تلك الأزمنة كزماننا فرجوع الجاهل إلى العالم في تلك الأزمنة كان رجوعا إلى من علم الأحكام بالعلم الوجداني الحاصل من مشافهة الأئمة عليهم السلام وفي زماننا رجوع إلى من عرف الأحكام بالظن الاجتهادي والأمارات ويكون علمه تنزيليا تعبديا لا وجدانيا فرجوع الجاهل في هذه الأعصار إلى علماء الدين وان كان فطريا ولا طريق لهم بها الا ذلك لكن هذا البناء ما لم يكن مشفوعا بالإمضاء، وهذا الارتكاز ما لم يصر ممضى من الشارع لا يجوز العمل على طبقه ولا يكون حجة بين العبد والمولى، ومجرد ارتكازية رجوع كل ذي صنعة إلى أصحاب الصنائع وكل جاهل إلى العالم لا يوجب الحجية إذا لم يتصل بزمان الشارع حتى يكشف الإمضاء، وليس إمضاء الارتكاز وبناء العقلاء من الأمور اللفظية حتى يتمسك بعمومها أو إطلاقها ولم يرد دليل على إمضاء كل المرتكزات الا ما خرج حتى يتمسك به.
ومن ذلك يعلم عدم جواز التمسك بإرجاع الأئمة عليهم السلام إلى أصحابهم كإرجاع ابن أبي يعفور إلى الثقفي وكالإرجاع إلى زرارة بقوله: إذا أردت حديثا فعليك بهذا الجالس مشيرا إليه، وكقوله لا بان بن تغلب: «اجلس في مسجد المدينة وأفت الناس فانى أحب ان يرى في شيعتي مثلك» إلى غير ذلك بدعوى ان إرجاعهم إليهم لم يكن الا لعلمهم بالاحكام وهو مشترك بينهم وبين فقهاء عصرنا فيفهم العرف جواز الرجوع إلى فقهاء عصرنا بإلقاء الخصوصية، وذلك للفرق الواضح بينهم وبين فقهائنا لأن الإرجاع إليهم إرجاع إلى الأحكام الواقعية المعلومة لبطانتهم لسؤالهم مشافهة عنهم وعلمهم بفتاويهم من غير اجتهاد كاجتهاد فقهائنا فمثل زرارة ومحمد بن مسلم وأبي بصير ممن تلمذ لدى الأئمة عليهم السلام سنين متمادية وأخذ الأحكام منهم مشافهة كان عارفا بنفس فتاوى الأئمة الصادرة لأجل الحكم الواقعي، واما فقهاء عصرنا فيكون علمهم عن اجتهاد بالوظيفة الأعم من الواقعي والظاهري فلا يمكن إلقاء الخصوصية بل يكون القياس بينهما مع الفارق.
124

في جواب الإشكال
وهذا الشك لا يرتفع الا بإثبات أحد الأمرين على سبيل منع الخلو:
أحدهما - ان الاجتهاد بالمعنى المتعارف في أعصارنا أو قريب منه كان متعارفا في أعصار الأئمة عليهم السلام وان بناء العوام الرجوع إلى الفقهاء في تلك الأعصار وان الأئمة أرجعوهم إليهم أيضا.
وثانيهما إثبات ان الردع عن ارتكاز رجوع الجاهل إلى العالم حتى فيما نحن فيه كان لازما عليهم لو كان غير مرضي ومع عدمه يكشف عن كونه مرضيا.
في تداول الاجتهاد في عصر الأئمة عليهم السلام
اما الأمر الأول فتثبت كلتا مقدمتيه بالرجوع إلى الاخبار اما تداول مثل هذا الاجتهاد أو قريب منه فيدل عليه اخبار كثيرة:
منها ما عن محمد بن إدريس في آخر السرائر نقلا عن كتاب هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: انما علينا ان نلقي إليكم الأصول وعليكم ان تفرعوا (1) وعنه عن كتاب أحمد بن محمد بن أبي نصر عن الرضا عليه السلام قال: علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع (2).
ولا ريب في ان التفريع على الأصول هو الاجتهاد وليس الاجتهاد في عصرنا الا ذلك فمثل قوله: «لا ينقض اليقين بالشك» أصل والأحكام التي تستنبطه المجتهدون منه هي التفريعات وليس التفريع هو الحكم بالأشباه والنظائر كالقياس بل هو استنباط المصاديق والمتفرعات من الكبريات الكلية فقوله: «على اليد ما أخذت حتى تؤدى» و «لا ضرر ولا ضرار» و: «رفع عن أمتي تسعة» وأمثالها أصول وما في كتب القوم من الفروع الكثيرة المستنبطة منها تفريعات فهذا الأمر كان في زمن الصادق والرضا عليهما الصلاة

(1) الوسائل - كتاب القضاء - الباب 6 - من أبواب صفات القاضي - الرواية 51 -
(2) راجع المصدر المذكور آنفا - الرواية 52 -
125

السلام مثل ما في زماننا الا مع تفاوت في كثرة التفريعات وقلتها وهو متحقق بين المجتهدين في عصرنا أيضا.
ومنها ما عن عيون الاخبار بإسناده عن الرضا عليه السلام قال: من رد متشابه القرآن إلى محكمه فقد هدى إلى صراط مستقيم، ثم قال: ان في أخبارنا محكما كمحكم القرآن ومتشابها كمتشابه القرآن فردوا متشابهها إلى محكمها ولا تتبعوا متشابهها دون محكمها فتضلوا (1).
ومعلوم ان رد المتشابه إلى المحكم وجعل أحد الكلامين قرينة على الاخر لا يكون الا بالاجتهاد كالذي يتداول في هذا الزمان.
ومنها ما عن معاني الاخبار بإسناده عن داود بن فرقد قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا ان الكلمة لتنصرف على وجوه فلو شاء إنسان لصرف كلامه كيف شاء ولا يكذب (2).
فان عرفان معاني كلامهم من بين الوجوه المختلفة لا يكون الا بالاجتهاد والفحص عن فتاوى العامة وعرض الاخبار على اخبارهم وفتاواهم وعلى الكتاب وغير ذلك مما يتداول بين أهل الاجتهاد.
ومنها رواية علي بن أسباط (3) قال: قلت للرضا عليه السلام: يحدث الأمر لا أجد بدا من معرفته وليس في البلد الذي انا فيه أحد أستفتيه من مواليك، قال: قال: فقال:
ائت فقيه البلد فاستفته من أمرك فإذا أفتاك بشيء فخذ بخلافه فان الحق فيه (4).
ومنها روايات النهي عن الفتيا بغير العلم وهي كثيرة (5) يظهر منها جوازه مع

(1) الوسائل - كتاب القضاء - الباب 9 - من أبواب صفات القاضي - الرواية 25 -
(2) راجع المصدر المذكور آنفا - الرواية 30 -
(3) راجع المصدر المذكور آنفا - الرواية 26 -
(4) وما في السؤال من فرض عدم المفتي في البلد من الأصحاب ليستفتيه يدل على وجود الفقهاء في تلك الأعصار وبناء العوام على الرجوع إليهم، وعدم ردعه عليه السلام يكشف عن رضاه بما ارتكز في أذهانهم من المراجعة إلى الفقهاء.
(5) راجع الوسائل - كتاب القضاء - الباب 4 - من أبواب صفات القاضي -
126

العلم، والفتوى ليس الا بالاجتهاد والتفقه.
ومنها اخبار النهي عن الحكم بغير ما أنزل الله (1) ومقابله ملازم للاجتهاد، وعن نهج البلاغة فيما كتب إلى قثم بن عباس: واجلس لهم العصرين فأفت المستفتى وعلم الجاهل وذكر العالم (2).
ومنها ما عن كتاب الفقيه بإسناده عن الحسين بن روح عن أبي محمد الحسن بن علي انه سئل عن كتب بنى فضال فقال: خذوا بما رووا وذروا ما رأوا (3) تدل على ان لهم آراء وليس نفس الروايات آرائهم، واحتمال كون الآراء هي المربوطة بأصول المذهب مدفوع بإطلاقه، ولعل منعه عن الأخذ بآرائهم لاعتبار كون المفتي على مذهب الحق وعلى العدالة.
ومنها قول أبي جعفر عليه السلام لا بان بن تغلب المتقدم آنفا (4) فان الإفتاء ليس الا بالاجتهاد.
ومنها بعض الروايات التي تشير إلى كيفية استنباط الحكم من الكتاب مثل ما عن محمد بن علي بن الحسين بإسناده عن زرارة قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: الا تخبرني من أين علمت وقلت: ان المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين؟ فضحك، وقال: يا زرارة قاله رسول الله ونزل به الكتاب عن الله عز وجل لأن الله عز وجل قال فاغسلوا وجوهكم فعرفنا ان الوجه كله ينبغي ان يغسل، ثم قال: وأيديكم إلى المرافق فوصل اليدين إلى المرفقين بالوجه فعرفنا انه ينبغي لهما ان يغسلا إلى المرفقين ثم فصل بين الكلام فقال: وامسحوا برؤوسكم فعرفنا حين قال برؤوسكم ان المسح ببعض الرأس لمكان الباء ثم وصل الرجلين بالرأس كما وصل اليدين بالوجه فقال وأرجلكم إلى الكعبين فعرفنا حين وصلهما بالرأس ان المسح على بعضهما

(1) الوسائل - كتاب القضاء - الباب 5 - من أبواب صفات القاضي
(2) راجع المستدرك - كتاب القضاء - الباب 11 - من أبواب صفات القاضي الرواية 15 -
(3) الوسائل - كتاب القضاء - الباب 8 - من أبواب صفات القاضي - الرواية 78 -
(4) وهو: اجلس في مسجد المدينة وافت الناس فانى أحب ان يرى في شيعتي مثلك.
127

ثم فسر ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله للناس فضيعوه (الحديث) (1) انظر إلى كيفية تعليمه الاستنباط من الكتاب، ومثلها بل أوضح منها مرسلة يونس الطويلة في باب سنن الاستحاضة وفيها موارد ترشدنا إلى طريق الاجتهاد فراجع.
وكرواية عبد الأعلى (2) في المسح على المرارة حيث قال: «هذا وأشباهه يعرف من كتاب الله قال الله تعالى: ما جعل عليكم في الدين من حرج، امسح عليه» وهل هذا إلا الاجتهاد ومنها روايات عرض الاخبار على الكتاب واخبار العامة وترجيح بعضها على بعض (3) وهو من أوضح موارد الاجتهاد المتعارف بين أهل الصناعة.
ومنها مقبولة عمر بن حنظلة حيث قال: «ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا» بالتقريب المتقدم في اختصاص المنصب بالمجتهدين وقال: «كلاهما اختلفا في حديثكم» حيث ان الاختلاف في الحديث اما اختلاف في معناه أو اختلاف في أخذ كل بحديث لمكان الترجيح بنظره على الآخر وهو عين الاجتهاد، واحتمال عدم اطلاع كل على مدرك الاخر مع كونهما مجتمعين في النظر في حقهما فغير ممكن إلى غير ذلك مما يطول ذكره ويطلع عليه المتتبع وتدل على المقدمة الثانية اخبار كثيرة أيضا.
فيما يدل على إرجاع الأئمة إلى الفقهاء
منها المقبولة الظاهرة في إرجاعهم إلى الفقهاء من أصحابنا في الشبهة الحكمية الاجتهادية وجعل الفقيه مرجعا ونصبه للحكم في الشبهات الحكمية ملازم لاعتبار فتواه، ومثلها ما عن أبي خديجة في المشهورة.
ومنها قوله في التوقيع واما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا (4).

(1) الوسائل - كتاب الطهارة - الباب 23 - من أبواب الوضوء - الرواية 1 -
(2) الوسائل - كتاب الطهارة - الباب 39 - من أبواب الوضوء - الرواية 5 -
(3) راجع الوسائل - كتاب القضاء - الباب 9 - من أبواب صفات القاضي
(4) راجع الوسائل - كتاب القضاء - الباب 11 - من أبواب صفات القاضي
128

ومنها ما وردت في تفسير آية النفر (1).
ومنها روايات كثيرة دالة على الإرجاع بفقهاء أصحابنا يظهر منها ان الأمر كان ارتكازيا للشيعة مثل ما عن الكشي بإسناده عن شعيب العقرقوفي قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ربما احتجنا ان نسأل عن الشيء فمن نسأل؟ قال: عليك بالأسدي، يعنى أبا بصير (2) وعن علي بن المسيب قال: قلت للرضا عليه الصلاة والسلام: شقتي بعيدة ولست أصل إليك في كل وقت فممن آخذ معالم ديني؟ قال: من زكريا بن آدم القمي المأمون على الدين والدنيا، قال علي بن المسيب: فلما انصرفت قدمنا على زكريا بن آدم فسألته عما احتجت إليه (3).
فيعلم من أمثالهما ان ارتكازهم كان على الرجوع إلى العلماء وأرادوا ان يعرف الإمام شخصا ثقة مأمونا وان علي بن المسيب كان يسأل عما احتاج إليه من الأمور الفرعية وأجابه زكريا بما رزقه الله فهمه من الكتاب واخبار أهل البيت باجتهاده ونظره ومثلهما غيرهما، بل إنكار رجوع عوام الشيعة في البلاد النائية عن الأئمة عليهم السلام إلى علمائهم مجازفة محضة.
هذا لكن بقي الإشكال وهو ان هذا الاختلاف الكثير الذي نشاهد بين الفقهاء في الفتوى لا أظن وجوده في عصر الأئمة عليهم السلام ومعه لا يمكن إمضاء الرجوع في ذلك العصر ان يكشف منه الإمضاء في هذا العصر كما لا يخفى (نعم) لا يرد هذا الإشكال على الوجه الآتي.
واما الأمر الثاني
أي عدم ردعهم عن هذا الارتكاز كاشف عن رضاهم بذلك فهو

(1) سيأتي نقلها في مفاد الآية تحت عنوان: أدلة جواز الرجوع إلى المفضول.
(2) ونظيره ما عن ابن أبي يعفور قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: انه ليس كل ساعة ألقاك ولا يمكن القدوم ويجيء الرجل من أصحابنا فيسألني وليس عندي كل ما يسألني عنه فقال:
ما يمنعك عن محمد بن مسلم الثقفي؟ (الحديث) راجع الوسائل كتاب القضاء - الباب 11 - من أبواب صفات القاضي -
(3) الوسائل - كتاب القضاء - الباب 11 - من أبواب صفات القاضي -
129

أيضا واضح، ضرورة ان ارتكازية رجوع الجاهل في كل شيء إلى عالمه معلومة لكل أحد وان الأئمة عليهم السلام قد علموا بان علماء الشيعة في زمان الغيبة وحرمانهم عن الوصول إلى الإمام لا محيص لهم عن الرجوع إلى كتب الاخبار والأصول والجوامع كما أخبروا بذلك ولا محالة يرجع عوام الشيعة إلى علمائهم بحسب الارتكاز والبناء العقلائي المعلوم لكل أحد فلو لا ارتضاؤهم بذلك كان عليهم الردع إذ لا فرق بين السيرة المتصلة إلى زمانهم وغيرها مما علموا وأخبروا وقوع الناس فيه فإنهم أخبروا عن وقوع الغيبة الطويلة وان كفيل أيتام آل محمد صلى الله عليه وعليهم علمائهم، وانه سيأتي زمان هرج ومرج يحتاج العلماء إلى كتب أصحابهم فأمروا بضبط الأحاديث وثبتها في الكتب، فتحصل من جميع ذلك ان الإشكال على أصل السيرة غير وارد فيدل على
أصل التقليد الارتكاز القطعي العقلائي.
حول كيفية السيرة العقلائية ومناطها
ثم انه لا بد من البحث عن كيفية السيرة وانها مع وجود الأفضل واختلافه مع الفاضل كيف هي؟ فلا بد أولا من بيان مناط رجوع الجاهل إلى العالم حتى يتضح الحال.
لا إشكال في ان رجوعه إليه انما هو لأجل طريقيته إلى الواقع وكشفه عنه وان منشأه إلقاء احتمال الخلاف لأجل غلبة موافقة قوله للواقع وندرة المخالفة بحيث لا يعتنى به العقلاء بل يكون نوع العقلاء في مقام العمل غافلا عن احتمال المخالفة فيعمل على طبقه ويرى وصوله إليه بارتكازه نعم لو تنبه يرى انه ليس بعالم، ولعل هذا هو المراد بالعلم العادي المتداول على ألسنتهم ولعل هذا الوجه هو المعول عليه في نوع سيرة العقلاء وبنائهم العملي كالتعويل على أصالة الصحة وخبر الثقة واليد والبناء على الصحة في باب العيوب.
واما احتمال كون بنائهم على ذلك لأجل مقدمات الانسداد بان يقال يرى العقلاء احتياجهم في تشخيص امر من الأمور ولا يمكن لهم الاحتياط أو يعسر عليهم ولا يجوز لهم الإهمال لأجل احتياجهم إليه في العمل وليس لهم طريق إلى الواقع فيحكم عقلهم بالرجوع إلى الخبرة لأجل أقربية قوله إلى الواقع من غيره، أو احتمال ان يكون منشأ ذلك هو
130

القوانين الموضوعة من زعماء القوم ورؤسائهم السياسية أو الدينية لأجل تسهيل الأمر على الناس ورغدة عيشهم فكلاهما بعيدان عن الصواب، ضرورة بطلان مقدمات الانسداد في كثير من الموارد، وعلى فرض تماميتها لا ينتج ذلك وبعد الوجه الثاني بل امتناعه عادة، ضرورة تصادف القوانين البشرية من باب الاتفاق مع تفرق البشر في الأصقاع المتباعدة واختلاف مسالكهم وعشرتهم وأديانهم ملحق بالممتنع.
واما الوجه الأول فأمر معقول موافق للاعتبار نعم لا يبعد ان يكون للانسداد دخل في أعمالهم في جميع الموارد أو في بعضها، لكن يرد على هذا الوجه انه كيف يمكن ان يدعى بناء العقلاء على إلقاء احتمال الخلاف والخطاء مع هذه الاختلافات الكثيرة المشاهدة من الفقهاء بل من فقيه واحد في كتبه العديدة بل في كتاب واحد ولهذا لا يبعد ان يكون رجوع العامي إلى الفقيه اما لتوهم كون فن الفقه كسائر الفنون يقل الخطاء فيه وكان رجوع العقلاء لمقدمة باطلة وتوهم خطاء أو لأمر تعبدي أخذ الخلف عن السلف لا لأمر عقلائي وهو امر آخر غير بناء العقلاء (ودعوى) قلة خطاء الفقهاء بالنسبة إلى صوابهم بحيث يكون احتماله ملقى وان كثر بعد ضم الموارد بعضها إلى بعض (غير وجيهة) مع ما نرى من الاختلافات الكثيرة في كل باب إلى ما شاء الله.
وقد يقال: ان المطلوب للعقلاء في باب الاحتجاجات بين الموالي والعبيد قيام الحجة وسقوط التكليف والعقاب بأي وجه اتفق، والرجوع إلى الفقهاء موجب لذلك لأن المجتهدين مع اختلافهم في الرأي مشتركون في عدم الخطاء والتقصير في الاجتهاد ولا ينافي ذلك، الاختلاف في الرأي لإمكان عثور أحدهما على حجة في غير مظانها أو أصل من الأصول المعتمدة ولم يعثر عليهما الاخر مع فحصه بالمقدار المتعارف فتمسك بالأصل العملي أو عمل على الأمارة التي عنده فلا يكون واحد منهما مخطئا في اجتهاده، ورأي كل منهما حجة في حقه وحق غيره فرجوع العقلاء إليهما لأجل قيام الحجة والعذر وهما المطلوب لهم لا إصابة الواقع الأولى. وأوضح من ذلك لو قلنا بجعل المماثل في مؤدى الأمارة.
وفيه أولا ان تسمية ذلك عدم الخطاء في غير محله «نعم» لا يكون ذلك تقصيرا وان
131

كان مخطئا ومع اختلافهما لا محالة يعلم بخطاء أحدهما ومعه لا يكون البناء على الرجوع إذا كان الاختلاف كثيرا ولو في غير مورد اختلافهما للاعتداد باحتمال الخطاء (ح).
وثانيا انه لو سلم ان نظر العقلاء في مثل المقام إلى تحصيل الحجة والعذر لكنهما متوقفان على إلقاء احتمال خطأ الاجتهاد بالنسبة إلى التكاليف الواقعية الأولية وهو في المقام ممنوع، ومؤدى الطرق لو فرض باطلا كونه حكما ثانويا لا يوجب معذوريته بالنسبة إلى الواقعيات الا للمعذور وهو المجتهد، لا للمقلد الذي يكون مبنى عمله فتواه وهو ليس معذرا الا مع كونه كسائر الأمارات العقلائية قليل الخطاء لدى العقلاء والفرض ان كل مجتهد يحكم بخطاء أخيه لا بتقصيره ومعه كيف يمكن حجية الفتوى.
نعم يمكن ان يقال: ان الأمر الثاني من الأمرين المتقدمين يدفع الإشكال، فان عدم ردع هذا البناء الخارجي دليل على رضا الشارع المقدس بالعمل على فتاوى الفقهاء مع الاختلاف المشهور، لكن في صيرورة ذلك هو البناء العقلائي المعروف والبناء على أمارية الفتوى كسائر الأمارات إشكال الا ان يقال: ان بناء المتشرعة على أخذ الفتوى طريق إلى الواقع والعمل على طبق الأمارية والسكوت عنه دليل على الارتضاء بذلك وهو ملازم لجعل الأمارية له، والمسألة تحتاج إلى مزيد تأمل.
ثم انه بناء على ان المناط في رجوع الجاهل إلى العالم هو إلقاء احتمال الخلاف والخطأ بحيث يكون احتماله موهوما لا يعتنى به العقلاء، لا إشكال في ان هذا المناط موجود عندهم في تشخيصات أهل الخبرة وأصحاب الفنون، كان الأفضل موجودا أو لا، ولهذا يعملون على قوله مع عدم وجود الأفضل وهذا دليل قطعي على تحقق مناط العمل عندهم في قول الفاضل والا فكيف يعقل العمل مع عدم المناط فيكون المناط موجودا كان الأفضل موجودا أو لا اختلف رأيهما أو لا، فلو فرض تقديمهم قول الأفضل عند الاختلاف فإنها هو من باب ترجيح إحدى الحجتين على الأخرى لا من باب عدم الملاك في قول المفضول لعدم تعقل تحقق المناط مع عدم الفاضل وعدمه مع وجوده، فقول المفضول حجة وأمارة عقلائية في نفسه لأجل موهومية احتمال الخطاء كما ان مناط العمل بقول الأفضل ذلك بعينه.
132

هل ترجيح قول الأفضل لزومي أم لا؟
نعم يبقى في المقام امر وهو انه هل بناء العقلاء على ترجيح قول الأفضل لدى العلم بمخالفته مع غيره إجمالا أو تفصيلا يكون بنحو الإلزام؟ أو من باب حسن الاحتياط وليس بنحو اللزوم؟ لا يبعد الاحتمال الثاني لوجود تمام الملاك في كليهما، واحتمال أقربية قول الأعلم على فرض صحته لم يكن بمثابة يرى العقلاء ترجيحه عليه لزوميا ولهذا تريهم يراجعون إلى المفضول بمجرد أعذار غير وجيهة كبعد الطريق وكثرة المراجعين ومشقة الرجوع إليه ولو كانت قليلة وأمثال ذلك مما يعلم انه لو حكم العقل إلزاما بالترجيح لما تكون تلك الاعذار وجيهة لدى العقل والعقلاء، هذا مع علمهم إجمالا بمخالفة أصحاب الفن في الرأي في الجملة فليس ترجيح الأفضل الا ترجيحا غير ملزم واحتياطا حسنا، ولهذا لو أمكن لأحد تحصيل اجتماع أصحاب فن في امر والاستفتاء منهم لفعل لا لأجل عدم الاعتناء بقول الأفضل أو الفاضل بل للاحتياط الراجح الحسن.
وبالجملة المناط كل المناط في رجوعهم هو اعتقادهم بندرة الخطاء وإلقاء احتمال الخلاف وهو موجود في كليهما (فحينئذ) مع تعارض قولهما مقتضى القاعدة تساقطهما والرجوع إلى الاحتياط مع الإمكان والا فالتخيير وان كان ترجيح قول الأفضل حسنا على أي حال «تأمل».
هذا ولكن مع ذلك فالذهاب إلى معارضة قول المفضول قول الأفضل مشكل خصوصا في مثل ما نحن فيه أي
باب الاحتجاج بين العبيد والموالي مع كون المقام من دوران الأمر بين التعيين والتخيير والأصل يقتضى التعيين، فالقول بلزوم تقديم قول الأفضل لعله أوجه مع ان الأصحاب أرسلوه إرسال المسلمات والضروريات مضافا إلى عدم إحراز بناء العقلاء على العمل بقول المفضول مع العلم التفصيلي بل الإجمالي المنجز بمخالفته مع الفاضل لو لم يعمل بإحراز عدمه (نعم) لا يبعد ذلك مع العلم بان في أقوالهم اختلافا لا مع العلم إجمالا بان في هذا المورد أو مورد آخر مثلا مختلفين،
133

وبعبارة أخرى ان بنائهم على العمل في مورد العلم الإجمالي غير المنجز نظير أطراف الشبهة غير المحصورة، هذا حال بناء العقلاء.
في أدلة جواز الرجوع إلى المفضول
واما حال الأدلة الشرعية فلا بد من ذكر ما تشبث به الطرفان والبحث في أطرافهما، اما ما يمكن ان يتمسك به لجواز الرجوع إلى المفضول مع وجود الأفضل بل ومخالفة رأيهما فأمور:
الأول بعض الآيات الشريفة:
منها قوله تعالى في الأنبياء (1): «وما أرسلنا قبلك الا رجالا نوحي إليهم فاسئلوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون» بدعوى ان إطلاقه يقتضى جواز الرجوع إلى المفضول حتى مع مخالفة قوله للأفضل سيما مع ندرة التساوي بين العلماء وتوافقهم في الآراء.
وفيه مضافا إلى ظهور الآية في ان أهل الذكر هم علماء اليهود والنصارى وإرجاع المشركين إليهم وإلى ورود روايات كثيرة في ان أهله هم الأئمة بحيث يظهر منها انهم أهله لا غير: ان الشبهة كانت في أصول العقائد التي يجب فيها تحصيل العلم، فيكون المراد:
اسألوا أهل الذكر حتى يحصل لكم العلم ان كنتم لا تعلمون، ومعلوم ان السؤال عن واحد منهم لا يوجب العلم ففي الآية إهمال من هذه الجهة فيكون المراد ان طريق تحصيل العلم لكم هو الرجوع إلى أهل الذكر كما يقال للمريض: ان طريق استرجاع الصحة هو الرجوع إلى الطبيب وشرب الدواء، فليس لها إطلاق يقتضى الرجوع إلى الفاضل أو المفضول مع تعارض قولهما.
ولا يبعد ان يقال: ان الآية بصدد إرجاعهم إلى امر ارتكازي هو الرجوع إلى العالم ولا تكون بصدد تحميل تعبدي وإيجاب مولوي.

