الكتاب: ثلاث رسائل ، ولاية الفقيه
المؤلف: السيد مصطفى الخميني
الجزء:
الوفاة: ١٣٩٨
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: جمادي الثاني ١٤١٨ - آبان ١٣٧٦ ش
المطبعة: مطبعة مؤسسة العروج
الناشر: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني
ردمك:
ملاحظات:

ولاية الفقيه
تأليف
العلامة المحقق آية الله المجاهد الشهيد السعيد
السيد مصطفى الخميني قدس سره
مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدس سره
1

بمناسبة الذكرى السنوية العشرين
لشهادة العلامة المجاهد آية الله
السيد مصطفى الخميني (قدس سره)
هوية الكتاب
* اسم الكتاب: ثلاث رسائل *
* المؤلف: السيد مصطفى الخميني (قدس سره) *
* تحقيق ونشر: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني (قدس سره) *
* سنة الطبع: آبان 1376 - جمادى الثاني 1418 *
* الطبعة: الأولى *
* المطبعة: مطبعة مؤسسة العروج *
* الكمية: 3000 نسخة *
* السعر: 9000 ريال *
جميع الحقوق محفوظة للناشر
2

بسم الله الرحمن الرحيم
3

كلمة حول الكتاب
إن للمؤلف (قدس سره) رسائل متعددة في العلوم النقلية والعقلية وقد ضاع
كثير منها ولم تصل إلينا إلا هذه الرسائل الثلاث:
ألف - ولاية الفقيه
هذه الرسالة ليست رسالة مستقلة، بل كما هو دأب الفقهاء في
العصور الأخيرة البحث عن شؤون الفقيه وولايته في كتاب البيع، أورد
المؤلف (قدس سره) هذه المباحث في كتاب البيع من " تحريرات في الفقه " ومما
يؤسف له - كثيرا - فقدان معظم أجزاء كتاب البيع ومنها مباحث ولاية
الفقيه أيضا.
ولكن بحمد الله ومنه قد اطلعنا على أن سماحة حجة الاسلام
والمسلمين السيد محمد السجادي - حفظه الله ورعاه - قد استنسخ هذه
المباحث في سالف الزمان لنفسه من مخطوطة المصنف (قدس سره) ومن علينا
بتقديمها للتحقيق والنشر فلله تعالى دره وعليه أجره.
5

ب - العوائد والفوائد
وهي رسالة اجتمعت فيها نكات طريفة من العلوم العقلية
والنقلية، كتبها (قدس سره) في بورسا من بلاد تركيا، حيثما كان طاغوت إيران نفاه
مع والده المحقق الإمام الراحل (قدس سرهما) إليها قبل الاقصاء إلى النجف الأشرف.
ج - دروس الأعلام ونقدها
هذه الرسالة حصيلة حضور المؤلف (قدس سره) في أوان وروده في دروس
أعلام النجف الأشرف، وهو قد حضر بحوثهم الفقهية والأصولية،
والمطالع الكريم يطلع على سعة علم المؤلف وقوة ما أورده على هذه
الأعاظم من تلك البحوث.
وفي الختام نشكر جميع الإخوة الأفاضل الذين ساعدوا على نشر
هذا الكتاب في ضمن تراث المؤلف الشهيد.
والحمد لله رب العالمين.
مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني (قدس سره)
فرع قم المقدسة
6

ولاية الفقيه
1

تمهيد
حول ما للرسل من تشكيل الحكومات الدنيوية
خاتم [الأنبياء والرسل إذا كانت وظيفته الإلهية، غير محصورة
بسور الشريعة والهداية إلى دار الآخرة، وكان يجمع بين] الروحية
والمادية [ولا يكون - حسب بعض الأخبار - متمحضا في أمر الآخرة ولا
في أمر الدنيا، كبعض الأسلاف من الرسل والأنبياء (عليهم السلام)، بل هو الحد
الوسط والميزان المقتصد، فلا عيسوية ولا موسوية، بل هي الحقيقة
المحمدية البيضاء (صلى الله عليه وآله وسلم)، فكيف يمكن اختصاصه (صلى الله عليه وآله وسلم) بهداية
الناس من الجهالة والضلالة إلى الآخرة وشؤونها.
بتوهم أن الناس والغرائز الموجودة فيهم، كافية لاصلاح حال
البشر، ولا يحتاج الانسان بما هو مدني بالطبع إلى رسول متكفل
بالقوانين السياسية؟!
3

فهذه الشبهة واهية، ولا يمكن أن يعتقد أحد من المسلمين بأن
الاسلام دين كافل لأمهات الأمور الراجعة إلى سعادة البشر، من حيث
تبعات الأعمال من العقوبات] والمثوبات وحسب [، فالأنبياء أطباء
النفوس، والسلاطين أمراء وحكام على الخلق، وكافلون لأمور الناس،
وعليهم نظم البلاد والعباد. بل الاسلام دين متكفل بجميع المصالح
والمفاسد على حد الاعتدال.
ولا نبالي أن نقول: إن الاسلام يضاد الدنيا، ودين يوجه الناس
إلى الآخرة توجيها أشد من التوجيه إلى الدنيا، لعدم احتياج
البشر الشيطاني المادي - بالطبع والطبيعة - إلى توجيهات مادية،
ويكفي للتوجهات الدنيوية، الغرائز والقوى المودوعة في جبلتهم
وسجيتهم، فالآخرة أحوج إلى المنبهات والموجهات قطعا وطبعا.
الرسول الأعظم كان متكفلا لجميع الأمور برمتها
ولكن ليس هذا يرجع إلى أنه غير قابل لأن يتصدى العائلة
البشرية - في أمر دنياهم وما يحتاجون إليه - لتشكيل الحكومة
والنظام العسكري والبلدي، أو غير مأمورين بذلك، حتى يتوهم أن اللازم
من ذلك ما يتوقف عليه الهداية إلى دار الآخرة.
وبعبارة أخرى: أن الزعامة وتشكيل الحكومة كان لبسط الاسلام
وتعريفه إلى المجتمع في ذلك اليوم، وإصغاء الآخرين إلى يوم
4

القيامة، حتى لا يزول بزوال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهو (صلى الله عليه وآله وسلم) قد تكفل بهذه الأمور
السياسية لحفظ الديانة من الاندراس، ولو كان الاسلام يمشي في البلاد
بموافقة ملوك الأمصار، لما كان (صلى الله عليه وآله وسلم) ينظم الحكومة ويشكل الزعامة
والسلطنة، فإن هذا التوهم باطل غير سديد جدا، لما نجد في القوانين
الاسلامية ما يفي بسعادة البشر في جميع شؤونه وفي كافة أموره، ضرورة
أن الاسلام له قوانين في شتى المراحل والمنازل، وفي مختلف الجهات
المرتبطة بالأفراد والآحاد وبالمجتمعات والجماعات، فلا يغادر صغيرة
ولا كبيرة إلا وقد أحصاها، فهو دين الدنيا والآخرة.
وليس كلمة الدين - كما يتبادر منه بدوا - ما كان يوجه البشر إلى
الآخرة محضا، بل الدين هي السياسة العظمى الكافلة لجميع أنحاء
السعادات الجزئية والكلية، الدنيوية والأخروية، ولذلك نجد أن
الاسلام جامع شتات المسائل الروحية والمادية والفردية
والاجتماعية، بخلاف سائر القوانين والملل، فإن قوانينهم الأساسية
قاصرة عن الأحكام الفردية والروحية، بل هي قواصر حتى في أمور
دنياهم، والتفصيل يطلب من مواقف أخر.
حول أن التوصية وجعل القيم من شعب الرسالة العامة
ولعمري إنه إذا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خاتم الرسل، ولا يأتي من بعده
نبي ولا رسول، وكان شغل الرسول الأعظم الختمي (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا الذي
5

أسمعناك، فهل يمكن أن نلتزم بأن يكون دينه بلا وصي ولا قيم في مختلف
الأمصار والأعصار، لا في عصر خاص دون عصر؟! أفنحتاج إلى الدليل
اللفظي على لزوم تصديه لما يلزم من إهماله الهرج والمرج، بالأمر
وبإصدار الفرمان بتشكيل إحدى الحكومات الممكنة من المشهورات
في هذا العصر، وهي الحكومة الجمهورية أو المشروطة أو
الاستبدادية أو غير ذلك من أنحائها؟!
أفلا يكون عليه - فرارا عن الفساد في البلاد على العباد - تعيين
الوظيفة بنحو الكلي للمسلمين وزعمائهم وأكابرهم؟!
فهل يوجد عاقل في العالم لا يقول بالتصدي لمثل ذلك، بعد ما يجد
قول الله تعالى: (إنك ميت وإنهم ميتون) (1)؟!
أو ترضى أن تقول: إن الله تعالى تقضي رحمته الواسعة وعفوه
الكريم ولطفه العميم ببعث الرسل وإنزال الكتب، ولا تقضي بأزيد من
ذلك، وهو أن يأمر الرسول بتعيين الوظيفة للمسلمين في طول الدهر
ومدى الأيام، ولا سيما بعد كونه خاتم الرسل والأنبياء، وبعده ينقطع
الوحي والتنزيل، أم العقل السليم والذهن المستقيم لا يصطفي ذلك،
ولا يحتمله في حقه تعالى، فإن ذلك من شعب تلك الرسالة العظيمة،
ومن أغصان هذه الشجرة الطيبة.
أو ترضى أن يتكفل بأمر الاسلام، الذي أهريق لبنائه دماء الأفاضل،

1 - الزمر (39): 30.
6

وهتك لأجله أعراض الأماجد في جميع الأزمان، لا الزمن الخاص
المحدود بالحدود المتناهية - ولا سيما إذا تناهت إلى خمسين ومائتي
عام على المذهب الحق - أم يجب على الله تعالى، كما يجب عليه إرسال
الرسل وإنزال الكتب، أن يتكفل بعائلة البشر دينا ودنيا بعد ما ينقطع
الوحي إلى الأبد. وهذا معنى ما اشتهر عنا: أن العلماء في هذه الأمة
كأنبياء بني إسرائيل (1)، لأنهم أنبياء عن الرسول الأعظم بعد وصول الكتاب
الإلهي إليهم، والمتون النبوية لديهم، وإلى هذه البارقة الإلهية يشير
ما في الأحاديث: أن الفقهاء أمناء الرسل (2)، وأنهم حصون الاسلام (3)...
وهكذا.
فلعمري إن هذه المسألة لا ينبغي أن تعد من النظريات، بعد الغور
فيما هو السبب لبعثة الأنبياء والرسل، ما هو سر لطفه تعالى بالرعية،
ولأجل وضوح المسألة لا يوجد في الكتاب والسنة ما يفي - حسب
المصطلحات الأخيرة - بإثبات هذه الحكومة الكلية لغير
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أو من يحذو حذوه، لما يشكل تارة في سنده، وأخرى في
دلالته على سبيل منع الخلو.
فتحصل حتى الآن: أن لزوم ذلك على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من الواضح
والبديهي، وإن كان المسلمون مختلفين في ذلك الأمر من بعد الرسول

1 - عوالي اللآلي 4: 77 / 67، بحار الأنوار 2: 22 / 67.
2 - الكافي 1: 46 / 5، عوالي اللآلي 4: 59 / 2، 77 / 65.
3 - الكافي 1: 38 / 3.
7

الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكنهم متفقون في حاجة الاسلام والمسلمين إلى
الحكومة، ولكنهم اعتقدوا أن الحكومة جمهورية مستبدة باستبداد
القانون، لا الفرد والشخص.
والمذهب المنصور يقول: بأن الرسول الأعظم أظهر كمال رسالته
بتعيين الأمير العزيز علي بن أبي طا لب - عليه آلاف التحية والصلوات
والسلام - وهو ليس من خصائصه، بل ذلك حكم الله تعالى، وإظهار لمن
نصبه الله تعالى، وهكذا الأمر في سائر المواقف، فإنه (ما ينطق عن
الهوى * إن هو إلا وحي يوحى) (1).
المقدمة الأولى: حول أن الأنبياء والرسل كافلون لأمر الدين والدنيا
إذا عرفت وأحطت بما تلوناه عليك، وعلمت أن الخاتمية تقتضي
التصدي لنصب القيم والرئيس والسائس بين العباد، لصون البلاد عن
الفساد، وإلا فيحتاج البشر إلى رسول آخر، يتكفل أمر معاشهم ومعادهم
فيما يحتاجون إليه حسب شرائط الحياة في الأزمنة الآتية، كما نجد
اختلاف الأمم في ذلك من حيث رقي الشؤون الدنيوية والمظاهر
المادية، فلا نحتاج بعد ذلك إلى إقامة البراهين العقلية والنقلية
حول المسألة.
ولكن لما كان الناس والفقهاء مختلفي الفهم والادراك، فكم من

1 - النجم (53): 3 و 4.
8

فقيه جامع لعلوم القرآن، ولا يدرك حقيقة الاسلام، وكم من رجل لا يعلم
اجتهادا مسألة من المسائل الشرعية، ولكن الله فتح قلبه لادراك لزوم
مثل تلك الحكومة في الأديان، وإلا فيصبح الديانة مغفولة، وتصير من
الأمور التشريفاتية، كما نجد ذلك في بلاط روحانيي المسيح وفي كليسا
وغيره، وما هذا إلا لايجاد الخلل والفصل بين الدين والدنيا، ولكن كما
أن لفظتي الدين والدنيا متقاربتان جدا، كذلك هما في هذه النشأة، قريبان
متشابكان متداخلان لا ينفك أحدهما عن الآخر.
وهذا لا ينافي ضدية الاسلام مع مظاهر الدنيا، لما رأينا أن رئيس
هذه الحكومة، وهو الرسول الأعظم والأمير المعظم، كانا يرأسان
ويتصديان لأمر السياسة في البلاد والحكومة على العباد، ولكنهما
معرضان عن الدنيا أشد الاعراض، وكانا في غاية الانزجار ونهاية التنفر
عن شؤونها والاقبال إليها، فإذا كان رئيس الحكومة على مثالهما، يتمكن
من أن يتقدم في أمر المملكة وبسطها بمدة قصيرة وعدة يسيرة، وإنما كانوا
في صدر الاسلام بسطوا الديانة في كافة أقطار العالم، حتى وصلت
صولتهم إلى مضيق جبل طارق، فأصبح الاسلام في القارات الثلاث
المعروفة في ذلك العصر: القارة الأوروبية والإفريقية وآسيا، فهل حدث
هذا إلا لما كان رئيس الاسلام والحكومة يعيش على الاقتار والتقتير، ولا
يعيش كعيش المسرفين والمترفين والمبذرين وكأهل الدنيا والشهوات،
ولا يمضي عليه ساعة إلا وهو فيها يهتم بأمور المسلمين والإسلام، فإذا
9

كانت وجهة النظر إلى هؤلاء الأعاظم، فلا يتمكن البشر عن التخطئ عن
هذه السيرة والطريقة.
فبالجملة: أصل لزوم هذه الحكومة، واحتياج الانسان المطبوع على
التمدن إلى التشكيلات بعرضها العريض حسب الاحتياجات، مما
لا ريب فيه ولا شبهة تعتريه، ولا أجد مخالفا في ذلك الأصل بحسب
الكبرى الكلية، إلا من يرى أن أساس البعثة والأنبياء هداية البشر إلى
الآخرة، ولكن أمر الدنيا محول إلى أهلها وسلاطينها، ولا يصح لأحد من
الأنبياء التدخل في هذه النشأة.
ولو رأينا نبيا يصنع هكذا، فإما نتهمه أو نحمل فعله على الصحة،
بدعوى احتياج الهداية وبسطها في الجملة إليها، فإذا بلغ إلى آذان
الناس تلك الرسالة والنبوة، فلا حاجة بعد ذلك إليها.
وأنت خبير بما فيها، ولا بأس بالإشارة الاجمالية إلى بعض هذه
الأدلة العقلية واللفظية، وفي طي هذه الأدلة يظهر صغرى هذه الكبرى
المسلمة، وأن من يصح له التصدي لا بد وأن يكون كذا وكذا، فانتظر.
المقدمة الثانية: المشتملة على الأصل الآخر في هذه المسألة
نشير إليها إجمالا، لاحتياجها - كما سبق - إلى رسالة مستقلة،
وهي خارجة عما نحن بصدده هنا، من إثبات ولاية الفقيه على الأيتام
والأطفال، ولكن لا بأس بالايماء إليه، فنقول:
10

