الكتاب: منية الطالب
المؤلف: تقرير بحث النائيني ، للخوانساري
الجزء: ١
الوفاة: ١٣٥٥
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤١٨
المطبعة:
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابع لجماعة المدرسين بقم المشرفة
ردمك: ٩٦٤-٤٧٠-٠٠٧-٤
ملاحظات: تقريرات المحقق الميرزا محمد حسين النائيني (وفاة ١٣٥٥)

منية الطالب
في
شرح المكاسب
تأليف
الشيخ موسى بن محمد النجفي الخوانساري (قدس سره)
المتوفى سنة 1363 ه‍
تقريرات
المحقق الميرزا محمد حسين النائيني (قدس سره)
المتوفى سنة 1355 ه‍
الجزء الأول
مؤسسة النشر الاسلامي
التابعة لجماعة المدرسين قم المشرفة
1

شابك 4 - 007 - 470 - 964
4 - 007 - 470 - ISBN 964
منية الطالب
(ج 1)
تقرير: المحقق الميرزا محمد حسين النائيني (قدس سره)
المقرر: الشيخ موسى بن محمد النجفي الخوانساري (قدس سره)
تحقيق ونشر: مؤسسة النشر الاسلامي
عدد الصفحات: 452
الطبعة: الأولى
المطبوع: 1000 نسخة
التاريخ: 1418 ه‍.
مؤسسة النشر الاسلامي
التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
2

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله واهب الكمال لأهل الكمال، والصلاة والسلام على المتسربل
بسربال الجمال والجلال، المتخلق بأسمى الصفات والخصال، أبي القاسم محمد
المصطفى، وعلى آله الدر اللآل، واللعنة المؤبدة على أعدائهم الجهال والضلال.
وبعد، فقد لمعت في سماء مدرسة الفقه الأمامي على مدى القرون المتمادية
نجوم ساطعة انبهرت بلمعانها في المنقول والمعقول عقول الفحول، فانحنت لهم
نواصي أهل العلم واهتدوا بهم في سراهم، فبلغوا بفضل أفكارهم أسمى المقاصد،
وتفتحت أمامهم ببركة علومهم أبواب الفوائد، وترووا من نمير إفاضاتهم في
أعذب الموارد، فانثنوا مفلحين منجحين، فلله درهم وعليه عز شأنه جزيل أجرهم
وعظيم مثوبتهم.
ومن هذه النجوم المشرقة العلامة العيلم والبحر الخضم، وحيد زمانه وفريد
أقرانه، الميرزا النائيني قدس الله سره العزيز، الذي سبق في علم الفقه والأصول
سبقا بعيدا، فأتعب من جاء بعده، وأضحى يفتخر رجال العلم والتحقيق بعظم
أفكاره وفهم مراده وحل عباراته، كيف لا يكون كذلك وهو ابن بجدتها وحامل
راية من سبقه من العلماء المحققين رضوان الله عليهم أجمعين.
والكتاب الماثل بين يديك - عزيزنا القارئ - يعد من أهم التقريرات
وأجودها لمباحث هذا العلم في فقه المتاجر والمكاسب، كتبه أفضل تلاميذه
وأبرزهم علما وعملا، وأعمقهم تحقيقا وتدقيقا، المرحوم آية الله الشيخ موسى
3

النجفي الخوانساري طيب الله رمسه، واسما إياه ب‍ (منية الطالب في حل
مشكلات المكاسب).
ونظرا لأهمية هذا الكتاب وحاجة المحصلين وفضلاء الحوزة العلمية الماسة
له قررت مؤسستنا طبع هذا الكتاب بعد تحقيقه وترتيبه، شاكرين بذلك لجميع
الأخوة الأفاضل الذين ساهموا في إخراج هذا الكتاب بهذه الحلة القشيبة،
ونخص بالذكر منهم: شاكر محمود الأحمدي، وجاسم التميمي وكريم الساعدي،
والسيد حسام شبر.
كما لا يفوتنا تقديم الشكر لولده الفاضل الأستاذ محسن النجفي الخوانساري
على إتحافه لنا بنبذة عن حياة والده المعظم قدس سره. سائلين الله جل شأنه أن يوفق
الجميع لنشر علوم آل محمد صلوات الله عليهم أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد
لله رب العالمين.
مؤسسة النشر الاسلامي
التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
4

نبذة من حياة المقرر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي رفع بالعلم درجات العلماء العاملين، وجعل مدادهم أفضل من
دماء الشهداء الصالحين، والصلاة والسلام على مؤسس قواعد الدين والأئمة
الهادين المهديين، واللعنة الدائمة على أعدائهم إلى يوم الدين.
اسمه ونسبه:
هو الشيخ موسى ابن الميرزا محمد بن... ابن الشيخ أبو عدنان، من أهالي
خوانسار، من المدن الجميلة في إيران.
كان والده الميرزا محمد رجلا وجيها، وكبير طائفة (شيخها)، ولهذا أطلق
عليه لقب (شيخ الطائفة).
وكان من المعمرين والمكثرين في العلم والمال والأولاد، وكان معروفا
بالورع والتقوى، خادما لمجتمعه في خوانسار يومذاك (1).
أما جده الأعلى الشيخ أبو عدنان فقد كان من أصحاب الكرامات، وله بقعة
ومزار في منطقة (سر چشمه) في خوانسار تعرف ب‍ (بقعة پير) يقصدها العام

(1) نقلا عن كتاب (خاندان مرحوم آقا ميرزا رحيم حاج شيخ ومرحومه هاجر بي بي
انصاريان) بالنص أو قريب منه، انتشارات أنصاريان، قم.
5

والخاص (1).
ولادته:
ولد شيخنا المترجم له في مدينة خوانسار في العاشر من شهر الميزان (مهر)
عام 1254 ه‍. ش المصادف لسنة 1875 م.
لقبه:
لقب صاحب الترجمة هو (أنصاريان) لكنه استبدله إلى (النجفي
الخوانساري) تيمنا بمدينة النجف الأشرف ونسبة إلى مسقط رأسه خوانسار.
نشأته العلمية:
شرع في دراسة العلوم التمهيدية والمقدمات في اللغة والأدب في مدرسة
(مريم بيگم) (2) في خوانسار على العالم الفاضل العلامة الشيخ الميرزا حسين، ثم
شد رحله وانتقل إلى أصفهان ودرس فيها مرحلة السطوح عند الحاج السيد جمال
الأصفهاني، ثم هاجر إلى النجف الأشرف، وأخذ يحضر في حلقات بحث الخارج

(1) أحتفظ لآية الله المرحوم السيد صفائي الخوانساري أعلى الله مقامه بكلمة بخطه المبارك
في أحوال الشيخ موسى، يقول فيها: (كان من بيوت القدس والورع والعبادة من آل الشيخ
أبي عدنان المدفون في...) ويرى الفاضل الحاج محمد حسن الفاضلي أيضا بأن الشيخ أبا
عدنان هو جدنا الأعلى ويقول عن البقعة والشيخ: (تعتبر بقعة الشيخ المباركة إحدى الآثار
التاريخية على أرض مدينة خوانسار الجميلة. ويكشف لنا تاريخ خوانسار أن صاحب هذه
البقعة - كما هو محفور على الصندوق الخشبي للبقعة - هو صدر الدين حسين. عاش في
أوائل القرن السابع الهجري، وكتب مريدوه أنه كان أول من أرسى أسس المذهب الجعفري
الحق في أصفهان وضواحيها حتى بروجرد ونهاوند ولرستان وخوزستان. وقد بلغ من العلم
في زمانه مبلغا بحيث كان العلماء يكاتبونه ويشدون الرحال إليه من مختلف المناطق ومنها
الشام. (نقلا عن بيان حول إعمار بقعة الشيخ في خوانسار بتوقيع السيد محمد حسن الفاضلي).
(2) ابنة الشاه سليمان الصفوي.
6

في الفقه والأصول لجهابذة الحوزة وأعلامها البارزين أمثال المرحوم آية الله
السيد كاظم اليزدي صاحب العروة، والمرحوم الآخوند الخراساني صاحب
الكفاية.
وبعد وفاة هذين العلمين التحق بالحلقة الدراسية للملا محمد علي
الخوانساري - الذي صاهره فيما بعد - والشيخ آقا ضياء العراقي والسيد أبو تراب
الخوانساري صاحب شرح نجاة العباد، وأخيرا الميرزا حسين النائيني أعلى الله
مقامهم الشريف.
والمعروف أن المترجم له كان على علاقة وطيدة بكبير أساتذته المرحوم
النائيني، وكان هو من أبرز تلامذته وأقربهم عنده، إذ حرر التقريرات المهمة
لأبحاث الميرزا النائيني في شرح المكاسب والصلاة والأصول.
منزلته العلمية وسجاياه:
كان رحمه الله مثال العلم والتقى السامي ونموذج الزهد والعمل الصالح النامي.
ولتحليه بالخصال الكريمة مضافا إلى مرتبته العلمية المرموقة خلف مرجع العصر
السيد أبا الحسن الأصفهاني - قدس الله روحه - في إقامة الجماعة في أكبر
مساجد النجف الأشرف وهو المسجد الهندي، وذلك بعد أن عجز السيد الأصفهاني
نتيجة الشيخوخة وكبر السن عن إقامة الجماعة والتدريس. فقد كان رحمه الله موضع
ثقة تامة من قبل مرجع الشيعة السيد أبي الحسن الأصفهاني في أمر الاستفتاءات
والإجازات (1).

(1) لإثبات ذلك وبغية التعرف على إنشائه الجميل باللغة العربية نثبت بالنص الإجازة التي
منحها إلى السيد عماد زاده رحمه الله والتي أوردها في مقدمة كتاب الإمام الحسن العسكري عليه السلام.
يقول المرحوم عماد زاده في المقدمة: (.... المرحوم الشيخ موسى بن محمد الخوانساري
من مدرسي الحوزة العلمية المبرزين في النجف الأشرف، كان موضع ثقة آية الله
الأصفهاني قدس سره وقد طلب لدى تشرفي بحضوره من الشيخ موسى النجفي الخوانساري أن
يكتب لي إجازة بخطه، فكتب إجازة من جانبه وأخرى من جانب آية الله وأصلها محفوظة
في كتاب الإجازات).
وفيما يلي نص الإجازة:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي رفع بالعلم درجات العلماء العاملين، وجعل مدادهم أفضل من دماء
الشهداء الصالحين، والصلاة والسلام على مؤسس قواعد الدين والأئمة الهادين المهديين،
واللعنة الدائمة على أعدائهم إلى يوم الدين.
وبعد، فإن جناب الفاضل الكامل والعالم العامل صاحب المصنفات البديعة والمؤلفات
اللطيفة عماد الاسلام وثقة الأعلام الآقا ميرزا حسين المعروف بعماد زاده دامت تأييداته
ممن استجازني رواية كتب الأخبار ومصنفات الأخيار فأجزت له أن يروي عني جميع ما
صحت لي روايته بحق إجازتي عن العالمين العاملين الحجتين الآيتين، فقيهي عصرنا
ووحيدي دهرنا الآقا ميرزا حسين النائيني والآقا السيد أبو تراب الخوانساري بطرقهما
الكثيرة المنتهية كلها إلى آية الله أستاذ الكل الآقا الوحيد البهبهاني والفقيه المحدث الشيخ
يوسف البحراني - نور الله ضريحيهما - بأسانيدهما المفصلة المنتهية إلى أرباب الجوامع
العظام والكتب والأصول ومنهم إلى أهل بيت النبوة ومهبط الوحي ومعدن العصمة صلوات
الله عليهم أجمعين.
وأوصيه بملازمة التقوى والتحذر من أن تغره الدنيا وأرجو منه أن لا ينساني من صالح
دعواته إن شاء الله تعالى، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته.
كتبه بيمناه الداثرة موسى النجفي الخوانساري في اثني عشر من شهر ربيع المولود سنة
ثلاثمائة وثلاث وستين بعد الألف من الهجرة المباركة. (كتاب الإجازات: 1 / 39).
7

وبعد توقف السيد أبي الحسن الأصفهاني عن الجماعة والتدريس قام بهذه
المهمة مدرسو تلك المرحلة ومعظمهم من تلامذة الميرزا النائيني. واستمرت
حوزة النجف العلمية في النجف تشق طريقها بكل قوة وصلابة واستقامة، وكان
على رأس المجموعة التدريسية الحاج الشيخ موسى رحمه الله، فكان يدير حلقة دراسية
مكتظة بالحضور على فترتين في الصباح وبعد الظهر. وقد اتسمت طريقته في
التدريس بالأسلوب الواضح الذي يشد المستمع إليه، مضافا إلى حسن خلقه
وتسلطه العلمي الكامل.
وعن علاقته الوثيقة بالميرزا النائيني يقول الشيخ آقا بزرك الطهراني في
كتابه القيم نقباء البشر: (الشيخ الفاضل الورع التقي الشيخ موسى ابن شيخ
المشايخ الميرزا محمد الخوانساري النجفي من الفضلاء المبرزين، وهو صهر
8

العلامة الميرزا محمد علي الخوانساري، ورأيت بخطه جملة من النسخ التي
استكتبها له في سنة 1322 ه‍ في النجف الأشرف (1) وهو اليوم من خواص
أصحاب مولانا الميرزا محمد حسين النائيني وكتب كثيرا من تقريراته. وطبع
بعضها مثل منية الطالب في حاشية المكاسب في جزءين في سنة 1358 ه‍ (2).
وصار مرجع التدريس بعد وفاة شيخه النائيني ويصلي في الجامع الكبير الشهير
بمسجد الهندي) (3).
وقد كان مستيقنا لدى علماء تلك الفترة أنه رحمه الله سيخلف السيد الأصفهاني
في مرجعية الشيعة لولا أن امتدت إليه يد الأجل وتوفي قبل السيد بعامين.
واشتهر الشيخ ببساطة العيش وحسن المعاشرة الاجتماعية وكثرتها حتى
نقلت عنه مواقف وقصص كثيرة لا زالت تتداولها ألسنة العلماء والفضلاء.
وكان الشيخ رحمه الله جميل الخط، كتب بيده نسخة من القرآن الكريم بخط النسخ
مع تذهيب في الحواشي وفاتحة الكتاب، إلا أنها فقدت وللأسف (4).

(1) المرحوم الميرزا محمد علي الخوانساري الإمامي، المشهور ب‍ (الآخوند الملا محمد
علي) والد زوجة المترجم له، وكانت له مكتبة عظيمة نادرة، نقلت بعد وفاته إلى منزل الحاج
الشيخ موسى للوقف، وقد تلف الكثير من الكتب بعد أن عاثت فيها دودة الأرضة، وبعد أن
توفيت ابنته (زوجة الشيخ) ولأجل تحديد وضع المكتبة في تقسيم الإرث تم توزيع كتب
الوقف وتقسيم الباقي بين الورثة، حيث أعطي القسم الأعظم منها إلى المرحوم الآقا ميرزا
محمد نجل المرحوم الآخوند - والذي كان من علماء أراك حينذاك - فنقلها إلى إيران، وبعد
مضي عقود عديدة عليها ابتاعها الحاج محمد حسن الفاضلي وعكف على تصليحها لوضعها
في المكتبة العامة التي أسسها في خوانسار ليعم نفعها الجميع.
(2) الصحيح أن منية الطالب طبع للمرة الأولى سنة 1357 ه‍. وقد كتب الشيخ آقا بزرك
الطهراني في ج 23 ص 205 من الذريعة - طبعة بيروت - ما يلي:
(منية الطالب في شرح المكاسب) للشيخ موسى بن محمد النجفي، من تقريرات أستاذه
الشيخ الحجة ميرزا محمد حسين النائيني، أبرز للطبع سنة 1357 وأشرنا إليه في (6: 221)
بعنوان (الحاشية على المكاسب).
(3) نقلا عن الأجزاء المخطوطة من كتاب نقباء البشر (أعلام الشيعة) وهي موجودة عند كبير
أولاده الدكتور علي نقي منزوي.
(4) كتبت العبارة التالية في هامش الصفحة الرابعة من كتاب (خاندان مرحوم آقا ميرزا رحيم
حاج شيخ ومرحومه هاجر بي بي انصاريان): (نقل المرحوم السيد صفائي أنه كتب
قرآنا بخطه الجميل، ولما سئل (الحاج الشيخ موسى) عن سبب ذلك رغم كثرة مشاغله
العلمية قال: لكي أمتلك كل وسيلة للنجاة غدا يوم القيامة عند الحساب).
9

كان للشيخ حضور سياسي أيضا في الميادين المختلفة، منها مشاركته في
موكب الآخوند الخراساني نحو الكوفة أثناء ثورة الدستور في إيران (المشروطة)
فمرض هناك وربما دس إليه السم ثم التحق بالرفيق الأعلى فاختل الموكب وعاد
من حيث أتى.
مؤلفاته:
وهي كثيرة بعضها مخطوط وبعضها مطبوع، والمخطوط منها بعضها كامل
وبعضها ناقص، وهي كما يلي:
1 - منية الطالب في شرح المكاسب:
وهو الماثل بين يديك، ويعد هذا السفر المبارك من أهم المراجع الفقهية
العاكسة - وبدقة كبيرة وبأسلوب رصين - آراء الميرزا النائيني قدس سره في شرحه
لمكاسب الشيخ الأعظم - نور الله مضجعه - وهذا أمر متسالم عليه عند أهله، نقل
عن السيد البروجردي أعلى الله مقامه قوله: (إن منية الطالب هو من أفضل
تقريرات النائيني) (1).
2 - كتاب الصلاة:
نقل عن الإمام الخميني الراحل قدس سره أنه قال حول كتاب الصلاة: (صلاة
المرحوم الحاج الشيخ موسى الخوانساري من أفضل المؤلفات في الصلاة) (2)
وأعلن عن استعداده لطباعة هذا الكتاب على نفقته الخاصة. وقد سمعت ذلك -
وللأسف - بعد سنة من وفاته قدس سره مما شجعني على متابعة مؤلفاته وطباعتها.
3 - كتاب في الأصول:

(1) حسب ما كتبه آية الله السيد مصطفى صفائي الخوانساري طاب ثراه.
(2) جاء ذلك في الخطاب الذي وجهه لي حجة الاسلام السيد محمد الموسوي البجنوردي
بحضور جمع من الأقارب.
10

وقد فقد قسم من هذا الكتاب والذي قبله ولم يبق منهما سوى مئات
الصفحات بخط يده الشريفة، آملين أن تدفعها يد العناية إلى المطابع للحفاظ عليها.
وهناك بحوث مخطوطة في أبواب مختلفة بعضها كامل وبعضها ناقص وهي:
المقصد الرابع في الجماعة، والمقصد السادس في صلاة المسافر (234
صفحة).
في قضاء الصلاة (3 صفحات).
الركن الثالث في التيمم (17 صفحة).
المبحث الثالث في الشك (في أفعال الصلاة) (35 صفحة).
الأدعية المأثورة بين التكبيرات ومباحث القراءة (80 صفحة).
فصل في الخلل الواقع في الصلاة (120 صفحة).
في ختام المسائل المتعلقة بالشك (8 صفحات).
كتاب الطهارة (170 صفحة).
كتاب القضاء (70 صفحة).
كتاب الصوم (60 صفحة).
صلاة الجمعة (11 صفحة).
في الاجتهاد والتقليد (22 صفحة).
المقام الثاني في الاستصحاب (الأصول العقلية) (280 صفحة).
قاعدة من ملك شيئا (8 صفحات).
مباحث الألفاظ، بحث الضرر، والخراج، والواجب المطلق
والمشروط، والنهي عن الضد (مئات الصفحات).
الأصول العقلية (250 صفحة).
مواضيع أخرى متفرقة.
وقد كتب المرحوم آية الله السيد الصفائي الخوانساري رحمه الله في مذكراته أن
الحاج الشيخ موسى ألف بعد سفره إلى مشهد المقدسة وإقامته فيها مدة قصيرة
رسالة في اجتماع الأمر والنهي وطبعها. وأضاف أنه كانت بحوزته نسخة منها
لكنه أعارها لأحد الأشخاص ولم يعدها إليه.
11

تلامذته:
تتلمذ على يديه عدد كبير من الطلبة والفضلاء منهم:
1 - الشيخ محمد شريف نوري (المعروف بالشاهرودي).
2 - الشيخ الحاج الميرزا كاظم التبريزي.
3 - الشيخ محمود الآشتياني (مؤلف كتاب الصلاة) (1).
4 - الحاج الشيخ عبد الله تربتي (2).
5 - الشيخ الميرزا محمد بن رجب علي الطهراني العسكري (3).
6 - الشيخ محمد الكفعمي.
7 - الشيخ علي أكبر التسخيري الجيلاني.
هذا ما أسعفتنا به الذاكرة وإلا فإن عددهم كثير كما قلنا، رحم الله الماضين
منهم وأطال في أعمار الباقين، لأنهم وجميع مدرسي الحوزات العلمية وفضلائها
حملة علوم أهل البيت عليهم السلام وناشروها في أصقاع العالم.
وفاته ومدفنه:
توفي رحمه الله في ليلة الخميس السابع والعشرين من ذي الحجة الحرام سنة
1363 ه‍. ق المصادف للثاني عشر من آذر سنة 1323 ه‍. ش (حسبما أرخها
الشيخ آقا بزرك الطهراني).
ودفن إلى جوار أستاذه الميرزا النائيني في صحن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام.
وفي الختام أرجو أن تبادر دور النشر إلى طباعة مؤلفات هذا العالم القدير
لا سيما المخطوط منها لكي تعم فائدتها ويتسع نفعها إن شاء الله، وآخر دعواي أن
الحمد لله رب العالمين.

(1) فهرست نسخه هاي خطي كتابخانه آية الله مرعشي: 18 / 288.
(2) گنجينه دانشمندان: 333.
(3) الذريعة إلى تصانيف الشيعة: ج 11. (وقد أخذ إجازة منه أيضا).
12

كتاب المكاسب
13

بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستمد ونستعين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأولين والآخرين
محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين أبد الأبدين.
وبعد: فيقول أفقر العباد إلى رحمة ربه الباري موسى بن محمد النجفي
الخوانساري: هذا ما استفدته ممن انتهت إليه رئاسة الإمامية في القرن الرابع عشر،
شمس سماء التحقيق، وقطب رحى التدقيق، شيخ الفقهاء والمجتهدين، أستاذ
الجهابذة الأساطين، حجة الاسلام والمسلمين، آية الله في العالمين، شيخنا
وملاذنا، الميرزا محمد حسين الغروي النائيني - متع الله العلماء ببقائه - في حكم
المكاسب، وحيث إن الفقهاء - جزاهم الله عن الاسلام وأهله خير الجزاء - أفادوا
في هذا الباب بما لا يخلو عن خلط وتخليط وإيجاز وتطويل، وإن كان بعضهم أتى
بما لا مزيد عليه ولكنه لم يدخله تحت جامع. فالمهم لنا تنقيح التكسب باعتبار
نفس المعاملة، وباعتبار ما يتعلق الكسب به على نحو يدخل تحت ضابط عام
بعون الله الملك العلام. وتوضيح ذلك في ضمن مقدمة وفصول.
أما المقدمة
فاعلم: أن التكسب باعتبار الحكم ينقسم إلى أقسام أربعة: الحرام والمكروه
15

والمستحب والمباح، ولا يتصف بالوجوب ذاتا.
نعم، قد يكون واجبا بالعرض، ومنه الواجبات النظامية الكفائية التي قد
يعرضها الوجوب العيني إذا انحصر من يقوم بها بشخص خاص. فإن الصنائع التي
تجب كفائيا لم يتعلق الأمر بها ابتداء بحيث تكون واجبات نفسية كالصلاة على
الميت ونحوها، وإنما تجب لحفظ النظام.
وقد جرت عادة غير واحد على تقسيمه: إلى محرم، ومكروه، ومباح،
لتوهمهم عدم وجود المستحب الذاتي في الكسب كالوجوب، ولكنه لا يخفى أن
الزرع والرعي مما ندب إليهما شرعا أصالة، فتأمل هذا بحسب الحكم.
وأما باعتبار نفس المعاملة فينقسم إلى قسمين: قسم يتعلق بتبديل الأعيان
بالأموال كباب البيع وما يلحق به، وقسم يتعلق بتبديل المنافع كالإجارة
وما يلحق بها.
ثم إن حقيقة المعاملة عبارة عن تبديل أحد طرفي الإضافة بإزاء أحد طرفي
الإضافة من أضافة أخرى في مقابل الإرث، فإنه تبديل المالكين، أي باب
المعاملة تبديل المملوكين.
وبعبارة واضحة: لا شبهة أن الملكية من الأمور الاعتبارية العقلائية التي
تكون لها نفس أمرية بنظر العقلاء، وتكون منشأ للآثار في عالم الاعتبار.
والمراد بالاعتبارية في اصطلاحنا هو الأمر المتوسط بين الأمور المتأصلة
العينية والأمور الانتزاعية. فالأول كالأعيان الخارجية، والثاني: كالقبلية والبعدية
والجزئية والشرطية، ونحو ذلك مما ليس له وجود إلا باعتبار منشأ انتزاعه.
والأمور الاعتبارية كالملكية والوجوب والحرمة والولاية ونحو ذلك، فإن ما لا
يكون له وجود في وعاء إلا بتشريعه - أي: ما كان وجوده التكويني عين وجوده
الإنشائي، وعين اعتباره ممن بيده اعتباره - فهو أمر اعتباري. ولا شبهة أن الملكية
من أوضح مصاديق الأمور الاعتبارية القابلة للجعل أصالة، وهي قد تحصل من
الإرث، وأخرى من المعاملة. وهي: عبارة عن تبديل طرف الإضافة بطرف إضافة
16

أخرى، الذي ينقسم إلى تبديل الأعيان بالأموال أو المنافع بها.
ثم إن الحرمة المتعلقة بالمعاملة عبارة عن حرمة هذا المعنى، أي: حرمة
تبديل المال أو المنفعة، لا حرمة إنشاء المعاملة، ولا حرمة آثارها كالتصرف في
الثمن والمثمن، ولا قصد ترتب الأثر عليها، وذلك لأن نفس الإنشاء من حيث إنه
فعل من الأفعال وتلفظ بألفاظ لا وجه لأن يكون حراما، إلا إذا كان مزاحما
لتكليف آخر كالبيع وقت النداء، وهكذا قصد تحقق المنشأ الإنشاء من حيث إنه
أمر قلبي لا وجه لحرمته إلا إذا كان تجريا أو إعانة على الإثم.
وأما حرمة الآثار، فهي مترتبة على فساد المعاملة وحرمتها، لا أنها هي
المحرمة ابتداء، فما يكون محرما حقيقة ويكون متعلقا للنهي هو نفس التبديل
الذي اعتباره بيد مالكه، لولا نهي الشارع الذي هو مالك الملوك، وينفذ اعتباره من
كلا طرفي الإثبات والنفي.
وبعبارة أخرى: نفس المنشأ بالعقد الذي هو أمر اعتباري وفعل إيجادي من
المنشئ هو المحرم، لا آلة الإيجاد وهو التلفظ، ولا القصد، ولا الآثار.
ثم إن حجة الحرمة تارة راجعة إلى عدم كون ما يتكسب به مالا عرفا
كالحشرات.
وأخرى راجعة إلى إسقاط الشارع جهة ماليته كالخمر والخنزير.
وثالثة إلى حرمة نفس المعاملة، لعدم صلاحية المال، لوقوع المعاملة به على
هذا الطريق الخاص كالزيادة في المتجانسين.
ومحل بحثنا في المكاسب المحرمة راجع إلى حرمة التكسب باعتبار تعلق
الكسب بالأعيان الخارجية، فمثل المعاملة الربوية خارجة عن موضوع البحث.
ثم إن مالية المال إما باعتبار خاصيته: كالحبوبات والفواكه ونحوهما، فإن
بذل المال بإزاء الحنطة أو بإزاء الماء إنما لكونه مما يؤكل أو يشرب، فالانتفاع به
إنما يكون بإعدامه. وإما باعتبار منافعه كالأراضي والمستغلات (1) فالانتفاع به

(1) المستغلات: وهي ما يحصل من الغلات من: الزرع والتمر واللبن والإجارة والبناء، ونحو
ذلك. لاحظ مجمع البحرين: مادة (غلل)، ج 5 ص 437.
17

بإبقائه.
وعلى أي حال تتوقف صحة التكسب به على كونه مالا عرفا، وعدم إلغاء
الشارع جهة ماليته، فمثل الخنافس تدخل فيما يحرم الاكتساب به، لعدم كونه مالا
عرفا، أي لعدم وجود خاصية فيه ولا منفعة له، لما عرفت أن مناط مالية المال
بأحدهما، ويندرج فيه جميع ما يستقذره الطبع من الحشرات والأبوال الطاهرة،
فإن هذه الأشياء وإن أمكن لها منافع نادرة وخاصية اتفاقية إلا أنهما ليستا مناطين
لمالية المال، ولا يقاس بالعقاقير والأدوية فإن لهما منافع معتد بها، لأن المرض
طبيعي للحيوانات، فالاحتياج إلى الأدوية في حال الأمراض يوجب اقتناءها
لبيعها عقلائيا.
وبالجملة: ليس المهم تنقيح الصغريات، وأن السباع والمسوخات والأبوال
أموال أم لا؟ فإن منافع هذه الأشياء في زماننا هذا كثيرة جدا، بل وجود المكائن
الموجودة التي تؤخذ بها أدهان الحشرات وتستعمل في الصابون أوجب إدخالها
في المكاسب العقلائية، فضلا عن مثل دود القز والعلق وأبوال الحيوانات التي
يصبغ بها الصوف وجلود السباع إذا كانت مذكاة ونحو ذلك.
ثم إن دليل الحرمة التي هي في المقام عبارة عن عدم تحقق النقل والانتقال،
لا ما يترتب عليها العقاب، مضافا إلى الاجماع المحقق كما يظهر للمتتبع في كلام
الأعلام (1) بعد إحراز الصغرى، وعدم الاعتبار بالمنفعة النادرة، فإنها بحكم العدم
هو: أن أكل المال بإزاء هذا الكسب أكل بالباطل، والأولى إدخال هذا القسم في
شرائط صحة البيع، لا في المكاسب المحرمة، وإنما ذكرناه تبعا لشيخنا الأستاذ مد
ظله، فلنرجع إلى ما يكون الاكتساب به محرما شرعيا لإسقاط الشارع جهة
ماليته. وتوضيحه في ضمن فصول:

(1) لاحظ: التنقيح الرائع: كتاب التجارة، ج 2 ص 5، رياض المسائل: كتاب التجارة، ج 1 ص
498 س 8. جواهر الكلام: كتاب التجارة، ج 22 ص 8.
18

الفصل الأول
لا يجوز بيع الأعيان النجسة، ولا سائر أنحاء المعاملات، من غير فرق بين أن
يكون حيوانا أو مبدأ حيوان: كالكلب والخنزير والمني وغيره، ومن غير فرق بين
أن يكون مائعا كالخمر والدم والبول. وأن يكون جامدا: كجلد الميتة والعذرة
واللحوم المحرمة النجسة.
ويدل عليه النبوي المعمول به عند الفريقين: (إن الله إذا حرم شيئا حرم
ثمنه) (1).
وفي الفقه الرضوي بعد تصريحه بما يجوز بيعه وشراؤه وهبته وعاريته قال:
(وكل أمر يكون فيه الفساد مما قد نهي عنه من جهة أكله وشربه ولبسه ونكاحه
وإمساكه لوجه الفساد، ومثل الميتة والدم ولحم الخنزير والربا وجميع الفواحش
ولحوم السباع والخمر وما أشبه ذلك فحرام ضار للجسم وفساد للنفس) (2). فإن
قوله عليه السلام: (فحرام) في مقابل قوله: (فهذا كله حلال بيعه وشراؤه) ظاهر في حرمة
الاكتساب بجميع أنحائه.
وفي دعائم الاسلام: (وما كان محرما أصله منهيا عنه لم يجز بيعه ولا
شراؤه) (3). ومقتضى ذلك تحريم بيع عذرة الانسان.
وما دل (4) على جواز بيعها معارض بمثله، والجمع الدلالي وإن لم يكن بينهما
ولكن بعد معارضة الطائفتين فالمرجع عموم ما دل على أن كل محرم حرم بيعه،
ولا يمكن حمل أخبار الجواز على البلاد التي ينتفع بها فيها، فإن مناط الحرمة
ليس لعدم كونها مالا عرفا، بل لكونها محرمة، فكونها مما ينتفع بها لا يوجب جواز
بيعها، فإن الخمر والميتة والخنزير أيضا مما ينتفع بها.

(1) مسند ابن حنبل: ج 1 ص 247، عوالي اللآلي: ج 1 ص 181 ح 240.
(2) فقه الرضا عليه السلام: باب 36 في التجارات والبيوع ص 250.
(3) دعائم الاسلام: ج 2 ص 18 ح 23.
(4) الاستبصار: ج 3 ص 56 ح 181.
19

وبالجملة: لم يدل دليل غير مبتلى بالمعارض على استثناء بيع العذرة عن
أنواع النجاسات.
نعم، لو قلنا: بأن النجاسة مانعة عن صحة البيع إذا توقف الانتفاع بالشئ على
طهارته، وأما إذا لم يتوقف على طهارته فلا مانع من صحة بيعه. ولا شبهة أن منافع
العذرة في بعض البلاد من أهم المنافع، فعلى هذا يمكن الجمع بين المتعارضين
باختلاف البلاد لمناسبة بين الحكم والموضوع، ولا يبعد دعوى: كون المناسبة من
القرائن المكتنفة بالكلام، فبهذه المناسبة يخرج الجمع بينهما عن الجمع التبرعي أو
التورعي، ولكنه لا يخلو عن إشكال. وسيجئ ما هو الأصل في جواز البيع وعدمه
في مطلق النجاسات.
ثم إن هاهنا فروعا ينبغي التعرض لها.
الأول
الحق بالنجاسات المتنجسات في حرمة المعاوضة عليها، ومقتضى النبوي (1)
ورواية الدعائم (2) أن تكون كذلك، ولكن ينبغي تقييدها بما توقفت منافعها
المحللة المقصودة على طهارتها.
وأما إذا لم يتوقف استيفاء منفعتها على طهارتها كالفرش والأمتعة ونحو ذلك،
أو أمكن تطهيرها بلا خروجها عن عنوانها: كالماء المتنجس والأواني المتنجسة
فلا ينبغي الإشكال في صحة المعاملة عليها، وذلك لأنه لو لم يمكن تطهيرها
وتوقف خاصيتها أو منفعتها على طهارتها كالخل النجس ونحوه فحيث إنه ليس
مالا شرعا فلا يجوز المعاملة عليها. وأما لو لم يكن كذلك فحيث إن الشارع لم
يسقط ماليتها فلا مانع من المعاملة عليها.
بل يمكن أن يقال - وإن لم يكن مرضيا عندنا كما سيجئ -: لم يجب على
البائع إعلام المشتري بنجاستها، لعدم قيام دليل على وجوب إعلام الناس

(1) تقدم في الصفحة: 19.
(2) تقدم في الصفحة: 19.
20

بالنجاسات، وليس البائع سببا لأكل المشتري أو شربه النجس حتى يحرم من هذه
الجهة.
الثاني
استثني من عدم جواز بيع النجس أمور:
الأول: المملوك الكافر، وهذا في الجملة لا إشكال فيه بناء على أن مناط
حرمة بيع النجس عدم كونه قابلا للمنفعة المقصودة منه.
وبعبارة أخرى: إنما أسقط الشارع مالية النجس إذا توقف الانتفاع المعتد به
على الطهارة. وأما لو لم يتوقف عليها: كالاستخدام الذي هو مناط مالية العبد فلا
مانع عن بيعه. فعلى هذا لا فرق: بين أن يكون كافرا أصليا، وأن يكون مرتدا مليا
أو فطريا، لأن مناط الصحة لم يكن قابلية العبد للطهارة حتى يقال بأن المرتد
الفطري لا تقبل توبته فلا يطهر بالتوبة.
فما عن بعض الأساطين (1) في شرحه على القواعد من ابتناء جواز بيع
الفطري على قبول توبته، (2) لا وجه له.
نعم، هنا إشكال آخر في بيع الفطري يجري في المحارب أيضا، وهو: كونه في
معرض التلف، فإن المحارب بعد الاستيلاء عليه لا تقبل توبته: كالمرتد الفطري،
ولكن هذا أيضا لا يوجب سلب ماليته، لأنه كالمريض المأيوس عن برئه، فتأمل.
الثاني: الكلب الصيود والحارس.
أما الصيود، فيدل على جواز المعاملة عليه جملة من الأخبار (3) منطوقا
ومفهوما، وبعضهم (4) قيده بالصائد السلوقي، ولا وجه له إلا دعوى الانصراف،

(1) هو الشيخ جعفر كاشف الغطاء في شرحه على بعض أبواب القواعد للعلامة الحلي غير
مطبوع ونسخته الخطية في المكتبة العامة للسيد المرعشي النجفي تحت الرقم: 4996.
(2) شرح القواعد (مخطوط): الورقة 4.
(3) وسائل الشيعة: باب 14 من أبواب ما يكتسب به، ج 12، ص 83، أحاديث الباب.
(4) كالشيخين: في المقنعة: المكاسب المحرمة، ص 589، والنهاية كتاب المكاسب: ص 364.
والديلمي في المراسم: ص 170.
21

ولا منشأ له إلا غلبة الوجود. ولا يخفى عدم إيجابها تقييد المطلقات.
فالأقوى خروج مطلق الكلب المعلم على الصيد عن قوله: (ثمن الكلب
سحت) (1) ولا يمنع نجاسته أيضا عن وقوع المعاملة عليه بعد تصريح الأدلة بجواز
بيعه.
هذا، مضافا إلى ما قيل: (2) من أنه لا ينجس موضع عضه. وعلى فرض
نجاسته لا يتوقف الانتفاع المقصود منه على طهارته.
والفرق بينهما: بأن السلوقي لا يأكل ما اصطاده دون غيره، لا يوجب تفاوتا
في صحة المعاملة عليهما.
وأما الحارس - سواء كان للماشية أو للزراعة أو البستان أو الحائط أو الخيام
ونحو ذلك - فقد قيل (3): إن الأشهر بين القدماء هو المنع. بل ظاهر الأخبار (4)
الواردة في كلب الصيد هو حصر الجواز فيه.
إلا أن مقتضى ما أرسله شيخ الطائفة في المبسوط: من أنه روي ذلك (5)
- يعني جواز البيع في كلب الماشية والحائط صحة بيعه، لأن إرساله منجبر بعمل
المشهور مع عدم إحراز إعراض القدماء عنه، فإن الظاهر أن القدماء لم يظفروا
بهذه المرسلة، فشهرة المنع بين أرباب الفتاوى من القدماء وأصحاب الحديث
كالصدوقين والكليني قدس سرهم لا توجب الأعراض عنها، فيمكن حمل الأخبار الواردة
في الكلب الصيود على المثالية، بل لا يخفى أن المنفعة المقصودة من الحارس أهم
من المنفعة المقصودة من الصائد.

(1) الكافي: ج 5 ص 120 ح 4، عنه وسائل الشيعة: ج 12 ص 83 باب 14 من أبواب
ما يكتسب به ح 2.
(2) قاله الشيخ الطوسي في الخلاف: ج 3 ص 245 م 8.
(3) حكاه في المناهل: كتاب البيع، 277، س 7.
(4) وسائل الشيعة: ج 12 ص 82 - 83 ب 14 من أبواب ما يكتسب به أحاديث الباب.
(5) المبسوط: كتاب البيوع، ج 2 ص 166.
22

هذا، مضافا إلى ما ثبت اتفاقا من جواز إجارتها وثبوت الدية لها.
وما يقال: (1) ثبوت الدية كاشف عن عدم جواز المعاملة عليه، وإلا ثبتت
القيمة فيها فهي كالحر لا قيمة له وله دية.
ففيه: أن الدية وردت في الكلب السلوقي أيضا مع الاتفاق على جواز
المعاملة عليه.
وبالجملة: ظاهر عبارة جملة (2) من المتأخرين ثبوت الجواز إجماعا، فيمكن
حمل أخبار المنع على خصوص كلب الهراش أو الكلب العقور.
نعم، الأحوط ترك بيعه وإن كان اقتناؤه للحرس لا إشكال فيه.
ففي الصحيح: (لا خير في الكلاب إلا كلب صيد أو ماشية) (3).
وفي الغوالي على ما في المستند: (أن النبي صلى الله عليه وآله أمر بقتل الكلاب في
المدينة... إلى أن قال: فجاء الوحي باقتناء الكلاب التي ينتفع بها، فاستثنى كلاب
الصيد وكلاب الماشية وكلاب الحرث وأذن في اتخاذها) (4).
الثالث: العصير العنبي بعد الغليان وإن لم يذهب ثلثاه، فإنه تجوز المعاملة
عليه ولو على القول بنجاسته، وذلك لما ذكرنا (5) في المتنجس أن سلب المالية
شرعا منوط بعدم قابلية المتنجس للتطهير، وعدم إمكان الانتفاع به في حال
النجاسة. ولا يخفى قابلية العصير العنبي للطهارة بإذهاب ثلثيه، ولا ينتقض ذلك
بالخمر في أنه قابل للتطهير بصيرورته خلا للفرق بينهما، فإن الخمر لا يقبل
الطهارة إلا بتبدل موضوعه، وهذا بخلاف العصير.
وبالجملة: كفى للفرق بينهما ورود الدليل الخاص على حرمة بيع الخمر، والدليل

(1) قاله الشهيد الثاني في المسالك: كتاب التجارة، ج 1 ص 167 س 23.
(2) راجع: مجمع الفائدة والبرهان: كتاب المتاجر، ج 8 ص 95، مستند الشيعة: كتاب الكسب،
ج 2 ص 334، س 28.
(3) الكافي: ج 6 ص 552 ح 2، عنه وسائل الشيعة: ج 8 ص 387 ب 43 من أبواب أحكام
الدواب ح 2.
(4) عوالي اللآلي: ج 2 ص 148 ح 414.
(5) مر في الصفحة: 20.
23

العام وهو عدم جواز بيع ما كان محرما أصله، ولم يدل دليل بالخصوص على حرمة
بيع العصير، ولا تشمله الأدلة العامة، فإنه ليس محرم الأصل، ولا من العناوين النجسة.
وقوله عليه السلام: (وإن غلى فلا يحل بيعه) (1) محمول على ما إذا باعه بلا إعلام
للمشتري بأنه غلى، أو كناية عن حرمته حين الغليان.
ويشهد له ما ورد في رواية أبي كهمش: (إذا بعته قبل أن يكون خمرا وهو
حلال فلا بأس) (2).
وما في مرسل ابن الهيثم: (إذا تغير عن حاله وغلى فلا خير فيه) (3) فإن قوله:
(وهو حلال فلا بأس) شاهد على أن جهة المانعية عن البيع هي الحرمة، فإذا بيع
للاستحلال بإذهاب ثلثيه فلا مانع منه.
والأنصاف: ظهور الروايات الخاصة في حرمة البيع، فلو ثبت إعراض
الأصحاب عنها فهو، وإلا فالجواز مشكل، وإعلامه بغليانه لا يؤثر في الجواز بعد
ظهور الأخبار، لا سيما الأولين في حرمة بيعه، فتأمل جيدا.
الفرع الثالث
استثنوا من المتنجسات الدهن، ولا بد أن يجعل المستثنى الأدهان المتوقف
استيفاء المنافع منها على طهارتها، أي إذا كانت المنفعة المقصودة من الدهن أكله
فنجاسته مع عدم قابليته للتطهير توجب عدم جواز الاكتساب به. وأما إذا لم
تتوقف على طهارتها - كالأدهان المستعملة في المكائن - فلا معنى لاستثنائه، إلا
إذا قلنا بأن كل ما صار نجسا ولم يمكن تطهيره لا يجوز بيعه.
وكيف كان، فالدهن المتنجس على أقسام ثلاثة:

(1) الكافي: ج 5 ص 232 ح 12، عنه وسائل الشيعة: ج 12 ص 169 - 170 ب 59 من أبواب
ما يكتسب به ح 6.
(2) الكافي: ج 5 ص 231 ح 3. وفيه: (عن أبي بصير) وأما رواية أبي كهمس كما في المصدر
فهي بهذا المضمون معنى مع الاختلاف لفظا، لاحظ المصدر نفسه ح 12.
(3) الكافي: ج 6 ص 419 ح 2، عنه وسائل الشيعة: ج 17 ص 226 - 227 باب 2 من أبواب
الأشربة المحرمة، ح 7.
24

قسم تكون منافعه المقصودة هو أكله: كالسمن ودهن اللوز ونحوه.
وقسم مشترك بينه وبين إسراجه: كالزيت.
وقسم يختص بالإسراج: كالنفط ونحوه.
وعلى أي حال، حيث دل الدليل على جواز بيع الزيت والسمن فيجوز بيع كل
ما كان مختصا بالأكل أيضا. إنما الكلام في مقامات:
أحدها: هل يجب على البائع اشتراط الاستصباح على المشتري، أم يصح
مطلقا، أو يفرق بين ما كان منفعته مختصة بالأكل أو مشتركة، وما كان منفعته
المقصودة هي الاستصباح فلا يعتبر الاشتراط في الثاني دون الأول؟ وجوه.
والأقوى جواز بيع جميع الأقسام بلا شرط، لعدم دليل على اعتبار الاشتراط
حتى فيما كان منفعته مخصوصة بالأكل، لأن المفروض أنه بالنجاسة لم يسقط
عن المالية، غاية الأمر نقص عن قيمته، فإذا بيع بقيمة ما يسرج به فلا مانع من
صحته، سواء كان المشتري عالما بأنه يمكن الإسراج بدهن البنفسج أو لا يكون
عالما به، لأنه إذا باعه بقيمة النفط فجهل المشتري بهذه المنفعة لا يسقطه عن هذه
المالية الواقعية.
وبالجملة: لو اشترط البائع صرفه في الأكل فيمكن القول بفساد البيع، لأنه أكل
للمال بالباطل، وأما لو لم يشترط هذا ولم يشترط صرفه في الاستصباح أيضا فلا
وجه للبطلان.
الثاني: هل يجب إعلام المشتري بالنجاسة أم لا؟ ثم على الوجوب هل هو
شرطي أو نفسي؟.
الأقوى وجوب الأعلام نفسيا، أما وجوبه فلقوله عليه السلام: (وأعلمهم إذا بعته) (1)
وقوله عليه السلام: (بينه لمن اشتراه ليستصبح به) (2).