(1) الآية 7 - وفي سورة النحل «الآية 45»: وما أرسلنا من قبلك الا رجالا نوحي إليهم فاسئلوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون.
134

في مفاد آية النفر
ومنها آية النفر سورة التوبة (1): وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون والاستدلال بها للمطلوب يتوقف على أمور: منها - استفادة وجوب النفر منها - ومنها كون التفقه غاية له ومنها - كون الإنذار من جنس ما يتفقه فيه - ومنها - انحصار التفقه بالفرعيات - ومنها - كون المنذر بالكسر كل واحد من النافرين ومنها - كون المنذر بالفتح كل واحد من الطائفة الباقية - ومنها - كون التحذر عبارة عن العمل بقول المنذر - ومنها - وجوب العمل بقوله، حصل العلم منه أولا وخالف قول غيره أولا، فيصير مفاد الآية بعد تسليم المقدمات: يجب على كل واحد من كل طائفة من كل فرقة النفر لتحصيل الفروع العملية ليبينها لكل واحد من الباقين ليعمل المنذر بقوله حصل العلم منه أولا وخالف غيره أولا.
وأنت خبير بعدم سلامة جميع المقدمات لو سلم بعضها فلك ان تمنع كون التفقه غاية للنفر بان يقال: ان قوله: وما كان المؤمنون لينفروا كافة يحتمل ان يكون اخبارا في مقام الإنشاء إلى ليس لهم النفر العمومي كما ورد أن القوم كانوا ينفرون كافة للجهاد وبقي رسول الله صلى الله عليه وآله وحده فورد النهي عن النفر العمومي والأمر بنفر طائفة للجهاد (فحينئذ) لا يكون التفقه غاية للنفر إذا كان التفقه لغير النافرين أي الباقين، لكن الإنصاف ان ذلك خلاف ظاهرها، بل ظاهرها ان المؤمنين ما كانوا بحسب اشتغالهم بأمور المعاش ونظم الدنيا لينفروا جميعا أي النفر العمومي ليس ميسورا لهم ولو لا نفر من كل فرقة طائفة منهم للتفقه، ولا إشكال في ان الظاهر منه مع قطع النظر عن قول المفسرين هو كون التفقه غاية له.
واما كون الإنذار من سنخ ما يتفقه فيه أي بيان الأحكام بنحو الإنذار فليست الآية ظاهرة فيه بل الظاهر منها ان غاية النفر أمران: أحدهما التفقه في الدين وفهم الأحكام

(1) الآية 123.
135

الدينية، والاخر إنذار القوم وموعظتهم، فيكون المراد يجب على الفقيه إنذار القوم وإيجاد الخوف من بأس الله في قلوبهم فإذا خافوا يحكم عقلهم بوجوب تحصيل المؤمن فلا محيص لهم الا العلم باحكام الله مقدمة للعمل بها.
واما وجوب العمل بقول المنذر بمجرده فلا تدل الآية عليه و (دعوى) ان الإنذار لا بد وان يكون من جنس ما يتفقه فيه والا فأية مناسبة للفقيه معه (ممنوعة) لأن الإنذار مناسب للفقيه لأنه يعلم حدوده وكيفيته وشرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع ان لكلامه تأثيرا في القوم ما لا يكون لكلام غيره لعلو مقامه وعظم شأنه لديهم، واما التفقه في الدين فهو أعم من الأصول والفروع فلا وجه لاختصاصه بالثاني والاخبار الواردة في تفسيرها تدل على تعميمه (فحينئذ) لا يمكن ان يقال بوجوب قبول قوله تعبدا لعدم جريانه في الأصول، اللهم الا ان يقال: ان إطلاقها على فرضه يقتضى قبول قول الغير في الأصول والفروع ويقيد إطلاقها عقلا في الأصول وبقي الفروع.
واما كون المنذر بالكسر كل واحد من الطائفة فلا إشكال في ظهور الآية فيه لكن الظاهر منها ان كل واحد من المنذرين يجب عليه إنذار القوم جميعا ومعه لا تدل الآية على وجوب القبول من كل واحد منهم فإنه بإنذار كل واحد منهم قومهم ربما يحصل لهم العلم، واما كون التحذر بمعنى التحذر العملي أي قبول قول الغير والعمل به فهو خلاف ظاهرها بل التحذر اما بمعنى الخوف واما بمعنى الاحتراز وهو الترك عن خوف والظاهر انه بمعنى الخوف الحاصل عن إنذار المنذرين وهو امر غير اختياري لا يمكن ان يتعلق بعنوانه الأمر (نعم) يمكن تحصيله بمقدمات اختيارية كالحب والبغض وأمثالهما.
هذا كله مع انه لا إطلاق للآية، ضرورة انها بصدد بيان كيفية النفر وانه إذا لا يمكن للناس نفر عمومي فلم لا تنفر طائفة منهم فانه ميسور لهم (وبالجملة) لا يجوز للناس سد باب التفقه والتعلم بعذر الاشتغال بأمور الدنيا فان امر الدين كسائر أمورهم يمكن قيام طائفة به فلا بد من التفقه والإنذار، واما وجوب قبول السامع بمجرد السماع فلا إطلاق للآية يدل عليه فضلا عن إطلاقها لحال التعارض.
والإنصاف ان الآية أجنبية عن حجية قول المفتي كما انها أجنبية عن حجية قول
136

المخبر بل مفادها والعلم عند الله: انه يجب على طائفة من كل فرقة ان يتفقهوا في الدين ويرجعوا إلى قومهم وينذروهم بالمواعظ والإنذارات والبيانات الموجبة لحصول الخوف في قلوبهم لعلهم يحذرون، ويحصل في قلوبهم الخوف قهرا فإذا حصل الخوف في قلوبهم يدور رحى الديانة ويقوم الناس بأمرها قهرا لسوقهم عقلهم نحو القيام بالوظائف.
هذا حالها مع قطع النظر عن الروايات الواردة في تفسيرها ومع النظر إليها أيضا لا تدل على المطلوب لأن منها ما تدل على ان الإمام إذا مات لم يكن للناس عذر في عدم معرفة الإمام الذي بعده، اما من في البلد فلرفع حجته واما غير الحاضر فعليه النفر إذا بلغه (1).
ومنها ما دلت على ان تكليف الناس بعد الإمام الطلب وان النافرين في عذر ما داموا في الطلب والمنتظرين في عذر حتى يرجع إليهم أصحابهم (2) ومعلوم ان قول

(1) عن محمد بن يعقوب عن علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس بن عبد الرحمن قال: حدثنا حماد بن عبد الأعلى قال: سئلت أبا عبد الله عن قول العامة: ان رسول الله صلى الله عليه وآله قال: من مات وليس له امام مات ميتة جاهلية، فقال: الحق والله، قلت: فان إماما هلك ورجل بخراسان ولا يعلم من وصيه لم يسعه ذلك؟ فقال: لا يسعه ذلك ان الإمام إذا هلك وقعت حجة وصيه على من في البلد وحق النفر على من ليس بحضرته إذا بلغهم ان الله عز وجل يقول: فلو لا نفر من كل فرقة «الآية» (الحديث) وفي حديث آخر عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت: أفيسع الناس إذا مات العالم ان لا يعرفوا الذي بعده؟ فقال: اما أهل هذه البلدة فلا، يعنى المدينة، واما غيرها من البلدان فبقدر مسيرهم ان الله تعالى يقول: فلو لا نفر من كل فرقة «الآية» (الحديث).
(2) عن محمد بن يعقوب، عن محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن صفوان، عن يعقوب بن شعيب قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إذا أحدث على الإمام حدث كيف يصنع الناس؟ قال: أين قول الله عز وجل: «فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون»؟ قال: هم في عذر ما داموا في الطلب وهؤلاء
الذين ينتظرونهم في عذر حتى يرجع إليهم أصحابهم وعن ابن بابويه قال: حدثنا أبي (ره) قال: حدثنا عبد الله بن جعفر، عن علي بن إسماعيل وعبد الله بن محمد بن عيسى. عن صفوان بن يحيى، عن يعقوب بن شعيب، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت: ليسوا إذا هلك الإمام فبلغ قوما له بحضرته؟ قال: يخرجون في الطلب فإنهم لا يزالون في عذر ما داموا في الطلب قلت: يخرجون كلهم أو يكفيهم ان يخرجوا بعضهم؟ قال: ان الله عز وجل يقول: فلو لا نفر من كل فرقة «الآية» قال: هؤلاء المقيمون في السعة حتى يرجع إليهم أصحابهم - وعن العياشي عن يعقوب بن شعيب عن أبي عبد الله عليه السلام قلت له: إذا حدث للإمام حدث كيف يصنع الناس؟ قال: يكونون كما قال الله: فلو لا نفر «الآية» قال: قلت: فما حالهم؟ قال: هم في عذر.
137

النافرين بمجرده ليس بحجة في باب الإمامة.
ومنها ما وردت في علة الحج وفيها: ولأجل ما فيه من التفقه ونقل اخبار الأئمة إلى كل صقع وناحية (1).
ومنها ما دلت على انه تعالى أمرهم ان ينفروا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فيتعلموا ثم يرجعوا إليهم فيعلموهم وهو معنى قوله: اختلاف أمتي رحمة (2) وهذه الطائفة

(1) عن عيون الاخبار والعلل، عن الفضل بن شاذان، عن الرضا عليه السلام في حديث قال: انما أمروا بالحج لعلة الوفادة إلى الله عز وجل وطلب الزيادة والخروج من كل ما اقترف العبد (إلى ان قال): مع ما فيه من التفقه ونقل اخبار الأئمة عليهم السلام إلى كل صقع وناحية كما قال الله عز وجل: فلو لا نفر من كل فرقة «الآية» وليشهدوا منافع لهم - راجع الوسائل - كتاب القضاء - الباب 8 - من أبواب صفات القاضي -
(2) عن معاني الاخبار والعلل عن علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق، عن أبي - الحسين محمد بن جعفر الأسدي، عن صالح بن أبي حماد، عن أحمد بن هلال، عن ابن أبي - عمير، عن عبد المؤمن الأنصاري قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ان قوما يروون ان رسول الله صلى الله عليه وآله قال: اختلاف أمتي رحمة، فقال: صدقوا، فقلت: ان كان اختلافهم رحمة فاجتماعهم عذاب، قال: ليس حيث تذهب وذهبوا، انما أراد قول الله عز وجل: فلو لا نفر من كل فرقة (الآية) فأمرهم ان ينفروا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فيتعلموا ثم يرجعوا إلى قومهم
فيعلموهم، انما أراد اختلافهم من البلدان لا اختلافا في دين الله انما الدين واحد - راجع الوسائل - كتاب القضاء - الباب 11 - من أبواب صفات القاضي -
138

أيضا لا تدل على وجوب القبول بمجرد السماع فضلا عن حال التعارض، هذا حال الآيات الشريفة والآيات الاخر التي استدل بها أضعف دلالة منهما.
حول الاخبار التي استدل بها على حجية قول المفضول
واما الاخبار فمنها ما عن تفسير الإمام عليه السلام في ذيل قوله تعالى: ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب الا أماني وان هم الا يظنون (1) والحديث طويل وفيه: واما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا على هواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام ان يقلدوه (2) دل بإطلاقه على جواز تقليد المفضول إذا وجد فيه الشرائط ولو مع وجود الأفضل أو مخالفته له في الرأي.
لكنه مع ضعف سنده وإمكان ان يقال: انه في مقام بيان حكم الاخر فلا إطلاق لها لحال وجود الأفضل فضلا عن صورة العلم بمخالفة رأيه رأي الأفضل: انه مخدوش من حيث الدلالة لأن صدره في بيان تقليد عوام اليهود من علمائهم في الأصول حيث قال: وان هم الا يظنون

(1) سورة البقرة - الآية 73 -
(2) عن تفسير العسكري عليه السلام قال: فقال رجل للصادق عليه السلام: فإذا كان هؤلاء القوم لا يعرفون الكتاب الا بما يسمعونه من علمائهم (إلى ان قال): وهل عوام اليهود الا كعوامنا يقلدون علمائهم فان لم يجز لأولئك القبول من علمائهم لم يجز لهؤلاء القبول من علمائهم فقال:
بين عوامنا وعلمائنا وبين عوام اليهود وعلمائهم فرق من جهة وتسوية من جهة اما من حيث الاستواء فان الله قد ذم عوامنا بتقليدهم علمائهم كما ذم عوامهم، واما من حيث افترقوا فلا فقال: بين لي ذلك يا بن رسول الله، قال: ان عوام اليهود كانوا قد عرفوا علمائهم بالكذب الصراح وبأكل الحرام والرشاء بتغيير الأحكام عن واجبها بالشفاعات والعنايات (إلى ان قال:) فلذلك ذمهم لما قلدوا من قد عرفوا انه لا يجوز قبول خبره ولا تصديقه (إلى ان قال): وكذلك عوام أمتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر والعصبية الشديدة والتكالب على حطام الدنيا وحرامها و... فمن
قلد من عوامنا مثل هؤلاء الفقهاء هم من اليهود الذين ذمهم الله تعالى بالتقليد بفسقة فقهائهم، فاما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه (الحديث) أورده في الوسائل مع اختلاف يسير مع ما نقلناه عن تفسير البرهان في الباب 10 - من أبواب صفات القاضي - الرواية 20 -
139

ما تقول رؤساؤهم من تكذيب محمد في نبوته وإمامة على سيد عترته وهم يقلدونهم مع انه محرم عليهم تقليدهم، ثم بعد ما سئل الرجل عن الفرق بين عوامنا وعوامهم حيث كانوا مقلدين أجاب بما حاصله: ان عوامهم مع علمهم بفسق علمائهم وكذبهم وأكلهم الحرام والرشا وتغييرهم أحكام الله يقلدونهم مع ان عقلهم يمنعهم عنه ولو كان عوامهم كذلك لكانوا مثلهم، ثم قال: واما من كان من الفقهاء (إلخ) فيظهر منه ان الذم لم يكن متوجها إلى تقليدهم في أصول العقائد كالنبوة والإمامة بل متوجه إلى تقليد فساق العلماء وان عوامنا لو قلدوا علمائهم فيما قلد اليهود علمائهم لا بأس به إذا كانوا صائنين لأنفسهم حافظين لدينهم (إلخ) فإخراج الأصول منه إخراج للمورد وهو مستهجن فلا بد من توجيه الرواية بوجه أورد علمها إلى أهلها.
واما حملها على حصول العلم من قول العلماء للعوام لحسن ظنهم بهم وعدم انقداح خلاف الواقع من قولهم بل يكون قول العلماء لديهم صراح الواقع وعين الحقيقة، فبعيد بل غير ممكن، لتصريحها بأنهم لم يكونوا إلا ظانين بقول رؤسائهم وان عقلهم كان يحكم بعدم جواز تقليد الفاسق مع انه لو حصل العلم من قولهم لليهود لم يتوجه إليهم ذم بل لم - يسم ذلك تقليدا (وبالجملة) سوق الرواية انما هو في التقليد الظني الذي يمكن ردع قسم منه والأمر بالعمل بقسم منه، والالتزام بجواز التقليد في الأصول أو في بعضها كما ترى.
فالرواية مع ضعفها سندا واغتشاشها متنا لا تصلح للحجية ولكن يستفاد منها مع ضعف سندها امر تاريخي يؤيد ما نحن بصدده وهو ان التقليد بهذا المفهوم الذي في زماننا كان شايعا من زمن قديم هو زمان الأئمة أو قريب منه أي من زمان تدوين تفسير الإمام أو من قبله بزمان طويل.
ومنها إطلاق صدر مقبولة عمر بن حنظلة وإطلاق مشهورة أبي خديجة وتقريب
140

الدلالة ان يقال: ان الظاهر من صدرها وذيلها شمولها للشبهات الحكمية فيؤخذ بإطلاقها في غير مورد واحد متعرض له وهو صورة اختلاف الحكمين، وكذا المشهورة تشملها بإطلاقها فإذا دلتا على نفوذ حكم الفقيه فيها تدلان على اعتبار فتواه في باب فصل الخصومات والا فلا يعقل إنفاذه بدونه ويفهم نفوذ فتواه وحجيته في غيره اما بإلقاء الخصوصية عرفا أو بدعوى تنقيح المناط، أو يقال ان الظاهر من قوله: «فإذا حكم بحكمنا» إلقاء احتمال الخلاف من فتوى الفقيه إذ ليس المراد منه انه إذا علمتم انه حكم بحكمنا، بل المراد انه إذا حكم بحكمنا بحسب نظره ورأيه فجعل نظره طريقا إلى حكمهم هذا.
ولكن يرد عليه ان إلقاء الخصوصية عرفا ممنوع، ضرورة تحقق خصوصية زائدة في باب الحكومة ربما تكون بنظر العرف دخيلة فيها وهي رفع الخصومة بين المتخاصمين وهو لا يمكن نوعا الا بحكم الحاكم النافذ وهذا امر مرغوب فيه لا يمكن فيه الاحتياط ولا يتفق فيه المصالحة نوعا، واما العمل بقول الفقيه فربما لا يكون مطلوبا ويكون المطلوب درك الواقع بالاحتياط أو الأخذ بأحوط الأقوال مع تعذر الاحتياط التام، فدعوى ان العرف يفهم من المقبولة وأمثالها حجية الفتوى لا يخلو من مجازفة وأوضح فسادا من ذلك دعوى تنقيح المناط القطعي.
واما قوله: «إذا حكم بحكمنا» لو سلم إشعاره بإلقاء احتمال الخلاف فإنما هو في باب الحكومة فلا بد من السراية إلى باب الفتوى من دليل وهو مفقود، فالإنصاف عدم جواز التمسك بأمثال المقبولة للتقليد رأسا فكما لا يجوز التمسك بصدرها على جواز تقليد المفضول لا يجوز ببعض فقرات ذيلها على وجوب تقليد الأعلم لدى مخالفة قوله مع غيره.
ومنها إطلاق ما في التوقيع: واما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وانا حجة الله (1) وتقريبه: ان الحوادث أعم من الشبهات الحكمية والرجوع إلى رواة الحديث ظاهر في أخذ فتواهم لا أخذ نفس الرواية ورواة الحديث كانوا من أهل الفتوى والرأي كما مر كما ان قوله: «فإنهم حجتي عليكم» يدل على ان

(1) راجع الوسائل - كتاب القضاء - الباب 11 - من أبواب صفات القاضي - الرواية 10 -
141

فتوى رواة الحديث حجة كما ان فتوى الإمام حجة فلا معنى لحجية رواة الحديث إلا حجية فتواهم وأقوالهم، والحمل على حجية الأحاديث المنقولة بتوسطهم خلاف الظاهر.
وفيه بعد ضعف التوقيع سندا: ان صدره غير منقول إلينا ولعله كان مكتنفا بقرائن لا يفهم منه الا حجية حكمهم في الشبهات الموضوعية أو الأعم وكان الإرجاع في القضاء لا في الفتوى.
ومنها ما عن الكشي بسند ضعيف عن أحمد بن حاتم بن ماهويه قال: كتبت إليه يعنى أبا الحسن الثالث عليه السلام أسأله عمن آخذ معالم ديني؟ وكتب أخوه أيضا بذلك، فكتب إليهما: فهمت ما ذكرتما فاصمدا في دينكما على كل مسن في حبنا وكل كثير القدم في أمرنا فإنهما كافوكما إن شاء الله (1).
وفيه بعد ضعف السند ان الظاهر من سؤاله ان الرجوع إلى العالم كان مرتكزا في ذهنه وانما أراد تعيين الإمام شخصه فلا يستفاد منه التعبد كما ان الأمر كذلك في كثير من الروايات بل قاطبتها على الظاهر.
ومنها روايات كثيرة عن الكشي وغيره فيها الصحيح وغيره تدل على إرجاع الأئمة إلى اشخاص من الفقهاء أصحابهم يظهر منها ان الرجوع إليهم كان متعارفا ومع وجود الأفقه كانوا يراجعون إلى غيره كصحيحة ابن أبي
يعفور قال: قلت لأبي عبد الله انه ليس كل ساعة ألقاك ولا يمكن القدوم ويجيء الرجل من أصحابنا فيسألني وليس عندي كل ما يسألني عنه فقال ما يمنعك عن محمد بن مسلم الثقفي فإنه سمع من أبي وكان عنده وجيها (2) وكرواية علي بن المسيب المتقدمة حيث الرضا إلى زكريا بن آدم (3) إلى غير ذلك (4).

(1) الوسائل - كتاب القضاء - الباب 11 - من أبواب صفات القاضي - الرواية 38 -
(2) و (3) راجع المصدر المذكور آنفا -
(4) وكرواية عبد العزيز المهتدي والحسن بن علي بن يقطين جميعا عن الرضا عليه السلام قال: قلت: لا أكاد أصل إليك أسألك عن كل ما احتاج إليه من معالم ديني أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما احتاج إليه من معالم ديني؟ فقال: نعم» وكرواية فضل بن شاذان
عن عبد العزيز المهتدي قال: سئلت الرضا عليه السلام فقلت: انى لا ألقاك في كل وقت فعمن آخذ معالم ديني؟ فقال: «خذ عن يونس بن عبد الرحمن» وعنه قال: قلت للرضا عليه السلام:
ان شقتي بعيدة فلست أصل إليك في كل وقت فآخذ معالم ديني عن يونس مولى آل يقطين؟ قال: نعم.
وكرواية معاذ بن مسلم النحوي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: بلغني انك تقعد في الجامع فتفتي الناس؟ قلت: نعم (إلخ) وكرواية علي بن سويد قال: كتبت إلى أبي الحسن عليه السلام وهو في السجن... واما ما ذكرت يا على ممن تأخذ معالم دينك؟: لا تأخذن معالم دينك عن غير شيعتنا (إلخ) وكرواية شعيب العقرقوفي، وقد تقدم نقلها عن الأستاذ دام ظله فراجعها -
142

ويستفاد منها ان أخذ معالم الدين الذي هو عبارة أخرى عن التقليد كان مرتكزا في ذهنهم ومتعارفا في عصرهم، ويستفاد من صحيحة ابن أبي يعفور تعارف رجوع الشيعة إلى الفقهاء من أصحاب الأئمة مع وجود الأفقه بينهم وجواز رجوع الفقيه إلى الأفقه إذا لم يكن له طريق إلى الواقع وهذا ليس منافيا لما ذكرنا في أول الرسالة: ان موضوع عدم جواز الرجوع إلى الغير نفس قوة الاستنباط، وذلك لأن ما ذكرنا هناك انما هو فيمن له طريق إلى الاستنباط مثل زماننا فان الكتب الراجعة إليه مدونة مكتوبة بين أيدينا بخلاف ما إذا لم يكن كذلك كعصر محمد بن مسلم حيث ان الأحاديث فيه كانت مضبوطة عنده وعند نظرائه ولم يكن للجاهل طريق إليها الا بالرجوع إليهم مع إمكان ان يقال: ان إرجاع مثل ابن أبي يعفور انما هو في سماع الحديث ثم استنباطه منه حسب اجتهاده ولا إشكال في استفادة جواز الرجوع إلى الفقهاء بل إلى الفقيه مع الأفقه من تلك الروايات لكن استفادة ذلك مع العلم الإجمالي أو التفصيلي بمخالفة آرائهما مشكلة لعدم العلم بذلك في تلك الأعصار خصوصا من مثل تلك الفقهاء والمحدثين الذين كانوا من بطانة الأئمة فالاتكال بمثل تلك الأدلة على جواز تقليد المفضول مشكل بل غير ممكن.
فيما استدل به على ترجيح قول الأفضل
واستدل على ترجيح قول الأفضل لدى العلم بالمخالفة تارة بالإجماعات المنقولة
143

وهو كما ترى في مثل المسألة العقلية مع تراكم الأدلة، وأخرى بالأخبار كالمقبولة وغيرها بان يقال ان الشبهة فرضت حكمية في المقبولة فنفوذ حكمه تعيينا ملازم لنفوذ فتواه كذلك في تلك المسألة فنتعدى إلى غيرها بإلقاء الخصوصية أو القطع بالملاك سيما مع تناسب الأفقهية والأصدقية في الحديث لذلك.
وفيه مضافا إلى ان ظاهر المقبولة ان الأوصاف الأربع مجتمعة توجب التقديم بمقتضى العطف بالواو، وفرض الراوي صورة التساوي لا يكشف عن كون المراد وجود أحدها: يمنع التلازم هاهنا لأن الملازمة انما تكون في صورة إثبات النفوذ لا سلبه لأن سلب المركب أو ما بحكمه بسلب أحد اجزائه فسلب نفوذ حكمه كما يمكن ان يكون لسلب حجية فتواه يمكن ان يكون لسلب صلاحية حكمه للفصل، وعدم جواز الأخذ بالفتوى في المقام ليس لعدم صلاحيته للحجية بل لعدم كونه فاصلا، بل فتوى الأعلم أيضا ليس بفاصل والتناسب بين الأفقهية وذلك لم يصل إلى حد كشف العلية التامة.
هذا كله مع ان إلقاء الخصوصية عرفا أو القطع بالملاك مما لا وجه لهما بعد وضوح الفرق بين المقامين ولعل الشارع لاحظ جانب الاحتياط في حقوق الناس فجعل حكم الأعلم فاصلا لا قربيتة إلى الواقع بنظره ولم يلاحظه في أحكامه توسعة على الناس، فدعوى إلقاء الخصوصية مجازفة ودعوى القطع أشد مجازفة.
وثالثة بان فتوى الأعلم أقرب إلى الصواب لأن نظره طريق محض إلى الواقع كنظر غيره، سواء الأوليات منه أو الثانويات أو الاعذار الشرعية والعقلية (فحينئذ) يلازم الأعلمية للأقربية وهو المتعين في مقام الإسقاط والاعذار وجواز الرجوع إلى غيره يساوق الموضوعية.
والجواب عن الصغرى بمنع كليتها لأن رأي غير الأعلم قد يوافق رأي الأعلم من الأموات أو الاحياء إذا لم يجز تقليدهم لجهة بل إذا كان رأي غير الأعلم موافقا لجميع الفقهاء ويكون الأعلم منفردا في الاحياء في الفتوى مع كون مخالفيه كثيرين جدا.
وتنظر بعض أهل النظر (1) في الصغرى بان حجية الفتوى لأجل كونه من الظنون

(1) هو المحقق المدقق الحاج الشيخ محمد حسين الأصبهاني رحمه الله.
144

الخاصة لا المطلقة فمطابقة قول غير الأعلم للأعلم الغير الصالح للحجية غير مفيدة فلا عبرة بقوته ولا أصله كالظن من الأمارات الغير المعتبرة، والأقوائية بمطابقة قوله لسائر المجتهدين الذين مثله فغير مسلمة، إذ المطابقة لوحدة الملاك وتقارب الأنظار فالكل في قوة نظر واحد، ولا يكشف توافق آرائهم عن قوة مدركهم والا لزم الخلف لفرض أقوائية نظر الأعلم، ومنه يعلم فساد قياسه بالخبرين المتعارضين المحكي أحدهما بطرق متعددة إذ ليست الخطابات بمنزلة حكاية واحدة فلا محالة يوجب كل حكاية ظنا بصدور شخص هذا الكلام من غير لزوم الخلف (انتهى).
وفيه ما لا يخفى إذ المنظور في رد الصغرى إنكار كلية دعوى أقربية قول الأعلم كما ورد التوافق لا دعوى تقدم قول غير الأعلم في مقام الاحتجاج، فما ذكره أجنبي عن المقام بل المناقشة فيه منحصرة بإنكار الأقربية وهو مسقط لأصل دعواه في الصغرى إذ إنكاره مساوق لإنكار أقربية فتوى الأعلم، واما إنكار الأقربية في المثال الأخير فغير وجيه، لأن إنظار المجتهدين لما كانت طريقا إلى الواقعيات والحجج فلا محالة إذا اجتمع جل أهل الفن على خطاء الأعلم لا يبقى وثوق بأقربية قوله لو لم نقل بالوثوق على الخلاف، وان شئت قلت: لا تجري أصالة عدم الغفلة والخطاء في اجتهاده، وتوهم كون إنظارهم بمنزلة نظر واحد كتوهم لزوم الخلف في غاية السقوط.
وعن الكبرى بان تعين الرجوع إلى الأقرب ان كان لأجل إدراك العقل تعينه جزما بحيث لا يمكن للشارع التعبد بخلافه ولو ورد دليل صريح على خلافه لا بد من طرحه فهو فاسد، لأن الشارع إذا رأى مفسدة في تعين الرجوع إلى الأعلم أو مصلحة في التوسعة على المكلف فلا محالة يرخص ذلك من غير الشبهة الموضوعية كتجويز العمل بخبر الثقة وترك الاحتياط.
نعم لو علمنا وجدانا بان الشارع لا يرضى بترك الواقعيات فلا يمكن معه احتمال تجويز العمل بقول العالم ولا بقول الأعلم بل يحكم العقل بوجوب الاحتياط ولو مع اختلال النظام فضلا عن لزوم الحرج لكنه خلاف الواقع وخلاف المفروض في المقام ولهذا لا أظن بأحد رد دليل معتبر قام على جواز الرجوع بغير الأعلم فعليه كيف يمكن دعوى القطع.
145

بلزوم تعين الأقرب مع احتمال تعبد في المقام ولو ضعيفا.
ومما ذكرنا يظهر النظر في كلام بعض أهل النظر (1) حيث قال ما ملخصه: ان القرب إلى الواقع ان لم يلحظ أصلا فهو مناف للطريقية وان كان بعض الملاك وهناك خصوصية أخرى تعبدية فهو غير ضائر بالمقصود لأن فتوى الأعلم (ح) مساو لغيره في جميع الخصوصيات ويزيد عليه بالقريب، سواء كانت تلك الخصوصية التعبدية جزء المقتضى أو شرط جعله أمارة فيكون فتوى الأعلم متعينا لترجيحه على غيره بالملاك الذي هو ملاك الحجية ولهذا قياسه على البصر والكتابة مع الفارق لكونهما غير دخيلين في ذلك الملاك لأن معنى الأعلمية ليس الأقوائية بحسب المعرفة بحيث لا تزول بتشكيك حتى يقاس عليهما، بل بمعنى أحسنية الاستنباط وأجوديته في تحصيل الحكم من المدارك فيكون أكثر إحاطة بالجهات الدخيلة فيه المغفولة عن نظر غيره فمرجع التسوية بينهما إلى التسوية بين العالم والجاهل، وهذا وجه آخر لتعين الأعلم ولو لم نقل بأقربية رأيه أو كون الأقربية ملاك التقديم لأن العقل يذعن بان رأيه أوفق بمقتضيات الحجج وهو المتعين في مقام إبراء الذمة ويذعن بان التسوية
بينهما كالتسوية بين العالم والجاهل (انتهى) وفيه مواقع للنظر:
منها ان الخصوصية التعبدية لا يلزم ان تكون جزء المقتضى ولا شرط التأثير بل يمكن ان تكون مانعة عن تعين الأعلم كالخصوصية المانعة عن إلزام الاحتياط الموجبة لجعل الأمارات والأصول من غير لزوم الموضوعية.
ومنها ان أحسنية الاستنباط وكون الأعلم أقوى نظرا في تحصيل الحكم من المدارك عبارة أخرى من أقربية رأيه إلى الواقع فلا يخلو كلامه من التناقض والتنافي.
ومنها ان إذعان العقل بما ذكره مستلزم لامتناع تجويز العمل على طبق رأي الأعلم لقبح التسوية بين العالم والجاهل بل امتناعه وهو كما ترى ولا أظن التزام أحد به، والتحقيق ان تجويز العمل بقول غيره ليس لأجل التسوية بينهما بل لمفسدة التضييق أو مصلحة التوسعة ونحوهما مما لا ينافي الطريقية كما قلنا في محله.