لا شبهة في اختلاف المعروفات عقلا وشرعا، وتفاوت الخيرات
كتابا وسنة، فمن المعروفات والأمور الخيرة ما يكون معروفا من شخص
خاص أو في حالة خاصة، فيكون واجبا في تلك الأحوال وعلى تلك
الآحاد والأفراد، وذلك مثل كثير من الواجبات الفردية، مثلا لبس
الإبريسم والذهب محرم، وترك معروف ولازم، ولكنه على المكلف،
ويجوز ذلك للأطفال والصغار، ولا يجب على الأولياء خلعهما عنهم، لعدم
معروفية تركه، وعدم بلوغ ذلك إلى الخيرات المطلقة، وإلى ما لا بد
من تركه من أي شخص كان، أو في أية حالة كانت، وإذا ارتقى النظر إلى
الدرجة الوسطى من المعروفات والخيرات، نجد أن ذلك واجب ولا بد
من إيجاده أو إعدامه، كما إذا أراد الصغير أن يشرب الخمر، أو يزني، وغير
ذلك - إذا أمكن له ذلك - وهكذا مما يشابهه، فإنه وإن لا يجب عليه شئ
ولا يحرم، ولكن على الأولياء المنع عنه، لما علم من الشرع مبغوضية
أصل وجوده، لا من شخص خاص أو في حالة خاصة.
وإذا كان شئ واجب الوجود في نظر الشرع، أو واجب الترك،
ولا يتمكن الشرع من تكليف كل أحد به، كالأمثلة المزبورة، فعليه
تكليف الآخرين بالمحافظة والمواظبة على الخير المزبور والمعروف
المذكور، حتى ينسد باب العدم عليه، ويصل المولى إلى مرامه ومقصده
بتلك الطريقة قهرا وطبعا.
وربما يكون الخير والمعروف واجبا ولازم الوجود، ولا يلاحظ
11

قياسا إليه شئ يزاحم ذلك، بل جميع المزاحمات] تبعد [وتطرد، ويكون
وجوده في اللزوم، بالغا إلى حد يتوصل المولى في ذلك إلى كل ما
أمكن، وذلك مثل النظم والمنع عن الهرج والمرج، والممانعة عن
اختلال نظام الأعراض والأموال والنفوس، فإنه بصراحة العقل مطلوب
لكل أحد كان ذا عقل سليم وفهم مستقيم بالضرورة القطعية، ولذلك تجد
جميع الحكومات - في جميع الأعصار والأمصار - متصدين لابراز ذلك
والتباهي به، وهذا هو أساس] التقدمات في الوصول إلى المرام
والمقصود في العالم الفعلي والحالي، كما هو الظاهر البارز.
وهذا الأصل - وهو حفظ سياسة المدن ونظم البلاد ودفع الفساد
عن عوائل البشر - مورد] اهتمام [الأنبياء والمرسلين وسائر الحكومات،
ولا يمكن أن يتمكن أحد في مرامه، إلا بإظهاره أنه يريد تنفيذ هذا الأصل،
ويشتهي بناء هذا المقصد، وكانوا من السلف إلى الخلف يتهم كل الآخر
بأنه غير لائق لمثله. وإن الناس لا يعيشون في مأمن صحيح،
ولا يستريحون راحة طيبة، فوجود النظم البلدي والمملكتي كوجود
النظم الفلكي والافاقي متلازمان، فكما أن الباري عز اسمه لمصالح
نظام الجمع والكياني، لا يلاحظ القضايا الشخصية والفردية، وتفنى
مصالح الأفراد حذاء مصالح الجماعة، فينزل من السماء ماء، فينبت من
الأرض نباتا حسنا وإن يتضرر به العقار والبناء، فإنه في قبال ذلك ملحق
بالأعدام، كذلك في النظام الجزئي البلدي والمملكتي والأرضي
12

والاعتباري، يراعى ذلك الأصل، ويلاحظ مصالح المجتمع وتفنى
المصالح الفردية للعباد، فأمره التكويني والتشريعي على مقياس
واحد، وهذا هو المشاهد بالبرهان والوجدان، وليس من القياس أو
الاستئناس بالاستحسان والاستذواق، كما لا يخفى على ذي مسكة، فضلا
عن العاقل.
وثمرة هذا الأصل: أن الواجبات الشرعية النظامية في الاسلام،
المجعولة لسياسة البلدان، والمحافظة على الناس أموالا وأعراضا،
مما لا بد من إجرائها، وهي - بحسب ما يظهر - واجبة الاجراء من غير مراعاة
حال خاص أو شخص. نعم لما كان تفويض أمرها إلى كل أحد مستلزما لما
يفر منه، وهو الاختلال في النظم، فعليه مراعاة الأصل المزبور في تعيين
المنفذ والمجري، فيحول الأمر إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والولي (عليه السلام) أو غيرهما
إلى منتهى عمر الدنيا والدين، فمن ذلك الأصل يعلم لزوم وجود من يتكفل
أمر السياسة في المدن ويتصدى لمحافظة البلدان والنظام عن الفساد
والاغتشاش، وحيث إن الذي خلق السماوات والأرض هو العالم
العادل، فيبعث العالم العادل إلى العباد كالرسل، وينزل الكتب
المشتملة على الأحكام العادلة في الرعية، ويعين عليهم تعيين العالم
العادل في الرعية، خاصا كالأولياء (عليهم السلام)، وعاما كالفقهاء، حسب ما يأتي
تفصيله وإثباته بالأدلة اللفظية.
فلو قام هؤلاء العدول والفقهاء على المعروف المزبور اللازم
13

وجوده، حفظا للحدود والثغور والنفوس والدماء والأعراض والأموال
فهو، وإلا فلا يكون المعروف متروكا، وعند ذلك تصل النوبة إلى ما أريد
أن أقول: ولا يصل إليه فهم الآخرين وإني أذاكره لعل الله يحدث بعد ذلك
أمرا.
14

الدليل العقلي للمسألة
حول أن النظام التشريعي والتكويني بمثابة واحدة
وهو أن تخلف الإرادة التكوينية عن التشريعية، بتسلط
الجائرين المحافظين في الجملة على الرعية والناس، فإن الميسور
لا يسقط بالمعسور، ضرورة أن النظام الكياني والافاقي، ليس وحده
واجبا، بل النظام في جميع المراحل الكلية والجزئية لازم وواجب،
فإن تمكنت الإرادة التشريعية من بعث الفقهاء العدول - مثلا - إلى
تشكيل النظام الصحيح - الذي في ظله وتحت ظلاله تحفظ
النواميس البشرية - فهو، وإلا فلا بد من انبعاث السلاطين الآخرين، فإن
الحكام قوام العدل في الجملة، ولعل إليه يشير ما روي عن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في كتب الخاصة والعامة: السلطان ولي من... (1)، هكذا

1 - تذكرة الفقهاء 2: 592، الحدائق الناضرة 23: 239، رياض المسائل 2: 81، سنن
أبي داود 1: 634 / 2083، سنن الترمذي 2: 280 / 1108، سنن ابن ماجة 1:
605 / 1879 - 1880.
15

في العوائد (1).
ولكن غير خفي أن ذلك لا يورث معذورية الفقهاء العدول عن
إحداث تلك الحكومة الاسلامية الجامعة، لأنهم على الواجب
والمعروف المذكور] أقدر [إلى تنفيذه أتم وأثبت، فهم الحريون بذلك.
وثمرة هذا الأصل أيضا صحة المراجعة - على نحو الترتب - إلى
هؤلاء الفساق والطواغيت، إذا استلزم عدم الرجوع اختلال النظام
وإيجاد الفساد. وغير خفي أن ذلك لا يستلزم معذورية الجائرين في
التصدي، فالفقيه القاصر في تشكيل مثل تلك الحكومة غير معذور إذا
تمكن، والجائر المتصدي أيضا غير معذور.
ولكن التخلف المزبور واجب، ولا يستلزم عذر القاصر والمقصر،
لما تحرر منا في الكتب العقلية: من كيفية الجمع بين الإرادتين
التشريعية والتكوينية، وبين الإرادتين الإلهية الأزلية والفاعلية
الحادثة المباشرة.
ومما يترتب على هذا الأصل اندفاع شبهة وعويصة كنا نوردها على
الأساطين: وهم في أمثالها غير متوغلين ولا واردين.
حول عويصة في مسألة جعل الولاية العامة عقلا
وهي أن الإرادة التشريعية القانونية يمكن أن تترشح مع التخلف
في الجملة، ولكن كيف يعقل ترشحها مع التخلف المطلق؟

1 - عوائد الأيام: 534.
16

أي مثلا: إذا أراد الله تعالى بالإرادة التشريعية بعث العباد نحو
الصلاة وترك شرب الخمر - مثلا - وكان الناس من أول الخلقة إلى آخر
الزمن، يتركون الصلاة ويشربون الخمر، فإن قلنا: بأن ما يصنعه العباد
خارج عن حكومته تعالى، كان هذا التشريع أيضا غير ممكن، لأنه لا
يترشح منه الإرادة الجدية مع كونه عالما بذلك، لأنه من قبيل تكليف
الحجر بعد العلم بعدم الانبعاث نحو المبعوث إليه.
وإن قلنا: بأن إرادة العباد ظل إرادته فالأمر أشد إشكالا وأصعب
جدا، فكيف يمكن تشريع هذا القانون الكلي؟
والجواب: أن الإرادة التشريعية الباعثة لعباده الصالحين إلى
تشكيل الحكومة، سبقت الإرادة التكوينية، فكان بين الإرادتين ترتب،
وهو أنه تعالى يرى وجوب وجود النظم في العائلة البشرية، ويرى
كمال ذلك بتصدي الفقهاء العدول - مثلا - فيأمرهم بذلك، وإذا كان يرى
تخلفهم عن ذلك اختيارا مع القدرة عليه، يريد أن يتصدى الآخرون لهذا
الشأن والشغل.
ولعمري إن الشبهة عويصة، ولا تنحل بمثله، فلتتدبر لعل الله يهديك
ويهدينا.
وللمسألة مقام آخر، لاحتياجها إلى طور آخر من البحث خارج عن
وضع الكتاب. والله هو المستعان.
والذي يمكن أن يقال: هو أن ما أشير إليه: من امتناع ترشح الإرادة
17

وتحققها إذا علم المريد عدم انبعاث العموم، يختص بالإرادة التشريعية
التكليفية، لا الوضعية، فإنها أخف مؤونة، ففيما نحن فيه يدور البحث
حول الولاية العامة والسلطنة الكلية التي من الأمور الاعتبارية،
فيمكن ذلك لعدم الحاجة فيه إلى الانبعاث.
وأنت خبير بأن اعتبار الأحكام الوضعية يتقوم بالأثر المطلوب
منه، وهو تنفيذها وإجراؤها، فإذا علمنا أنه يتخلف دائما عن التنفيذ، فكيف
يعقل تحقق إرادة جعلها؟! فالعويصة باقية بعد.
لنا أن نقول - كما تحرر منا في الأصول (1) في مواقف كثيرة - إن عدم
ترشح الإرادة من قبل المولى على وجهين:
أحدهما: أن يكون مستندا إلى عدم المقتضي، فهو لا يستتبع
التكليف العقلي، ولا الثواب والعقاب.
ثانيهما: أن يكون مستندا إلى وجود المانع وفقد الشرط القائم
بالطرف، وهو عصيان الناس وكفرهم وعدم انبعاثهم وأمثال ذلك، فإن ذلك
لا يمنع عن ثبوت الإرادة والطلب اللازم مراعاته، المورث للتكليف عقلا
وللعقاب والثواب، فإن الاطلاع على غرض المولى ومطلوبه يوجب
التبعية، فإذا كان بمقتضى الدليل اللبي أمر الخلافة مفوضا إلى طائفة،
وتبين أن ذلك مطلوب المولى لجماعة، فعليهم القيام بهذا المطلوب،
وعلى الآخرين القيام بمقدماته، لأنه مطلوب له تعالى، ومعروف وجب

1 - تحريرات في الأصول 2: 30 - 34.
18

وجوده بين الناس وإن كان المكلف بالمباشرة الفقيه، ولكن على
الرعية ترتيب الأمور على وجه يتمكن هو من التصدي لذلك، لما به
يحصل ما هو مورد الغرض والمقصود. فافهم واغتنم.
وقد خرجنا عن طور الكتاب، فليعذرني إخواني إن شاء الله.
إذا تبين هاتان المقدمتان فلنشرع بجهات البحث في هذه المسألة:
الجهة الأولى: حول الدليل اللفظي للمسألة
وهو على طوائف نذكر مهماتها:
تنبيه: قد عرفت في ابتداء مسألة ولاية الأب والجد (1): أن الأصل عدم
ثبوت الولاية لأحد على الآخر، وعدم نفوذ تصرفات أحد في سلطان
الآخرين. قد خرجنا عنه حسب البناءات العقلائية الممضاة في
الطائفة الأولى وحسب الأدلة العقلية في الطائفة الثانية.
وحيث تحتاج تلك العقليات إلى التأييد من ناحية النقليات،
فلا بد من الإشارة إليها مع رعاية الاختصار. وقبل الورود فيها لا بأس
بالإشارة إلى أمر:
وهو أن هذه الولاية الكلية - التي أردنا إثباتها للحاكم الاسلامي
والفقيه الجامع للشرائط - غير الولاية الكلية الإلهية التي تحررت
لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وللأئمة المعصومين (عليهم السلام) ولفاطمة المعصومة

1 - مما يؤسف له فقدان هذه المباحث من كتاب البيع.
19

الزهراء - عليها سلام الله تعالى - فإنها طور آخر من الولاية، ربما يرجع
إلى ما لا أذن سمعت ولا عين رأت ولا خطر بقلب بشر، فلا ينبغي الخلط
بين الأمور التكوينية والاعتبارية التشريعية.
الطائفة الأولى: الآيات الكثيرة الشريفة
منها: قوله تعالى: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر
منكم) (1)، ولمكان تصدرها بقوله: (يا أيها الذين آمنوا) يكون الخطاب
شاملا للمؤمنين في عصر الغيبة، ولأنه - صلوات الله عليه - غائب لا يمكن
إطاعته، يتعين أن يكون مصداق أولي الأمر شخصا آخر، والقدر المتيقن
منه هو الفقيه الجامع، فإذا تصدى الفقيه لأمر لا بد من أن يكون نافذا،
قضاء لحق وجوب طاعته.
وغير خفي: أن ما ورد من حصر] أولي الأمر [بالأئمة
المعصومين (عليهم السلام) (2) فهو محمول في مقام الاجراء، لا التشريع، أي مع
وجودهم لا ينبغي لأحد آخر أن يتصدى لاجراء الأمور وتنفيذ الأحكام، وأما
مع فقدهم فيؤخذ بعموم الكتاب.
اللهم إلا أن يقال: لو سلمنا جميع المقدمات فلا يثبت موضوع الإطاعة
بهذه الآية، فإن الحكم لا يعقل أن يتصدى لحدود موضوعه، فإن الآية

1 - النساء (4): 59.
2 - الكافي 1: 276 / 1.
20

دلت على وجوب الإطاعة، وأما أن الفقيه هل يجوز له أن يأمر بكذا وكذا،
حتى يحصل موضوع الآية بالنسبة إلى المؤمنين، فهو يحتاج إلى
الدليل. نعم إذا ثبت أن للفقيه أن يأمر بكذا، فعلى الأمة الاسلامية - بل على
الناس مثلا - عدم عصيانه.
نعم يمكن الدعوى لقاعدة الملازمة المزبورة في أول كتاب
البيع (1) ليصح العقد المشكوك صحته بعموم (أوفوا بالعقود) (2)، فكما أن
هناك يكشف عموم الحكم عن صحة البيع شرعا، كذلك للفقيه أن يفهم من
عموم وجوب الإطاعة صحة الأمر وجواز النهي ونفوذ التصدي للأمور
في حق الآخرين.
وتوهم: أن أولي الأمر تمثل الطغاة والفسقة والسلاطين
الجائرين، ولا يمكن الأخذ بعمومه، فيكون الكتاب من هذه الجهة
مبهما، في غير محله، لأن الضرورة قاضية بأنهم لا يصلحون لذلك، فكيف
يمكن إيجاب إطاعة الفاسق الفاجر على المؤمن الصالح؟!
اللهم إلا أن يقال: هذا في حد نفسه قبيح، ولكنه بالقياس إلى حفظ
النظام والعدل في المجتمع حسن، فيكون الأمر مع وجود الفقيه
المتصدي مفوضا إليه، ثم بعد ذلك إلى الفساق، كما قيل ويأتي.
ومنها: قوله تعالى في سورة المائدة: (إنما وليكم الله ورسوله

1 - تحريرات في الفقه، كتاب البيع، المقصد الأول، الجهة الثانية، المبحث الأول من
مباحث المعاطاة.
2 - المائدة (5): 1.
21

والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون)، فانظر إلى
ما في ذيل هذه الآية من الآيات الأخر: (ومن يتول الله ورسوله والذين
آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون * يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا
دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله
إن كنتم مؤمنين) (1).
ولمكان وقوعها في سورة المائدة المصدرة بقوله: (يا أيها
الذين آمنوا) لا يختص الخطاب بطائفة الموجودين، ولأجل أن
المخاطبين هم المؤمنون، والولي في الآية أيضا يكون الله ورسوله
والمؤمنين كافة، فلا بد من الأخذ بأن المؤمنين في الآية طائفة
خاصة، وإلا يلزم ولاية كل أحد على كل أحد، وتلك الطائفة لا بد وأن
تكون الأئمة المعصومين، أو من يشابههم في الطريقة المنطبق عليه
مفهوم الآية ومفادها، وهم الفقهاء العدول أو العدول، والفقهاء القدر
المتيقن منها.
وأما حمل الولاية على المحبة فهو خارج عن طريقة الانصاف،
كحمل كلمة أولى في حجة الوداع على الولاء والمحبة، ولا سيما بعد
تذييلها بقوله تعالى: (فإن حزب الله هم الغالبون) فإن منه يعلم أن الآية
في مقام تشكيل الحزب، وجعل رئيس الحزب، ومن يقود أفراد الحزب،
وفي مقام ذكر خاصية الحزب والغلبة والتفوق.