(1) تهذيب الأحكام: ج 7 ص 129 ح 562، عنه وسائل الشيعة: ج 12 ص 66 ب 6 من
أبواب ما يكتسب به، ح 3.
(2) تهذيب الأحكام: ج 7 ص 129 ح 563، عنه وسائل الشيعة: ب 6 من أبواب ما يكتسب به
ح 4 ج 12 ص 66.
25

وأما كونه نفسيا فلأن قوله عليه السلام: (ليستصبح به) ظاهر في أن منشأ الوجوب
عدم وقوع المشتري في محذور الأكل، وإلا لا ملازمة بين الاشتراء والاستصباح،
فاستفادة شرطية الأعلام لصحة البيع لا وجه لها. ثم بناء على هذا يمكن استفادة
وجوب إعلام المشتري في كل ما يتوقف استعماله على الطهارة كالأواني، فإنها
وإن صح بيعها مع نجاستها ولكن يجب الأعلام بها نفسيا، لئلا يقع المشتري في
استعمال النجس، بل يمكن استفادة وجوب إعلام المسلمين بنجاسة ما يتوقف
استعمالها على الطهارة من عدة من الروايات (1). وتمام الكلام موكول إلى محله.
ثم إنه قد ينسب (2) إلى المشهور: أنه يجب الاستصباح تحت السماء. ولا
مدرك له سوى ما أرسله الشيخ في المبسوط، فقال: روى أصحابنا أنه يستصبح
به تحت السماء دون السقف (3). ولا يخفى أنه لو علمنا به ولم نحمله على
الاستحباب فلا بد أن يحمل (4) على التعبد الصرف، لأن السقف لا ينجس بدخان
النجس حتى يحمل على الإرشاد، لعدم نجاسة دخان النجس، مع أنه لا محذور
في تنجسه حتى يرشد إلى تركه.
الثالث: هل يجوز الانتفاع بالدهن المتنجس لغير الاستصباح بأن يعمل
صابونا أو يطلى به الأجرب أو السفن أم لا؟ وتنقيح ذلك يتوقف على تأسيس
الأصل في المتنجسات والنجاسات حتى يكون هو المرجع عند الشك.
فنقول: أما المتنجسات فالأقوى جواز بيع كل ما لا يتوقف الانتفاع به على
طهارته، فإن هذا هو الذي يقتضيه استصحاب الحكم قبل التنجس، فإذا كان
للشئ منافع مقصودة فعروض النجاسة عليه لا يمنع عن نفوذ بيعه، بل يمكن
استفادة هذا المعنى من رواية تحف العقول والفقه الرضوي ودعائم الاسلام.

(1) وسائل الشيعة: ج 12 ص 66 ب 6 من أبواب ما يكتسب به ح 3 و 4.
(2) كما في جواهر الكلام: كتاب التجارة ج 22 ص 15.
(3) المبسوط: كتاب الأطعمة، ج 6 ص 283.
(4) كما اختاره في الجواهر: كتاب التجارة، ج 22 ص 15.
26

ففي الأول: (وكل شئ يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات، فهذا كله
حلال بيعه وشراؤه وإمساكه واستعماله وهبته وعاريته (1).
وفي الثاني: (اعلم رحمك الله: أن كل مأمور به على العباد وقوام لهم في
أمورهم من وجوه الصلاح الذي لا يقيمهم غيره - مما يأكلون ويشربون ويلبسون
وينكحون ويملكون ويستعملون - فهذا كله حلال بيعه وشراؤه وهبته وعاريته (2).
وفي الثالث: (أن الحلال من البيوع كل ما كان حلالا من المأكول والمشروب
وغير ذلك مما هو قوام للناس ويباح لهم الانتفاع (3).
ولا يعارض ذلك النبوي: (إذا حرم الله شيئا حرم ثمنه (4)، لأنه بعد ما
أحرزنا جواز الانتفاع بالشئ ولو بالاستصحاب فلا يدخل تحت ما حرمه الله، بل
يمكن استفادة الجواز من الأخبار الخاصة المتفرقة: كجواز بيع الدهن للاستصباح،
وجواز بيعه لمن يعمله صابونا، كما في كتاب النوادر للراوندي (5) بإسناده عن أبي
الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام، وفيه: (سئل عليه السلام عن الشحم يقع فيه شئ له دم
فيموت؟ قال: (تبيعه لمن يعمله صابونا (6).
وبالجملة: فالأقوى جواز بيع المتنجسات إذا كانت لها منافع معتدة بحيث إن
العقلاء يبذلون بإزائها المال، سواء نقصت قيمتها بعروض النجاسة لها أم لا. نعم، لو
صارت بسبب عروض النجاسة مما لا ينتفع به عادة فهذا خارج عن موضوع
البحث، لأنه في حكم الخنفساء.
وأما النجاسات، فالأصل فيها أيضا جواز البيع لجواز التصرف فيها بما لا
يتوقف على الطهارة، لعموم قوله عليه السلام: (كل شئ) حلال حتى تعرف أنه

(1) تحف العقول: جهات معايش العباد، ص 333.
(2) فقه الإمام الرضا (ع): باب التجارات والبيوع والمكاسب ص 250.
(3) دعائم الاسلام: فصل 2 ذكر ما نهي عن بيعه ح 23 ج 2 ص 18.
(4) مر تخريجه في الصفحة: 19.
(5) في الأصل المطبوع: (من الراوندي) والصواب ما أثبتناه.
(6) نوادر الراوندي: ص 50 - 51. وفيه: (سئل عن الزيت).
27

حرام) (1)، فأصالة الإباحة تخرجها عن موضوع قوله صلى الله عليه وآله: (إذا حرم الله شيئا
حرم ثمنه) (2) وورد أخبار خاصة في بعض منها بالجواز:
فعن القاسم الصيقل قال: (كتبت إلى الرضا عليه السلام: إني أعمل أغماد السيوف من
جلود الحمر الميتة فتصيب ثيابي أفأصلي فيها؟ فكتب إلي: اتخذ ثوبا
لصلاتك) (3). ونحوه ما روي عن أبي القاسم الصيقل وولده (4).
وما ورد في صحيحتي الحلبي: (إذا اختلط المذكى بالميتة بيع ممن يستحل
الميتة) (5). ومثلهما ما ورد عن علي بن جعفر. (6)
وما ورد عن الوشاء، قال لأبي الحسن عليه السلام: (جعلت فداك، إن أهل الجبل
تثقل عندهم أليات الغنم فيقطعونها، فقال: حرام، هي ميتة، فقلت: جعلت فداك
فيستصبح بها؟ فقال: أما علمت أنه يصيب اليد والثوب وهو حرام) (7)؟ فإن
ظاهره تقريره في جواز الاستصباح إذا لم يصب اليد والثوب.
وما ورد في جواز بيع العبد الكافر (8) وكلب الصيد (9).

(1) الكافي: ج 5 ص 313 ح 40، مع اختلاف يسير.
(2) مر في الصفحة: 19.
(3) الكافي: ج 3 ص 407 ح 16، عنه وسائل الشيعة: ج 2 ص 1050 ب 34 من أبواب
النجاسات ح 4.
(4) تهذيب الأحكام: ج 6 ص 376 ح 1100، عنه وسائل الشيعة: ب 38 من أبواب
ما يكتسب به ح 4 ج 12 ص 125.
(5) الكافي: ج 6 ص 260 ح 1، 2، عنه وسائل الشيعة: ج 12 ص 67 - 68 ب 7 من أبواب
ما يكتسب به ح 1 و 2.
(6) مسائل علي بن جعفر: ص 109 ح 20، عنه وسائل الشيعة: ج 12 ص 68 ب 7 من أبواب
ما يكتسب به ذيل الحديث 2.
(7) الكافي: ج 6 ص 255 ح 3. وفيه (فنصطبح) عنه وسائل الشيعة: ج 16 ص 364 ب 32
من أبواب الأطعمة المحرمة ح 1.
(8) وسائل الشيعة: ب 2 من أبواب بيع الحيوان ج 13 ص 27 أحاديث الباب.
(9) وسائل الشيعة: ج 12 ص 83 ب 14 من أبواب ما يكتسب به ح 12.
28

ثم إنه لا يستفاد من رواية تحف العقول (1). ودعائم الاسلام (2) والنبوي (3)
قاعدة كلية مطردة في جميع النجاسات بحيث لا تقبل التخصيص، لأن غاية الأمر
أنها عمومات، مع أن من نفس الخبرين الأولين يستفاد أن مناط الفساد المعاملي
ليس مجرد حرمة الشئ ونجاسته، بل المدار على عدم كونه مما ينتفع به، وكونه
مما فيه الفساد.
وبعبارة أخرى: لا يستفاد من هذه الأخبار مجرد التعبد بحرمة بيع
النجاسات والمحرمات، بل منشأ فساد البيع توقف استيفاء منافعها على طهارتها،
فإذا فرضنا أن جلد الميتة لا يتوقف استيفاء المنافع المهمة منه على طهارته فلا
بأس ببيعه.
والأخبار (4) الواردة في حرمة بيع جلد الميتة قابلة للحمل على بيعه لما
تتوقف الطهارة عليه، فتكون إرشادا لعدم قابلية الانتفاع.
وكيف كان، فيعم البحث في المقام الموارد المنصوصة أيضا مثل الميتة والخمر
والنبيذ ونحو ذلك، فإن المقصود: أنه إذا فرض هناك منفعة مهمة عقلائية ولم
يتوقف استيفاء المنفعة على طهارة الشئ كالاستقاء بجلد الميتة للزرع ونحوه،
فمجرد كونه نجسا لا يمنع عن جواز بيعه. وعلى هذا فبيع العذرة في البلاد التي
تنتفع بها لا بأس فيه، وهكذا نفس الميتة والخمر.
نعم، لا يبعد أن يقال: إنه يجب في البيع قصد المنفعة المحللة. ويؤيده
الأخبار (5) الدالة على وجوب الأعلام في الدهن المتنجس، فإن حمله على التعبد
- كما تقدم (6) - بعيد، بل الوجه فيه: أنه إذا كان للمال منافع مطلقة فلا وجه لقصد
المنفعة الخاصة دون الأخرى، بل عنوان المبيع هو ذات الشئ بذاته. وأما إذا كان
له منافع خاصة وتوقف استيفاء هذه المنفعة على طهارته فليس ذات الشئ عنوانا

(1) مرت في الصفحة: 27.
(2) مر في الصفحة: 19.
(3) مر في الصفحة: 19.
(4) وسائل الشيعة: ج 16 ص 368 - 369 ب 34 من أبواب الأطعمة المحرمة أحاديث الباب.
(5) وسائل الشيعة: ج 12 ص 66 - 67 ب 6 من ابواب ما يكتسب به احاديث الباب.
(6) تقدم في الصفحة: 26.
29

للمبيع، بل المنفعة الكذائية، والمفروض أن قصد المنفعة الكذائية يتوقف على العلم
بالطهارة فيجب التنبيه على النجاسة.
وبعبارة أخرى: لا شبهة أن عناوين الأشياء هي مناط ماليتها، لا الجسم
المطلق الذي هو المادة المشتركة بين ما لا قيمة له وما له قيمة، فإذا فرضنا أن نفس
العنوان بما أنه عنوان الخمر والميتة لا مالية لها إلا باعتبار منفعته الخاصة فكما
يجب تعيين العنوان في المبيع ولا يصح بيع القدر المشترك بين الحمار الوحشي
والعبد الحبشي، فكذلك يجب تعيين عنوان كون العبد مسلما أو كافرا إذا فرضنا
أنه لا يبذل بإزاء الكافر مالا، أو أن الشارع سلب جهة ماليته من حيث كونه
كافرا، فعلى هذا إذا بيع الخمر لا بد أن يقصد منفعته التي لا تتوقف على الطهارة، أو
بيع ممن يشتريه للتخليل، ولا يصح بيعه ممن يشربه، لأن مع علم البائع بأن
المشتري يشربه لا يمكن أن يقصد العنوان الذي به يكون الخمر مالا.
وبالجملة: حيث إن المسألة ليست إجماعية كما يظهر للمتتبع فيها، ولا يستفاد
من الأخبار الواردة في المقام التعبدية الصرفة بحيث يفهم منها أن الشارع سلب
الانتفاع بالنجاسات رأسا وألغى ماليتها أصلا، بل ظاهرها أن جهة حرمة بيعها
كونها مما لا ينتفع بها فأصالة الجواز وقاعدة حل الانتفاع بما في الأرض جميعا لا
حاكم عليها إلا فيما تتوقف منفعتها على طهارتها. وعلى هذا، فإذا جاز اقتناء
الخمر للتخليل والعذرة للتسميد والميتة لإطعام جوارح الطير أو إيقادها، فبيعها
لهذه الأمور لا مانع عنه (1).

(1) ولكن الأقوى حرمته، لأن هذه المنافع منافع نادرة جدا، ولا يمكن أن تكون منشأ مالية
هذه الأمور، فإن مثل الخمر ليست المنفعة المقصودة منها إلا شربها، وهو إذا كان محرما
فيحرم بيعه مطلقا، ومجرد قابليته للتخليل لا أثر له. نعم، بعض المسكرات المستحدثة
كالسبرتو ونحوها ليس الشرب منفعة مقصودة منها، وإن كانت قابلة لذلك أيضا، فلا مانع من
بيعها، لأن المقصود منها هو تحليل الأدوية، وتطهير القذارات الدائية، وقتل الجراثيم الهوائية
ونحو ذلك (منه عفي عنه).
30

وأما القول بجواز الصلح دون البيع، فلا وجه له، لأن الصلح في هذه الأمور
ليس إلا عبارة عن البيع وكونه عقدا مستقلا أيضا لا يصحح الصلح بلا عوض.
نعم، دفع المال لرفع ذي الحق حق اختصاصه أمر آخر.
الفصل الثاني
ما يحرم التكسب به لوجود صفة محرمة فيه أو لغاية محرمة.
ثم الصفة تارة خارجية، وأخرى معنوية. وتنقيح البحث فيه في ضمن مسائل:
الأولى
ما كان جهة حرمته وجود صفة خارجية فيه وهو على قسمين:
قسم لا يقصد من وجوده على هذه الصفة إلا الحرام. وقسم لا يختص به، بل
يستعمل فيه وفي الحلال.
أما الأول: فكالصنم والصليب، والآلات المعدة للقمار، والآلات المختصة
باللهو، وأواني الذهب والفضة، فإن هذه الأشياء لا تكون لها منفعة محللة بهذه
الهيئات، فعلى هذا لا إشكال في حرمة الاكتساب بها.
ويدل عليه النبوي (1) ورواية تحف العقول في قوله: (نظير: البرابط والمزامير
والشطرنج وكل ملهو به، والصلبان والأصنام وما أشبه ذلك... إلى أن قال: فحرام
تعليمه وتعلمه، والعمل به، وأخذ الأجرة عليه، وجميع التقلب فيه) (2).
ولكن لا يخفى أن المتيقن من حرمة الاكتساب بها ما إذا باعها متشكلة بهذا
الشكل ممن يقصد الانتفاع بهذه الصورة، من دون أن يشترط عليه كسرها. وأما لو
باع مادة هذه الأشياء بشرط أن يغير المشتري هيئتها وكان المشتري ممن يوثق
بديانته، فلا إشكال في جواز بيعها، فإن الخشب الذي هو مادة هذه الأشياء أو

(1) مر في الصفحة: 19.
(2) تحف العقول: في تفسير الصناعات، ص 335 - 336.
31

النحاس أو الذهب لم يخرج عن المالية بلحاظ عروض هذه الصورة عليه.
نعم، إنما زادت قيمته، فإذا باع نفس المادة بهذين القيدين فلا إشكال في
جوازه. إنما الإشكال في صورتين:
إحداهما: ما إذا باع المادة بشرط تغيير صورتها ممن لا يوثق بديانته.
وثانيتهما: بيع المادة ممن يوثق بديانته بلا شرط التغيير.
ولكن الأقوى الجواز في الصورتين.
نعم، يتوهم في الأولى حرمته من باب الإعانة على الإثم، وفيه ما سيجئ: أن
مع قصد بيع المادة والاشتراط بتغيير الهيئة لا يدخل في موضوع الإعانة، فإن
حرمتها مختصة بما إذا قصد بها الإعانة على الإثم.
ولا يشمل قوله عز من قائل: (ولا تعاونوا (1) من يعلم بوقوع الإثم من
المشتري ونحوه، وإلا لحرم على الرجال إبراز رقابهم مع علمهم بأن النساء
ينظرن (2) إليها.
وأما القسم الثاني: كالطبل الذي يمكن استعماله في اللهو والحرب، والدراهم
الخارجة التي يمكن استعمالها في المحرم كالبيع والشراء بها مع المسلمين،
والمحلل كالتزين وبيعها وشرائها مع من لا حرمة لماله، فلا إشكال في أنه يجوز
التكسب بها لو لم يقصد المنفعة المحرمة. نعم، إذا اكتسب بها مع المسلم يجب
إعلامه، لمدخلية قصد عنوان المبيع في الصحة.
ويدل عليه، ما رواه الشيخ بإسناده عن محمد بن مسلم، قال: (قلت لأبي عبد
الله عليه السلام: الرجل يعمل الدراهم يحمل عليها النحاس أو غيره ثم يبيعها، قال: إذا
بين ذلك فلا بأس) (3).
هذا، ولكن الأقوى أن يقال: إن الدراهم على أقسام ثلاثة:
قسم لا ينقص عن السكة الرائجة من حيث الوزن والأصل.

(1) المائدة: 2.
(2) في الأصل: (ينظرون)، والصحيح ما أثبتناه.
(3) تهذيب الأحكام: ج 7 ص 109 ح 467.
32

وقسم مغشوش.
وقسم مغاير لها جنسا، كما إذا كانت الرائجة ذهبا وكانت هذه نحاسا.
أما القسم الأخير، فلا يجوز المعاملة عليه ولو مع من يحل أخذ ماله بلا
عوض، لأن ظاهر الأخبار (1) الدالة على وجوب كسرها أو إلقائها في البالوعة هو
عدم جواز المعاملة بها، فكأن وجه إلقائها في البالوعة كون وجودها منشأ للفساد.
فعلى هذا، حيث إن المعاملة بها مع الكفار أيضا قد توجب وصولها إلى يد المسلم
فلا يجوز المعاملة عليها.
وأما المغشوشة، فلا يجوز المعاملة معها إلا إذا علم مقدار الغش، وأن لا يكون
العوض مجهولا. وفي مورد الجهل لا يمكن تصحيحه بتبعض الصفقة، فإن مورده
ضم ما لا يملك إلى ما يملك ونحوه، والمقام ليس إلا موضوعا واحدا.
وأما الخالصة الغير الرائجة، فإن وقعت المعاوضة على نفس العين، فلا إشكال
في صحتها، غاية الأمر عند تبين الخلاف يثبت خيار العيب أو التدليس لمن
وصلت بيده، وبعد وقوع المعاوضة على هذا الخاص لا يمكن القول ببطلانها،
لتبدل العنوان، فإن العنوان في المقام ليس دخيلا في المالية.
وعلى كل تقدير: فلو وقعت المعاملة على الكلي ووقعت هذه الأقسام في
مقام الإيفاء فالمعاملة صحيحة. وأما في مثل الطبل فحيث إنه بنفسه مبين العنوان
فنفس عدم قصد العنوان المحرم كاف في الصحة.
الثانية
ما كان جهة حرمته وجود صفة معنوية فيه: كالجارية المغنية والعبد الماهر في
القمار واللهو والسرقة ونحو ذلك، ولا إشكال في حرمة الاكتساب به لو قصد
المنفعة المحرمة، وعليه يحمل ما ورد بأن: (ثمن الجارية المغنية سحت) (2). وما

(1) وسائل الشيعة: ب 86 من أبواب ما يكتسب به ح 5 ج 12 ص 209، والباب 10 من أبواب
الصرف، ح 5، ج 12، ص 473.
(2) قرب الإسناد: ص 125، عنه وسائل الشيعة: ج 12 ص 87 ب 16 من أبواب
ما يكتسب به ح 4.
33

ورد: (ما ثمنها إلا كثمن الكلب) (1).
وأما لو قصد نفس الموصوف دون الصفة، فلا إشكال في الصحة، لأنه مال
عرفا وشرعا، لأن المبغوض هو إعمال الوصف فيما هو حرام شرعا، وأما ذات
العبد والجارية، فلم يخرجا عن المالية.
ويدل عليه، ما في ذيل رواية الدينوري، عن أبي الحسن عليه السلام قال: (قلت:
جعلت فداك، فأشتري المغنية أو الجارية تحسن أن تغني أريد بها الرزق لا سوى
ذلك؟ قال: اشتر وبع) (2).
الثالثة
ما إذا قصد في المعاملة غاية محرمة كبيع العنب بشرط أن يعمله خمرا، وبيع
الخشب بشرط أن يعمله صليبا أو صنما، ولا إشكال في حرمة هذه المعاملة
وفسادها، لكون الأكل في مقابلها أكلا للمال بالباطل.
ويدل عليه عدة من الأخبار:
منها: خبر جابر: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يؤاجر بيته فيباع فيه
الخمر؟ قال: حرام أجرته (3). بناء على حمله على ما إذا شرط المؤجر في عقد
الإجارة ذلك، أو حمله على ما إذا علم المؤجر أن المستأجر يعمله في ذلك، فيدل
على ما نحن فيه بالأولوية.
ومنها: مكاتبة ابن أذينة: عن رجل له خشب فباعه ممن يتخذه صلبانا، قال:
(لا) (4).

(1) الكافي: ج 5 ص 120 ح 4، عنه وسائل الشيعة: ج 12 ص 88 ب 16 من أبواب
ما يكتسب به ح 6.
(2) تهذيب الأحكام: ج 6 ص 387 ح 1151، عنه وسائل الشيعة: ج 12 ص 86 ب 16 من
أبواب ما يكتسب به، ح 1.
(3) الإستبصار: ج 3 ص 55 ح 179، عنه وسائل الشيعة: ج 12 ص 125 - 126 ب 39 من
أبواب ما يكتسب به ح 1. وفيه (عن صابر) في الموضع الثاني.
(4) الكافي: ج 5 ص 226 ح 2، عنه وسائل الشيعة: ج 12 ص 127 ب 41 من أبواب
ما يكتسب به ح 1.
34

ومنها: رواية عمرو بن حريث: (عن التوت أبيعه ممن يصنع الصليب أو
الصنم؟ قال: لا) (1) بناء على اشتراط ذلك في البيع أو تواطئهما على ذلك، فإن
نفس القصد على ذلك أيضا كاف في الفساد، لما عرفت أن الصحة والفساد والحلية
والحرمة دائران قصد المحلل والمحرم.
الرابعة
ما إذا لم يقصد المعاملة لغاية محرمة، ولكنه يعلم بترتب الغاية المحرمة عليها
كبيع العنب ممن يعمله خمرا، وبيع الخشب ممن يعمله صنما أو صليبا، ومقتضى
قواعد المعاوضة عدم حرمتها، لعدم دخولها في أحد العناوين المحرمة. ومجرد
ترتب محرم عليها مع وقوعها عن اختيار من المشتري لا يوجب حرمتها. ولكن
ظاهر رواية عمرو بن حريث (2) ومكاتبة ابن أذينة (3) حرمتها، لأن حملهما على ما
إذا اشترط البائع على المشتري ذلك بعيد. والتفصيل بين بيع العنب ممن يعمله
خمرا وبيع الخشب ممن يعمله صنما فيقال بالصحة في الأول والفساد في الثاني أبعد.
فيمكن حمل الروايتين على الكراهة، لمعارضتهما مع ما هو صريح في جواز بيع
العنب ممن يعلم أنه يجعله خمرا أو مسكرا، كالمكاتبة الأخرى لابن أذينة، (4)
ورواية أبي كهمش (5) بعد عدم الفرق بين الخمر والصنم أو الصليب.
ويشهد لهذا الجمع رواية رفاعة: (عن بيع العصير ممن يصنعه خمرا، قال: بعه

(1) تهذيب الأحكام: ج 6 ص 373 ح 1084، عنه وسائل الشيعة: ج 12 ص 127 ب 41 من
أبواب ما يكتسب به ح 2.
(2) تقدم في الصفحة: 34.
(3) تقدم في الصفحة: 34.
(4) الكافي: ج 5 ص 231 ح 8، عنه وسائل الشيعة: ج 12 ص 169 ب 59 من أبواب
ما يكتسب به ح 5.
(5) الكافي: ج 5 ص 232 ح 12 وفيه: (أبي كهمس)، عنه وسائل الشيعة: ج 12
ص 169 - 170 ب 59 من أبواب ما يكتسب به ح 6.
35

ممن يطبخه أو يصنعه خلا أحب إلي، ولا أرى به بأسا) (1)، فإن قوله: (أحب)
ظاهر في أن بيعه ممن لا يذهب ثلثيه أو لا يصنعه خلا غير محبوب، أو يلتزم
بالتفصيل وإن كان بعيدا بمقتضى التعبد.
وكيف كان، مع معارضة الأخبار الصريحة في الجواز لهذين الخبرين لا يمكن
الالتزام بما هو ظاهرهما، فالأقوى جواز هذه المعاملة تكليفا، وصحتها وضعا.
نعم، قد يقال (2) بحرمتها من جهة كونها إعانة على الإثم، ولكن الأقوى عدم
دخولها في موضوع الإعانة على الإثم. وتوضيح ذلك يتوقف على إشارة إجمالية
إلى حكم الإعانة على الإثم وتنقيح موضوعها.
فنقول: لا إشكال في حرمتها، لظاهر الآية الشريفة. (3) ولا إشكال في عدم
إمكان تخصيصها بعد تحقق موضوعها، لأن هذه من العناوين الغير قابلة
للتخصيص، فإنها كنفس المعصية، وكالظلم، فإنه كما لا يمكن أن يكون معصية
خاصة مباحة فكذلك لا يمكن أن تكون الإعانة على المعصية مباحة.
فما عن الحدائق بعد ما حكى عن الأردبيلي قدس سره من القول بالحرمة في
مسألتنا من جهة كونها إعانة على الإثم: من أنه جيد في حد ذاته لو سلم من
المعارضة بأخبار الجواز (4). لا وجه له، لأنه لو كان بيع العنب ممن يعلم بأنه
يعمله خمرا داخلا في عنوان الإعانة فلا يمكن أن يدل دليل على جوازه، فمع
ورود الدليل على الجواز نستكشف بأنه ليس داخلا في هذا العنوان.
وأما موضوعها فقد قيل: (5) باعتبار أمرين فيه:
أحدهما: إيجاد فعل بقصد تحقق الإثم من الغير.

(1) الإستبصار: ج 3 ص 106 ح 375. وفيه: (عن الحلبي)، عنه وسائل الشيعة: ج 12
ص 170 ب 59 من أبواب ما يكتسب به ح 9 مع اختلاف يسير.
(2) سوف يأتي منه قدس سره أنه اختيار الأردبيلي كما في مجمع الفائدة: ج 8 ص 48.
(3) المائدة: 2.
(4) الحدائق الناضرة: كتاب التجارة ج 18 ص 205.
(5) كما يظهر من النراقي في عوائده: ص 26.
36

الثاني: وقوع الإثم من الغير بحيث لو لم يتحقق الإثم لم يكن الإيجاد حراما
من جهة صدق الإعانة وإن حرم من جهة قصد الإعانة بناء على ما اختاره من أن
قصد المعصية بنفسه من المعاصي.
وقد يقال (1): بكفاية نفس قصد تحقق الإثم من الغير وإن لم يقع الإثم.
وقد يقال: لا يعتبر القصد إذا تحقق الإثم (2).
وقد يقال (3): بعدم اعتبار تحقق الإثم ولا القصد، بل نفس بيع العنب ممن يعلم
أنه يعمله خمرا حرام وإن لم يعمله خمرا، ولا قصد البائع ببيعه وقوع الحرام من
المشتري.
والحق أن يقال: إن الفعل الواقع من شخص تارة يقع في سلسلة علل فعل
فاعل الإثم، وأخرى لا يكون كذلك وإن لم يمكن أن يصدر الإثم بدونه، بل كان
من المبادئ البعيدة، وذلك كتجارة التاجر التي لولاها لم يمكن للعشار أن يأخذ
عشرها، وهذا في الحقيقة خارج عن المبادئ أيضا، فإن المبادئ هي التي تتحقق
بعد الإرادة التقديرية من المريد، وهذا بمنزلة الموضوع لتحقق الإرادة التقديرية،
فإنه لولا تجارة التاجر وغرس الكرم من الزارع لم يمكن حصول العشار
والخمار، فبعد تحققهما لو كان أحد خبيث النفس يصير عشارا أو مخمرا.
وبالجملة: لو لم يكن في العالم ما يمكن أن يجعل خمرا لم يمكن للخمار أن
تحصل له إرادة تقديرية على تخمير العنب، أي: إرادته التخمير على تقدير اشتراء
العنب وتهيئة سائر المقدمات حاصلة في ظرف وجود العنب.
وكيف كان، سواء كانت هذه من المبادئ أولا فهذه خارجة عن موضوع
البحث إذا كان قصد التاجر التجارة لتحصيل أغراضه النفسانية، وقصد الغارس

(1) والقائل به الأردبيلي في زبدة البيان: كتاب الحج ص 297.
(2) قاله اليزدي في حاشيته على المكاسب: في حرمة بيع العنب ممن يعلم أنه يعمله خمرا
ص 9.
(3) قاله الإيرواني في حاشيته على المكاسب: فيما يقصد منه المنفعة المحرمة ص 15
س 36 - 40.
37

كذلك، لا إذا غرسه لذلك.
وأما إذا كان واقعا في سلسلة علل فعل الفاعل ومن مبادئ فعله، فهذا على
قسمين: لأنه قد لا يتوقف فعل الإثم إلا على عمل المعين كمن كان بانيا على
ضرب مظلوم فيناوله المعين العصا، وأخرى يتوقف على أمور أخر كتخمير
الخمار، فإنه بمجرد شراء العنب لا يمكن أن يحصل منه الخمر.
فلو كان من الأول فلا إشكال في أنه يصدق عليه الإعانة على الإثم ولو لم
يقصد معطي العصا إعانته على الضرب.
بل يمكن أن يقال: بأن مع عمله ببنائه على الضرب لا ينفك قصد الإعطاء عن
قصد الإعانة.
ولو كان من القسم الثاني فيمكن أن يقال: بإلحاقه بالقسم الأول، ويمكن أن
يقال: بأنه ملحق بتجارة التاجر.
وعلى أي حال، موضوع البحث في الإعانة ما إذا لم يكن فعل المعين علة
تامة لصدور الفعل عن الإثم بلا اختيار، وإلا فيدخل في باب الأسباب
والمسببات.
وبالجملة: بعدما فرض أن موضوع البحث هو الإعانة في المقدمة المشتركة
بين ترتب المحرم عليها والمحلل نقول: فرق بين بيع العنب وإعطاء العصا،
فالصواب أن يجعل البحث في أنه هل يلحق بيع العنب بباب إعطاء العصا الذي
هو من قبيل الجزء الأخير للعلة التامة، أو يلحق بتجارة التاجر، أو لا يلحق بشئ
منهما؟ والأقوى هو الفرق بينهما وبين بيع العنب، فلا يلحق بتجارة التاجر، ولا
بإعطاء العصا.
أما تجارة التاجر، فلأنها بمنزلة الموضوع لأخذ العشر، وليست من مبادئه،
فلا تحرم إلا إذا قصد التوصل بها إلى وقوع الحرام من العشار، لأن كل ما وقع
بقصد التوصل إلى صدور الحرام من الغير - ولو كان بيع الطعام ممن يعلم بأنه يشتريه
للتقوي به على المعصية - فهو داخل في الإعانة على الإثم، سواء أقلنا بأن شراء
38

المشتري حرام أم لا.
أما إذا قلنا بحرمته، فلأنه إذا كان شراء من يتقوى بالطعام حراما من باب أنه
شروع في الحرام فلا إشكال في أن البيع إعانة على الحرام ولو لم يقصد به التوصل
إلى الحرام، فضلا عما إذا قصد.
وأما لو لم نقل بأنه حرام من باب عدم حرمة مقدمة الحرام التي لا يترتب
عليها الحرام قهرا، كما برهن ذلك في محله، وثبت الفرق بينها وبين مقدمة
الواجب، ولم يقم وجه آخر على حرمته أيضا إلا ما يقال: إنه تجر إلى الحرام، وهو
حرام، وهذا ممنوع، فإن الشراء بنفسه ليس تجريا حتى يكون البيع مقدمة
للتجري، بل التجري هو الشراء بقصد التوصل به إلى الفعل المحرم.
ولا يقال: إذا كان المجموع المركب من الشراء مع القصد تجريا فكل واحد
من أجزاء المركب مقدمة للمركب، فإذا كان التجري حراما فالشراء الذي هو
مقدمة للتجري أيضا حرام.
لأنا نقول: أولا: لا تدخل أجزاء المركب في بحث مقدمة الحرام والواجب.
وثانيا: أن مقدمة الحرام الذي هو التجري إنما تكون محرمة إذا كانت تجريا
أيضا، وإلا فلا دليل على حرمة مقدمة الحرام وكونها تجريا، لكونها مقدمة للتجري
يتوقف على إتيانها بقصد التوصل إلى التجري، وهذا - مع أن المشتري لا يقصد
بشرائه التوصل إلى التجري - لا يمكنه أن يقصد ذلك، وإلا لتسلسل، وذلك لأنه إذا
كان القصد إلى التجري تجريا، والمفروض توقف التجري على القصد، فلا بد أن
يقصد القصد... وهكذا.
وبالجملة: ولو لم نقل بحرمة شراء الطعام للتقوي على المعصية إلا أن البيع
بقصد التوصل إلى صدور الحرام من المشتري حرام.
وعلى أي حال، بيع العنب ممن يعلم بأنه يعمله خمرا لا يشبه تجارة التاجر،
فإنه واقع في سلسلة أفعال الفاعل، دون التجارة فإنها خارجة وبمنزلة الموضوع
لها، فلا ملازمة بين حلية التجارة وحلية بيع العنب، فإذا قصد حصول الخمر وباع
39

ممن يعلم بأنه يعمله خمرا فيحرم، لأن المفروض أن البائع يقصد ببيعه حصول
الخمر من المشتري، فبيعه بقصد تخمير المشتري إعانة على الإثم.
وبعبارة أخرى: لا نقول بحرمة البيع بقصد توصل الغير إلى الحرام، لكونه
إعانة على الشراء حتى يقال بعدم المعان عليه، بل لكونه إعانة على التخمير.
وعلى هذا، فظهر الفرق بين الإعانة بالعصا والإعانة بالبيع أيضا، فإن الأول
يحرم ولو لم يقصد به توصل الغير إلى الحرام، بخلاف الثاني.
فتحصل مما ذكرنا: أن كل فعل وقع من المعين ولم يكن بينه وبين فعل العاصي
غير اختياره العصيان فهذا حرام ولو لم يقصد بفعله توصل العاصي به إلى العصيان،
ويندرج فيه: إعطاء العصا ممن كان مصمما لضرب مظلوم، وبيع السلاح من أعداء
الدين حين قيام الحرب، وإعطاء الكأس لمن أراد شرب الخمر، وبيع العصير
المتنجس على مستحله، وإعطاء السيف لمن يريد أن يقتل أحدا... وهكذا.
وكل فعل لا يقع الحرام به، بل يتوقف على أمور أخر: كبيع العنب ممن يجعله
خمرا، فهذا لا يندرج تحت الإعانة على الإثم إلا إذا قصد البائع به توصل
المشتري بالعنب إلى التخمير، فإن الشراء الذي هو مقدمة الحرام وإن لم يكن
بحرام إلا أن البائع حيث قصد من بيعه كون المشتري متمكنا من التخمير فيندرج
في الإعانة على الإثم.
ثم إنه قد يستدل (1) بحرمة بيع العنب ممن يعلم أنه يعمله خمرا: بأن دفع
المنكر كرفعه واجب، ولا يتم إلا بترك البيع فيجب تركه، فيحرم فعله.
ولا يخفى أن هذا الاستدلال يصح إذا فرضنا أن ترك البيع يؤثر في ارتداع
الخمار عن التخمير، فبناء على تأثيره فيه يمكن دعوى حرمة البيع من باب ثبوت
الملازمة عرفا بين وجوب رفعه بعد تحققه والمنع عن تحققه، ولذا يقال بحرمة
تنجيس المسجد من جهة استكشافها عن وجوب إزالة النجاسة عنه.
وأما لو لم يؤثر ترك البيع في ترك التخمير لوجود العنب عنده أو وجود مائع

(1) يظهر ذلك من الأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان: كتاب المتاجر، ج 8 ص 49.
40

آخر، فلا وجه لحرمته.
ولا يقال: إن بيع بائع آخر لا يوجب حلية بيع هذا، فإن ظلم ظالم لا يسوغ
الظلم.
لأنا نقول: فرق بين ما كان الشئ واجبا على نحو الكفائي، وبين ما كان
واجبا على جماعة بوصف الاجتماع، فإنه لو كان ترك البيع واجبا على كل أحد
كفائيا فيحرم البيع على كل من باع استقلالا.
وأما لو كان قائما بالمجموع، فلا وجه لحرمته على كل أحد. وفي المقام لم
يقم دليل على وجوب ترك البيع على كل واحد كفائيا، بل لا يمكن أن يدل دليل
كذلك، فإنه لا معنى لتعلق النهي على شئ كفائيا، ولا على وجوب الترك كذلك، بل
لا بد إما أن يقوم دليل على وجوب الفعل كفائيا، أو حرمته استقلاليا، أو وجوب
الترك مجموعيا وفي المقام لا مناص عن الأخير، فإن النهي عن المنكر إنما يكون
واجبا إذا كان مؤثرا، وتأثير ترك البيع في دفع المنكر متوقف على ترك الجميع،
لأن ببيع واحد على البدل يتحقق المنكر.
الفصل الثالث
ما يحرم الاكتساب به لغاية محرمة تترتب عليه شأنا من دون قصد البائع
ترتب هذه الغاية من شراء المشتري كبيع السلاح من أعداء الدين مع عدم قصد
تقويهم به، ومع عدم قيام الحرب بينهم وبين المسلمين.
ولا يخفى أن حرمة هذا لقسم لا تدخل تحت العناوين الكلية والقواعد العامة،
فلا بد من الاقتصار على مورد النص، وبعض النصوص الواردة في الباب وإن كان
مطلقا، إلا أنه يجب تقييده بما إذا كان بيننا حرب لا في مورد الهدنة، كما هو
صريح رواية هند السراج، فقال الباقر عليه السلام: (فإذا كانت الحرب بيننا فمن حمل
إلى عدونا سلاحا يستعينون به علينا فهو مشرك) (1).