(1) هو المحقق المدقق الحاج الشيخ محمد حسين الأصبهاني رحمه الله.
146

وليعلم ان هذا الدليل الأخير غير أصالة التعين في دوران الأمر بين التخيير والتعيين وغير بناء العقلاء على تعين الأعلم في مورد الاختلاف فلا تختلط بينه وبينهما وتدبر جيدا.
فالإنصاف انه لا دليل على ترجيح قول الأعلم الا الأصل بعد ثبوت كون الاحتياط مرغوبا عنه وثبوت حجية قول الفقهاء، في الجملة كما ان الأمر كذلك، وفي الأصل أيضا إشكال لأن فتوى غير الأعلم إذا طابق للأعلم من الأعلم من الأموات أو في المثالين المتقدمين يصير المقام من دوران الأمر بين التخيير والتعيين لا تعين الأعلم والأصل فيه التخيير، الا ان يقال: ان تعين غير الأعلم حتى في مورد الأمثلة مخالف لتسالم الأصحاب وإجماعهم فدار الأمر بين التعيين والتخيير في مورد الأمثلة أيضا وهو الوجه في بنائنا على الأخذ بقول الأعلم احتياطا، واما بناء العقلاء فلم يحرز في مورد الأمثلة المتقدمة.
هذا فيما إذا علم اختلافهما تفصيلا بل أو إجمالا أيضا بنحو ما مر، واما مع احتماله فلا يبعد القول بجواز الأخذ من غيره أيضا لإمكان استفادة ذلك من الاخبار بل لا يبعد دعوى السيرة عليه.
في حال المتكافئين المتعارضين في الفتوى
هذا كله في المتفاضلين واما في المتساويين فالقاعدة وان تقتضي تساقطهما مع التعارض والرجوع إلى الاحتياط لو أمكن وإلى غيره من القواعد مع عدمه لكن الظاهر ان الاحتياط مرغوب عنه وان المسلم عندهم حجية قولهما في حال التعارض فلا بد من الأخذ بأحدهما والقول بحجيته التخييرية.
وقد يقال بدلالة قوله في مثل رواية أحمد بن حاتم بن ماهويه: فاصمدا في دينكما إلى كل مسن في حبنا وغيرها من الروايات العامة على المطلوب فان إطلاقها شامل لحال التعارض والفرق بينهما وبين أدلة حجية خبر الثقة حيث أنكرنا إطلاقها لحال التعارض:
ان الطبيعة في حجية خبر الثقة أخذت بنحو الوجود الساري فكل فرد من الاخبار مشمول أدلة الحجية تعيينا فلا يعقل جعل الحجية التعينية في المتعارضين، ولا جعل الحجية
147

التعيينية في غيرهما والتخييرية فيهما بدليل واحد، فلا مناص الا القول بعدم الإطلاق لحال التعارض، «واما الطبيعة في حجية قول الفقهاء فأخذت على نحو صرف الوجود ضرورة عدم معنى لجعل حجية قول كل عالم بنحو الطبيعة السارية والوجوب التعييني حتى يكون المكلف في كل واقعة مأمورا بأخذ قول جميع العلماء فإنه واضح البطلان فالمأمور به هو الوجود الصرف فإذا أخذ بقول واحد منهم فقد أطاع فلا مانع (ح) من إطلاق دليل الحجية لحال التعارض فقوله: «واما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا» مفاده جعل حجية قول العالم على نحو البدلية أو صرف الوجود، كان مخالفا لقول غيره أولا، يعلم تفصيلا مخالفته له أولا، هذا ما أفاده شيخنا العلامة على ما في تقريرات بعض فضلاء بحثه.
وأنت خبير بان هذا بيان إمكان الإطلاق على فرض وجود دليل مطلق يمكن الاتكال عليه ونحن بعد الفحص الأكيد لم نجد دليلا يسلم دلالة وسندا عن الخدشة مثلا قوله في الرواية المتقدمة: فاصمدا في دينكما (إلخ) بمناسبة صدرها وهو قوله: «عمن آخذ معالم ديني» لا يستفاد منه التعبد بل الظاهر منه هو الإرجاع إلى الأمر الارتكازي فان السائل بعد مفروغية جواز الرجوع إلى العلماء سئل عن الشخص الذي يجوز التعويل على قوله ولعله أراد ان يعين الإمام له شخصا معينا كما عين الرضا عليه السلام زكريا بن آدم والصادق عليه السلام الأسدي والثقفي وزرارة فأرجعه إلى من كان كثير القدم في أمرهم ومسنا في حبهم، والظاهر من كثرة القدم في أمرهم كونه ذا سابقة طويلة في امر الإمامة والمعرفة ولم يذكر الفقاهة لكونها امرا ارتكازيا معلوما لدى السائل والمسؤول عنه وأشار إلى صفات اخر موجبة للوثوق والاطمئنان بهم فلا يستفاد منها الا تقرير الأمر الارتكازي.
ولو سلم كونه بصدد إعمال التعبد والإرجاع إلى الفقهاء فلا إشكال في عدم إطلاقها لحال التعارض بل قوله ذلك كقول القائل: المريض لا بد وان يرجع إلى الطبيب ويشرب الدواء، وقوله: ان الجاهل بالتقويم لا بد وان يرجع إلى المقوم، ومعلوم ان أمثال ذلك لا إطلاق لها لحال التعارض (1) هذا مع ضعف سندها، وقد عرفت حال التوقيع، وبالجملة

(1) واما ما قاله من عدم إمكان الإطلاق لأدلة حجية خبر الثقة حال التعارض (ففيه) انه
كما يمكن ان تشمل أدلة الترخيص الشبهات البدوية تعيينا وأطراف العلم الإجمالي تخييرا بتقريب:
ان لقوله: «كل شيء طاهر» أو «كل شيء حلال» عموما افراديا وإطلاقا حاليا، غير ان حال التعارض نتصرف في الإطلاق ونقيده بعدم ارتكاب الطرف الاخر فكذلك في المقام نقول: ان أدلة حجية خبر الثقة لها عموم بالنسبة إلى جميع الافراد وإطلاق بالنسبة إلى حالاتها حتى حال التعارض فإذا تعارض الخبرين يؤخذ بهما ويحكم بحجيتهما بمقتضى العموم غير ان امتناع العمل بهما يوجب ان نتصرف في الإطلاق ونقيده بعدم العمل بالاخر فتأمل.
148

لا إطلاق في الأدلة بالنسبة إلى حال التعارض.
الاستدلال على التخيير بأدلة العلاج
وقد يتمسك للتخيير في المتساويين بأدلة علاج المتعارضين كموثقة سماعة عن أبي عبد الله قال: سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في امر كلاهما يرويه أحدهما يأمر بأخذه والاخر ينهاه عنه كيف يصنع؟ قال: يرجئه حتى يلقى من يخبره فهو في سعة حتى يلقاه (1).
تقريبه: ان التخالف بينهما لا يتحقق بصرف نقل الرواية مع عدم الجزم بمضمونها ومعه مساوق للفتوى فاختلاف الرجلين انما هو في الفتوى، ويشهد له قوله: «أحدهما يأمر بأخذه والاخر ينهاه» وهذا لا ينطبق على صرف الرواية والحكاية فلا بد من الحمل على الفتوى فأجاب عليه السلام بأنه في سعة ومخير في الأخذ بأحدهما، بل يمكن التمسك بسائر اخبار التخيير في الحديثين المختلفين بإلقاء الخصوصية فان الفقيه أيضا يكون فتواه محصل الاخبار بحسب الجمع والترجيح فاختلاف الفتوى يرجع إلى اختلاف الرواية هذا.
وفيه ما لا يخفى اما التمسك بموثقة سماعة ففيه ان قوله: «يرجئه حتى يلقى من يخبره» معناه: يؤخره ولا يعمل بواحد منهما كما صرح به في روايته الأخرى (2) و

(1) الوسائل - كتاب القضاء - الباب 9 - من أبواب صفات القاضي
(2) وإليك متنها: عن سماعة بن مهران عن أبي عبد الله عليه السلام قلت: يرد علينا حديثان واحد يأمرنا بالاخذ به والاخر ينهانا عنه، قال: لا تعمل بواحد منهما حتى تلقى صاحبك فتسأله، قلت: لا بد ان نعمل بواحد منهما، قال: خذ بما فيه خلاف العامة، راجع المصدر المذكور آنفا -
149

المظنون انهما رواية واحدة ومعنى الإرجاء لغة وعرفا هو تأخير الشيء فقوله بعد ذلك «فهو في سعة ليس معناه انه في سعة في الأخذ بأيهما شاء كما أفاد المستدل بل المراد انه في سعة بالنسبة إلى نفس الواقعة ومحصله ان الروايتين أو الفتوائين ليستا بحجة فلا تعمل بواحدة منهما ولكنه في سعة في الواقعة فله العمل على طبق الأصول فهي على خلاف المطلوب أدل.
واما دعوى إلقاء الخصوصية وفهم التخيير من الاخبار الواردة في الخبرين المتعارضين (ففيه) مع الغض عن فقدان رواية دالة على التخيير جامعة للحجية كما مر في باب التعارض: ان إلقاء الخصوصية عرفا ممنوع،
ضرورة تحقق الفرق الواضح بين اختلاف الاخبار واختلاف الآراء الاجتهادية، فما أفاد من شمول روايات العلاج لاختلاف الفتاوى محل منع مع ان لازمه إعمال مرجحات باب التعارض فيهما وهو كما ترى.
فتحصل مما ذكرناه انه ليس في اخبار الباب ما يستفاد منه ترجيح قول الأعلم عند التعارض لغيره ولا تخيير الأخذ بأحد المتساويين فلا محيص الا العمل بالأصول الأولية لو لا تسالم الأصحاب على عدم وجوب الاحتياط ومع هذا التسالم لا محيص عن الأخذ بقول الأعلم لدوران الأمر بين التعيين والتخيير مع كون وجوبه أيضا مورد تسالمهم، كما ان الظاهر تسالمهم على التخيير بين الأخذ بفتوى أحد المتساويين وعدم وجوب الاحتياط أو الأخذ بأحوط القولين.
هل يشترط الحياة في المفتي أم لا؟
فصل - اختلفوا في اشتراط الحياة في المفتي على أقوال ثالثها التفصيل بين البدوي والاستمراري، لا إشكال في ان الأصل الأولى حرمة العمل بما وراء العلم خرج عنه العمل بفتوى الحي وبقي غيره فلا بد من الخروج عنه من دليل ولما كان عمدة ما يمكن ان يعول عليه هو الاستصحاب فلا بد من تقريره وتحقيقه.
فنقول: قد قرر الأصل بوجوه:
منها ان المجتهد الفلاني كان جائز التقليد لكل مكلف عامي في زمان حياته
150

فيستصحب إلى بعد موته.
ومنها ان الأخذ بفتوى المجتهد الفلاني كان جائزا في زمان حياته فيستصحب.
ومنها ان لكل مقلد جواز الرجوع إليه في زمان حياته وبعدها كما كان، إلى غير ذلك من الوجوه المتقاربة.
وقد يستشكل بان جواز التقليد لكل بالغ عاقل ان كان بنحو القضية الخارجية بمعنى ان كل مكلف كان موجودا في زمانه جاز له الرجوع إليه فلا يفيد بالنسبة إلى الموجودين بعد حياته في الأعصار المتأخرة، وبعبارة أخرى الدليل أخص من المدعى وان كان بنحو القضية الحقيقية أي كل من وجد في الخارج وكان مكلفا في كل زمان كان له تقليد المجتهد الفلاني فان أريد إجراء الاستصحاب التنجيزي فلا يمكن لعدم إدراك المتأخرين زمان حياته فلا يقين بالنسبة إليهم، وان كان بنحو التعليق فإجراء الاستصحاب التعليقي بهذا النحو محل منع.
وفيه ان جعل الأحكام للعناوين على نحو القضية الحقيقية ليس معناه ان لكل فرد من مصاديق العنوان حكما مجعولا برأسه ومعنى الانحلال إلى الأحكام ليس ذلك بل لا يكون في القضايا الحقيقية الا جعل واحد لعنوان واحد، لا جعلات كثيرة بعدد أنفاس المكلفين، لكن ذاك الجعل الواحد يكون حجة بحكم العقل والعقلاء لكل من كان مصداقا للعنوان، مثلا قوله تعالى: «ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا» ليس الا جعلا واحدا لعنوان واحد هو من استطاع، ولكنه حجة على كل مكلف مستطيع (فحينئذ) لو علمنا بان الحج كان واجبا على من استطاع إليه سبيلا وشككنا في بقائه من أجل طرو النسخ مثلا فلا إشكال في جريان استصحاب الحكم المتعلق بالعنوان لنفس ذلك العنوان فيصير بحكم الاستصحاب حجة على كل من كان مصداقه ولهذا لا يستشكل أحد في استصحاب عدم النسخ مع ورد هذا الإشكال بعينه عليه بل على جميع الاستصحابات الحكمية، والسر فيه ما ذكرنا من ان الحكم على العنوان حجة على المعنونات فاستصحاب وجوب الحج على عنوان المستطيع جار بلا إشكال كاستصحاب جواز رجوع كل مقلد إلى المجتهد الفلاني وسيأتي كلام في هذا الاستصحاب فانتظر.
151

في الإشكال المعروف على الاستصحاب والجواب عنه
فالعمدة في المقام هو الإشكال المعروف أي عدم بقاء الموضوع وتقريره: انه لا بد في الاستصحاب من وحدة القضية المتيقنة والمشكوك فيها وموضوع القضية هو رأي المجتهد وفتواه وهو امر قائم بنفس الحي وبعد موته لا يتصف بحسب نظر العرف المعتبر في المقام بعلم ولا ظن ولا رأي له بحسبه ولا فتوى، ولا أقل من الشك في ذلك ومعه أيضا لا مجال للاستصحاب لأن إحراز الموضوع شرط في جريانه، ولا إشكال في ان مدار الفتوى هو الظن الاجتهادي ولهذا يقع المظنون بما هو كذلك وسطا في قياس الاستنباط ولا إشكال في عدم إحراز الموضوع بل في عدم بقائه.
وفيه ان مناط عمل العقلاء على رأي كل ذي صنعة في صنعته هو أماريته وطريقيته عن الواقع وهو المناط في فتوى الفقهاء سواء كان دليل اعتباره بناء العقلاء الممضى أو الأدلة اللفظية فان مفادها أيضا كذلك ففتوى الفقيه بان صلاة الجمعة واجبة طريق إلى الحكم الشرعي وحجة عليه وانما تتقوم طريقيته وطريقية كل رأي خبير إلى الواقع إذا أفتى وأخبر بنحو الجزم لكن الوجود الحدوثي للفتوى بنحو الجزم يوجب كونه طريقا إلى الواقع أبدا ولا ينسلخ عنه ذلك الا بتجدد رأيه أو الترديد فيه والا فهو طريق إلى الواقع، كان صاحب الرأي حيا أو ميتا، فإذا شككنا في جواز العمل به من حيث احتمال دخالة الحياة شرعا في جوازه فلا إشكال في جريان الاستصحاب ووحدة القضية المتيقنة والمشكوك فيها، فرأي العلامة وقوله وكتاب قواعده كل كاشف عن الأحكام الواقعية، ووجودها الحدوثي كاف في كونه طريقا وهو المناط في جواز العمل شرعا ولدى العقلاء.
وان شئت قلت: جزم العلامة أو إظهار فتواه جزما جعل كتابه حجة وطريقا إلى الواقع وجاز العمل في زمان حياته ويشك في جواز العمل على طبقه بعد موته فيستصحب (1).

(1) ولا يخفى ان بعض الأعيان من المحققين أجاب عن هذا الإشكال بما لا يرتبط بالمقام وقد أتعب نفسه الزكية في إثبات تجرد النفس وبقائها بملكاتها بعد الموت، مع انه لا يجدى فيما نحن بصدده من بقاء الموضوع في الاستصحاب عرفا.
152

والعجب من الشيخ الأعظم حيث اعترف بان الفتوى إذا كان عبارة عن نقل الاخبار بالمعنى يتم القول بان القول موضوع للحكم ويجري الاستصحاب معه، مع ان حجية الاخبار وطريقيتها عن الواقع أيضا متقومتان بجزم الراوي فلو أخبر أحد الرواة بيننا وبين المعصوم بنحو الترديد لا يصير خبره أمارة وحجة على الواقع ولا جائز العمل لكن مع اخباره جزما يصير كاشفا عنه وجائز العمل ما دام كونه كذلك سواء أكان مخبره حيا أو ميتا مع عدم بقاء جزمه بعد الموت، لكن جزمه حين الاخبار كاف في جواز العمل وحجية قوله دائما الا إذا رجع عن اخباره الجزمي، وهذا جار في الفتوى طابق النعل بالنعل فقول الفقيه حجة على الواقع وطريق إليه كإخبار المخبر وهو باق على طريقيته بعد الموت ولو شك في جواز العمل به لأجل احتمال اشتراط الحياة شرعا جاز استصحابه وتم أركانه.
وان شئت قلت: ان جزم الفقيه أو إظهاره الفتوى على سبيل الجزم واسطة في حدوث جواز العمل بقوله وكتابه وبعد موته نشك في بقاء الجواز لأجل الشك في كونه واسطة في العروض أو الثبوت فيستصحب.
واما ما أفاد من كون الوسط في قياس الاستنباط هو المظنون بما هو كذلك وان مظنون الحرمة حرام أو مظنون الحكم واجب العمل ففيه ان إطلاق الحجة على الأمارات ليس باعتبار وقوعها وسطا في الإثبات كالحجة المنطقية بل المراد منها هو كونها منجزة للواقع بمعنى انه إذا قامت الأمارة المعتبرة على وجوب شيء وكان واجبا بحسب الواقع فتركه المكلف تصح عقوبته ولا عذر له في تركه وبهذا المعنى تطلق الحجة على القطع كإطلاقه على الأمارات بل تطلق على بعض الشكوك أيضا (وبالجملة) الحجة في الفقه ليست هي القياس المنطقي ولا يكون الحكم الشرعي مترتبا على ما قام به الأمارة بما هو كذلك ولا المظنون بما مظنون.
فتحصل مما ذكرنا ان استصحاب جواز العمل على طبق رأي المجتهد وفتواه بمعنى حاصل المصدر وعلى طبق كتابه الكاشفين عن الحكم الواقعي أو الوظيفة الظاهرية
153

مما لا مانع منه (1).
لا يقال: بناء على ما ذكرت يصح استصحاب حجية ظن المجتهد الموجود في زمان حياته فلنا ان نقول ان الحجية والأمارية ثابتتان له في موطنه ويحتمل بقائهما إلى الأبد ومع الشك تستصحب.
فإنه يقال: هذا غير معقول للزوم إثبات الحجية وجواز العمل فعلا لأمر معدوم، وكونه في زمانه موجودا لا يكفى في إثبات الحجية الفعلية له مع معدوميته فعلا، وان شئت قلت: ان جواز العمل كان ثابتا للظن الموجود فموضوع القضية المتيقنة هو الظن الموجود وهو في الآن مفقود.
اللهم الا ان يقال: ان الظن في حال الوجود بنحو القضية الحينية موضوع للقضية لا بنحو القضية الوضعية والتقييدية وهو عين الموضوع في القضية المشكوك فيها، وقد ذكرنا في باب الاستصحاب ان المعتبر فيه هو وحدة القضيتين لا إحراز وجود الموضوع فراجع، ولكن كون الموضوع كذلك في المقام محل إشكال ومنع مع انه لا يدفع الإشكال المتقدم به.
في تقرير إشكال آخر على الاستصحاب
ثم ان هاهنا إشكالا قويا على هذا الاستصحاب وهو انه اما ان يراد به استصحاب الحجية العقلائية فهي امر غير قابل للاستصحاب، أو الحجية الشرعية فهي غير قابلة للجعل، أو جواز العمل على طبق قوله فلا دليل على جعل الجواز الشرعي، بل الظاهر من مجموع الأدلة هو تنفيذ الأمر الارتكازي العقلائي فليس في الباب دليل جامع لشرائط الحجية يدل على تأسيس الشرع جواز العمل أو وجوبه على رأي المجتهد فها هي الأدلة المستدل بها للمقصود فراجعها حتى تعرف صدق ما ذكرناه، أو استصحاب الأحكام الواقعية فلا شك في بقائها لأنها لو

(1) وبما أفاده الأستاذ دام ظله يدفع توهم ان الطريقية والحجية والتنجيز أوصاف إيجابية وأحكام فعلية فتحتاج إلى وجود الموضوع وان الرأي بوجوده الحدوثي بعد مضي زمان طويل لا يصلح ان يكون موضوعا لها.
154

تحققت أولا فلا شك في انها متحققة في الحال أيضا لأن الشك في بقائها اما لأجل الشك في النسخ أو الشك في فقدان شرط كصلاة الجمعة في زمان الغيبة أو حدوث مانع، والفرض انه لا شك من هذه الجهات، أو الأحكام الظاهرية بدعوى كونها مجعولة عقيب رأي المجتهد بل عقيب سائر الأمارات فهو أيضا ممنوع لعدم الدليل على ذلك بل ظاهر الأدلة على خلافه لأن الظاهر منها إمضاء ما هو المرتكز لدى العقلاء والمرتكز لديهم هو أمارية رأي المجتهد للواقع كأمارية رأي كل ذي صنعة إلى الواقع في صنعته.
وبالجملة لا بد في جريان الاستصحاب من حكم أو موضوع ذي حكم وليس في المقام شيء قابل له، اما الحكم الشرعي فمفقود لعدم تطرق جعل وتأسيس من الشارع واما ما لدى العقلاء من حجية قول أهل الخبرة فلعدم كونه موضوعا لحكم شرعي بل هو امر عقلائي يتنجز به الواقع بعد عدم ردع الشارع إياه، واما إمضاء الشارع وارتضائه لما هو المرتكز بين العقلاء فليس حكما شرعيا حتى يستصحب تأمل (1) بل لا يستفاد من الأدلة الا الإرشاد إلى ما هو المرتكز فليس جعل وتأسيس كما لا يخفى.
ان قلت: بناء عليه ينسد باب الاستصحاب في مطلق مؤديات الأمارات فهل فتوى الفقيه الا إحداها مع انه حقق في محله جريانه في مؤدياتها فكما يجري فيها لا بد وان يجري في الحكم المستفاد من فتوى الفقيه.
قلت: هذه مغالطة نشأت من خلط الشك في بقاء الحكم والشك في بقاء حجية الحجة عليه فان الأول مجرى الاستصحاب دون الثاني فإذا قامت الأمارة اية أمارة كانت على حكم ثم شك في بقائه لأحد أسباب طرو الشك كالشك في النسخ يجري الأصل لما ذكرنا في الاستصحاب من شمول أدلته مؤديات الأمارات أيضا واما إذا شك في أمارة بعد قيامها على حكم وحجيتها في بقاء الحجية لها في زمان الشك فلا يجري فيها لعدم الشك في بقاء حكم شرعي كما عرفت، فقياس الاستصحاب في نفس الأمارة وحكمها على الاستصحاب في مؤداها مع الفارق فان المستصحب في الثاني هو الحكم الواقعي

(1) وجهه ان استصحاب رضى الشارع بالعمل مما لا مانع منه فإنه وان لم يكن حكما لكن مع التعبد به يحكم العقل بجواز العمل فهو مثل الحكم في ذلك (منه دام ظله)
155

المحرز بالأمارة دون الأول.
ان قلت: بناء على عدم استتباع قيام الأمارات فتوى الفقيه كانت أو غيره للحكم يلزم عدم تمكن المكلف من الجزم في النية وإتيان كثير من اجزاء العبادات وشرائطها رجاء وهو باطل فلا بد من الالتزام باستتباعها الحكم لتحصيل الجزم فيها.
قلت: أولا لا دليل على لزوم الجزم فيها من إجماع أو غيره ودعوى الإجماع ممنوعة في هذه المسألة العقلية.
وثانيا ان الجزم حاصل لما ذكرنا من ان احتمال الخلاف في الطرق العقلائية مغفول عنه غالبا الا ترى ان جميع المعاملات الواقعة من ذوي الأيادي على الأموال تقع على سبيل الجزم مع ان الطريق إلى ملكيتهم هو اليد التي تكون طريقا عقلائيا وليس ذلك الا لعدم انقداح احتمال الخلاف في النفوس تفصيلا بحسب الغالب.
وثالثا ان المقلدين الآخذين بقول الفقهاء لا يرون فتواهم الا طريقا إلى الواقع فالإتيان على مقتضى فتواهم ليس الا بملاحظة طريقيته إلى الواقع وكاشفيته عن أحكام الله الواقعية كعملهم على طبق رأي كل خبرة فيما يرجع إليه من دون تفاوت في نظرهم وليس استتباع فتواهم للحكم الظاهري في ذهنهم بوجه حتى يكون الجزم باعتباره، فالحكم الظاهري على فرض وجوده ليس محصلا للجزم ضرورة كون هذا الاستتباع مغفولا عنه لدى العقلاء العاملين على قول الفقهاء بما انهم عالمون بالاحكام وفتواهم طريق إلى الواقع، فتحصل من جميع ما ذكرنا ان الاستصحاب غير جار لفقدان المستصحب أي الحكم أو الموضوع الذي له حكم.
في التفصي عن الإشكال
وغاية ما يمكن ان يقال في التفصي عن هذا الإشكال: ان احتياج الفقيه للفتوى لجواز البقاء على تقليد الميت إلى الاستصحاب انما يكون في مورد اختلاف رأيه لرأي الميت واما مع موافقتهما فيجوز له الإفتاء بالاخذ برأي الميت لقيام الدليل عنده عليه وعدم الموضوعية للفتوى والأخذ برأي الحي، فلو فرض موافقة رأي فقيه حي لجميع
156