1 - المائدة (5): 55 - 57.
22

وتوهم: أنها في مقام ردع الناس عن أهل الكتاب والكفار، فلا
يشمل المقصود، كما يظهر من ذيل الآية الكريمة، في محله، إلا أنه يفيد
الأمر الآخر، وهو أن من لا يكون واردا في صدر الآية، يعد من الكفار في
ذيلها، فتدبر جيدا.
ومنها: قوله تعالى في سورة المائدة: (لولا ينهاهم الربانيون
والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون) (1) ولمكان
كونها في مقام تعيير الرباني والحبر والعلماء في الأمم، يعلم أن وظيفة
العلماء والفقهاء من كل الأمم ذلك، وهذا مما لا يمكن إلا بتشكيل
الحكومة، وكون الاختيارات الكلية بيد الفقيه.
وبعبارة أخرى: قضية ما تقرر في محله: أن الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر من الواجبات الفردية كالصلاة والصوم، ولكنها كفائية
كصلاة الميت.
ولكن الذي ينعقد لي قوته: أنها من الواجبات السياسية ويكون
وظيفة الحكومة أولا، ولا بد من تشكيل الوزراء للأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر، كما هو الآن موجود في بعض البلاد المنتسبة إلى الاسلام.
وهذا هو وظيفة الربانيين والأحبار، ولا معنى لذلك إلا بعد ذاك، لعدم
إمكان التصدي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالنسبة إلى
الجائرين والسلاطين الكفار والفساق، إلا مع وجود المعدات

1 - المائدة (5): 63.
23

والمناسبات التي لا تنجر إلى الأضحوكة والاستهزاء، فإن الداني
لا يتمكن من أمر العالي، ولا يكون ذلك عند الأعلام أمرا، بل النهي والأمر
لا يتحققان إلا مع السيطرة والحكومة والاستعلاء أو العلو، كما قيل وقلنا
في محله (1).
بل في قوله تعالى: (وقولهم الإثم) نوع شهادة على أن طرف
النهي، لا يكون في الآية الأشخاص المتعارفين، وهكذا يشهد لذلك بعض
الآيات الأخر المتقدمة عليها، فراجع وتأمل.
ومنها: قوله تعالى في سورة النساء: (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم
آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد
أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا) (2).
فانظر إلى الآيات السابقة على هذه الآية:
(إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن
تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا * يا أيها الذين
آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شئ
فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن
تأويلا) (3).
فإذا أحطت خبرا بما مضى في ذيل الآية الأولى من عموم الحكم

1 - كفاية الأصول: 83، تحريرات في الأصول 2: 11 وما بعدها.
2 - النساء (4): 60.
3 - النساء (4): 58 و 59.
24

بالنسبة إلي أولي الأمر، تكون هذه الآيات ظاهرة في أن المنازعة
والتحاكم إلى الطاغوت يكون في الجهات المختلفة المتصدي لها
الولاة والقضاة، ولا يختص بالثانية حتى يكون أولو الأمر مرجعا للقضاء،
دون سائر الأمور المتنازع فيها.
وتوهم: أن ولاية أولي الأمر غير معلومة، لعدم تكراره في ذيل الآية
الثانية، غير مفيد بعد النص، بل الآية الأولى مخصوصة بالحكام بين
الناس، وقضية عمومه عدم اختصاصها بعصر دون عصر، فيكون وظيفة
كل حاكم الحكم بالعدل، فمنه يعلم نفوذ حكمه إذا كان بالعدل، والقدر
المتيقن من بين النافذين هم الفقهاء العدول.
وغير خفي: أنه يمكن الشبهة في دلالة كل واحدة من الآيات، إلا
أنها لمكان احتفافها بتلك القرينة الخارجية اللبية يتم بها المطلوب.
الطائفة الثانية: المآثير المستدل بها على المسألة
والدالة على أن العلماء ورثة الأنبياء:
الكافي في باب صفة العلم وفضله: محمد بن يحيى، عن أحمد
ابن محمد بن عيسى، عن محمد بن خالد، عن أبي البختري، عن أبي
عبد الله (عليه السلام)، قال: إن العلماء ورثة الأنبياء، وذلك أن الأنبياء لم يورثوا درهما
ولا دينارا، وإنما أورثوا أحاديث من أحاديثهم، فمن أخذ بشئ منها فقد أخذ
25

حظا وافرا (1) الحديث.
وعلى أنهم الأمناء: ففي الباب المزبور عن محمد بن سنان، عن
إسماعيل بن جابر، عنه (عليه السلام)، قال: العلماء أمناء، والأتقياء حصون،
والأوصياء سادة (2).
وعلى أنهم المنار: كما في الباب المزبور في رواية أخرى:
العلماء منار (3) بالسند السابق ظاهرا.
وعلى أنهم أمناء الرسل: فيه عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن
النوفلي، عن السكوني، عنه (عليه السلام)، قال: قال رسول (صلى الله عليه وآله وسلم): الفقهاء أمناء
الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا. قيل: يا رسول الله وما دخولهم في الدنيا؟ قال:
اتباع السلطان، فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم (4).
وعلى أن الرئاسة لا تصلح إلا للعلماء الصالحين: في
الكافي الباب المذكور عن محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان،
عن حماد بن عيسى، عن حريز عن ربعي بن عبد الله، عمن حدثه، عن
أبي جعفر (عليه السلام)، قال: من طلب العلم ليباهي به العلماء، أو يماري به
السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس، فليتبوأ مقعده من النار، إن الرئاسة لا

1 - الكافي 1: 32 / 2.
2 - الكافي 1: 33 / 5.
3 - مذكورة في ذيل الحديث السابق.
4 - الكافي 1: 46 / 5.
26

تصلح إلا لأهلها (1).
والدالة على أنهم حصون الاسلام: ففي رواية علي بن أبي حمزة
البطائني، عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام)، وفيها تعليل بقوله: لأن
المؤمنين الفقهاء حصون الاسلام، كحصن سور المدينة لها (2).
وعلى أنهم خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ففي العيون قال: حدثنا
أبو الحسن محمد بن علي بن الشاه الفقيه المروزي بمرو الرود،
قال: حدثنا أبو بكر بن محمد عبد الله النيشابوري، قال: حدثنا أبو القاسم
عبد الله بن أحمد بن عامر بن سليمان الطائي، قال: حدثنا أبي عام (260)،
قال: حدثنا علي بن موسى الرضا (عليه السلام) عام (194).
وأيضا حدثنا أبو منصور أحمد بن إبراهيم بن البكر الخوري
بنيشابور، قال: حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن هارون بن محمد، الخوري، قال:
حدثنا جعفر بن محمد بن زياد الفقيه الخوري، قال: حدثنا أحمد بن عبد الله
المروي الشيباني، عن الرضا (عليه السلام).
وأيضا حدثني أبو عبد الله الحسين بن محمد الأشناني الرازي العدل
ببلخ، قال: حدثنا علي بن محمد بن مهرويه القزويني، عن داود بن سليمان
الفراء، عن علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، قال: حدثني أبي، عن آبائه، عن
علي بن أبي طا لب (عليهم السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (3).

1 - الكافي 1: 47 / 6.
2 - الكافي 1: 38 / 3.
3 - عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 24 / 4.
27

ثم أورد الأحاديث الكثيرة البالغة إلى قريب من مائتين، وفي كل
منها يقول: بهذا الاسناد... إلى أن قال: وبهذا الاسناد، وقال: قال رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اللهم ارحم خلفائي ثلاث مرات. قيل له: ومن خلفاؤك؟ قال:
الذين يأتون من بعدي، ويروون حديثي - أحاديثي وسنتي، فيعلمونها
الناس من بعدي (1).
وفي الفقيه قال: قال أمير المؤمنين: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اللهم
ارحم خلفائي. قيل: يا رسول الله... - إلى أن قال -: يروون حديثي
وسنتي (2).
وفي معاني الأخبار عن أبيه، عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن
النوفلي، عن اليعقوبي، عن عيسى بن عبد الله العلوي، عن أبيه، عن جده،
عن علي (عليه السلام) (3).
وفي المجالس عن الحسين بن أحمد بن إدريس، عن أبيه، عن
محمد بن أحمد، عن محمد بن علي، عن عيسى بن عبد الله، عن أبيه، عن
آبائه، عنه (عليه السلام) (4) مثله.
والدالة على أن الفقهاء والقضاة بالعدل هم أوصياء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):

1 - عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 37 / 94، وسائل الشيعة 27: 92، كتاب القضاء، أبواب
صفات القاضي، الباب 8، الحديث 53.
2 - الفقيه 4: 302 / 95.
3 - معاني الأخبار: 374 / 1.
4 - الأمالي، الصدوق: 152 / 4.
28

وهذه كثيرة مذكورة في أبواب صفات القاضي في الوسائل باب 3، وفيها:
أنه قال أمير المؤمنين لشريح: يا شريح قد جلست مجلسا لا يجلسه إلا نبي
أو وصي نبي أو شقي (1)، ولو كان قابلا للتخصيص لكان شريح أن يقول: أو
فقيه، فيعلم منه أن الفقيه القاضي وصي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والوصي مفوض
إليه الأمر، فليتدبر.
والدالة على أن الفقهاء وعلماء الأمة كأنبياء بني إسرائيل (2): وفي
الفقه الرضوي: منزلة الفقيه في هذا الوقت كمنزلة أنبياء بني إسرائيل،
فما كان لموسى - وهو منهم - فهو للفقيه (3)، بعد عدم خصوصية الإشارة
المزبورة فيه مثلا.
والدالة على أن الحكومة للنبي أو وصي نبي، وبانضمام ما سبق تثبت
الحكومة للفقيه، لأنه وصي: في الباب المزبور عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:
اتقوا الحكومة، فإن الحكومة إنما هي للإمام العالم بالقضاء العادل (4).
والدالة على أن مجاري الأمور بيد العلماء بالله (5): وقد اختار جمع

1 - الكافي 7: 406 / 2، الفقيه 3: 4 / 8، تهذيب الأحكام 6: 217 / 509، وسائل
الشيعة 27: 17، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 3، الحديث 2.
2 - عوالي اللآلي 4: 77 / 67.
3 - الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا (عليه السلام): 338، بحار الأنوار 75: 346 / 4.
4 - الكافي 7: 406 / 21، الفقيه 3: 4 / 7، تهذيب الأحكام 6: 217 / 511، وسائل
الشيعة 27: 17، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 3، الحديث 3.
5 - تحف العقول: 238.
29

من الأفاضل صحة كتاب تحف العقول (1)، ولكنه عندنا غير ثابت جدا،
ولكن هذه الرواية المشتملة على المسائل الراقية الموافقة لأفكار
الراشدين من علماء الاسلام، ويستبعد أن يكون فقيه في ذلك العصر،
يتمكن من تأسيس هذا البرنامج السياسي المشتمل على شتى الجهات
تكون قريبة جدا في الصدور عن أهل بيت الوحي وسيد الشهداء عليه
الصلاة والسلام وقد ذكرها الوافي بتمامها في كتاب الأمر بالمعروف
ومورد النظر فيها هذه الجملة: وذلك أن مجاري الأمور والأحكام على
أيدي العلماء بالله، الأمناء على حلاله وحرامه (2) الرواية.
والدالة على أن العلماء حكام: ففي المروي عن كنز الفوائد
للكراجكي عن مولانا الصادق (عليه السلام) أنه قال: الملوك حكام على الناس،
والعلماء حكام على الملوك (3).
وفي الغرر: العلماء حكام على الناس (4).
وعلى أنهم مأمورون بتشكيل السلطنة: لما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
في كتب العامة والخاصة: السلطان ولي من لا ولي له (5). فلا بد من

1 - وسائل الشيعة 30: 156، (الخاتمة)، بحار الأنوار 1: 29، تأسيس الشيعة: 413،
ولاحظ مصباح الفقاهة 1: 5.
2 - الوافي 15: 177 - 179.
3 - كنز الفوائد 2: 33، مستدرك الوسائل 17: 316، كتاب القضاء، أبواب صفات
القاضي، الباب 11، الحديث 17.
4 - غرر الحكم: 47 / 205.
5 - تذكرة الفقهاء 2: 277 / السطر 1، مستند الشيعة 2: 284 / السطر 28، رياض
المسائل 2: 81 / السطر 12، سنن أبي داود 1: 434 / 2083، كنز العمال 16:
313 / 44671.
30

وجود السلطان العادل، وإلا فالسلطان الجائر ليس بولي.
وغير ذلك مما يطلع عليه المتتبع.
فإن كان في ذلك وتلك اللبيات غنى وكفاية فهو، وإلا فاستمع لما يرد
عليك من الروايات الأخر المستدل بها في الكتب، وإليك نبذة منها:
الأولى: ما رواه الكافي والتهذيب عن صفوان بن يحيى، عن
داود بن الحصين، عن عمر بن حنظلة، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن
رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحاكما إلى
السلطان أو إلى القضاة، أيحل ذلك؟ فقال (عليه السلام): من تحاكم إليهم في حق أو
باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنما يأخذ سحتا وإن كان حقه
ثابتا، لأنه أخذه بحكم الطاغوت وقد أمر الله أن يكفر به.
قلت: كيف يصنعان؟ قال: انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا،
ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكما، فإني قد جعلته
عليكم حاكما، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه، فإنما بحكم الله استخف، وعلينا
رد، والراد علينا الراد على الله، وهو على حد الشرك بالله عز وجل (1).
فإن كان كل واحد اختار رجلا من أصحابنا، فرضينا أن يكونا
الناظرين في حقهما واختلفا فيما حكما، وكلاهما اختلفا في حديثكم؟
فقال (عليه السلام): الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث

1 - الكافي 7: 412 / 5، تهذيب الأحكام 6: 218 / 514.
31

وأورعهما، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر... إلى آخر الرواية.
مع اختلاف نسخة التهذيب (1) والكافي (2) في بعض الجمل
مثل جملة في حق أو باطل، وهكذا بعض الجمل الأخر، ولكن لا يضر
بالمعنى المعلوم منها.
والرواية بحسب السند في التهذيب غير ثابت اعتبارها، لما فيه
محمد بن الحسن بن شمون الغالي الواقف الضعيف على ما قالوا
فيه (3). وما في الكافي غير بعيد اعتباره، فإن عمر بن حنظلة وإن لم يوثق
في الأصول الخمسة، إلا أن الشهيد الثاني وثقه (4)، والعمدة رواية
الأعيان - كزرارة وأمثاله - عنه، وهو عندنا دليل وشاهد على الوثاقة
الكافية في هذا الباب.
وربما تشكل الرواية مضمونا: بأن الظاهر منه ممنوعية الرجوع
إلى الطواغيت مطلقا، مع أنه فيما يتوقف عليه معاش البشر وراحة
الفكر، وفيما يستلزم الاخلال بالنظام، غير ممكن الالتزام به، وهو خلاف
ما ثبت عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): إني بعثت على الشريعة السهلة السمحة (5)، وخلاف

1 - تهذيب الأحكام 6: 302 / 845.
2 - الكافي 6: 412 / 5.
3 - رجال النجاشي: 335 / 899، رجال الطوسي: 436، مجمع الرجال 5: 186 -
187، معجم رجال الحديث 15: 220.
4 - الرعاية في علم الدراية: 131.
5 - الكافي 5: 494، بحار الأنوار 32: 264 / 3.
32

اللبيات المشار إليها سابقا: من أن النظام واجب لا يزاحمه غيره.
فبالجملة: الأخبار المشتملة على ترغيب الشرع في المقاومة
السلبية في قبال الحكومة الجائرة، مقبولة إذا كان هذا التقادم تحت
راية الحاكم الشرعي والنظام العقلائي، حتى يورث فشل السلطة
وسقوط الحكومة، كما قد اتفق كثيرا.
وأما إذا كان التقادم انفراديا والاعتزال عن الجائرين - لعنهم الله
تعالى - شخصيا، فهو مضافا إلى عدم استلزامه لما هو المقصود، ربما
يؤدي إلى الاخلال بالنظام المستتبع للهرج والمرج، بل ربما يؤدي إلى
ميل آحاد البشر إلى الالحاد، فإنه لا بد على كل ديانة حقة من مراعاة
حقوق البشر في هذه النشأة، حتى لا يذهب الناس إلى الباطل،
ولا ينزجرون عن الاسلام والمسلمين.
وأما دلالتها على ولاية الفقيه بالمعنى المقصود، وهو نفوذ
تصرفاته عند عدم الأولياء الخاصة، كالآباء والأجداد والأوصياء في
مطلق الأمور، أو دلالتها على ولاية الفقيه تحت عنوان جواز تصديه
للحكومة الاسلامية، وتشكيل الحكومات الجزئية والكلية، فهو عندي
غير واضح.
اللهم إلا أن يقال: إذا فرضنا أن تكليف الأمة هي المراجعة في
الاختلافات التي مرجعها القضاة، وفي الاختلافات التي مرجعها الحكام
إلى الفقهاء العدول، كما هو الظاهر من الرواية فإنها كالنص في أن ما
33

هو يتصدى له السلطان أو القاضي، يتصدى له الفقيه، ولكنه بنحو
الحكم الشخصي من قبل المتخاصمين، لا بنحو الحاكم الكلي المفوض
إليه الأمور، وفرضنا أن في بلدة كذا يرجعون إليهم في كل يوم آلاف
الأنفار، وفرضنا أن قبول ذلك واجب عليهم، فلا يعقل إدارة هذه المراجعات
تحت النظام، إلا بتشكيل الحكومة، فإنه عند ذلك تجب ذلك، لتوقف أداء
الوظيفة عليه بالضرورة.
الثانية: مشهورة أبي سلمة الملقب بأبي خديجة سالم بن مكرم
الجمال، قال: قال أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام): إياكم أن يحاكم
بعضكم بعضا إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من
قضايانا، فاجعلوه بينكم، فإني قد جعلته قاضيا، فتحاكموا إليه (1).
واختصاص جواز المراجعة ونفوذ حكمه بالمرافعات بعيد جدا،
بل هو مجعول لفصل الخصومة حتى في غير المرافعات التي مرجعها
القضاة، فلو اختلفا في بعض الأمور الأخر، كأن يقر المديون للدائن، ولكنه
يؤخر مما طلا في الأداء، فإذا قبلا المحاكمة إلى رجل فقيه، فحكم
- حسب بعض المصالح - بجواز التأخير إلى مدة، فإنه نافذ حكمه، ولا
يجوز التخطي عنه.
وتوهم ضعف السند في غير محله، بل السند - حسب ما رواه في

1 - الكافي 7: 412 / 4، الفقيه 3: 2 / 1، تهذيب الأحكام 6: 219 / 516، وسائل
الشيعة 27: 13، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 1، الحديث 5.
34

الوسائل في الباب الأول من أبواب صفات القاضي عن الفقيه -
قوي جدا اعتباره، فإنه يروي بسنده عن أحمد بن عائذ عنه، وسنده إليه
معتبر عند المحققين (1)، وابن عائذ ثقة (2)، وابن مكرم ثقة عندنا، وتضعيف
الشيخ في الفهرست (3) إياه، لا يقاوم شهادة النجاشي (4) وسائر
الشواهد الأخر، فراجع وتدبر.
وأما دلالته على ما هو المقصود الأعلى في هذا المقام، وهو
السلطنة الإلهية للفقيه الجامع للشرائط الشرعية، على جميع الأعراض
والنفوس والأموال البشرية، في مواقف المصالح الاسلامية، فهو بعيد
عنه إلا بالتقريب المحرر، فتأمل.
ثم في رواية أخرى له ورد هكذا: اجعلوا بينكم رجلا ممن قد عرف
حلالنا وحرامنا، فإني قد جعلته قاضيا (5).
الثالثة: ما رواه الصدوق في العلل عن عبد الواحد محمد عبدوس
النيسابوري العطار، قال: حدثني أبو الحسن علي بن محمد ابن قتيبة
النيسابوري، قال: قال أبو محمد الفضل بن شاذان النيسابوري، عن أبي

1 - رجال العلامة الحلي: 280، جامع الرواة 2: 530، مجمع الرجال 7: 224، معجم
رجال الحديث 2: 129 / 607.
2 - رجال النجاشي: 98 / 246.
3 - الفهرست: 79.
4 - رجال النجاشي: 188 / 501.
5 - تهذيب الأحكام 6: 303 / 846، وسائل الشيعة 27: 139، كتاب القضاء، أبواب
صفات القاضي، الباب 11، الحديث 6.
35

الحسن الرضا (عليه السلام) في حديث طويل قال فيه: فلم وجب عليهم معرفة
الرسل والاقرار بهم والاذعان لهم بالطاعة؟... - إلى أن قال -: فلم جعل
أولي الأمر وأمر بطاعتهم؟ قيل: لعلل كثيرة منها: أن الخلق لما وقفوا على حد
محدود، وأمروا أن لا يتعدوا تلك الحدود، لما فيه من فسادهم، لم يكن يثبت
ذلك ولا يقوم إلا بأن يجعل عليهم فيها أمينا يأخذ بالوقف...
إلى أن قال: ومنها: أنا لا نجد فرقة من الفرق ولا ملة من الملل بقوا
وعاشوا إلا بقيم ورئيس، لما لا بد لهم منه في أمر الدين والدنيا، فلم يجز في
حكمة الحكيم أن يترك الخلق، لما يعلم أنه لا بد لهم منه ولا قوام لهم إلا به،
فيقاتلون به عدوهم، ويقسمون به فيئهم، ويقيمون به جمعيتهم وجماعتهم،
ويمنع ظالمهم من مظلومهم.
ومنها: أنه لو لم يجعل لهم إماما قيما أمينا حافظا مستودعا، لدرست
الملة وذهب الدين، وغيرت السنن والأحكام، ولزاد فيه المبتدعون، ونقص
منه الملحدون وشبهوا ذلك على المسلمين، إذ قد وجدنا الخلق منقوصين
محتاجين غير كاملين، مع اختلافهم واختلاف أهوائهم وتشتت حالاتهم، فلو
لم يجعل قيما حافظا بما جاء به الرسول الأعظم، لفسدوا على نحو ما بيناه،
وغيرت الشرائع والسنن والأحكام والايمان، وكان في ذلك فساد الخلق
أجمعين (1).
والاشكال في سندها على ما سلكناه في الرجال مندفع: بأن

1 - علل الشرائع: 251 - 254.
36

عبد الواحد يكفي لوثاقته وصحة الاعتماد عليه ترضي الصدوق (رحمه الله)
عليه مع تصريحه: بأن رواياته مورد الاعتماد، وأنها صحيحة (1)، مع أن
العلامة (قدس سره) صحح رواياته. قال العلامة في التحرير: روى ابن بابويه
في حديث صحيح عن الرضا (عليه السلام)، والصدوق رواه عنه (2). وقال في
المدارك: إن عبد الواحد بن عبدوس وإن لم يوثق صريحا، لكنه من
مشايخ الصدوق المعتبرين، الذين أخذ عنهم الحديث، فلا يبعد الاعتماد
على روايته (3). انتهى.
وقال في الخاتمة: وكفى به مصححا، مع ما علم من مداقته في
السند، وتبعه جماعة (4). انتهى.
ويظهر من رواية الشيخ في التهذيب عن ابن فضال، عن محمد بن
عبدوس، أن بيته بيت العلم (5)، وليتأمل.
وهنا بعض الشواهد الأخر الدالة بمجموعها على أنه مورد
الاعتماد والوثوق جدا.
وبأن علي بن محمد بن قتيبة - المعبر عنه بالقتيبي - من مشايخ
الكشي، وعليه اعتمد في رجاله، كما في النجاشي، قال: وهو أبو الحسن

1 - علل الشرائع: 251 - 254، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 127، ذيل الحديث 2.
2 - تحرير الأحكام 2: 110 / السطر 13.
3 - مدارك الأحكام 6: 84.
4 - مستدرك الوسائل 3: 622 / السطر 6، (الخاتمة).
5 - تهذيب الأحكام 9: 195 / 785، ولاحظ مستدرك الوسائل 3: 622 / السطر 7، (الخاتمة).
37

صاحب فضل بن شاذان وراوية كتبه (1).
وفي لم: تلميذ الفضل بن شاذان نيشابوري فاضل (2)، ويروي عنه
أيضا شيخ القميين أحمد بن إدريس وأبو محمد الحسن بن حمزة العلوي
الطبري المرعشي، الذي قالوا في ترجمته: كان من أجلاء هذه
الطائفة وفقهائها، وكان فاضلا أديبا عارفا فقيها زاهدا ورعا كثير المحاسن
دينا (3)، يروى عنه شيوخ أصحابنا، كالمفيد وابن الغضائري والتلعكبري
وأحمد بن عبدوس، ويروي هو كتب الفضل بن شاذان بتوسط علي بن
محمد بن قتيبة. وقيل: ومن هنا ذكره العلامة في القسم الأول (4).
وقال في ترجمة يونس بن عبد الرحمن: روى الكشي حديثا
صحيحا عن علي بن محمد القتيبي، قال: حدثني الفضل بن شاذان، قال:
حدثني عبد العزيز بن المهتدي، وكان خير قمي رأيته... إلى آخره. وفي
حديث صحيح عن علي بن محمد القتيبي، عن الفضل بن شاذان، عن محمد
ابن الحسن الواسطي... إلى آخره (5).
قال في الخاتمة: وحيث وصف الحديث بالصحة فلا بد من كون
رجال سنده ثقات وقد ذكره صاحب الحاوي في قسم الثقات، وهذا من

1 - رجال النجاشي: 259 / 678.
2 - رجال الطوسي، باب من لم يرو عنهم (عليهم السلام): 478.
3 - رجال النجاشي: 64 / 150، رجال الطوسي: 495، رجال العلامة الحلي: 39.
4 - مستدرك الوسائل 3: 622 / السطر 28، (الخاتمة).
5 - رجال العلامة الحلي: 184 - 185.
38

الحق الذي لا مجال للتأمل فيه (1).
وقال في موضع آخر حول حال الفضل: ولما كان الكتاب المزبور
- العلل - كثير الحاجة في الفروع، فلا بأس بذكر بعض الشواهد على
صحة الخبر المنقول عنه (2). انتهى.
ثم شرع في ذكرها، فلو أمكن المناقشة في جل ذلك، ولكن من
الكل يحصل ما هو الكافي في هذه المقامات، وإلا لا نسد باب العلمي
بالضرورة، فلا تخلط.
وأما دلالتها: فهي عند المنصف الخبير من الواضحات الباهرات،
ضرورة أن الأمة تحتاج إلى القيومة والرئاسة في الأدوار المختلفة
والتحولات الجزئية والكلية، وهذه الحاجة باقية ببقاء احتياجهم
إلى النظام السياسي، حتى لا يلزم ما لا يجوز عند كافة العقول، وهو
الاختلال والهرج والمرج.
وبديهة العقل حاكمة: بأن الرضا (عليه السلام) لا يكون في مقام إفادة
الاحتياج إلى عصر الغيبة، ولا يريد إثبات أن الإمام الغائب - عجل الله
تعالى فرجه الشريف - هو الرئيس القيم مع كونه (عليه السلام) بعيدا عن الأمة،
فينحصر بالوجه الآخر، وهو تكفل الآخرين زعامة الأمة الاسلامية،
والقدر المتيقن منه هو الفقيه العادل البصير الخبير، الجامع بين

1 - مستدرك الوسائل 3: 622 / السطر 31، (الخاتمة).
2 - مستدرك الوسائل 3: 644 / السطر 6، (الخاتمة).
39

شتات الأمور الدينية والدنيوية، العاقل الرشيد، وسيظهر وجه هذه
القيود إن شاء الله تعالى.
ثم إن في كثير من خطب نهج البلاغة ما يؤيد مرامنا، ويسلك
سبيلنا، فنهتدي به، ولا بأس بالإشارة إلى بعض منها:
اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان، ولا
التماس شئ من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك ونظهر الاصلاح
في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطلة من حدودك.
اللهم إني أول من أناب وسمع وأجاب، لم يسبقني إلا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
بالصلاة، وقد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء
والمغانم والأحكام إمامة المسلمين البخيل، فتكون في أموالهم نهمته، ولا
الجاهل فيضلهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الخائف للدول فيتخذ
قوما دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق، ويقف بينها دون
المقاطع، ولا المعطل للسنة فيهلك الأمة... (1).
أفتقنع بأن تقول: هذه العبائر تختص بالحكومة الموقتة
الاسلامية خمس سنوات، أو بالحكومة المغصوبة خمسين ومائتي سنة،
أم هذه العبائر ترمز وتشعر بمقاصد الاسلام وآمال زعمائه الأبدية.
تذنيب: ربما يمكن الاستدلال بالكتاب للزوم تشكيل الحكومة
الحافظة للحدود والثغور، والدافعة للأعداء والمهاجمين، وهو قوله

1 - نهج البلاغة، صبحي الصالح: 189، الخطبة 131.
40

تعالى في سورة الأنفال: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل
ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما
تنفقوا من شئ في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون) (1).
والدالة على إيجاد الروابط السياسية، وهو قوله تعالى: (وإن
جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم) (2).
واختصاص الآية بطائفة واضح، لعدم إمكان التصدي للزعامة لكل
أحد. ولكن دعوى اختصاص ذلك بالأئمة المعصومين غير واضحة.
والآية وإن كانت غير مصدرة بالخطابات القانونية الكلية، ولكن
بمناسبة أطرافها] تفيد [عموم الحكم.
فإذا كان الأمر كما تقرر، فلا بد من الناظم السائس المدبر المشكل
للدولة، حتى يتمكن من الاستعدادات اليومية، بإيجاد الشبكات
المختلفة والمراكز للقنبلة الذرية والمطارات للسير في الآفاق
] وغيرها [، فإن كل ذلك إذا كان مما يتوقف عليه الواجب، يكون واجبا
شرعا أو عقلا، على الخلاف في مقدمة الواجب.
ذنابة: في المسألة بعض روايات أخر نشير إليها:
1 - في المروي عن المفيد بسنده إلى محمد بن علي (عليه السلام)، عن
آبائه (عليهم السلام) أنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): المتقون سادة، والفقهاء قادة،

1 - الأنفال (8): 60.
2 - الأنفال (8): 61.
41

والجلوس إليهم عبادة (1).
2 - التوقيع الشريف المروي عن الكليني عن إسحاق بن يعقوب،
قال: سألت محمد بن عثمان العمري (رحمه الله) أن يوصل إلي كتابا سألت فيه عن
مسائل أشكلت علي، فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان (عليه السلام): أما ما
سألت عنه - أرشدك الله وثبتك - من أمر المنكرين لي من أهل بيتنا وبني عمنا،
فاعلم أنه ليس بين الله وبين أحد قرابة، من أنكرني فليس مني، وسبيله سبيل
ابن نوح (عليه السلام)، أما سبيل عمي جعفر وولده فسبيل إخوة يوسف (عليه السلام)، وأما الفقاع
فشربه حرام، ولا بأس بالشلمباب.
وأما أموالكم فلا نقبلها إلا لتطهروا، فمن شاء فليصل، ومن شاء فليقطع،
فما آتاني الله خير مما آتاكم.
وأما ظهور الفرج فإنه إلى الله - تعالى ذكره - وكذب الوقاتون.
وأما قول من زعم أن الحسين لم يقتل فكفر وتكذيب وضلال.
وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي
عليكم وأنا حجة الله عليهم.
وأما محمد بن عثمان العمري... إلى آخر التوقيع الشريف.
وقال في آخره: وأكثروا الدعاء بتعجيل الفرج، فإن ذلك فرجكم.
والسلام عليك يا إسحاق بن يعقوب وعلى من اتبع الهدى (2).