(1) الكافي: ج 5 ص 112 ح 2، عنه وسائل الشيعة: ج 12 ص 69 - 70 ب 8 من أبواب
ما يكتسب به ح 2.
41

وبالجملة: يختص هذا القسم بما إذا حصل بالكسب تقوي الكفر على
الاسلام، وهذا عنوان آخر محرم بنفسه، لا من باب الإعانة وإن دخل بعض
أقسامه في باب الإعانة على الإثم أيضا، كما إذا قصد البائع بالبيع غلبة الكافر، أو
كان فعله الجزء الأخير من علة الإثم، ولا يبقى بين البيع والأثم إلا إرادة العاصي،
وفي غير عنوان الإعانة يجب الاقتصار على مورد النص، وهو السلاح
بالخصوص دون غيره.
خاتمة
قد تقدم في صدر الكتاب (1): أن النهي المتعلق بالمعاملة على أقسام ثلاثة:
لأن النهي تارة يتعلق بها من جهة عدم كون أحد العوضين مالا ولا حقا، وعدم
ماليته إما لعدم ماليته عرفا، أو لسلب الشارع جهة ماليته.
وأخرى: من جهة نفس المنشأ بالعقد، لا من جهة عدم مالية العوض شرعا أو
عرفا كالبيع الربوي، وبيع المصحف، والعبد المسلم من الكافر.
وثالثة: من جهة الانشاء إما لمزاحمته لواجب أهم، أو مضيق كالبيع وقت
النداء، وإما لدخوله تحت أحد العناوين المحرمة كالإعانة على الإثم وتقوي الكفر.
ففي القسم الأول، لا إشكال في أن النهي يقتضي الفساد، لأن قوام المعاوضة
بثبوت العوضين، فالبيع بلا ثمن والشراء بلا مثمن لا معنى له. وسيجئ تحقيقه - إن
شاء الله - في محله.
والأقوى في الثاني أيضا هو الفساد، لما بينا في الأصول (2) أنه إذا خرج
المنشأ بالعقود عن تحت سلطنة المالك فلا يعقل أن يصح التبديل والتبدل، لأن
الأمور الاعتبارية تسقط عن الاعتبار بمجرد إلغاء من بيده اعتبارها، فبنفس النهي
يخرج التبديل والتبدل عن سلطنة المالك، ولا يقدر على إيجادهما من توجه النهي
إليه. فالقول (3) بأن الحرمة لا تلازم الفساد شطط من الكلام، والأقوى في الثالث

(1) تقدم منه قدس سره في الصفحة: 17 فراجع.
(2) فوائد الاصول: ج 1 - 2 ص 471 - 472.
(3) إشارة إلى قول المحقق الخراساني في الكفاية: ص 225.
42

هو الصحة.
أما البيع وقت النداء، فواضح، لأن كون التلفظ بهذه الألفاظ حراما لا يلازم
عدم وقوع المنشأ بها.
وأما البيع الذي يكون إعانة على الإثم أو تقوية للكفر، فلأن المحرم هو إيجاد
الألفاظ بقصد توصل الغير بها إلى المحرم، فيتعلق النهي بأمر خارج عن المعاملة،
ولذا لا يبطل البيع لو لم يقصد به التوصل.
نعم، لو كان الشراء بهذا القصد فاسدا لفسد البيع أيضا، لأن العقد لا يتبعض، إلا
أنه لا دليل على فساد الشراء، لما عرفت: أن مقدمة الحرام ليست محرمة، ولا
تدخل تحت الإعانة على الإثم، لانحصار موردها بإعانة الغير.
ثم إن حكم القسم الأول واضح لو علم موضوعه، وأما لو شك فلو شك في
أنه مال عرفا فالأقوى صحة المعاملة عليه إذا علم بتعلق غرض عقلائي به،
وإثبات حق لمن في يده وحازه، للعمومات مثل قوله عز اسمه: (تجارة عن
تراض) (1) وقوله عليه السلام: (وكل شئ يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات
فهذا كله حلال بيعه وشراؤه وإمساكه) (2).
وعدم اندراج هذه المعاملة تحت أحد العناوين الخاصة: من البيع والصلح
والإجارة ونحوها بناء على أن يكون البيع هو تبديل مال بمال (3)، لا يضر بالصحة،
لعدم الدليل على اختصاص المعاملة بأحد هذه العناوين.
وبالجملة: وإن لم نقل بصحة التمسك بمثل قوله عز من قائل: (أحل الله
البيع) (4) لأخذ مبادلة المال بالمال في مفهومه واختصاص المال بما يعد مالا عرفا
ومع الشك في المصداق لا يمكن التمسك بالعموم، ولا التمسك ب‍ (أوفوا
بالعقود)، (5) لأنه ناظر إلى لزوم ما كان عقدا، وليس في مقام بيان: أن العقد ما هو

(1) النساء: 29.
(2) مر تخريجه في الصفحة: 27.
(3) كما في المصباح المنير: ص 69 مادة (بيع) وقد اختاره الشيخ الأنصاري في كتاب البيع
ص 79 س 2.
(4) البقرة: 275.
(5) المائدة: 1.
43

إلا أنه لا مانع من التمسك بعموم (تجارة عن تراض) (1) ونحوه، ولم يقم دليل
على اختصاصه بالمال حتى يكون في مورد الشك التمسك به تمسكا بالعام في
الشبهة المصداقية، فتأمل.
وأما لو شك في أنه حرام شرعا حتى يحرم بيعه بناء على أن الشارع أسقط
مالية ما كان محرما، فمقتضى أصالة الحل أنه داخل فيما يجوز بيعه، لأن بهذا
الأصل ينقح موضوع العمومات.
نعم، كون الموضوع الثابت بهذا الأصل موضوعا واقعيا كلام آخر، والحق
عدمه.
وكيف كان، فما لم ينكشف الخلاف لا إشكال في صحة المعاملة عليه.
ثم إنه لو كان منشأ الشك في المالية الشك في التذكية لتوقف المنفعة المحللة
على طهارة الجلد - مثلا - فلو دل دليل على قابلية الحيوان التذكية كالسباع - مثلا -
بل المسوخ مثل الفيل فلا إشكال في جواز بيعه وبيع أجزائه كالعظم والجلد بعد
تذكيته.
نعم، لا تقبل الحشرات التذكية، فإذا كانت لها نفس سائلة وتوقف استيفاء
منافعها على طهارة أجزائها بعد موتها فلا يجوز بيعها.
وكيف كان، فتحصل مما ذكرنا: أن جواز البيع منوط بأن يكون الشئ مالا
عرفا وشرعا، وأن تكون نفس المعاملة جائزة شرعا، سواء أحرز ذلك بالدليل أو
الأصل.
وعلى أي حال، أصالة الفساد التي هي الأصل الأولي المعول عليها في
المعاملات محكومة بالدليل وأصالة الحل والإباحة أما بالدليل فواضح، وأما
بالأصل فلأن به ينقح موضوع العمومات التي بها يرتفع الشك عن الصحة والفساد.
هذا كله في تبديل الأموال بالأموال.
وأما تبديل المنافع بها، فحرمة الاكتساب به تارة راجعة إلى إجارة الأعيان

(1) النساء: 29.
44

وما يلحق بالإجارة لمنافع محرمة كإجارة الدابة أو السفينة لحمل الخمر عليها،
وإجارة الدكان لبيع الخمر أو حرزه فيه.
وأخرى راجعة إلى إجارة الأبدان، وهذا على قسمين:
فتارة تقع الإجارة أو الجعالة ونحوهما بإزاء عمل محرم في نفسه.
وأخرى بإزاء عمل واجب.
وعلى أي حال، حرمة الاكتساب في باب الإجارة وما يلحق بها تقتضي
الفساد، لخروج العمل أو منفعة الدار عن تحت سلطنة المالك: إما لحرمته، أو
لوجوبه عليه كما سيجئ توضيحه.
ثم لما كان المقصود من التحرير بيان الضابط الكلي فلا نتعرض لصغريات
الأبواب، وأن القمار - مثلا - داخل في باب الإجارة، أو أنها معاملة مستقلة التي
تسمى عند العرف بالمراهنة التي خرج السبق والرماية عن تحتها شرعا. ولا
نتعرض للأعمال المحرمة وإن جرت عادة العلماء بذكر ما من شأنه الاكتساب به
عرفا، وهو كل عمل يبذل بإزائه المال: كالتصوير ونحوه، بل بذكر ما ليس من شأنه
أن يبذل بإزائه مال كالغيبة والكذب ونحوه. فالمهم بيان منشأ بطلان الإجارة على
المحرمات والواجبات، وتوضيح ذلك في ضمن مقدمة وفصول:
أما المقدمة: فهي أنه قد اعتبر في الإجارة وما يلحق بها من الجعالة وإباحة
المنفعة بالعوض بناء على كونها من المعاملات المتعارفة أمران:
الأول: أن يكون العمل الذي يأخذ الأجير أو العامل بإزائه الأجرة والجعل
ملكا له، بأن لا يكون مسلوب الاختيار بإيجاب أو تحريم شرعي عليه، لأنه إذا
كان واجبا عليه فلا يقدر على تركه، وإذا كان محرما عليه فلا يقدر على فعله.
ويعتبر في صحة المعاملة على العمل كون فعله وتركه تحت سلطنته واختياره.
الثاني: أن يكون العمل ممكن الحصول للمستأجر، فلو لم يكن كذلك - كما إذا
تعلق تكليف عليه مباشرة - فلا تصح الإجارة عليه وإن انتفع به، فإن مجرد انتفاع
45

المستأجر لا يصحح الإجارة، فإن الانتفاع أمر آخر يعتبر في كل معاملة،
وحاصله أن لا تكون المعاملة سفهية.
ثم إنه قد ينتفي كلا الشرطين كصوم شهر رمضان أو الحج في سنة الاستطاعة
ممن يجب عليه بالمباشرة، فإن الأجير ليس مالكا لعمله، والمستأجر أيضا
لا يملك عمل غيره.
إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى تعيين الصغرى في ضمن مباحث:
المبحث الأول
المحرمات بأجمعها لا يمكن الإجارة عليها، لانتفاء الشرط الأول، من غير
فرق بين ما جرت العادة بجعل الأجرة والجعل عليه كالتصوير ونحوه، أو لم تجر
كالكذب ونحوه، فلا يجوز لشاهد الزور أخذ الأجرة على شهادته، لخروج عمله
عن تحت سلطنته لنهي الشارع فلا يقدر على فعله، فأخذه الأجرة أكل للمال
بالباطل، ومصداق ل‍ (وهب الأمير ما لا يملك).
الثاني
الواجبات النظامية كلها يجوز أخذ الأجرة عليها ما عدا القضاء، سواء كانت
كفائية أو عينية، تعيينية كانت أو تخييرية. ونحن استوفينا البحث عنها في كتاب
القضاء (1)، والغرض في المقام محض الإشارة إليه.
ووجه ذلك حصول كلا الشرطين، فإن الأجير مالك لعمله، والمستأجر يمكن
الحصول له. أما الثاني: فواضح.
وأما الأول فلأن الواجب على الأجير هو بذل عمله، أي تعلق التكليف أو
الوضع بالمعنى المصدري، لا بنتيجة عمله التي هي المعنى الاسم المصدري، فإن
الطبيب وإن وجب عليه الطبابة عينا إلا أنه مالك لعمله، والأجرة

(1) كتاب القضاء (مخطوط): ص 6 - 7.
46

تقع بإزاء العمل الذي هو مناط مالية المال، لا بإزاء قوله من حيث الإصدار،
وهما وإن لم يكونا
أمرين خارجيين متمايزين إلا أنهما شيئان اعتبارا، فللشارع التفكيك بين وجوب
المصدر وملكية اسم المصدر، وليس الطبيب والصباغ والخياط كالقاضي، فإن في
باب القضاء تعلق التكليف بنتيجة عمله وهو فصله الخصومة، وهذا إذا خرج عن
ملكه فلا يجوز له الأجرة عليه. وأما الصباغ ونحوه فما وجب عليه هو بذل عمله
وهذا الوجه وإن كان في النتيجة مشتركا مع ما يوجه به صحة الأجرة بأن
الواجب النظامي لم يتعلق الوجوب به مجانا، ولكنه لا يرجع إليه، لأنه لم يقم دليل
على أنه لم يجب مجانا، ولا دليل في الواجبات الغير النظامية على أنها وجبت
مجانا إلا في بعضها كالقضاء ونحوه، بناء على عدم كونه نظاميا، وإلا استثني منه،
بل الوجه الذي توجه به صحة الأجرة عليه هو الموجب لاستفادة عدم المجانية.
وكيف كان، لو وجب بذل العمل وحرمة احتكاره فلا مانع من أخذ الأجرة
عليه وإن جاز أن يعمله تبرعا بلا إشكال. ولو وجب عليه نتيجة العمل فلا يجوز
أخذ الأجرة، لأن المعنى المصدري آلي ولا يقابل بالمال، واسم المصدر خارج
عن ملكه.
ونظير الأعمال في كلا الشقين الأموال أيضا، فإنه قد يتعلق تكليف أو وضع
بنفس الملك كباب الخمس والزكاة، فلا يجوز أخذ العوض من مصرفه أو مستحقه،
وقد يتعلق تكليف بالتمليك والإعطاء والبذل كوجوب بيع الطعام في المخمصة،
فإن التكليف المتعلق بصاحب الطعام هو حرمة حبسه واحتكاره الطعام، ولم
يتعلق بنفس المال.
ثم إن جواز أخذ الأجرة عليه ليس لكونه توصليا مقابلا للعبادي، لما سيجئ
أن التوصليات أيضا لا يجوز أخذ الأجرة عليها، بل لكونه توصليا بمعنى آخر،
وهو أن جهة وجوبه معلومة.
وبعبارة أخرى: ملاك وجوبه ومنشأ تعلق الأمر به حفظ النظام وما يتوقف
عليه تعيش بني آدم، ونظام العالم هو بذل عمله، لا كون نتيجة عمله خارجا عن
ملكه.
47

نعم، لو توقف النظام في مورد على هذا كما لو توقف حفظ نفس محترمة
لا ذمة لها - كالطفل أو المجنون الذي لا مال له ولا ولي - على بذل النتيجة فلا يبقى
محل لأخذ الأجرة عليه.
الثالث
في حكم الواجبات الغير النظامية، أي: ما يجب على المكلف لغير ملاك
توقف نظام العباد والبلاد عليه.
وهذا على قسمين: قسم يعتبر قصد الأمر فيه، وقسم توصلي. وكل منهما إما
عيني أو كفائي. وبتقسيم آخر: إما تعييني أو تخييري.
ثم إن الواجب تارة واجب على المستأجر دون الأجير، وتارة بالعكس،
وأخرى يجب على كليهما. فإذا كان واجبا على المستأجر دون الأجير، فلو لم
يعتبر في عمل المستأجر المباشرة تصح الإجارة مطلقا، تعبديا كان أو توصليا،
كان واجبا عليه عينا أو كفاية، كما إذا وجب القضاء عن الميت على وليه فيستأجر
غيره، وكما إذا وجب الجهاد على شخص عينيا أو كفائيا دون غيره فيستأجر من
لا يجب عليه ليجاهد عنه، ولا إشكال في هذا القسم، لأن الأجير مالك لعمله،
والمستأجر يملك عمل الأجير.
نعم، في التعبديات يتوهم (1) تنافي أخذ الأجرة مع قصد القربة. وسيجئ (2)
دفعه.
وإذا وجب على الأجير دون المستأجر، فلا تصح الإجارة عليه، سواء كان
عينيا أو كفائيا.
أما إذا كان عينيا: كالصلاة اليومية، فلانتفاء كلا الشرطين المعتبرين في صحة
الإجارة، فإن الأجير لا يملك عمله، والمستأجر لا يملك أيضا عمل الأجير.
وأما إذا كان كفائيا، فلانتفاء الشرط الثاني، بل كل ما لا يملكه المستأجر لا

(1) التوهم من الكاشاني في المفاتيح: كتاب مفاتيح المعايش، ج 3، ص 12.
(2) سيأتي مختار المصنف من الأجوبة على اشكال التنافي: ص 52 - 53.
48

تصح الإجارة عليه. وإن لم يكن واجبا على الأجير بل كان مستحبا أو مباحا فلا
تصح إجارته لقراءة القرآن لنفسه، أو لإعادة صلاته ليقتدي به المستأجر.
وأما إذا وجب على كليهما فتارة يجب على كل منهما عينيا، وأخرى كفائيا أو
تخييريا.
فإذا وجب عينيا كصوم شهر رمضان فلا تصح الإجارة، سواء استأجره لأن
يصوم عن المستأجر أو عن نفسه، لانتفاء كلا الشرطين، لوجوبه على الأجير،
وعدم حصول الملك للمستأجر ولو آجره لأن يصوم نيابة عنه، لأن اعتبار
المباشرة على نفس المستأجر موجب لعدم حصول الملك له.
وأما لو وجب على كل منهما كفائيا أو تخييريا فإذا لم يعتبر المباشرة في عمل
المستأجر - كالجهاد - واستأجره لأن يكون نائبا عنه فيصح، لوجود كلا الشرطين،
فإن النائب حيث إنه يجب عليه كفائيا مالك لعمله، والمستأجر أيضا يملك عمل
الأجير. وأما لو اعتبر المباشرة كالصلاة على الميت أو استأجره لأن يجاهد
الأجير لنفسه فلا يصح، لانتفاء الشرط الثاني.
ومجرد انتفاع المستأجر - وهو سقوط الوجوب الكفائي عنه - لا يصحح
الإجارة بعد اعتبار إمكان حصول ملك المنفعة للمستأجر.
وعليك باستخراج حكم سائر الأقسام، كما إذا كان على كل منهما تخييريا، أو
كان على أحدهما تخييريا وكان على الآخر عينيا تعيينيا، مثل ما إذا وجب على
الأجير: إما الصوم أو إطعام ستين مسكينا، ووجب على المستأجر قضاء صوم أبيه
عينا تعيينيا، فإذا لم يعتبر المباشرة في عمل المستأجر يصح أن يستنيب غيره
للصوم ولو كان واجبا عليه تخييرا بينه وبين الإطعام.
نعم، لو تعذر عليه الإطعام وضاق الوقت للصوم لا يجوز أن يصير نائبا، فتدبر
جيدا.
إذا عرفت ذلك، فلنرجع إلى دفع ما يقال: من أن أخذ الأجرة في الواجبات التي
يعتبر قصد القربة فيها ينافي التقرب، ولهم في التفصي عن هذا الإشكال وجوه:
49

منها: ما نسب إلى صاحب الجواهر (1) قدس سره وهو: أن تضاعف الوجوب بسبب
الإجارة يؤكد الإخلاص ولا ينافيه.
وفيه: أنه لو كان المقصود: أن داعي الأجير على العمل يصير آكد لانضمام
الأجرة إلى أمر الله سبحانه فهذا عين الالتزام بالإشكال، لاعتبار الخلوص في
داعي العامل.
ولو كان المقصود: أن وجوب العمل على الأجير يوجب تأكد اشتراط
الخلوص في العبادة فكأن الشئ يصير واجبا من قبل الله سبحانه بوجوبين:
الأول وجوب الوفاء بالإجارة بإتيان العمل. والثاني: إتيانه لأمر الله سبحانه.
ففيه: أن الأمر الأجاري لا يعتبر فيه القربة، فكيف يؤكد الإخلاص ولا يتحد
مع الأمر العبادي حتى يكتسب العبادية منه: كالأمر النذري، فإنه يتعلق بعين ما
تعلق به الأمر العبادي؟ ولذا يكتسب كل من الأمر النذري والعبادي من الآخر ما
هو فاقد له. فإذا نذر صلاة الليل تصير بالنذر واجبة ويصير النذر قربيا، وهذا
بخلاف الأمر الأجاري فإنه يتعلق بالصلاة مع قصد القربة، والأمر العبادي يتعلق
بذات العمل.
ولذا، لو تبرع متبرع عمن وجب عليه عبادة يجب عليه أن يقصد ما وجب
على المنوب عنه، مع أن أمره التبرعي استحبابي.
وكذا لو استؤجر أحد لصلاة الليل لو فرض صحة الإجارة يجب أن يقصد
الأمر الاستحبابي المتوجه إلى المنوب عنه، لا الأمر الأجاري الذي يجب عليه
وفاؤه.
نعم، قد يجتمعان في الوجوب والاستحباب، ولكنهما - على أي حال - لا
يتحدان.
ومنها (2): أن أخذ الأجرة من قبيل الداعي على الداعي، إذ ليس في عرض

(1) جواهر الكلام: كتاب التجارة في ما يحرم التكسب به، ج 22، ص 117.
(2) كما هو مختار اليزدي في مسألة دفع المنافاة، في حاشيته على المكاسب: ص 24، س 13
وما بعده.
50

داعي الامتثال، بل في طوله، فالداعي على الامتثال هو: أمر الله المحرك لإتيان
الفعل بداعي أمر الله هو الأجرة.
وفيه: أنه لو كان هذا إشكالا لكان أولى وأحق من أن يكون جوابا، فإنه لولا
الأجرة لما حصل للعامل الداعي إلى إتيان الفعل لله سبحانه، فصار محركه إلى
العمل بالأخرة هو الأجرة.
ولا تقاس الأجرة بالغايات المترتبة على العبادات بجعل إلهي فإنه مع
الفارق، لأن سلسلة العلل إذا انتهت إلى الله سبحانه فلا يخرج المعلول عن كونه
عباديا، وهذا بخلاف ما إذا انتهت إلى غيره، فإنه ليس من وظيفته جعل غاية للفعل
بقصد الأمر.
وبالجملة: فرق بين أن يؤتي الصلاة لأمر الله سبحانه حتى يوسع رزقه، وأن
يؤتي لأمر الله حتى يأخذ الأجرة، والأول عبادة وإن لم تكن عبادة الأحرار،
والثاني ليس عبادة.
ومجرد توسيط أمر الله سبحانه في العمل لا يصحح العبادة، لأن حقيقة العبادة
ليست صرف اخطار كون العمل لله أو التلفظ بهذا العنوان، بل أن يكون محرك
العامل هو أمر الله سبحانه ولو لغايتها المترتبة عليها منه سبحانه.
وأما إذا كان محركه الأجرة فهذا عين كونه غير قربي، فإن من لا يكنس دار
زيد أصلا ولا يعتني بأمره لو أمر عمرو بكنس دار زيد فكنسه داره لا يمكن أن
يكون لأمر زيد ولو أمره عمرو بامتثال أمر زيد.
وبالجملة: لو وقع في سلسلة داعي العمل داع غير إلهي يخرج العمل عن كونه
قربيا، والقول بأن لا يعتبر في العبادة أن يكون الداعي على الداعي قربيا مساوق
للقول بعدم اعتبار قصد التقرب في العبادة.
ومنها: أن فعل النائب فعل تسبيبي للمستأجر، وقصد المستأجر التقرب في
استئجاره كاف في العبادة.
وفيه: أنه لا إشكال في صحة التبرع عن الغير، مع أن المتبرع عنه غافل عن
51

فعل المتبرع فكيف يكون فعل النائب فعل المنوب عنه؟ وكيف يقصد المتبرع
القربة الكافية من المنوب عنه؟
ومجرد كون داعي العامل أمر المستأجر لا يجعل فعله مسببا توليديا، فإن
المسبب التوليدي هو الذي لا يكون بين فعل الفاعل والأثر المترتب عليه واسطة
اختيارية.
نعم، قد يطلق المسبب التوليدي على البناء لأمر غيره به كقولهم: (فتح الأمير
البلد) ولكن هذا الاطلاق بالعناية وخارج عن باب المسبب التوليدي، ولا يمكن
أن يتعلق تكليف بالجامع بين فعله وفعل غيره، بل ليس الجامع فيما لا يعتبر فيه
المباشرة إلا الأعم من الفعل بنفسه أو الاستنابة، والقربة في الاستنابة غير تقرب
النائب، وفي باب العبادات تعتبر في نفس عمل العامل، ولا يقاس المقام بوقف
المسجد في عدم اعتبار قصد التقرب من البناء، لأنه لم يقم دليل على اعتبار القربة
إلا من الواقف والواقف حيث إنه يملك هذه الهيئة الحاصلة من عمل البناء، كما
أنه يملك الجص والأجر فيوقف هذه الهيئة مع موادها قربة إلى الله. ولو فرض
اعتبار القربة في عمل البناء لما كانت القربة الحاصلة للأمر في أمره بالبناء كافية
لعمل البناء.
فالصواب في الجواب: هو ما أفاده شيخنا الأنصاري قدس سره (1) وحاصله: أن
متعلق عقد الإجارة غير متعلق الأمر العبادي، فإن الأمر العبادي متوجه إلى
المنوب عنه، والأمر الأجاري إلى النائب، ولا يتحد متعلقهما وإن اجتمع العنوانان
في الخارج في مصداق واحد، ولا تقع الأجرة في سلسلة داعي المنوب عنه أصلا،
وإنما تقع الأجرة بإزاء قصد النائب النيابة في عمله، بحيث لو قصد النائب إتيان
العمل للأجرة أو قصد إتيان العمل بداعي أمره سبحانه بإزاء الأجرة يقع عمله
باطلا، ولا يقع للمنوب عنه، بل لم يأت بما تعلق الإجارة به، لأن الإجارة الحاصلة
بينهما وقعت بأن يأتي العامل العمل للمنوب عنه، وهذا من غير فرق بين التوصلي

(1) المكاسب للشيخ الأنصاري: كتاب البيع ص 65.
52

والتعبدي مثلا: لو استأجره للجهاد وقلنا بعدم اعتبار قصد التقرب من المجاهد فلو
جاهد الأجير لا عن المستأجر بل بلا عنوان لا يقع منه فلم يمتثل الأمر الأجاري،
بل يقع عمله إما لغوا أو عن نفسه.
ويظهر توضيح ذلك بملاحظة حال المتبرع، فإنه إذا قصد الأمر المتوجه إلى
المتبرع عنه يقع عن المنوب عنه، ولا إشكال في أن التبرع منه مستحب، مع أن
الأمر المتوجه إلى المنوب عنه قد يكون واجبا، ولا يقع داعي المتبرع في سلسلة
داعي المنوب عنه، ولا ربط لأحدهما بالآخر، فإن داعي المتبرع عنه هو أمر الله
سبحانه المتوجه إليه إما ببدنه، أو ببدنه التنزيلي، وداعي المتبرع هو تنزيل نفسه
منزلة غيره ونيابته عنه.
والتعبير بالتنزيل إنما هو لتقريب المطلب وتوضيحه، وإلا فما هو المعتبر في
تفريغ ذمة الغير ليس إلا نيابته عنه، فإذا صح نيابته عنه تبرعا ولم يتعلق الأمر
التبرعي بما تعلق به الأمر العبادي فيصح أخذ الأجرة بإزاء قصد الغاية في العمل،
لأن الأجرة لم تقع بإزاء العمل القربى، لأن التقرب يحصل للمنوب عنه، ولا يعتبر
في النيابة أصلا، فداعيه إلى النيابة إذا كان الأجرة وأتى بالعمل القربى للمنوب عنه
فيحصل من عمله أمران: أحدهما: تفريغ ذمة المنوب عنه، وثانيهما: نيابته عنه.
والعمل الخارجي وإن كان مجمع العنوانين إلا أن أحدهما في طول الآخر.
ولا شبهة أن نيابته عنه متقدم في الرتبة على حصول فراغ الذمة والتقرب للمنوب
عنه، فيترتب على فعله أثران أحدهما في طول الآخر، ولا إشكال في ذلك أصلا.
وبالجملة: ما هو مناط العبادية لم تقع الأجرة بإزائه، بل وقعت الأجرة بإزاء
مالكية المنوب عنه العمل من الأجير، وإيقاع العمل عنه الذي هو قوام النيابة من
قبيل عناوين الأفعال التي تتحقق بقصدها في العمل كعنوان التعظيم، وعنوان
الظهرية والعصرية.
ولا شبهة أن عنوان العمل لا يدخل في سلسلة الداعي، فإن الداعي هو معلول
الفعل الذي يوجد العامل العمل لأجل ترتبه عليه. فإن كانت الأجرة واقعة بإزاء
53

العمل وكان العمل لأجلها فهذا ينافي القربة، ولا يمكن أن يكون توسيط قصد
الامتثال بالخطرات القلبية مصححا له.
وما يحكى عن بعض الأعاظم: (1) من أنه كان يعطي الأجرة إلى الأكراد
ليصلوا ليس من باب أنه قدس سره يحدث لهم الداعي على إتيان العمل لله، بل
غرضه قدس سره جعلهم متعودين بالعبادات حتى يحدث لهم بعد ذلك الداعي القربى.
وهكذا وجوب الأمر بالصلاة من باب الأمر بالمعروف، وليس من قبيل الداعي
على الداعي، بل المدار هو عدم انمحاء شعائر الله سبحانه صورة، وإلا كيف يقصد
القربة من لا يخاف من الله سبحانه ويخاف من الأمر بالمعروف؟
وحاصل الكلام: أن ما أفاده شيخنا الأنصاري (2) قدس سره من أجود الأجوبة في
هذا الباب، لأنه بعد ما فرضنا عدم اعتبار المباشرة في فعل المنوب عنه، وأن فعل
النائب إذا قصد النيابة عنه يقع عنه، كما لا إشكال في أنه يجوز للغير التبرع في
إتيان الفعل بالنيابة عنه، ولا يعتبر في الأمر التبرعي قصد القربة ولا يتحد الأمر
التبرعي مع الأمر العبادي فكذا لا ينبغي الإشكال في أنه يجوز أن يأخذ الأجرة
بأن يجعل إتيان العمل للغير واجبا على نفسه، وهو إنما يخرج عن عهدة هذا
التكليف إذا أتى ما وجب على الغير، وما وجب عليه هو الذات مع قصد التقرب،
وهذا متعلق الإجارة، أي: ما ملكه المستأجر على الأجير. فالأمر العبادي متعلق
بذات العمل، والأمر الأجاري متعلق بإتيان العمل القربى نيابة عنه، والتقرب معتبر
في داعي المنوب عنه.
وأما اعتبار التقرب في داعي الأجير على جعل عمل نفسه مملوكا للغير قربة
إلى الله فلم يقم عليه دليل.
وبالجملة: الأجرة تقع بإزاء هذا العنوان، وهو: اتيانه عمل الغير نيابة عنه،
وهذا من غير فرق: بين أن يكون عمل الغير تعبديا أو توصليا، فإن وقوعه له
يتوقف على هذا العنوان، وإلا لا يقع عنه وإن سقط عنه التكليف أحيانا، كما لو

(1) لم نعثر عليه.
(2) تقدمت الإشارة إليه في الصفحة: 52.
54

غسل ثوبه بلا قصد عنه.
وعلى هذا، فمتعلق الأمرين في كل واحد مباين مع الآخر، ولا يبتنى على
مسألة الاجتماع، ولا على أن الأجرة بإزاء نفس قصد النيابة بدون إيجاد العمل،
لما عرفت أن الفعل مجمع العنوانين، وأحدهما في طول الآخر، لا في عرضه، ولا
على الداعي على الداعي فإنها لا تنفع.
والعجب من السيد قدس سره في حاشيته (1) على المكاسب من قوله: أولا، وثانيا،
فإنه لم يدع شيخنا الأنصاري أن الأجرة بإزاء نفس قصد النيابة من دون العمل،
ولا أن الفعل من جهة واحدة قربي، ويجوز أخذ الأجرة عليها، لما عرفت: أن له
جهتين، والحامل على العمل على جهة النيابة وإن كان هو الأجرة إلا أن الحامل له
على جهة المنوب عنه التي هي عبارة عن كونه بدلا تنزيليا له هو أمر الله سبحانه
المتوجه إلى المنوب عنه.
وملخص الكلام: أنه لو وقعت الأجرة بإزاء اتيان ذات العمل بإزاء الأجرة،
أو بإزاء اتيان العمل بقصد القربة بإزاء الأجرة فهذا ينافي العبادية، مضافا بأنه لا
يسقط بهذا النحو من الإجارة ما هو الواجب على المستأجر، لأنه لم يأت بداعي
الأمر المتوجه إلى المنوب عنه، بل بداعي الأمر الأجاري.
وأما لو وقعت الأجرة بإزاء إتيان العمل بأمره المتوجه إلى المنوب عنه بالأمر
الأعم من المباشرة والاستنابة، فهذا لا ينافي القربة المعتبرة في العبادة، لأنه لم
يعتبر في الأمر الأجاري القربة، ولا وقعت الأجرة في طول داعي نفس العمل.
وببيان أوضح: لا إشكال في أن معنى عدم اعتبار المباشرة في فعل المنوب
عنه مع أنه قد تعلق التكليف به هو أن الواجب عليه تحقق اسم المصدر عنه - أي:
نتيجة الفعل واجبة عليه - دون جهة الإصدار، فلا يعتبر في جهة الإصدار المباشرة،
ولا شبهة أن هاتين الجهتين ممتازتان، فإذا كانت القربة معتبرة في جهة اسم

(1) حاشية المكاسب: في بيان أخذ الأجرة ص 28.
55

المصدر ووقعت الأجرة بإزاء الجهة المصدرية (1) فيجتمع الفعل القربى الذي به
يتحقق ما وجب على المنوب عنه، مع أخذ الأجرة بإزاء إصدار هذا الفعل القربى.
وبعبارة أخرى: الفعل إذا اعتبر فيه المباشرة فمعناه أنه يجب أن تصدر هذه
النتيجة من نفس الفاعل الذي تعلق به التكليف.
وأما إذا لم يعتبر فيه المباشرة فمعناه أن الجامع بين إيجاد غيره نائبا تبرعيا أو
اجاريا وإيجاد نفسه متعلق للتكليف، فإذا كان الجامع متعلقا للتكليف ولم يجب
على الغير الجهة الإصدارية (2) فله أن يؤجر نفسه بإزاء أجرة لتحصيل ما هو واجب
على الغير، فلا بد أن يقصد في إيجاده نتيجة الفعل بفعله وقوعه عن الغير ليستحق
الأجرة وليسقط عنه، فيترتب على فعله أمران متغايران:
أحدهما: وقوع متعلق الإجارة عنه، وهذا لا يعتبر فيه القربة، لأن إيجاده
العمل من حيث فعل نفسه لا يعتبر فيه القربة.
وثانيهما: وقوع العمل عن الغير، لكونه فردا من أفراد الجامع، وبه يحصل
فراغ ذمته، وبه يحصل التقرب له، وهذا معتبر فيه القربة، ولكنه للمنوب عنه لا
للنائب.
ثم إنه ينبغي التنبيه على أمور:
الأول: مقتضى ما ذكرنا من اعتبار الشرطين في الإجارة عدم صحة إجارة
من اشتغلت ذمته بعمل في وقت خاص لهذا العمل ولغيره. فمن وجب عليه حجة
الاسلام أو المنذورة المضيقة أو الحجة المستأجرة بالمباشرة لا يصح أن يصير
أجيرا لغيره في هذه السنة، لا من باب أن الأمر بالشئ يقتضي النهي عن الضد
كما في العروة، (3) بل لأن العمل خارج عن ملكه إما بالوجوب الشرعي، أو
النذري، أو لكونه أجيرا لغيره.

(1) في المطبوع من الأصل: (المصدري) والصواب ما أثبتناه.
(2) في المطبوع من الأصل: (الاصداري) والصواب ما أثبتناه.
(3) العروة الوثقى: كتاب الحج ج 2 ص 504.
56

وبالجملة: من لم يملك عمله لا يمكنه أن يملكه غيره، وعلى هذا، فلو كان
العكام (1) أجيرا لأحد حتى في المشي معه لا يمكنه أن يصير نائبا عن غيره،
لخروج أفعاله عن ملكه.
نعم، لو كان أجيرا له في العمل في المنزل أو بالأعم من المباشرة فيصح أن
يؤجر نفسه للحج، وهكذا في مسألة الطواف، فمن كان واجبا عليه إطافة غيره لا
يمكنه أن يحتسبه لنفسه، لأن حركاته ملك للغير.
نعم، لو كان أجيرا لحمله حال طواف نفسه فلا مانع.
الثاني: وردت روايات (2) تدل على حرمة بيع المصحف وجواز شراء جلده
وحديده وكاغذه. وعلى هذا، فيشكل ما هو معمول في الخارج، لأن نفس الجلد
والكاغذ ونحوهما لو كانت متعلقة للبيع دون النقوش والكتابة فيقتضي بقاء الكتابة
على ملك البائع.
ولكن يمكن التفصي عنه بأن يقال: إن الكتابة في الأوراق نظير: كتابة عبد
الكاتب، (3) فكما أن كونه كاتبا يوجب زيادة قيمة العبد مع أن الثمن لا يقع بإزاء
الكتابة فكذلك بعدما نهى الشارع عن بيع نفس المنقوش ففي مقام المعاملة يوقع
العقد على نفس الكاغذ الذي فيه الكلمات المباركة، فتدخل الكلمات في ملك
المشتري تبعا، غاية الأمر: أنه لولا النهي لكانت النقوش جزءا للمبيع، بل كانت
هي المقصودة الأصلية من المعاملة، وكانت غيرها تابعة، ولكنه بملاحظة النهي
ينعكس الأمر.
ورعاية التبعية أمر ممكن قصدها من المتعاوضين، بل من التوابع ما يكون
تابعا وإن لم تقصد تبعيته، نظير: دخول مفتاح الدار في الدار المبيعة.

(1) عكم المتاع يعكمه عكما: شده بثوب، وهو أن يبسطه ويجعل فيه المتاع ويشده. لاحظ
لسان العرب: مادة (عكم) ج 12، ص 415.
(2) وسائل الشيعة: ص 114 - 116 أحاديث الباب ب 31 من أبواب ما يكتسب به ج 2 1.
(3) كذا في الأصل المطبوع، ولعل صوابه: العبد الكاتب.
57

الثالث: قد وردت عدة روايات على جواز أخذ جوائز سلطان الجور وعماله،
بل مطلق المال المأخوذ منهم مجانا أو عوضا، وبعضها صريح في صحة الأخذ
منهما ولو لم يكن لهما مال آخر حلال:
كصحيحة أبي ولاد، قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما ترى في رجل يلي أعمال
السلطان ليس له مكسب إلا من أعمالهم وأنا أمر به وأنزل عليه فيضيفني ويحسن
إلي، وربما أمر لي بالدراهم والكسوة وقد ضاق صدري من ذلك؟ فقال لي: (كل
وخذ منها، فلك المهنأ وعليه الوزر) (1).
وبعضها ظاهر في ذلك: كمصححة أبي المعزى قال: سأل رجل أبا عبد الله عليه السلام و
وحج بها (2).
وبمثلها رواية محمد بن هشام (3)، ورواية محمد بن مسلم وزرارة (4).
ثم لا يخفى أن بمضمون هذه الأخبار أفتى الأصحاب، ويستفاد من النص
والفتوى أنه لا تعمل قواعد العلم الإجمالي في المأخوذ من السلطان وعماله، فإن
حمل (5) المأخوذ على خصوص ما أخذاه من الخراج والمقاسمة اللذين وردت في
الأخبار (6) الكثيرة إباحتهما للشيعة، بعيد جدا. وحمله ما إذا لم يكن بعض
الأطراف مبتلى به أبعد.

(1) من لا يحضره الفقيه: ج 3 ص 175 ح 3662، عنه الوسائل: ج 12 ص 156 ب 51 من
أبواب ما يكتسب به ح 1 إلا أن في الفقيه (خذ وكل).
(2) تهذيب الأحكام: ج 6 ص 338 ح 942، عنه الوسائل ج 12 ص 156 ب 51 من أبواب ما
يكتسب به ح 2.
(3) تهذيب الأحكام: ج 6 ص 338، ح 943، عنه الوسائل ج 12 ص 157 ب 51 من أبواب
ما يكتسب به ح 3.
(4) تهذيب الأحكام: ج 6 ص 338 ح 931، عنه وسائل الشيعة: ج 12 ص 157 باب 51 من
أبواب ما يكتسب به ح 5.
(5) كما عند النراقي في مستنده: كتاب مطلق الكسب، ج 2، ص 352.
(6) وسائل الشيعة: ج 12، ص 161 - 162 أحاديث الباب، باب 52 من أبواب ما يكتسب به.
58

نعم، لا بد من تقييد هذه الأخبار بما إذا لم يكن المأخوذ معلوم الحرمة
تفصيلا، كما أن الأصحاب أيضا أخرجوا هذه الصورة.
ويدل عليه موثقة إسحاق بن عمار قال: سألته عن الرجل يشتري من العامل
وهو يظلم؟ فقال: (يشتري منه ما لم يعلم أنه ظلم فيه (1).
ويدل عليه أيضا رواية علي بن أبي حمزة في قضية صديق له من كتاب بني
أمية، حيث قال له الصادق عليه السلام: (فمن عرفت منهم رددت عليه ماله) (2)، فإنه يدل
على أن جوائز بني أمية لا يجوز التصرف فيها، فتأمل.
وعلى هذا، فإذا علم بكون هذا المأخوذ من الخراج والمقاسمة تفصيلا فيحرم
التصرف فيه. وأما لو لم يعلم ذلك فنتيجة هذه الأخبار تقييد المحرم بالمعلوم
التفصيلي، ولا مانع عنه، لأن المعلوم بالأجمال إنما يكون كالمعلوم بالتفصيل في
التنجز إذا لم يقيد الواقع بقيد يختص بمورد المعلوم التفصيلي.
ثم إنه هل يلحق بجوائز السلطان وعماله جوائز مطلق من لا يتورع عن
المحارم كالسارق وآكل الربا ونحوهما أم لا؟ وجهان، مقتضى إطلاق جملة من
الروايات: عدم الفرق بينهما.
فعن أبي بصير (قال: سألت أحدهما عليهما السلام عن شراء الخيانة والسرقة؟ قال:
لا، إلا أن يكون قد اختلط معه غيره (3).
وفي صحيحة الحلبي: (لو أن رجلا ورث من أبيه مالا وقد عرف أن في ذلك
المال ربا ولكن اختلط في التجارة بغيره حلالا (4) كان حلالا طيبا فليأكله، وإن
عرف منه شيئا معزولا أنه ربا فليأخذ رأس ماله وليرد الربا) (5).