ما في رسالة فقيه ميت يجوز له الإرجاع إلى رسالته من غير احتياج إلى الاستصحاب بل لقيام الأمارة على صحته فما يحتاج في الحكم بجواز البقاء إلى الاستصحاب هو موارد اختلافهما (فحينئذ) نقول: لو أدرك مكلف في زمان بلوغه مجتهدين حيين متساويين في العلم مختلفين في الفتوى يكون مخيرا في الأخذ بأيهما شاء وهذا حكم مسلم بين الفقهاء وأرسلوه إرسال المسلمات من غير احتمال إشكال فيه مع انه خلاف القاعدة فإنها تقتضي تساقطهما فالحكم بالتخيير بنحو التسلم في هذا المورد المخالف للقاعدة لا يكون الا بدليل شرعي وصل إليهم أو للسيرة المستمرة إلى زمن الأئمة عليهم السلام كما ليست ببعيدة، فإذا مات أحد المجتهدين يستصحب هذا الحكم التخييري وهذا الاستصحاب جار في الابتدائي والاستمراري (نعم) جريانه في الابتدائي الذي لم يدركه المكلف حيا محل إشكال لعدم دليل يثبت الحكم للعنوان حتى يستصحب، فما ذكرنا في التفصي عن الإشكال الأول في الباب من استصحاب الحكم الثابت للعنوان انما هو على فرض ثبوت الحكم له وهو فرض محض.
فتحصل مما ذكرنا تفصيل آخر هو التفصيل بين الابتدائي الذي لم يدرك المكلف مجتهده حيا حال بلوغه وبين
الابتدائي المدرك كذلك والاستمراري هذا مقتضى الاستصحاب فلو قام الإجماع على عدم جواز الابتدائي مطلقا تصير النتيجة التفصيل بين الابتدائي والاستمراري هذا كله حال الاستصحاب.
في حال بناء العقلاء في تقليد الميت
واما بناء العقلاء فمحصل الكلام فيه انه لا إشكال في عدم التفاوت في ارتكاز العقلاء وحكم العقل بين فتوى الحي والميت، ضرورة طريقية كل منهما إلى الواقع من غير فرق بينهما لكن مجرد ارتكازهم وحكمهم العقلي بعدم الفرق بينهما لا يكفي في جواز العمل بل لا بد من إثبات بنائهم على العمل على طبق فتوى الميت كالحي وتعارفه لديهم حتى يكون عدم ردع الشارع كاشفا عن إمضائه والا فلو فرض عدم جريان العمل على طبق فتوى الميت وان لا يتفاوت في ارتكازهم مع الحي لا يكون للردع مورد حتى
157

يكشف عدمه عن إمضاء الشارع.
والحاصل ان جواز الاتكال على الأمارات العقلائية موقوف على إمضاء الشارع لفظا أو كشفه عن عدم الردع وليس ما يدل لفظا عليه، والكشف عن عدم الردع موقوف على جرى العقلاء عملا على طبق ارتكازهم ومع عدمه لا معنى لردع الشارع ولا يكون سكوته كاشفا عن رضاه.
(فحينئذ) نقول لا إشكال في بناء العقلاء على العمل على رأي الحي ويمكن دعوى بنائهم على العمل بما أخذوا من الحي في زمان حياته ثم مات ضرورة ان الجاهل بعد تعلم ما يحتاج إليه من الحي يرى نفسه عالما فلا داعي له من الرجوع إلى الاخر بل يمكن إثبات ذلك من الروايات كرواية علي بن المسيب المتقدمة فان إرجاعه إلى زكريا بن آدم من غير ذكر حال حياته وان ما يأخذه منه في حال الحياة لا يجوز العمل به بعد موته مع ان في ارتكازه كل عاقل عدم الفرق بينهما دلالة على جواز العمل بما تعلم منه مطلقا فان كون شقته بعيدة بحيث انه بعد رجوعه إلى شقته كان يصير منقطعا عن الإمام عليه السلام في مثل تلك الأزمنة كان يوجب عليه بيان الاشتراط لو كان الحياة شرطا، واحتمال ان رجوع علي بن المسيب إليه كان في نقل الرواية يدفعه ظهور الرواية ومثلها مكاتبة أحمد بن حاتم وأخيه (وبالجملة) إرجاع الأئمة عليهم السلام في الروايات الكثيرة شيعتهم إلى العلماء عموما وخصوصا مع خلوها عن اشتراط الحياة كاشف عن ارتضائهم بذلك.
نعم لا يكشف عن الأخذ الابتدائي من فتوى الميت فان الدواعي منصرفة عن الرجوع إلى الميت مع وجود الحي، ولم يكن في تلك الأزمنة تدوين الكتب الفتوائية متعارفا حتى يقال انهم كانوا يراجعون الكتب، فان الكتب الموجودة في تلك الأزمنة كانت منحصرة بكتب الأحاديث ثم بعد أزمنة متطاولة صار بنائهم على تدوين كتب نحو متون الاخبار ككتب الصدوقين ومن في طبقتهما أو قريب العصر بهما، ثم بعد مرور الأزمنة جرت عادتهم على تدوين الكتب التفريعية والاستدلالية فلم يكن الأخذ من الأموات ابتداء ممكنا في الصدر الأول ولا متعارفا أصلا.
158

نعم من أخذ فتوى حي في زمان حياته كان يعمل به على الظاهر، ضرورة عدم الفرق في ارتكازه بين الحي والميت ولم يرد ردع عن ارتكازهم وبنائهم العملي بل إطلاق الأدلة يقتضى الجواز أيضا.
فتحصل مما ذكرنا انه لو كان مبنى جواز البقاء على تقليد الميت هو بناء العقلاء فلا بد من التفصيل بين ما إذا أخذ فتوى الميت في زمان حياته وغيره، والإنصاف ان جواز البقاء على فتوى الميت بعد الأخذ منه في الجملة هو الأقوى، واما الأخذ الابتدائي ففيه إشكال بل الأقوى عدم جوازه.
واما التمسك بالأدلة اللفظية كالكتاب والسنة فقد عرفت في المبحث السالف عدم دلالتهما على تأسيس حكم شرعي في هذا الباب فراجع.
الكلام حول تبدل الاجتهاد
فصل - إذا اضحمل الاجتهاد السابق وتبدل رأي المجتهد فلا يخلو اما اما ان يتبدل من القطع إلى القطع أو إلى الظن المعتبر أو من الظن المعتبر إلى القطع أو إلى الظن المعتبر فان تبدل من القطع إلى غيره فلا مجال للقول بالاجزاء، ضرورة ان الواقع لا يتغير عما هو عليه بحسب العلم والجهل فإذا قطع بعدم كون السورة جزءا للصلاة ثم قطع بجزئيتها أو قامت الأمارة عليها أو تبدل قطعه يتبين له في الحال الثاني وجدانا أو تعبدا بعدم كون المأتي به مصداق المأمور به ومعه لا وجه للاجزاء ولا يتعلق بالقطع جعل حتى يتكلم في دلالة دليله على اجزائه عن الواقع أو بدليته عنه وانما هو عذر في صورة ترك المأمور به فإذا ارتفع العذر يجب عليه الإتيان بالمأمور به في الوقت وخارجه ان كان له القضاء.
وان تبدل من الظن المعتبر فان كان مستنده الأمارات كخبر الثقة وغيره فكك إذا كانت الأمارة عقلائية أمضاها الشارع، ضرورة ان العقلاء انما يعملون على ما عندهم كخبر الثقة والظواهر بما انها كاشفة عن الواقع وطريق إليه ومن حيث عدم اعتنائهم باحتمال الخلاف، وإمضاء الشارع هذه الطريقة لا يدل على رفع اليد عن الواقعيات وتبديل المصاديق الأولية بالمصاديق الثانوية أو جعل المصاديق الناقصة منزلة التامة وربما يقال ان الشارع إذا امر
159

بطبيعة كالصلاة ثم امر بالعمل بقول الثقة أو أجاز المأمور بالعمل به يكون لازمه الأمر أو الإجازة بإتيان المأمور به على طبق ما أدى إليه قول الثقة ولازم ذلك هو الاجزاء ففي مثل قوله تعالى: «أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل» يكون امر بصلاتين إلى غسق الليل لا غير فإذا امر بالعمل على قول الثقة فقد امر بإتيان المأمور به بالكيفية التي أدى إليها الأمارة فلا محالة يكون المأتي به مصداقا للمأمور به عنده والا لما امر بإتيانه كذلك فلا محيص عن الاجزاء لتحقق مصداق المأمور به وسقوط الأمر.
ولكنك خبير بان إمضاء طريقة العقلاء ليس الا لأجل تحصيل الواقعيات لمطابقة الأمارات العقلائية نوعا للواقع وضعف احتمال تخلفها عنه وفي مثل ذلك لا وجه لسقوط الأمر إذا تخلف عن الواقع كما ان الأمر كذلك عند العقلاء، والفرض ان الشارع لم يأمر تأسيسا، بل وكذا الحال لو امر الشارع على أمارة تأسيسا وكان لسان الدليل هو التحفظ على الواقع فان العرف لا يفهم منه الا تحصيل الواقع لا تبديله بمؤدى الأمارة، وأنت إذا راجعت الأدلة المستدل بها على حجية خبر الثقة لترى ان مفادها ليس الا إيجاب العمل به لأجل الوصول إلى الواقعيات كالآيات على فرض دلالتها وكالروايات، فإنها تنادي بأعلى صوتها ان إيجاب العمل على قول الثقة انما هو لكونه ثقة وغير كاذب وانه موصل إلى الواقع، وفي مثله لا يفهم العرف ان الشارع يتصرف في الواقعيات على نحو أداء الأمارة.
هذا مع ان احتمال التأسيس في باب الأمارات العقلائية مجرد فرض والا فالناظر فيها يقطع بان الشارع لم يكن في مقام تأسيس وتحكيم بل في مقام إرشاد وإمضاء ما لدى العقلاء، والضرورة قاضية بان العقلاء لا يعملون على طبقها الا لتحصيل الواقع، وحديث تبديل الواقع بما يكون مؤدى الأمارة مما لا أصل له في طريقتهم، فالقول بالاجزاء فيها ضعيف غايته.
وأضعف منه التفصيل بين تبدل الاجتهاد الأول بالقطع فلا يجزى وبين تبدله باجتهاد آخر فيجزي بدعوى عدم
الفرق بين الاجتهادين الظنيين وعدم ترجيح الثاني حتى يبطل الأول وذلك لأن تبدل الاجتهاد لا يمكن الا مع اضمحلال الاجتهاد الأول بالعثور على دليل أقوى أو بالتخطئة للاجتهاد الأول ومعه لا وجه لاعتباره فضلا عن مصادمته للثاني.
160

في حال الفتوى المستند إلى الأصول
هذا حال الفتوى المستند إلى الأمارات واما إذا استند إلى الأصول كأصالتي الطهارة والحلية في الشبهات الحكمية وكالاستصحاب فيها وكحديث الرفع فالظاهر هو الاجزاء مع اضمحلال الاجتهاد، اما في أصالتي الطهارة والحل فلان الظاهر من دليلهما هو جعل الوظيفة الظاهرية لدى الشك في الواقع فان معنى قوله: «كل شيء نظيف حتى تعلم انه قذر» و «كل شيء حلال حتى تعرف انه حرام بعينه» ليس انه طاهر وحلال واقعا حتى تكون النجاسة والحرمة متقيدين بحال العلم بهما، ضرورة انه التصويب الباطل ولا معنى لجعل المحرزية والكاشفية للشك مع كونه خلاف أدلتهما، ولا لجعلهما لأجل التحفظ على الواقع، بل الظاهر من أدلتهما هو جعل الطهارة والحلية الظاهريتين ولا معنى لهما الا تجويز ترتيب آثار الطهارة والحلية مع المشكوك فيه، ومعنى تجويز ترتيب الآثار تجويز إتيان ما اشترط فيه الطهارة والحلية مع المشكوك فيه فيصير المأتي به معهما مصداق المأمور به تعبدا فيسقط امره.
فإذا دل الدليل على لزوم إتيان الصلاة مع طهارة الثوب ثم شك في طهارة ثوبه دل قوله كل شيء طاهر الذي يرجع إلى جواز ترتيب الطهارة على الثوب المشكوك فيه على جواز إتيان الصلاة معه وتحقق مصداق الصلاة به فإذا تبدل شكه بالعلم لا يكون من قبيل كشف الخلاف كما ذكرنا في الأمارات لأنها كواشف عن الواقع فلها واقع تطابقه أولا تطابقه بخلاف مؤدى الأصلين فان مفاد أدلتهما ترتيب آثار الطهارة أو الحلية بلسان جعلهما فتبديل الشك بالعلم من قبيل تبديل الموضوع لا التخلف عن الواقع فأدلتهما حاكمة على أدلة جعل الشروط والموانع في المركبات المأمور بها.
وبالجملة إذا امر المولى بإتيان الصلاة مع الطهارة وأجاز الإتيان بها في ظرف الشك مع الثوب المشكوك فيه بلسان جعل الطهارة وأجاز ترتيب آثار الطهارة الواقعية عليه ينتج جواز إتيان الصلاة المأمور بها مع الطهارة الظاهرية ومعاملة المكلف معها معاملة الطهارة الواقعية فيفهم العرف من ذلك حصول مصداق المأمور به معها فيسقط
161

الأمر، وبعد العلم بالنجاسة لا يكون من قبيل كشف الخلاف كما في الأمارات الكاشفة عن الواقع.
ولا يبعد ان يكون الأمر كذلك في الاستصحاب فان الكبرى المجعولة فيه وهي قوله: «لا ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك أبدا» ليس مفادها جعل اليقين أمارة بالنسبة إلى زمان الشك، ضرورة عدم كاشفيته بالنسبة إليه عقلا لامتناع كونه طريقا إلى غير متعلقه. ولا معنى لجعله طريقا إلى غيره. فلا يكون الاستصحاب من الأمارات، بل ولا يكون جعله للتحفظ على الواقع كإيجاب الاحتياط في الشبهة البدوية في الاعراض والدماء فإنه أيضا خلاف مفادها وان احتملناه بل رجحناه سابقا، بل الظاهر منها انه لا ينبغي للشاك الذي كان على يقين رفع اليد عن آثاره فيجب عليه ترتيب آثاره فيرجع إلى وجوب معاملة بقاء اليقين الطريقي معه في زمان الشك وهو مساوق عرفا لتجويز إتيان المأمور به المشروط بالطهارة الواقعية مثلا مع الطهارة المستصحبة ولازم ذلك صيرورة المأتي به معها مصداقا للمأمور به فيسقط الأمر المتعلق به.
وبالجملة يكون حاله في هذا الأثر كحال أصالتي الطهارة والحل من حيث كونه أصلا عمليا ووظيفة في زمان الشك، لا أمارة على الواقع، ولا أصلا للتحفظ عليه حتى يأتي فيه كشف الخلاف ويدل على ذلك صحيحة زرارة الثانية حيث حكم فيها بغسل الثوب وعدم إعادة الصلاة معللا بأنه كان على يقين من طهارته فشك وليس ينبغي له ان ينقض اليقين بالشك.
وكذا الحال فيما إذا كان المستند حديث الرفع فان قوله: «رفع ما لا يعلمون» بناء على شموله للشبهات الحكمية والموضوعية لسانه رفع الحكم والموضوع باعتبار الحكم، لكن لا بد من رفع اليد عن هذا الظاهر حتى بالنسبة إلى الشبهات الموضوعية لأن لازمه طهارة ما شك في نجاسته موضوعا واقعا، ولا يمكن الالتزام بطهارة ملاقيه في زمان الشك بعد كشف الخلاف فلا بد من الحمل على البناء العملي على الرفع وترتيب آثار الرفع الواقعي، فإذا شك في جزئية شيء في الصلاة أو شرطيته لها أو مانعيته فحديث الرفع يدل على رفع الجزئية والشرطية والمانعية، فحيث لا يمكن الالتزام بالرفع
162

الحقيقي لا مانع من الالتزام بالرفع الظاهري نظير الوضع الظاهري في أصالتي الطهارة والحلية فيرجع إلى معاملة الرفع في الظاهر وجواز إتيان المأمور به كذلك وصيرورة المأتي به مصداقا للمأمور به بواسطة حكومة دليل الرفع على أدلة الأحكام.
فتحصل من جميع ما ذكرنا ان التحقيق هو التفصيل بين الأمارات والأصول كما عليه المحقق الخراساني رحمه الله، هذا كله بحسب مقام الإثبات وظهور الأدلة، واما بحسب مقام الثبوت فلا بد من توجيهه بوجه لا يرجع إلى التصويب الباطل.
في الإشارة إلى الخلط الواقع من بعض الأعاظم في المقام
ثم انه ظهر مما ذكرنا ان القائل بالاجزاء لا يلتزم بالتصرف في أحكام المحرمات والنجاسات ولا يقول بحكومة أدلة الأصول على أدلة الأحكام الواقعية التي هي في طولها، وليس محط البحث في باب الاجزاء بأدلة أصلي الطهارة والحلية والاستصحاب هو التضييق أو التوسعة في أدلة النجاسات والمحرمات حتى يقال: ان الأمارات والأصول وقعت في رتبة إحراز الأحكام الواقعية، والحكومة فيها غير الحكومة بين الأدلة الواقعية بعضها مع بعض وان لازم ذلك هو الحكم بطهارة ملاقى النجس الواقعي إذا لاقى في زمان الشك وغير ذلك مما وقع من بعض الأعاظم على ما في تقريرات بحثه بل محط البحث هو ان أدلة الأصول الثلاثة هل تدل بحكومتها على أدلة الأحكام على تحقق مصداق المأمور به تعبدا حتى يقال بالاجزاء أم لا؟ هذا مع بقاء النجاسات والمحرمات على ما هي عليها من غير تصرف في أدلتها، فالشك في الطهارة والحلية بحسب الشبهة الحكمية انما هو في طول جعل النجاسات والمحرمات لا في طول جعل الصلاة مشروطة بطهارة ثوب المصلى وبكونه من المأكول، والخلط بين المقامين أوقعه فيما أوقعه، وفي كلامه محال إنظار تركناها مخافة التطويل.
في تكليف المقلد مع تبدل رأي مجتهده
ثم ان هذا كله حال المجتهد بالنسبة إلى تكاليف نفسه واما تكليف مقلديه فهل هو
163

كالمجتهد في التفصيل بين كون رأي المقلد مستندا إلى الأمارات وبين كونه مستندا إلى الأصول بان يقال: ان المجتهد يعين وظائف العباد مطلقا واقعا وظاهرا فكما ان في وظائفه الظاهرية نحكم بالاجزاء بواسطة أدلة الأصول وحكومتها على الأدلة فكذا في تكاليف مقلديه طابق النعل بالنعل أو لا؟ بان يقال: ان المقلد مستنده في الأحكام مطلقا هو رأي المجتهد وهو أمارة إلى تكاليفه بحسب ارتكازه العقلائي، والشرع أيضا أمضى هذا
الارتكاز والبناء العملي العقلائي وليس مستند المقلدين في العمل هو أصالة الطهارة أو الحلية ولا الاستصحاب أو حديث الرفع في الشبهات الحكمية التي هي مورد بحثنا هاهنا، لأن العامي لا يكون موردا لجريان الأصول الحكمية فان موضوعها الشك بعد الفحص واليأس عن الأدلة الاجتهادية والعامي لا يكون كذلك فلا يجري في حقه الأصول حتى تحرز مصداق المأمور به، ومجرد كون مستند المجتهد هو الأصول ومقتضاها الاجزاء لا يوجب الاجزاء بالنسبة إلى من لم يكن مستنده إياها فان المقلد ليس مستنده في العمل هي الأصول الحكمية بل مستنده الأمارة وهي رأي المجتهد إلى حكم الله تعالى فإذا تبدل رأيه فلا دليل على الاجزاء، اما دليل وجوب اتباع المجتهد فلأنه ليس الأبناء العقلاء الممضى كما يظهر للناظر في الأدلة وانما يعمل العقلاء على رأيه لا لقاء احتمال الخلاف، وإمضاء الشارع لذلك لا يوجب الاجزاء كما تقدم، واما أدلة الأصول فهي ليست مستنده ولا هو مورد جريانها لعدم كونها شاكا بعد الفحص واليأس عن الأدلة فلا وجه للاجزاء وهذا هو الأقوى.
فان قلت: إذا لم يكن المقلد موضوعا للأصل ولا يجري في حقه فلم يجوز للمجتهد ان يفتى مستندا إلى الأصل بالنسبة إلى مقلديه مع ان أدلة الأصول لا تجري الا للشاك بعد الفحص واليأس وهو المجتهد فقط لا المقلد ولو قيل ان المجتهد نائب عن مقلديه فمع انه لا محصل له لازمه الاجزاء.
قلت: قد ذكرنا سابقا ان المجتهد إذا كان عالما بثبوت الحكم الكلي المشترك بين العباد ثم شك في نسخه مثلا يصير شاكا في ثبوت هذا الحكم المشترك بينهم فيجوز له الإفتاء به كماله العمل به فكما ان الأمارة إذا قامت على حكم مشترك كلي يجوز له الإفتاء بمقتضاها كذلك إذا كان ذلك مقتضى الاستصحاب فله العمل به والفتوى بمقتضاه
164

فإذا أفتى يجب على المقلدين العمل على طبق فتواه لبناء العقلاء على رجوع الجاهل إلى العالم.
فتحصل من ذلك ان المجتهد له الإفتاء بمقتضى الأصول الحكمية ومقتضى القاعدة هو الاجزاء بالنسبة إليه دون مقلديه لاستناده إلى الأصول المقتضية للاجزاء واستنادهم إلى رأيه الغير المقتضى لذلك، وقد تمت مهمات مباحث الاجتهاد والتقليد وبقي بعض الأمور غير المهمة تركناها لذلك وقد وقع الفراغ من تسويده يوم الجمعة عيد الفطر سنة 1370 في محلات والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.
هل التخيير بدئي أو استمراري؟
فصل - بعد البناء على تخيير العامي في الرجوع إلى مجتهدين متساويين هل يجوز له العدول بعد تقليد أحدهما؟ اختار شيخنا العلامة التفصيل بين العدول في شخص واقعة بعد الأخذ والعمل فيه كما لو صلى بلا سورة بفتوى أحدهما فأراد تكرار الصلاة مع السورة بفتوى الآخر، وبين العدول في الوقائع المستقبلة التي لم تعمل، أو العدول قبل العمل بعد الالتزام والأخذ، فذهب إلى عدم الجواز مطلقا في الأول وعدم الجواز في الأخيرين ان قلنا بان التقليد هو الالتزام والأخذ، والجواز ان قلنا بأنه نفس العمل مستندا إلى الفتوى، ووجهه في الأول:
بأنه لا مجال له للعدول بعد العمل بالواجب المخير لعدم إمكان تكرار صرف الوجود وامتناع تحصيل الحاصل وليس كل زمان قيدا للأخذ بالفتوى حتى يقال ليس باعتبار الزمان المتأخر تحصيلا للحاصل، بل الأخذ بالمضمون امر واحد ممتد يكون الزمان ظرفا له بحسب الأدلة (نعم) يمكن إفادة التخيير في الأزمنة المتأخرة بدليل آخر يفيد التخيير في الاستدامة على العمل الموجود ورفع اليد عنه والأخذ بالآخر وليس فليس، وافادته بأدلة التخيير في احداث الأخذ بهذا أو ذاك ممتنع للزوم الجمع بين لحاظين متنافيين نظير الجمع بين الاستصحاب والقاعدة بدليل واحد ولا يجري الاستصحاب لأن التخيير بين الإحداثين غير ممكن الجر في الزمان الثاني وبالنحو الثاني لا حالة سابقة له والاستصحاب التعليقي لفتوى
165

الاخر غير جار لأن الحجية المبهمة السابقة صارت معينة في المأخوذ وزالت قطعا كالملكية المشاعة إذا صارت مفروزة ووجه الأخيرين بهذا البيان بعينه ان قلنا ان المأمور به في مثل قوله: «فارجعوا إلى رواة أحاديثنا» وغيره هو العمل الجوانحى أي الالتزام والبناء القلبي، وان قلنا بأنه العمل فلا إشكال في بقاء الأمر التخييري في كلا القسمين بلا محذور ومع فقد الإطلاق لا مانع من الاستصحاب (انتهى ملخصا من تقرير بحثه).
أقول: ما يمكن البحث عنه في الصورة الأولى هو جواز تكرار العمل بعد الإتيان به مطابقا لفتوى الأول، واما البحث عن بقاء التخيير وكذا جواز العدول بعنوانهما فأمر غير صحيح، ضرورة ان التخيير بين الإتيان بما أتى به والعمل بقول الآخر مما لا معنى له، وطرح العمل الأول وإعدامه غير معقول بعد الوجود حتى يتحقق ثانيا موضوع التخيير، وكذا لا يعقل العدول بحقيقته بعد العمل، فلا بد ان يكون البحث ممضى في جواز العمل بقول الثاني بعد العمل بقول الأول.
قد يقال بعدم الجواز لأن الإتيان بأحد شقي الواجب التخييري موجب لسقوط التكليف جزما فالإتيان بعده بداعوية الأمر الأول أو باحتمال داعويته أو بداعوية المحتمل غير معقول، ومع العلم بالسقوط لا معنى لإجراء الاستصحاب، لا استصحاب الواجب التخييري وهو واضح، ولا جواز العمل على طبق الثاني لفرض عدم احتمال امر آخر غير التخييري الساقط، وكان الظاهر من تقريرات بحث شيخنا ذلك.
وفيه ان ذلك ناش من الخلط بين التخيير في المسألة الفرعية والمسألة الأصولية فان ما ذكر وجيه في الأول دون الثاني، لأن الأمر التخييري في الثاني لا نفسية له بل لتحصيل الواقع بحسب الإمكان بعد عدم الإلزام بالاحتياط فمع الإتيان بأحد شقي التخيير فيه يبقى للعمل بالاخر مجال واسع وان لم يكن المكلف ملزما به تخفيفا عليه (نعم) لو قلنا بحرمة الاحتياط أو بالاجزاء في باب الطرق ولو مع عدم المطابقة لكان الوجه ما ذكر لكنهما خلاف التحقيق، وبهذا يظهر أن استصحاب جواز الإتيان بما لم يأت به لا مانع منه لو شك فيه (نعم) لا يجري الاستصحاب التعليقي لأن التعليق ليس بشرعي.
واما الصورتان الأخيرتان بناء على كون التقليد الالتزام والعقد القلبي فقياسهما
166