1 - الأمالي، الطوسي: 225 / 392، بحار الأنوار 1: 201 / 9، و 67: 290 / 25.
2 - كمال الدين: 483 / 4، الغيبة: 290، الإحتجاج 2: 542، وسائل الشيعة 27:
140، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 9.
42

3 - ما روي عن التفسير المنسوب إلى الإمام (عليه السلام): أنه يقال للفقيه:
أيها الكافل لأيتام آل محمد، الهادي لضعفاء محبيه ومواليه، قف حتى تشفع
في كل من أخذ عنك، أو تعلم منك (1).
وفي موضع آخر: يظهر أن أيتام آل محمد هم المسلمون، وإليه يشير
ما عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم): يا علي أنا وأنت أبوا هذه الأمة (2).
وقال في موضع آخر: قال موسى بن جعفر (عليه السلام): فقيه واحد كفل يتيما
من أيتامنا المنقطعين عن مشاهدتنا والتعلم من علومنا، أشد على إبليس من
ألف عابد (3) فإنه يعلم من ذلك أن يتيم آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أعم.
وقال في موضع آخر: عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: أشد من يتم اليتيم،
يتيم انقطع عن إمامه لا يقدر على الوصول إليه، ولا يدري كيف حكمه فيما
يبتلى به من شرائع دينه... (4).
أقول: احتياج الأمة إلى السياسة والرئاسة، والنظم والناظم،
وأن كل أمة لا يكون صاحب الزعيم الكبير البصير يضمحل ويمحو
بالضرورة مما لا شبهة فيه، ولا نحتاج إلى الرواية فلو استشكل في هذه الأخبار كما هو قابل لذلك، ولكنه لا يورث الخلل في أساس البحث وما

1 - التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): 344 / 223، بحار الأنوار 2: 6 / 10.
2 - بحار الأنوار 23: 128 / 59.
3 - التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): 343 / 222.
4 - التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): 339 / 214.
43

هو الدليل الوحيد الفريد المتين البين عند أهله ومنطقه.
إنما البحث حول سؤال ونكتة وهو: أن هذه المسألة ليست قابلة لأن
تكون مخفية على أحد من الأصاغر، فضلا عن الأعلام والفقهاء، فلو كانت
الديانة الاسلامية كسائر الأحزاب والديانات ذات طريقة وسياسة
كافلة لعائلة البشر، سياسة ودينا ودنيا، لما كان يحتاج إلى الاستدلال
والاستظهار.
فهل يمكن ثبوت مثل هذه الدعوى برواية أو روايات، أم هذه
المسألة لو كانت مورد نظر زعماء الاسلام من الأول، والأئمة
المعصومين (عليهم السلام) لكان عند العلماء كالنار على المنار بل كالشمس في
رابعة النهار؟!
وإن شئت قلت: لو كان الأئمة الهداة الأبرار (عليهم السلام) في هذه المواقف،
لكان عليهم التصريحات على نحو ما صنعوه في سائر الأحكام على وجه
لا يخفى على مثل الشيخ الأنصاري وأتباعه (رحمهم الله)، وحتى لا يقال: بأن هذه
المسألة من البدعة والضلالة في الدين الاسلامي، بل الاسلام
والمذهب على الاعتزال، وعلى إمرار المعاش، وهداية الناس إلى
الأحكام والشرائع عند السؤال والاحتياج، وإلا فلا يجب شئ حتى
التبليغ، فإنه من خواص الرسل دون الأوصياء والفقهاء.
فإذا كانت المسألة خفية في الجملة، يستكشف أنها ليست من
الشرع جدا، لما أنها لو كانت منه لبانت كسائر المسائل المبتلى بها
44

والواقعيات العامة والتكاليف المهتم بها فلا تختلط.
وأما اللبيات المسطورة في بدو المسألة، فهي ليست من الأوليات
الضرورية، حتى لا يكاد يشك فيها ولا يمكن لعقول البشر الإحاطة
الكاملة على جميع أطراف المسألة حتى يستولي على المصالح
النوعية الكلية والمفاسد وتشخيص الحق عن الباطل، فربما كان بعث
الأنبياء والرسل والأوصياء والفقهاء في مقابل السلاطين والخلفاء
والأمراء والحكام، كما هو المشاهد بحسب الاتفاق والتأريخ، بل
والتكوين لعدم السنخية بين العادل الواقعي والحكومة على الناس
في هذه النشأة، فإنها لا يمكن إلا بضرب من التجاوز عن القوانين.
الجهة الثانية: الاجماعات المنقولة والمحصلة على ولاية الفقيه
قد يتوهم أن دعوى ثبوت الولاية الكلية الاعتبارية للفقيه من
الدعاوى الحديثة والابتكارات الجديدة، ولذلك توهم أن المسألة لو
كانت كما توهم لتبينت من الأول، وكل ذلك للغفلة عن حقيقة الحال. قال
الشيخ المتتبع والنقاد البصير المتضلع الشيخ أحمد النراقي في
العوائد:
إن كلية ما للفقيه العادل توليه وله الولاية فيه أمران:
أحدهما: كلما كان للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام (عليه السلام) - الذين هم سلاطين الأنام
وحصون الاسلام - فيه الولاية، وكان لهم، فللفقيه أيضا ذلك، إلا ما
45

أخرجه الدليل من إجماع أو نص أو غيرهما.
ثانيهما: أن كل فعل متعلق بأمور العباد في دينهم ودنياهم، ولا بد من
الاتيان به ولا مفر منه، وعلم لابدية الاتيان به أو الإذن فيه، ولم يعلم
المأمور به ولا المأذون فيه، فهو وظيفة الفقيه.
أما الأول: فيدل عليه - بعد - ظاهر الاجماع، حيث نص به كثير من
الأصحاب بحيث يظهر منهم كونه من المسلمات (1). انتهى.
وفي بعض كتب المعاصرين الاجماع بقسميه - المنقول والمحصل -
على الولاية العامة للفقيه (2)، وقد نقل الاجماعات الكثيرة عليها
الشيخ (رحمه الله) في كتاب..... (3)، وفي البلغة: أن حكاية الاجماع على ذلك
فوق حد الاحصاء (4)، وهكذا في العوائد (5)، وعن المحقق الثاني، أنه
قال: اتفق أصحابنا على أن الفقيه العادل الجامع نائب من قبل الأئمة
المعصومين (عليهم السلام) في حال الغيبة في جميع ما للنيابة فيه مدخل (6). انتهى.
وربما يقال: إن إحالة الفقهاء في الموارد الكثيرة إلى الحاكم
تشهد على تلك الولاية. وإن شئت قلت: هذا النوع من الاجماع المحصل،

1 - عوائد الأيام: 536.
2 - بلغة الفقيه 3: 221.
3 - سقط من النسخة التي بأيدينا اسم الكتاب ولم نعثر على نقل الاجماعات الكثيرة في
المكاسب والقضاء وسائر مظانه من كتب الشيخ الأعظم (قدس سره).
4 - بلغة الفقيه 3: 234.
5 - عوائد الأيام: 536.
6 - رسائل المحقق الكركي 1: 142، جواهر الكلام 21: 396.
46

أو قلت: هذه الولاية الكلية مبثوثة في الفقه من أوله إلى آخره،
وكأنهم كانوا يتحاشون عن ذكر الاسم دون المسمى الواقعي، فقالوا بها في
موارد كثيرة نذكر جملة منها:
ما للحاكم الشرعي من الولاية في أطوار الفقه
1 - في وجوب دفع ما بقي من الزكاة في يد ابن السبيل - بعد وصوله
إلى بلده - إلى الفقيه.
2 - في وجوب دفع الزكاة ابتداء أو بعد الطلب إليه.
3 - في تخيره بين أخذ خمس أرض الذمي.
4 - ولايته على مال الإمام وميراث من لا وارث له.
5 - في توقف اخراج الودعي الحقوق على إذنه.
6 - ولايته على إجراء الحدود على إشكال يسند إلى ابني زهرة
وإدريس.
7 - في أداء دين الممتنع من ما له.
8 - وتوقف حلف الغريم على إذنه.
9 - وفي القبض في الوقف على الجهات العامة.
10 - وفي نظارته لذلك.
11 - وفي توقف التقاص من مال الغائب على إذنه.
12 - ومن الحاضر في وجه كما قيل.
47

13 - وفي بيع الوقف حيث يجوز ولا ولي له.
14 - وفي قبض الثمن إذا امتنع البائع.
15 - وقبضه من قبل كل ممتنع عن قبول القبض وقبض حقه.
16 - وفي الدين المأيوس عن صاحبه.
17 - وبيع الرهن المتسارع إليه الفساد بإذنه.
18 - وتولية إجارة الرهن لو امتنعا.
19 - وتعيين عدل يقبض الرهن لو لم يرضيا.
20 - وتعيين ما يباع به الرهن مع تعدد النقد.
21 - وفي باب الحجر على المفلس.
22 - أو السفيه في قول.
23 - وولايته على الذي حدث جنونه أو سفهه بعد بلوغه مع
وجود أبيه أو جده أو الوصي عنهما على المشهور.
24 - وفي قبض وديعة الغائب لو احتيج إلى الأخذ.
25 - وفي إجباره الوصيين على الاجتماع أو الاستبدال بهما.
26 - وفي ضم المعين إلى الوصي العاجز.
27 - وفي عزل الخائن على القول بعدم انعزاله بنفسه.
28 - وفي إقامة الوصي فيمن لا وصي له.
29 - أو مات وصيه.
30 - أو كان وانعزل.
48

31 - وفي تزويج المجنون.
32 - والسفيهة البالغة.
33 - وفي فرض المهر لمفوضه البضع.
34 - وضرب أجل العنين.
35 - وبعث الحكمين من أهل الزوجين.
36 - وإجبار الممتنع على أداء النفقة.
37 - وفي طلاق زوجة المفقود.
38 - وإجبار المظاهر على أحد الأمرين.
39 - وإجبار المولى كذلك.
40 - واحتياج إنفاق الملتقط على اللقيط إلى إذنه.
وغير ذلك مما يطلع عليه المتتبع، وقد جمع الموارد بعض
المعاصرين في بعض رسائله (1).
ويستفاد من تلك الكثرة المعتنى بها الفاقدة للدليل الخاص
نوعا: أن الأصحاب من باب إنكارهم تلك الولاية الكلية كانوا يفتون
بذلك، فلا تغفل.
وأنت خبير بأن في مواقف الاجبار لا بد من الحكومة والجند، وإلا
فلا يمكن ذلك، لقيام المحكوم على ضرب الحاكم وشتمه، فلا يكون
الحاكم في أمن من كيدهم ومكرهم، فلمكان توقف هذه الأمور على وجود

1 - بلغة الفقيه 3: 234.
49

الحكومة، لا بد من تشكيلها حتى لا يبقى المعروف معطلا، فتأمل.
الجهة الثالثة: حول أن ضرائب الاسلام تستتبع الحكومة الاسلامية
قد اتخذ الوالد المحقق في هذا الميدان سبيلا آخر للاستدلال على
أن الاسلام دين السياسة والحكومة ويحتاج إليها بالضرورة، وإنكارها
يرجع إلى دعوى منسوخية الاسلام، بل هذا أسوأ حالا من النسخ. وقيل:
إن من يدعي ذلك كافر ويعد مرتدا، ويجب قتله، لأنه من الضروريات ومن
الواضح أبدية الاسلام وخاتمية الرسول الأعظم الاسلامي (صلى الله عليه وآله وسلم).
وكان نظره في الاستدلال المذكور: إلى أن اقتصاديات الاسلام لا بد
أن تؤدي إلى الحكومة، وذلك لأن وضع الأخماس والزكوات
والخراجات على مختلف الأراضي، لا يمكن أن يكون لصرف في
احتياجات فقراء الملة، لعدم احتياجهم إلى تلك الضرائب العجيبة،
ولا سيما الخمس، فإنه من أعظم الضرائب وأحسنها، فلو كان ذلك لغرض
إعاشة الفقير السيد، أو أبناء السبيل منهم، أو اليتامى، لكان يكفي خمس
أحد الأسواق - كسوق بغداد - لذلك فمن التدبر في هذا الأمر يظهر أن هذه
الضرائب المختلفة ليست إلا لتشكيل الحكومة، كما يظهر من الأخبار الواردة في كتاب الخمس (1)، وقد ذكرنا هناك: أن الخمس ليس ملك

1 - وسائل الشيعة 9: 509 - 521، كتاب الخمس، أبواب قسمة الخمس،
الباب 1 و 2 و 3.
50

الإمام ولا الجهات، بل الخمس في يد الإمام (عليه السلام)، وهو أولى بالتصرف،
وهكذا الفقيه، وسهم السادات صندوق وضع لمعاش فقرائهم، وإذا فضل
يرد إلى الحاكم، كما في الرواية (1).
فبالجملة: يحصل للفقيه الناظر في أطراف المسألة: أن أخذ هذه
الضرائب على الوجه الصحيح، لا يعقل إلا بانضمام الحكومة
المبسوطة اليد القادرة على الأخذ والصرف، فتلك الحكومة: تارة
تكون لغير الفقهاء، فيرجعون إليهم في أمورهم، ويخيرونهم في مسائلهم،
وهذا عندنا غير صحيح، لأن ذلك يؤدي إلى ضعفها بين الآحاد، ولا بد وأن
تكون الحكومة المركزية قوية.
وأخرى تكون لأنفسهم، وهذا هو الصحيح، فالحاكم على العباد
لدفع الفساد عن البلاد، لا بد وأن يكون هو بنفسه من الفقهاء العدول،
حذرا عن هذا المحذور وغيره (2). انتهى.
أقول: فذلكة البحث إلى هنا أن مقتضى ما تحرر وتقرر: أن الفقيه
الجامع للشرائط زعيم الأمة وسلطان على الرعية، وأن ما ثبت للإمام (عليه السلام)
من الولاية الاعتبارية على الأنفس والأموال ثابت له، فله بل عليه
القيام لانتظام البلاد ونظم العباد إذا أمكن.
وتلك الولاية مجعولة لهم من قبل الله تعالى، أو من قبل

1 - الكافي 1: 453 / 4، وسائل الشيعة 9: 520، كتاب الخمس، أبواب قسمة الخمس،
الباب 3، الحديث 1.
2 - البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 2: 459 - 499.
51