(1) الكافي: ج 5 ص 228 ح 3، عنه الوسائل: ب 53 من أبواب ما يكتسب به ح 2 ج 12 ص
163.
(2) الكافي: ج 5 ص 106 ح 4، عنه الوسائل: ج 12 ص 144 ب 47 من أبواب ما يكتسب به ح 1.
(3) تهذيب الأحكام: ج 6 ص 374 ح 1088، عنه الوسائل: ج 12 ص 60 ب 4 من أبواب
ما يكتسب به ح 6.
(4) في المصدر: (حلال).
(5) الكافي: ج 5 ص 145 ح 4، عنه الوسائل: ج 12 ص 431 ب 5 من أبواب الربا ح 2.
59

وفي صحيحته الأخرى: (وإن كان مختلطا فكله هنيئا فإن المال مالك) (1).
وفي ذيل مكاتبة الحميري إلى الحجة أرواحنا له الفداء: (إن كان لهذا الرجل
مال أو معاش غير ما في يده فاقبل بره (2).
وبهذه المضامين وردت أخبار كثيرة، ولا شبهة أن ظاهر هذه الأخبار أن العلم
الاجمالي غير مؤثر في التنجيز، وإنما المؤثر خصوص العلم التفصيلي.
ولا إشكال أيضا أن منشأ الحلية هو نفس الاشتباه، لا لكونها مستندا إلى اليد
وحمل تصرف ذي اليد على الصحيح، ولا من جهة خروج بعض أطراف المعلوم
بالاجمال عن محل الابتلاء من باب أن المتصرف لا يأذن في تصرف جميع أمواله
فلا يكون جميع أمواله محلا للابتلاء، بناء على كون المنع موجبا لخروجه عن
محل الابتلاء، وذلك لأن الأخبار (3) الواردة في الإرث ممن يأكل الربا ظاهرة في
أن مجموع الأطراف محل الابتلاء، وأن منشأ الجواز ليس تصرف ذي اليد، بل
الإرث من ذي اليد، فلا معنى لحمله على الصحيح.
وبالجملة: ظاهر هذه الأخبار أيضا كالأخبار الواردة في جواز أخذ عطاء
السلطان وعماله والشراء منهما، ولكن الذي ينبغي للفقيه التأمل فيه هو أن هذه
الأخبار - مضافا إلى معارضتها بعدة أخبار أخر - غير معمول بها، فلا توجب
تخصيصا لقواعد العلم الإجمالي، بخلاف الأخبار الواردة في جوائز السلطان
وعماله فإنها معمول بها.
وكيف كان، بناء على التعميم فالمسألة من واد واحد، والصور المتصورة في
هذه الأموال المأخوذة ممن لا يبالي بالحرام أربع، ذكرها شيخنا الأنصاري قدس سره في
مكاسبه بما لا مزيد عليه، ونحن نذكرها إجمالا:
الأولى: ما إذا لم يعلم أن في جملة أموال هذا الظالم مالا محرما يصلح لكون

(1) الكافي: ج 5 ص 145 ح 5، عنه الوسائل: ج 12 ص 431 ب 5 من أبواب الربا ح 3.
(2) الإحتجاج: ج 2 ص 485، عنه الوسائل: ج 12 ص 160 ب 51 من أبواب ما يكتسب به
ح 15.
(3) وسائل الشيعة: ج 12 ص 430 - 433، أحاديث الباب ب 5 من أبواب الربا.
60

المأخوذ من ذلك المال، وهذا لا إشكال في جواز أخذه وسائر أنحاء التصرفات
فيه من المعاملة ونحوها، لأن مجرد كون الشخص ظالما لا يوجب حرمة المعاملة
معه وأخذ جوائزه.
الثانية: ما إذا علم أن في أمواله محرما، وهذه على قسمين: لأنه قد يكون
جميع أمواله محلا لابتلاء الأخذ، كما إذا أذن له في التصرف في جميع أمواله. وقد
لا يكون كذلك. وعلى أي حال، يجوز التصرف فيما أخذ منه، ولا تراعى قاعدة
المعلوم الإجمالي إما مطلقا، أو فيما إذا كان المأخوذ منه سلطانا أو عاملا.
الثالثة: هذه الصورة مع علم الأخذ بأن هذا المأخوذ مما لا يجوز التصرف فيه
بغير إذن مالكه على كل أحد تفصيلا، كما إذا علم بأنه ليس من الخراج
والمقاسمة، أو علم بأنه مال الغير شخصا وسرق.
الرابعة: هذه الصورة مع علمه إجمالا بأن في المأخوذ مالا محرما.
أما الصورة الثالثة فلا إشكال في حرمته، إنما البحث في أحكام الفروع
المتصورة فيها:
فمنها: أنه قد يكون الأخذ مع العلم بالحرمة ابتداء، وقد يكون مع الجهل بها.
ففي الأول: تارة يكون مجبورا على الأخذ، وأخرى يكون مختارا.
أما إذا كان مجبورا: فإذا أخذه فأخذه بقصد الرد إلى المالك مع التمكن فلا
إشكال في عدم ضمانه، لأنه حيث إنه مضطر إلى أخذه فأخذه من حيث الحدوث
كالعدم، ومن حيث البقاء لا يقتضي الضمان مع قصده الرد إلى المالك.
بل يمكن أن يقال: لو قصد التملك بعد الأخذ ثم ندم يرجح عدم الضمان، نظير
ما إذا قصد الودعي التملك في الوديعة ثم تاب، أو فرط فيها بأن أخرجها من
الحرز ثم أعادها إليه.
ولكن المسألة محل خلاف بين الأعلام، والأقوى هو الضمان، إلا إذا حصل
من المالك إذن جديد، لأنه بعد أن استولى على مال الغير بغير إذنه فرافع ضمانه
إما الأداء أو ما يلحق به كالإذن الجديد من المالك في التصرف. ومجرد التوبة
61

والندم ليس رافعا له.
وكيف كان، لو كان مجبورا في الأخذ ولكنه أخذه لا بنية الرد فالأقوى كونه
ضامنا، لأنه وإن كان مضطرا في الأخذ إلا أن رفع الاضطرار يتحقق بمجرد الأخذ،
إلا أن يقال: لا دليل على وجوب التفصي عن الاكراه والاضطرار بالقصد، وعدمه.
نعم، لو أخذ بنية التملك فيكون ضامنا.
وأما لو لم يقصد التملك ولا الرد إلى المالك فلا موجب لضمانه، لأن إطلاق
على اليد ممنوع في مثل هذا الأخذ.
وما أفاده شيخنا الأنصاري (1) قدس سره وتبعه السيد الطباطبائي في حاشيته (2) على
المكاسب: من أن أخذه بغير هذه النية تصرف لم يعلم رضا صاحبه به، لا يفيد
لإثبات الضمان، لأن هذا التصرف بلحاظ كونه عن تقية وكره كالعدم.
وأما في الثاني: فحيث إنه قصد التملك من جهة جهله بكونه مال الغير
فالأقوى فيه الضمان، وإن قصد بعد علمه بأنه مال الغير رده إلى مالكه، لأن مجرد
النية لا يرفع الضمان، بل يتوقف رفع الضمان على الأداء أو ما بحكمه من إذن
المالك في التصرف.
ويظهر من المسالك في المقام عدم الضمان، قال: لأنه مع الجهل يده يد
أمانة، (3) فبعد علمه به لو لم يقصد التملك لا موجب للضمان.
ويظهر منه التردد في الضمان أيضا، حيث قال: (لو استودعه الغاصب مالا
مغصوبا فلو أخذه منه قهرا ففي الضمان نظر) (4). ولكنه لا يخفى ما في كلاميه:
أما في الأول: فلأن بمجرد الجهل لا يرتفع الضمان، سيما على القول بأن مجرد
وصول مال الغير بيد غيره بلا إذن منه ولا إذن من الشارع موجب للضمان كما هو

(1) المكاسب: ص 69 س 33.
(2) حاشية المكاسب: في حكم المال المجهول، ص 34، س 15 وما بعده.
(3) مسالك الأفهام: كتاب التجارة ج 1 ص 168 س 26.
(4) مسالك الأفهام: كتاب الوديعة: ج 1 ص 310 السطر الأخير، نقلا بالمضمون ولم نعثر على
لفظ العبارة.
62

كذلك على المشهور، بل هو مختاره أيضا في غير المقام.
نعم، لو استشكل في أصل المبنى وقيل: إن عموم (على اليد) يختص بما إذا
كان الأخذ عن قهر واستيلاء على المالك لا مجرد الوصول ولو مع الجهل. فله
وجه، إلا أن الظاهر أن الفتوى على خلافه. وسيجئ في قاعدة اليد - إن شاء
الله - ما يمكن أن يكون مدركا للمشهور في استفادة الأعم من القهر وغيره.
وعلى أي حال فهو قدس سره في مسألة (1) ترتب الأيدي على مال الغير يحكم
بضمان كل من وضع يده عليه، ولو مع الجهل بأنه مال الغير ومع تغرير غيره به.
غاية الأمر: في مسألة (2) الغرور يقول: بأن المغرور يرجع إلى من غره، إلا أن
يقال: كل مورد وقع التصرف في مال الغير جهلا فنفس وضع اليد على ماله
لا يوجب الضمان، إلا إذا دخل تحت عنوان آخر: كالاتلاف أو قاعدة (ما يضمن)
ونحوهما، فإنه لو أتلف مال الغير يكون ضامنا، غاية الأمر يستقر الضمان على
الغار.
وهكذا لو اشترى من الغاصب العين المغصوبة فإن الجاهل وإن أوقع العقد
الموجب للضمان مع الغاصب إلا أن التضمين في الحقيقة يقع بين المالكين بتنزيل
الغاصب مالكا. فعلى هذا، لو أعاره الغاصب أو أودعه فتلف عنده بتلف سماوي
فلا موجب للضمان، لأن نفس الأخذ من دون استيلاء وقهر من الأخذ على المالك
لا يوجب الضمان. وقاعدة (ما يضمن) غير جارية لإقدام الأخذ على المجانية.
فما ذكرنا من فتوى المشهور بالضمان في مورد الجهل إنما المسلم منها ما إذا
دخل المورد في إحدى موجبات الضمان، غير جهة اليد، والمسألة محتاجة إلى
المراجعة.
وأما في الثاني: فلأن يد المقهور إذا كانت يد ضمان فلا موجب لرفع الضمان
بمجرد قهر الغاصب، لأن ارتفاعه لا يتحقق إلا بالأداء أو ما بحكمه فللمغصوب

(1) مسالك الأفهام: كتاب الغصب ج 2 ص 255 س 22.
(2) مسالك الأفهام: كتاب الغصب ج 2 ص 262 س 33.
63

منه الرجوع إلى كل منهما، غاية الأمر قرار الضمان على الغاصب القاهر.
ومنها: أنه يجب على المجاز رد الجائزة إلى مالكها فورا، وهل يتحقق الرد
بمجرد التخلية بينها وبين المالك، أو يجب إقباضها في المنقول؟ وجهان، والأقوى
كفاية التخلية، فإن الأداء الواجب في الأمانات ومطلق مال الغير بمقتضى الآية
الشريفة (1)، وقوله صلى الله عليه وآله: (على اليد ما أخذت حتى تؤدي) (2) ليس إلا عبارة عن
إدخاله تحت استيلاء صاحبه، بل هذا هو الذي يعتبر فيما يجب قبضه، وفيما
يترتب الأثر على القبض: كانتقال ضمان المبيع من البائع إلى المشتري، بل لو قلنا
بعدم انتقال الضمان في الأخير إلا بوصول المبيع إلى يد المشتري، إلا أنه لا إشكال
في أن الإقباض والرد الذي يجب شرعا على الودعي ونحوه هو التخلية، لأن
الوجوب يتعلق بما هو مقدور من المكلف، وما هو مقدور من الغاصب ونحوه هو
رفع موانع استيلاء صاحب المال على ماله، لا وصوله إلى يده. وسيجئ - إن شاء
الله - في حكم القبض مزيد توضيح لذلك.
ومنها: أنه لو جهل صاحبه وجب الفحص مع الامكان، لتوقف أداء الواجب عليه.
ويدل عليه عدة من الأخبار: كصحيح معاوية المروي في الفقيه، عن أبي عبد
الله عليه السلام في رجل كان له على رجل حق ففقده ولا يدري أين يطلبه، ولا يدري
أحي هو أم ميت؟ ولا يعرف له وارثا ولا نسبا وولدا (3)، قال عليه السلام: (اطلب)، قال:
إن ذلك قد طال فأتصدق به؟ قال عليه السلام: (اطلب) (4).
وكالأخبار (5) الواردة في الأمر بطلب الأجير الذي بقي أجرة عمله عند
المستأجر إذا فقد.

(1) النساء: 58.
(2) مسند ابن حنبل: ج 5 ص 12، عوالي اللئالي: ج 1 ص 224 ح 106.
(3) كذا في المطبوع من الأصل، وفي المصدر: (ولا ولدا).
(4) من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص 331 ح 5710.
(5) وسائل الشيعة: ب 6 من أبواب ميراث الخنثى وما أشبهه ج 17 ص 582 - 585 أحاديث
الباب.
64

ثم إنه يتفرع ذلك على فروع:
الأول: لو توقف الفحص على أجرة فهل هي على من وجب عليه الفحص
أو على مالكه بأن يباع مقدار من المال ويصرف فيها، أو يستقرض على المالك، أو
يراعى الأصلح منهما، أو من بيت المال؟ وجوه، والأقوى عدم وجوبه عليه، لمنع
إطلاق الواجب على حد يجب عليه صرف مال فيه.
هذا، مع أن قاعدة (لا ضرر) حاكم على الوجوب بناء على ثبوته.
الثاني: هل يجب الفحص سنة، أو لا يتقيد بمقدار؟ فيه وجهان.
قد يقال بأن حكم مجهول المالك كلية حكم اللقطة.
ويستفاد هذا المعنى من رواية حفص بن غياث، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن
هل يرده عليه؟ قال: (لا يرده، فإن أمكنه أن يرد على صاحبه فعل، وإلا كان في
يده بمنزلة اللقطة بعينها يعرفها حولا، فإن أصاب صاحبها ردها عليه، وإلا تصدق
بها، فإن جاء بعد ذلك خيره بين الأجر والغرم، فإن أختار الأجر فله، وإن اختار
الغرم غرم له وكان الأجر له (1).
ولكن الأقوى عدم الإلحاق.
أما أولا: فلأن غاية الأمر التعدي من اللص إلى كل غاصب، لا إلى كل مورد،
حتى المال المجهول كأجرة الأجير المفقود ونحوه.
وأما ثانيا: فلأن التعدي عن مورد اللص إلى غيره أيضا لا موجب له أصلا،
هذا مع أن في باب اللقطة وفي مسألة اللص وإن كان ظاهر الأخبار (2) هو التعبد في
وجوب التعريف سنة إلا أن الظاهر أنه ليس حكما تعبديا، حتى في مورد اليأس
عن المالك.

(1) الكافي: ج 5 ص 308 ح 21، عنه الوسائل: ج 17 ص 368 - 369 ب 18 من أبواب
اللقطة ح 1.
(2) وسائل الشيعة: ج 17 ص 349 - 353 أحاديث الباب ب 2 من أبواب اللقطة.
65

ولذا حمل صاحب الوسائل (1) الخبر الدال على كفاية الفحص ثلاثة أيام على
مورد اليأس.
وكيف كان، يمكن أن يدعى عدم وجوب الفحص رأسا إلا بمقدار تحقق هذا
العنوان، وهو: كونه مجهول المالك، وعليه يحمل قوله عليه السلام: (اطلب) في صحيح (2)
معاوية، وفي باب الأجير (3).
وعلى هذا بنينا في الأصول (4) في الشبهات الموضوعية، وقلنا: إن عدم
وجوب الفحص فيها إجماعا ليس على إطلاقه، حتى فيما إذا توقف رفعها على
النظر ونحوه.
ففي المقام: إذا توقف معرفة مالك المال على السؤال عن جماعة والتفحص
عن عدة فيجب، لعدم صدق عنوان مجهول المالك على مثل هذا المال.
وأما لو توقف على أزيد من ذلك: كأجرة المنادي فلا دليل عليه، هذا مضافا
إلى ما يدل على أن مجرد تحقق هذا العنوان يوجب التصدق به، أو دفعه إلى الإمام
بلا تقييد بالفحص عن مالكه.
وما دل على الطلب قد عرفت أنه يمكن أن يكون بيانا لتحقق عنوان مجهول
المالك، بل لعل الإمام عليه السلام كان مطلعا على خصوصية في المورد، وهي: أن قصد
ذي اليد كان التصرف في مال الغير فقال عليه السلام له: (اطلب) (5).
وبالجملة: مقتضى الإطلاقات عدم وجوب الفحص زائدا على تحقق عنوان
الموضوع، فتدبر.
الثالث: في بيان مصرف هذا المال بعد اليأس عن صاحبه.
فقيل: (6) بأنه يمسكه حتى يتبين صاحبه، ويوصي به عند وفاته.

(1) وسائل الشيعة: ج 17 ص 351 ب 2 من أبواب اللقطة ذيل ح 7.
(2) تقدم تخريجه في الصفحة: 64.
(3) تقدم في الصفحة: 64 هامش (5).
(4) فوائد الأصول: ج 4 ص 301.
(5) تقدم تخريجه في الصفحة: 64.
(6) ذكره في الجواهر ولم ينسبه إلى أحد: كتاب التجارة: ج 22 ص 177 وهو احتياط الحلي
في السرائر: ج 2 ص 204.
66

وقيل: (1) بأنه مال الإمام عليه السلام، فهو بمنزلة مال من لا وارث له.
وقيل: (2) بأنه يتصدق به.
وقيل: (3) بالفرق بين الأمانات المالكية من العارية والوديعة ونحوهما، وبين
غيرها من المجهول المالك.
ففي الأمانات يجب حفظها، ولا يجوز دفعها إلى الحاكم أو الإمام.
وقال المفيد في باب الوديعة: إن لم يعرف صاحبها أخرج منها الخمس
وصرف البقية على فقراء المؤمنين (4).
ويدل على الأول: ما ورد عن أبي إبراهيم عليه السلام في أجرة الأجير المفقود،
قال عليه السلام: (اطلب واجهد، فإن قدرت عليه، وإلا فكسبيل مالك حتى يجئ له
طالب، فإن حدث بك حدث فأوص به) (5).
وما ورد عن أبي عبد الله عليه السلام حيث قال: (توصي بها، فإن جاء طالبها، وإلا
فهي كسبيل مالك) (6).
ويدل على الثاني: رواية داود بن أبي يزيد، عن أبي عبد الله عليه السلام حيث قال له
رجل: إني قد أصبت مالا فكيف أتخلص عنه؟ قال عليه السلام: (والله ما له صاحب
غيري). ثم إنه عليه السلام استحلفه أن يدفعه إلى من يأمره، فحلف، قال: (فاذهب
وقسمه بين إخوانك ولك الأمن مما خفته) (7).
ويدل على الثالث: الأمر (8) بالتصدق بما يجتمع عند الصياغ من أجزاء النقدين.

(1) لم نعثر على قائله:
(2) قاله المحقق الحلي في الشرائع: كتاب التجارة، ج 2، ص 13، ونسبه إلى الأصحاب في
السرائر: ج 2 ص 204.
(3) لم نعثر عليه.
(4) المقنعة: باب الوديعة، ص 627.
(5) الكافي: ج 5 ص 153 ح 1، عنه الوسائل: ج 17 ص 582 ب 6 من أبواب ميراث الخنثى ح 1.
(6) تهذيب الأحكام: ج 7 ص 177 ح 781، عنه الوسائل ج 17 ص 553 ب 4 من أبواب
ضمان الجريرة ح 7.
(7) الكافي: ج 5 ص 138 ح 7، عنه الوسائل: ج 17 ص 357 ب 7 من أبواب اللقطة ح 1.
(8) وسائل الشيعة: ج 17 ص 484 - 485 ب 16 من أبواب الصرف ح 1، 2.
67

وما ورد (1) من التصدق بغلة الوقف المجهول أربابه.
وما ورد (2) من التصدق بما حازه عامل بني أمية.
وما ورد (3) من التصدق بأجرة الأجير المفقود. ونحو ذلك: كمصححة يونس
الواردة فيمن بقي عنده بعض متاع رفيقه ولا يعرف صاحبه، فقال عليه السلام: (بعه وأعط
ثمنه أصحابك، قلت: جعلت فداك، أهل الولاية؟ قال: نعم (4).
وما ورد في اللقطة، وما ورد (5) فيما أودعه رجل من اللصوص دراهم. ولم
نظفر من الأخبار ما يكون دليلا لغير هذه الأقوال.
ولكن الأقوى بمقتضى الجمع بين الأخبار، بل الاحتياط هو: تسليمه إلى
الحاكم الشرعي في عصر الغيبة ليتصدق به، أو الإذن منه في التصدق عن مالكه،
لأن صريح رواية داود (6): كون المال المجهول المالك مطلقا مال الإمام عليه السلام صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم (
والأدلة الواردة في التصدق لا تدل على أنه عليه السلام في مقام بيان الحكم الكلي أو
في مقام الإذن في التصدق من حيث إنه ماله عليه السلام، بل لا يبعد الأخير، كما يدل
عليه رواية داود، فإنه عليه السلام بعد أن حلف بأنه ماله أمره بالتقسيم.
ويشهد لهذا الأخبار الواردة في الأجير، فإن جملة منها فرض السائل عدم
وجود وارث له، فقال عليه السلام: (تصدق، أو أوص، أو هو كسبيل مالك) (7) فإن مع
فرض كون الإمام عليه السلام وارث من لا وارث له قال عليه السلام: (تدفع إلى المساكين).
ولا ينافيه قوله عليه السلام: (اطلب)، لإمكان أن يكون المراد منه: أطلب مالكه
الذي هو له في هذا الحال، وهو نفسه عليه السلام ولا يبين له، للتقية.

(1) الكافي: ج 7 ص 37 ح 35، عنه الوسائل: ج 13 ص 303 ب 6 من أبواب الوقوف ح 1.
(2) الكافي: ج 5 ص 106 ح 4، عنه الوسائل: ج 12 ص 144 ب 47 من أبواب ما يكتسب به ح 1.
(3) تهذيب الأحكام: ج 7 ص 177 ح 781، عنه في الوسائل: ج 17 ص 553 ب 4 من أبواب
ضمان الجريرة ح 7.
(4) الكافي: ج 5 ص 309 ح 22، عنه في الوسائل: ج 17 ص 357 ب 7 من أبواب اللقطة ح 1.
(5) الكافي: ج 5 ص 308 ح 21، عنه الوسائل: ج 17 ص 368 ب 18 من أبواب اللقطة ح 1.
(6) تقدمت في الصفحة: 67.
(7) تقدم في الصفحة: 67.
68

ولا قوله عليه السلام (أوص به، أو: كسبيل مالك)، لأن له عليه السلام أن يأذن له في
التصرف، أو في الإيصاء به. هذا بالنسبة إلى العين.
وأما بالنسبة إلى الدين فالأمر أظهر، والاحتياط فيه أقوى، لأن الكلي لا
يتشخص إلا بقبض الحاكم الذي هو ولي الغريم.
وكيف كان، فمقتضى الاحتياط بناء على حرمة الصدقة على الهاشمي وإن لم
تكن من زكاة الأموال والأبدان هو أن يصرفه الحاكم، أو من بيده بإذن الحاكم فيما
ينطبق على كونه مال الإمام عليه السلام وكونه صدقة: كإعطائه إلى العالم الغير الهاشمي.
هذا، ولكن الظاهر أن الفقهاء لا يفتون برواية (1) داود بن أبي يزيد، ولا
يلتزمون بأن مجهول المالك مطلقا مال الإمام عليه السلام بل هنا عناوين ثلاثة: الأول:
المجهول المالك، والثاني: اللقطة، والثالث: ميراث من لا وارث له.
وفي القسم الثالث يعتبر فيه أن يكون صاحب المال ميتا لا وارث له، غاية
الأمر: يقع الكلام في أنه لو شك في وجود الوارث فهل يكفي استصحاب عدم
وجود من يرثه بالعدم المحمولي لكون الحكم مرتبا على نفس عدم الوارث، أو لا
يكفي ذلك، بل لا بد من إحرازه كما عليه صاحب الجواهر قدس سره (2)؟
وكيف كان، لم يعلم من الأصحاب الفتوى بمضمون هذه الرواية، فالأقوى
بناء عليه هو التصدق بمقتضى الأخبار الكثيرة، وبناء عليه مصرفه الفقراء،
والأحوط أن لا يكون هاشميا.
الرابع: في حكم الضمان لو ظهر المالك.
والكلام تارة بناء على كونه مال الإمام، وأخرى بناء على عدمه.
ثم على الثاني تارة يقع البحث بناء على كون يد من كان المال عنده يد
أمانة (3)، وأخرى بناء على كونه يد ضمان.
أما على الأول: فالظاهر أنه لا ينبغي التأمل في أن مجرد عدم العلم بمالكه لا

(1) مرت في الصفحة: 67.
(2) جواهر الكلام: كتاب الفرائض في حكم أموال الغائب ج 39، ص 68 - 69.
(3) في المطبوع من الأصل: (يد أماني) وما أثبتناه هو الصحيح.
69

ينقلب الواقع عما هو عليه، بل كونه للأمام حكم ظاهري، فإذا وجد مالكه فهو له،
بل لو قلنا بالانقلاب كما هو الظاهر في أخبار إرث من لا وارث له، إلا أنه كذلك
ما لم يوجد مالكه، فإذا وجد الوارث فينقلب الأمر ويخرج عن موضوع من لا
وارث له.
وعلى هذا، فلو كان المال موجودا عند الحاكم الذي هو نائب الإمام عليه السلام
العين باقية عند الفقير، وأخرى غير باقية. وعلى أي حال لا يمكن الحكم
بالضمان، لا على الحاكم، ولا على الفقير.
أما على الحاكم فلرواية أصبغ (1) الواردة في أن الحاكم لا يضمن فيما أخطأ
في دم أو قطع، والرواية وإن كانت مخصوصة بباب القطع والدم ولا تشمل المال
إلا أن الظاهر اتحاد المناط.
نعم، في باب الدم والقطع قضى أمير المؤمنين عليه السلام: (أن ما أخطأت القضاة في
دم أو قطع فهو على بيت مال المسلمين (2). وأما في باب المال فلم يدل دليل على
أنه على بيت المال، فمع كون الحاكم غير مقصر في التصدق لا وجه لكونه ضامنا.
وأما على الفقير: فادعى شيخنا الأنصاري قدس سره أنه لم يقل أحد برجوع المالك
إلى الفقير مع بقاء العين (3).
ثم على هذا لا فرق بين أن يتصدى الحاكم بنفسه للتصدق أو يوكل غيره.
ويشهد لهذا: رواية داود (4)، فإن ظاهرها: أنه لا ضمان على المباشر أيضا،
فإن قوله عليه السلام: (ولك الأمن مما خفته) ظاهر في أنه لا شئ عليه بعد تقسيمه.
وأما على الثاني: بأن لا يكون مجهول المالك مال الإمام وكانت اليد يد
أمانية (5) فالأقوى أيضا أنه لو كان المال باقيا عنده أو عند الحاكم يجب رده إلى

(1) من لا يحضره الفقيه: ج 3 ص 7 ح 3231، عنه الوسائل: ج 18 ص 165 ب 10 من
أبواب آداب القاضي ح 1.
(2) من لا يحضره الفقيه: ج 3 ص 7 ح 3231، عنه الوسائل: ج 18 ص 165 ب 10 من
أبواب آداب القاضي ح 1.
(3) المكاسب: ص 71 س 19.
(4) مرت في الصفحة: 67.
(5) في المطبوع من الأصل: (وكان اليد يد أماني) والصحيح ما أثبتناه.
70

المالك، وأما لو كان تالفا أو كان باقيا عند الفقير فلا ضمان على أحد، سواء تصدق
به بنفسه أو أعطاه إلى الحاكم وهو تصدق به، ولا يمكن قياسه بباب اللقطة، ولا بما
أودعه اللص، ولا يمكن إدراجه في قاعدة (من أتلف).
أما عدم إمكان قياسه بباب اللقطة: فلأن فيها لم يرد الأمر بالتصدق المطلق،
بل الملتقط مختار في التملك أو الحفظ أو التصدق مع التعهد بالضمان.
وأما باب اللص: فلما عرفت من عدم التعدي منه إلى مطلق مجهول المالك،
مع أنه لم يرد فيه الأمر بالتصدق المطلق.
وأما في المقام: فقد ورد الأمر به مطلقا، من دون تعرض لتعهد الضمان، كما
في رواية داود، (1) ورواية علي بن أبي حمزة (2) الواردة في صديق له كما تقدم
الإشارة إليهما. فعلى هذا لا يمكن إدراجه في قاعدة (من أتلف)، لأن مجرد
الإذن في الإتلاف وإن لم يقتض المجانية لإمكان كونه إذنا به مع التعهد بالضمان
إلا أنه لو كان في مقام البيان وسكت عن الضمان فيستكشف منه المجانية، كما لو
أذن صاحب الطعام لغيره في الأكل من دون تقييده بالضمان، فإن الظاهر منه هو
الإباحة مجانا، إلا أن يكون قرينة على الضمان: كالمطابخ المعدة لبيع الأطعمة.
وحيث إن في المقام ورد الأمر من الشارع بالإتلاف مع ظهوره في عدم
الضمان فلا وجه للضمان.
وبالجملة: نفس هذه الأدلة حاكمة على قاعدة (من أتلف) مع أنه لو شك فيه
ولم يستظهر من الأخبار المجانية مع عدم عموم في قاعدة (من أتلف) يشمل
المقام، أي: مقام الإحسان إلى المالك، لا الإتلاف عليه، فمقتضى القاعدة: البراءة
من الضمان.
ولا وجه لما عن شيخنا الأنصاري (3) قدس سره من عدم القول بالفصل بين هذه
الصورة والصورة التي يستصحب الضمان فيها، لكون اليد مسبوقة به.

(1) تقدمت في الصفحة: 67.
(2) تقدمت في الصفحة: 59.
(3) المكاسب: ص 71 س 22 وما بعده.
71

ولا للتمسك بمرسلة السرائر (1).
أما عدم القول بالفصل ففيه:
أولا: يمكن العكس بأن يقال: عدم اقتضاء الضمان في هذه الصورة يقتضي
عدمه لو كانت اليد يد ضمان.
وثانيا: أن عدم القول بالفصل إنما يتم في الأحكام الواقعية، لا في مجاري
الأصول، فاقتضاء الاستصحاب الضمان في مورد لا يقتضي ثبوته فيما لا يجري
فيه الاستصحاب.
وأما مرسلة (2) السرائر: فالظاهر أنها رواية حفص (3) الواردة فيمن أودعه
رجل من اللصوص دراهم.
وقد تقدم منه (4) قدس سره أنه لا وجه للتعدي منها إلى غير مورد السرقة.
ثم إن في هذه الصورة لا فرق بين أن يتصدق هو بنفسه أو يدفعه إلى الحاكم
فيتصدق به، لأنه - على أي حال - لا ضمان، سواء كان الحاكم متصرفا بعنوان
الولاية بناء على وجوب الدفع إليه، أو كان من جهة الوكالة من باب أنه أعرف
بموارد الصدقة، بناء على أن من كان المال عنده هو المكلف بالصدقة، كما هو
المشهور في الوديعة والعارية ونحوهما، حيث قالوا: بأن وجوب رد الأمانة إلى
أهلها يقتضي تعلقه بمن وقع المال عنده، ولو لم يجده فيحفظه له أو يتصدق به.
وكيف كان، لا موجب للضمان في هذه الصورة أصلا.
وأما على الثالث - وهو: ما لو كانت اليد مسبوقة بالضمان، كما إذا تملك من
الغاصب بعنوان الجائزة ثم علم بأنه مغصوب بناء على عدم الفرق في ضمان اليد
بين العلم والجهل، أو تملك منه مع علمه بأنه مال الغير ثم ندم وتاب، كما في مثل
كاتب بني أمية - فالحق أيضا: عدم الضمان لو تصدق به، لأن الرد والأداء المعتبر
في باب الأمانات واليد يتحقق بالرد إلى الفقير أو الحاكم بناء على كونه وليا، لأن

(1) السرائر: كتاب المكاسب ج 2 ص 204.
(2) السرائر: كتاب المكاسب ج 2 ص 204.
(3) تقدمت في الصفحة: 65.
(4) تقدم في الصفحة: 65.
72

الأدلة الدالة على وجوب التصدق المطلق مع سكوتها عن الضمان حاكمة على
قوله: (حتى تؤدي)، فتجعل الأداء أعم من الأداء إلى المالك، أو من هو بمنزلته:
كالحاكم أو الفقير.
ثم بناء عليه لا فرق بين أن يتصدق هو بنفسه أو يدفع إلى الحاكم فيتصدق به.
كما أنه بناء على الضمان لو قلنا بأن ولاية هذا المال للحاكم فلو دفعه إليه
يخرج عن الضمان، لأن الدفع إلى الولي بمنزلة الدفع إلى المولى عليه، فلا هو
ضامن ولا الحاكم.
نعم، لو قلنا بالضمان وقلنا بعدم الولاية للحاكم لكن يجوز الدفع إليه،
لأعرفيته بموارد الصدقة، فلو تصدق الحاكم فالضمان على من كان المال في يده،
لأن الحاكم بمنزلة الوكيل له، وإتلاف الوكيل لا يوجب ضمانا عليه، بل على
الموكل.
ثم بناء على ما اخترناه من عدم الضمان مطلقا فلا موقع للبحث عن الفروع
الثلاثة التي فرعها شيخنا الأنصاري قدس سره على الضمان:
أولها: هل يثبت الضمان بمجرد التصدق وإجازة المالك رافعة له، أو يثبت
بالرد من حينه أو من حين التصدق؟
وثانيها: أنه لو ماتا لمالك فهل لورثته الإجازة والرد أو لا؟
وثالثها: أنه لو مات المتصدق ورد المالك فهل يتعلق المال بذمة الدافع
ويخرج من تركته أو لا؟ فإنه لا محل لهذه الفروع، لما عرفت: من أنه لا يقاس
المقام بباب اللقطة ووديعة اللص.
نعم، بناء على الضمان في المقام مطلقا، أو على التفصيل، أو جعل موضوع
البحث باب اللقطة وما يلحق بها فللنزاع في هذه الفروع مجال، والأقوى في الأول
منها هو الضمان بمجرد التصدق إذا كانت يده يد أمانة (1)، لأن به يتحقق الإتلاف،
غاية الأمر: أن إجازته بمنزلة الإبراء.

(1) في المطبوع من الأصل: (إذا كان يده يد أماني) والصحيح ما أثبتناه.
73

وأما إذا كانت يده يد ضمان فالأمر أوضح، لأنه كان ضامنا قبل التصدق،
والتصدق موجب لفعلية تأثير الضمان، بناء على أن الضمان في القيميات بيوم
التلف. وأما بناء على كونه بيوم الغصب فالمدار على قيمة ذلك اليوم.
وبالجملة: مع فرض الضمان قبل التصدق فالتصدق أو الرد لا يتحقق به
الضمان، كما أنه ليس موجبا لضمان مستقل.
وأما في باب اللقطة فلا إشكال في ضمان الملتقط، سواء قصد تملكه بعد
تعريفه حولا أو تصدق به.
واختلفوا في وقت الضمان، فبعضهم (1) جعل في مورد قصد التملك الضمان
بنفس هذا القصد، وبعضهم (2) بظهور المالك، وبعضهم (3) بمطالبته.
ثم إنهم اختلفوا في مورد بقاء العين في أن للمالك مطالبتها، أوليس له إلا
المثل أو القيمة.
وأما الضمان في مورد الصدقة فالاحتمالات الثلاثة في المقام جارية فيه،
أي: الضمان بمجرد التصدق، أو برد المالك نقلا أو كشفا.
ولكن الأقوى فيما إذا كان التصدق مستلزما للضمان أن يكون الضمان
حاصلا به، لا برد المالك كشفا أو نقلا وفيما إذا كان نية التملك مستلزما له أن
يكون هو العلة له، ولا ينافي ذلك كون المالك مستحقا لمطالبة نفس العين، لأن
الناوي يملكها ما دام.
والأقوى في الفرع الثاني أن يكون الوارث قائما مقام مورثه، سواء قلنا
بتحقق الضمان بالتصدق أو برد المالك كشفا أو نقلا.
أما على الأول: فواضح، لأن كون الإتلاف موجبا للضمان يقتضي أن تشتغل
ذمة المتلف بالمثل أو القيمة للمتلف عليه، سواء قلنا بانتقال التالف في ملك المتلف

(1) كالشيخ الطوسي في المبسوط: كتاب اللقطة، ج 3، ص 323. وتبعه جماعة بل نسب إلى
المشهور كما في الروضة البهية: كتاب اللقطة، ج 7، ص 126.
(2) ذهب إليه الشهيد الثاني في الروضة: كتاب اللقطة، ج 7، ص 100.
(3) حكاه عن بعض كتب الشيخ في التحرير: كتاب اللقطة، ج 2، ص 27، س 23 وما بعده.
74

آنا ما، أو قلنا بأن الضمان غرامة شرعية وجبت عليه ولو مع بقاء التالف في ملك
صاحبه.
وأما على الثاني: فلأن تحققه بالرد معناه: أن للمالك حق التضمين، كما اختار
هذا المعنى صاحب الجواهر في ضمان الملتقط بالتصدق.
فقال قدس سره: (أما الضمان بالصدقة به فلا يبعد كون المراد به استحقاق عليه
بمجئ المالك وعدم إرادته الأجر... إلى آخره) (1)، وذلك لأن الحقوق المالكية مما
يرثه الوارث.
واحتمال أن يكون الضمان حكما شرعيا لاحقا مالكيا فلا يرثه الوارث
احتمال لا يعتنى به، لأنه لا شبهة في قابليته للإسقاط لو جعل العوض له.
والأقوى في الثالث إخراج الغرامة من تركته، لأنه متعلق بذمته، سواء باشر
التصدق بنفسه أو بوكيله.
نعم، بناء على أن له التصدق والدفع إلى الحاكم لكونه وليا فلو دفعه إلى الحاكم
تبرأ ذمته. ولتوضيح هذه الفروع محل آخر، والغرض الإشارة إلى الوجوه
المحتملة ومداركها، وعليك بالمراجعة إلى محالها. هذا كله حكم الصورة الثالثة.
وأما الصورة الرابعة: وهي: ما علم إجمالا باشتمال ما دخل تحت يده على
الحرام: فإما أن يكون الاشتباه موجبا لحصول الإشاعة والاشتراك، أو لا يكون
كذلك.
وعلى الأول: فالقدر المأخوذ والمالك إما معلومان، أو مجهولان، أو
مختلفان.
فلو كان القدر والمالك معلومين فيجب دفع حصته إليه، سواء كانت الإشاعة
حاصلة من أول الأمر - كما إذا كان ثوب أو دار مشتركا بين اثنين ودفع الغاصب
أو غيره مجموع المال إليه - أو طرأت الإشاعة، كما إذا امتزج مائع بمائع بفعل
الدافع أو بفعل المدفوع إليه، أو اختلطت حنطة مع مثلها اتفاقا أو بفعل أحدهما

(1) جواهر الكلام: كتاب اللقطة ج 38 ص 352.
75

فالحكم في جميع الصور دفع حصة المالك إليه، غاية الأمر: قد يحصل النقص
بسبب المزج أو الخلط، وقد لا يحصل.
فإذا حصل النقص وكان المزج بفعل شخص فالضمان عليه، إلا أن لا يكون
يده يد ضمان.
ثم المزج قد يلحق بالتلف: كمزج ماء الورد بالنفط، وقد تتبدل صورة
الممتزجين إلى صورة ثالثة، وقد يبقى الممزوجان على حالهما. وتفصيل الأقسام
مع حكم كل واحد منها سيجئ - إن شاء الله تعالى - في خيار الغبن.
ولو لم يعلم المالك ولا المقدار فالمعروف إخراج الخمس، ولا إشكال فيه
بمقتضى الأخبار، إنما الكلام في أنه هل يؤخذ بإطلاق الأخبار ويطهر المال
بالخمس - سواء علم بزيادة المحرم على الخمس أو نقيصته منه فيجب إخراج
الخمس، ولو علم بنقص الحرام عنه ولا يجب دفع الزائد عن الخمس، ولو علم
بزيادة الحرام منه - أو يختص بما إذا كان القدر مجهولا؟
والأقوى هو الأخير، لانصراف الأخبار إليه (1) واختصاصها به.
وتوضيح ما يتعلق به من الأحكام من كون مصرفه هو مصرف الخمس
المعهود أولا، وأن الحكم ظاهري أو واقعي بحيث إنه لو ظهر المالك لا يجب دفع
القيمة إليه في محله، وأما إذا كان القدر معلوما والمالك مجهولا فقد تقدم في
الصورة الثالثة حكمه.
وأما إذا كان المالك معلوما والمقدار مجهولا فيجب التخلص عنه بالمصالحة،
أو يحكم بالتنصيف بينهما قهرا.
ويدل عليه: صحيحة عبد الله بن المغيرة، عن أبي عبد الله عليه السلام في رجلين كان
معهما درهمان، فقال أحدهما: الدرهمان لي، وقال الآخر: هما بيني وبينك، قال:
فقال أبو عبد الله عليه السلام: (أما الذي قال: هما بيني وبينك فقد أقر بأن أحد الدرهمين
ليس له فيه شئ وأنه لصاحبه، ويقسم الدرهم الثاني بينهما نصفين) (2).

(1) في المطبوع من الأصل: سقط الواو والألف.
(2) تهذيب الأحكام: ج 6 ص 208 ح 481، عنه الوسائل: ج 13 ص 169 ب 9 من أبواب
الصلح ح 1.
76

فإن من هذا الخبر يستفاد: أن كل مال كان مشاعا بين شريكين ولم يعلم
مقدار حقهما فالحكم التنصيف، ومورده وإن كان مورد التنازع إلا أن المناط مطرد
في مقامنا أيضا.
وعلى أي حال، فالمصالحة لو أمكنت فهي مقتضى الاحتياط بلا إشكال.
وأما على الثاني - وهو: ما لو كان المال مفروزا واشتبه الحرام بالحلال -
فيتعين بالقرعة، أو يباع المجموع ويشتركان في الثمن.
ويستفاد الوجه الثاني من خبر إسحاق بن عمار، عن الصادق عليه السلام في الرجل
يبضعه الرجل ثلاثين درهما في ثوب، وآخر عشرين درهما في ثوب، فبعث
الثوبين فلم يعرف هذا ثوبه ولا هذا ثوبه، قال عليه السلام: (يباع الثوبان، فيعطى صاحب
الثلاثين ثلاثة أخماس الثمن، وللآخر خمسا الثمن) (1).
ثم لو كان المالك معلوما فيعطى ما تعين بالقرعة أو قيمة ما بيع بنسبة ماله. ولو
كان مجهولا فحكمه ما تقدم.
هذا بناء على عدم شمول أخبار الخمس للمقام، وإلا فلو قيل بأن مجرد
الاشتباه، ولو لم يكن بالخلط والامتزاج يوجب إخراج خمسه إذا كان مالكه
مجهولا، فالحكم هو التخميس في المقام على التفصيل المتقدم، وتمام الكلام
موكول إلى باب الخمس.
الأمر الرابع: قد استفاضت النصوص بأن ما يأخذه السلطان باسم الخراج
والمقاسمة وما يأخذه باسم الزكاة وما يأخذه باسم جزية الرؤوس الموضوعة
على الذمي يجوز شراؤه، بل مطلق التقلب فيه من قبول اتهابه ونحو ذلك، ويظهر
ذلك بالمراجعة إلى الأخبار (2) الواردة في هذا الباب فإن النصوص في كل واحد
من هذه العناوين الأربعة وإن لم تكن مستفيضة إلا أنها مستفيضة في المجموع، بل

(1) من لا يحضره الفقيه: ج 3 ص 36 ح 3277، عنه وسائل الشيعة: ج 13 ص 170 ب 11 من
أبواب الصلح ح 1.
(2) وسائل الشيعة: ج 12 ص 161 - 162 أحاديث الباب ب 52 من أبواب ما يكتسب به.
77

فوق حد الاستفاضة.
وادعى جماعة (1) من الأعيان الاجماع في المسألة.
والمناقشة في دلالة الأخبار من الشيخ إبراهيم بن سليمان القطيفي (2) رضي الله عنه صلى الله عليه وسلم (
ليست إلا كسراب بقيعة، ومباحثاته مع المحقق الثاني معروفة، ورسالته في رد
قاطعة اللجاج (3) في حل الخراج مصداق لما يقال: قد أرعد وأبرق وترنم ولم يأت
بشئ.
وكيف كان. فالاعتماد في الفتوى بذلك على الأخبار، فإن من ظاهر الأسئلة
والأجوبة يستكشف أن الحكم كان مفروغا عنه.
وأما الاجماع فالمناقشة فيه واضحة، وقاعدتا: (الضرر) و (الحرج) إنما
تفيدان لرفع الأحكام الثابتة، لا لاستفادة ملاك الجعل منهما، فليس للفقيه وضع
حكم أو رفعه إذا استلزم من عدمهما الضرر أو الحرج النوعي، فالتمسك (4) بهما في
المقام مما لا أساس له.
وبالجملة: أصل الجواز في الجملة لا إشكال فيه، إنما الكلام في تنقيح
موضوعه، وأن حكم السلطان حكم الإمام العادل بحيث يحرم عدم دفع ما يضعه
على الأراضي والرؤوس، وأنه هل يختص بالسلطان الذي يدعي الخلافة أو يعم
غيره وغير ذلك مما يتفرع عليه؟ وتوضيح ذلك على سبيل الأجمال في ضمن
مسائل:
الأولى: قال في المسالك: المقاسمة: حصة السلطان من حاصل الأرض
يؤخذ عوضا عن زراعتها. والخراج: مقدار من المال يضرب على الأرض أو

(1) كالمحقق الكركي في جامع المقاصد: كتاب المتاجر، ج 4 ص 45. والأردبيلي في رسالته
الخراجية ضمن كتاب الخراجيات: ص 23.
(2) لاحظ السراج الوهاج ضمن كتاب الخراجيات، ص 104 وما بعدها.
(3) رسالة ألفها المحقق الثاني في بيان حل الخراج طبعت ضمن عدة رسائل في المقام باسم
الخراجيات.
(4) كما يظهر من الشهيد الثاني في المسالك: ج 1 ص 168، س 31.
78

الشجر (1).
وقال المحقق الأردبيلي قدس سره في رسالته الخراجية: الخراج على ما فهم من
كلامهم: أنه كالأجرة المضروبة على الأرض التي فتحت عنوة وكانت عامرة حين
الفتح، وفي معناه: المقاسمة، سواء كانت عين حاصل الأرض كالثلث، أو من النقد،
بل غيره أيضا. وقيل: إنه مختص بالقسم الثاني، والمقاسمة بالأول، وقد يفرق
بالمضروب وعلى الأرض والمواشي (2).
وقال في المستند: المراد بالمقاسمة: الحصة المعينة من حاصل الأرض يؤخذ
عوضا عن زراعتها، وبالخراج: المال المضروب عليها أو على البحر حيثما يراه
الحاكم (3).
وفي المجمع: وقيل: يقع اسم الخراج على الضريبة والفئ والجزية والغلة
ومنه خراج العراقين (4)... إلى آخره.
والظاهر أن الخراج هو الأعم مما يؤخذ من حاصل الأرض ومما يؤخذ
ضريبة، المعروف في إيران ب‍ (الماليات)، وفي العراق ب‍ (الميري).
وكيف كان، مورد السؤال في الأخبار يشمل كل ما يؤخذ من الأرض جنسا
أو نقدا.
الثانية: أن الأراضي التي هي موضوع البحث: هي الأراضي المأخوذة من
الكفار بالصلح، بأن تكون الأرض للمسلمين ولهم السكنى، والأراضي المفتوحة
عنوة، والمسلم منها: هي أراضي العراق.
وأما أرض مكة المعظمة فالأقوال فيها مختلفة وإن كان الظاهر أنها فتحت عنوة،
لصراحة جملة من التواريخ (5) عليه، مع دلالة عدة من الأخبار (6) على ذلك أيضا.