على الصورة الأولى مع الفارق، لإمكان إبطال الموضوع وإعدامه بالرجوع عن الالتزام وعقد القلب فصار (ح) موضوعا للأمر بإحداث الأخذ بأحدهما من غير ورود الإشكال المتقدم من لزوم الجمع بين اللحاظين عليه، وليس الكلام هاهنا في إطلاق الدليل وإهماله بل في إمكانه بعد الفراغ عن فرض الإطلاق.
ومما ذكرنا يظهر أن (ما أفاده) رحمه الله من ان الالتزام وعقد القلب امر وحداني ممتد إذا حصل في زمان لا يعقل حدوثه ثانيا (غير وجيه) لأن الالتزام بعد انعدام الالتزام الأول احداث لا إبقاء لامتناع إعادة المعدوم.
هذا مع قطع النظر عن حال الأدلة إثباتا والا فقد مر انه لا دليل لفظي في باب التقليد يمكن الاتكال عليه فضلا عن الإطلاق بالنسبة إلى حال التعارض بين فتويين، وانما قلنا بالتخيير للشهرة والإجماع المنقولين وهما معتبران في مثل تلك المسألة المخالفة للقواعد، والمتيقن منهما هو التخيير الابتدائي أي التخيير قبل الالتزام، والتحقيق عدم جريان استصحاب التخيير ولا الجواز لاختلاف التخيير الابتدائي والاستمراري موضوعا وجعلا فلا يجري استصحاب شخص الحكم وكذا استصحاب الكلي لفقدان الأركان في الأول ولكون الجامع امرا انتزاعيا لا حكما شرعيا ولا موضوعا ذا أثر شرعي، وترتيب أثر المصداق على استصحاب الجامع مثبت، ولا فرق في ذلك بين
استصحاب جامع التخييرين أو جامع الجوازين الآتيين من قبلهما.
حول اختلاف الحي والميت في مسألة البقاء
فصل - إذا قلد مجتهدا كان يقول بوجوب الرجوع إلى الحي فمات، فان غفل المقلد عن الواقعة ولوازمها ورجع عنه بتوهم جواز تقليده في الرجوع فلا كلام الا في صحة أعماله وعدمها وان تذكر بعدم جواز تقليده في ذلك فإنه أيضا تقليد الميت، أو تحير ورجع إلى الحي في هذه المسألة وهو كان قائلا بوجوب البقاء فمع تقليده من الحي فيها يجب عليه البقاء في سائر المسائل، واما في هذه المسألة الأصولية فلا يجوز له البقاء لأنه قلد فيها الحي ولا تحير له فيها حتى قلد الميت ولا يجوز للمفتي الحي الإفتاء بالبقاء فيها لكون
167

الميت على خطأ عنده فلا يشك حتى يجري الاستصحاب.
وكذا لا يجوز له إجراء الاستصحاب للمقلد لكونه غير شاك فيها لقيام الأمارة لديه وهي فتوى الحي بل لا يجري بالنسبة إليه ولو مع قطع النظر عن فتوى الحي لأن المجتهد في الشبهات الحكمية يكون مشخصا لمجاري الأصول، واما الأحكام أصولية أو فرعية فلا اختصاص لها بالمجتهد بل هي مشتركة بين العالم والجاهل (فحينئذ) لو رأى خطأ الميت وقيام الدليل على خلافه فلا محالة يرى عدم جريان الاستصحاب لاختلال أركانه وهو امر مشترك بينه وبين جميع المكلفين.
وبما ذكرناه يظهر مسألة أخرى وهي انه لو قلد مجتهدا في الفروع فمات فقلد مجتهدا يرى وجوب الرجوع فرجع إليه فمات فقلد مجتهدا يرى وجوب البقاء يجب عليه الرجوع إلى فتوى المجتهد الأول لقيام الأمارة الفعلية على بطلان فتوى الثاني بالرجوع فيرى ان رجوعه عن الميت الأول كان باطلا فالميزان على الحجة الفعلية وهي فتوى الحي، والقول بجواز البقاء على رأي الثاني برأي الثالث غير صحيح، لأن الثالث يرى بطلان رأي الثاني في المسألة الأصولية وعدم صحة رجوع المقلد عن تقليد الأول فقامت عند المقلد فعلا أمارة على بطلانه فلا معنى لبقائه فيها - هذا.
كلام لشيخنا العلامة وما فيه
واما شيخنا العلامة أعلى الله مقامه بعد ما نقل كلام شيخنا الأعظم قدس سره من كون المقام إشكالا وجوابا نظير ما قيل في شمول أدلة حجية خبر الثقة لخبر السيد بعدم حجيته، وأجاب عنه بمثل ما أجاب في ذلك المقام وبعد بيان الفرق بين المقامين بأنه لم يلزم في المقام التخصيص المستهجن واللغز والمعمى لعدم عموم صادر من المعصوم فيه قال ما ملخصه:
المحقق في المقام فتوى ان لا يمكن الأخذ بكليهما لأن المجتهد بعد ما نزل نفسه منزلة المقلد في كونه شاكا رأى هنا طائفتين من الأحكام ثابتتين للمقلد إحداهما فتوى الميت في الفروع وثانيتهما الفتوى في الأصول الناظر إلى الفتاوى في الفروع والمسقط
168

لها عن الحجية فيرى أركان الاستصحاب فيهما تامة، ثم قال: لا محيص عن الأخذ بالفتوى الأصولية فإنه لو أريد في الفرعية استصحاب الأحكام الواقعية فالشك في اللاحق موجود دون اليقين السابق، اما الوجداني فواضح، واما التعبدي فلارتفاعه بموت المفتي فصار كالشك الساري وان أريد استصحاب الحكم الظاهري الجائي من قبل دليل اتباع الميت فان أريد استصحابه مقيدا بفتوى الميت فالاستصحاب في الأصولية حاكم عليه لأن الشك في الفروعية مسبب عن الشك فيها وان أريد استصحاب ذات الحكم الظاهري وجعل كونه مقول قول الميت جهة تعليلية فاحتمال ثبوته اما بسبب سابق فقد سد بابه الاستصحاب الحاكم أو بسبب لا حق وهو مقطوع العدم إذ مفروض الكلام صورة مخالفة فتوى الميت للحي نعم يحتمل بقاء الحكم الواقعي لكن لا يكفي ذلك في الاستصحاب لأنه مع الحكم الظاهري في رتبتين وموضوعين فلا يكون أحدهما بقاء الاخر لكن يجري استصحاب الكلي بناء على جريانه في القسم الثالث، وان أريد استصحاب حجية فتاوى الفرعية فاستصحاب الحجية في الأصولية حاكم عليه لأن شكه مسبب عنه لأن عدم حجية تلك الفتاوى أثر لحجية هذه وليس الأصل مثبتا لأن هذا من الآثار الثابتة لذات الحجة الأعم من الظاهرية والواقعية.
ثم رجع عما تقدم واختار عدم جريان الاستصحاب في الأصولية فان مقتضى جريانه الأخذ بخلاف مدلوله ومثله غير مشمول لأدلة الاستصحاب فان مقتضى الأخذ باستصحاب هذا الفتوى سقوط فتاواه عن الحجية ومقتضى سقوطها الرجوع إلى الحي وهو يفتى بوجوب البقاء فالأخذ بالاستصحاب في الأصولية التي مفادها عدم الأخذ بفتاويه في الفرعيات لازمه الأخذ في الفرعيات بها وهذا باطل وان كان اللزوم لأجل الرجوع إلى الحي لا لكون مفاد الاستصحاب ذلك إذ لا فرق في الفساد بين الاحتمالين هذا مضافا إلى ان المسؤول عنه في الفرعيات المسألة الأصولية أعني من المرجع فيها فلا ينافي مخالفة الحي للميت في نفس الفروع مع إفتائه بالبقاء في المسألة الأصولية واما الفتوى الأصولية فنفسها مسؤول عنها ويكون الحي هو المرجع فيها وفي هذه المسألة لا معنى للاستصحاب بعد ان يرى الحي خطاء الميت فلا حالة سابقة حتى تستصحب (انتهى).
وفيه محال للنظر:
169

منها ان الاستصحاب في الأحكام الواقعية في المقام لا يجري ولو فرض وجود اليقين السابق، لعدم الشك في البقاء، فان الشك فيه اما ناش من احتمال النسخ أو احتمال فقدان شرط أو وجدان مانع والكل مفقود، بل الشك فيه ممضى في حجية الفتوى وجواز العمل بها وانما يتصور الشك في البقاء إذا قلنا بالسببية والتصويب.
ومنها ان حكومة الأصل في المسألة الأصولية عليه في الفرعية ممنوعة، لأن المجتهد إذا قام مقام المقلد كما هو مفروض الكلام يكون شكه في جواز العمل على فتاوى الميت في الأصول والفروع ناشئا من الشك في اعتبار الحياة في المفتي وجواز العمل في كل من الطائفتين مضاد للآخر ومقتضى جواز كل لا جواز الاخر (ولو قيل) ان مقتضى إرجاع الحي إياه إلى الميت سببية شكه في الأصولية (قلنا) هذا خلاف المفروض والا فلا يبقى مجال للشك له في هذه المسألة ففرض الشك فيما لم يقلد عن الحي فيها.
هذا مضافا إلى ان مطلق كون الشك مسببا عن الاخر لا يوجب التحكيم كما قررنا في محله مستقصى وملخصه: ان تقدم الأصل السببي ان الأصل في السبب منقح لموضوع دليل اجتهادي ينطبق عليه بعد التنقيح والدليل الاجتهادي بلسانه حاكم على الأصل المسببي فإذا شك في طهارة ثوب غسل بماء شك في كريته فاستصحاب الكرية ينقح موضوع الدليل الاجتهادي الدال على ان ما غسل بالكر يطهر وهو حاكم على الأصل المسببي بلسانه.
وان شئت قلت: انه لا مناقضة بين الأصل السببي والمسببي لأن موضوعهما مختلفان، والمناقض للأصل المسببي انما هو الدليل الاجتهادي بعد تنقيح موضوعه حيث دل بضم الوجدان وتطبيقه على الخارج ان هذا الثوب المغسول بهذا الماء طاهر والاستصحاب في المسببي مفاده ان هذا الثوب المشكوك في نجاسته وطهارته نجس ومعلوم ان لسان الأول حاكم على الثاني.
(وتوهم) انه مقتضى الأصل السببي هو ترتيب جميع آثار الكرية على الماء ومنها ترتيب آثار طهارة الثوب.
170

مدفوع أولا بان مفاد الاستصحاب ليس الا عدم نقض اليقين بالشك فإذا شك في كرية ماء كان كرا لا يكون مقتضى دليل الاستصحاب الا التعبد بكون الماء كرا، واما لزوم ترتيب الآثار فبدليل آخر هو الدليل الاجتهادي، والشاهد عليه مضافا إلى ظهور أدلته ان لسان أدلته في استصحاب الأحكام والموضوعات واحد فكما ان استصحاب الأحكام ليس الا البناء على تحققها لا ترتيب الآثار فكذلك استصحاب الموضوعات (نعم) لا بد في استصحابها من دليل اجتهادي ينقح موضوعه بالاستصحاب.
وثانيا بان لازم ذلك عدم تقدم السببي على المسببي فان قوله: «كلما شككت في بقاء الكر ابن علي طهارة الثوب المغسول به» لا يقدم على قوله: «إذا شككت في طهارة الثوب الكذائي ابن علي نجاسته» لا يقدم على قوله: «إذا شككت في طهارة الثوب الكذائي ابن علي نجاسته» ولا يراد باستصحاب نجاسة الثوب سلب الكرية حتى يقال: ان استصحاب النجاسة لا يسلبها الا بالأصل المثبت، بل يراد إبقاء النجاسة في الثوب فقط ولا يضر في مقام الحكم الظاهري التفكيك بين الآثار فيحكم ببقاء كرية الماء وبقاء نجاسة الثوب المغسول به.
إذا عرفت ذلك اتضح لك عدم تقدم الأصل في المسألة الأصولية على الفرعية لعدم دليل اجتهادي موجب للتحكيم، ومجرد كون مفاد المستصحب في الأصولية انه لا يجوز العمل بفتاوى عند الشك لا يوجب التقدم على ما كان مفاده: يجوز العمل بفتاوى الفرعية لدى الشك فان كلا منهما يدفع الاخر وينافيه.
ومما ذكرناه يظهر النظر في ما أفاده من حكومة استصحاب حجية الفتوى في المسألة الأصولية على استصحاب حجيتها في المسائل الفرعية فان البيان والإيراد فيهما واحد لدى التأمل هذا مضافا إلى ما تقدم من عدم جريان استصحاب الحجية لا العقلائية منها ولا الشرعية.
ومنها ان ما أفاده من تقديم الأصل في الفتوى الأصولية، ولو أريد استصحاب الحكم الظاهر بجهة تعليلية غير وجيه وان قلنا بتقديم الأصل السببي في الفرض المتقدم على الأصل المسببي، لأن نفي المعلول باستصحاب نفي العلة مثبت وان كانت العلة شرعية، فان ترتب المسبب على السبب عقلي ولو كان السبب شرعيا (نعم) لو ورد دليل على انه إذا وجد ذا وجد ذاك لا يكون الأصل مثبتا كقوله: إذا غلا العصير أو نش حرم، وهو في المقام مفقود.
171

ومنها ان بنائه على جريان استصحاب الكلي الجامع بين الحكم الظاهري والواقعي غير وجيه اما أولا فلما مر من عدم الشك في بقاء الحكم الواقعي وثانيا انه بعد فرض حكومة الأصل السببي على المسببي يسقط الحكم الظاهري وبسقوطه لا دليل فعلا على ثبوت الحكم الواقعي لسراية الشك إلى السابق كما مر منه قدس سره فلا يقين فعلا على الجامع بينهما، فاستصحاب الكلي انما يجري إذا علم بالجامع فعلا وشك في بقائه وهو غير نظير المقام الذي بانعدام أحد الفردين ينعدم الاخر من الأول أو ينعدم الدليل على ثبوته من الأول، هذا مع الغض عن الإشكال في استصحاب الجامع في الأحكام مما مر منا كرارا.
ومنها ان (إنكاره) جريان الاستصحاب في المسألة الأصولية معللا بأنه يلزم من جريانه الأخذ بخلاف مفاده ومثله غير مشمول لأدلته (غير وجيه) لأن مفاد الاستصحاب هو سقوط حجية الفتاوى الفرعية وهو غير اعتبار فتاواه ولا لازمه ذلك ولا الأخذ بفتوى الحي لإمكان العمل بالاحتياط بعد سقوطها عن الحجية، وبالجملة سقوط الفتاوى عن الحجية امر جاء من قبل الاستصحاب والرجوع إلى الحي امر آخر غير مربوط به وان كان لازم الرجوع إليه البقاء على قول الميت. والعجب انه قدس سره تنبه على هذا الإشكال ولم يأت بجواب مقنع.
ولو ادعى انصراف أدلة الاستصحاب من مثل المقام لكان انصرافها عن الأصل السببي وعن الأصلين المتعارضين أولى لأن إجراء الاستصحاب للسقوط أسوأ حالا من إجرائه في مورد كان المكلف ملزما بالاخذ بدليل آخر مقابل له في المفاد والحل في الكل:
انه فرق بين ورود دليل لخصوص مورد من تلك الموارد وبين ما شملها بإطلاقه والإشكال متجه فيها على الأول لا الثاني.
ومنها ان ما ذكره أخيرا في وجه عدم جريان الاستصحاب في المسألة الأصولية من ان المفتي الحي كان يرى خطأ الميت انما يصح لو كان المفتي أراد جريان الاستصحاب لنفسه وقد فرض في صدر المبحث انه نزل نفسه منزلة العامي في الشك في الواقعة، والتحقيق هو ما عرفت من عدم جريان الأصل لا بالنسبة إلى المفتي ولا بالنسبة إلى العامي في المسألة الأصولية.
172

رسالة
في التقية
173

بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.
وبعد فلما بلغ بحثنا في الدورة الفقهية إلى بعض فروع التقية أحببت ان أفرد فيها رسالة كافلة لمهمات مباحثها فيقع الكلام في مباحث:
حول أقسام التقية
المبحث الأول في اقسامها، ولما كانت التقية من العناوين التي تضاف إلى المتقى والمتقى منه والمتقى فيه فلا محالة تنقسم بحسب ذاتها وإضافاتها إلى أقسام:
منها التقسيم بحسب ذاتها، فتارة تكون التقية خوفا وأخرى تكون مداراة، والخوف قد يكون لأجل توقع الضرر على نفس المتقى أو عرضه، أو ماله أو ما يتعلق به، وقد يكون لأجل توقعه على غيره من أخواته المؤمنين وثالثة لأجل توقعه على حوزة الإسلام بان يخاف شتات كلمة المسلمين بتركها وخاف وقوع ضرر على حوزة الإسلام لأجل تفريق كلمتهم إلى غير ذلك.
والمراد بالتقية مداراة ان يكون المطلوب فيها نفس شمل الكلمة ووحدتها بتحبيب المخالفين وجر مودتهم من غير خوف ضرر كما في التقية خوفا وسيأتي التعرض لها، وأيضا قد تكون التقية مطلوبة لغيرها كما تقدم وقد تكون مطلوبة لذاتها وهي التي بمعنى الكتمان في مقابل الإذاعة على تأمل فيه.
وبالجملة يظهر من مجموع ما ورد فيها انها على أقسام (منها) كونها كسائر الاعذار والضرورات فرخصت للضرورة والاضطرار ويدخل فيها التقية الا كراهية التي لم نتعرض
174

لها هاهنا وفصلنا حولها في الرسالة المعمولة في المكاسب المحرمة (1) (ومنها) ما شرعت لأجل مداراة الناس وجلب محبتهم وجر مودتهم (ومنها) ما تكون مطلوبة بذاتها في دولة الباطل إلى ظهور دولة الحق وهي التي في مقابل الإذاعة ومساوقة للكتمان.
ومنها التقسيم بحسب المتقى، فقد يكون المتقى من الأشخاص المتعارف كالسوقي غيره وقد يكون من رؤساء المذهب ممن له شأن ديني أو غيره بين الناس على حسب مراتبهم كالنبي صلى الله عليه وآله بناء على جواز التقية له والأئمة عليهم السلام والفقهاء ورؤساء المذهب وسلاطين الشيعة والأمراء، وسنشير إلى إمكان اختلاف
حكم التقية بحسب المتقى.
ومنها التقسيم بحسب المتقى منه، فتارة تكون التقية من الكفار وغير المعتقدين بالإسلام سواء كانوا من قبيل السلاطين أو الرعية، وأخرى تكون من سلاطين العامة وأمرائهم «وثالثة» من فقهائهم وقضاتهم، «ورابعة» من عوامهم «وخامسة» من سلاطين الشيعة أو عوامهم إلى غير ذلك ثم ان التقية من الكفار وغيرهم قد تكون في إتيان عمل موافقا للعامة كما لو فرض ان السلطان ألزم المسلمين على العمل بفتوى أبي حنيفة وقد تكون في غيره.
ومنها التقسيم بحسب المتقى فيه، فتارة تكون التقية في فعل محرم، وأخرى في ترك واجب «وثالثة» في ترك شرط أو جزء أو فعل مانع أو قاطع «ورابعة» في العمل على طبق الموضوع الخارجي الذي اعتقد المتقى منه تحققه اما بسبب الثبوت عنده بحكم القضاة والسلاطين أو بسبب قيام البينة المعتبرة عنده ما لم تكن معتبرة عندنا كالإفطار في يوم تعيد المخالف فيه والوقوف بعرفات وساير المواقف موافقا للعامة «فحينئذ» قد يكون الموضوع الخارجي معلوم الخلاف عند المتقى كما لو علم ان يوم عيدهم من شهر رمضان، وقد يكون مشكوك التحقق كما لو كان يوم عيدهم يوم الشك عنده.
في عموم اخبار التقية وإطلاقها
ثم انه لا ريب في عموم اخبار التقية وإطلاقها كصحيحة الفضلاء قالوا: سمعنا أبا جعفر

(1) في التنبيه الأول من حرمة الولاية من قبل الجائر.
175

عليه السلام يقول: التقية في كل شيء يضطر إليه ابن آدم فقد أحله الله له (1) ورواية الأعجمي عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث انه قال: لا دين لمن لا تقية له. والتقية في كل شيء الا في النبيذ والمسح على الخفين (2) وغيرهما (3) بالنسبة إلى اشخاص المتقى وأقسام التقية الخوفية على إشكال في بعض الصور كالخوف على إخوانه المؤمنين فان صدق الاضطرار فيه محل إشكال بل منع، بل صدقه في غير الخوف على نفسه واتباعه وعشيرته القريبة به لا يخلو من تأمل لكن مقتضى بعض الروايات أنها أعم، لكن هنا كلام يطلب من الرسالة المشار إليها، والظاهر ان غالب تقية الأئمة عليهم السلام في الفتوى لأجل حفظ شيعتهم.

(1) الوسائل - كتاب الامر بالمعروف والنهى عن المنكر - الباب 25 - من أبواب الامر والنهى - الرواية 2 -
(2) راجع المصدر المذكور آنفا - الرواية 3 - ولا يخفى انها مجهولة بابي العمر الأعجمي.
(3) وعن مرسلة الصدوق في الهداية عن الصادق عليه السلام انه قال: لو قلت ان تارك التقية كتارك الصلاة لكنت صادقا، والتقية في كل شيء حتى يبلغ الدم «إلخ» - (المستدرك - ب 29 - أبواب الأمر والنهي) وعن علي بن أبي طالب عليه السلام انه قال التقية ديني ودين آبائي في كل شيء «إلخ» (المستدرك - ب 24 - أبواب الأمر والنهي ح - 4) وفي رواية عن أبي جعفر محمد بن علي عليهما السلام: كل شيء خاف المؤمن على نفسه فيه الضرر فله فيه التقية (المستدرك ب 8 كتاب الإيمان ح 6) وعن أبي جعفر عليه السلام انه قال في حديث: كلما خاف المؤمن على نفسه فيه ضرورة فله فيه التقية (الوسائل - ب 12 كتاب الإيمان) وفي عدة روايات: التقية في كل ضرورة (الوسائل ب 25 - أبواب الأمر والنهي ح 1 - 8 وكتاب الإيمان ب 12) وعن أبي جعفر عليه السلام انه قال في حديث: وما حرم الله حراما فأحله الا للمضطر «إلخ» (المستدرك ب 24 - أبواب الأمر والنهي ح - 5) وعن أبي عبد الله عليه السلام قال:
ليس شيء مما حرم الله الا وقد أحله لمن اضطر إليه (الوسائل - كتاب الإيمان ب 12) وفي عدة روايات: «لا دين لمن لا تقية له» وفي عدة أخرى: «لا إيمان لمن لا تقية له» (الوسائل - ب 24 - أبواب الأمر والنهى).
176

وكذا لا إشكال في شمولها بالنسبة إلى المتقى منه كافرا كان أو مسلما مخالفا أو غيرهما، وكون كثير من اخبارها ناظرا إلى المخالفين لا يوجب اختصاصها بهم لعدم اشعار فيها على كثرتها لذلك وان كان بعض اقسامها مختصا بهم كما سيأتي التعرض له لكن الظاهر من كثير منها التعميم في الجملة.
وهل تعم بالنسبة إلى المتقى فيه؟ الظاهر منها ومن أدلة نفي الحرج والرفع وان كان ذلك وتكون تلك الأدلة حاكمة على أدلة المحرمات والواجبات، لكن يقع الكلام في موارد يمكن ان يقال باستثنائها منها أو دل دليل عليه.
حول موارد استثنيت من الأدلة
منها بعض المحرمات والواجبات التي في نظر الشارع والمتشرعة في غاية الأهمية مثل هدم الكعبة والمشاهد المشرفة بنحو يمحو الأثر ولا يرجى عوده، ومثل الرد على الإسلام والقرآن والتفسير بما يفسد المذهب ويطابق الإلحاد وغيرها من عظائم المحرمات، فان القول بحكومة نفي الحرج أو الضرر وغيرهما على أدلتها بمجرد تحقق عنوان الحرج والاضطرار والإكراه والضرر والتقية بعيد عن مذاق الشرع غايته، فهل ترى من نفسك ان عرض على مسلم تخريب بيت الله الحرام وقبر رسول الله صلى الله عليه وآله أو الحبس شهرا أو شهرين أو أخذ مائة أو مائتين منه يجوز له ذلك تمسكا بدليل الحرج والضرر، والظاهر هو الرجوع في أمثال تلك العظائم إلى تزاحم المقتضيات من غير توجه إلى حكومة تلك الأدلة على أدلتها.
ويشهد له مضافا إلى وضوحه: موثقة مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث:
وتفسير ما يتقى مثل ان يكون قوم سوء ظاهر حكمهم وفعلهم على غير حكم الحق وفعله فكل شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية مما لا يؤدى إلى الفساد في الدين فإنه جائز (1) هذا مع ان في دليل الضرر كلاما تعرضنا له في رسالة لا ضرر وذكرنا انه أجنبي عن الحكومة على أدلة الأحكام.

(1) الوسائل - كتاب الامر بالمعروف والنهى عن المنكر - الباب 25 - من أبواب الامر والنهى - الرواية 6 -
177

ومن هذا الباب ما إذا كان المتقى ممن له شأن وأهمية في نظر الخلق بحيث يكون ارتكابه لبعض المحرمات تقية أو تركه لبعض الواجبات مما يعد موهنا للمذهب وهاتكا لحرمته كما لو أكره على شرب المسكر والزنا مثلا فان جواز التقية في مثله تشبثا بحكومة دليل الرفع وأدلة التقية مشكل بل ممنوع، ولعله عليه محمول قوله في صحيحة زرارة الآتية عدم اتقائه من شرب المسكر (إلخ).
وأولى من ذلك كله في عدم جواز التقية فيه ما لو كان أصل من أصول الإسلام أو المذهب أو ضروري من ضروريات الدين في معرض الزوال والهدم والتغيير كما لو أراد المنحرفون الطغاة تغيير أحكام الإرث والطلاق والصلاة والحج وغيرها من أصول الأحكام فضلا عن أصول الدين أو المذهب فان التقية في مثلها غير جائزة، ضرورة ان تشريعها لبقاء المذهب وحفظ الأصول وجمع شتات المسلمين لإقامة الدين وأصوله فإذا بلغ الأمر إلى هدمها فلا تجوز التقية وهو مع وضوحه يظهر من الموثقة المتقدمة.
ومنها المسح على الخفين ومتعة الحج وشرب المسكر والنبيذ والجهر ببسم الله فان مقتضى بعض الاخبار استثناؤها عن التقية كصحيحة زرارة قال: قلت له: في مسح الخفين تقية؟ فقال ثلاثة لا اتقى فيهن أحدا: شرب المسكر، ومسح الخفين، ومتعة الحج قال زرارة: ولم يقل الواجب عليكم ان لا تتقوا فيهن أحدا (1) ورواية أبي عمر الأعجمي عن أبي عبد الله في حديث: والتقية في كل شيء الا في النبيذ والمسح على الخفين (2) وغيرهما (3).