المعصومين فيه، وجهان. ولكل واحد منهما شواهد. والأمر بعد ذلك سهل.
الولاية العامة كانت مورد الافتاء من السلف
ومن العجيب ما حكي عن الشيخ الكبير كاشف الغطاء، حيث
أعطى الإذن للسلطان فتح علي شاه في أخذ ما يتوقف عليه تدبير المملكة
من الحقوق الشرعية، والأخذ من الأموال للدفع عن بلاد الاسلام، كما أمر
بوجوب طاعته وعدم مخالفته في الجهاد لأعداء الرحمن، وقد جعله
نائبا عنه في إدارة شؤون مملكة إيران، وأوجب على الشعب الإيراني
إطاعته في جهاده الأعداء، وأذن له بالأخذ من الزكاة والخراج في تدبير
جنوده وعساكره، وإن لم تف أخذ من أموالهم بقدر ما يدفع به العدو عن
أعراضهم ودمائهم (1).
وهذا في غاية الجودة والمتانة بحسب الافتاء، ولكنه عندنا محل
مناقشة من جهة أخرى: وهو أن الشيخ] لو [كان يتصدى لأمر الزعامة
- حسب هذه القوة - في بلاد العراق، وما يخلص الشيعة الاثني عشرية
من هؤلاء الأعداء، لو كان بصدد ذلك لما بقي للسلطان العثماني مقاولة معه
بعد اتفاق الشعب الإيراني والعراقي، وبعد استيلاء الحكومة الإيرانية
على السلطات الكثيرة، فهذا وأمثال هذه الفرص صارت مغفولة،
فأصبحنا مغفولين، وبين أيدينا أعداؤنا وأعداء الله يذهبون بالدين والإسلام،

1 - كشف الغطاء: 394 / السطر 24.
52

ونحن كالعاض يديه ناظرون إليهم.
ثم إن المحكي عن الشيخ الورع والفاضل البارع الشيخ محسن
خنفر (رحمه الله): أنه كان يذهب إلى الولاية العامة، وحكي عن بعض الثقات
] حدوث [نزاع بينه وبين صاحب الجواهر (قدس سره) في الولاية العامة وكان
المحسن يذهب إليها، ويقيم عليها الأدلة، والشيخ ينكرها. وقال في
أثناء البحث: إن كان الأمر كما تزعم فزوجتك طالق، فأجابه: بأن
الاشكال صغروي (1).
ولا يخفى ما فيه لما سيأتي: من أن مسألة الولاية الثابتة للفقيه
ليست ولاية الهرج والمرج، كما لا تثبت مثلها حتى للأئمة (عليهم السلام) ولا لأحد
من الأنبياء والرسل، فإن ولايتهم تابعة للمصالح العامة أو الشخصية،
وليست جزافا، وفاقا لصاحب البلغة (2)، وخلافا لظاهر كلمات الأعلام، بل
وصريح بعضهم.
الجهة الرابعة: في أقسام الولاية الاعتبارية وحول ما هو المقصود
إثباته للفقيه
قد عرفت إجمالا ثبوت الولاية للفقيه الجامع للشرائط الآتية،
وإنما البحث حول أنحائها:

1 - أعيان الشيعة 9: 48 / السطر الأول.
2 - بلغة الفقيه 3: 217 - 218.
53

فاعلم أن الولاية تنقسم تارة: إلى الولاية الاختيارية كولاية
الولي والوصي، وغير الاختيارية كولاية الأب والجد، وأخرى: إلى
الولاية العامة المطلقة والعامة المقيدة.
أما الأولى: فهي الولاية الاعتبارية، التي تكون ثابتة للانسان على
ماله وعرضه ونفسه من المتبدلات بأنحائها، ومن سلطنته على كيفية
معاشه ومكانه وغير ذلك، ومن تزويجه وتطليقه من غير مصلحة أو مع
المفسدة، وإن كانت لا تكون هي مطلقة بمعناها الواقعي، لعدم جواز
تصرفاته على الاطلاق، لحرمة الاسراف والتبذير... وهكذا، بل المقصود
إطلاق ولايته من حيث المصالح والمفاسد، في اختياره المكان المعين
للعيش والزمان المعين لتشكيل العائلة... وهكذا.
والثانية: هي الولاية الثابتة للأب والجد على الصغير، فإنها
مقيدة بعدم المفسدة، أو بالمصلحة، حسب ما رآه الأصحاب، كما مر
تفصيله.
وثالثة: إلى أقسام أخر ربما تبلغ إلى عشرة حتى قيل: إن الأولياء
عشرة أصناف أو أكثر، كولاية الزوج على الزوجة، والمقاص للمال عند
اجتماع شرائط التقاص... وهكذا.
والذي هو المقصود لنا: أن تلك الولاية الثابتة للانسان حسب
الفطرة والشرع، هي الثابتة لغيره إماما كان أو فقيها أم لا، ثم على تقدير
ثبوتها للإمام (عليه السلام)، فهل هي تثبت للفقيه أم لا؟ فهنا مبحثان:
54

الأول: المعروف عنهم ثبوتها له (عليه السلام)، خلافا لما نسب إلى صاحب
البلغة (قدس سره) (1)، وهو الأقوى، وذلك لأن إثباتها الاعتباري متقوم بالغرض
والشهرة، ولا يعقل أن يقدم المعصوم (عليه السلام) على مثل هذه الولاية وتنفيذها،
فلا يعتبر له (عليه السلام) مثلها، أفيمكن اعتبار شئ لك ملكا مع عدم إمكان الاستيفاء
الملكي منه؟! هذا أولا.
وثانيا: الأدلة قاصرة عن إثباتها.
وتوهم: دلالة قوله تعالى: (إن النبي أولى بالمؤمنين من
أنفسهم) (2)، وقوله تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله
ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة) (3)، وقوله تعالى: (إنما وليكم الله
ورسوله) (4)، وما في بعض الروايات: كرواية أيوب بن عطية أنا أولى
بكل مؤمن من نفسه (5)، وما في الخبر المتواتر بين الفريقين في غدير
خم: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى. قال: من كنت مولاه
فهذا علي مولاه... (6)، إلى آخره، وغير ذلك من الأدلة السمعية، بل
والعقلية.

1 - بلغة الفقيه 3: 217 - 218.
2 - الأحزاب (33): 6.
3 - الأحزاب (33): 36.
4 - المائدة (5): 55.
5 - الفقيه: 254 / 14، وسائل الشيعة 26: 251، كتاب الفرائض والمواريث، الباب 3،
الحديث 14.
6 - الأمالي، الصدوق: 12 / 2، بحار الأنوار 37: 108 / 1.
55

غير واقع في محله، فإن في كل واحد منها نظرا، ولا يستفاد من
المجموع إلا أصل الولاية، وأما إطلاقها بالمعنى المزبور فممنوع جدا
عقلا وعرفا.
مع أن الآية الشريفة لا تدل على أن النبي أولى بالمؤمنين من
أنفسهم، بمعنى أولويته على نفس كل واحد من شخصه، بل لعل المقصود
أولويته على المؤمنين بالنسبة إلى بعضهم مع بعض فلا يزاحمه الأب
ولا الجد ولا الوصي... وهكذا، وأما ثبوت الولاية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على
تطليق زوجة زيد حسب ميله وطبعه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإن لا يكون فيه الصلاح
الشخصي والنوعي، أو بيع داره وإنفاق أمواله وإن كان فيه المفسدة، فهو
من الفاحش فساده.
والذي هو المهم أن أمثال هذه الأفعال لا تصدر عن تلك البيوت
المرفوعة، فلا معنى لاعتبارها، فإذا لا تكون الولاية العامة للفقيه
أيضا مطلقة بالضرورة، ويظهر ضعف سائر الاستدلالات مما أشير إليه.
المبحث الثاني: هل ولاية الفقهاء بالنيابة والوكالة أو النصب؟
لو ثبت تلك الولاية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حسب التوهم، فإن كان دليله
العقل الحاكم بأنهم ذات الولاية التكوينية، فجميع الاعتباريات ظل
ذاك التكوين، فلا تكون هي للفقيه، وإن كان دليله الأدلة السابقة فلا
يفرق بينهم من هذه الجهة. والله العالم.
56

وإليه ترجع القصة المحكية عن نزاع الشيخين - الجواهر
وحنفي - كما أشير إليه في الجهة السابقة.
ثم إن الخلاف في أن هذه الولاية الثابتة للفقيه أو للإمام (عليه السلام)، هل
هي من قبيل الوكالة أو النيابة، أو هي من المناصب المفوضة التي
تزول بموت الناصب والجاعل؟ ثم إن الناصب والجاعل هل هو الله
تعالى، أم هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، أو الإمام (عليه السلام) بالنسبة إلى الفقهاء، أو
بالنسبة إلى الإمام المتأخر، مما لا فائدة فيه كثيرة.
مع أن الأمر واضح، ضرورة أن قضية الأدلة العقلية ثبوت هذه
الولاية بأي وجه اتفق، وتفيد الأدلة اللفظية أن الفقهاء منصوبون من
قبل الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، فتكون الأدلة الواردة عن الأئمة
المعصومين، إمضاء لذاك وإن كانت بصورة النصب، كقولهم: جعلته حاكما،
أو هو حجتي عليكم، أو جعلته قاضيا، أو غير ذلك.
وأما توهم: أن جعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يحتاج إلى الامضاء المتأخر،
وهكذا إلى أن تصل النوبة... في غاية السقوط: أما في المقيس عليه
فلما تقرر في محله: أن أخبار التحليل (1) ناظرة إلى موضع خاص، هكذا
اشتهر واتضح.
وأما في المقيس فلأن ما هو القدر المتيقن من قوله (صلى الله عليه وآله وسلم):

1 - وسائل الشيعة 9: 543، كتاب الخمس، أبواب الأنفال، الباب 4.
57

حكمي على الأولين حكمي على الآخرين (1) هو أحكامه الخاصة، وإلا
فأحكام الله ليست حكمه (صلى الله عليه وآله وسلم)، فما هو الصادر عنه بنحو الكلي
والحكومة باق لا يضمحل بموته (صلى الله عليه وآله وسلم)، مع أن سكوت الأئمة الهداة
البررة، كاف لاستكشاف الخلافة الثابتة لهم من عصره (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلاحظ،
وتدبر جيدا.
مع أن من الممكن استفادة تلك الحكومة من التوقيع الشريف من
ناحيتين:
الأولى: من قوله (عليه السلام): وأما الحوادث الواقعة، فإنها ناظرة في
العموم لو لم تكن منصرفة إلى الأمور السياسية الشخصية.
وتوهم: أن سبق السؤال في كلام إسحاق بن يعقوب يمنع عن فهم
المعنى المقصود أصلا وعموما، في غير محله بعد ما عرفت تمام التوقيع
الشريف، فإن من سائر فقراته يتضح الأمر عند المنصف جدا.
الثانية: قوله (عليه السلام): فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله فإن الحجة
- بمعناها اللغوي - ما يحتج به، ولكنها - بمعناها المصطلح - هو الذي
فوض إليه أمر المخلوقين، فإذا قلنا في الشهادة: أشهد أن عليا أمير
المؤمنين وحجة الله، ليس معناه إلا أنه حجة في جميع الأمور، ولذلك

1 - لم نعثر على هذه الرواية بعينها لاحظ الكافي 5: 18 / 1 وفيه: حكم الله عز وجل في
الأولين والآخرين... سواء، وعوالي اللآلي 1: 454 / 197 وفيه: حكمي على
الواحد حكمي على الجماعة.
58

يقال: لولا الحجة لساخت الأرض بأهلها (1).
ولقد أطال الكلام في المقام جد أولادي السيد الحجة
الكوه كمري، لاستفادة جميع المناصب من هذا الاطلاق.
وهذا أمر عجيب، فإنه لا يرضى بدلالة غيرها، فكيف ارتضى بما
لا دلالة له رأسا على شئ؟! ولعل تسميته (رحمه الله) بالحجة أوقعه في ذلك،
كما لا يخفى فليتأمل.
نطاق رئاسة الفقيه محيط لجميع شؤون المملكة
والذي حصلناه إلى الآن: أن الفقيه الجامع، له الرئاسة الكلية
على جميع الشؤون السياسية في مملكة الاسلام، ويكون له إفناء
المصالح الشخصية حذاء المصالح العالية النوعية، فله
التصرفات في أموال الناس، وله السلطنة على أنفسهم عند اقتضاء
الحاجة النوعية ذلك، حفظا للنظام ودفاعا عن الحوزة المقدسة
الاسلامية، فلا يقصر الاسلام عن سائر الحكومات العصرية في إدارة
المملكة من نواح شتى، حتى قد ذكرنا في بعض المقامات: أن الحاكم في
الاسلام يتمكن من إحداث الشوارع في البلد، بتخريب دور المسلمين من
غير لزوم التقويم. نعم عليه الاسكان لا بعنوان البدلية والمعاوضة، بل
لجهة أنه قيم الأمة ورئيس الرعية.

1 - بحار الأنوار 57: 213 / 22.
59

الجهة الخامسة: حول بعض الروايات التي ربما تدل على اختصاص
الحكومة والبيعة بالأئمة المعصومين
ولا يجوز للآخرين ذلك، بل هي للإمام القائم - عجل الله تعالى
فرجه الشريف - ولا يكون لغيره (عليه السلام):
فمنها: ما رواه الحلبي في البحار عن بعض مؤلفات أصحابنا، عن
الحسين بن حمران، عن محمد بن إسماعيل وعلي بن عبد الله الحسين، عن
أبي شعيب محمد بن نصر، عن عمر بن الفرات، عن محمد بن الفضل، عن
مفضل بن عمر، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): يا مفضل كل بيعة قبل ظهور القائم
فبيعة كفر ونفاق وخديعة، لعن الله المبايع لها والمبايع (1).
ولا أظن رواية في رواياتنا أضعف سندا منها، فراجع آحادها.
ومنها: ما رواه النعماني في الغيبة والكافي وفي الوسائل:
عن ابن يعقوب، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن حماد بن
عيسى، عن الحسين بن المختار، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:
كل راية ترفع قبل قيام القائم، فصاحبها طاغوت يعبد من دون الله
عز وجل (2).

1 - بحار الأنوار 53: 8 / 1.
2 - الغيبة، النعماني: 31 و 111 و 114، الكافي 8: 295 / 452، وسائل الشيعة 15:
52، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، الباب 13، الحديث 6.
60

والسند غير نقي بالحسين الذي قيل في حقه: ضعيف جدا لا يلتفت
إليه، كذاب وضاع للحديث، فاسد المذهب (1).
ومنها: عن نهج البلاغة: ألزموا الأرض، واصبروا على البلاء، ولا
تحركوا بأيديكم وسيوفكم في هوى ألسنتكم، ولا تستعجلوا بما لم يعجل الله
لكم، فإنه من مات منكم على فراشه، وهو على معرفة حق ربه وحق رسوله
وحق أهل بيته، مات شهيدا، ووقع أجره على الله، واستوجب ثواب ما نوى من
صالح عمله، وقد مات البينة مقام إسلامه، فإن لكل شئ مدة وأجلا (2).
وغير خفي: أن من يعرف بلاغته (عليه السلام) وفصاحته، يطمئن بأنه من
الأكاذيب المنسوبة إليه، لخلوها عن خصوصيات الخطب اللازمة
رعايتها على الخطيب، وسيظهر وجه تصدي الخائنين لجعل هذه المآثير،
بل ربما يجعلون وينسبون إلى غيره (عليه السلام) كأبي بكر ما يشبه ذلك، أو إلى
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فراجع الآثار والأخبار.
ومنها: ما رواه العياشي والشيخ والحر العاملي في إثبات
الهداة والنوري في المستدرك: عن جابر، عن الباقر (عليه السلام): الزم
الأرض ولا تحرك يدا ولا رجلا حتى ترى علامات أذكرها لك، وفي ذيلها:
وتقبل راية خراسان حتى تنزل ساحل دجلة، يخرج رجل من الموالي ضعيف

1 - قال الشيخ الطوسي في رجاله: أنه واقفي ولم نعثر على ما ذكره المؤلف (قدس سره)، لاحظ
رجال الطوسي: 346.
2 - نهج البلاغة، صبحي الصالح: 282، الخطبة 190.
61