(1) مسالك الأفهام: كتاب التجارة ج 1 ص 168 س 29.
(2) الخراجيات: الرسالة الأولى للمقدس الأردبيلي ص 17.
(3) مستند الشيعة: كتاب مطلق الكسب والاقتناء ج 2 ص 353 س 9 وما بعده.
(4) مجمع البحرين: مادة (خرج)، ج 2، ص 294.
(5) كالطبري في تأريخه: ذكر الخبر عن فتح مكة ج 2 ص 330 وما بعدها.
(6) الكافي: ج 3 ص 512 ح 2، عنه الوسائل: ج 6 ص 124 ب 4 من أبواب زكاة الغلات ح 1.
79

وأما بلاد إيران: فالري ونهاوند فتحت عنوة، وأما باقي الأمصار فالتواريخ
مختلفة فيها، سيما إصفهان وخراسان وآذربايجان. وأما بلاد الشام ونواحيه
فكذلك.
وكيف كان، فما هو متعلق للخراج هو الأرض المعمورة حال الفتح. وأما
الموات منها فمحكومة ما لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب مخصوصة بالإمام عليه السلام.
وعلى هذا، فيشكل إثبات الموضوع فعلا، لاحتمال أن يكون ما هو معمور فعلا
مواتا حال الفتح، ومقتضى ذلك عدم ترتيب آثار المفتوحة عنوة على الأملاك
الفعلية في العراق، بل يحكم بملكية من بيده لظاهر اليد، وعدم أصل محرز لحال
اليد.
وأما في عصرنا هذا فموضوع البحث ساقط كما لا يخفى.
الثالثة: ظاهر جماعة (1) من الأصحاب: وجوب دفع حصة السلطان إليه،
وحرمة منعه عنها وتناولها بغير إذنه.
وبعضهم (2) خص حرمة المنع بالخراج والمقاسمة دون الزكاة والجزية.
ولكن الأقوى عدم وجوب الدفع إليه مع التمكن.
ففي ذيل صحيحة العيص: (ولا تعطوهم شيئا ما استطعتم) (3). إلا أن يقال:
يستفاد من ظواهر الأخبار، أن حكم تصرف الجائر في الأراضي الخراجية حكم
تصرف الإمام العادل.
وصحيحة (4) عيص وما يقرب منها: كصحيحة هشام: (إن هؤلاء المصدقين
يأتونا فيأخذون منا الصدقة فنعطيهم إياها أتجزئ عنا؟ فقال: (لا، إنما هؤلاء

(1) منهم شيخ المحقق الثاني كما نقل عنه في رسالته الخراجية ضمن كتاب الخراجيات ص 91
واختاره المحقق أيضا: والشهيد الثاني في المسالك: كتاب التجارة ج 1 ص 168 س 33.
(2) حكاه النراقي عن ظاهر جماعة من الأصحاب، راجع المستند: كتاب الكسب والاقتناء،
ج 2 ص 353 س 11.
(3) الكافي: ج 3 ص 543 ح 4، عنه وسائل الشيعة: ج 6 ص 174 ب 20 من أبواب
المستحقين للزكاة، ح 3.
(4) المصدر السابق.
80

قوم غصبوكم، أو قال: ظلموكم أموالكم، إنما الصدقة لأهلها) (1) مخصوصة
بالصدقات. ولم يدل دليل على منع الخراج.
ولكن الأقوى أنهم عليهم السلام أباحوها لمواليهم وشيعتهم، كما في الأخبار (2)
الواردة في الخمس، ولم يجعلوا السلطان واليا منصوبا من قبلهم حتى يحرم مع
المذكورات عنه، بل لا إشكال أنه ظالم وغاصب حق الإمام عليه السلام وحق من كان
منصوبا من قبله نصبا خاصا أو عاما.
فما عن ظاهر المسالك (3) والمحقق الثاني (4) وكاشف الغطاء (5) قدست
أسرارهم من حرمة سرقة الحصة وخيانتها والامتناع من تسليم ثمنها إلى الجائر،
لا بد من حمله على حرمة المنع مطلقا، بحيث لا يصرفه في مصالح المسلمين
أصلا، ولا يدفعه إلى الوالي عليهم شرعا، لا أنه يجب دفعه إلى السلطان مع تمكنه
من دفعه إلى الحاكم الشرعي من دون ضرر وحرج.
وبالجملة: يستفاد من مجموع الأخبار الواردة في المقام والأخبار (6) الواردة
في حل جوائز السلطان، والأخبار (7) الواردة في تحليل الأنفال للشيعة، وحرمة (8) إعانة الظلمة بأي وجه كان، أمور لا ينبغي التأمل فيها:
الأول: أن سلاطين الجور ليسوا منصوبين من الأئمة عليهم السلام، وليسوا مستحقين
للولاية بحيث يجوز التولي من قبلهم، ويحرم منع ما يضعونه على الأراضي
والمواشي.

(1) الإستبصار: ج 2 ص 27 ح 78، عنه الوسائل: ج 6 ص 174 - 175 وفيه: (عن أبي أسامة)
ب 20 من أبواب المستحقين للزكاة ح 6.
(2) وسائل الشيعة: ج 6 ص 379 - 386 أحاديث الباب ب 4 من أبواب الأنفال.
(3) مسالك الأفهام: كتاب التجارة ج 1 ص 168 س 33.
(4) جامع المقاصد: كتاب المتاجر ج 4 ص 45.
(5) شرح القواعد (مخطوط): الورقة 38.
(6) وسائل الشيعة: ج 12 ص 156 - 160 أحاديث الباب ب 51 من أبواب ما يكتسب به.
(7) وسائل الشيعة: ج 6 ص 379 - 385 أحاديث 4 من أبواب الأنفال.
(8) وسائل الشيعة: ج 12 ص 127 - 132 أحاديث الباب ب 42 من أبواب ما يكتسب به.
81

الثاني: خروج من أخذ منه الزكاة والخراج عن عهدة ما يجب عليه إذا لم
يتمكن من دفعه إلى مستحقه وصرفه في مصالح المسلمين.
ففي صدر صحيحة العيص: (ما أخذ منكم بنوا أمية فاحتسبوا به) (1).
وفي خبر أبي كهمش، عن الصادق عليه السلام (من أخذ منه السلطان الخراج فلا
زكاة عليه) (2).
الثالث: عدم اختصاص جواز الأخذ بمن كان مستحقا له، أو كان مصرفا له،
فإن بعض الأخبار وإن كان ظاهره الاختصاص: كقوله عليه السلام: (ما منع ابن أبي
سماك أن يبعث إليك بعطائك؟ أما علم أن لك في بيت المال نصيبا؟) (3).
إلا أن ظاهر جملة من الأخبار هو الاطلاق، ففي صحيحة الحذاء، عن
الباقر عليه السلام: سألته عن الرجل منا يشتري من إبل الصدقة وغنمها وهو يعلم أنهم
يأخذون منهم أكثر من الحق الذي يجب عليهم؟ قال: فقال: (ما الإبل والغنم إلا
مثل الحنطة والشعير وغير ذلك، لا بأس به حتى يعرف الحرام بعينه فيجتنب)، قيل
له: فما ترى في مصدق يجيئنا فيأخذ منا صدقات أغنامنا فنقول: بعناها فيبيعناها
فما تقول في شرائها منه؟ فقال: (إن كان قد أخذها وعزلها فلا بأس)، قيل له: فما
ترى في الحنطة والشعير يجيئنا القاسم فيقسم لنا حظنا ويأخذ حظه فيعزله بكيل؟
فما ترى في شراء ذلك الطعام منه؟ فقال: (إن كان قبضه بكيل وأنتم حضور ذلك
فلا بأس بشرائه منه من غير كيل) (4).
وفي نوادر أحمد بن محمد بن عيسى، عن أبيه قال: سئل أبو عبد الله عليه السلام عن
شراء الخيانة والسرقة؟ قال: (إذا عرفت ذلك فلا تشتره إلا من العمال) (5).

(1) تقدم تخريجها في الصفحة:
(2) التهذيب: ج 4 ص 37 ح 95، عنه الوسائل: ج 6 ص 132 وفيه: (أبي كهمس) ب 10 من
أبواب زكاة الغلات ح 3.
(3) التهذيب: ج 6 ص 336 ح 933، عنه الوسائل ج 12 ص 157 ب 51 من أبواب ما يكتسب به ح 6.
(4) الكافي: ج 5 ص 228 ح 2، عنه الوسائل: ج 12 ص 161 - 162 ب 52 من أبواب
ما يكتسب به ح 5.
(5) وسائل الشيعة: ج 12 ص 162 ب 52 من أبواب ما يكتسب به ح 6.
82

وفي صحيحة إسماعيل بن الفضل (1) أيضا ما يدل على ذلك، فراجع وتدبر.
الرابعة: لا فرق في الجواز بين ما أخذه السلطان ووضعه في بيت المال وما لم
يأخذه، فيصح الأخذ ممن في ذمته الخراج بأمر السلطان والحوالة عليه. ويدل
على كليهما الأخبار الواردة في باب قبالة الأرض وتقبل الخراج، أو استئجار
أرض الخراج من السلطان ثم إجارتها للزارع بأزيد من ذلك.
فعن العيص بن المختار قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: جعلت فداك، ما تقول
في الأرض أتقبلها من السلطان ثم أواجرها أكرتي على أن ما أخرج الله تعالى عز
وجل منها من شئ كان لي من ذلك النصف أو الثلث بعد حق السلطان؟ قال: (لا
بأس به، كذلك أعامل أكرتي) (2).
وعن إسماعيل بن الفضل، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن رجل يتقبل
خراج الرجال وجزية رؤوسهم وخراج النخل والشجر والآجام والمصائد
والسمك والطير وهو لا يدري لعل هذا لا يكون أبدا، أو يكون اشتراه، وفي أي
زمان يشتريه ويتقبل منه؟ فقال: (إذا علمت أن من ذلك شيئا واحدا قد أدرك
فاشتره وتقبل منه) (3).
فما عن السيد عميد الدين - على ما نقل عنه المقدس الأردبيلي قدس سره: من أنه
يحل بعد قبض السلطان أو نائبه (4) - لا وجه له، لأنه لو جوز خصوص ما أخذه
السلطان فيرده كلتا الطائفتين ولو التزم بصحة تقبل الأرض الخراجية من
السلطان، ولكن مع من تقبل نفس الخراج فيرده الطائفة الثانية، فإن قوله: (يتقبل

(1) الكافي: ج 5 ص 272 ح 2، عنه وسائل الشيعة: ج 13 ص 161 ب 21 من أبواب أحكام الإجارة ح 3، 4.
(2) الكافي: ج 5 ص 269 ح 2 وفيه (عن الفيض بن المختار)، عنه وسائل الشيعة: ج 13 ص
208 ب 15 من أبواب المساقاة والمزارعة ح 3.
(3) الكافي: ج 5 ص 195 ح 12، عنه وسائل الشيعة: ج 12 ص 264 ب 12 من أبواب عقد
البيع وشروطه ح 4.
(4) كما في مجمع الفائدة والبرهان: كتاب المتاجر ج 8 ص 107.
83

خراج الرجال... إلى آخره) صريح في جواز المعاملة بنفس المال قبل أخذ
السلطان وعامله.
وكيف كان، إطلاق كلمات بعض الأصحاب في الصحة في نفس المأخوذ
ليس ناظرا إلى الاختصاص، فالأقوى عدم الفرق.
الخامسة: هل المراد من السلطان الوارد في هذه الروايات هو: السلطان الذي
يرى نفسه خليفة، أو يشمل كل سلطان مسلم، أو يشمل مطلق السلاطين ولو لم
يكونوا مسلمين؟.
يظهر من جماعة الاختصاص، ويظهر من جملة منهم التعميم. ولا يخفى ما في
استدلال الطرفين.
فالقائل بالاختصاص مثل: صاحب المسالك (1) وجهه بأنه يباح الأخذ منه،
نظرا إلى معتقده.
وفيه: أنه إذا كان منشأ الجواز اعتقاد السلطان باستحقاقه فلا يكفي معتقد
موجده، بل يشترط أن يكون دافع الخراج أيضا يعتقد استحقاق السلطان، فلو كان
مؤمنا أو كافرا، فلا يجوز أخذ خراجه من السلطان. وعلى هذا، فمرجع توجيهه:
إلى أن المورد من صغريات قاعدة (ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم). والحال أن
هذا خلاف منصرف الأخبار، وصريح كلمات الأخيار.
والقائل بالتعميم مثل: صاحب الجواهر (2) وشيخنا الأنصاري (3) تمسكا
بمثل قاعدتي: (الحرج) و (الضرر) وإطلاق الأخبار. وزاد الأول بأن وجه الإذن
منهم عليهم السلام هو: توسل الشيعة إلى حقوقهم الثابتة في بيت مال المسلمين، كما أشعر
به الحسنة السابقة (4).

(1) مسالك الأفهام: كتاب التجارة، ج 1 ص 169، س 1.
(2) جواهر الكلام: كتاب التجارة ج 22 ص 190.
(3) المكاسب: ص 76 س 14 وما بعده وفيه: أن الشيخ الأنصاري في نتيجة كلامه قوى
الاختصاص بالسلطان المخالف.
(4) جواهر الكلام: كتاب التجارة ج 22 ص 190.
84

وغرضه من الحسنة قوله عليه السلام: (أما علم أن لك في بيت المال نصيبا؟) (1). ولا
يخفى ما فيه:
أما أولا: فلأن القاعدتين حاكمتان على الأحكام الثابتة، ولا يمكن إثبات
الحكم بهما كما أشرنا إليه وظهر في محله (2).
وأما ثانيا: فلأنه لو كان المدار في الجواز على استحقاق الأخذ لكونه مصرفا
لما أعد لمصالح المسلمين فيجب الاقتصار على مثله، وموضوع البحث جواز
الأخذ مجانا أو بالمعاملة لمطلق الشيعة.
وأما ثالثا: فلأنه لو كان المدار على الخراج والاستحقاق فلا وجه لإخراج من
لا يكون له سلطنة عامة مستقلة: كالسلطان الذي تحت سطوة سلطان آخر ومن
خرج على السلطان وتسلط على قرية أو بلدة، فالأولى التمسك بإطلاق الأخبار،
وكون المناط في الحلية هو: إذن من له الأمر عليه السلام لمطلق شيعتهم.
نعم، لو ادعي انصراف الأخبار إلى الجائر الذي يرى نفسه مستحقا فله وجه،
فمقتضى الاحتياط عدم جواز الأخذ ممن لا يرى نفسه مستحقا للخلافة، أو كانت
سلطنته باستظهار غير المسلم.
وبالجملة: لا يمكن الجزم بالتعميم وإن كانت الأخبار مطلقة، فتدبر.
السادسة: قد ظهر مما ذكرنا: أن موضوع البحث هو ما كان فيئا للمسلمين
ويصرف في مصالحهم بضميمة الزكوات وجزية الرؤوس، فإن الزكاة وإن كان لها
مصرف خاص ولا تدخل في مصالح المسلمين إلا بعض مصارفها، إلا أن مقتضى
النصوص دخولها في الخراج والمقاسمة حكما، وهذا لا إشكال فيه، إنما الكلام
في أنه هل للخراج حد معين بحيث لو زاد أو نقص منه لا يدخل تحت العنوان، أو
لا حد له؟.

(1) مر تخريجه في ص 82.
(2) كما سيأتي منه قدس سره في التنبيه الرابع عند بحثه في قاعدة (لا ضرر).
85

الأقوى كونه موقوفا على تراضي السلطان والمأخوذ منه.
قال أبو الحسن عليه السلام: (والأرض التي أخذت عنوة بخيل (1) وركاب فهي
موقوفة متروكة في يد من يعمرها ويحييها، على صلح ما يصالحهم عليه الوالي
على قدر طاقتهم من الخراج: النصف والثلث والثلثان، وعلى قدر ما يكون لهم
صالحا ولا يضر بهم) (2).
وعلى هذا فإذا زاد الجائر ظلما حرم تناوله، كما أنه لو خفف لا لمصلحة
راجعة إلى المسلمين بل تشهيا وصداقة مع المتقبل ونحو ذلك، يجب رد مقدار
النقص إلى الحاكم الشرعي.
وبالجملة: فئ المسلمين يجب أن يرجع إليهم، إلا أن الشارع حكم بأن
تصرف الجائر فيه كتصرف الإمام العادل، ومقتضى ذلك: اختصاص الإذن بما
يتصرف به الإمام العادل، فالزائد والناقص غير نافذ منه.
وكيف كان، فاختصاص الموضوع بالخراج والمقاسمة دون الزكاة والجزية
- كما عن بعض - (3) لا وجه له.
وعلى أي حال، قد عرفت أن البحث عنه في هذه الأزمنة قليل الجدوى،
وإنما تعرضنا تبعا لما هو المعمول بين الفقهاء.
فلنرجع إلى تحرير ما أفاده - مد ظله - في كتاب البيع. ولما كان عنوان بحثه
كتاب المكاسب لعلم التقى وخاتم الفقهاء الحاج الشيخ مرتضى الأنصاري
التستري - أعلى الله مقامه - فلنحرر ما أفاده - مد ظله - بطريق الحاشية على
الكتاب.

(1) في المصدر: (أو).
(2) الكافي: ج 5 ص 44 قطعة من حديث 4، عنه وسائل الشيعة: ج 11 ص 85 باب 41 من
أبواب جهاد العدو ح 2.
(3) مر تخريجه في الصفحة: 80.
86

كتاب البيع
87

كتاب البيع
قال قدس سره: (كتاب البيع)
وقبل الخوض في مسائله ينبغي التنبيه على أمر ربما يكون له دخل في بعض
مقاصد الكتاب، وهو: أن الفقهاء - رضوان الله عليهم - قسموا مسائل الفقه إلى
أقسام أربعة: عبادات وعقود، وإيقاعات وأحكام، وقد يعبر عنها بعبادات
وعادات ومعاملات وسياسات.
والعبادات تطلق على معان ثلاثة:
أولها: ما يعتبر فيه قصد التقرب، وهي العبادات بالمعنى الأخص.
وثانيها: ما يمكن فيه قصد التقرب، وهي العبادات بالمعنى الأعم.
وثالثها: الوظيفة التي شرعت على أشخاص خاصة، ويندرج في هذا القسم:
باب الجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وباب الولايات، والقضاء،
والشهادات. والمعنى الثالث متوسط بين المعنيين الأولين، فإنه أعم من الأول
وأخص من الثاني.
ووجه إدراج المحقق باب الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في
العبادات بلحاظ هذا المعنى، أو لمجرد مناسبة ما، كما أدرج أحكام المياه في هذا
القسم أيضا.
وأما المعاملات فلها أيضا معان ثلاثة:
88

أولها: ما لا يعتبر فيه قصد التقرب، وهذا المعنى عام يشمل ما يتوقف على
الإنشاء، وما لا يتوقف.
وثانيها: خصوص باب العقود، أي ما يكون قوامه بإنشاء طرفين.
وثالثها: المتوسط بين الأولين، أي ما يحصل بالإنشاء، سواء كان بين
الطرفين: كالعقود، أو لا كالايقاعات.
ثم إنه قد يشك في كون شئ عقدا أو إيقاعا. وسيجئ تفصيل ذلك - إن شاء
الله - في محله.
وكيف كان، فالقسم الثاني من مسائل الفقه هو الذي يتوقف على إنشاء
الطرفين ويسمى بالعقد.
والعقود على أقسام ثلاثة: عقود إذنية، وعهدية، وهي على قسمين: تعليقية
وتنجيزية.
أما الإذنية: فهي عقود باصطلاح الفقهاء، لا بالمعنى اللغوي والعرفي، لأن
معنى العقد لغة (1) وعرفا هو العهد المؤكد، وما يكون فيه إلزام والتزام، وأما العقود
الإذنية فتسمى عقودا، لأنها ترتبط بشخصين، لا أن فيها عهدا وعقدا. فقوله عز من
قائل: (أوفوا بالعقود) (2) لا يشمل هذه العقود، لخروجها عنه تخصصا.
وبالجملة: ما كان قوامه بالإذن ومجرد رضاء ولي الأمر ومالكه لا يكون فيه
عهد والتزام، وهذه كالوديعة والعارية، بناء على أن يكون مفادها الإباحة المجانية.
وأما بناء على كونها مفيدة للتمليك المجاني فتدخل في العهدية. وكالوكالة على
أحد القسمين فيها، فإنها بنوعها وإن كانت تفيد إباحة التصرف للوكيل إلا أن قسما
منها عهدي، وهو الذي يتوقف على الإيجاب والقبول مع شرائط خاصة مذكورة
في محله.
ومن أحكام هذا القسم: أنه لو تصرف الوكيل بشرائط التصرف ولم يعلم
بعزل الموكل لا يبطل تصرفه.

(1) مجمع البحرين: ج 3 ص 103 (مادة عقد).
(2) المائدة: 1.
89

وقسما (1) منها إذني، وهو عبارة عن مجرد الإذن في التصرف، بل مطلق
الرضا به.
ومن أحكامه: أنه يبطل تصرف الوكيل بمجرد رجوع الموكل عن إذنه ولو لم
يطلع عليه الوكيل.
ثم إنه قد يكون العقد مركبا من عهدي وإذني باعتبار مدلوله المطابقي
والالتزامي كالإجارة فإنها تدخل من جهة تمليك المنفعة بالعوض في العهدية،
ومن جهة تصرف المستأجر في العين في باب الأمانات المالكية التي ترجع جميع
العقود الإذنية إليها.
وأما التعليقية: فهي التي يكون المنشأ فيها معلقا على شئ كالسبق والرماية
والجعالة بناء على كونها عقدا ومتوقفا على القبول ولو كان فعلا. نعم، بناء على
كونه إيقاعا يخرج عن هذا الباب.
وكيف كان، إذا كان المنشأ معلقا بأن وأخواتها فيكون من العهدية التعليقية.
وأما العهدية التنجيزية: فهي عبارة عن البيع والإجارة ونحوهما مما كان
المنشأ منجزا ومتحققا بإنشاء الطرفين، سواء كان تمليكا للعين أو المنفعة، وسواء
كان بعوض أو بلا عوض، فتمليك العين بالعوض بيع، وبلا عوض هبة، وتمليك
المنفعة بالعوض إجارة، وبلا عوض عارية بناء على كونها مفيدة للتمليك، لأبناء
على ما هو الحق من أنها مفيدة للإباحة.
ثم إن الصلح أيضا عنوان مستقل، ويكون المنشأ به هو التسالم على أمر. نعم،
قد يكون نتيجة التسالم هو تمليك العين بعوض أو بلا عوض، أو تمليك المنفعة
بعوض، أو بلا عوض، لا أن يكون تابعا لأحد هذه العناوين الأربعة بأن يكون إما
بيعا أو هبة أو إجارة أو عارية كما عليه الجمهور (2)، وتبعهم من الخاصة جماعة (3)

(1) معطوف على اسم أن في قوله: (إلا أن قسما منها عهدي).
(2) لاحظ المجموع للنووي: كتاب الصلح، ج 13 ص 386 - 387.
(3) القائل به الشيخ في المبسوط: كتاب الصلح ج 2 ص 288. وحكى ابن فهد الحلي عن
القاضي ابن البراج أنه تبع الشيخ أيضا. لاحظ المهذب البارع: كتاب الصلح ج 2 ص 536.
وليس فيما بأيدينا من المهذب للقاضي ابن البراج كتاب الصلح.
90

وذلك لأن المناط في الاستقلالية أو التبعية هو لحاظ المنشأ بالعقد بالمدلول
المطابقي لا الالتزامي.
فكون نتيجة الصلح أحد هذه الأمور لا يوجب إرجاعه إليها، بل لا شبهة أن
مدلوله المطابقي إنشاء التسالم على أمر، فقد يكون هذا الذي تسالما عليه أحد
هذه الأمور، وقد يكون إسقاطا لحق غير قابل للبيع كما في بعض الحقوق، وقد
يكون إسقاطا لحق الدعوى الذي قد لا يكون المدعى به ثابتا في الواقع.
وحيث إن المنشأ به هو التسالم فيجب أن يتعدى ب‍ (على)، لا بد (الباء). فلو
قال: صالحتك هذا بهذا: فإما يكون بيعا فاسدا بناء على بطلان إنشاء عناوين العقود
بالألفاظ المجازية، وإما يكون بيعا صحيحا بناء على صحة إنشائها بغير ألفاظها.
وعلى أي حال، لا يكون صلحا، لأن المنشأ به هو التباني على أمر والتسالم
عليه. فيجب أن يقال: صالحتك على هذا بهذا، أو تصالحنا على هذا بهذا.
نعم، في صلح الدين ونحوه يصح تعديته ب‍ (عن)، فيقال: صالحتك عما علم
بما علم، لكونه بمعنى التجاوز، بل في صلح حق الدعوى تعديته ب‍ (عن) أولى.
ثم إن مما ذكر في معنى الهبة علم أنه لا يصح أن يقال: وهبتك هذا بهذا حتى
في الهبة المعوضة، لأن التمليك بالعوض: إما بيع أو إجارة، فقوله في تمليك
الأعيان: وهبتك هذا بهذا، وفي تمليك المنافع أيضا كذلك: إما بيع فاسد أو إجارة
فاسدة لو لم نقل بكفاية كل لفظ لإنشاء عنوانهما به، أو صحيحتان لو قلنا بها، لأن
في حقيقة الهبة اعتبرت المجانية، فإنها عبارة عن تمليك مال منجزا من غير عوض.
والعوض في الهبة المعوضة ليس في مقابل المال الموهوب، سواء اشترط
التعويض أو لم يشترطه، ولكن المتهب عوض عنها، فإن في الأول أيضا ليس العوض
مقابلا للمال الموهوب، بل إنما اشترط في التمليك المجاني أن يملكه شيئا مجانا.
91

قوله قدس سره: (البيع وهو في الأصل - كما عن المصباح - مبادلة مال بمال (1)...
إلى آخره).
لا يخفى أن تعريفات القوم كلها تقريبية، لا سيما في البسائط، فإنها ليست
مركبة من جنس وفصل. والتعريف الحقيقي بحيث يكون جامعا ومانعا على فرض
إمكانه إنما يصح في المركبات.
وعلى أي حال، هذا التعريف وتعريفه بأنه تمليك العين بالعوض لا يرجع
إلى معنى واحد، فإن ظاهر التعريف الأول أن المعاملة تقع بين المملوكين، والتعريف
الثاني أن المقابلة تقع بين السلطنتين، ولا إشكال أن في مقام الخارج وما هو
المتعارف بين الناس ومن أعظم ما يتوقف عليه عيش بني آدم هو تبديل الأموال،
لا تبديل الملكية التي هي عبارة عن السلطنة على المال فإن الناس مسلطون على
أموالهم، وليس لهم السلطنة على سلطنتهم. وسيجئ في محله أن جواز الأعراض
عن الملك ونفوذه ليس من جهة شمول (الناس مسلطون على أموالهم) (2) له، فإن
الأعراض إذهاب موضوع السلطنة، وليس مندرجا في عموم السلطنة.
وبالجملة: قد أشرنا في أول (3) المكاسب المحرمة أن باب المعاوضات مقابل
لباب الإرث، فإن في الإرث يتبدل المالكان دون المملوكين، وباب المعاوضات
بعكس ذلك، فيتبدل بها المملوكان.
وحاصله: أن في عالم الاعتبار كل من صاحب الطعام وصاحب الدراهم
واجد لإضافة، وأحد طرفي الإضافة قائم بالمالك، وطرفها الآخر بالمملوك،
والتبديل عبارة عن حل الإضافة القائمة بالطعام وجعلها قائمة بالدراهم، وهذا
الحل من آثار واجدية الإضافة، لا أن الإضافة بتمامها تتبدل بإضافة أخرى، فإن
الإضافة عبارة عن السلطنة على المال، وإذا كان التبديل واقعا بين السلطنتين

(1) المصباح المنير: (مادة: بيع) ص 69.
(2) رواه الشيخ مرسلا في الخلاف: كتاب البيوع، ج 3 ص 176 م 290 وابن أبي جمهور في
عوالي اللئالي: ج 1 ص 222 ح 99.
(3) تقدم في الصفحة: 16 فراجع.
92

فيتوقف صحته على أن يكون ذو السلطنة له السلطنة على السلطنة... وهكذا.
وعلى هذا فالحق أن البيع هو مبادلة مال بمال، أو تبديل مال بمال، وليس
عبارة عن تمليك العين بعوض، إلا أن يكون المقصود من هذه العبارة التعريف
باللازم، فإن لازم تبديل العين تحقق الملكية للمشتري.
وحاصل الكلام: أن الملكية عبارة من إضافة حاصلة بين المالك والمملوك،
وهي عبارة أخرى عن الجدة، غاية الأمر أن الجدة الحقيقية والواجدية الواقعية
هي مخصوصة بمن له ملك السماوات والأرض، فإنه هو الذي يقدر على الإيجاد
والإعدام، فهو الواجد الحقيقي، والتعبير عن هذه الجدة بالإضافة الإشراقية يرجع
إلى هذا المعنى.
وكيف كان، لا شبهة أن من أعلى مراتب الجدة هذه الواجدية، ونظيره في
المخلوقات واجدية النفس للصور العلمية، فإنها توجد بنفس إنشاء النفس لها،
وتنعدم في هذا الصقع بنفس إعدامها. فإحاطتنا بمنشئات أنفسنا نظير ملكية الله
سبحانه وقدرته وعلمه.
وأما الملكية الاصطلاحية التي هي من إحدى المقولات فهي أضعف رتبة
وأنزل درجة من الجدة الحقيقية.
وأما الجدة الاعتبارية فهي أضعف من المرتبتين السابقتين، ولكن لها نحو
تحقق في عالم الاعتبار، وتكون منشأ للآثار، وبها تتبدل الأموال. وأما هي بنفسها
فليست قابلة للتبديل ابتداء، لأنه ليس للمالك ملكية على الملكية، من غير فرق
بين باب البيع وغيره، حتى في مثل الهبة المجانية، فإن الواهب لا يملك المتهب
ابتداء، بل يعطيه المال، فإذا أعطاه إياه تنخلع عنه الإضافة ويلبسها الآخر، فهو
يصير واجدا.
ولا مانع عن تعريف البيع بأنه تمليك عين بعوض، وعن الهبة بأنها تمليك
مجاني، إذا كان المقصود منه تبديل المال أو إعطاؤه، فإن مقصودنا أن ما هو الواقع
خارجا والثابت في عالم الاعتبار هو أن صاحب المال له إضافة وجدة كان
المالك في شرق العالم والمملوك في غربه، أو كان تحت يده وبلحاظ مالكيته
93

لهذه الإضافة مسلط على تبديل ماله، وهكذا لو كان ذا حق أيضا فله إسقاط حقه أو
تبديله بأمر آخر من جهة سلطنته عليه، لا تبديل نفس السلطنة.
فعلى هذا بين تعريف المصباح بأن البيع مبادلة مال بمال (1) وسائر التعاريف
تفاوت معنوي، ولكن جميع هذه التعاريف ليس مطردا ومنعكسا، سيما تعريف
المصباح، فإن شأن اللغويين هو التسامح في بيان حقيقة معنى الشئ.
فالإشكال (2) عليه بأن البيع تبديل لا مبادلة، وأن المبادلة تصدق في غير البيع
أيضا، إنما يتوجه لو كان بصدد بيان حد الشئ، وبعد ما عرفت من أن هذه
التعاريف تقريبية فلا يرد عليها إشكال.
نعم، من كان بصدد بيان حقيقة البيع فينبغي تعريفه بما يكون جامعا ومانعا،
ولا يهمنا ذكر تعاريف القوم وما يرد عليها. ولعله سيجئ إجماله بعد ذلك. إنما
المهم بيان أمور ينبغي التنبيه عليها:
الأول: أن مقتضى ما ذكرنا في حقيقة المعاوضة أن البيع ونحوه من مقولة
المعنى، لا بمعنى أنه من الكلام النفسي الذي توهمه بعض (3) المحشين تبعا
لأستاذه المحقق، بل بمعنى أن المنشأ باللفظ هو البيع، لا قول: بعت، ولا المجموع
المركب من بعت واشتريت الذي يسمى عقدا.
وبعبارة أخرى: البيع هو تبديل العين بالمال أو تمليكها به، غاية الأمر تحقق
هذا المعنى خارجا موقوف على قبول المشتري.
وإن شئت قلت: البيع هو التمليك المتعقب بالقبول. ولكن الظاهر أن عنوان
التعقب ليس جزءا من مدلول البيع، بل البيع هو نفس التمليك بالعوض في ظرف
حصول القبول، فكون البيع هذا المعنى لا ينافي مع تبادر البيع المؤثر، وهو المتعقب
بالقبول من قوله: (باع فلان داره)، فإن الظاهر من هذا الكلام وقوع عقد البيع،
ولا شبهة أن عقد البيع مركب من الايجاب والقبول، ولكن الذي هو من فعل البائع

(1) تقدم تخريجه في الصفحة: 91.
(2) لاحظ حاشية المكاسب للآخوند: ص 3. وحاشية الإيرواني على المكاسب: ص 72 س 19.
(3) يظهر ذلك من أبي القاسم الجيلاني في حاشيته على المكاسب المسماة بغية الطالب: ص 5 س 8.
94

هو الإيجاب، لا المركب، فإن القبول من فعل المشتري.
وبالجملة: البيع هو فعل البائع، لا المركب من فعله وفعل المشتري، وفعله
لا ينفك عن تحقق اسم المصدر منه، وإن لم يترتب عليه الأثر خارجا فهو مثل
الكسر الذي لا ينفك عنه الانكسار وإن كان من جهة ترتب الأثر مثل الإيجاب
الذي لا يكون منشأ للآثار إلا إذا صدر ممن له الأهلية له.
والذي يدل على أن البيع من فعل البائع أنه لو وقع شرطا في ضمن العقد أو
نذره فمرجعه إلى إقدامه على البيع وجعل المبيع معرضا له، لا إيجاد ما هو منشأ
للآثار، وإلا يكون شرطا ونذرا غير مقدور.
ففرق بين أن يكون المجموع من الفعلين أو الفعل المتعقب بالقبول بيعا، وأن
يكون البيع هو فعل البائع في ظرف حصول القبول من المشتري.
وبالجملة: البيع أمر بسيط قائم بفعل شخصين بحيث لو لم يتحقق القبول
لا يحصل هذا المعنى، ولكن لا يدخل ما هو من فعل المشتري في فعل البائع،
لا بوجوده الخارجي، ولا بعنوانه الانتزاعي، بل فعل البائع إيجاب له، وفعل
المشتري قبول له، فحيث إنه قائم بشخصين لا يمكن أن يقال: البيع يحصل
بإيجاب البائع، سواء حصل القبول أم لا.
وعلى أي حال، إطلاق البيع على العقد المركب من الإيجاب والقبول مبني
على عناية ورعاية علاقة غير خالية من الاعتساف، فإن علاقة السببية والمسببية
حاصلة بين العقد وما يحصل من الإيجاب والقبول، أو من الإيجاب المتعقب
بالقبول، وإلا ليس العقد سببا لما يحصل من فعل البائع، فإن التمليك منه يحصل
بنفس إنشائه وإن لم يكن منشأ للأثر، إلا إذا تعقبه القبول.
ثم إن جملة من الأعلام - على ما في الجواهر والمتن - عرفوا البيع بالأثر
الحاصل من الإيجاب والقبول.
فقالوا: بأنه انتقال عين مملوكة من شخص إلى غيره بعوض مقدر على وجه
التراضي (1). فعلى هذا يستفاد من مجموع الكلمات إطلاق البيع على معان ثلاثة:

(1) منهم الشيخ في المبسوط: كتاب البيوع ج 2 ص 76. والحلي في السرائر: كتاب المتاجر
والبيوع، ج 2 ص 240. والعلامة الحلي في القواعد: كتاب المتاجر ج 1 ص 123 س 17.
95

الأول: ما هو الحاصل من فعل البائع، وعبروا عن هذا المعنى بتعبيرات مختلفة:
فمنهم: من عرفه بأنه مبادلة مال بمال (1).
ومنهم: بأنه نقل عين بعوض (2).
ومنهم: بأنه تمليك عين بعوض (3).
ومنهم: من عرفه بأنه نقل العين بالصيغة المخصوصة، (4) إلى غير ذلك مما
يرجع إلى هذا المعنى.
الثاني: هو الحاصل من فعل الموجب والقابل كما في تعريف
المبسوط (5) ومن (6) تبعه، فعرفوه بأنه انتقال عين من شخص إلى غيره بعوض.
الثالث: هو العقد المشتمل على الإيجاب والقبول كما في
الوسيلة (7) والمختلف (8). وهذا الاطلاق هو المتعارف عن الفقهاء في أبواب العقود،
فقولهم: كتاب البيع ونحوه المقصود منه: هو العقد.
الأمر الثاني: قد اشتهر بين الفقهاء أن باب ألفاظ العقود وما ينشأ بها باب
الأسباب والمسببات، فيريدون أن مثل بعت واشتريت سبب لحصول النقل
والانتقال.
ثم إن من الشهيدين (9) يظهر أن عقد البيع وغيره حقيقة في الصحيح
ومجاز في الفاسد، فعلى هذا يتولد هنا إشكالان:

(1) ارتضاه الشيخ الأنصاري في المكاسب: كتاب البيع ص 79 س 2 وما بعده وجعله المحقق
الإيرواني من أمتن التعاريف كما في حاشيته على المكاسب ص 74 س 37.
(2) كالشهيد الأول في الدروس الشرعية: كتاب البيع، ج 3 ص 191.
(3) كالسيد اليزدي في حاشيته على المكاسب: كتاب البيع ص 53 س 28.
(4) كالمحقق الكركي في جامع المقاصد: كتاب المتاجر، ج 4 ص 55.
(5) المبسوط: كتاب البيوع في حقيقة البيع وبيان أقسامه ج 2 ص 76.
(6) كابن إدريس الحلي في السرائر: كتاب المتاجر والبيوع، ج 2 ص 240.
(7) الوسيلة: كتاب البيع، ص 236.
(8) مختلف الشيعة: كتاب التجارة ج 5 ص 51.
(9) ظاهر الشهيد الأول في القواعد والفوائد: ج 1 ص 158، وصريح الشهيد الثاني في
المسالك: كتاب الايمان، ج 2 ص 198، س 14.
96

الأول: أن كون العقد حقيقة في الصحيح معناه أن الشارع وضعه للصحيح، مع
أن المعاملات بأجمعها إمضائية.
الثاني: عدم صحة التمسك بالإطلاق عند الشك في الصحة والفساد، كما لا
يصح التمسك به في العبادات.
نعم، لو قلنا كما قيل (1): بأن الإمضاء الشرعي ورد على الأسباب فلا إشكال
وأما بناء على ورود الامضاء على المسببات كما هو الظاهر من قوله عز من قائل:
(وأحل الله البيع) (2) فالتمسك به مشكل، لأنه لا ملازمة بين إمضاء المسبب
وإمضاء السبب، فلو شك في صحة العقد الفارسي فكيف يمكن القول بصحته من
جهة إطلاق قوله: (أحل الله البيع)؟.
وقد أجيب (3) عن الأول: بأن معنى وضعه للصحيح أن الشارع أمضى
المعاملات العرفية، والعرف يسمي ما هو المؤثر لأثر كذا (بيعا) لا غيره، فيصير
البيع شرعا هو البيع عرفا، أي المؤثر للنقل. غاية الأمر قد يقع اختلاف بين الشرع
والعرف في المصداق كالبيع الربوي مثلا، فإن الشارع يخطئ العرف في تخيلهم
بأنه أيضا مؤثر في النقل.
وبتعبير آخر: قد يسقط الشارع فردا عن الفردية، حيث إنه ممن ينفذ اعتباره،
والأمر الاعتباري إسقاطه التشريعي هو إسقاطه التكويني.
وبتعبير المصنف: قد يكون الاختلاف بين النظرين، فإن ما هو بنظر العرف بيع
ليس بنظر الشارع بيعا، لا أن معنى البيع عند العرف والشرع مختلف.
وبالجملة: البيع عند الشرع والعرف واحد مفهوما وإن اختلف بينهما في بعض
المصاديق، فعلى هذا يصح دعوى كون العقد موضوعا للصحيح مع كونه إمضائيا.
وأجيب (4) عن الثاني: بأن ألفاظ المعاملات وإن كانت موضوعة للصحيح إلا

(1) يظهر من الشيخ الأصفهاني في حاشيته على المعالم: ص 116 س 30.
(2) البقرة: 275.
(3) المجيب هو الأصفهاني في حاشيته على المعالم ص 116 س 26 وما بعده.
(4) المجيب هو الشيخ الأنصاري في المكاسب: كتاب البيع ص 81 السطر الأول وما بعده.
97

أن إطلاقها لو كان مسوقا في مقام البيان ينزل على أن المؤثر عند الشارع هو
المؤثر عند العرف، لأن الخطابات لما وردت على طبق العرف حمل لفظ البيع
وشبهه في الخطابات الشرعية على ما هو الصحيح المؤثر عند العرف.
ولا يخفى ما في هذا الجواب، لأنه بعد ما عرفت بأن الخطابات الشرعية
واردة في مقام إمضاء المسببات وفرضنا أنه لم يدل دليل على صحة العقد
الفارسي، ولا صحة الفصل بين الإيجاب والقبول فعد العرف هذا العقد صحيحا لا
أثر له، ولا اتحاد بين المسبب والسبب، لا حقيقة ولا عرفا حتى يقال: إمضاء
المسبب إمضاء للسبب، كما لا يخفى.
فتنزيل ما هو المؤثر عند الشارع على ما هو المؤثر عند العرف لو كان إطلاق
الخطابات الشرعية مسوقا في مقام البيان إنما يصح لو كان الشك راجعا إلى
المفهوم العرفي الذي أمضاه الشارع، لا ما إذا كان الشك راجعا إلى المصداق، فإن
نظر العرف في تطبيق المفاهيم على المصاديق غير متبع، فلو فرضنا أن العرف
يرى مفهوم البيع هو المؤثر في النقل فتطبيقهم هذا المعنى على العقد الفارسي لا
عبرة به، إلا إذا رجع إلى توسعة في المفهوم.
وبالجملة: إذا فرضنا أن البيع موضوع لما هو المؤثر في النقل حقيقة وأن
الشارع أمضى هذا المعنى فتخيل العرف بأن العقد الفارسي مؤثر في النقل لا أثر له.
ولا يقال: إن الشارع إذا أمضى الأثر الحاصل مما هو المؤثر واقعا فلا محالة
لا ينفك عن إمضاء المؤثر ولو في الجملة، والمفروض أن العرف يرون جميع هذه
العقود مؤثرة، فلو لم تكن هذه مؤثرة عند الشارع لوجب عليه التنبيه. فقوله عز من
قائل: (أحل الله البيع) (1) مع بناء العرف على أن العقد الفارسي بيع وعدم تخطئة
الشارع لهم يقتضي أن يكون هذا سببا أيضا عند الشارع.
لأنا نقول: مقتضى كون البيع موضوعا للصحيح أن يكون كل ما هو سبب له
معنونا بعنوان ما يترتب عليه المسبب، بحيث لو تعلق الوضع أو التكليف به لكان