(1) و (2) راجع المصدر المذكور آنفا - الرواية 5 - 3 -
(3) وفي رواية سعيد بن يسار: ليس في ترك شرب النبيذ تقية (الوسائل ب 22 - من الأشربة المحرمة) وعن دعائم الإسلام عن جعفر بن محمد عليهما السلام قال: حدثني أبي عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب عليهم السلام انه قال: التقية ديني ودين آبائي في كل شيء الا في تحريم المسكر وخلع الخفين عند الوضوء والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم (المستدرك ب 24 - من أبواب الأمر والنهي -) وعن الخصال بإسناده عن علي عليه السلام في حديث الأربعمائة قال: ليس في شرب المسكر والمسح على الخفين تقية (الوسائل ب 38 - من الوضوء) وعن فقه الرضا
عليه السلام: لا تقية في شرب الخمر ولا المسح على الخفين (إلخ) وعن دعائم الإسلام قال جعفر بن محمد صلوات الله عليهما التقية ديني ودين آبائي الا في ثلث في شرب المسكر والمسح على الخفين وترك الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم - وعن الصدوق في المقنع: ولا تتق في شرب المسكر والخفين أحدا (المستدرك ب 33 من أبواب الوضوء)
178

وفي مقابلها بعض آخر كرواية أبي الورد قال: قلت لأبي جعفر: ان أبا ظبيان حدثني انه رأى عليا عليه السلام أراق الماء ثم مسح على الخفين، فقال: كذب أبو ظبيان اما بلغك قول علي عليه السلام فيكم سبق الكتاب الخفين، فقلت: هل فيهما رخصة؟ فقال: لا الا من عدو تتقيه أو ثلج تخاف على رجليك (1) ورواية درست بن أبي منصور قال: كنت عند أبي الحسن موسى عليه السلام وعنده الكميت بن زيد فقال للكميت: أنت الذي تقول: فالآن صرت إلى أمية فالأمور لها مصائر، قال: قلت: ذاك والله ما رجعت عن إيماني وانى لكم لموال ولعدوكم لقال ولكني قلته على التقية. قال: اما لأن قلت ذلك ان التقية تجوز في شرب الخمر (2) ورواية عمرو بن مروان التي كالصحيحة قال: قلت لأبي عبد الله: ان هؤلاء ربما حضرت معهم العشاء فيجيئون بالنبيذ بعد ذلك فان لم أشربه خفت ان يقولوا فلاني فكيف اصنع؟ فقال:
اكسره بالماء قلت: فان انا كسرته بالماء أشربه؟ قال: لا (3) وغيرها.
والظاهر تعين العمل بها لعمل المشهور، بل إعراضهم عما تقدمت فلا تصلح للحجية، بل ضرورة العقل تحكم بان ترك الصلاة أهم من المسح على الخفين وترك الحج عن ترك متعته مع انهما داخلان في المستثنى منه، مع انا نقطع بان الشارع لا يرضى بضرب الأعناق إذا دار الأمر بينه وبين المسح على الخفين بل وشرب الخمر والنبيذ وترك متعة الحج.

(1) الوسائل - كتاب الطهارة - الباب 38 - من أبواب الوضوء -
(2) الوسائل - كتاب الامر بالمعروف والنهى عن المنكر - الباب 25 - من أبواب الامر والنهى - الرواية 7 -
(1) الوسائل - كتاب الأطعمة والأشربة - الباب 22 - من أبواب الأشربة المحرمة - الرواية 4 -
179

فلا بد من طرح تلك الروايات أو الحمل على بعض المحامل كان يقال في مثلها لا حاجة إلى التقية، اما في المسح على الخفين فلا مكان مسح القدم بقدر الواجب بعنوان الغسل بان يسبق يده إلى قدميه ويمسحهما عند غسلهما، ويمكن ان يقال: ان الغسل مقدم على المسح على الخفين فلا يجوز المسح عند الدوران بينه وبين الغسل، واما في متعة الحج فلأنهم يأتون بالطواف والسعي الاستحبابي عند القدوم على المحكي فيمكن الإتيان بهما بعنوان متعة الحج فالنية امر قلبي وإخفاء التقصير في غاية السهولة، واما شرب الخمر والنبيذ فيمكن التخلص عنه بأعذار غير الحرمة ولهذا ورد في الرواية المتقدمة جواز شربه وكسره بالماء عند عدم إمكان التخلص.
وربما يقال: ان ترك التقية فيها مختص بالإمام عليه السلام كما فهم زرارة، اما لأنهم كسائر فقهائهم في الفتوى وسلاطين الوقت لا يأبون عن فتواهم، بل عن الاجتماع حولهم خوفا من مزاحمتهم في رئاساتهم ولهذا كانوا يستفتون منهم في قبال ساير الفقهاء واما لمعروفية فتواهم فيها بحيث لا تنفع فيها التقية كما لا يبعد، أو لغير ذلك من المحامل كالحمل على عدم جواز التقية المداراتية لا الخوفية، والأمر سهل.
ومنها الدماء، فلا شبهة في عدم التقية فيها نصا وفتوى (1) ففي صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر قال انما جعل التقية ليحقن بها الدم فإذا بلغ الدم فليس تقية (2) ومثلها موثقة أبي حمزة الثمالي (3) وقد فصلنا في المكاسب المحرمة عند البحث عن الولاية

(1) فعن ابن إدريس نفي الخلاف بين الأصحاب في نفي التقية في قتل النفوس، وكذا العلامة في كتاب المنتهى في باب الأمر بالمعروف، وفي الرياض: الإجماع على استثناء إنفاذ امر الجائر في قتل المسلم وكذا ادعاه الأردبيلي في شرح الإرشاد في مبحث الأمر بالمعروف والولاية من قبل العادل أو الجائر، وبقسميه في الجواهر، وادعاه في المستند، وهو ظاهر شيخنا الأنصاري، وهو منقول عن جماعة.
(2) الوسائل - كتاب الامر بالمعروف والنهى عن المنكر - الباب 31 - من أبواب الامر والنهى - الرواية 1 -
(3) وإليك متنها: قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: لم تبق الأرض الا وفيها منا عالم يعرف الحق من الباطل، وقال: انما جعلت التقية ليحقن بها الدم، فإذا بلغت التقية الدم
فلا تقية «إلخ» (راجع المصدر المذكور آنفا الرواية - 2) وعن الصدوق في الهداية عن الصادق عليه السلام انه قال: لو قلت ان تارك التقية كتارك الصلاة لكنت صادقا، والتقية في كل شيء حتى يبلغ الدم فإذا بلغ الدم فلا تقية (المستدرك ب 29 - من أبواب الأمر والنهي)
180

من قبل الجائر ما يناسب المقام وما يرجع إلى فقه الحديث فراجع.
ومنها البراءة عن أمير المؤمنين وساير الأئمة عليهم السلام والاخبار فيها مختلفة:
فمنها - ما يظهر منه عدم الجواز كرواية محمد بن ميمون عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال: قال أمير المؤمنين: ستدعون إلى سبي فسبوني، وتدعون إلى البراءة مني فمدوا الرقاب فانى على الفطرة (1) ورواية علي بن علي الخزاعي عن علي بن موسى عن أبيه عن آبائه عن علي بن أبي طالب انه قال: إنكم ستعرضون على سبي، فان خفتم على أنفسكم فسبوني، الا وإنكم ستعرضون على البراءة مني فلا تفعلوا فانى على الفطرة (2) وقريب منها ما عن نهج البلاغة (3) وما عن الكشي في حال حجر بن عدى (4) وعن المفيد في الإرشاد قال استفاض عن أمير المؤمنين انه قال ستعرضون من بعدي على سبي فسبوني فمن عرض عليه البراءة مني فليمدد عنقه

(1) الوسائل - كتاب الامر بالمعروف والنهى عن المنكر - الباب 29 - من أبواب الامر والنهى - الرواية 8 -
(2) راجع المصدر المذكور آنفا - الرواية 9 -
(3) وإليك متنها: عن أمير المؤمنين عليه السلام انه قال: أما انه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم، مندحق البطن، يأكل ما يجد ويطلب ما لا يجد، فاقتلوه ولن تقتلوه، الا وانه سيأمركم بسبي والبراءة مني: فاما السب فسبوني فإنه لي زكاة، ولكم نجاة، واما البراءة مني فلا تبرؤا «تتبرؤا» مني فانى ولدت على الفطرة، وسبقت إلى الإيمان والهجرة.
راجع المصدر المذكور آنفا - الرواية 10 -
(4) عنه عن يعقوب عن ابن عيينة قال: حدثنا طاوس عن أبيه قال: أنبأنا حجر بن عدى قال: قال لي علي عليه السلام: كيف تصنع أنت إذا ضربت وأمرت بلعني؟ قال: قلت له:
كيف اصنع؟ قال: العني ولا تبرأ مني فانى على دين الله (إلخ) أورده المحقق المامقاني في ترجمة حجر بن عدى فراجع.
181

فان برء مني فلا دنيا له ولا آخرة (1).
ومنها - ما يظهر منه الترخيص فيها وفي مد الرقاب، فعن العياشي عن أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث انه قيل له: مد الرقاب أحب إليك أم البراءة عن علي عليه السلام فقال: الرخصة أحب إلى، اما سمعت قول الله عز وجل في عمار: الا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان؟ (2) وقريب منها روايته الأخرى عن عبد الله بن عجلان عن أبي عبد الله (3)

(1) راجع المصدر المذكور آنفا - الرواية 21 - وروى الصدوق في عيون الاخبار ص 223. بإسناده عن محمد بن عمر الجعابي، عن الحسن بن عبد الله بن محمد بن العباس الرازي التميمي، عن الرضا عليه السلام عن آبائه عليهم السلام عن علي عليه السلام قال: إنكم ستعرضون على البراءة مني فلا تبرؤا مني فانى على دين محمد صلى الله عليه وآله وعن الشيخ المفيد في الاختصاص بسند متصل إلى أبي حسان العجلي عن «قنوا» بنت رشيد الهجري قال: قلت لها: أخبريني بما سمعت من أبيك، قالت: سمعت أبي يقول: حدثني أمير المؤمنين عليه السلام يا رشيد كيف صبرك إذا أرسل إليك دعى بنى أمية فقطع يديك ورجليك ولسانك؟ فقلت: يا أمير المؤمنين آخر ذلك الجنة؟ قال: بلى يا رشيد أنت معي في الدنيا والآخرة، فو الله ما ذهبت الأيام حتى أرسل إليه الدعي عبيد الله بن زياد فدعاء إلى البراءة من أمير المؤمنين عليه السلام فأبى ان يبرأ منه فقال له الدعاء: فبأي ميتة قال لك تموت؟ قال: أخبرني خليلي انك تدعو إلى البراءة منه فلا أبرأ منه فتقدمني فتقطع يدي ورجلي ولساني (إلخ) - راجع المستدرك - كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - الباب 28 - من أبواب الأمر والنهي - الرواية 10.
(1) الوسائل - كتاب الامر بالمعروف والنهى عن المنكر - الباب 29 - من أبواب الامر والنهى - الرواية 12 -
(3) قال: سألته فقلت له: ان الضحاك قد ظهر بالكوفة ويوشك ان ندعى إلى البراءة من علي عليه السلام فكيف نصنع؟ قال: فابرأ منه، قلت: أيهما أحب إليك؟ قال: ان تمضوا على ما مضى عليه عمار بن ياسر، أخذ بمكة فقالوا له: أبرأ من رسول الله صلى الله عليه وآله فبرئ منه فأنزل الله عز وجل عذره: الا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان (راجع المصدر المذكور آنفا - الرواية 13).
182

ويظهر ذلك من رواية يوسف بن عمران في قضية ميثم بن يحيى التمار (1).
ومنها - ما يدل على وجوب البراءة كموثقة مسعدة بن صدقة قال: قيل لأبي عبد الله عليه السلام: ان الناس يروون ان عليا عليه السلام قال علي منبر الكوفة: أيها الناس إنكم ستدعون إلى سبي فسبوني ثم تدعون إلى البراءة مني فلا تبرؤا مني؟ فقال: ما أكثر ما يكذب الناس على علي عليه السلام ثم قال انما قال: إنكم ستدعون إلى سبي فسبوني ثم تدعون إلى البراءة مني وانى لعلى دين محمد صلى الله عليه وآله، ولم يقل: ولا تبرؤا مني فقال له السائل: أرأيت ان اختار القتل دون البراءة؟ فقال: والله ما ذلك عليه وماله الا ما مضى عليه عمار بن ياسر حيث أكرهه أهل مكة (الحديث) (2) ورواية الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليه السلام وفيها: وقد أذنت لكم في تفضيل أعدائنا ان ألجأك الخوف إليه وفي إظهار البراءة ان حملك الوجل عليه (إلى ان قال): وان إظهارك براءتك منا عند تقيتك لا يقدح فينا ولا ينقصنا (إلى ان قال): وإياك ثم إياك ان تترك التقية التي أمرتك بها (إلى ان قال): فإنك ان خالفت وصيتي كان ضررك على إخوانك ونفسك أشد من ضرر الناصب لنا الكافر بنا (3) وما روى المحدث المجلسي عن صاحب كتاب الغارات عن الباقر والصادق عليهما السلام (4).

(1) وإليك متنها: قال: سمعت ميثم النهر وانى يقول: دعاني أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وقال: كيف أنت يا ميثم إذا دعاك دعى بنى أمية عبيد الله بن زياد إلى البراءة مني؟ فقلت: يا أمير المؤمنين انا والله لا أبرأ منك، قال: إذا والله يقتلك ويصلبك، قلت: اصبر، فذاك في الله قليل، فقال: يا ميثم إذا تكون معي في درجتي (إلخ) راجع المصدر المذكور آنفا - الرواية 7 -
(2) راجع المصدر المذكور آنفا - الرواية 2 -
(3) الوسائل - كتاب الامر بالمعروف والنهى عن المنكر - الباب 29 - من أبواب الامر والنهى - الرواية 11 -
(4) اما الأولى فعن الباقر عليه السلام قال: خطب علي عليه السلام على منبر الكوفة فقال: «سيعرض عليكم سبي وستذبحون عليه فان عرض عليكم سبي فسبوني وان عرض عليكم البراءة مني فانى على دين محمد صلى الله عليه وآله ولم يقل فلا تبرؤا مني».
واما الثانية فعن الصادق عليه السلام قال: قال علي عليه السلام: «لتذبحن على سبي و
أشار بيده إلى حلقه ثم قال: فان أمروكم بسبي فسبوني وان أمروكم ان تبرؤا مني فانى على دين محمد صلى الله عليه وآله ولم ينههم عن إظهار البراءة» (راجع المستدرك - كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - الباب 28 - من أبواب الأمر والنهي - الرواية 4 - 5)
183

ولا يخفى ان رفع اليد عن تلك الروايات المشتملة على تكذيب ما نسب إلى علي عليه السلام وعن اخبار التقية وعن قوله تعالى: «لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة» وحكم العقل بلزوم حفظ النفس واهتمام الشارع به لا يمكن بمثل تلك الروايات التي لا تفيد علما ولا عملا ولم نجد فيها ما يسلم سندا، ودعوى المفيد لا تفيد لنا علما فانا لم نعثر على رواية واحدة بمضمون ما ذكره (نعم) بعض مضمونه موافق للروايات الضعاف المتقدمة المقابلة للروايات التي بعضها أسد منها سندا.
مضافا إلى استشمام رائحة الكذب والاختلاق منها، ضرورة ان السب والشتم واللعن أشد من التلفظ بالبراءة مما لا يقدح فيهم ولا ينقصهم، ومن المقطوع عدم رضى الشارع بمد الأعناق في مقابله كما في رواية الاحتجاج، واما قضية ميثم وان كانت معروفة ولا يبعد ثبوتها إجمالا ولكنها قضية في واقعة ولعله كان عالما بان الدعي عبيد الله بن زياد يقتله، برء من علي عليه السلام أولا، وكانت براءته منه غير مفيدة بحاله بل مضرة وموجبة لفضاحته مضافا إلى قتله فلا يجوز معه البراءة ولا السب ولا غيرهما.
حول أقسام التقية المستفادة من الاخبار
المبحث الثاني قد تقدم ان التقية على ما يظهر من الاخبار على أقسام:
منها ما يستعمل لأجل الخوف على النفس والعرض والمال، فهذه ليست واجبة لنفسها بل الواجب حفظ النفس عن الوقوع في الهلكة وتكون التقية مقدمة له (نعم) يظهر من بعض الروايات ان الله رخص التقية في كل اضطرار أو ضرورة عرفية (1) بل الظاهر

(1) وفي صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «التقية في كل ضرورة، وصاحبها اعلم بها حين تنزل به» ومثلها ما عن أبي عبد الله عليه السلام (راجع الوسائل - ب 25 - من أبواب الأمر والنهي وكتاب الإيمان ب 12) وقد تقدم نقل بعض الروايات الدالة على ان الله رخص التقية في كل اضطرار فراجع.
184

أوسعية دائرتها منه أيضا فتجوز لحفظ مال غيره من إخوانه المؤمنين، بل الظاهر كما يظهر من بعض الروايات وجوبها لأجل حفظ النفوس والأموال والاعراض (1) وان كانت استفادة الوجوب النفسي في هذا القسم من التقية محل تأمل.
ومنها ما تكون واجبة لنفسها وهي ما تكون مقابلة للإذاعة فتكون بمعنى التحفظ عن إفشاء المذهب وعن إفشاء سر أهل البيت، فيظهر من كثير من الروايات ان التقية التي بالغ الأئمة عليهم السلام في شأنها هي هذه التقية فنفس إخفاء الحق في دولة الباطل واجبة وتكون المصلحة فيه جهات سياسية دينية ولو لا التقية لصار المذهب في معرض الزوال والانقراض.
ويدل على هذا القسم ما ورد في تفسير قوله تعالى: «ويدرؤن بالحسنة السيئة» قال الصادق عليه السلام في صحيحة هشام بن سالم الحسنة التقية والسيئة الإذاعة (2) وفي تفسير قوله تعالى: ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، عن أبي عبد الله قال: الحسنة التقية والسيئة الإذاعة (3) فمقتضى مقابلتها للإذاعة انها هي الاستتار
والكتمان.
ويؤكده ما دلت على تقابل الكتمان والإذاعة كرواية سليمان بن خالد قال: قال أبو عبد الله: يا سليمان إنكم على دين من كتمه أعزه الله، ومن أذاعه أذله الله (4) إلى غير ذلك من الروايات التي يظهر منها ان التقية هي الكتمان والإسرار والخباء (5)

(1) الوسائل - كتاب الامر بالمعروف والنهى عن المنكر - الباب 24 - من أبواب الامر والنهى - الرواية 21 - والباب 28 - الرواية 133 والباب 29 - وكتاب الايمان الباب 12 - والمستدرك الباب 8.
(2) الوسائل - كتاب الامر بالمعروف والنهى عن المنكر - الباب 24 - من أبواب الامر والنهى - الرواية 1 -
(3) راجع المصدر المذكور آنفا - الرواية 9 -
(4) الوسائل - كتاب الامر بالمعروف والنهى عن المنكر - الباب 32 - من أبواب الامر والنهى - الرواية 1 -
(5) راجع الوسائل - كتاب الامر بالمعروف والنهى عن المنكر - الباب 24 - من أبواب الامر والنهى - الرواية 14 - 23 - والباب 26 - الرواية 2 - والباب 32 والمستدرك الباب 23 و 30 -
185

ثم انه من المحتمل ان يكون الواجب علينا التقية والكتمان وتكون الإذاعة منهيا عنها للغير، وان تكون الإذاعة محرمة وتعلق الأمر بالتقية لأجل عدم الإذاعة، وان يكون كل من العنوانين متعلقا للتكليف برأسه، والجمود على الظواهر يقتضى الأخير وان كان بعيدا.
في ان ترك التقية هل يفسد العمل أم لا؟
وكيف كان لو ترك التقية وأتى بالعمل على خلافها فمقتضى القواعد صحته، سواء قلنا بأنها واجبة أو الإذاعة محرمة أو هي محرمة وتلك واجبة، وذلك لأن الأمر بالتقية لا يوجب النبي عن العمل وكذا النهي عن الإذاعة لا يوجب سرايته إلى عنوان العمل لما حقق في محله من ان الأمر بالشيء لا يقتضى عن ضده والنهي عن عنوان لا يمكن سرايته إلى عنوان آخر، وحديث ان المبعد لا يمكن ان يصير مقربا قد فرغنا عن تهجينه في الأصول.
لكن الشيخ الأعظم فصل بين الموارد بعد الاعتراف بان نفس ترك التقية لا توجب الا استحقاق العقاب، ففي مثل السجدة على التربة الحسينية مع اقتضاء التقية تركه حكم بالبطلان لكونه منهيا عنه وموجبا لفساد الصلاة، وفي مثل ترك التكفير وغسل الرجلين في الوضوء حكم بالصحة لعدم اعتباره في المأمور به بل يكون كواجب خارجي ثم قال: ان قلت: إذا كان إيجاب الشيء تقية لا يجعله معتبرا في الصلاة لزم الحكم بصحة وضوء من ترك المسح على الخفين لأن المفروض ان الأمر بالمسح لا يجعله جزءا قلت: ليس الحكم بالبطلان من جهة ترك ما وجب بالتقية بل لأن المسح على الخفين متضمن لأصل المسح الواجب مع إلقاء قيد مماسة الماسح للممسوح فالتقية انما أوجبت إلقاء قيد المباشرة. واما صورة المسح ولو مع الحائل فواجبة واقعا لا من حيث التقية فالإخلال بها يوجب بطلان الوضوء بنقص جزء منه، ثم استشهد على هذا التحليل برواية عبد الأعلى آل سام.
وأنت خبير بما فيه اما أولا فلما عرفت ان الأمر بالتقية لا يقتضى النهي عن الأفعال الصادرة على خلافها، سواء في ذلك ما إذا وجبت التقية بعنوانها أي التحفظ عن
186

إفشاء المذهب وكتمان الحق لأن هذا العنوان ضد الأفعال الموجبة للإفشاء والإذاعة والأمر بالشيء لا يقتضى النهي عن ضده. أو كان الواجب هو التحفظ عن ضرر الغير ووجبت التقية مقدمة له عقلا أو شرعا بناء على وجوبها كذلك، اما بناء على الوجوب العقلي فواضح واما بناء على الوجوب الشرعي فلان وجوب الفعل الموافق للتقية لا يقتضى حرمة مقابلاته مع ان الحرمة الغيرية لا توجب الفساد.
هذا مضافا إلى منع وجوب المقدمة كما حقق في محله، ولو قلنا بحرمة الإذاعة فلا توجب حرمتها بطلان العمل المنطبق عليه عنوانها بناء على جواز اجتماع الأمر والنهي كما هو التحقيق واما ثانيا فلان ما وجه البطلان به من ترك المأمور به الواقعي بدعوى تحليل المسح إلى أصل الإمرار ولو على الحائل مما لا يساعد عليه العرف، ضرورة ان المسح على الرجل والرأس لا ينحل إلى المسح ولو على غيرهما فالمسح على الخف أجنبي عن المأمور به كما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: فلئن امسح على ظهر حماري أحب إلى من ان امسح على الخفين (1) ولو بنينا على هذا النحو من التحليل ليتسع الخرق على الراقع لإمكان ان يقال: ان المسح ينحل إلى أصل الإمرار ولو بغير اليد وعلى غير الرجل فإذا تعذر المسح باليد وعلى الرجل يجب مسح شيء بشيء آخر وهو كما ترى.
واما رواية عبد الأعلى فلم يظهر منها ان المسح على المرارة يعلم من كتاب الله بل يحتمل ان يكون المراد انه يفهم من كتاب الله رفع المسح على الرجل لا الإمرار على المرارة، أو انه عليه السلام يعرف هذا الحكم من كتاب الله لا ساير الناس، ضرورة ان العرف لا يعرف من كتاب الله ذلك، فوجه بطلان الوضوء مع ترك المسح على الخفين ليس لما أفاده رحمه الله بل لأجل ترك الفرد الاضطراري والاختياري وانما قام الاضطراري مقام الاختياري في الاجزاء، ومع ترك البدل والمبدل منه لا وجه لصحته.

(1) المستدرك كتاب الطهارة - الباب 33 - من أبواب احكام الوضوء الرواية 5 - 13.
187

في الأدلة على ان إتيان المأمور به على وجه التقية
يوجب الاجزاء
المبحث الثالث في ذكر ما دل على ان إتيان المأمور به على وجه التقية يوجب الاجزاء ولا تجب بعد رفعها الإعادة والقضاء وهي كثيرة وعلى طوائف:
منها ما دلت على الاجزاء في التقية الاضطرارية من أي سبب حصل الاضطرار.
ومنها ما دلت عليه فيما يقتضى عنوان التقية إتيان المأمور به على خلاف الحق.
ومنها ما دلت عليه في التقية المداراتية.
وليعلم ان محط البحث في الاجزاء ما إذا أتى المكلف بمصداق المأمور به بكيفية خاصة تقتضي التقية كترك جزء أو شرط أو إيجاد مانع كما لو اقتضت إتيان الصلاة بلا سورة أو مع نجاسة الثوب أو إتيان الصوم إلى سقوط الشمس أو وقوف العرفة يوم التروية والمشعر ليلة العرفة لا ما إذا اقتضت ترك المأمور به رأسا كترك الصوم في يوم تعيد الناس وترك الصلاة والحج، فان الاجزاء في مثله مما لا معنى له ولا يكون ذلك محط البحث ففرق بين إتيان الصوم إلى سقوط الشمس تقية وترك الصوم رأسا لأجل ثبوت الهلال عندهم ولزوم التقية في تركه، ففي الأول يقع البحث في اجزائه دون الثاني، فما في بعض الكلمات من التسوية بينهما في غير محله و (ح) تكون ما وردت في إفطار يوم شهر رمضان وقضائه غير مخالفة لما سيأتي من الاجزاء.
حول الأدلة الدالة على الاجزاء في التقية الاضطرارية
إذا عرفت ذلك، فمن الطائفة الأولى أي ما كان العنوان هو الضرورة والاضطرار حديث الرفع، وقد تعرضنا لفقه الحديث وحدود دلالته ودفع بعض الإشكالات عنه في محله نشير إلى لمحة منها، فمن ذلك انه لا إشكال في ان اسناد الرفع إلى المذكورات في الحديث يحتاج إلى ادعاء والمصحح للدعوى اما رفع جميع الآثار بمعنى ان الموضوع الذي لم يكن له أثر في عالم التشريع مطلقا يصح ان يدعى انه مرفوع فيقال: رفع ما لا يطيقون وما اضطروا إليه، واما رفع المؤاخذة فيدعى ان ما لا مؤاخذة عليه فمرفوع
188

وليس بمحقق فلا بد (ح) من دعوى ان ساير الآثار غير المؤاخذة ليس بشيء، أو ان المؤاخذة تمام الآثار حتى تصح دعوى انه برفعها رفع الموضوع فلا محيص عن دعويين:
دعوى عدم شيئية ساير الآثار أو كون المؤاخذة جميعها، والا فمع تحقق سائرها والنظر إليها لا تصح دعوى رفع الموضوع ودعوى ان ما لا أثر له مرفوع ذاتا، بخلاف رفع جميع الآثار فإنه معه لا يحتاج الا إلى ادعاء واحد فالحمل على جميع الآثار أسلم وأظهر.
واما احتمال ان يكون في كل من العناوين أثر خاص به هو أظهر آثاره فبعيد عن الصواب، لعدم مساعدة العرف
وعدم أثر خاص لكل منها هو أظهر الآثار فلا محيص عن الحمل على جميعها كما ان العرف أيضا يساعده، واستشهاد الإمام عليه السلام به في صحيحة صفوان والبزنطي (1) أقوى شاهد على عدم الاختصاص بالمؤاخذة.
ومنه انه قد يقال: ان حديث الرفع يختص بالوجوديات مثل التكتف وقول «آمين» دون العدميات فلا يشمل مثل ترك القراءة فان شأن الرفع تنزيل الموجود منزلة المعدوم لا العكس فإنه يكون وضعا لا رفعا فلا يجعل عدم القراءة منزلة وجودها حتى يقال ان الصلاة تامة لأجل اشتمالها على القراءة.
وفيه ان الرفع متوجه إلى العناوين المأخوذة فيه أي ما لا يطيقون وما استكرهوا عليه (إلخ) وهذه العناوين لها نحو ثبوت قابل للرفع، فالموصول فيها وان كان إشارة إلى ما ينطبق عليه العناوين وهي قد تكون عدمية لكن الرفع غير متوجه إلى العدم بل إلى عنوان ما اضطروا إليه وهو قابل للرفع عرفا والرفع لما كان بلحاظ الآثار وترك السورة موجب للبطلان فهو مرفوع بلحاظه ولا يحتاج إلى إثبات تحقق السورة في صحة الصلاة مع ان استلزام رفع الترك لوضع الوجود عرفا على فرضه غير متضح الفساد وبالجملة ولا قصور للحديث عن شمول كل ما يضطر إليه بل لا ينقدح في ذهن العرف من قوله رفع ما اضطروا إليه وغيره غير تلك العناوين من غير انتسابها إلى الوجوديات والعدميات.