ومن تبعه، فيصاب بظهر الكوفة، ويبعث بعثا إلى المدينة فيقتل بها رجلا،
ويهرب المهدي، والمنصور منها... (1) إلى آخر الحديث.
ومنها: عن الباقر (عليه السلام) خطابا إلى أبي الجارود: أن تلزم بيتك وتقعد
في دهماء هؤلاء الناس، وإياك والخوارج منا، فإنهم ليسوا على شئ، ولا إلى
شئ... إلى أن قال: واعلم أنه لا تقوم عصابة تدفع ضيما أو تعز دينا، إلا
صرعتهم البلية، حتى تقوم عصابة شهدوا بدرا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يوارى
قتيلهم، ولا يداوى جريحهم. فقلت: من هم؟ قال: الملائكة (2).
ومنها: عن الباقر (عليه السلام): ومثل من خرج منا - أهل البيت - قبل قيام
القائم (عليه السلام) مثل فرخ طار أوقع من وكره، فتلاعب به الصبيان (3).
ومنها: ما عن أربعين المجلسي (رحمه الله) قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ما
خرج ولا يخرج منا - أهل البيت - إلى قيام قائمنا أحد، ليدفع ظلما وينعش حقا،
إلا اصطلمته البلية، وكان قيامه زيادة في مكروهنا وشيعتنا (4).
ومنها غير ذلك مما يمكن أن يطلع عليه المتتبع، ولكنه لا يجد إلا

1 - تفسير العياشي 1: 64، الغيبة، الطوسي: 441، إثبات الهداة 3: 732 / 78،
مستدرك الوسائل 11: 37، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو وما يناسبه، الباب 12،
الحديث 11.
2 - الغيبة، النعماني: 194، مستدرك الوسائل 11: 35، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو
وما يناسبه، الباب 12، الحديث 5.
3 - الغيبة، النعماني: 199، مستدرك الوسائل 11: 37، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو
وما يناسبه، الباب 12، الحديث 9.
4 - لم نعثر عليه في الأربعين، لاحظ مقدمة الصحيفة السجادية: 16.
62

في مثل هذه الكتب المعدة لاسقاط الأحاديث، كما لا يخفى.
نعم في الباب المزبور آنفا من الوسائل طائفة من الأخبار
تحتوي على الردع عن القيام بالسيف، وقضية إطلاقها المنع عنه حتى
للدفاع عن الحق، وهذا ضروري البطلان، مع ما في سند بعض منها ودلالة
البعض الآخر، فراجع وتدبر.
ثم إن عصر الخلفاء الجائرين كان يقتضي جعل هذه الأخبار، لاخماد
النار المشتعلة ضدهم، وهذا الأمر مما هو الواضح البارز من الأول إلى
عصرنا هذا، وهو مقتضى كيد الكيدة ومكر المكرة، وأي كيد أحسن من
ذلك، حتى أورث سكوت أعلام الشريعة في العصور المختلفة، وأوجب
التردد في الأمر والشك في الوظيفة؟!
وهذه الأيادي ربما نهضت لاخفاء المسألة عليهم، باستراق
الأحاديث التي تحث المسلمين ضدهم.
هذا، ولو سلمنا صدور مثلها عنهم (عليهم السلام) فجهة الصدور واضحة، وهي
التقية من هؤلاء الجائرين الظالمين، فإنهم (عليهم السلام) كانوا متهمين بتطلب
الرئاسة وجلب الناس إلى أنفسهم للحكومة الحقة، وما كان ذلك
بمجرد الوهم والخيال، بل كانوا يرون ذلك منهم (عليهم السلام) في شتى النواحي
الشتى حسب بعض الآثار والتواريخ.
فبالجملة: لا يمكن العثور على تلك الآثار واللبيات الواضحة
حذاء هذه الأخبار المخدوشة من جهات كثيرة، ولو لم يكن بسط الكلام
63

في المقام خروجا عن وضع الكتاب والباب، لدخلت المسألة من بابها
وأوضحتها حقها، كي لا يبقى بعد ذلك شبهة عند أحد من المنكرين، فنرجو
لله تعالى أن يوفقني لذلك، فإنه خير موفق.
الجهة السادسة: حول شرائط الحاكم الاسلامي
1 - لا بد وأن يكون الحاكم فقيها عارفا بالحلال والحرام، ومجتهدا
في المسائل الفرعية، بل وفي الاعتقادات الأصولية على إشكال فيه.
ويدل عليه - مضافا - إلى أنه القدر المتيقن من الخارج عن
الأصل - المآثير السابقة الشاملة لاعتبار عرفان الحاكم قضايانا
والحلال والحرام ولرواية الحديث وسنة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، مع
أن الاحتياط في السياسات مما لا يرجع إلى محصل، بل يستلزم
ضعف الحكومة، وهكذا التقليد، فإن الرجوع إلى الفقهاء في فهم
المسائل يورث ضعف الحكومة المركزية، وهو خلاف الفهم العقلائي
والشم السياسي.
ولكن في المسألة إشكالا: وذلك لأن دليل العقل لا يقتضي أزيد من
عدم جواز تعطيل الأحكام، وعدم جواز نسخ الشريعة وإلغائها وإنسائها،
والدليل اللفظي - على ما عرفت منا - مؤيد لهذه المسألة العقلية، ولا
يتم لإفادة الحكومة الاسلامية. نعم رواية العلل جامعة لشتات
المسائل، ولكنها ظاهرة في عدم اعتبار فقاهة الحاكم وأولي الأمر، وذلك
64

لقوله (عليه السلام): ومنها أنه لو لم يجعل لهم إماما قيما أمينا حافظا مستودعا
لدرست الملة وذهب الدين، وغيرت السنة والأحكام... (1)، إلى
آخره، فإنه لو كان الشرط كونه فقيها لأشار إليه ولذكره، لأنه أولى
بالذكر، مع أن الحاكم الاسلامي لا يتمكن من تحصيل الفقه بهذا الوسع
وإدارة الشؤون السياسية، وهذا ربما يؤدي إلى ضعف الحكومة، فلا
يشترط كونه فقيها، بل لو كان تحت سلطان الفقيه حسب الأحكام
الاسلامية لكفى، كما كان سلاطين الصفوية وبعض القاجارية وأمثالهم،
مع أنهم كانوا يخطئونه ولا يأتمرون بأوامره ولا ينتهون عن نواهيه، ولذلك
لو كان الفقيه يسلبه عن مقامه ويمنعه عن رئاسته، لكان يعدمه أحيانا.
وأما لزوم ضعف الحكومة فهو في حد نفسه ليس ينكر في الجملة،
ولكنه لا يؤدي إلى الفتور في الحكومة وأساسها، وليس هذا من الأحكام
العقلية الواضحة حتى يعتبر شرعا في الحاكم.
2 - لا بد وأن يكون عادلا، وهذا مما لا يكاد ينكر، وهو قضية العقل
والنقل على ما عرفت في خلال المباحث السابقة، وقد ورد في الكتاب
العزيز الأمر بالحكم عن عدالة في المواضع الكثيرة، وهو مقتضى اعتبار
الأمانة والقيمومة والحفظ والاستيداع، كما في العلل وغيرها.
وأما دعوى: أن الفسق في المسائل الشخصية، يجتمع مع العدل
في المسائل النوعية والاجتماعية، ولا يعتبر أزيد من هذا القدر من

1 - علل الشرائع: 253.
65

العدالة، فهي غير مسموعة، لأن مجرد الامكان الثبوتي لا يكفي، لأن
الفاسق الغير الأمين على الحلال والحرام الإلهيين الشخصيين وفي
الأحكام الفردية، غير قابل لجلب الاعتماد وتحصيل الاطمئنان الذي به
قوام الحكومات، فإن الملة لا بد وأن تكون ذات طمأنينة بالنسبة إلى
الحكومة، حتى يتمكن الحاكم من إمرار أموره وتقويم مملكته، فسقوط
الفاسق عن نيل العهد والظالم عن درك الحكومة، عندي من
الواضحات الأولية ومن البديهية الأولى، كما لا يخفى. نعم إذا رأى
الفقيه مصلحة تصديه في مورد فهو إليه، كما كان ذلك في زمان بعض
المعصومين (عليهم السلام).
3 - هل يعتبر كون الحاكم سائسا وخبيرا بالأوضاع وبصيرا بالأمور،
وعاقلا في تشخيص المصالح وتنظيم المشاغل، أم يكفي مجرد كونه
فقيها عادلا؟
لا شبهة في الأول، ضرورة أن قوام الأمر الواجب وهي الحكومة
وتشكيل السلطنة على الرعية، يحفظ النظام بين الأمة بمثله، ولا
يجوز لغيره تصديه، للزوم اتهام المذهب بالانحراف والابتذال، وهذا بحكم
العقل غير جائز، بل في رواية العلل ما يؤيد ذلك، ويكون كالنص في
اشتراط الأمور الأخر في الرئيس والقيم، كما نرى ذلك في الرؤساء
الجائرين.
ولو قيل: مقتضى الشك في الشرطية جواز التصدي، لعمومات
66

الحل والبراءة.
قلنا: مقتضى الأصل عدم جواز حكومة أحد على الآخر وعدم نفوذ
تصرفاته، والقدر المتيقن من الخارج عنه من كان واجدا لتلك
الشرائط، فما ترى في كتب الأصحاب فهو في محله، لعدم اشتراط هذه
الخاصة في القاضي، والحكم في الخصوصيات الجزئية وإن كان ربما
يرجع بعض الحركات المنتسبة إلى بعض أرباب الفقاهة والعدالة
إلى قصور في الرشد، وهو غير صحيح قضاؤه حينئذ.
ولا يقدم العقلاء على جعل مثله حكما بينهم في أمرهم، فلا معنى
لتخيل أن الشرع المقدس الاسلامي، يأتي بما ليس في حد الفهم العقلائي
في هذه المسائل العرفية، بل ما جاء به الاسلام يطابق العقل البرهاني
في المسائل البرهانية، والعقل العرفي في المسائل الاجتماعية وإدارة
المملكة الاسلامية، فلا ينبغي إسناد الجهالة إليه جدا.
كيف، وكان رؤساء المذاهب ساسة البلاد كما في الزيارة
الجامعة وغيرها، فالفقيه خليفة هؤلاء في جميع شؤونهم، فلا بد وأن
يكون واجدا للأوصاف المعتبرة في أمر الولاية والحكومة، دون ما لا
يكون لازما في هذا الموقف، وهو العلم بالمغيبات والكائنات وأصول
الحروف والأعداد والجفر الجامع.
وبالجملة: لا يلزم أن يكون رئيس الاسلام - في جميع الأعصار -
معصوما عارفا بالواقعيات، عالما بالأكوان السابقة واللاحقة، وإن كان
67

في برهة من الزمان الأمر كما تحرر، إلا أن تلك الأوصاف ليست دخيلة
في أساس المسألة، كما لا يخفى.
فلو كان بين الأمة] شخص [عارف بالقانون، وسائس عارف بالأمور
السياسية في تنظيم المصالح في المملكة الاسلامية، فعلى الفقيه
نصب ذلك إن كان عادلا. وهذا من الشواهد على أن الفقاهة ليست شرطا
في سائس البلاد الاسلامية، بل يكفي كونه منصوبا من قبل ذلك الفقيه،
والله العالم بالأمور، فتأمل.
إفاضة القدير وإعادة الضمير: قد اشتهر في كلمات أصحابنا أن كلمة
الإمام منصرفة إلى الإمام المعصوم (عليه السلام)، فما في الأخبار الكثيرة
الواردة في الحدود والتعزيرات، من إحالتها إلى الإمام، فالمراد منه
هو الإمام المعصوم (عليه السلام)، فلو كانت الحكومة الاسلامية لغيره (عليه السلام) لكان
يجوز له إجراؤها، وهذا خلاف تلك النصوص الكثيرة البالغة إلى حد
التواتر، والالتزام بالتخصيص في الحدود وبعض الأحكام الأخر، كما
اشتهر حتى قيل بعدم جواز تصديه في أمثال الأخماس والزكوات وغيرهما
من أخذ الكفارات وغيرها، يورث الفتور في الحكومة، ويكون شاهدا
على جواز تعطيل أمثال هذه الأحكام، فلا يبقى مورد يتدخل فيه الفقيه من
الأمور السياسية، بعد اخراج هذه الكليات الأساسية، بل حفظ الحدود
وسد الثغور يتوقف على أخذ الضرائب الاسلامية، وإذا كان هو مخصوصا
به (عليه السلام)، فيكون هو أيضا معطلا، والله يعصمنا من ذلك التسويلات الباطلة.
68

والذي يظهر لي: أن كلمة الإمام ليست منصرفة إلى الإمام
المعصوم (عليه السلام) إلا في الأعصار المتأخرة، وإلا فهي تدل على ما هو
الموضوع له، وهو المقدم على الناس في أمورهم وحاجاتهم، والملاذ
والملجأ فيها عند الضرورات.
ويشهد لذلك جملة من السير والتواريخ والأحاديث، ونشير إلى
] نبذة [منها:
1 - عن الباقر (عليه السلام): إذا أخذ رقيق الإمام لم يقطع، وإذا سرق واحد من
رقيقي من مال الإمارة قطعت يده (1) فقد وقعت المقابلة بين الإمام
والمعصوم (عليهم السلام) في هذه الرواية.
2 - وعن كتاب تحف العقول وغيره عن السجاد (عليه السلام)، قال: كل
سائس إمام (2).
3 - وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى عثمان: اعلم أن أفضل عباد الله عند
الله إمام عادل هدى، فأقام سنة معلومة وأمات بدعة مجهولة (3).
4 - وعن المفيد عنه (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: إن شر الناس يوم القيامة
الثلاث. قيل: وما الثلاث يا رسول الله؟ قال: الرجل يسعى بأخيه إلى

1 - تهذيب الأحكام 10: 111 / 439، وسائل الشيعة 28: 299، كتاب الحدود
والتعزيرات، أبواب حد السرقة، الباب 29، الحديث 5.
2 - تحف العقول: 255، مستدرك الوسائل 11: 154، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس
وما يناسبه، الباب 3، الحديث 1.
3 - نهج البلاغة، صبحي الصالح: 234 - 235.
69

إمامه فيقتله، فيهلك نفسه وأخاه وأمامه (1) فإنه منحصر بالإمام الجائر،
كما لا يخفى.
5 - وعن ابن بابويه، عن أبي بصير، عن الصادق (عليه السلام)، قال: سمعته
يقول: وعليكم بالطاعة لأئمتكم، يعني بذلك ولد العباس (2).
وربما كان يطلق الإمام على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعض الخلفاء الجائرين
الأولين، حسب الاشعار والتواريخ، فعن عمار في الجمل خطابا إلى
عائشة:
وأنت أمرت بقتل الإمام وقاتله عندنا من أمر (3)
6 - وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): يا كميل لا غزو إلا مع إمام عادل، ولا
نقل إلا عن إمام فاضل (4).
7 - وعن الصادق (عليه السلام): الواجب على الإمام إذا نظر إلى رجل
يزني ويشرب خمرا، أن يقيم عليه الحد، ولا يحتاج إلى بينة مع نظره،
لأنه أمين الله في خلقه (5).
وفيه - مضافا إلى دلالته على أن المراد من الإمام ليس المعصوم،

1 - الإختصاص: 228، مستدرك الوسائل 18: 214، كتاب القصاص، أبواب القصاص
في النفس، الباب 2، الحديث 13.
2 - بحار الأنوار 47: 162 / 1.
3 - مروج الذهب 2: 371.
4 - وسائل الشيعة 27: 30، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 34.
5 - تهذيب الأحكام 10: 44 / 157، وسائل الشيعة 28: 57، كتاب الحدود
والتعزيرات، أبواب مقدمات الحدود، الباب 32، الحديث 2.
70

لأنه لا يتعارف منه النظر إلى الزاني حين زناه - دلالة على أن الرئيس
أمين الله في خلقه، ويكون متصديا لأمور الخلق، فتأمل.
ثم إن في جملة من الأخبار في كتاب الحدود لفظة: الوالي (1)
والسلطان (2)، وعن مقنعه المفيد في رواية سلطان الاسلام (3)،
ولا شبهة في انصراف أمثال هذه الكلمات إلى الأعم، مع أن في كثير من
الأخبار ترخيص إجراء الحدود حتى إلى سلاطين الجور (4)، واحتمال
أنه من الإذن الخاص، فلا يجوز للفقيه ذلك، في غير محله.
فتحصل: أن كلمة الإمام ليست منصرفة إلى المعصوم (عليه السلام)، ففي
روايات العيد إشارة إلى أن ذلك إلى إمام المسلمين (5)، ولا شبهة في أن
الفقهاء يحكمون في مواقف الشك. نعم ربما يمكن دعوى عدم جواز إجراء
الحدود قبل تشكيل الحكومة، لأنه بدونه يستلزم الفاسد للمجري، بل