(1) البقرة: 275.
98

تحصيله لازما.
وبعبارة أخرى: لولا حكم العقل بأن في مورد الشك في المحصل يجب
الاحتياط لكان مقتضى جعل المسبب وعدم التنبيه على سبب خاص هو أن كل ما
يعده العرف سببا كان سببا عند الشارع. وأما بعد معلومية أسباب متيقنة عند العرف
والخارج ففي مورد الشك يجب الاحتياط، والتمسك بالإطلاق يتم لو كان الشك
في أمر زائد على المسمى.
وبالجملة: غير خفي على الناقد أنه لو كان باب العقود وما ينشأ بها من باب
الأسباب والمسببات لكانت الأدلة الواردة في إمضاء المسببات غير كافية لرفع
الشك في تحققها من الأسباب المشكوكة سببيتها، واتحاد السبب والمسبب ليس
بحد يكون أحدهما عين الآخر، ولا ملازمة بين إمضاء المسبب وإمضاء مشكوك
السببية، ولا أثر لعد العرف مشكوك السببية سببا.
وحاصل الكلام: أن التمسك بالإطلاق يصح في مقامين:
الأول: ما إذا كان مصداق داخلا تحت الطبيعي يقينا وشك في اعتبار قيد زائد
فيه كالشك في اعتبار الأيمان في الرقبة مع العلم بانطباق المفهوم على الكافرة.
وأما إذا لم يكن شئ تحت هذا العنوان فعد العرف من باب المسامحة شيئا
من أفراد هذه الطبيعة لا يفيد في صحة التمسك بالإطلاق، فإذا كان موضوع الحكم
ثمانية فراسخ فمسامحة العرف وعد ثمانية إلا ربع الفرسخ ثمانية فراسخ لا أثر لها.
والثاني: ما إذا كان ثبوت الحكم لعنوان ملازما لثبوته لأمر آخر، كما إذا قلنا
بأن قوله عز من قائل: (كلوا مما أمسكن) (1) في مقام بيان حل أكل ما اصطاده
الكلب المعلم فعلا فلازمه طهارة موضع عضه، ولا يبعد أن يكون نظر المصنف قدس سره و
راجعا إلى الوجه الثاني، بل هو المتعين.
فإن قوله قدس سره: (فلأن الخطابات الشرعية لما وردت على طبق العرف حمل

(1) المائدة: 4.
99

(البيع) على ما هو الصحيح المؤثر عند العرف) ظاهر في أن إمضاء المسبب
إمضاء للسبب، لا أن المصداق المسامحي العرفي مندرج تحت الاطلاق.
وعلى أي حال، فلو كان مبنى التمسك بالإطلاق هو الوجه الأول فهو مما لا
كبرى له، لأن تطبيق العرف لا أثر له إلا إذا رجع إلى المفهوم.
ولو كان هو الثاني فالصغرى ممنوعة، لأنه لا ملازمة بينهما مع التباين بينهما
خارجا. نعم، إمضاء السبب إمضاء للمسبب، ولكن العكس لا يبتنى على أساس إلا
إذا عدا واحدا خارجا، فتأمل جيدا.
فالصواب في الجواب: هو أن المنشئات بالعقود ليست من باب المسببات، بل
هي أفعال من الموجب والقابل، وذلك لأن المسبب إما يكون أمرا مترتبا على فعل
إعدادي من شخص بحيث لا يكون بين هذا الفعل والأثر المترتب عليه فعل فاعل
مختار وإن كان بين الفعل وهذا الأثر وسائط كثيرة كالوقوع في البئر المترتب على
حفر الحافر في الطريق العام، فإن وقوع الأعمى فيه مستند إلى الحافر وإن لم
يوجد إلا فعلا إعداديا (1).
وإما يكون فعلا توليديا من إيجاد الفاعل الجزء الأخير من العلة التامة
كالإحراق المترتب على الألقاء في النار، والملكية المترتبة على الحيازة.
ولا خفاء في أن المنشأ بالعقد لا يكون من كلا القسمين، بل هو من قبيل
الإيلام الحاصل بالضرب، وعنوان ثانوي لفعل الفاعل، والفاعل ابتداء يوجد هذا
العنوان وتتعلق إرادته به أولا، لكونه تحت قدرته بلا واسطة، فإن المتكلم ابتداء
يوجد المعنى واللفظ ليس بمنزلة السبب، والمعنى بمنزلة المسبب، بل حال المنشأ
بالعقد حال الكتابة التي هي ابتداء فعل الكاتب، وحال النجارة التي هي فعل
النجار. وكما أن خلق الصور الذهنية فعل من النفس كذلك كتابتها وتكلمها
وتجارتها ونجارتها أفعال منها، غاية الفرق أن خلق الصور لا يحتاج إلى آلة،
والتكلم يحتاج إلى تحريك اللسان، والكتابة إلى القلم، والنجارة إلى القدوم، فإذا

(1) في المطبوع من الأصل: (عداديا) والصحيح ما أثبتناه.
100

كان تلفظه بهذه الألفاظ فعلا له فالأثر الحاصل منها فعل له أيضا بلا واسطة، لأن
في جميع المصادر اسم المصدر الحاصل منه لا يباينه إلا اعتبارا فهو هو وجودا
وإن اختلفا اعتبارا.
فأثر الفعل لو انتسب إلى الفاعل يسمى تأثيرا ومصدرا، ولو انتسب إلى
المفعول يسمى اسم المصدر وتأثرا.
وبعبارة أخرى: لا تفاوت بين الإيجاد والوجود. فلو قلنا بتعلق الإمضاء
بنفس الإيجاد كما هو المتعين في نحو (أوفوا بالعقود) فإن الإمضاء تعلق بالعقد
الذي هو آلة إيجاد عنوان المعاملة، وهو الظاهر من (أحل الله البيع) لو كان المراد
من الحلية الحلية التكليفية الراجعة إلى الأفعال فلا إشكال فيه، فإنه لو تعلق
الإمضاء بنفس هذه الايجاديات الواقعة من أهل العرف فيقتضي صحة جميع ما
يوجده العرف بحيث لو ردع عن إيجاد خاص فهو تخصيص وخارج عن
الايجاديات حكما وإن دخل فيها موضوعا.
ولو تعلق الإمضاء بالأثر الحاصل من الأفعال - كما يمكن أن يكون هو المراد
من (أحل الله البيع) بناء على ظهوره في الحلية الوضعية - فكذلك أيضا، لاتحاد
الأثر مع التأثير، فإمضاء الأثر إمضاء للمصدر الحاصل منه هذا الأثر، لعدم الفرق
بينهما خارجا.
وبالجملة: فرق بين السبب والمسبب، وبين المصدر واسم المصدر، فإن
السبب والمسبب إذا تعلق الجعل بالمسبب ابتداء (1) أو إمضاء فلا يكفي جعله كذلك
لجعل السبب، وهذا بخلاف إمضاء اسم المصدر، فإن إمضاءه ملازم لإمضاء
المصدر، بل هو عينه على وجه، فتدبر جيدا.
الأمر الثالث: لا إشكال ولا خلاف في اعتبار كون المبيع عينا فلا يعم المنافع،
ولا يبعد أن يكون منشأ الاتفاق انصراف الأدلة إلى ما هو المعهود خارجا من جعل
المعوض في البيع عينا، ولا أقل من الشك في شمول المطلقات لغير العين،

(1) في المطبوع من الأصل: (ابتلاءا) والصواب ما أثبتناه.
101

وادعي (1) التبادر وصحة سلب البيع عن تمليك المنفعة بعوض.
وكيف كان، لا خلاف في ذلك، وعليه استقر اصطلاح الفقهاء. وإطلاق البيع في
نقل غيرها في عدة من الأخبار كالخبر (2) الدال على جواز بيع خدمة المدبر،
وبيع (3) سكنى الدار، وبيع (4) الأراضي الخراجية التي لا يجوز فيها إلا نقل منافعها
مبني على رعاية علاقة، كما أن الإجارة التي جعلت شرعا بل عرفا لنقل المنافع
قد تستعمل لنقل الأعيان، بل في عصرنا هذا يطلق (الضمان) ويراد منه الإجارة،
وهو مبني على المسامحة، فإن الضمان يمكن أن يطلق على مطلق تعهد الشئ، أو
كونه في عهدته ولو من دون تعهد عقدي.
ثم إن المراد من العين في المقام ليس خصوص العين الخارجية المملوكة
فعلا، بل المراد منها ما يقابل المنفعة والحق، فتشمل العين الشخصية والكلي
المشاع كثلث الدار، والكلي في المعين كصاع من هذه الصبرة، والكلي في الذمة
كمن من الحنطة سلما أو حالا، والكلي المستقر في الذمة كالدين، سواء باعه على
غير من هو في ذمته أو باعه عليه، لأن ذلك كله من الأعيان، ولا إشكال في شئ
من ذلك إلا في بيع الكلي، فإنه قد يتوهم أن المبيع يجب أن يكون مالا للبائع قبل
البيع حتى ينتقل منه إلى المشتري، ففي غير هذه الصورة المبيع ملك للبائع فعلا
فيصح نقله بالبيع إلى المشتري، وهذا بخلاف هذه الصورة.
بل قد يستشكل في بيع الدين أيضا بأن الدين ليس ملكا، لأنه معدوم، والملك
من الأعراض يتوقف وجوده على محل موجود.

(1) المدعي السيد اليزدي في حاشيته على المكاسب: كتاب البيع ص 53 س 30.
(2) تهذيب الأحكام: ج 8 ص 260، ح 945. عنه في الوسائل: ج 16 ص 74 ب 3 من أبواب
كتاب التدبير، ح 4.
(3) تهذيب الأحكام: ج 7 ص 130 ح 571، عنه في الوسائل: ج 12 ص 250 ب 1 من أبواب
عقد البيع وشروطه ح 5.
(4) تهذيب الأحكام: ج 4 ص 147 ح 411. عنه في الوسائل ج 11 ص 119 ب 71 من
أبواب جهاد العدو ح 6.
102

ولكنه لا يخفى عدم ورود هذين الإشكالين.
أما إشكال عدم وجود المعروض في باب الدين والسلم فلما عرفت أن
الملكية من الجدة الاعتبارية، فلا تحتاج إلى معروض خارجي، ولم يدل دليل
على اعتبار الملكية في المبيع.
وأما إشكال اعتبار المالية للبائع ففيه: أن المالية معتبرة في المبيع. وأما كون
المبيع قبل البيع مالا للبائع فلا دليل عليه. ولا شبهة أن منا من الحنطة مال عرفا
ويبذل بإزائه المال وإن لم يكن ملكا، فإن بينهما بحسب المورد عموما من وجه،
فإن المباحات الأصلية ومنا من الحنطة بعنوان الكلي مال وإن لم يكن ملكا، وحبة
من الحنطة ملك وإن لم تكن مالا، وليس البيع إلا تبديل المال بالعوض، لا الملك.
وبالجملة: وإن لم يكن في ذمة البائع شئ وبنفس العقد يستقر مال على
عهدته، إلا أن هذا كاف لتحقق المعاوضة وتبديل طرف الإضافة الاعتبارية، فإن
العقلاء يعتبرون مالية هذا المال، وعمل الحر إذا صار عوضا يدخل في الأموال
بهذا المعنى، فلا يستشكل بأن الحر ليس مالكا على نفسه، وليس له على ذمة نفسه
مال، وذلك لكفاية هذا المعنى، وهو جعله عوضا عرفا وكونه مالا اعتبارا في جعله
عوضا عن المبيع شرعا.
نعم، بين عمل الحر والعبد فرق من غير هذه الجهة، كما إذا حبس العبد فإنه
يضمن منفعته، دون ما إذا حبس الحر فإنه لا يضمن إلا إذا كان أجيرا، وغير ذلك
مما هو مذكور في محله. هذا، مع أنه لو لم يكن عمله قابلا لصحة جعله عوضا لما
صح إجارة الحر نفسه، فإن الإجارة لا بد وأن تتعلق بالمال.
وبالجملة: لا ينبغي الإشكال في صحة بيع الكلي سلما أو حالا وجعل عمل
الحر عوضا، لا من باب أنه شبهة في مقابل البداهة، بل لعدم كونه شبهة أصلا، فإن
قوله عليه السلام: (لا بيع إلا في ملك) (1) ونحوه (2) ليس المقصود منه أنه يعتبر أن يكون

(1) المستدرك للحاكم: كتاب البيوع ج 2 ص 17. عوالي اللآلي: ج 2 ص 247 ح 16 مع
اختلاف يسير.
(2) من لا يحضره الفقيه: ج 3 ص 242 - 243، ح 3886.
103

المبيع مملوكا قبل البيع، بل المراد منه أنه لا يجوز بيع مال الغير، أو لا يجوز بيع
ما لا يقبل التملك كالخمر ونحوه.
إن قلت: مقتضى ما ذكر في تعريف البيع من أنه تبديل طرف الإضافة بمثله
أن يكون كل من المضاف إليهما موجودا فعلا حتى يتبدل أحدهما بالآخر، والمن
من الحنطة التي يبيعها البائع حين البيع ليس مالا للبائع وبعده مال للمشتري.
قلت: كما أن نفس الإضافة ليس إلا اعتباريا فكذلك المضاف إليه والتبديل
يقع بين الحنطة والثمن، فالحنطة التي هي مال عرفا وتقابل بالمال تنتقل إلى
المشتري، والثمن إلى البائع.
وبالجملة: المن من الحنطة مال يبذل بإزائه مال، فيجعله البائع معوضا
ويملكه المشتري بإزاء الثمن، ولم يقم برهان على لزوم كون الحنطة ملكا للبائع أو
مالا له قبل البيع، فلا إشكال في ذلك رأسا.
ولا يقال: لو كان عمل الحر من الأموال لكان حابسه ضامنا، كما أفاده
العلامة (1) في حبس الدار والعبد، ولم يفرق قدس سره بين استيفاء المنفعة أو فواتها تحت
اليد، ولزم كونه مستطيعا إذا كان قادرا على عمل يكون عوضه مما تتحقق به
الاستطاعة، ولزم حجره عن عمله كحجره عن ماله.
لأنا نقول: الضمان في مسألة الدار والعبد إنما هو من جهة أن منفعتهما يكون
تابعا للاستيلاء عليهما، وأما الحر فلا يدخل تحت استيلاء غيره حتى يستولي على
منفعته تبعا.
وبالجملة: المدار في الضمان هو دخول المضمون به تحت اليد، فمجرد كون
منافع العبد مالا لا يوجب الضمان، بل لكونها تحت الاستيلاء.
وأما مسألة الاستطاعة فالمدار فيها هو المالية الفعلية لا القوة. ولذا لا نقول
باستطاعة من عنده أملاك لو آجرها من غيره سنين عديدة لاستطاع، فالمدار في
الاستطاعة هو الواجدية الفعلية. نعم، الاستطاعة الشأنية موجبة لعدم استحقاقه

(1) كما في التذكرة: كتاب الغصب، ج 2 ص 381 س 34 وما بعده.
104

الزكاة وإن قيل (1) في هذا الباب أيضا: إنه لو لم يشتغل الصانع بصنعته يجوز
إعطاؤه الزكاة.
وأما مسألة الحجر فالظاهر أيضا عدم التزام الأصحاب بحجر الشخص عن
منافع أمواله، ولا يؤاجرون أراضي المفلس، فيدخلون منافعها فيما يتعلق به حق
الغرماء.
وكيف كان، لا يعتبر في المعاملة إلا انتقال أحد المالين بدلا عما ينتقل إلى
الآخر، أي لا يعتبر التبادل في مقام الخروج، بل يكفي التبادل في مقام الدخول،
فيصح بيع الكلي بالكلي كما يصح في الشخصيين. هذا كله حال المعوض.
وأما العوض فيصح كونه عينا ومنفعة.
وما يقال: إن البيع لنقل الأعيان فالمقصود هو المبيع، فإن هذا الكلام في مقابل
الإجارة التي هي لنقل المنافع.
ثم إن العين التي تجعل عوضا لا فرق بين كونها شخصيا أو كليا بجميع
أقسامه. كما أن المنفعة التي تجعل عوضا للمبيع لا فرق بين كونها منفعة الأموال أو
عمل الحر، ولا إشكال في ذلك كله، إنما الكلام في أنه هل يصح جعل الحقوق
عوضا، أو يعتبر أن يكون العوض عينا أو منفعة؟.
وتحقيق الأمر مع توضيح عبارة الكتاب في ضمن أمور:
الأول: أن قول المصنف: (وأما الحقوق الأخر) فالتقييد بالآخر (2) - لو كان
موجودا في نسخة الأصل - إنما هو لإخراج العين والمنفعة، فإن الحق يطلق على
عنوان عام يشمل كل ما وضعه الشارع وجعله، فالحكم والعين والمنفعة والحق
بالمعنى الأخص داخل تحت هذا العنوان،
فإن الحق معناه اللغوي (3) هو الثبوت،

(1) قاله المولى النراقي في المستند: كتاب الزكاة ج 2 ص 45 س 24.
(2) التقييد بالآخر غير موجود في نسخ المكاسب المتوفرة لدينا، لكن أثبتها غير واحد من
المحشين عليه كالإشكوري والآخوند واليزدي، لاحظ: بغية الطالب: ص 3 س 5، حاشية
الآخوند: ص 3، حاشية اليزدي: ص 55 س 23.
(3) انظر المصباح المنير: (مادة حقق) ص 143.
105

وحق الجار على الجار والوالد على الولد ونحوهما من الأحكام عبارة عن ثبوتها،
وهكذا ملكية العين أو المنفعة من الحقوق والأمور الثابتة كحق الخيار، وحق
الشفعة.
وبعبارة أخرى: إطلاق الحق على العين والمنفعة إطلاق شائع كإطلاقه على
الحكم. نعم، الحق بالمعنى الأخص مقابل لذلك كله، فإنه عبارة عن إضافة ضعيفة
حاصلة لذي الحق، وأقواها إضافة مالكية العين، وأوسطها إضافة مالكية المنفعة.
وبتعبير آخر: الحق سلطنة ضعيفة على المال، والسلطنة على المنفعة أقوى منها،
والأقوى منهما السلطنة على العين، فالجامع بين الملك والحق هو: الإضافة الحاصلة
من جعل المالك الحقيقي لذي الإضافة المعبر عنها بالواجدية، وكون زمان أمر
الشئ بيد من جعل له، وكونه ذا سلطنة وقدرة، وهذه الإضافة لو كانت من حيث
نفسها ومن حيث متعلقها تامة بأن تكون قابلة لأنحاء التقلبات فتسمى ملكا.
ولو كانت ضعيفة إما لقصور نفس الإضافة كحق المرتهن بالنسبة إلى العين
المرهونة، وإما لقصور في متعلقه: كحق التحجير وحق الخيار بناء على تعلقه بالعقد
الغير القابل لما عدا الفسخ والإجارة وحق الاختصاص بالنسبة إلى الأشياء الغير
المتمولة كالخمر القابل للتخليل فتسمى حقا.
وعلى هذا، فلو لم يكن المجعول الشرعي مستتبعا للإضافة والسلطنة فليس إلا
حكما، وتسميته بالحق إنما هو بلحاظ معناه اللغوي، وأما الاصطلاحي فالفرق
بينه وبين الحكم واضح جدا، فإن الحكم الشرعي هو المجعول المتعلق بعمل
المكلفين اقتضاء أو تخييرا، وهو وإن اشترك مع الحق في بعض الآثار: كجواز
رجوع الواهب عن الهبة وجواز فسخ ذي الخيار إلا أنهما متباينان سنخا، فإن
الجواز في الأول حكم شرعي، بخلاف الثاني فإنه ملك وإضافة.
وبالجملة: الجواز في الهبة كاللزوم في النكاح من الأحكام الشرعية، وهذا
بخلاف الجواز في البيع الخياري واللزوم في البيع الغير الخياري فإنهما من
106

الحقوق. وسيجئ إن شاء الله في المعاطاة وفي أحكام الخيار ما يوضح الفرق
بين البابين.
وكيف كان، فإذا كان الحق عبارة عن اعتبار خاص الذي أثره السلطنة
الضعيفة على شئ ومرتبة ضعيفة من الملك فهو بجميع أقسامه وأنحائه قابل
للإسقاط كما أفاده شيخنا السعيد الشهيد (1) وجعل هذا هو الضابط التام في الفرق
بين الحق والحكم.
فما أفاده السيد قدس سره في حاشيته (2) على المتن - من تقسيم الحقوق أولا إلى
ما يقبل الإسقاط وما لا يقبل، وجعل من الثاني حق الأبوة، وحق الولاية للحاكم،
وحق الاستمتاع بالزوجة، وحق السبق في الرماية قبل تمام النضال، وحق
الوصاية - لا وجه له، فإن كون الشئ حقا وغير قابل للإسقاط لا يعقل، وإطلاق
الحق على ما ذكره من الأمثلة مثل: إطلاق الحق على سائر الأحكام كحق المؤمن
على المؤمن، وحق الجار على الجار فإن الأبوة والولاية ونحوهما من الأمثلة
ليس لعلاقة حاصلة للأب والحاكم، إذ لم يجعل للولي إضافة أثرها السلطنة على
المولى عليه أو على ماله فلا يكون من مقولة الجدة، بل من الأحكام الشرعية كما
هو قدس سره أيضا يحتمل هذا المعنى، حيث قال: ويمكن أن يقال: إنها أو جملة منها من
الأحكام لا من الحقوق (3).
والعجب أنه قدس سره في صدر المسألة يعرف الحق: بأنه نوع من السلطنة،
ومرتبة ضعيفة من الملك، بل نوع منه، وصاحبه مالك لشئ يكون أمره إليه! (4)
ومع هذا يقسم الحقوق إلى ما يقبل الإسقاط وما لا يقبل، فإنه لو لم يقبل الإسقاط
فكيف يكون له السلطنة؟ وكيف يكون زمام أمره بيده؟.
وبالجملة: قوام الحق بقابليته للإسقاط، وهذا بخلاف الحكم فإنه بعكس ذلك.

(1) كما في القواعد والفوائد: ج 2 ص 43.
(2) حاشية المكاسب للسيد اليزدي: كتاب البيع، ص 56 س 6 وما بعده.
(3) حاشية المكاسب للسيد اليزدي: كتاب البيع ص 56 س 7.
(4) حاشية المكاسب للسيد اليزدي: كتاب البيع ص 55 س 26.
107

ثم إنه لو شك في شئ أنه من الحق أو الحكم فليس هنا أصل يعين كونه من
أي منهما فالمرجع هو الأصول العملية، والأصل يقتضي عدم سقوطه، لاستصحاب
بقاء ما كان قبل الإسقاط.
الثاني: بعد ما عرفت أن الحق بجميع أقسامه قابل للإسقاط فيقع البحث عن
قابليته للنقل أو الانتقال إلى الغير أم لا.
فنقول: منها ما لا يقبل لغير الإسقاط: كحق القذف.
ومنها: ما يقبل النقل إلى الغير إما بلا عوض: كحق القسم على ما ذكره
جماعة (1)، فإنه قابل للنقل إلى من هو مثله كالضرة، ولكن لا يجوز أخذ العوض
عليه. وإما مع العوض كحق التحجير.
ثم ما كان قابلا للنقل إما يجوز نقله إلى كل أحد: كحق التحجير، أو لا يكون
كذلك كحق القسم على ما عرفت من أنه لا يجوز نقله إلا إلى الضرة.
ثم إن منها ما يكون قابلا للانتقال إلى الغير، ولا يكون قابلا للنقل، إذ لا تلازم
بينهما، فإن الخيار ينتقل إلى الوارث ولا يصح نقله إلى الغير، فإن المدار في قابليته
للنقل على عدم تقومه بشخص خاص، والمدار في انتقال الحق إلى الوارث على
دخوله تحت ما تركه الميت.
ثم إن كون حق الخيار عبارة عن السلطنة على إمضاء الحق وفسخه، لا ينافي
كونه قابلا للإسقاط، وإن كانت نتيجة الإسقاط موافقة لإمضاء العقد الذي هو أحد
طرفي السلطنة إلا أن الإمضاء عبارة عن إعمال الحق، والإسقاط: عبارة عن
التجاوز عن الحق.
وبالجملة: كل ما كان حقا فهو قابل للإسقاط وإن كان موافقا في النتيجة مع
إعمال أحد طرفي السلطنة.
الثالث: أن كل حق كان قابلا للنقل إلى الغير: كحق القسم - مثلا - لا يقبل نقله
إلى من عليه الحق، لأن الحق لما كان نحوا من السلطنة على من عليه الحق فلا

(1) كالشهيدين في اللمعة وشرحها: كتاب النكاح ج 5 ص 423.
108

يعقل نقله إلى نفس من عليه الحق، سواء نقله مجانا أو بالعوض بالبيع والصلح
وغيرهما، لأنه لا يمكن أن يكون للإنسان سلطنة على نفسه بالنحو الذي كان
لطرفه عليه. هذا، مع أن في بعض الحقوق خصوصية تمنع من نقلها إلى من عليه
الحق: كحق الرهانة والشفعة والخيار.
فإن حق الرهانة عبارة عن سلطنة للمرتهن بها يستوفي دينه من الراهن، لأن
نتيجة الرهانة جعل العين المرهونة مخرجا لدين المرتهن، وهذا المعنى لا يمكن أن
يستحقه الراهن.
وكذلك حق الشفعة سلطنة بها يقدر الشريك على أخذ الشقص من المشتري
بالقيمة التي دفعها إلى البائع، وهذا المعنى لا يعقل أن يتقوم بالمشتري.
وهكذا الخيار فإنه لو كان للبائع فله سلطنة على فسخ العقد واسترجاع المبيع
إلى ملكه، وهذا المعنى لا يمكن أن يتسلط عليه المشتري، فإنه لو كان ذا خيار
يتسلط على استرجاع الثمن.
وبالجملة: لا يمكن نقل الحق إلى من هو عليه، لأن الانسان لا يمكن أن
يتسلط على نفسه.
فعلى هذا، مراد المصنف قدس سره من قوله: (والسر أن الحق سلطنة فعلية لا يعقل
قيام طرفيها بشخص واحد) (1) أن من له الحق ومن عليه الحق لا يمكن أن يكون
واحدا، وليس مقصوده أن الحق دائما قائم بشخصين، وإلا لانتقض عليه بحق
التحجير، فإنه ليس هناك شخص كان الحق عليه.
وعلى هذا، فمراده من قوله: (ولا ينتقض ببيع الدين على من هو عليه) (2)
أيضا واضح.
وحاصله: أن امتناع نقل الحق إلى من هو عليه، لعدم معقولية تسلط الانسان
على نفسه لا يرد عليه النقض ببيع الدين على من هو عليه، فإنه وإن استلزم تسلط
الانسان على ما في ذمته إلا أنه فرق بين الملك والحق، فإنه يمكن أن

(1) المكاسب: كتاب البيع ص 79 س 9 وما بعده.
(2) المكاسب: كتاب البيع ص 79 س 9 وما بعده.
109

يكون الانسان مالكا لما في ذمته، ولا يمكن أن يكون مسلطا على نفسه.
ولكنه لا يخفى عدم قابلية ما في الذمة لأن يكون مملوكا لمن هو عليه، وعدم
قابلية نقل الغير إليه ولو آنا ما، فصيرورة الانسان مالكا على نفسه آنا ما حتى
يسقط عنه وتبرأ ذمته مستحيل أيضا.
فالصواب أن يقال: بيع الدين على من هو عليه وإن كان صحيحا إلا أن البيع
لم يقع على ما في الذمة بقيد كونه في الذمة ليكون من قبيل مالكية الشخص لما في
ذمته، وذلك لأنه بهذا القيد لا يمكن تحققه في الخارج، ولا شبهة أنه يعتبر في
المبيع أن يكون من الأعيان الخارجية، بل يقع البيع على الكلي، وهو من من
الحنطة مثلا، فيصير المشتري - أعني المديون - مالكا لذلك الكلي على البائع.
وحيث إن البائع كان مالكا لمن من الحنطة على ذمة المديون - وهو المشتري -
فينطبق ما على البائع على ما كان له على المديون المشتري، فيوجب سقوط ذمة
كليهما. وهذا وإن لم يكن من التهاتر حقيقة إلا أنه أشبه شئ به.
أو يقال: إن المبيع هو الكلي في المعين، وهو ما في ذمة المديون لا بقيد أن
يكون في الذمة حتى يرد عليه إشكال عدم الانطباق على ما في الخارج، وإشكال
عدم معقولية مالكية الانسان لما في ذمته، بل بمعنى أن ظرفه الذمة وبالبيع ممن هو
عليه يسقط ما في ذمته، فتأمل (1).
إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى إمكان جعل الحق ثمنا في المبيع.
فنقول: قد ظهر أن بعض الحقوق يمكن نقله إلى الغير بالعوض، ولكن بعد
الفراغ من عدم إمكان جعل الحق مبيعا لما ظهر من اعتبار كونه من الأعيان فلا
يصح جعله منفعة فضلا عن كونه حقا. فيقع البحث في أنه هل تنحصر المعاوضة

(1) لا يخفى ما فيه: أما أولا: فلأن مجرد كون البيع في ذمة شخص معين لا يوجب دخوله في
الكلي في المعين، فإنه عبارة عن الكلي الخارجي المحدود كصاع من الصبرة.
وأما ثانيا: فلأن سقوط ما في الذمة فرع دخول المبيع في ملك المديون ولو آنا ما، فإذا امتنع
ذلك امتنع البيع، إلا أن يمنع عدم قابلية كون الانسان مالكا لما في ذمته بمقدار يستلزم
السقوط، ونظير ذلك ملك العمودين آنا ما الموجب للانعتاق، فتدبر جيدا (منه عفي عنه).
110

عليه بالصلح ونحوه، أو يمكن جعله ثمنا للمبيع؟ وجهان، بل قولان، والأقوى
عدم قابلية الحق، لوقوعه ثمنا في المبيع: كعدم قابلية وقوعه مثمنا، سواء جعل
نفس الإسقاط والسقوط ثمنا، أو جعل نفس الحق.
أما الأول: فلأن الثمن لا بد من دخوله في ملك البائع، والإسقاط بما أنه فعل
من الأفعال، والسقوط بما أنه اسم المصدر ليس كالخياطة وسائر أفعال الحر،
والعبد مما يملكه البائع ويكون طرفا لإضافة ملكية البائع ويقوم مقام المبيع في
الملكية، فإن هذا المعنى معنى حرفي غير قابل لأن يتمول إلا باعتبار نفس الحق،
وسيجئ ما فيه.
وبالجملة: نفس الإسقاط بما أنه فعل وأثره بما أنه اسم المصدر لا يقبل
الدخول في ملك الغير بحيث يتحقق بالنسبة إليه الخروج عن ملك المشتري إلى
ملك البائع ويكون البائع مالكا لهذا العمل، ولا يقاس بشرط الإسقاط في ضمن
عقد لازم، لأن في باب الشرط يملك المشروط له على المشروط عليه إسقاط
الحق أو سقوطه، ولا ملازمة بين قابليته للدخول تحت الشرط، وبين قابلية وقوعه
ثمنا، لأن إسقاط الحق يصير بالشرط مملوكا للغير على صاحب الحق، ولكنه
لا يمكن أن يكون بنفسه مملوكا ويحل محل المبيع في الملكية.
وأما الثاني - وهو جعل نفس الحق ثمنا بعد فرض كونه قابلا للنقل إلى الغير:
كحق التحجير - فلما عرفت أن في باب البيع يعتبر أن يكون كل من الثمن والمثمن
دخلا في ملك مالك الآخر، ولا شبهة أن الحق لا يكون قابلا لذلك، فإنه مباين مع
الملك سنخا وإن كان من أنحاء السلطنة بالمعنى الأعم ومن المراتب الضعيفة
للملك، ولكن كونه كذلك غير كاف لوقوعه عوضا، لأنه لا بد من حلول الثمن
محل المثمن في الملكية، فلا بد أن يكون كل منهما من سنخ الآخر.
خاتمة
قد ظهر إجمالا أن الفقهاء عرفوا البيع بتعاريف مختلفة:
111

فمنهم: من عرفه بأنه انتقال عين من شخص إلى غيره بعوض مقدر على وجه
التراضي (1).
ولا يخفى ما فيه، فإن الانتقال أثر البيع والشراء، لا أنه هو البيع.
ومنهم: من عرفه بالإيجاب والقبول الدالين على الانتقال (2).
وفيه أيضا: أن البيع هو المنشأ باللفظ، لا أنه نفس اللفظ، مع أن القبول - الذي
هو من فعل المشتري - ليس داخلا في حقيقة البيع الذي هو من فعل البائع.
وعرفه المحقق الثاني بنقل العين بالصيغة المخصوصة (3).
وأورد عليه المصنف قدس سره:
أولا: بأن النقل ليس مرادفا للبيع، ولذا لا يقع بلفظ (نقلت).
وثانيا: أن المعاطاة عند المحقق الثاني بيع مع عدم اشتمالها على الصيغة.
وثالثا: أنه لو كان معنى البيع هو نقل العين بالصيغة لزم أن تكون الصيغة منشأ
أيضا بالصيغة كما ينشأ النقل بصيغة خاصة، لأن البيع من مقولة المعنى فلا بد أن
ينشأ بلفظ يكون آلة لإنشائه، فلو كان نفس الصيغة أيضا جزءا من مدلول البيع فلا
محيص إلا عن إنشائها باللفظ. ولو لم تكن الصيغة جزءا من مدلول البيع بل كان
البيع هو نفس النقل الذي ينشأ بصيغة خاصة فالصيغة التي ينشأ بها هذا القسم من
النقل ليس إلا لفظ (بعت)، فيلزم الدور، لأنه في مقام تعريف البيع جعل من
أجزاء الحد لفظ (بعت)، فكأنه قال: البيع هو نقل العين بلفظ (بعت). ولو قيل: إن
الصيغة التي ينشأ بها هذا النقل الخاص ليس خصوص بعت، بل يمكن إنشاؤه
ب‍ (ملكت) فلا دور (4).

(1) مر تخريجه في الصفحة: 95 فراجع.
(2) منهم المحقق في المختصر النافع: ص 118، والشهيد في الدروس: كتاب البيع ج 3
ص 191، والفاضل السيوري في التنقيح: في البيع ج 2 ص 23.
(3) كما في جامع المقاصد: كتاب المتاجر ج 4 ص 55. وفيه: (نقل الملك).
(4) المكاسب: كتاب البيع ص 79 س 16 وما بعده مع اختلاف يسير.
112

يجاب عنه بأنه وجب الاقتصار على مجرد التمليك والنقل. ولكنه لا يخفى
عليك أنه بعد ما ظهر أن هذه التعاريف تقريبية لا يرد عليه هذه الإشكالات، مع
أن الإشكال الأول والثالث لا يردان عليه.
أما الأول: فلأن النقل وإن لم يكن مرادفا للبيع إلا أنه ليس مباينا له، بل هو
أعم من البيع، لشموله النقل المكاني دونه. وعدم صحة إنشاء البيع بلفظ (نقلت)
لا يكشف عن تباين معناهما، فإن عدم إمكان إنشاء المعنى الخاص باللفظ العام
إنما هو لأن المعنى أمر بسيط، وليس له جنس وفصل حتى يمكن إنشاء جنسه
أولا ثم فصله.
وبعبارة أخرى: إنشاء الأمر البسيط لا يعقل تحققه تدريجا، فلا يمكن إنشاء
النقل الذي هو بمنزلة الجنس ثم إنشاء ما هو المميز بين البيع وغيره، بل لا محيص
عن إنشاء المعنى الخاص باللفظ الموضوع لهذا المعنى.
ثم لا يخفى عليك ما في حاشية السيد (1) قدس سره في هذا المقام من توهم إمكان
التمليك بدون النقل، ولذا بنى على مغايرتهما.
وبالجملة: حقيقة البيع هو الأمر الاعتباري وتبديل المالين في أحد طرفي
الإضافتين.
وأما الثالث: فليس مقصود المحقق إلا بيان امتياز هذا النقل عن النقل
المكاني، وأن البيع ليس مجرد تبديل المالين في المكان، بل التبديل في عالم
الاعتبار الذي يتوقف على إنشاء من بيده هذا الأمر الاعتباري، وليس مقصوده أن
النقل بالصيغة داخل في مفهوم البيع حتى تتوقف الصيغة على الإنشاء أيضا، وإلا
لو رد هذا الإشكال على المصنف أيضا، فإنه في مقام التعريف قال: (إنه إنشاء
تمليك عين بمال) (2).

(1) حاشية السيد اليزدي على المكاسب: في تعريف البيع وبيان حقيقته ص 59 س 27.
(2) المكاسب: كتاب البيع ص 79 س 20.
113

فيرد عليه: أن الإنشاء أيضا يتوقف حصوله على الإنشاء.
وأما ما أفاده من أنه لو كان مراده أن البيع نفس النقل الذي هو مدلول الصيغة
فجعله مدلول الصيغة إشارة إلى تعيين ذلك الفرد من النقل، لا أنه مأخوذ في
مفهومه فيرد عليه إشكال الدور، فمندفع.
أولا: بأنه ليس في مقام التعريف الحقيقي.
وثانيا: المراد من الصيغة هو لفظ (بعت)، فكأنه قال: البيع: هو النقل بلفظ
(بعت)، ولا يلزم العلم بمعنى بعت كما لا يخفى.
وكيف كان، فتعريف المصنف قدس سره بأنه إنشاء تمليك عين بمال (1) يرد عليه ما
أورد (2) على المحقق الثاني من أن الإنشاء مستدرك. ولو كان غرضه التعريف بما
يشمل البيع الفاسد - أي تعريفه بأنه التمليك الإنشائي، سواء تحقق التمليك أم لا -
ففيه ما عرفت من أن المقصود لو كان التعريف بالحد فلا وجه للتعريف بما لا يدخل
في حقيقة المعرف.
ثم إنه ظهر مما تقدم أن حقيقة الصلح والهبة المعوضة غير حقيقة البيع، وليس
المنشأ بهما تمليك العين بالمال. نعم، شبهة شمول هذا التعريف للقرض متطرقة،
ولكن دفعها واضح، فإن القرض وإن كان مفيدا للتمليك إلا أن العوض فيه ليس
عوض المسمى، بل العوض الواقعي، فكأنه مركب من تمليك وضمان.
وبالجملة: الأولى في تعريف البيع أن يقال: هو تمليك العين بالعوض في
ظرف تملك المشتري.
وأما تعريفه بأنه إنشاء تمليك عين بمال. فيرد عليه:
أولا: ما أورد (3) على المحقق الثاني: من أن الإنشاء أيضا لا بد من إنشائه.
وثانيا: يقتضي كون البيع إيقاعا وغير متوقف على القبول.

(1) مر آنفا.
(2) تقدم في الصفحة: 112.
(3) تقدم في الصفحة: 112.
114

وثالثا: يلزم أنه لو أقر ببيع داره ثم قال: قصدت الإيجاب وحده أن يسمع قوله.
قوله قدس سره: (الكلام في المعاطاة... إلى آخره).
لا يخفى أنه بعد الفراغ عن صحة إنشاء عناوين العقود بالقول وقع البحث في
صحة إنشائها بالفعل، وحيث إن محل الأقوال وتنقيح البحث عنها يتوقف على
بيان ما يتصور من قصد كل واحد من المتعاطيين على طبق ما قصده الآخر، فقدمه
المصنف عليها، ونحن نتبعه على ما رتبه.
فنقول: ينحصر قصدهما كذلك في وجهين:
أحدهما: أن يقصد كل منهما إباحة التصرف للآخر.
وثانيهما: أن يتعاطيا على وجه التمليك.
وأما وقوع الدفع من غير قصد التمليك ولا الإباحة ولا سائر العناوين الخاصة
فغير متصور، لأن الإعطاء والأخذ من دون قصد عنوان من العناوين لا يتصور إلا
من العابث واللاعب.
كما أن قصد التمليك المطلق مع العوض المسمى ليس إلا قصد البيع، لما
عرفت (1) أن البيع عبارة عن تبديل العين بالعوض.
وأما الأقوال فعمدتها أربعة - فإن القول: بأن الفعل حكمه حكم المقبوض
بالعقد الفاسد لا يترتب عليه الملكية، ولا الإباحة، إلا إذا أباح التصرف من دون
ابتناء على الفعل فشاذ -:
الأول: إفادته الملك اللازم.
الثاني: إفادته الملك الجائز.
الثالث: إفادته الإباحة المطلقة.
الرابع: إفادته إباحة التصرفات الغير المتوقفة على الملك.

(1) لاحظ ما تقدم منه قدس سره في الصفحة: 114.
115

ثم إنه وقع البحث في أن مورد هذه الأقوال هو ما إذا قصدا بالفعل التمليك، أو
ما إذا قصدا به الإباحة. وبعضها مبني على الأول، وبعضها مبني على الثاني.
ينسب (1) إلى المشهور إفادة التعاطي الإباحة ولو قصدا به التمليك. وحيث إن
هذا المعنى مناف ظاهرا لما هو المسلم عندهم من أن العقود تابعة للقصود وأن
ما لم يقصد لا يقع، حمل المحقق الثاني الإباحة في كلامهم على الملك الجائز.
فقال: (مقصودهم من أنه لو قصد التمليك يفيد الإباحة أنه يفيد الملك
الجائز) (2).
وحمل صاحب الجواهر مورد كلامهم في إفادته الإباحة على ما إذا قصد
الإباحة (3)، وتعجب ممن جعل محل الكلام ما إذا قصد التمليك! ولا يخفى بعد
هذين التوجهين.
أما الأول: فلأن حمل الإباحة على الملك الجائز خلاف الظاهر، مع أنه لا
يقبل هذا الحمل جملة من عبارات الأساطين كعبارة الخلاف (4) ونحوها، فإن نفي
البيعية وإثبات الإباحة لا يلائم القول بأن المقصود من الإباحة هو الملك الجائز.
وأما الثاني فأبعد وجها من الأول.
أما أولا: فلأنه لا يمكن أن يكون مورد قصد الإباحة محلا للنزاع في إفادته
الإباحة أم لا، بل إفادة الإباحة في صورة قصدها من الأمور الواضحة.
وأما ثانيا: فلأن بعض عباراتهم صريح في أنه إذا قصدا التمليك تتحقق
الإباحة: كعبارة الغنية (5) والسرائر (6).