(1) وإليك متنها: عن أبي الحسن عليه السلام في الرجل يستكره على اليمين فيحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك، أيلزمه ذلك؟ فقال: لا، قال رسول الله صلى الله عليه وآله «وضع عن أمتي ما أكرهوا عليه وما لم يطيقوا وما أخطئوا» الوسائل - كتاب الإيمان - الباب 12 -
189

فاتضح مما ذكر أن ما يضطر إليه المكلف من إتيان المانع وترك الشرط أو الجزء مرفوع بلحاظ جميع الآثار، وبعضها وان كان عقليا الا ان شمول الحديث له لا مانع منه بعد كون منشأه بيد الشارع إثباتا ونفيا كما ان الأمر كذلك في مثل قاعدة التجاوز.
لكن التحقيق التفصيل بين الاضطرار إلى إيجاد المانع فيرفع المانعية بلسان رفع المانع ونحكم بصحة المأتي به، وبين الاضطرار إلى ترك الجزء والشرط، لأن الاضطرار إليه لا إليهما، فلا يمكن رفع الجزئية والشرطية بالحديث، ولا أثر لتركهما شرعا لأن وجوب الإعادة عقلي لا شرعي، وبقاء امر الشارع ليس أثرا لترك الجزء أو الشرط بل لازم عقلي لعدم الإطاعة أو موجب آخر للسقوط فالترك المضطر إليه لا أثر شرعي له حتى يرفع بلحاظه، والقياس بقاعدة التجاوز في غير محله لاختلاف لسانهما ومفادهما.
ومنها صحيحة الفضلاء قالوا: سمعنا أبا جعفر عليه السلام يقول ان التقية في كل شيء يضطر إليه ابن آدم فقد أحله الله (1) ولا تكون الحلية قرينة على تخصيص كل شيء بالتكليفيات، ضرورة ان الحلية أعم من التكليفية والوضعية، الا ترى ان قوله تعالى:
«أحل الله البيع» ظاهر في الوضع، ومورد تمسكهم خلفا عن سلف لنفوذ البيع ومضيه من غير شبهة تأول وتجوز، فالحلال ليس في العرف واللغة والكتاب والحديث مختصا بالتكليف فالمحرم والمحلل عبارة عن الممنوع والمرخص فيه، فشرب الخمر لدى الاضطرار حلال مرخص فيه غير ممنوع والتكتف في الصلاة وترك السورة، ولبس الحرير فيها والإفطار عند سقوط الشمس، والوقوف بعرفات والمشعر قبل وقته كل ذلك إذا اضطر إليه ابن آدم أحله الله وأمضاه، والصلاة بالكيفية الكذائية والصوم والحج كذلك مرخص فيها وممضاة من قبل الله تعالى.
والحاصل انه يستفاد من الصحيحة رفع المنع تكليفا ووضعا عن كل شيء يضطر إليه ابن آدم، ونحن الآن لسنا بصدد بيان موضوع الاضطرار بل بصدد حكمه لدى تحققه ولا ريب في استفادة الوضع منها خصوصا مع ندرة موارد ابتلاء الشيعة في دار التقية في تلك

(1) الوسائل - كتاب الامر بالمعروف والنهى عن المنكر - الباب 25 - من أبواب الامر والنهى - الرواية 2 -
190

الأعصار التي انحصرت التقية فيها من العامة بالنسبة إلى التكليفات كشرب النبيذ مثلا وكثرة ابتلائهم بالوضعيات ليلا ونهارا فحمل الحديث على التكليف مما لا مجال فيه.
ومثلها ما عن نوادر أحمد بن محمد بن عيسى عن سماعة عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
إذا حلف الرجل تقية لم يضره إذا هو أكره واضطر إليه وقال ليس شيء مما حرم الله الا وقد أحله لمن اضطر إليه (1).
ولعلها أظهر في شمول الوضع لأن عدم إضرار الحلف عدم ترتب الأثر والكفارة عليه وقوله بعده بمنزلة الكبرى الكلية، ولا يبعد استفادة الصحة من مثل قول أبي جعفر عليه السلام في صحيحة زرارة: التقية في كل ضرورة وصاحبها اعلم بها حين تنزل به (2) حيث يظهر منها مشروعية التقية في إتيان العمل كالصلاة متكتفا إذا اقتضت الضرورة أو مشروعية التكتف فيها فدلت على صحة الصلاة المأتي بها كذلك تأمل.
ثم اعلم ان الضرورة أعم من الاضطرار من حيث المورد، فربما لا يضطر الإنسان على شيء لكن الضرورة تقتضي الإتيان به كما إذا كان في تركه ضرر على حوزة المسلمين أو رئيس الإسلام أو كان مورثا لهتك حرمة مقام محترم.
حول ما دلت على الاجزاء فيما تقتضي التقية إتيان المأمور به على خلاف الحق
ومن الطائفة الثانية موثقة مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه السلام وفيها وتفسير ما يتقى مثل ان يكون قوم سوء ظاهر حكمهم وفعلهم على غير حكم الحق وفعله، فكل شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية مما لا يؤدى إلى الفساد في الدين فإنه جائز (3) ولا ريب في ان الجواز هو المضي وكون الشيء مرخصا فيه تكليفا وضعا فيستفاد منه صحة العمل ومضيه، وهذا نظير قوله: الصلح جائز بين المسلمين فلا يختص بالتكليفي بل يعم

الوسائل - كتاب الايمان - الباب 12 - الرواية 15 -
(2) الوسائل - كتاب الامر بالمعروف والنهى عن المنكر - الباب 25 - من أبواب الامر والنهى - الرواية 1 -
(3) راجع المصدر المذكور آنفا - الرواية 6 -
191

الوضعي فتكفير المؤمن في صلاته وإفطاره لدى السقوط ووقوفه بعرفات قبل وقته وإيقاعه الطلاق مع فقد العدلين ووضوئه بالنبيذ وهكذا يكون جائزا نافذا ماضيا لدى الشرع حال التقية فتسقط الأوامر المتعلقة بالطبائع بالفرد المأتي به تقية، فإذا اقتضى عنوان التقية وكتمان السر والخوف عن إذاعة المذهب إتيان عمل على خلاف الواقع يكون جائزا ومصداقا في هذا الحال للمأمور به وهذه الموثقة أعم موردا من الطائفة الأولى لشمولها للتقية الاضطرارية والمداراتية.
ومنها صحيحة أبي الصباح إبراهيم بن نعيم المروية في كتاب الإيمان قال والله لقد قال لي جعفر بن محمد عليهما السلام ان الله علم نبيه التنزيل والتأويل فعلمه رسول الله عليا عليه السلام قال وعلمنا والله ثم قال: ما صنعتم من شيء أو حلفتم عليه من يمين في تقية فأنتم منه في سعة (1).
تدل على ان كل ما صنع المكلف من زيادة في المأمور به أو نقيصة فيه فهو في سعة منه فلا يترتب عليه الإعادة والقضاء فهو كقوله: «الناس في سعة ما لا يعلمون» والاختصاص بالحكم التكليفي مما لا يساعده العرف.
ومنها موثقة سماعة قال: سألته عن رجل كان يصلى فخرج الإمام وقد صلى الرجل ركعة من صلاة فريضة، قال: ان كان إماما عدلا فليصل أخرى فينصرف ويجعلهما تطوعا وليدخل مع الإمام في صلاته كما هو، وان لم يكن امام عدل فليبن علي صلاته كما هو ويصلى ركعة أخرى ويجلس قدر ما يقول: اشهد ان لا آله الا الله وحده لا شريك له واشهد ان محمدا عبده ورسوله، ثم ليتم صلاته معه على ما استطاع فان التقية واسعة وليس شيء من التقية الا وصاحبها مأجور عليها إن شاء الله (2).
ولا يخفى ان هذه الموثقة أوضح دلالة على المطلوب من غيرها، ضرورة انها كالنص على صحة صلاته بمحضر منهم مع ترك ما لم يستطع فعله أو إتيان ما لم يستطع تركه من الاجزاء والشرائط والموانع، وبعد التعليل بان ذلك من أجل ان التقية واسعة ومأجور

(1) الوسائل - كتاب الايمان - الباب 12 - الرواية 2 -
(2) الوسائل - كتاب الصلاة - الباب 56 من أبواب صلاة الجماعة - الرواية 2 -
192

عليها نتعدى إلى كل عمل.
ومنها رواية أبي عمر الأعجمي قال قال لي أبو عبد الله: يا أبا عمران تسعة أعشار الدين في التقية ولا دين لمن لا تقية له، والتقية في كل شيء الا في النبيذ والمسح على الخفين (1) وفي صحيحة زرارة قال: قلت له: في مسح الخفين تقية؟ فقال: ثلاثة لا أتقي فيهن أحدا: شرب المسكر، ومسح الخفين، ومتعة الحج (2).
الظاهر منها اتقاؤه في غيرها ولا ريب في ان استثناء مسح الخفين ومتعة الحج دليل على شمولهما للوضع فان المسح عليهما ممنوع غيري لأجل عدم تحقق الوضوء به ولا حرمة ذاتية فيه فيظهر منهما صحة الأعمال المأتي بها تقية.
ومنها ما عن علم الهدى في رسالة المحكم والمتشابه نقلا عن تفسير النعماني عن علي عليه السلام في حديث قال: واما الرخصة التي صاحبها فيها بالخيار فان الله نهى المؤمن ان يتخذ الكافر وليا، ثم من عليه بإطلاق الرخصة له عند التقية في الظاهر ان يصوم بصيامه وان يفطر بإفطاره ويصلى بصلاته ويعمل بعمله ويظهر له استعمال ذلك موسعا عليه فيه وعليه ان يدين الله تعالى في الباطن بخلاف ما يظهر لمن يخافه من المخالفين المستولين على الأمة قال الله تعالى: «لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء الا ان تتقوا منهم تقية ويحذركم الله نفسه» فهذه رحمة تفضل الله بها على المؤمنين رحمة لهم ليستعملوها عند التقية في الظاهر وقال رسول الله: ان الله يحب ان يؤخذ برخصه كما يحب ان يؤخذ بعزائمه (3).
فان الظاهر من العمل بعمله والصلاة بصلاته وتوسعة استعمال التقية خصوصا مع

(1) أورد صدرها في الوسائل في الباب 24 - الرواية 2 وذيلها في الباب 25 - الرواية 3 - من أبواب الامر والنهى.
(2) الوسائل - كتاب الامر بالمعروف والنهى عن المنكر الباب 25 - من أبواب الامر والنهى - الرواية 5 -
(3) راجع الوسائل كتاب الامر بالمعروف والنهى عن المنكر - الباب 29 - من أبواب الامر والنهى - الرواية 20 - الطبعة الحديثة.
193

قوله: ان الله يحب (إلخ) هو صحة العمل واجزائه وان ما يؤتى به تقية صحيحة محبوبة له تعالى، وظاهر قوله: «وعليه ان يدين الله في الباطن بخلاف ما يظهر» ان لماهية العبادات مصداقين مختلفين في حال التقية وغيرها، وليس المراد منه إعادة ما يأتي به تقية بلا إشكال.
ومنها ما عن أبي عبد الله عليه السلام في رسالته إلى أصحابه وفيها: وعليكم بمجاملة أهل الباطل، تحملوا الضيم منهم، وإياكم ومماظتهم دينوا فيما بينكم وبينهم إذا أنتم جالستموهم وخالطتموهم ونازعمتموهم الكلام فإنه لا بد لكم من مجالستهم ومخالطتهم ومنازعتهم الكلام بالتقية التي أمركم الله ان تأخذوا بها فيما بينكم وبينهم (1) فقوله: بالتقية، متعلق بقوله: دينوا، والظاهر منه انه اعملوا بالديانة على نحو التقية واعبدوا الله فيما بينكم وبينهم عبادة على صفة التقية فيدل على ان الأعمال التي تعمل تقية عبادة الله وديانته تعالى ولا تكون صورة العبادة فيدل على صحتها وكون المأتي به مصداقا للمأمور به حال التقية.
ومنها ما عن بصائر الدرجات لسعد بن عبد الله بسنده الصحيح عن معلى بن خنيس قال: قال لي أبو عبد الله: يا معلى اكتم أمرنا (إلى ان قال): يا معلى ان التقية ديني ودين آبائي، ولا دين لمن لا تقية له، يا معلى ان الله يحب ان يعبد في السر كما يحب ان يعبد في العلانية، والمذيع لأمرنا كالجاحد له (2).
والظاهر ان العبادة سرا هي العبادة تقية حيث يعبد الله المتقى مع إسرار الحق وقد قال عليه السلام: ان الله يحب ان يعبد في السر، فالعبادة الواقعة على وجه التقية عبادة ومحبوبة فوقعت صحيحة، والظاهر ان المراد من قوله في موثقة هشام بن سالم: ما عبد الله بشيء أحب إليه من الخباء، قلت: وما الخباء؟ قال: التقية (3) هو العبادة على نعت التقية ويكون

(1) راجع الروضة: ص 2 - والوسائل كتاب الامر بالمعروف والنهى عن المنكر الباب 24 - من أبواب الامر والنهى - الرواية 13 - غير ان ما في الوسائل اسقط عنها جملة: فإنه لا بد من مجالستهم ومخالطهم ومنازعتهم الكلام -
(2) راجع المصدر المذكور آنفا - الرواية 23 -
(3) راجع المصدر المذكور آنفا - الرواية 14 -
194

مضمونها كمضمون رواية معلى.
ومنها رواية سفيان بن سعيد عن أبي عبد الله عليه السلام وفيها: يا سفيان من استعمل التقية في دين الله فقد تسنم الذروة العليا من القرآن (1).
والظاهر من استعمالها في دين الله ان يأتي بالعبادة تقية فتكون العبادة المأتي بها كذلك دين الله ولا تكون من دين الله ما لا تكون صحيحة مصداقا للمأمور به.
ونظيرها رواية الاحتجاج عن أمير المؤمنين وفيها وآمرك ان تستعمل التقية في دينك (2) ويظهر من ذيلها انها من الطائفة الأولى، ولا يخفى ان هذه الطائفة أعم موردا من الطائفة الأولى، بل يستفاد من بعضها الاجزاء في التقية المداراتية.
حول الأدلة الدالة على الاجزاء في التقية المداراتية
ومن الطائفة الثالثة صحيحة هشام بن الحكم قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول إياكم ان تعملوا عملا نعير به، فان ولد السوء يعير والده بعمله، كونوا لمن انقطعتم إليه زينا ولا تكونوا علينا شينا، صلوا في عشائرهم، وعودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزهم، ولا يسبقونكم إلى شيء من الخير فأنتم أولى به منهم، والله ما عبد الله بشيء أحب إليه من الخباء، قلت: وما الخباء؟ قال: التقية (3).
فان الظاهر منها الترغيب على العمل بطبق آرائهم وأهوائهم وإتيان الصلاة في عشائرهم وكذا ساير الخيرات، مع ان الإتيان في عشائرهم وبمحضر منهم مستلزم لترك بعض الاجزاء والشرائط وفعل بعض الموانع وتذييلها بقوله: والله ما عبد الله بشيء (إلخ) لدفع استبعاد الشيعة من صحة العمل المخالف للمواقع فقال: ان ذلك أحب العبادات وأحسنها.
ومنها رواية أبي بصير قال: قال أبو جعفر: خالطوهم بالبرانية، وخالفوهم

(1) راجع المصدر المذكور آنفا - الرواية 16 -
(2) الوسائل - كتاب الامر بالمعروف والنهى عن المنكر - الباب 29 - من أبواب الامر والنهى - الرواية 11 -
(3) الوسائل - كتاب الامر بالمعروف والنهى عن المنكر - الباب 26 - من أبواب الامر والنهى - الرواية 2 -
195

بالجوانية إذا كانت الآمرة صبيانية (1).
فان الظاهر ان المراد من المخالطة في الظاهر إتيان الأعمال على طبق التقية والمخالفة في الباطن إتيانها على طبق الواقع فيكون كل في مورده مصداق المأمور به إلى غير ذلك. وليعلم ان المستفاد من تلك الروايات صحة العمل الذي يؤتى به تقية سواء كانت التقية لاختلاف بيننا وبينهم في الحكم كما في المسح على الخفين والإفطار لدى السقوط أو في ثبوت الموضوع الخارجي كالوقوف بعرفات اليوم الثامن لأجل ثبوت الهلال عندهم، والظاهر عدم الفرق بين العلم والخلاف والشك.
ومما يشهد لترتب أثر التقية في الموضوعات وان الوقوفين في غير وقتهما مجزيان انه من بعد رسول الله صلى الله عليه وآله إلى زمان خلافة أمير المؤمنين ومن بعده إلى زمن الغيبة كان الأئمة وشيعتهم مبتلين بالتقية أكثر من مائتي سنة وكانوا يحجون مع أمراء الحاج من قبل خلفاء الجور أو معهم وكان امر الحج وقوفا وإفاضة بأيديهم لكونه من شؤون السلطنة والأمارة، ولا ريب في كثرة تحقق يوم الشك في تلك السنين المتمادية ولم - يرد من الأئمة عليهم السلام ما يدل على جواز التخلف عنهم أو لزوم إعادة الحج في سنة يكون هلال شهر ذي الحجة ثابتا لدى الشيعة مع كثرة ابتلائهم، ولا مجال لتوهم عدم الخلاف في أول الشهر في نحو مائتي وأربعين سنة ولا
في بنائهم على إدراك الوقوف خفاء كما يصنع جهال الشيعة في هذه الأزمنة ضرورة انه لو وقع ذلك منهم ولو مرة أو أمروا به ولو دفعة لكان منقولا إلينا لتوفر الدواعي به فعدم أمرهم به ومتابعتهم لهم أدل دليل على اجزاء العمل تقية ولو في الخلاف الموضوعي وهذا مما لا إشكال فيه ظاهرا.
انما الإشكال في انه تثبت الموضوعات الخارجية بحكم حاكمهم مع الشك في الثبوت فيكون حكمهم كحكم حكام العدل؟ أو يجب ترتب آثارها عليها ولو مع العلم بالخلاف أو لا تترتب ولا تثبت مطلقا؟ الظاهر هو الأخير لأن عمومات التقية وإطلاقاتها لا تفي بذلك لأن مثل قوله: «التقية في كل شيء يضطر إليه ابن آدم» أو قوله: «التقية في كل شيء الا المسح على الخفين» ظاهر في اجزاء العمل على وجه التقية لا لثبوت

(1) راجع المصدر المذكور آنفا - الرواية 3 -
196

الموضوع تعبدا أو لزوم ترتيب آثار الواقع مطلقا ما على ما ثبت عندهم وهذا واضح.
نعم روى الشيخ بإسناده عن أبي الجارود زياد بن منذر قال: سئلت أبا جعفر انا شككنا سنة في عام من تلك الأعوام في الأضحى فلما دخلت على أبي جعفر وكان بعض أصحابنا يضحي فقال: الفطر يوم يفطر الناس والصوم يوم يصوم الناس (1) والظاهر منه ان يوم يضحي الناس يكون أضحى ويترتب عليه آثار الموضوع واقعا وبإلقاء الخصوصية عرفا يفهم الحكم في ساير الموضوعات التي يترتب عليها الآثار الشرعية (فحينئذ) ان قلنا بان التعبد لا يناسب ولا يكون مع العلم بالخلاف يختص بمورد الشك فيكون حكم حكامهم كحكم الحاكم العدل، وان قلنا بأنه بملاحظة وروده في باب التقية يترتب الأثر حتى مع العلم بالخلاف (فحينئذ) يقيد إطلاقه بالروايات الواردة:
في قضية إفطار أبي عبد الله عليه السلام تقية عن أبي العباس في يوم يعلم انه من شهر رمضان قائلا ان إفطاري يوما وقضائه أيسر علي من ان يضرب عنقي ولا يعبد الله (2) لكن إثبات الحكم بمثل رواية أبي الجارود الضعيف غير ممكن فترك الصوم يوم الشك تقية لا يوجب سقوط القضاء على الظاهر وهذا بخلاف إتيان إعمال الحج على وفق التقية، فان مقتضى إطلاق أدلة التقية اجزائه حتى مع العلم بالخلاف كما يصح الوضوء والصلاة مع العلم بكونهما خلاف الواقع الأولى.

(1) الوسائل - كتاب الصوم - الباب 57 - من أبواب ما يمسك عنه الصائم - الرواية 7 - وفي بعض الروايات عن زياد بن منذر عنه عليه السلام: «صم حين يصوم الناس، وأفطر حين يفطر الناس» راجع الوسائل - كتاب الصوم - الباب 16 - من أبواب أحكام شهر رمضان - الرواية 5 - والمستدرك الباب 9 -
(2) وإليك متنها: عنه عليه السلام قال: دخلت على أبي العباس بالحيرة فقال:
يا عبد الله ما تقول في الصيام اليوم؟ فقال: ذاك إلى الإمام ان صمت صمنا، وان أفطرت أفطرنا، فقال: يا غلام على بالمائدة فأكلت معه، وأنا أعلم والله انه يوم من شهر رمضان، فكان إفطاري يوما وقضاؤه أيسر على من ان يضرب عنقي ولا يعبد الله» وقريب منها روايات آخر عنه عليه السلام - راجع الوسائل - كتاب الصوم - الباب 57 - من أبواب ما يمسك عنه الصائم.
197

في الروايات الدالة على صحة الصلاة مع العامة
ثم انه قد وردت روايات خاصة تدل على صحة الصلاة مع الناس والترغيب في الحضور في مساجدهم والاقتداء بهم والاعتداد بها كصحيحة حماد بن عثمان عن أبي عبد الله انه قال: من صلى معهم في الصف الأول كان كمن صلى خلف رسول الله صلى الله عليه وآله في الصف الأول (1) ولا ريب ان الصلاة معه صحيحة ذات فضيلة جمة فكذلك الصلاة معهم حال التقية، وصحيحة حفص بن البختري عنه قال: يحسب لك إذا دخلت معهم وان كنت لا تقتدي بهم مثل ما يحسب لك إذا كنت مع من تقتدي به (2) وصحيحة ابن سنان عنه وفيها: وصلوا معهم في مساجدهم (3) وصحيحة علي بن جعفر عن أخيه قال: صلى حسن وحسين خلف مروان ونحن نصلي معهم (4) وموثقة سماعة قال: سألته عن مناكحتهم والصلاة خلفهم؟ فقال: هذا امر شديد لن تستطيعوا ذلك قد أنكح رسول الله صلى الله عليه وآله وصلى علي عليه السلام وراءهم (5) ورواية إسحاق بن عمار في حديث قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام:
انى ادخل المسجد فأجد الإمام قد ركع وقد ركع القوم فلا يمكنني ان أؤذن وأقيم وأكبر فقال لي: فإذا كان ذلك فادخل معهم في الركعة واعتد بها فإنها من أفضل ركعاتك (الحديث) (6) ورواية زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: لا بأس بان تصلي خلف الناصب ولا تقرأ خلفه فيما يجهر فيه فان قراءته يجزيك (7) إلى غير ذلك مما هو صريح أو ظاهر في الصحة والاعتداد بالصلاة تقية.
ولا تنافيها ما دلت على إيقاع الفريضة قبل المخالف أو بعده وحضورها معه مما هي محمولة

(1) الوسائل - كتاب الصلاة - الباب 5 - من أبواب صلاة الجماعة - الرواية 1 -
(2) راجع المصدر المذكور آنفا - الرواية 2 -
(3) راجع المصدر المذكور آنفا - الرواية 7 -
(4) راجع المصدر المذكور آنفا - الرواية 8 -
(5) راجع المصدر المذكور آنفا - الرواية 9 -
(6) الوسائل - كتاب الصلاة - الباب 34 - من أبواب صلاة الجماعة - الرواية 4 -
(7) في الوسائل " فان قرائته يجزيك إذا سمعتها " راجع المصدر المذكور آنفا - الرواية 5 -
198

على الاستحباب حملا للظاهر على النص بل الظاهر من كثير منها صحة الصلاة معه كصحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله انه قال: ما من عبد يصلى في الوقت ويفرغ ثم يأتيهم ويصلى معهم وهو على وضوء الا كتب الله له خمسا وعشرين درجة (1) ومثلها رواية عمر بن يزيد (2) وهما دالتان على صحتها، والا فلا وجه للوضوء فتكون الصلاة معادة.
نعم في رواية عمر وبن ربيع انه سئل عن الإمام ان لم أكن أثق به أصلي خلفه واقرأ؟ قال: لا، صل قبله أو بعده، قيل له: أفأصلي خلفه واجعلها تطوعا قال: لو قبل التطوع لقبلت الفريضة ولكن اجعلها سبحة (3) وهي مع ضعفها يكون ذيلها مشعرا بصحة الصلاة معه.
وكيف كان فهذه الضعيفة لا تصلح لمعارضة الصحاح المتقدمة وغيرها كما لا تعارضها رواية ناصح المؤذن قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: أصلي في البيت واخرج إليهم؟ قال:
اجعلها نافلة ولا تكبر معهم فتدخل معهم في صلاتهم فان مفتاح الصلاة التكبير (4) فإنها مع جهالة راويها ظاهرة في صحة صلاته لو كبر معهم، ولا رواية عبيد بن زرارة عن أبي - عبد الله قال: قلت: انى ادخل المسجد وقد صليت فأصلي معهم فلا أحتسب تلك الصلاة، قال: لا بأس، واما انا فأصلي معهم وأريهم انى أسجد وما أسجد (5) لضعف سندها ودلالتها، لأن عدم الاحتساب بعد إتيان صلاة لا يدل على عدم الصحة، كما ان إراءة السجدة مع عدم النية لا تدل على عدمها لو اقتدى. بل لعلها مشعرة بها على فرض الاقتداء.
واما ما ورد من عدم جواز الصلاة خلفهم وانهم بمنزلة الجدار وانه لا تصل إلا خلف

(1) الوسائل - كتاب الصلاة - الباب 6 - من أبواب صلاة الجماعة - الرواية 2 -
(2) وإليك متنها: عنه عن أبي عبد الله عليه السلام انه قال: ما منكم أحد يصلى صلاة فريضة في وقتها ثم يصلى معهم صلاة تقية وهو متوضئ الا كتب الله له بها خمسا وعشرين درجة فارغبوا في ذلك» راجع المصدر المذكور آنفا - الرواية 1 -
(3) راجع المصدر المذكور آنفا - الرواية 5 -
(4) راجع المصدر المذكور آنفا - الرواية 7 -
(5) راجع المصدر المذكور آنفا - الرواية 8 -
199

من تثق بدينه (1) فهي بحسب الحكم الأولى فلا منافاة بينهما، وكيف كان فلا ينبغي الشبهة في صحة الصلاة وساير العبادات المأتي بها على وجه التقية. بقي شيء وهو انه لا إشكال في ان التقية الاضطرارية تابعة لتحقق عنوان الاضطرار والضرورة من غير نظر إلى سببه، فلو فرض ان كافرا أو سلطانا شيعيا أو غيرهما اضطره إلى إتيان العبادة بوجه خاص يكون مجزيا عن المأمور به وسيأتي الكلام في ميزان تحققه.
واما التقية المداراتية المرغوب فيها مما تكون العبادة معها أحب العبادات وأفضلها فالظاهر اختصاصها بالتقية عن العامة كما هو مصب الروايات على كثرتها ولعل السر فيها صلاح حال المسلمين بوحدة كلمتهم وعدم تفرق جماعتهم لكي لا يصيروا أذلاء بين ساير الملل وتحت سلطة الكفار وسيطرة الأجانب أو صلاح حال الشيعة لضعفهم خصوصا في تلك الأزمنة وقلة عددهم فلو خالفوا التقية لصاروا في معرض الزوال والانقراض.
ففي رواية عبد الله بن يعفور عن أبي عبد الله عليه السلام قال اتقوا على دينكم، واحجبوه بالتقية، فإنه لا إيمان لمن لا تقية له، انما أنتم في الناس كالنحل في الطير، ولو ان الطير يعلم ما في أجواف النحل ما بقي منها شيء الا أكلته، ولو ان الناس علموا ما في أجوافكم إنكم تحبونا أهل البيت لأكلوكم بألسنتهم ولنحلوكم في السر والعلانية رحم الله عبدا منكم كان على ولايتنا (1).