1 - وسائل الشيعة 28: 208، كتاب الحدود والتعزيرات، أبواب حد القذف، الباب 22،
الحديث 1، و: 212، الباب 25، الحديث 2، و: 228، أبواب حد المسكر، الباب 6،
الحديث 6.
2 - وسائل الشيعة 28: 18، كتاب الحدود والتعزيرات، أبواب مقدمات الحدود وأحكامها
العامة، الباب 4، الحديث 1 والباب 17، الحديث 1.
3 - المقنعة: 810، وسائل الشيعة 28: 49، كتاب الحدود والتعزيرات، أبواب مقدمات
الحدود وأحكامها العامة، الباب 28، الحديث 2.
4 - وسائل الشيعة 28: 141، كتاب الحدود والتعزيرات، أبواب حد الزنا، الباب 36،
الحديث 2.
5 - وسائل الشيعة 10: 132، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 57،
الحديث 5.
71

هو قبلها لا يعد إماما فلا ينبغي الخلط بين المسائل.
الجهة السابعة: في الأمور المشكوكة تفويضها إلى الفقيه
إذا تبين أن للفقيه الجامع إصلاح حال المسلمين فيما يحتاجون
إليه في أمر دينهم ودنياهم، فلا يبقى شئ إلا وله الدخالة فيه، حتى لا
يبقى الناس في الضلالة عن دينهم، ولا يحصل في قلوبهم الفتور في أمر
مذهبهم.
ومع ذلك فربما يشكل الأمر في أمور، ربما قيل: إنها غير مفوضة إلى
الفقهاء في عصر الغيبة، أو يشك في أن هذا الأمر - مثلا الجهاد - هل
يختص بالإمام المعصوم (عليه السلام) وفي عصره أم يشترك فيه غيره.
فهنا مقامان:
المقام الأول: لا شبهة في أن كل معروف علم من الشرع أن ذلك اعتبر
واجب الوجود، ولا تكون الهيئة بالنسبة إليه مقيدة ولا مشروطة، بل
الطلب مطلق، إلا أن الاجراء مترتب، ويكون المتصدون للاجراء مختلفي
الرتب ومتفاوتي النسب، فهو موكول إلى الفقيه الجامع، لأنه القدر
المتيقن.
وإنما الشبهة فيما إذا لم يكن المعروف هكذا، ولا يستلزم تعطيله
اختلال النظام، فإن كان في تعطيله تضعيف ديانة الناس وتبعية رغبة
الأمة إلى الاسلام، أو صرف أذهانهم إلى سائر الديانات السهلة، فلا بد
72

من تصديه، لما مر من الأدلة الكافية لاثبات أن الأمور بيد هؤلاء الأعلام،
ومن ذلك تطليق المرأة في مواقف الضرورة، والمحافظة على أموال آحاد
الناس والصغار... وهكذا.
وإذا لم يكن تعطيله مستلزما لمثل ذلك، فإن كان فيه بسط الحكومة
الاسلامية ولا يكون تمزيق الديانة الحقة، الذي احتملنا عند تركه
ويستوحش الفرق الباطلة من مثل تلك الملة والشريعة، فعليهم
القيام بذلك.
ومن هنا يظهر: أن المسائل المالية وجميع الضرائب الاسلامية
والمسائل السياسية وجميع الجزائيات الاسلامية، كلها من الوضحات
التي بيدهم، وعليهم الاجراء عند اجتماع الشرط الآخر، وهو وجود
الحكومة والرئاسة، ومنها الدفاعيات الاسلامية، فردية كانت، أو
كلية ونوعية، فإنها من الوظائف الأولية، بل في اختصاص الجهاد
الاصطلاحي بالمعصوم (عليه السلام) إشكال جدا.
فهذه الأمور وإن استشكل فيها، إلا أنها عندنا واضحة السبيل، فعلى
كل حال خلود الاسلام المقتضي لخلود الأحكام الفردية والنظامية،
يقتضي خلود الوظيفة الأصلية، وهو التبليغ والارشاد وبسط الحكومة
في البلد والقطر، وما ترى في عصرنا من عدم جواز تصدي أحد لأحد غير
صحيح، بل المرام لا بد من نشره إلى أقصى البلاد وأبعد النقاط، ولذلك
نجد الفرق الواضح بين الحكومات التي تكون ذات مرام، كما في الأقطار
73

الشيوعية، وبين غيرها، فإن الأولى في جميع الأحيان بصدد البسط
والتوسعة، والإسلام هكذا فإن التزم المخالف بالجزية فهو، وإلا فلا بد
من الجهاد حتى لا يبقى حكومة حذاء تلك الحكومة الحقة.
وإن لم يكن في بسطه صلاح لحال الاسلام ولا المسلمين، ولا
إصلاح حال الفرد، فلا يجوز له التصدي، لما عرفت منا أن منزلة
الحكومة الاسلامية كسائر الحكومات العرفية، تابعة للمصالح
النوعية، مراعية للمرامات والاعتقادات الدينية، ومحافظة لتمايلات
عائلة البشر بالنسبة إلى الدين والمذهب المقدس. والله العالم
بحقائق الأمور.
ثم إن لكل واحد من تلك الموضوعات، كالزكاة والخمس والجهاد
والأمر بالمعروف، وهكذا المسائل الحقوقية والحدود الديات
والقصاص، وغيرها من السياسات، كتابا خاصا مشتملا على مسائلها، ولا
نتمكن الآن من الغور في خصوصياتها، وذكر بعض القرائن منها على هذا
المشرب الأصلي والأعلى، والإحالة إلى محالها، وأحسن كما مر.
المقام الثاني: إذا شك في أمر أنه من مختصات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو
يجوز للولي (عليه السلام) أن يتولاه ولم يكن دليل لرفع الشبهة، فإن كان مما يدرك
العقل لزومه فهو، وإلا فمقتضى الأصل عدم جواز التصدي له (عليه السلام)، وهكذا
بالنسبة إلى الفقيه، ولكنه كما لا معنى للشك الأول لا مورد للشك
الثاني، لقيام الأدلة.
74

ولا يمكن لي الالتزام بأن الاسلام يكون ذا أحكام عالية راقية
تحوج إليها الأمة، وتكون ذات تدبير في الرعية، ومع ذلك مشروط
إجراؤها بشخص، وهو إماميت أو غائب. نعم في الأمور الجزئية إذا
حصلت الشبهة فالأصل عدم جواز التصدي، لعدم نفوذ تصرفه، ولو صح
التمسك بالبراءة للمتصدي فلا يصح التمسك بها للتصحيح كما تحرر.
وغير خفي: أن التصدي إذا كان مشكوكا حكمه جوازا وحرمة، وكان
الدليل الأولي مانعا عنه، فلا تصل النوبة إليه. نعم إذا كان إطلاق ذلك
ممنوعا فلها المجرى، مثلا إذا شك في جواز المحافظة على مال الصغير،
فإنه تجري البراءة العقلية عن شبهة التحريم، ولكنه إذا لم تكن
المحافظة ممنوعة شرعا ابتداء، لأنها تعد تصرفا وهو غير جائز. اللهم إلا أن
يقال بقصور تلك الأدلة عن شمول مثله، فيجوز ذلك تكليفا لا وضعا، فلا
تخلط.
الجهة الثامنة: في أن تصدي الزعامة مشروط بشروط
هل يجوز لآحاد الفقهاء - المنتشرين في البلاد في هذه الأعصار -
التصدي لتلك الزعامة قبل تشكيل الحكومة، المشتملة على القوة
الدفاعية عند الهجمة عليه من قبل الحكومة المركزية، أم لا، بل
75

لا بد من تفويض الأمر إلى غيره، ولا يجوز له إجراء أي من الأحكام
السياسية، ولا الدخالة في أمر من الأمور المالية وغيرها، إلا بمقدار
الضرورة التي يحتاج إليها فردا؟
أقول: لا شبهة في وجوب تشكيل الحكومة الجامعة للنظام
الداخلي والمشتملة على القوى اليومية للدفاع، فإذا لم يتمكن الفقيه
من ذلك - كما في عصرنا هذا - فإن خاف من التصدي أن يتعرض من قبل
الحكومات الجائرة بالنسبة إلى نفسه أو أحد آخر محترم المال
والعرض، فلا يجوز بالضرورة من العقل والشرع.
وإذا ساعدته الحكومة الجائرة على إجراء بعض الأحكام
الشرعية، فهل يجوز له تصديه، أم لا؟ وجهان: من أن الواجب لا يسقط
إلا بمقدار الضرورة، ولا يجوز تعطيل الحدود إلا ما لا يمكن إقامتها.
ويشهد لذلك ما أشير إليه من بعض الروايات، الدالة على أن
الأئمة (عليهم السلام)، كانوا يرجعون إلى سلاطين الجور لاجرائهم الحد الإلهي
بالنسبة إلى المستحقين.
ومن أن ذلك ينافي المقاومة السلبية التي يستظهر من الأخبار
لزومها (1)، فإن التصدي لبعض الأمور، ربما يؤدي إلى بقاء السلطان
الجائر وتسليط الحكومة الفاسدة وإحكام بنيانها.

1 - وسائل الشيعة 27: 11 - 14، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 1،
الحديث 1 - 6.
76

وبعبارة أخرى: ترك ما هو الوظيفة بنحو الاطلاق، ربما يؤدي إلى
سقوط حكومة الباطل، لاستلزامه الهرج والمرج، مثلا بخلاف التفكيك
والتجزئة، فإن ذلك تحكيم للباطل وتنفيذ لما هو المبغوض الأعلى.
اللهم إلا أن يقال: بأن في المسألة تفصيلا، فإنه تارة يكون في ترك
التصدي على الاطلاق، رجاء اسقاط الجائر عن الحكومة المغصوبة،
وأخرى لا يكون الأمر كذلك، ففي الصورة الأولى يتعين ذاك، وفي الثانية
يتعين ذلك. والله العالم بحقائق الأمور.
الجهة التاسعة: حول ممنوعية الفقيه عن مزاحمة الزعيم والإمام
قضية ما تحرر حسب الأخبار: أن الفقهاء لهم الولاية التامة في
أمر الدين والدنيا تحت ظلال القانون الإلهي، وعلى هذا ربما يشكل الأمر
في صورة التزاحم.
والذي هو الظاهر لي: أن الفقيه الذي بنى الحكومة الاسلامية،
وتصدى للزعامة العامة، وشكل النظام البلدي والقطري في المملكة
الاسلامية، فهو المتبع في المصالح والمفاسد، ولا يجوز للفقيه الآخر أن
يتدخل في الأمور، بحيث يورث ضعف الحكومة الاسلامية، حتى إجراء
الحدود وأخذ الضرائب، لأن هذه الأمور بيد الإمام والوالي، ومن هو
الإمام والوالي؟ هو المتقدم عرفا] وولي [الأمر عند العقلاء، لا الذي هو
المجعول حكومته في مقبولة عمر بن حنظلة، فإنه حاكم بين الشخصين
77

في الأمور الجزئية الشخصية، كما عرفت منا تحقيقه.
وهذا الذي ذكرناه يجري حتى بالنسبة إلى قضائه وفصل
خصومته، لعدم الدليل على نفوذ قضائه في هذه الصورة. ولقد عرفت منا
سابقا: أن مسألة إجراء الحدود وأخذ الضرائب وغيرهما موكول إلى
الوالي والإمام، وليس المراد من الإمام والوالي هو المقبوض اليد بل
الإمام هو المتصدي المبسوط اليد، فإذا قام ونهض أحد من الفقهاء، وبنى
أساس الحكومة كسائر الحكومات، فعليه تنفيذ هذه الأحكام وعلى
الآخرين اتباعه في الآراء والعقائد، إلا فيما لا يرجع إلى التخلف عن
الحكومة بتضعيفها، كما لا يخفى.
ثم إن من الممكن دعوى: أن الزعيم الفقيه هو الذي تعين عليه
الواجبات الكفائية، فلا يجوز للآخر مزاحمته، ولا التدخل في سلطانه
وإن لم يورث الضعف والفساد، للزوم سد باب الاحتمال، فإن ذلك مظنة
تضعيف الحكومة المركزية، ويكفي للمنع هذا الاحتمال، بعد عدم وجود
إطلاق ناهض على جواز تصديه في هذه الصورة، كما هو كذلك في
الحكومات العرفية.
نعم في صورة تخلف الفقيه عن الوظائف يسقط قهرا، وعلى الآخر
عند الامكان منعه ونصب الآخر، أو التصدي بنفسه، فلا تخلط، وكن على
بصيرة من أمرك.
ثم إن إثبات الولاية للفقيه على الصغار وغيرهم عند وجود
78

الأولياء المنصوصين، مشكل وإن كان ربما يستظهر من بعض الأخبار، ولا
حاجة لنا في هذا المضمار البحث عنه، فالعدول عنه أولى.
ملحق البحث وثمرة مسألة الولاية
فذلكة الكلام في المقام: هو أنه تعالى قد جعل للفقيه كل ما جعله
للإمام (عليه السلام)، من حيث رئاسته على كافة الأنام، وسلطنته على سائر العباد،
وإدارته لشؤون الملة وإمامته لقيادة الأمة وتنفيذ القوانين الدينية
وتطبيقها وتدبير الشؤون الحياتية في الرعية وتنظيمها، والفقهاء
- رضي الله عنهم - عبروا عن هذه الرئاسة الكافلة للأيتام بالولاية،
وهي التي من آثارها الافتاء والقضاء وقبض ما يعود لمصالح المسلمين،
كأموال الخراج والمقاسمة والأوقاف العامة والنذور والجزية
والصدقات ومجهول المالك واللقطة قبل التعريف وقبض ما يعود
للإمام (عليه السلام) من الأموال، كحق الإمام والأنفال وإرث من لا وارث له،
والتولي للوصايا مع فقد الوصي وللأوقاف مع فقد المتولي، وحفظ أموال
الغائبين واليتامى والمجانين والسفهاء، والتصرف بما فيه المصلحة
لهم، حفظا أو إجارة أو بيعا أو نحو ذلك، وجعل بيت المال، ونصب الولاة
على الأمصار والوكلاء والنواب والعمال - المعبر عنهم في لسان الفقهاء
بالأمناء - وتجهيز الجنود والشرطة للجهاد ولحفظ الثغور، ومنع
التعديات وحماية الدين وإقامة الحدود على المعاصي والتعزيرات
79

على المخالفات، وإعاشتهم وتقدير أرزاقهم وتعيين رواتبهم، ونصب
القضاة لرفع الخصومات وحمل الناس على مصالحهم الدينية
والدنيوية، كمنع الغش والتدليس في المعايش والمكاييل
والموازين، وكمنع المضايقات في الطرقات، ومنع أهل الوسائط من
تحميلها أكثر من قابليتها، والحكم على المباني المتداعية بهدمها، أو
إزالة ما يتوقع منها الضرر على السابلة، وضرب السكة وإقامة
الصلاة وإجبار الممتنع عن أداء الحقوق الخالقية والمخلوقية،
وقيامه مقامه في الأداء، وإجبار المحتكر والراهن على الأداء والبيع،
وإجبار الشريك على القسمة، وإجبار الممتنع عن حضور مجلس
الترافع والخصومة، وتسيير الحج، وتعيين يوم طلوع الأهلة،
والجهاد في سبيل الله - على إشكال فيه - وإصلاح الجسور وفتح الطرق
وحفر الترع وصنع المستشفيات، وسياسة الرعية، وإعطاء الراية
والعلم واللواء، وتقسيم الغنيمة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
والدفاع عن الحدود والنفوس والأعراض والأموال.
وبالجملة: حل جميع المشاكل الفردية والاجتماعية، وتشكيل
الوزارات في مختلف شؤون المملكة. والله العالم.
الطائفة الثالثة: عدول المؤمنين، فإن المعروف عنهم أن النوبة تصل
إليهم في التصدي لأموال الصغار واليتامى عند فقد الفقيه، وبعد
مفروغية أن الشرع لا يرضى بذلك، أي بترك حفظ أموالهم وبترك
80

التصدي لأمورهم، فإنه عند ذلك يكون العدل المؤمن هو القدر المتيقن
من بينهم، فيجوز له التصرف فيها، وبذلك نخرج عن إطلاق المنع من أموال
الغير إلا بإذنه.
81