(1) الناسب الشهيد الثاني في المسالك: كتاب التجارة ج 1 ص 169 س 33.
(2) جامع المقاصد: كتاب المتاجر، ج 4 ص 58. ولم نعثر على العبارة نصا، بل مضمونا.
(3) جواهر الكلام: كتاب التجارة ج 22 ص 224 - 225.
(4) الخلاف: كتاب البيوع ج 3 ص 41 مسألة 59.
(5) غنية النزوع (الجوامع الفقهية): كتاب البيع ص 524 س 23 وما بعده.
(6) السرائر: كتاب المتاجر والبيوع ج 2 ص 250.
116

وعلى هذا، فتوجيه السيد قدس سره في حاشيته على المتن عبارة الجواهر من
أنه قدس سره لا ينكر أن محل النزاع هو مورد قصد التمليك، إلا أنه يقول: إن مرادهم
من قولهم: إنها تفيد الإباحة أنها تفيدها في صورة قصدها (1) فغير مفيد، لأن ما هو
محل النزاع الذي هو مورد قصد التمليك هو محل الأقوال الأربعة أو أزيد.
وبالجملة: استبعاد هذا المعنى، وهو أنه كيف يقع ما لم يقصد؟ دعاهما إلى
توجيه أحدهما الإباحة بالملك المتزلزل، وتوجيه ثانيهما إفادة التعاطي للإباحة
بما إذا قصداها، بل قال: الثاني: أن القول بالإباحة الخالية عن الملك مع قصد
الملك مما لا ينسب إلى أصاغر الطلبة فضلا عن أعاظم الأصحاب (2).
ولكنه لا يخفى أن الالتزام بإفادة التعاطي الإباحة في صورة قصد التمليك لا
استبعاد فيه، وتوجيه ذلك بوجوه:
الأول: ما يظهر من بعض (3) من أن الشارع رتب تعبدا الإباحة على الفعل
الذي أوجد بقصد التبديل في طرفي الإضافتين، وهذا نظير ما يقال: من أن الشارع
رتب على النكاح بقصد التمتع إذا نسيا ذكر الأجل النكاح الدائمي.
الثاني: أن تحقق التمليك مشروط بشرط متأخر، وهو تحقق أحد الملزمات
نظير توقفه في بيع الصرف على القبض، وإنما يباح التصرف في باب المعاطاة، ولم
يجز في باب الصرف، للسيرة التي هي العمدة في الباب، دون باب الصرف والسلم.
وبعبارة أخرى: هذا القائل يلتزم بحصول الملك من جهة قصد التمليك وإيجاد
ما هو مصداق للبيع، غاية الأمر مشروطا بأمر متأخر على نحو صحيح فيؤول إلى
البيع، ويجوز التصرف قبل حصول الملك، لتضمن التمليك الإباحة أيضا، أو
للسيرة.

(1) حاشية المكاسب للسيد اليزدي: كتاب البيع ص 67 س 3 وما بعده.
(2) جواهر الكلام: كتاب التجارة ج 22 ص 225.
(3) يظهر من المحقق الأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان: كتاب المتاجر ج 8 ص 140.
117

الثالث: ما وجهه به شيخنا الأستاذ (1) - مد ظله - على نحو لا ينافي تبعية
العقود للقصود، وتوضيح ذلك يتوقف على بيان أمور:
الأول: أن عناوين الأفعال تارة تكون عنوانا أوليا لها كعنوان الصرف والقتل
والقيام والقعود. وأخرى تكون عنوان ثانويا، توليديا كانت أو لم تكن كالاحتراق
المترتب على الألقاء فإنه مسبب توليدي، والتألم المترتب على الضرب، والتعظيم
أو الإهانة المترتب على القيام أو القعود، والتمليك والتملك المترتبين على
التعاطي، ونحو ذلك من العناوين الثانوية المترتبة على الأفعال كالرجوع في
الطلاق الرجعي الحاصل بالوطئ وكالاجارة في العقد الفضولي، والفسخ أو الرد
في العقد الخياري الحاصل بالتصرفات الفعلية.
ثم العنوان الثانوي تارة يترتب على الفعل قهرا، وأخرى مع القصد، وعلى كلا
التقديرين تارة يكون من الأمور الخارجية، وأخرى من الأمور الاعتبارية.
ثم لا يخفى أن العنوان الثانوي القصدي سواء كان تأصليا أو اعتباريا
لا يترتب على الفعل إلا إذا قصد هذا العنوان الثانوي.
وأما إذا كان قهريا فلا يعتبر قصده، بل نفس قصد الفعل كاف لصدور هذا
العنوان عن قصد واختيار من الفاعل، فإن من قصد الضرب ولو لم يقصد الإيلام
يترتب عليه قهرا، ويصدر عنه اختيارا بل عمدا ولو قصد خلافه. وسيجئ - إن
شاء الله - في باب خيار الحيوان أن التصرفات المالكية موجبة لتحقق الإجازة ولو
لم يقصد منها عنوان الإجازة. ويشهد له قوله عليه السلام (وذلك رضا منه) (2)، أي: ذلك
اختيار منه. وتحقق في محله أن وطئ الزوجة المطلقة الرجعية يترتب عليه
الرجوع وإن قصد به الزنا.

(1) هو الميرزا الشيرازي الكبير، له كتاب في الفقه من أول المكاسب إلى آخر المعاملات، وهو
غير متوفر لدينا.
(2) الكافي: ج 5 ص 169 ح 2. عنه في الوسائل: ب 4 من أبواب الخيار قطعة من ح 1 ج 12
ص 350 - 351.
118

الثاني: أن العناوين المنشأة بالقول أو الفعل لا بد أن يكون القول أو الفعل فيها
مصداقا لهذا العنوان بالحمل الشائع الصناعي، بحيث يحمل هذا العنوان عليه
كحمل الطبيعي على مصاديقه، فإذا لم يكن الفعل مصداقا لعنوان خاص فلا يكاد
يتحقق هذا العنوان ولو قصد تحققه منه، فلو ضرب الرجعية بالعصا لا يتحقق
الرجوع ولو قصد بضربها الرجوع، فقصد عنوان من الفعل الذي لا يكون مصداقا
لهذا العنوان - لا محالة - يكون من الدواعي لإيجاد الفعل، فإن فعل الفاعل لو لم
يترتب عليه هذا الداعي لا بلا واسطة ولا مع الواسطة فلا يمكنه قصده من الفعل،
بل لا محالة يكون الفعل من العلل الاعدادية لهذا الداعي، بل لو أخطأ الفاعل
وتخيل ترتبه على الفعل فلا يكون الفعل أيضا مصداقا لهذا الذي تخيل ترتبه عليه،
بل يكون داعيا لا محالة.
وبالجملة: الدواعي هي التي توجب إيجاد الأفعال التي يترتب عليها عنوان
آخر، ويكون هذا العنوان علة إعدادية لتحقق الداعي كالسقي والحرث والزرع
لحصول الحنطة ونحوها.
الثالث: أن تخلف الدواعي وغايات الأفعال لا يضر بتحقق عناوينها ولو قصد
من إصدار الفعل هذه الغاية، ولا يخرج الفعل عن كونه قصديا وإراديا، لأنه إذا
فرضنا أن عنوانا قصديا قصد من الفعل لأجل غاية ولم يترتب عليه هذه الغاية
- كما إذا اشترى شيئا لأجل الضيف ولم يجئ الضيف - فهذا العنوان القصدي
كالتملك يحصل من الشراء، وهكذا العنوان الثانوي القهري أيضا يترتب على
الفعل ولو لم يترتب عليه غايته، وذلك واضح.
إذا عرفت ذلك فيمكن أن يوجه ما أفاده المشهور: من أنه ولو قصدا
بالتعاطي التمليك لا يترتب عليه إلا الإباحة، بأن الفعل حيث لم يكن بالحمل
الشائع الصناعي مصداقا للبيع فقصده وإيجاد ما هو غير مصداقه لا يفيد الملك،
وذلك لأن البيع - على ما عرفت - (1) هو التبديل، وحيث إن التبديل ليس تبديلا

(1) تقدم في الصفحة. 115
119

خارجيا، بل تبديل أحد طرفي الإضافة بمثله، وهذا أمر اعتباري من سنخ
المعاني، وما هو موجده وآلة إيجاده هو القول فقط، فإن الفعل الماضي - مثلا - هو
آلة لإنشاء ما جعل مادة لهيئته، والفعل ليس مصداقا لهذا العنوان بالحمل الشائع
الصناعي، فقصد عنوان التمليك وإيجاد ما ليس مصداقا له لا أثر له. وأما ترتب
الإباحة عليه مع عدم قصدها فلما عرفت (1): من أنه إذا كان عنوان ثانوي مترتبا
على الفعل قهرا فقصد العنوان الثانوي غير لازم، بل قصد خلافه أيضا لا يضر.
ولا إشكال أن الإباحة المالكية ليست إلا التسليط الخارجي وإدخال العين
من مالكها تحت استيلاء الغير، والفعل هو بنفسه مصداق للتسليط الخارجي، فقصد
التمليك منه لا يخرجه عن التسليط الخارجي.
فلا يقال: إن ما قصد لم يقع وما وقع لم يقصد، لأن عدم وقوع ما قصد إنما يضر
إذا لم يكن ما قصد من دواعي الفعل، ووقوع ما لم يقصد إنما لا يصح إذا كان الواقع
من العناوين القصدية. وأما إذا كان من العناوين القهرية فنفس قصد الفعل كاف
لوقوع العنوان الثانوي القهري. هذا غاية ما يوجه به كلام المشهور.
ولكن لا يخفى ما فيه:
أما أولا: فلأنه يلزم على هذا أن يكون المقبوض بالعقد الفاسد أيضا مفيدا
للإباحة، لا سيما إذا كان المعطي عالما بالفساد، فإن بين المقبوض بالعقد الفاسد
والمقام وإن كان فرق - إذ القبض هناك لا ينشأ به الإباحة، بل يقع مبنيا على العقد
ووفاء به، وأما القبض في المقام فينشأ به التسليط ويقع نفس الفعل مصداقا
للتسليط المالكي - ولكن هذا الفرق غير فارق، لأن قصد الوفاء في ذلك الباب
كقصد التمليك في المقام، فإذا كان قصد التمليك لغوا لكونه من الدواعي فكذلك
قصد الوفاء، فإذا كان نفس الفعل مصداقا للتسليط وكان نفس قصد الفعل كافيا
لتحقق عنوان الإباحة فلا بد أن يكون كافيا في باب المقبوض بالعقد الفاسد، مع

(1) تقدم في الصفحة: 118.
120

أنه ادعي (1) الاجماع على أن المقبوض بالعقد الفاسد حكمه حكم المغصوب في
عدم جواز التصرف فيه.
وأما ثانيا: فلأن الفعل بنفسه لا يفيد التسليط التمليكي، ولا الإباحة، ولذا قلنا:
إن المتعاطيين لو لم يقصدا عنوانا من العناوين يقع الفعل لغوا فإفادته النقل أو
الإباحة ونحوهما إنما هو بالقصد، فالفعل بمنزلة المادة المشتركة قابلة لقصد أحد
العناوين به.
وما قلنا: من أن الفعل لا بد أن يكون بالحمل الشايعي مصداقا لعنوان ينشأ به
لا ينافي أن يكون الفعل مع القصد مصداقا لذلك العنوان.
وبعبارة أخرى: لم نقل: إن الفعل المجرد عن القصد لا بد أن يكون مصداقا
لعنوان ما ينشأ، فإذا كان مصداقيته لعنوان بقصد ذلك العنوان فكل عنوان كان الفعل
مع قصد هذا العنوان مصداقا له ينشأ به، إلا إذا كان هذا العنوان من العناوين التي
لا يمكن أن ينشأ بالفعل كالصلح والنكاح مثلا، فإن الصلح الذي هو التسالم على
أمر لا يكون الفعل مصداقا له، ولا يمكن أن يكون مما ينشأ به، وهكذا النكاح، فإن
الفعل سفاح ومصداق لضد النكاح.
وبالجملة: دعوى: أن الفعل مصداق للتسليط المالكي المفيد للإباحة دون
التمليك لا تبتني على أساس، بل الفعل مشترك بين هذين العنوانين والقرض
والعارية ونحو ذلك، ويتميز كل عن غيره بالقصد، فإذا قصد به التمليك يتحقق به
الملكية.
نعم، التمليك الحاصل به ليس لازما كما سيظهر وجهه، ولكن هذا غير عدم
إفادته التمليك، فقياس التمليك بالصلح والنكاح مع الفارق.
هذا، مع أنه لو قلنا بأن الفعل مع قصد التمليك أيضا ليس مصداقا لعنوان البيع
فإن الفعل ليس من سنخ الألفاظ التي ينشأ بها المعاني، بل هو مصداق للتسليط

(1) ادعاه العلامة في التذكرة: كتاب البيع ج 1 ص 495 س 21.
121

المالكي ليس إلا، إلا أنه لا شبهة أن تسليط المالك على جميع أنحاء التصرفات
المتوقفة على الملك لازم مساو للبيع. وسيجئ - إن شاء الله - أن عناوين العقود
والإيقاعات يصح إنشاؤها بما يكون لازما مساويا لها، ولا يقاس باب اللازم
المساوي بباب الكنايات والمجازات والأجناس والفصول.
إن قلت: فعلى هذا يصح إنشاء البيع بلفظ (سلطتك) على جميع أنحاء
التصرفات.
قلت: الفرق بين الفعل ولفظ (سلطتك) أنه قامت السيرة على الفعل، ولم تقم
على هذا اللفظ، ومجرد اشتراكهما في المنشأ ما لم يقم دليل على صحته لا يفيد،
فتأمل جيدا.
وثالثا: إفادة الفعل الإباحة إنما يستقيم لو كان المقصود منها الإباحة بالعوض
الواقعي، فإن التسليط لو لم يقصد به المجانية لا يقتضي إلا ضمان المتسلط بالمثل
أو القيمة، وأما ضمانه بالمسمى فهذا خلاف ما تقتضيه الإباحة، لأن الضمان
بالمسمى من آثار التمليك، فتأمل.
ورابعا: المشهور القائلون بالإباحة في مورد قصد التمليك لا يفرقون بين
إباحة التصرفات الغير المتوقفة على الملك والمتوقفة عليه، مع أن اقتضاء الإباحة
جواز التصرفات المالكية متوقف على دليل، ولذا استبعد الشيخ الكبير (1) هذا
المعنى.
وكيف كان القول بأن قصد التمليك من الدواعي والإباحة من العناوين
القهرية لا يرجع إلى محصل.
فالأقوى أن يقال: إن التعاطي بقصد التمليك يفيد الملك الجائز، ولكن لا من
جهة حمل الإباحة في كلام المشهور على ذلك، بل لأن هذا مقتضى القواعد
الشرعية والأدلة المأثورة. أما إفادته الجواز فلما سيجئ توضيحه، وإجماله أن

(1) شرح القواعد للشيخ كاشف الغطاء (مخطوط): الورقة 50.
122

اقتضاءه الجواز من جهة عدم تحقق موجب اللزوم، فإن موجبه إما الحكم الشرعي
التعبدي كما في النكاح والضمان، وإما من جهة التزام المتعاقدين به مع الإمضاء
الشرعي كما في البيع العقدي والمعاطاة فاقدة لكل منهما.
والحاصل: أن الجواز على أقسام ثلاثة:
أحدها: الجواز الحكمي، كالجواز في الهبة مقابل اللزوم في النكاح.
ثانيها: الجواز الحقي، كالعقد الخياري، سواء كان الخيار بجعل شرعي كخيار
المجلس ونحوه، أو بجعل من المتعاقدين كخيار الشرط، فإن الجواز على كلا
التقديرين حق مالكي في مقابل اللزوم العقدي، بمعنى: أن الالتزام العقدي يملكه
أحدهما أو كلاهما على ما سيجئ في مبحث الخيار، ويظهر في محله أن حقيقة
الخيار هو ملك كلا الالتزامين.
وثالثها: الجواز، لعدم تحقق منشأ اللزوم كما في المعاطاة، فإن الفعل بقصد
تبديل أحد طرفي الإضافة بمثله لا يقتضي إلا نفس هذا التبديل، ولا يدل إلا على
التزام كل من المتعاقدين بما التزما به فلا التزام فيه، فلا موجب للزوم، وهذا
بخلاف القول، فإن قوله: (بعت) ينشأ به معنيان:
أحدهما بالمطابقة، وهو تبديل أحد طرفي الإضافة بمثله الذي يحصل بالفعل
أيضا.
وثانيهما بالالتزام، وهو التزام كل من المتعاقدين بما أوجداه من التبديل،
ومن هذه الجهة يسمى التبديل القولي (عقدا وعهدا مؤكدا). وهذا المعنى لا يمكن
أن يتحقق بالفعل الذي يحصل به التبديل، لأنه ليس للفعل دلالة الالتزام.
نعم، قد يوجد هذا المعنى بفعل آخر: كالمصافقة، كما هو المتعارف بين
الدلالين، أو بين المالك والمشتري.
وأما إفادته الملكية فلأن تبديل أحد طرفي الإضافة بمثله كما يتحقق بالقول
كذلك يتحقق بالفعل، غاية الأمر يتوقف تحققه به على قصد التمليك منه، والدليل
عليه صدق البيع عليه عرفا، فيدل على صحته جميع الأدلة الدالة على صحة البيع
123

بالقول، عدا قوله عز من قائل: (أوفوا بالعقود) (1)، لاختصاصه بما يتضمن العهد
المؤكد، وما يكون فيه عقد (2) وشد. بل لو نوقش في صدق البيع عليه فيكفي في
إفادته التمليك قوله عز من قائل: (إلا أن تكون تجارة عن تراض) (3).
ومنع كونه تجارة مكابرة محضة، فإن التجارة عبارة عن التكسب، ويكفي
أيضا السيرة القطعية من زماننا هذا إلى زمان الخاتم، بل إلى هبوط آدم، على نبينا
وآله وعليه السلام، فإن الناس يعاملون في المأخوذ بالمعاطاة معاملة الملك.
ولكنه لا يخفى أنه لو نوقش في صدق البيع عليه فالسيرة وآية التجارة
لا تفيدان لإثبات المدعى، لأنه بناء على جواز التصرفات المتوقفة على الملك
على الإباحة أيضا فغاية ما تفيده السيرة وآية التجارة هو: جواز التصرفات
المالكية، وهو لازم أعم.
إلا أن يقال: إن السيرة قائمة على إفادته الملك، أو أنه لا معنى للإباحة
بالعوض المسمى كما أشرنا إليه وسيجئ وجهه.
وكيف كان، منع صدق البيع عليه مكابرة واضحة. ودعوى الاجماع في كلام
بعضهم (4) على عدم كونه بيعا فمؤول على البيع اللازم، لا على أصل البيع، فإذا
صدق عليه البيع يكفي لصحته قوله تعالى: (إلا أن تكون تجارة عن تراض)، (5)
فإن المستثنى المنقطع يفيد عموم نفوذ كل تجارة عن تراض، لخروجها عن أكل
المال بالباطل.
وقوله تعالى: (أحل الله البيع) (6) بناء على تعلق الحلية بالحاصل من المصدر

(1) المائدة: 1.
(2) في الأصل المطبوع: (عقدة) والصواب ما أثبتناه.
(3) النساء: 29.
(4) كما ادعاه صريحا السيد ابن زهرة في غنية النزوع (ضمن الجوامع الفقهية) كتاب البيع
ص 524 س 26.
(5) النساء: 29.
(6) البقرة: 275.
124

ظاهر في الحلية الوضعية، كسائر الأحكام المتعلقة بالموضوعات الخارجية.
ولكن المصنف (1) قدس سره متأمل في ذلك، ووجه تأمله مقابلة الحلية في الآية مع
الحرمة الظاهرة في الحكم التكليفي، فإن حرمة الربا يراد منها ما يستحق على
مخالفتها العقاب، لا الفساد.
ولكنه يمكن أن يجاب عنه بأن الربا هنا بمعنى الزيادة، وهي المال المأخوذ
زائدا على أحد العوضين، فالحرمة فيها أيضا وضعية.
وبالجملة: فالحق في المقام أن يقال: إن الفعل الواقع من المتعاطيين بقصد
التمليك والتملك مصداق للجدة الاعتبارية ويتحقق به تبديل أحد طرفي الإضافة
بمثله، كما يتحقق به الجدة الاصطلاحية، ويكشف عنه السيرة المستمرة بين أهل
الشرائع في إنشاء التمليك والتملك به، وتصرف المتعاطيين فيما انتقل إليهما حتى
ما يتوقف على الملك، فمنع صدق البيع عليه لا وجه له أصلا، فإذا صدق عليه البيع
يكون من أفراد التجارة عن تراض، ومن مصاديق قوله عز من قائل: (وأحل الله
البيع) (2)، من غير فرق بين أن يجعل الاستثناء في الآية الأولى من الاستثناء
المنقطع، أو من المتصل، بأن يكون الاستثناء راجعا إلى مطلق الأكل، ويكون معنى
الآية: لا تتصرفوا في أموا لكم بنحو من الأنحاء فإنه باطل، إلا التجارة عن تراض،
لأنه - على أي حال - يدل على نفوذ التجارة عن تراض، وأنها مما يجوز.
ومن غير فرق في الآية الثانية بين أن يراد من الحلية الحلية الوضعية، أو
التكليفية.
أما على الأول: فواضح، فإن تعلق الحل والحرمة بالأعيان الخارجية بلحاظ
تعلق فعل المكلف بها ظاهر في صحتها ونفوذها بالمطابقة.
وأما على الثاني فلأن متعلق الحل هو المسبب، أي نفس التمليك والتملك،
فإذا كان التمليك حلالا فمعناه: أنه يتحقق كما لو قيل: إن بيع المصحف من الكافر

(1) المكاسب: كتاب البيع: ص 83 س 18.
(2) البقرة 275.
125

حرام، فإن معناه: أنه لا يقع، لأن معنى حلية التملك وحرمته أن إيجاد المسبب بيد
موجده أوليس بيده. فعلى هذا يرد على المصنف قدس سره:
أولا: بأنه لا وجه للتأمل في كون الحل في الآية ظاهرا في الحلية الوضعية.
وثانيا: أن الحلية التكليفية أيضا تفيد الصحة وتحقق البيع، لأنه لا وجه لأن
يجعل متعلق الحلية التصرفات التي هي من آثار تحقق البيع، بل نفس المسبب
الذي هو عنوان ثانوي لفعل المكلف أو أمر توليدي منه متعلق الحل.
فلا يرد على الآيتين ما أفاده قدس سره في قوله: (اللهم إلا أن يقال: إنهما لا تدلان
على الملك، وإنما تدلان على إباحة جميع التصرفات حتى المتوقفة على
الملك) (1).
وثالثا: أن إباحة التصرفات إذا اقتضت الملك في سائر المقامات تقتضيه في
المقام أيضا.
وما أفاده (2) من أن الاقتضاء في سائر المقامات بالاجماع وهو مفقود في
المقام ففيه أن اقتضاءها له في سائر المقامات أيضا يوجب الاقتضاء بالمقدار
اللازم، وهو الملكية آنا ما، لا من أول الأمر.
وبالجملة: لو قلنا: إن الآيتين لا تدلان إلا على جواز مطلق التصرفات حتى
المتوقفة على الملك، فالالتزام بأن في البيع بالصيغة يستلزم جواز مطلق تصرف
الملك من أول الأمر دون البيع بالفعل فإنه يستلزم فيه جواز تصرف الملك آنا ما،
لا وجه له، فإن الاجماع في البيع بالصيغة أيضا لا يقتضي الملك إلا آنا ما.
فعلى هذا: إما لا يقتضي البيع بالصيغة الملك من أول الأمر، وإما لا فرق بينه
وبين البيع بالفعل.
ثم يرد عليه أنه لو لم نقل بدلالة الآيتين على حصول الملكية، بل على جواز
التصرفات فكما يمكن الالتزام بالملك آنا ما كذلك يمكن تخصيص الأدلة الدالة

(1) المكاسب: كتاب البيع ص 83 س 24 - 25.
(2) المكاسب: كتاب البيع ص 83 س 24 - 25.
126

على عدم جواز البيع والوطئ والعتق في غير الملك.
وبعبارة أخرى: الالتزام بالملك آنا ما بلا موجب، لأنه يمكن أن تكون
الآيتان مخصصتين لقواعد أخرى.
ورابعا: الإشكال في السيرة في المقام موجب لهدم أساس السيرة أصلا
ورأسا.
ثم إن ثبوت السيرة على التوريث يكشف عن حصول الملك بالتعاطي من
أول الأمر، فإنه لا موجب لتقدير الملك آنا ما للمورث حتى يرثه الوارث.
ثم إنه قد يستدل على حصول الملكية بالمعاطاة بعموم (الناس مسلطون على
أموالهم) (1)، بتقريب أن من أنحاء سلطنة المالك تبديل ماله بمال غيره بالفعل.
ولكنه لا يخفى أن عموم أنحاء السلطنة إنما هو باعتبار أفراد السلطنة التي
ثبتت للمالك كالهبة والبيع والقرض والإجارة، فلو شك أن نوعا آخر من أنحاء
السلطنة - كالصلح - من أفراد هذا العموم فيتمسك بعموم هذه الرواية، لصحته
ونفوذه. وأما لو علم بتسلط المالك على بيع ماله ولكنه شك أن الموجد له هو الفعل
أيضا أو ينحصر بالقول فليس العموم ناظرا إليه.
وبعبارة أخرى: لا يمكن التمسك بهذا العموم للمقام، ولا لما شك فيه من
شروط الصيغة مثل كفاية الفارسية ونحوها. هذا كله بناء على حصول الملك
بالمعاطاة.
وأما بناء على القول بالإباحة فهل يمكن التمسك له بقوله: (الناس مسلطون
على أموالهم) (2)؟ والبحث فيه يقع من جهتين:
الأولى: في التمسك به لسلطنة المالك على إباحة ماله لغيره بالإباحة المطلقة،
حتى المتوقفة على ملك: كالبيع ونحوه.
الثانية: لتسلطه على إباحة ماله بالعوض المسمى.

(1) مر تخريجه في الصفحة: 92.
(2) مر تخريجه في الصفحة: 92.
127

أما الجهة الأولى: فستجئ في ذيل البحث عن كلام المصنف في التنبيه الرابع
مفصلا.
وأما الثانية: فإنا وإن اخترنا في الدورة السابقة إمكان إدراج هذا النوع من
الإباحة في عنوان الصلح إلا أن الأقوى أن الإباحة بالعوض المسمى ليست من
أنحاء سلطنة المالك رأسا، لأن كون المسمى عوضا يتوقف على تضمين معاملي،
وهو يتوقف على أن يكون ضامن المسمى مالكا لمال طرفه، لا كونه مباحا له.
وبالجملة: مالكية المبيح للمسمى مع عدم مالكية المباح له لما أبيح له
لا يجتمعان، بناء على ما تقدم من أن حقيقة المعاوضة تقتضي تبديل أحد طرفي
الإضافة بمثله في الملكية، أو تبديل نفس الإضافة.
وعلى أي حال، لا بد أن يكون كل واحد من الطرفين من سنخ الآخر.
وسيجئ أيضا توضيح ذلك.
نعم، يصح التمسك لصحة ذلك بالسيرة القائمة على الإباحة بالعوض المسمى،
كما هو المعمول في إجارة الدور والدكاكين، فإن المسافر يستأجر الدار من
المالك ليلة بمقدار ثم يبنيان على أن كلما بقي المستأجر يعطي الأجرة بذلك
المقدار، فبناء عليه نفس هذه الإباحة بالمسمى من إحدى المعاوضات المتعارفة،
ويكفي في إمضائها قوله عز من قائل: (تجارة عن تراض) (1)، فتأمل (2).
قوله قدس سره: (هذا، مع أن ما ذكر من أن للفقيه التزام حدوث الملك عند التصرف
المتوقف عليه لا يليق بالمتفقه، فضلا عن الفقيه، ولذا ذكر بعض الأساطين... إلى
آخره).
لا يخفى أن كلام المصنف في هذا الباب لا يخلو عن تناقض واضطراب، فإنه

(1) النساء: 29.
(2) وجه التأمل: أن التجارة هي التكسب على نحو الملك، لا مطلق انتفاع شخص من مال
الغير. (منه عفي عنه).
128

قبل هذا الكلام صرح بأن للفقيه الالتزام بإباحة جميع التصرفات، مع التزامه
بحصول الملك آنا ما، لا من أول الأمر، وفي المقام يقول: إنه (لا يليق بالمتفقه
فضلا عن الفقيه) لما ذكره من التوالي الفاسدة تبعا لكاشف الغطاء (1) قدس سره و بعد ذلك
يمنع عن فساد التوالي ويصحح ذلك.
وكيف كان، فالمهم بيان ما أورده الشيخ الكبير (2) على القول بالإباحة في
مورد قصد المتعاطيين التمليك. وتخيله أن ما ينسب إلى المشهور من إفادة
المعاطاة الإباحة في صورة قصد التمليك مستلزم لقواعد جديدة:
منها: تخلف العقد عن القصد، وبالعكس، أي ما وقع لم يقصد وما قصد لم يقع،
فإن الإباحة غير مقصودة لهما فكيف تقع؟ والتمليك مقصود لهما فكيف لا يقع؟
وقد تقدم (3) منا جواب هذا الإشكال مفصلا، وهو وإن لم يكن مرضيا عندنا
إلا أنه يرفع الإشكال، فإن القائل بالإباحة لا يلتزم بأن الفعل مصداق لعنوان
البيع، فقصد هذا العنوان وإيجاد ما ليس مصداقا له كقصد الزارع من الزرع
صيرورته حنطة وتخلفه من قبيل تخلف الداعي. وأما وقوع الإباحة مع عدم
قصدها فلما عرفت (4): من أنه لا يعتبر في ترتب الأمور المترتبة على الأفعال
قهرا قصدها، بل يكفي قصد نفس ا لفعل في صدق كونها صادرة عنه اختيارا.
وأما ما أجاب به المصنف قدس سره حلا ونقضا فلا يفي بدفع الإشكال ولا يستقيم.
أما جوابه الحلي (5): من أن تبعية العقود للقصود وبالعكس إنما هي العقود
اللفظية، وأما المعاطاة فعند القائل بالإباحة المجردة ليست عقدا، ولا قائما مقامه،
ومقتضى ذلك وإن كان فسادها إلا أنه لا مانع من أن يحكم الشارع بترتب

(1) شرح القواعد لكاشف الغطاء (مخطوط): الورقة 50.
(2) هو الشيخ كاشف الغطاء في شرحه على القواعد (مخطوط): الورقة 50.
(3) تقدم في الصفحة: 120.
(4) تقدم في الصفحة: 118.
(5) المكاسب: كتاب البيع ص 84 س 15 وما بعده.
129

الإباحة عليها تعبدا. وبالجملة: تبعية العقد للقصد إنما هي لأجل دليل صحة ذلك
العقد، بمعنى: ترتب الأثر المقصود عليه، فلا يعقل الحكم بالصحة مع عدم ترتب
المقصود عليه. وأما المعاطاة: فلم يدل دليل على صحتها حتى لا يتخلف العقد عن
القصد.
ففيه: أن تبعية العقد للقصد وبالعكس في كلمات العلماء لا تختص بالعقد
الذي هو من أفراد قوله عز من قائل: (أوفوا بالعقود) (1)، بل تجري في جميع
المنشآت. وليست هذه القاعدة حكما تعبديا حتى تختص بمورد دون آخر، بل
حكم فطري ارتكازي منشؤه أن الموجد الاعتباري إنما يوجد بآلة إيجاده إذا
صدر عن قصد، فتحقق غير ما قصد لا يعقل في طريقة العقلاء، وليس حكم الشارع
في باب العقود إلا إمضاء ما هو طريقتهم، فحكم الشارع بترتب غير ما قصد لم يقم
عليه دليل خاص تعبدي.
وأما جوابه النقضي (2): من أن تخلف العقد عن القصد في المقام نظير تخلفه
في الموارد الخمسة، وهي عدم ترتب الضمان بالمسمى على العقد الفاسد، بل
ترتب الضمان الواقعي عليه، مع أن قصد المتعاقدين هو المسمى وعدم تقييد
الشرط الفاسد العقد مع أنهما لم يقصدا المعاملة إلا مقرونة، وعدم اعتبار انضمام
ما لا يملك إلى ما يملك مع أنهما قصداهما منضما، وعدم تأثير قصد البائع الغاصب
البيع لنفسه، وترتب غير ما قصد وهو وقوعه للمالك مع إجازته، وعدم تأثير قصد
الانقطاع وترتب غير ما قصد عليه وهو الدوام.
ففيه من الغرابة ما لا يخفى:
أما الأول: فلأن موضوع البحث هو العقود الصحيحة لا الفاسدة، فعدم ترتب
الضمان بالمسمى في العقد الفاسد لا يفيد في إثبات جواز تخلف العقد عن القصد.

(1) المائدة: 1.
(2) المكاسب: كتاب البيع ص 84 س 18 وما بعده.
130

فلا يقال: إنهما أقدما على الضمان بالمسمى ولم يترتب عليه ولم يقدما على
الضمان بالمثل أو القيمة فكيف يترتبان عليه؟
لأنه لا أثر لإقدامهما على المسمى إذا كان ملغى عند الشارع، لاختلال
شروط العقد. وسيجئ في قاعدة (ما يضمن) أن منشأ الضمان بالمثل أو القيمة
إنما هو قاعدة اليد، لا الأقدام على الضمان حتى يقال: إنهما أقدما على الضمان
بالمسمى لا الضمان الواقعي.
وما يظهر من الشيخ (1) والمسالك (2) من كون منشأ الضمان هو الاقدام
فسيجئ أن تمسكهما بقاعدة الأقدام إنما هو لإثبات عدم تحقق الرافع للضمان
وهو الأقدام على المجانية، فحاصل كلامهما أن منشأ الضمان في العقد الفاسد هو
قاعدة اليد مع عدم قصد التبرع.
وأما الثاني: فلأن الشرط الفاسد لو كان غير موجب للأثر حتى الخيار لكان
النقض واردا، وصح أن يقال: إنهما لم يقصدا المعاملة إلا مقرونة به فكيف تصح مع
عدم اقترانها به؟
وأما بناء على المختار من صحتها مع الخيار فلا يرد النقض أصلا، لأن منشأ
صحة المعاملة عدم كونها مقيدة بحيث ينتفي القصد بانتفاء القيد. وأما الخيار
فالالتزام العقدي حيث إنه مرتبط بالالتزام الشرطي فتخلفه يوجب الخيار.
وبالجملة: لو قيل: إن الشرط موجب لكون المنشأ أمرا خاصا فمقتضاه أن
فساده يوجب فساد العقد، وأما لو كان هناك التزام في التزام - أي التزام مرتبط
بالتزام آخر - ففساد أحدهما لا يوجب إلا الخيار.
وعلى أي حال، القائل بالصحة: إما مع الخيار أو بدونه لا يلتزم بأن القصد
الخاص منشأ للعقد المشروط حتى يرد النقض عليه بأنه تخلف العقد عن القصد.

(1) المبسوط: كتاب البيوع ج 2 ص 149.
(2) المسالك: كتاب الرهن ج 1 ص 233 س 2 وما بعده.
131

نعم، لو التزم بأنه ليس في العقد المشروط إلا التزام واحد وقصد خاص ومع
ذلك لا يقتضي تخلفه فساد العقد لكان النقض واردا، وهذا مما لم يقل به أحد.
وكيف كان، الأمر المختلف فيه لا يناسب جعله موردا للنقض.
وأما الثالث: فلأن صحة بيع ما يملك وفساد ما لا يملك - سواء كان المراد منه
ما لا يقبل التملك كالخمر والخنزير، أو كان ملك الغير - إنما هو لانحلال العقد إلى
عقدين: أحدهما صحيح، والآخر إما فاسد أو موقوف على الإجازة، ولا وجه
لنقضه بالمقام، لأن في كل من الجزءين لم يتخلف العقد عن القصد، وإنما صح
أحدهما لكونه واجدا للشرائط دون الآخر، لكونه فاقدا لها، ومجرد انضمام ما
لا يملك إلى ما يملك لا يستلزم الاتحاد، وذلك واضح.
وأما الرابع: فلأن قصد الغاصب البيع لنفسه إنما هو لبنائه على كونه مالكا،
فبعد هذا البناء يوقع البيع بين ملك المالكين، فعدم وقوعه له لا يقتضي إلا تخلف
الاعتقاد المقارن لقصد إنشاء التبديل بين الملكين.
وبتعبير آخر: الركن في المعاوضات هو العوضين دون العاقدين، وليس البيع
كالنكاح في وجوب تعيين الزوجين، فكون المالك هو البائع أو غيره لا دخل له في
صحة المعاوضة، وقصد وقوعه لنفسه ليس إلا لجعل نفسه مالكا، وتخلف هذا البناء
لا يستلزم تخلف العقد عن القصد.
وأما الخامس: فمع كون المسألة خلافية لا يفيد انقلاب الانقطاع دائما
لإثبات تخلف العقد عن القصد، لأنه يمكن أن يقال: إن النكاح حقيقة واحدة،
فقصد الانقطاع ليس إلا قصد هذه الحقيقة مع خصوصية زائدة يتوقف حصولها
على ذكر الأجل، فإذا نسي ذكره يقع أصل الحقيقة التي لا تتوقف على مؤونة زائدة
غير إيجادها بما هو آلة لإيجادها.
ونظير ذلك ما إذا كان بناء المتعاقدين البيع مع شرط خاص ونسيا ذكر
الشرط، فوقوع البيع وعدم وقوع الشرط لا يوجب تخلف العقد عن القصد.
قوله قدس سره: (ومنها: أن تكون إرادة التصرف من المملكات، فيملك العين أو
132

المنفعة بإرادة التصرف بها أو معه دفعة... إلى آخره).
حاصل إشكاله قدس سره أنه لازم القول بالإباحة المطلقة أحد الأمرين.
إما الالتزام بأن إرادة التصرف من أسباب حصول الملك، مع أن حصوله
بأسباب مخصوصة ليست الإرادة منها.
وإما الالتزام بأن نفس التصرف مملك، وهذا مع أنه ليس من الأسباب
المملكة مستلزم لإشكالات أخر تجري في تصرف ذي الخيار والواهب فيما
انتقل عنهما: كاجتماع العلة والمعلول في رتبة واحدة، فإن الانتقال إلى المشتري
مترتب على الملك، والملك مترتب على التصرف، فبالتصرف يحصل الملك
والانتقال.
وكالدور، فإن صحة البيع تتوقف على الملكية، والملكية يتوقف حصولها على
البيع، ونظير هذين الإشكالين يأتي في التكليفيات أيضا. مثلا الوطئ في غير
الملك محرم، وبه تتحقق الملكية والحلية المترتبة عليها في رتبة واحدة.
وأجاب عنه المصنف قدس سره: بأنه لا بأس بالتزام كون إرادة التصرف مملكا إذا
كان ذلك مقتضى الجمع بين الأصل ودليل جواز التصرف، وأدلة توقف بعض
التصرفات على الملك (1).
ونحن نقول: أولا: ليس فيما ينقل (2) عن الشيخ الكبير قدس سره كون إرادة التصرف
من المملكات، بل إنه (3) جعل محط الإشكال كون نفس التصرف مملكا، وإنما
جعل المحقق الثاني (4) الإرادة من المملكات دفعا للإشكالات الواردة على
تصرف ذي الخيار، فينبغي أن يجاب على طبق إشكاله.
وثانيا: الجمع بين الأدلة لا يقتضي كون الإرادة من المملكات إلا في بعض
الصور.

(1) المكاسب: كتاب البيع ص 84 س 23 وما بعده.
(2) المكاسب: كتاب البيع ص 84 س 23 وما بعده.
(3) شرح القواعد للشيخ كاشف الغطاء (مخطوط) الورقة: 50.
(4) جامع المقاصد: كتاب المتاجر ج 4 ص 58.
133

وتوضيح ذلك: أن تصرف أحد المتعاطيين فيما أبيح له، وكذا تصرف من له
الخيار، والواهب فيما انتقل عنهما إما تصرف متلف، أو ناقل، أو ما يتوقف على
الحلية: كالوطئ.
أما المتلف: ففي المقام لا يتوقف على جعل الإرادة من المملكات، ولا على
تقدير الملك آنا ما، لأن إتلاف المباح له مال المبيح لا يتوقف على كونه ملكا له،
بل هو كأكل الضيف والغاصب، غاية الفرق أن الضيف ليس ضامنا، وفي المقام
المتلف ضامن للمسمى، والغاصب ضامن للمثل أو القيمة.
نعم، لو قلنا: إن الضمان بالمسمى لا يصح إلا إذا كان الضامن مالكا للعوض
فلا بد من الالتزام بالملك له آنا ما قبل التلف، لأن المال التالف لا يمكن أن تتعلق به
الملكية حين التلف، فعلى هذا الفرض أيضا لا يقتضي الجمع بين الأدلة جعل
الإرادة من المملكات، بل حكم المقام حكم إتلاف ذي الخيار والواهب ما انتقل
عنهما، في أن مقتضى جواز الإتلاف منهما شرعا وانفساخ العقد به، هو رجوع
التالف إلى ملك المتلف آنا ما ووقوع التلف في ملكه.
وأما الناقلة - كالبيع ونحوه - فإن قلنا: إن الأدلة الدالة على عدم نفوذها إلا في
الملك تقتضي اعتبار وقوع سبب النقل أيضا في الملك فلا بد من الالتزام بكون
إرادة التصرف من المملكات، لأن العقد لا يمكن أن يقع في الملك إلا إذا كان إرادة
البيع من المملكات، ولا يمكن هنا دفع الإشكال بتقدير الملك آنا ما، لأن التقدير
الذي هو: عبارة عن رجوع الملك عن ملك مالكه ودخوله في ملك الناقل
وخروجه عن ملكه إنما يتحقق بنفس النقل، لأن الملك آنا ما مما تقتضيه نفس
المعاملة، أي خروج المعوض عن ملك من يدخل في ملكه العوض يقتضي التقدير
آنا ما لا غيره. فقول ذي الخيار أو الواهب أو المباح له: (بعت) يقتضي أمرين:
دخول الملك في ملك البائع، وخروجه عن ملكه.
وبعبارة أخرى: معنى الملك آنا ما - أي: الملك الغير المستقيم والاعوجاجي -
وهو يحصل بنفس التصرف النقلي لا قبل ذلك، فإذا التزمنا بأنه لا بد من وقوع نفس
134

قول: (بعت) في الملك فلا بد أن يكون إرادة البيع من المملكات.
وأما لو قلنا: إن الأدلة لا تقتضي إلا وقوع المنشأ في الملك لا السبب الناقل
- كما هو الحق، لأن قوله عليه السلام: (لا بيع إلا في ملك) (1) ظاهر في نفس المسبب - فلا
يلزم الالتزام بجعل إرادة التصرف من المملكات، بل يحصل بنفس قوله: (بعت)
أمران:
أحدهما: دخول الملك في ملك البائع، وهو يحصل بنفس الانشاء من حيث
إنه فعل من أفعال البائع.
وثانيهما: خروجه عن ملكه إلى ملك المشتري، وهو يحصل من الأثر
الحاصل من الإنشاء.
وبعبارة أخرى: الفسخ في تصرف ذي الخيار - مثلا - عبارة عن حل التبديل،
وهو يحصل بنفس السبب، أي يتملك الفاسخ بنفس الفعل الإصداري، ولذا يتملك
بالعقد الفاسد أيضا، ويتملك المشتري بالأثر الحاصل منه، أي: باسم المصدر، فلا
يلزم دور، ولا كون العلة والمعلول في رتبة واحدة، لأن العلة في رتبة الإنشاء،
والمعلول في رتبة المنشأ، ففي رتبة الإنشاء يدخل الملك في ملك البائع، ويخرج
عن ملكه في رتبة المنشأ. وسيجئ توضيح ذلك في محله.
وأما الوطئ فأصل الإشكال فيه غير وارد، لأن الوطئ لا يتوقف على ملك
الرقبة، فمع فرض جوازه شرعا فهو يملك الوطئ ولو لم يكن مالكا للرقبة: كمورد
التحليل.
وما أفاده المحقق القمي في جامع الشتات (2) من أن إباحة الوطئ له مع عدم
كونه مالكا للرقبة يقتضي وقوع العوض في مقابل الوطئ وهو مستلزم لحلية إجارة
البضع.