(1) وعن الصدوق بإسناده عن أبي عبد الله البرقي انه قال: كتبت إلى أبي جعفر الثاني عليه السلام أيجوز الصلاة خلف من وقف على أبيك وجدك؟ فأجاب: «لا تصل ورائه» ورواية إسماعيل الجعفي قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: رجل يحب أمير المؤمنين عليه السلام ولا يتبرأ من عدوه ويقول هو أحب إلى ممن خالفه، فقال: هذا مخلط وهو عدو فلا تصل خلفه (إلخ) ورواية زرارة قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن الصلاة خلف المخالفين؟ فقال: ما هم عندي الا بمنزلة الجدار» ورواية علي بن راشد قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: «ان مواليك قد اختلفوا فأصلي خلفهم جميعا؟ فقال (قال): لا تصل إلا خلف من تثق بدينه» ويظهر من عدة روايات عدم جواز الصلاة خلفهم ولكن تركنا نقلها روما للاختصار وراجع الوسائل - كتاب الصلاة - الباب 10 - من أبواب صلاة الجماعة والمستدرك - الباب 9 -
(2) الوسائل - كتاب الامر بالمعروف والنهى عن المنكر - الباب 24 - من أبواب الامر والنهى - الرواية 7 -
200

ثم انه لا يتوقف جواز هذه التقية بل وجوبها على الخوف على نفسه أو غيره بل الظاهر ان المصالح النوعية صارت سببا لإيجاب التقية عن المخالفين فتجب التقية وكتمان السر ولو كان مأمونا وغير خائف على نفسه وغيره.
حول اعتبار عدم المندوحة في التقية
المبحث الرابع هل يعتبر في التقية عدم المندوحة مطلقا أم لا كذلك؟ أو يفصل بين ما كان مأذونا فيه بخصوصه فلا يعتبر كغسل الرجلين في الوضوء والوضوء منكوسا وبين ما لم يرد فيه نص خاص، أو يفصل بين التقية من المخالفين فلا يعتبر مطلقا أو في الجملة وبين غيرهم فيعتبر؟ والتحقيق هو اعتبار عدم المندوحة فيما إذا كانت التقية من غير المخالفين مما كان دليلها مثل حديث الرفع وقوله: «التقية في كل شيء يضطر إليه ابن آدم» وقوله: التقية في كل ضرورة وعدم الاعتبار إذا كانت من المخالفين مطلقا، اما اعتبار عدمها في الفرض الأول فلعدم صدق الاضطرار والضرورة مع المندوحة، فان من كان في سعة من إتيان الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل لا يكون مضطرا إلى إتيانها مع سعة الوقت لعدم إمكان إلزام أحد على الصلاة التي كانت متقومة بالنية فالإلزام انما يتعلق بصورة الصلاة لا بالصلاة متكتفا، الا ان يكون المكلف ملزما بإتيانها من قبل علام الغيوب كما في الواجب المضيق أو الواجب الذي ضاق وقته فيكون مضطرا في إتيانها وقت الضيق عقلا (فحينئذ) مع حضور من يتقى منه ويخاف على نفسه منه يضطر بإتيانها على وجه التقية.
وبالجملة الاضطرار على إتيان المأمور به الذي يكون من الأمور القصدية بكيفية خاصة لا يتحقق الا بالاضطرار إلى إيجاد الطبيعة وإلى الكيفية الخاصة فمع عدم الاضطرار إلى أحدهما لا يصدق انه مضطر إلى إتيانها كذلك.
(فما ادعى) الشيخ الأعظم من منع توقف الاضطرار إلى مثل التكتف على الاضطرار إلى الصلاة التي يقع فيها بل الظاهر انه يكفي في صدق الاضطرار إليه كونه لا بد من فعله مع وصف إرادة الصلاة في تلك الوقت لا مطلقا (مما لا يمكن المساعدة عليه) ضرورة عدم الاضطرار على التكتف في الصلاة مع الاختيار في تركها بل الأمر كذلك فيمن علم ان
201

الحضور في مجلس الشرب مثلا ينجر إلى اضطراره بشرب الخمر فمع اختياره لترك الحضور إذا حضر وشرب الخمر اضطرارا يعد هذا الشرب اختياريا غير معذور فيه، وانما يعاقب على شربه لا حضوره لأن مقدمة الحرام غير محرمة.
لا يقال: ان شرب الخمر بعد حضوره واجب لتوقف حفظ النفس عليه فكيف يعاقب عليه؟ فإنه يقال: حفظ النفس واجب شرعا والشرب واجب عقلا مقدمة مع كونه محرما شرعا فالعقل يحكم بلزوم ارتكاب أقل المحذورين مع استحقاقه للعقوبة مع انه لو التزم بالوجوب الشرعي أيضا لا مانع من صحة العقوبة كالمتوسط في الأرض المغصوبة فان حكم الشارع لم يتعلق به لأجل مصلحة فيه بل لأجل قلة المفسدة وأقلية المحذور وفي مثله لا مانع من العقوبة عقلا (وبالجملة) لا إشكال في ان العقل يحكم حكما جزميا بصحة عقوبة من حضر في محل اختيارا مع علمه باضطراره بالمحرم (فحينئذ) يقع البحث في انه لو اضطر المكلف نفسه بإتيان الفرد الاضطراري بان لا يأتي به الا آخر الوقت وحضر عند من يتقى منه اختيارا هل يكون عاصيا أو لا؟ وعلى الأول هل تصح عبادته أو لا؟ مقتضى الجمود على ظاهر الأدلة صحتها مع العصيان اما العصيان فلان المتفاهم من عنوان التحليل عند الاضطرار ان الفرد الاضطراري ناقص عن الاختياري وانه تفوت به مصلحة ملزمة لكن الاضطرار واللا بدية لاستيفاء بقية المصلحة صارا سببا للأمر بإتيانه (وبالجملة) ان الضرورة أباحت المحظور، واما الصحة فلتحقق عنوان الاضطرار ولو باختياره.
اللهم الا ان يدعى انصراف أدلة الاضطرار عن الاضطرار بالاختيار خصوصا إذا كان دليل الاضطرار كحديث الرفع مسوقة للامتنان (فحينئذ) لا تستفاد الصحة من الأدلة الا إذا دل دليل بالخصوص على عدم جواز ترك المأمور به كقوله: الصلاة لا تترك بحال (فحينئذ) يجب الإتيان وتصح.
هذا حال ما يستفاد حكمه من دليل الاضطرار وقد عرفت اعتبار عدم المندوحة مطلقا فيجب إعمال الحلية في التخلص عن المتقى منه وفي إتيان العمل موافقا للحق بقدر المقدور فان الضرورات تتقدر بقدرها (نعم) لو خاف من إعمال الحيلة إفشاء سره
202

وورود ضرر عليه يكون ذلك أيضا من الاضطرار والضرورة عرفا.
واما ما يستفاد حكمه من ساير الأدلة التي تختص ظاهرا بالمخالفين فالظاهر انه لا يعتبر فيها عدم المندوحة مطلقا، فمن تمكن من إتيان الصلاة بغير وجه التقية لا يجب عليه إتيانها كذلك بل الراجح إتيانها بمحضر منهم على صفة التقية، وكذا لا يجب عليه إعمال الحيلة في إزعاج من يتقى منه عن مكانه أو تغيير مكانه من السوق أو المسجد إلى مكان أمن لظهور الأدلة بل صراحة بعضها في رجحان الحضور في جماعاتهم وان الصلاة معهم كالصلاة مع رسول الله، ولا شك في ان هذه الترغيبات تنافي إعمال الحيلة وتعويق العمل، فمن سمع قول أبي جعفر عليه السلام: «صلوا في عشائرهم مذيلا بقوله: والله ما عبد الله بشيء أحب إليه من الخباء» لا يشك في ان المراودة معهم وجلب قلوبهم مطلوبة والصلاة معهم وفي عشائرهم محبوبة ومن أحسن العبادات، وهي تنافي إعمال الحليلة والانعزال عنهم في عباداته وكذا من سمع قول أبي عبد الله عليه السلام في صحيحة حماد بن عثمان: من صلى معهم في الصف الأول كمن صلى خلف رسول الله صلى الله عليه وآله (1) يشد الرحال إلى الصلاة معهم للنيل بهذا الفوز العظيم، فهما كغير هما من الاخبار الكثيرة المرغبة منافية لاعمال الحيلة.
ولا يعارضها بعض الضعاف مما تقدم ذكره وغيره كرواية إبراهيم بن شيبة قال:
كتبت إلى أبي جعفر الثاني عن الصلاة خلف من يتولى أمير المؤمنين عليه السلام وهو يرى المسح على الخفين أو خلف من يحرم المسح على الخفين وهو يمسح، فكتب: ان جامعك وإياهم موضع لا تجد بدا من الصلاة معهم فاذن لنفسك وأقم، فان سبقك إلى القراءة فسبح (2) فإنها مع ضعفها سندا يحتمل على بعد ان يكون المراد ممن يتولى أمير المؤمنين بعض الشيعة في مقابل من يحرمه منهم وهو يمسح، فيكون الموردان خارجين عن مصب اخبار

(1) الوسائل - كتاب الصلاة - الباب 5 - من أبواب صلاة الجماعة -
(2) الوسائل - كتاب الصلاة - الباب 33 - من أبواب صلاة الجماعة - الرواية 2 -
203

التقية المداراتية، وكرواية دعائم الإسلام (1) وفقه الرضا (2) مما لا تصلح لمعارضة تلك الصحاح.
واما التأييد بالعمومات الدالة على ان التقية في كل شيء يضطر إليه ابن آدم بدعوى ان ظاهرها حصر التقية في حال الاضطرار كما صنع الشيخ الأعظم فممنوع لمنع الظهور المزبور وعدم حجية مفهوم اللقب.
وكيف كان فلا إشكال في انه لا يعتبر عدم المندوحة فيها على النحو المتقدم، وانما الإشكال في اعتباره حين العمل بان يمكنه عند إرادة التكفير تقية من الفصل بين يديه وعند إرادة غسل الرجلين من سبق يده إلى الرجل وإتيان مسمى المسح قبل الغسل وهكذا، فلو فعل معه ما يخالف الحق لكان عمله باطلا.
صرح الشيخ الأعظم باعتبار عدمها وان التقية على هذا الوجه غير جائز في العبادات وغيرها قال: وكأنه لا خلاف فيه، وتبعه المحقق صاحب مصباح الفقيه ناقلا عن غير واحد نفي الريب عنه، وعن بعض ان اعتبار عدم المندوحة بهذا المعنى مما لا خلاف فيه، وأيد كلامه بان عدم المندوحة بهذا المعنى بحسب الظاهر من مقومات موضوع التقية عرفا مع انه لا مقتضى لتقييد الأوامر الواقعية بغير الفرض لأن المفروض ان التقية لا تنافيها (إلى ان قال) مع إمكان ان يقال انه لا يكاد يستفاد جوازها في الفرض من مطلقات الاخبار فضلا عن
غيرها لانصرافها عن مثل الفرض، بل لا يتوهم المخاطب بهذه الاخبار الا جوازها في غير الفرض لما ارتكز في الذهن من ان الواجب الواقعي والمطلوب النفس الأمري انما هو مسح الرجلين واما ما عداه فإنما سوغه العجز فلا يجوز مع التمكن الفعلي من فعله انتهى.

(1) وإليك متنها: عنه عن جعفر بن محمد عليهما السلام انه قال: لا تعتد بالصلاة خلف الناصب ولا الحروري واجعله سارية من سواري المسجد واقرأ لنفسك كأنك وحدك» المستدرك - كتاب الصلاة - الباب 29 - من أبواب صلاة الجماعة - الرواية 3 -
(2) والرواية هكذا: ولا تصل خلف أحد الا خلف رجلين: أحدهما من تثق بدينه وورعه، وآخر من تتقي سيفه وسوطه وشره وبوائقه وشنعته، فصل خلفه على سبيل التقية والمداراة، واذن لنفسك وأقم واقرأ فيها لأنه غير مؤتمن» راجع المصدر المذكور آنفا الرواية 1 -
204

أقول: ما أفاده العلمان حق لا محيص عنه لو حاولنا استفادة اعتبار عدم المندوحة من عمومات اخبار التقية ومطلقاتها، بل قد عرفت انه يعتبر عدمها مطلقا لو تمسكنا بأدلة الاضطرار والضرورة، واما بالنظر إلى الاخبار الخاصة الواردة في باب الوضوء والصلاة معهم وغيرهما فالمسألة محل نظر للسكوت عن لزوم إعمال الحيلة فيها مع كون المقام محل بيانه فلو كان عدمها معتبرا في الصحة لم يجز إهماله.
ففي رواية محمد بن الفضل كتب إلى أبي الحسن موسى يسأله عن الوضوء فكتب إليه أبو الحسن عليه السلام فهمت ما ذكرت من الاختلاف في الوضوء والذي آمرك به في ذلك ان تتمضمض ثلاثا وتستنشق ثلثا، وتغسل وجهك ثلاثا، وتخلل شعر لحيتك ثلثا، وتغسل يديك إلى المرفقين ثلثا، وتمسح رأسك كله، وتمسح ظاهر أذنيك وباطنهما، وتغسل رجليك إلى الكعبين ثلثا، ولا تخالف ذلك إلى غيره (إلخ) (1).
فلو كان إعمال الحيلة واجبا ولم تصح الوضوء مع تركه كان عليه البيان مع إمكان إعمالها بأيسر ما يكون خصوصا في غسل الوجه واليدين بنية الوضوء في الغسلة الأخيرة أو الثانية والثالثة.
وتوهم التقية في المكاتبة يدفعه المكاتبة الثانية بل نفس مكاتبة ابن يقطين معه مخالفة للتقية لو لا الا من من الإفشاء ومعه لا معنى للتقية في الفتوى، ولا ريب ان ابن يقطين كان يعمل على طبق مكاتبته من غير إعمال الحيلة كما صرح به في الرواية، ومثلها رواية داود الرقي (2)

(1) الوسائل - كتاب الطهارة - الباب 32 - من أبواب الوضوء - الرواية 3 -
(2) والرواية هكذا: قال: دخلت على أبي عبد الله فقلت له: جعلت فداك كم عدة الطهارة؟ فقال: ما أوجبه الله فواحدة وأضاف إليها رسول الله صلى الله عليه وآله واحدة لضعف الناس، ومن توضأ ثلثا ثلثا فلا صلاة له، انا معه في ذا حتى جاءه داود بن زربي فسأله عن عدة الطهارة فقال له:
ثلثا ثلثا من نقص عنه فلا صلاة له، قال: فارتعدت فرائصي وكاد ان يدخلني الشيطان فأبصر أبو - عبد الله إلى وقد تغير لوني فقال: اسكن يا داود هذا هو الكفر أو ضرب الأعناق قال: فخرجنا من عنده وكان ابن زربي إلى جوار بستان أبي جعفر المنصور وكان قد ألقى إلى أبي جعفر امر داود بن زربي وانه رافضي يختلف إلى جعفر بن محمد فقال أبو جعفر المنصور انى مطلع إلى طهارته فان هو توضأ وضوء جعفر بن محمد فانى لا عرف طهارته حققت عليه القول وقتلته،
فاطلع وداود يتهيأ للصلاة من حيث لا يراه فأسبغ داود بن زربي الوضوء ثلثا ثلثا كما امره أبو عبد الله عليه السلام فما تم وضوؤه حتى بعث إليه أبو جعفر المنصور فدعاه قال: فقال داود: فلما ان دخلت عليه رحب بي وقال: يا داود قيل فيك شيء باطل وما أنت كذلك، قد اطلعت على طهارتك وليس طهارتك طهارة الرافضة فاجعلني في حل وامر له بمائة الف درهم قال: فقال داود الرقي: التقيت انا وداود بن زربي عند أبي عبد الله عليه السلام فقال له داود: جعلت فداك حقنت دماءنا في دار الدنيا ونرجو ان ندخل بيمنك وبركتك الجنة، فقال أبو عبد الله عليه السلام: فعل الله ذلك بك وبإخوانك من جميع المؤمنين، فقال أبو عبد الله عليه السلام لداود بن زربي حدث داود الرقي بما مر عليكم حتى تسكن روعته، قال: فحدثته بالأمر كله، قال: فقال أبو عبد الله عليه السلام لهذا أفتيته لأنه كان أشرف على القتل من يد هذا العدو، ثم قال: يا داود بن زربي توضأ مثنى مثنى ولا تزيدن عليه وانك ان زدت عليه فلا صلاة لك» راجع المصدر المذكور آنفا - الرواية 2 -
205

وحسنة داود بن زربي (1) بل صحيحته على الأصح.
ويؤيده بل يدل عليه ما ورد في إظهار كلمة الكفر وسب النبي وأمير المؤمنين - والعياذ بالله (2) فلو وجبت الحيلة مع إمكانها لكان البيان لازما مع ان رسول الله صلى الله عليه وآله امر عمارا بأنه ان عادوا فعد، واستفاض من أمير المؤمنين الأمر بسبه تقية، وتشهد عليه الاخبار الكثيرة الواردة في الترغيب على الصلاة معهم وحضور جماعاتهم من غير ذكر لاعمال الحيلة (3) مع انه مما يغفل عنه العامة بل وجوب إعمالها مما يؤدى لا محالة إلى إفشاء السر وإذاعة أمرهم ويكون منافيا لشرع التقية، فان نوع المكلفين لا يقدرون على إعمالها بنحو لا ينتهى إلى الإفشاء.
نعم هنا اخبار في باب القراءة والجماعة ظاهرة في لزوم إعمالها كموثقة سماعة قال: سألته عن رجل كان يصلى فخرج الإمام وقد صلى الرجل ركعة من صلاة فريضة

(1) قال: سئلت أبا عبد الله عليه السلام عن الوضوء؟ فقال لي: توضأ ثلثا ثلثا، قال: ثم قال لي: أليس تشهد بغداد وعساكرهم؟ قلت: بلى، قال: فكنت يوما أتوضأ في دار المهدي فرآني بعضهم وانا لا أعلم به، فقال: كذب من زعم انك فلاني وأنت تتوضأ هذا الوضوء، قال: فقلت: لهذا والله أمرني» راجع المصدر المذكور آنفا - الرواية 1 -
(2) راجع الوسائل - كتاب الامر بالمعروف والنهى عن المنكر - الباب 29 - من أبواب الامر والنهى.
(3) راجع الوسائل - كتاب الصلاة - الباب 5 - من أبواب صلاة الجماعة -
206

قال: ان كان إماما عدلا فليصل أخرى وينصرف ويجعلهما تطوعا وليدخل مع الإمام في صلاته كما هو وان لم يكن امام عدل فليبن علي صلاته كما هو ويصلى ركعة أخرى ويجلس قدر ما يقول: اشهد ان لا آله الا الله وحده لا شريك له واشهد ان محمدا عبده ورسوله ثم ليتم صلاته معه على ما استطاع فان التقية واسعة وليس شيء من التقية الا وصاحبها مأجور عليها إن شاء الله (1) فان الظاهر من قوله: «ثم ليتم صلاته معه على ما استطاع» وهو تتميم الصلاة وإتيانها على مذهب الحق بمقدار الاستطاعة، والتعليل بان التقية واسعة راجع إلى ما لا يستطيع ويأتي به تقية كما ان قوله: ويجلس قدر ما يقول (إلخ) ظاهر في إعمال الحيلة بان يأتي بالتشهد بنحو يتوهم ان تأخيره وجلوسه بهذا المقدار يكون لبطء الحركة لا إتيان التشهد.
وصحيحة علي بن يقطين قال: سئلت أبا الحسن عليه السلام عن الرجل يصلى خلف من لا يقتدى بصلاته والإمام يجهر بالقراءة؟ قال: اقرأ لنفسك وان لم تسمع نفسك فلا بأس (2) فان الأمر بالقراءة لنفسه وان لم تسمع هو لزوم إتيان القراءة بقدر الاستطاعة ومثلها ما روى عن أبي عبد الله عليه السلام مرسلا قال: يجزيك من القراءة معهم مثل حديث النفس (3) وغيرها مما تدل على الإتيان بالمقدار الممكن من قراءة الحمد فقط أو بعضه (4) والأرجح حمل هذه الطائفة على الاستحباب لقوة ظهور الطائفة الأولى في عدم لزوم إعمال الحيلة والمسألة محل إشكال تحتاج إلى مزيد تأمل.
حول ترتب آثار الصحة على العمل الصادر تقية
المبحث الخامس هل يترتب على العمل الصادر تقية جميع آثار الصحة فيرفع الوضوء تقية الحدث وتؤثر الأسباب في المسببات وتترتب عليها فيؤثر الطلاق في غير محضر العدلين في انفصال الزوجة فإذا زالت التقية بقي أثر الوضوء وآثار المعاملات أم لا فتجب

(1) الوسائل - كتاب الصلاة - الباب 56 - من أبواب صلاة الجماعة - الرواية 2 -
(2) الوسائل - كتاب الصلاة - الباب 33 - من أبواب صلاة الجماعة - الرواية 1 -
(3) راجع المصدر المذكور آنفا - الرواية 4 - وفيه: يجزيك إذا كنت معهم من القراءة -
(4) راجع المصدر المذكور آنفا من الوسائل.
207

إعادتها بعد زوال السبب؟ أقول يقع الكلام في مقامين: أحدهما - في مقتضى الأدلة العامة، والثاني - في الأدلة الخاصة الواردة في الموارد المخصوصة.
اما المقام الأول فالتحقيق عدم قصور الأدلة مثل قوله: «التقية في كل شيء يضطر إليه ابن آدم فقد أحله الله» وقوله: «كل شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية مما لا يؤدى إلى الفساد في الدين فهو جائز» بعد ما تقدم من شمولها للوضع، فإذا فرض اضطرار شخص بطلاق زوجته بحسب مقاصده العادية ولم يمكنه الا بمحضر منهم تقية فلا إشكال في صدق انه اضطر إلى الطلاق فهذا الطلاق الاضطراري مما أحله الله وهو جائز. فلو فرض ورود دليل خاص بان الطلاق الكذائي جائز أو حلال فهل يتوقف فقيه في استفادة الصحة وحصول الفراق منه؟، وكذا لو اضطر إلى بيع داره بكيفية تقتضي التقية (وبالجملة) ما الفرق بين قوله تعالى: «أحل الله البيع» وبين قوله «الصلح جائز بين المسلمين»؟ حيث يستفاد منهما النفوذ دون ما ورد فيما نحن فيه.
والعجب من الشيخ الأعظم حيث اعترف بعموم الحلية والجواز للوضعي وقال في الرد على المحقق الثاني حيث فصل بين كون متعلق التقية مأذونا فيه بخصوصه وغيره ان الفرق بين كون متعلق التقية مأذونا فيه بالخصوص أو بالعموم لا نفهم له وجها ومع ذلك نسب استفادة صحة المعاملات من الأدلة العامة في المقام إلى توهم مدفوع مما لا يخفى على المتأمل.
فنقول: عدم استفادة صحة البيع من قوله: «كل شيء يضطر إليه ابن آدم فقد أحله الله» اما لأجل عدم شموله للحلية الوضعية فقد اعترف بشموله لها (نعم) كلماته في كيفية استفادة الحلية الوضعية من مثل قوله: «أحل الله البيع» مختلفة، فمقتضى بعضها استفادتها منه ابتداء بحسب فهم العرف، ومقتضى الاخر انها مستفادة من الحكم التكليفي. واما لعدم ورود الحل بالخصوص بالنسبة إلى كل معاملة فقد اعترف بعدم الفرق، والإنصاف انه لا قصور في الأدلة العامة حتى حديث الرفع في استفادة الصحة.
هذا حال العقود والإيقاعات واما غيرهما كالوضوء وغيره فقد عرفت ان الظاهر
208

من كثير من عمومات التقية وإطلاقاتها ان المأتي به تقية مصداق لماهية المأمور بها ويسقط امره بإتيانه، اما بالنسبة إلى التكاليف النفسية فظاهر، واما التكاليف الغيرية كالوضوء والغسل فقد يتوهم عدم شمول الأدلة لها واختصاصها بالنفسيات فإتيان الصلاة مع الوضوء الكذائي مما يضطر إليه المكلف فهو حلال جائز واما بعد رفع التقية فلا تحل الصلاة مع الوضوء أو الغسل تقية كما لا يكون تجفيف محل البول تقية موجبا للتطهير فكما لا
يرفع ذاك الخبث لا يرفع ذلك الحدث فالرخصة المستفادة من العمومات لا تقتضي الا رفع المنع عن الدخول في الصلاة بالوضوء مع غسل الرجلين أو الإتيان به مع النبيذ ومع نجاسة البدن لا صحة الوضوء وطهارة البدن.
ولكن الظاهر عدم قصور الأدلة عن استفادة صحة الوضوء تقية مع غسل الرجلين أو الإتيان بالنبيذ لأن الوضوء الكذائي شيء يضطر إليه ابن آدم فقد أحله الله والحلية الوضعية بالنسبة إليه كونه ممضى كما ان الجواز كذلك فالحلية والجواز الوضعي في الوضوء بالنبيذ صحته وتماميته فإذا صح وتم يرفع به الحدث، فلو دل دليل بالخصوص على جواز الوضوء بالنبيذ فلا يشك أحد في استفادة الصحة منه، والفرق بين الدليل العام والخاص غير واضح، وبعد صحته وتماميته لا ريب في رفعه الحدث.
والنقض بلزوم القول بطهارة رأس الحشفة إذا مسحه بالجدار غير وارد، لإمكان الفرق بان استفادة الطهارة من قوله أحله الله وجائز مشكلة محتاجة إلى التكلف، بخلاف استفادة صحة الوضوء والغسل التي يترتب عليها رفع الحدث من غير لزوم انتساب الحلية والجواز إليه، وانتسابهما إلى أسباب الطهارة كالمسح وان كان ممكنا لكن بعيد عن الفهم العرفي (تأمل) هذا حال الأدلة العامة.
واما الأدلة الخاصة الواردة في باب الوضوء فلا إشكال في استفادة الصحة منها وان الوضوء تقية مصداق المأمور به، ففي حسنة داود بن زربي بل صحيحته قال سئلت أبا عبد الله عن الوضوء، فقال لي: توضأ ثلثا ثلثا (1) ولا ريب في دلالتها على ان الوضوء كذلك مصداق للماهية المسؤول عنها ولم يكن جوابه أجنبيا عن السؤال، وكذا ما أجاب عن عدة الطهارة بعد سؤال داود بن زربي في رواية داود الرقي حيث قال عليه السلام: ثلثا

(1) وقد تقدم نقلهما عنا فراجع -
209

ثلثا من نقص عنه فلا صلاة له (1).
ومثلهما ما ورد من أمر أبي الحسن علي بن يقطين بالتوضي تقية (2) فلا إشكال في صحة الوضوء ورفع الحدث به وعدم نقضه الا بالحدث.
ثم ان ما ذكرنا في هذه الرسالة هو مقتضى اخبار التقية عموما وخصوصا على نحو ضرب القاعدة من غير نظر إلى الموارد الخاصة فلو فرض دلالة دليل في مورد على خلاف مقتضاها فلا مضايقة فيها فالمتبع في الموارد الخاصة هو الدليل الوارد فيها بالخصوص (وبالجملة) المقصود هاهنا تأسيس القاعدة الكلية لتكون مرجعا عند فقدان الدليل الخاص.
والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا وقد وقع الفراغ منها يوم السبت السابع والعشرين من شهر شعبان المعظم 1373

(1) وقد تقدم نقلهما عنا فراجع -
(2) وقد تقدم نقله عن الأستاذ دام ظله - تمت الذييلات بيد العبد المحتاج إلى ربه الغني مجتبى بن عبد العلي الطهراني عفي عنهما.
210