(1) مر تخريجه في الصفحة: 103.
(2) جامع الشتات: كتاب التجارة ج 1 ص 172 س 41 وما بعده.
135

ففيه: أن العوض في باب المعاطاة لم يجعل مقابلا للوطئ، بل عوض المسمى
مقابل لإباحة المالك التصرفات، وإباحته يقتضي جواز الوطئ.
وما يقال: من أن سبب الوطئ منحصر بالملك أو التحليل أو الزوجية.
ففيه: بعد قيام السيرة على نفوذ جميع التصرفات حتى الوطئ، وبعد قيام
الدليل على عدم إفادة الفعل التمليك فلازم هذين الأمرين: أن مجوز الوطئ ليس
منحصرا بالتحليل وملك الرقبة والزوجية، بل من أسبابه إباحة المالك له التصرف
بالعوض بالتعاطي، ولو كان هناك كلام فلا بد من المناقشة في أصل إفادة المعاطاة
الإباحة، أو أصل جواز كل تصرف حتى الوطئ. وأما بعد تسليم الأمرين فلا يرد
محذور أصلا، لأن جواز المسبب وضعا كالوطئ مستلزم لحليته شرعا.
قوله قدس سره: (ومنها: أن الأخماس والزكوات والاستطاعة والديون والنفقات
وحق المقاسمة والشفعة والمواريث والربا والوصايا تتعلق بما في اليد مع العلم
ببقاء مقابلة... إلى آخره).
حاصل إشكاله قدس سره أن في هذه الموارد العشرة، وهكذا بالنسبة إلى صفة الغنى
والفقر يلزم - بناء على إفادة المعاطاة الإباحة - تأسيس فقه جديد، أي الالتزام في
موارد المعاطاة بأمور مخالفة للقواعد المسلمة في غير مورد المعاطاة.
فإنه كيف يتعلق الخمس والزكاة بما في يد أحد المتعاطيين مع أنه ليس
مالكا؟
وكيف يجب عليه الحج؟
وكيف يتعلق حق الديان به؟
وكيف يجب عليه الأنفاق على من يجب عليه؟
وكيف يجوز إلزام شريكه بالقسمة؟
وكيف يجوز له الأخذ بالشفعة؟
وكيف يرث منه وارثه؟
وكيف يجري الربا فيه، أي إذا اشترى بجنس ما في يده مع الزيادة؟ وكيف
136

يحرم عليه مع أن الربا لا يجري في غير المعاوضات الموجبة لتبديل أحد طرفي
الإضافة في الملك؟
وكيف يلاحظ ثلث مال الميت بالنسبة إلى ما في يده مع أنه ليس مالكا له؟
وكيف يكون غنيا لا يجوز له أخذ الزكاة أو الخمس مع أنه فقير لا مال له؟
هذا، والمحقق الخراساني قدس سره في حاشيته على الكتاب حمل بعض إشكالات
الشيخ الكبير قدس سره على غير ما بيناه، فإنه في مقام الجواب قال: (ففيه أنه لا محذور
في كثير منها: كالاستطاعة وأداء الدين والنفقة... إلى آخره) (1). فتوهم أن الشيخ
استشكل بأنه كيف يجوز أداء الدين من هذا المال الذي ليس مالكا له؟ وهكذا
كيف يجوز له الأنفاق منه مع أن اتحاد السياق يقتضي أن يكون إشكاله في تعلق
حق الديان، وتعلق وجوب الأنفاق به لا في جواز اعطاء الدين في مقام الوفاء
منه؟
وكيف كان، فقد أجاب المصنف عنه بما لا يخلو عن اضطراب وإشكال.
أما الاضطراب: فلأن قوله: (وأما ما ذكره من تعلق الأخماس والزكوات...
إلى آخره) (2) فهو استبعاد محض، ودفعها بمخالفتها للسيرة رجوع إليها يحتمل
معنيين:
أحدهما: أنه لا نلتزم بتعلق هذه الأمور بما في يد أحد المتعاطيين مع بقاء
مقابله في يد الآخر وجدانا أو تعبدا. ودعوى أن عدم التعلق مخالف للسيرة فإنها
قائمة على التعلق، ففيه أنه بناء على هذا لا يستلزم التعلق مخالفة القاعدة فإن
السيرة دليل عليه.
وثانيهما: نلتزم بتعلقها به مع عدم كونه مالكا ودفع تعلقها بمخالفته للسيرة،
لأنها قائمة على أن ما ليس ملكا لا يتعلق به هذه الأمور رجوع إلى السيرة، وكلام

(1) حاشية المكاسب للآخوند: كتاب البيع ص 12.
(2) المكاسب: كتاب البيع ص 84 س 25.
137

الشيخ الكبير ناظر إلى مخالفته للقواعد، لا مخالفته للسيرة.
وأما الإشكال فلأن الجواب على كلا الاحتمالين لا يستقيم.
أما على الأول: فلأن مجرد كون السيرة دليلا على التعلق لا يرفع الإشكال،
لأن أصل الإشكال هو أنه لا يمكن أن يكون في المعاطاة وغيرها فرق.
فجوابه: بأن في المعاطاة قامت السيرة بتعلق هذه الأمور بما لا يكون ملكا
لا يستقيم، لأن حاصل إشكاله: أنه لو قيل بتعلق هذه الأمور بما ليس ملكا فلا بد
من الالتزام به مطلقا، ولو قيل بعدم تعلقها به فيقال: بأن السيرة قائمة على التعلق،
فلا مناص عن الالتزام بإفادة المتعاطي الملك حتى لا يكون فرق بين موارد
الأملاك.
وأما على الثاني: فلأنه إقرار بالإشكال، لأنه التزام بتعلق هذه الأمور بما لا
يكون ملكا، وهذا فقه جديد.
ونحن نقول: لا يرد الإشكال إلا في ثلاثة موارد، وهي تعلق الخمس والزكاة،
وحق الشفعة بما لا يكون ملكا، فإن الظاهر من أدلتها اعتبار الملكية.
ويظهر من صاحب الكفاية (1) أنه لا يعتبر في تعلق حق الشفعة بما بيع
بالمعاطاة أن تكون مفيدة للملكية، لأن الشفعة تتعلق ببيع أحد الشريكين شقصه،
سواء باعه على نحو يفيد الملكية أو لا، فالشريك الذي يملك الشقص الآخر له
الأخذ بما أباحه شريكه لغيره بالعوض المسمى. ولا يخفى صحة ما أفاده، بناء
على أن يكون نظر الشيخ الكبير إلى هذه الصورة.
وأما لو كان دار مشتركة بين من كان نصفها ملكا له ومن كان نصفها مباحا له
فباع مالك النصف من غير شريكه فهل يمكن الالتزام بأن للشريك الذي كان
نصفها مباحا له الأخذ بالشفعة؟ فتأمل.
وأما الموارد الباقية: فتعلقها بما في يد أحد المتعاطيين لا يكشف عن

(1) حاشية المكاسب للآخوند: كتاب البيع ص 13.
138

الملكية، بل يمكن أن يكون مباحا ومع هذا تتعلق به.
أما الاستطاعة فلحصولها ببذل الزاد والراحلة أيضا.
وأما الغنى المانع عن استحقاق الزكاة فلعدم توقفه على الملك، ولذا لا يجوز
أخذ الزكاة للأقارب إذا كان من يجب عليه الأنفاق عليهم مليا.
وأما تعلق حق الديان به فلأنه وإن لم يكن من بيده مالكا إلا أنه لكونه مالكا
لأن يملك باسترداد العوض أو بالتصرف فيما عنده فللغريم إلزامه بأحدهما.
وأما تعلق حق الأنفاق به فلأن وجوب الأنفاق يدور مدار الغنى، وهو حاصل
بكون ما في يد المنفق مباحا له.
وأما حق التقسيم فلعدم اختصاص وجوب الإفراز على الشريك في الشئ
المشاع بين الشخصين بأن يكون كل منهما مالكا له، بل حيث إن المباح له له
التصرف فيما أبيح له بأي نحو من أنحاء التصرف فله إلزام شريكه بإفراز حقه
الموجب لصيرورته ملكا له.
وأما مسألة الإرث فلا يبعد أن يقال: إن الموت موجب للزوم: كموت الواهب،
واللزوم هنا مساوق للملكية، بناء على أن الإباحة اللازمة غير متصورة، هذا مع أن
الإرث لا يتوقف على الملك، لأن كل ما تركه الميت من حق أو ملك يرثه الوارث.
وأما مسألة الربا فلا تختص حرمته بالبيع الموجب للملك، بل يجري حتى في
الضمان بالمثل والقيمة، فضلا عن الضمان بالمسمى.
وأما مسألة الوصية فلو كان المراد من الاستبعاد أنه كيف يكون ما ليس ملكا
مخرجا للثلث؟ ففيه أنه لو قلنا: بأن المال المباح يصير ملكا بموت المباح له فلا
إشكال، لأن الثلث يخرج مما يملكه حين الموت.
نعم، لو قلنا بعدم صيرورته بواسطة الحيلولة - إلا أن هذا لا يقتضي إلا ضمان
المنافع أو النقص: فإما يستحق أجرته أو أرشه - فالأولى الاستدلال له بما
139

أشرنا (1) إليه في صدر المبحث، وهو أن (على اليد) (2) يقتضي كون الضامن ضامنا
للمأخوذ بجميع خصوصياته الشخصية والنوعية والمالية والصفات والسلطنة، فإذا
كان ماليته في عهدته فإطلاقه يقتضي عدم الفرق بين أن يكون التعذر دائميا ومؤقتا.
نعم، يرد عليه أن مع بقاء العين لا وجه لدخول مالية المال في عهدة الأخذ، بل
تعلق الضامن بماليته إنما هو في طول تعلق الضمان بالعين، فإن ظاهر الحديث أن
نفس المأخوذ في عهدته، غاية الأمر أن وجوب الرد حيث إنه ليس حكما تكليفيا
محضا يقتضي أداء ما هو هو عند التلف، إلا أن يقال: إنه بمناسبة الحكم والموضوع
يستفاد عرفا من الحديث الشريف: أن الأخذ إما يجب عليه رد المأخوذ بشخصه،
وإما ما يصدق عليه أنه أداء له ما لم يتمكن من رد شخصه، ولا يرى العرف فرقا
بين التلف والتعذر من حيث دلالة الحديث، فإن استقرار العين في عهدة الضامن
يقتضي أن يخرج من تبعات ماليته.
نعم، إذا كان زمان التعذر قصيرا جدا فليست هذه المناسبة متحققة، كما أنه
لا يصدق الضرر أيضا.
الأمر الثالث (3): هل المدار في التعذر على التعذر المسقط للتكليف برد العين،
أو الأعم منه ومن التعذر العرفي؟ وجهان مبنيان على ما تقدم من الاختلاف في
تقريب الأصل في المسألة ولكن مقتضى الأدلة عدم الفرق بين الصورتين، فإن
فوت سلطنة المالك والضرر عليه مشترك بينهما، ففي مورد التعذر العرفي وإن
وجب على الضامن السعي في تحصيل العين إلا أن هذا لا ينافي وجوب البدل في
زمان السعي، ولا وجه لإجراء استصحاب عدم تسلط المالك الذي كان قبل
التعذر، فإنه محكوم بإطلاق (على اليد)، وعموم (السلطنة)، وقاعدة (لا ضرر)،
وغير ذلك من الأدلة التي أقاموها على ثبوت البدل واستحقاق المطالبة.

(1) تقدمت الإشارة إليه في الصفحة: 63 - 64.
(2) تقدم تخريجه في الصفحة: 64.
(3) لم يذكر المؤلف رحمه الله الأمر الأول والثاني، فلاحظ.
140

كما أن مقتضى الأدلة أيضا عدم الفرق بين العلم بحصول العين واليأس منه
ورجائه، ولا وجه لاختصاصه بمورد اليأس، وليس دليل بدل الحيلولة لبيا حتى
يكون المتيقن منه صورة اليأس.
ثم لا يخفى أن جهة البحث في التعذر العقلي أو العادي غير جهة البحث في
تقييد التعذر بمورد اليأس أو إطلاقه، لأن اليأس من الحصول قد لا يوجب سقوط
التكليف لعدم كونه متعذرا عقلا. كما أن العلم بوجدانه فيما بعد أو رجاء وجدانه قد
يوجب سقوط التكليف فعلا، لكونه متعذر الحصول عقلا في هذا الحال: إما للمنع
الشرعي الذي هو كالامتناع العقلي كما في اللوح الذي يوجب نزعه تلف النفس
المحترمة: أو مال غير الغاصب، وإما للمنع الخارجي التكويني، فكل من مورد
اليأس والعلم قابل لتقسيمه إلى التعذر العقلي والعرفي، كما أن طول الزمان وقصره
أيضا قابل لتقسيمه إليهما وإلى اليأس والعلم،
فما أورده السيد قدس سره في حاشيته - بعد قول المصنف: ثم الظاهر عدم اعتبار
التعذر المسقط للتكليف - بقوله: لا يخفى أن هذا ليس مطلبا آخر، بل هو نفس
الأخير الذي أيده بأن فيه جمعا بين الحقين، كما أن تعبير البعض بالتعذر هو نفس
الوجه الأول وهو اليأس من الوصول، فلا وجه للتكرار (1). غير وارد، فتدبر.
وكيف كان، لو قلنا: بأن المالك يستحق المطالبة بالبدل من الضامن بمجرد
أخذ المبدل - غاية الأمر أنه مشروط بالتلف أو التعذر - فلا فرق بين أقسام
التعذر، إلا أن يكون زمانه قصيرا جدا.
الأمر الرابع: في الأحكام المتفرعة عليه بعد ثبوته، وهي في ضمن مسائل:
الأولى: هل البدل ملك للمالك، أو مباح له؟ وجهان، وجهه مما قررنا في
جواب الاستبعاد.
ومنها: أن التصرف إن جعلناه من النواقل القهرية.... إلى آخره. وفيه: أن هذا

(1) حاشية المكاسب لليزدي: كتاب البيع ص 107 س 15.
141

يرجع إلى الإشكال الثاني، وتقدم (1) الجواب عنه.
ومنها: أن النماء الحادث قبل التصرف إن جعلنا حدوثه مملكا له دون العين
فبعيد، أو معها فكذلك، وكلاهما مناف لظاهر الأكثر، وشمول الإذن له خفي.
وحاصل إشكاله: أن النماء المتصل حكمه حكم العين، وأما المنفصل فحيث
إن تسليط المبيح للمباح له على ماله لا يشمل النماء المنفصل فيدور الأمر بين أن
يقال بعدم جواز تصرف المباح له فيه، لعدم كونه ملكا له ولا مباحا، أو يقال: نفس
حدوث النماء في يد المباح له يقتضي أن يكون ملكا له، وكلاهما مما لا يمكن
الالتزام به.
أما الأول: فلأنه خلاف السيرة.
وأما الثاني: فلأنه بلا موجب، وقد أجاب عنه المصنف: بأن القائل بالإباحة
لا يقول بانتقال النماء إلى الأخذ، بل حكمه حكم أصله، ويحتمل أن يحدث النماء
في ملكه بمجرد الإباحة (2). وفيه: ما لا يخفى، بعد ما ظهر أن استبعاده إنما هو في
النماء المنفصل، فاختيار الاحتمال الأول - وهو: عدم انتقال النماء بل إباحته -
لا يصح، لأن إباحته فرع شمول الإذن له، والشيخ الكبير أنكر ذلك، وقال: شمول
الإذن له خفي (3).
وأما الاحتمال الثاني فهو عين الاستبعاد الذي ذكره، وهو أنه كيف يحصل
للمباح له ملك النماء بمجرد حدوثه، مع أنه ليس من أسباب الملك؟
فالحق أن يقال: إن مقتضى قوله صلى الله عليه وآله: (الخراج بالضمان) (4) أن يكون النماء
ملكا له، بناء على ما سيجئ في معنى الخبر، وإجماله أن الضمان في النبوي ليس
بمعنى الاسم المصدري بأن يكون معناه: من كان ضامنا لشئ - سواء كان منشأ
الضمان هو الغصب أو غيره - فمنفعته له، لأن هذا المعنى هو الذي أفتى به أبو

(1) تقدم في الصفحة: 133، 134.
(2) المكاسب: كتاب البيع ص 84 س 33.
(3) شرح القواعد لكاشف الغطاء (مخطوط): الورقة 50.
(4) سنن ابن ماجة: كتاب التجارات ج 2 ص 754 ح 2243. عوالي اللآلي: ج 1 ص 219 ح 89.
142

حنيفة، وقال الإمام عليه السلام: (من مثل هذا الفتوى تمنع السماء قطرها والأرض
بركاتها) (1)، بل معناه هو الضمان المصدري، وهو التعهد المعاملي الذي أمضاه
الشارع.
وحاصله: أن كل من تعهد ضمان شئ بالتضمين المعاملي فمنافعه له، وهذا
من غير فرق بين أن يكون التضمين على نحو يفيد الإباحة أو التمليك، فإن مقتضى
إطلاقه كون منافعه للضامن، ومعنى كون الشخص ضامنا لما يتملكه أو لما أبيح له:
هو أنه لو تلف يكون دركه عليه، ويكون عوضه المسمى ملكا للطرف الآخر،
وهكذا لو طرأ عليه فسخ أو انفساخ حين كونه تالفا يضمن مثله أو قيمته على
ما تقتضيه المعاملة، وهذا هو معنى الضمان في قاعدة (ما يضمن بصحيحه يضمن
بفاسده).
وبالجملة: مقتضى الضمان المعاوضي أن تكون المنافع ملكا للضامن،
فالالتزام بأن النماء الحادث قبل التصرف ملك للمباح له دون العين لا بعد فيه،
وهذا المعنى في النبوي وإن كان منافيا لقاعدة تبعية النماء للعين ولكنه لا يخفى
جهة تقديمه عليها وإن كان بينهما عموم من وجه.
أما أولا: فلأن هذه القاعدة ليست مدلولا لنص، بل حكم لبي مدركه الاجماع
أو العقل وليس لها اطلاق بحيث يقاوم النبوي.
وأما ثانيا: فلأن النبوي بمنزلة الحكم المعلل، لأنه متعرض لمنشأ ملكية
النماء، فإن الباء في قوله صلى الله عليه وآله، (بالضمان) (2). بمعنى المقابلة، فإذا كانت المنافع
بإزاء الضمان فيكون النبوي حاكما عليها، لأن الحكم المعلل نص في مورد
الاجتماع، فيكون قاعدة تبعية النماء للعين ناظرة إلى اقتضائها بحسب طبعها
الأصلي. وأما إذا اقتضت معاملة انفكاك النماء عن العين في الملك فلا تنافي بينها

(1) الكافي: ج 5 ص 290 - 291 ح 6. عنه في الوسائل: ب 17 من أبواب أحكام الإجارة، ج
13 ح 1 ص 255 - 256 وفيه: (في مثل هذا القضاء تحبس السماء ماءها وتمنع الأرض
بركتها).
(2) مر تخريجه في الصفحة: 142.
143

وبين الملازمة في الملكية بحسب الطبع الأصلي.
قوله قدس سره: (فالقول الثاني لا يخلو عن قوة، وعليه فهل هي لازمة مطلقا... إلى
آخره؟)
قد تقدم (1) وجه قوة القول الثاني، وهو: أن الفعل بنفسه مصداق للعنوان الذي
يقصد به، فإذا قصد به التمليك يترتب عليه لو كان واجدا للشرائط ما عدا القول،
وعليه فهل هي لازمة ابتداء مطلقا كما عن المفيد، (2) أو بشرط أن يقع قبل الفعل
مقاولة من المتعاطيين، أو جائزة مطلقا؟ وجوه، اختار المصنف (3) قدس سره الأول
بدعوى أصالة اللزوم في الملك، فإن الملك بعد حصوله بالتعاطي لو شك في زواله
بفسخ أحدهما فمقتضى الاستصحاب بقاؤه ولا يرد على هذا الأصل إلا أمران:
أحدهما: معارضة هذا الأصل باستصحاب بقاء علقة المالك الأول، فإذا
تعارضا فاستصحاب بقاء العلقة حاكم على استصحاب بقاء الملك، لأن منشأ
الشك في اللزوم والجواز ارتفاع علقة المالك وبقاؤها، فإذا استصحبت فيرتفع
الشك في المسبب.
وثانيهما: أن الثابت هو الملك المشترك بين المستقر والمتزلزل، وبعد رجوع
أحدهما يرتفع لو كان متزلزلا، وكونه مستقرا مشكوك الحدوث والأصل عدم
حدوثه، ولا يخفى اندفاع كل منهما.
أما الأول: فللشك في ثبوت علاقة أخرى للمالك غير العلقة المالكية.
وبعبارة أخرى: الإضافة التي كانت بين المالك والملك ارتفعت قطعا بنقله إلى
غيره، ولم يكن هناك إضافة أخرى حتى تستصحب ليكون حاكما على أصالة
اللزوم، فالشك هنا في حدوث علاقة للمالك الأصلي: بالفسخ لا في بقائها.
وبعبارة ثالثة: العقد الخياري يوجب بسبب الخيار أن يحدث علاقة لذي
الخيار، فهو مالك لأن يملك، لا أن العلاقة الأولى باقية له.

(1) تقدم في الصفحة: 119 - 120.
(2) المقنعة: ص 591.
(3) المكاسب: كتاب البيع ص 85 س 4.
144

وأما الثاني: ففيه أولا: على فرض الاختلاف في حقيقة الملك، وأن الملك
اللازم مباين للجائز فلا مانع من إجراء الاستصحاب في المقام ولو كان
المستصحب مرددا بين مقطوع الارتفاع ومشكوك الحدوث، لأن تردد
المستصحب بين الأمرين صار منشأ للشك في كون الحادث باقيا أو مرتفعا.
وما يتوهم (1) من عدم جريان الاستصحاب في هذا القسم - الذي جعله
المصنف قدس سره في أصوله (2) قسما ثانيا من استصحاب الكلي بالتقريب الذي بينه قدس سره رضي الله عنه صلى الله عليه وسلم (
فيه واختاره السيد الطباطبائي في حاشيته (3) على المتن - مندفع جدا، لأن حاصل
الإشكال أحد الأمرين:
أحدهما: أن الشك في بقاء القدر المشترك مسبب عن الشك في حدوث ذلك
المشكوك الذي لو كان هو الحادث لكان القدر المشترك باقيا، فإذا حكم بأصالة
عدم حدوثه فيلزمه ارتفاع القدر المشترك.
وثانيهما: أن وجود الكلي بوجود فرده، وعدمه بعدمه فالكلي لو كان في
ضمن الحصة الزائلة فهو مقطوع الزوال، وكونه في ضمن الحصة الأخرى مشكوك
من أول الأمر، وكلاهما مندفعان.
أما الأول: فلأن الشك في بقاء الكلي وارتفاعه ليس مسببا عن الشك في
حدوث ذلك المشكوك الحدوث، بل من لوازم كون الحادث ذلك الفرد الذي ارتفع
يقينا، أو الذي بقي يقينا، ولا أصل يعين أن الحادث ما هو.
مثلا: لو شك في أن الحادث هو المني أو البول فبعد الوضوء إذا شك في بقاء
الحدث لا يترتب على أصالة عدم حدوث المني ارتفاع الحدث إلا بضميمة القطع
بارتفاع الحدث في ضمن البول. هذا، مضافا إلى معارضته بأصالة عدم حدوث
البول.

(1) ظاهر التوهم من السيد اليزدي في حاشيته على المكاسب: كتاب البيع ص 73 س 8.
(2) فرائد الأصول ج 2 ص 638.
(3) حاشية المكاسب لليزدي: كتاب البيع ص 73 س 6 وما بعده.
145

وبالجملة: العدم المحمولي لا يترتب عليه الأثر في المقام، والعدم النعتي ليس
له حالة سابقة، فجريان أصالة عدم تحقق الحدث الأكبر غير مفيد، وأصالة عدم
كون هذا الحادث من الحدث الأكبر غير جار.
هذا، مضافا إلى أن مجرد السببية والمسببية لا يفيد في رفع الشك عن المسبب
إلا إذا كان الترتب شرعيا: كترتب انغسال الثوب على طهارة الماء، لا في مثل
المقام ومسألة الحدث، فإن الشارع لم يرتب ارتفاع الملك على عدم حدوث
الملك اللازم، ولا ارتفاع الحدث على عدم حدوث المني.
وأما الثاني: فلأن الكلي عين الفرد، لا أنه منتزع عنه، فوجود الكلي إذا كان
يقينيا فتردده منشأ للشك في بقائه، وتوضيح دفع الإيرادين موكول إلى الأصول،
وقد دفعناهما بما لا مزيد عليه في تنبيهات الاستصحاب (1) فراجع.
وأما ثانيا: فلأنه لا اختلاف في حقيقة الملك، وليس الجائز مغايرا للازم في
الماهية، وإنما الاختلاف بينهما في السبب المملك، وهو حكم الشارع في أحدهما
بجواز الرد، وفي الآخر بعدمه.
وتوضيح ذلك: أن منشأ الاختلاف إما اختلاف إنشاء المنشئ، أو جعل
الشارع.
أما الأول: فواضح أن العاقد ينشئ معنى واحدا في البيع الخياري وغيره،
فإنه يفك أحد طرفي الإضافة ويعطي ماله لغيره من دون قصد اللزوم والجواز، مع
أنه لا أثر لقصد المنشئ اللزوم والجواز في البيع.
وأما الثاني: فلأنه يلزم تخلف العقد، عن القصد، فإن العاقد لو أنشأ نفس القدر
المشترك فإذا خصصه الشارع في بعض الموارد بإحدى الخصوصيتين: وفي
الآخر بالخصوصية الأخرى يلزم تخلف العقد عن القصد. هذا على ما أفاده
المصنف (2) قدس سره.

(1) فوائد الأصول: تنبيهات الاستصحاب ج 4 ص 413 - 417.
(2) لاحظ المكاسب: كتاب البيع ص 85 س 7 وما بعده.
146

ولكنه لا يخفى أنه لو جعل الشارع القدر المشترك في كل مورد متخصصا
بخصوصية خاصة فلا بد للعاقد أن يقصد هذه الخصوصية وإلا لبطل العقد رأسا، لا
أنه يصح على خلاف ما قصده العاقد، فالأمر يدور بين البطلان والصحة بلا تخلف
العقد عن القصد، لا الصحة مع تخلفه عنه حتى يقال كما في المتن: هو باطل في
العقود، لما تقدم: من أن العقود المصححة عند الشارع تتبع القصود... إلى آخره (1).
وكيف كان، فالصواب في المقام: هو المراجعة إلى الوجدان، ونرى وجدانا أن
العاقد في العقود المملكة لا يقصد إلا التمليك، ولا ينشئ إلا ذلك.
وبالجملة: فالحق في وجه جريان أصالة اللزوم هو اتحاد حقيقة الملك،
والاختلاف إنما هو في السبب المملك حيث حكم الشارع باللزوم في بعض
الأسباب وبالجواز في الآخر، مع أنك قد عرفت أنه لو كان الاختلاف في حقيقة
الملك أيضا، لجرى الاستصحاب في مورد الشك في أن الواقع في الخارج لشبهة
حكمية أو موضوعية من أي القسمين؟
نعم، قد يستشكل في جريان الاستصحاب الكلي في المقام بعين الإشكال في
جريان الاستصحاب الشخصي إذا وجد أحد الرافعين.
وتوضيح ذلك: أنا قد بينا في الأصول (2) أن في القسم الثاني قد يجري
استصحاب الشخصي كما يجري استصحاب الكلي، وقد لا يجري، فإذا شك في
أنه عمل عملا يرفع الحادث المردد أم لا فيجري استصحاب بقاء الشخص
الحادث الواقعي، ونتيجته: وجوب الاحتياط، وإيجاد الرافع على أي تقدير مثل
الجمع بين الوضوء والغسل في الحدث المردد بين البول والمني.
وأما إذا توضأ ثم شك في بقاء الحدث الشخصي الثابت واقعا فلا يجري
استصحاب الشخص، لأن الشك ليس في البقاء، بل في حدوث أي واحد من
الشخصين، وفي كل واحد منهما أحد ركني الاستصحاب منتف. أما في الحدث

(1) المكاسب: كتاب البيع ص 85 س 7 وما بعده.
(2) فوائد الأصول: تنبيهات الاستصحاب ج 4 ص 419.
147

الأصغر فللقطع بارتفاعه، وأما الأكبر فللشك في حدوثه، فعلى هذا لا يجري في
مسألة الحدث بعد إيجاد رافع أحدهما - وهكذا في الظهر والجمعة والبق والفيل
ونحو ذلك - إلا استصحاب الكلي.
وأما في المقام فلا يجري استصحاب الكلي أيضا، لأن اختلاف الملك ليس
إلا بنفس الارتفاع والبقاء، فالشك في بقاء الكلي: عبارة عن الشك في أن الحادث
ما هو؟ فإن تنوعه بنوعين ليس باختلاف السبب المملك، ولا باختلاف حقيقته
وماهيته من غير جهة أن أحدهما يرتفع بالفسخ والآخر لا يرتفع، فإذا كان تنوعه
بنفس اللزوم والجواز فينتفي أحد ركني الاستصحاب على أي حال، لأن الملك
الجائز مقطوع الارتفاع، واللازم مشكوك الحدوث من أول الأمر.
وبعبارة أخرى: يعتبر في كل قضية أن يكون المحمول خارجا عن الموضوع،
أي يعتبر أن يكون الموضوع في القضية مجردا عن عقد الحمل حتى يصلح
الحمل، وفي المقام حيث أنه ليس تقسيم الملك إلى القسمين باعتبار الفصول
المنوعة، وليس كالحدث المشترك بين النوعين المتخصص كل منهما بخصوصية
خاصة من غير جهة البقاء والزوال، بل جهة تقسيمه إليهما منحصرة بالبقاء
والارتفاع، فلو شك في بقاء الملك وارتفاعه فمعنى استصحاب الملك هو
استصحاب الملك الباقي، فيصير البقاء الذي هو عقد الحمل داخلا في عقد الوضع،
ولا شبهة في خروج هذا القسم من الاستصحاب من عموم (1) (لا تنقض) عقلا.
ومرجع هذا الإشكال - في الحقيقة - إلى أن النوعين من الملك متباينان بتمام
هويتهما، وفي كل واحد منهما أحد ركني الاستصحاب منتف كما لا يخفى.
وعلى هذا، فيمكن أن يكون وجه التأمل في كلام المصنف راجعا إلى
ما ذكرنا، لا إلى أنه ليس للقدر المشترك أثر كما أشار إليه بعض المحشين (2) فإن

(1) هذا العموم مستفاد من عدة روايات لاحظ الوسائل: ب 1 من أبواب نواقض الوضوء، ج 1
ص 174 - 176.
(2) يظهر هذا من السيد اليزدي في حاشيته على الكتاب: ص 73 س 8.
148

جواز التصرف أثر للقدر المشترك بين اللازم والجائز.
وبعضهم (1) أرجعه إلى أن الشك هنا في المقتضي، فقاس الملك بالحيوان
المردد بين البق والفيل، ولا يخفى ضعفه، فإن الشك في المقتضي هو الذي لم يحرز
فيه عمر المستصحب بحسب أمد الزمان كالمردد بين البق والفيل.
وأما الملك فإذا تحقق فلا يرتفع إلا بالرافع، والشك في تأثير الفسخ شك في
رافعية الموجود (2).
قوله قدس سره: (ويدل عليه مع أنه يكفي في الاستصحاب الشك في أن اللزوم
من خصوصيات الملك، أو من لوازم السبب المملك... إلى آخره).
لا يخفى أن بعض المحشين (3) أورد على هذا الكلام: بأنه كيف يكفي في
الاستصحاب الشك في أن اللزوم من منوعات الملك، أو من الأحكام الشرعية
للسبب المملك والحال أن مع هذا الشك ليس المستصحب محرزا.؟
وفيه: أن مرجع هذا الشك ليس إلى الشك في الموضوع، لأن القدر المشترك
بين ما إذا كان الملك على قسمين، وما كان الحكم في السبب المملك على نحوين
محرز قطعا، وهو أصل تحقق الملك، فإن كل من أنشأ أمرا يتحقق منشؤه خارجا
بنفس إنشائه، وتردده بين الأمرين منشأ للشك في بقائه فيستصحب.

(1) يظهر ذلك من المحقق الإيرواني في حاشيته على المكاسب: كتاب البيع ص 79 س 28.
(2) ولا يخفى أنه يمكن إرجاع الشك في المقام إلى الشك في المقتضي، بتقريب أن للتأصل
في الجعل على مختار المصنف هو الحكم التكليفي، والملكية الباقية أو المرتفعة تنتزع عن
حكم الشارع بجواز التصرف دائما أو إلى زمان الفسخ، فلو شك في أن الشارع حكم
بالتصرف المطلق أو المغيى بغاية خاصة لا يمكن استصحاب جواز التصرف بعد تحقق الأمر
الذي احتمل كونه غاية، إذا فرض كون الحكم مغيى فالشك في المقام نظير الشك في أن
للمستصحب غاية أم لا لشبهة حكمية أو موضوعية. ولكنه لا يخفى أن الفسخ رافع للمجعول،
لا أنه حد له، فإن الحد منحصر بالزمان كالليل الذي غاية لوجوب الصوم، وآخر الأيام
الثلاثة الذي هو غاية لخيار الحيوان، فتدبر. (منه عفي عنه).
(3) يظهر هذا من السيد اليزدي في حاشيته على المكاسب: كتاب البيع ص 73 س 31 وما بعده.
149

ولا يتوهم أن الشك في المقام نظير الشك في الشبهات المصداقية.
وتقريب ذلك: أنه بعد ما ظهر في وجه التأمل خروج هذا القسم من الكلي من
عموم (لا تنقض) (1) عقلا فإذا شك في أن اللزوم من خصوصيات الملك حتى
لا يجري الاستصحاب - بناء على عدم جريانه في هذا النحو من الكلي أو من لوازم
السبب المملك أي من الأحكام الشرعية حتى يجري - فيشك في أن المورد من
موارد جريان الاستصحاب، أوليس موردا له، وكل ما كان كذلك لا يجري فيه
الاستصحاب، للشك في كون المورد من مصاديق العام، وهذا نظير اعتبار
الاتصال بين الشك واليقين، فإنه إذا شك فيه لا يجري الاستصحاب، وحكمه
حكم العلم بالانفصال. هذا ملخص ما يتوهم في المقام.
ودفعه واضح، وحاصله: الفرق بين المخصص اللفظي والمخصص اللبي،
والمخصص في المقام لبي، لأن عدم جريان الاستصحاب إنما هو لاعتبار خروج
عقد الحمل عن عقد الوضع عقلا، لا لقصور في اللفظ، فإذا أحرز هذا المانع
لا يمكن إجراء الاستصحاب، وأما إذا شك فيه فيؤخذ بالعموم، وليس من قبيل
الشك في الموضوع والشبهة المصداقية.
فالحق جريان الاستصحاب في مورد الشك في أن اللزوم من خصوصيات
الملك، أو من لوازم السبب المملك، هذا مع ما عرفت من أن الملك حقيقة واحدة،
وإنما الاختلاف من جهة حكم الشارع في الأسباب، فإذا كان كذلك ففي مورد
الشك يستصحب المنشأ بالعقد.
ولا يقال: إن الاختلاف في الأفراد أيضا كاف في عدم جريان استصحاب
نفس هذه الحقيقة الواحدة، كالفرد المردد بين زيد وعمرو، مع العلم بأنه لو كان
زيدا لم يبق يقينا.
لأنا نقول: فرق بين المقام والمثال، فإن زيدا وعمرا وإن كانا متفقي الحقيقة

(1) مر تخريجه في الصفحة: 148.
150

إلا أن الخصوصيات الفردية دخيلة في الاستصحاب، وهذا بخلاف المقام فإن
الاختلاف ليس إلا من ناحية حكم الشارع في بعض الأسباب باللزوم، وفي
بعضها بالجواز كما يظهر من المراجعة إلى الأدلة.
قوله قدس سره: (وبالجملة: فلا إشكال في أصالة اللزوم في كل عقد شك في لزومه
شرعا... إلى آخره).
لا يخفى أن مراده قدس سره من (كل عقد) هو العقود العهدية، لا العقود الإذنية،
فإنها لا تجري فيها أصالة اللزوم، لأن قوام هذه العقود بالإذن، فإذا ارتفع
بفسخ المالك ونحو الفسخ يرتفع المنشأ بها قطعا، ولا يبقى شك حتى يستصحب
أثر العقد والمنشأ به.
وأما العهدية فلا فرق فيها بين التنجيزية والتعليقية.
ومناقشة المصنف (1) قدس سره في جريان قاعدة اللزوم في نحو السبق والرماية
والجعالة لو شك في تأثير فسخ من جعل السبق - مثلا - للسابق قبل وصوله إلى
المحل المعين. غير جارية، لأن الاستصحاب في هذه العقود كاستصحاب عدم
النسخ في الأحكام، ويا ليت أنه قدس سره عكس الأمر وناقش في جريان
الاستصحاب التعليقي في مثل الزبيب والتمر، لا في العقود التعليقية، فإنها من
قبيل: القضايا الحقيقية في الأحكام التكليفية، وأوضحنا تنقيح ذلك في
الاستصحاب (2) فراجع.
وبالجملة: لا إشكال في جريان أصالة اللزوم في كل عقد شك في لزومه
وجوازه لشبهة حكمية وكذا فيما شك في لزومه وجوازه لشبهة موضوعية، كما لو
شك في أن الواقع في الخارج هبة أو بيع، مع العلم بكون الأول جائزا والثاني لازما.
نعم، في دوران الأمر بين الوديعة والقرض لا تجري أصالة اللزوم، لعدم إحراز
تملك من بيده المال في وقت حتى يستصحب، فمورد البحث هو العقود المملكة

(1) المكاسب: كتاب الخيارات ص 216 س 11 وما بعده.
(2) راجع فوائد الأصول: تنبيهات الاستصحاب ج 4 ص 461.
151

المشكوك جوازها أو لزومها، فمن يدعي اللزوم هو المنكر لمطابقة قوله للأصل،
واحتمال كون المقام من باب التداعي إذا كان مصب الدعوى تعيين العقد الواقع
في الخارج - كما يظهر من صاحب الجواهر (1) قدس سره تبعا لبعض (2) من تقدم عنه،
وتبعه السيد الطباطبائي في حاشيته (3) على المتن، وفي بعض كلماته في كتاب (4)
القضاء - احتمال لا يعتنى به كما أوضحناه في كتاب (5) القضاء.
وإجماله: أن باب التداعي هو ما كان قول كل منهما مطابقا للأصل أو مخالفا،
وأما إذا كان قول أحدهما مطابقا للأصل دون الآخر فهو باب المدعي والمنكر،
وكيفية تحرير الدعوى لا أثر لها، بل المدار على الغرض منها على وجه يرجع إلى
أثر عقلائي كتأثير الفسخ، أو اشتغال ذمة الآخر، أو نحو ذلك، لا إلى مجرد إثبات
أن العقد صلح بلا عوض، أو هبة غير معوضة، وإلا لا تسمع هذه الدعوى رأسا،
فإنها كدعوى أن بر أفريقيا كذا مساحة.
ثم لا يخفى أن النزاع تارة في اللزوم والجواز، وأخرى في الضمان وعدمه.
ففي الأول المنكر هو مدعي اللزوم، وفي الثاني المنكر هو مدعي الضمان
على المشهور والمختار خلافا لمن تمسك بأصالة البراءة، وذلك لأن مقتضى
قاعدة (اليد) مع أصالة عدم إقدام مالكه الأصلي على المجانية هو الضمان، فإن
موضوع الحكم مركب من عرضين لمحلين، وهو اليد على ملك الغير المحرز
بالوجدان مع عدم إقدام مالكه على التبرع المحرز بالأصل، فإذا تم الموضوع
يترتب عليه الحكم وهو الضمان.

(1) جواهر الكلام: كتاب القضاء ج 40 ص 458.
(2) كالشيخ في المبسوط: كتاب الدعاوي والبينات ج 8 ص 263. ونسبه في المسالك إلى
بعض المتأخرين، راجع مسالك الأفهام: كتاب القضاء ج 2 ص 393 س 37.
(3) حاشية المكاسب للسيد اليزدي: كتاب البيع ص 74 س 3 وما بعده.
(4) كما في العروة الوثقى: كتاب القضاء ج 3 ص 166.
(5) كتاب القضاء (مخطوط): ص 16.
152

وقد بينا في الأصول: (1) أن التمسك بقاعدة (على اليد) للحكم بالضمان في
موارد الشك في المجانية، ورافع الضمان ليس من باب التمسك بالعموم في
الشبهات المصداقية، ولا من باب قاعدة (المقتضي والمانع) ولا من باب
استصحاب العدم النعتي في حال عدم الموضوع، بل لما ذكرنا من أن الضمان
مترتب على وضع اليد على مال الغير مع عدم إحراز المجانية الذي هو العدم
النعتي حال وجود الموضوع، فإن التبرع والتضمين من نعوت المالك، فلو لم يكن
متبرعا في وقت يستصحب عدم التبرع، ولا يعارض بأصالة عدم قصد التضمين،
فإن ضمان مال الغير لا يتوقف على القصد، فتدبر جيدا.
ويظهر من السيد الطباطبائي في كتاب القضاء من العروة (2) أنه لو كان محل
النزاع هو البيع أو الهبة فالأصل البراءة، وأما لو كان النزاع في إذن المالك في
التصرف في ماله مجانا أو مع العوض فالأصل الاشتغال، لجريان قاعدة احترام
مال المسلم في الثاني دون الأول، للاتفاق على حصول الملك للمتصرف في هذه
الصورة.
ولكن لا يخفى عدم الفرق بين القسمين، فإن في الأول وإن اتفقا على كون
المال ملكا للمتصرف إلا أنه علم كونه ملكا لغيره سابقا، فمع عدم إحراز المجانية
يقتضي أن لا يخرج عن ملكه بلا عوض.
هذا، مع أن في مورد بقاء العين لا أثر لدعوى مدعي الهبة للعلم الإجمالي إما
بتأثير فسخ الواهب لو كان مدعي الهبة متهبا واقعا، وإما بضمانه لو كان مشتريا.
قوله قدس سره: (ويدل على اللزوم مضافا إلى ما ذكر: عموم قوله: (الناس
مسلطون على أموالهم) (3).... إلى آخره).
لا يخفى تمامية الاستدلال بهذه المرسلة المعروفة بين الفريقين، وبالآيتين (4)
الشريفتين.

(1) فوائد الأصول: ج 2 ص 531 - 533.
(2) العروة الوثقى: ج 3 ص 173.
(3) مر تخريجه في الصفحة: 92.
(4) النساء: 29. والمائدة: 1.
153

أما المرسلة فلأن مقتضى السلطنة التامة للمالك على ماله أن يجوز له جميع
أنحاء التصرفات المباحة في ماله وقصر سلطنة الغير عنه، فالخبر الشريف متضمن
لعقدين: إيجابي وسلبي، ولو لم يكن مفيدا للعقد السلبي فلا يكون مثبتا للسلطنة
التامة للمالك، فاسترجاع المال عنه بلا رضا منه بفسخ ونحوه مناف لسلطنته.
والمناقشة (1) في العقد الإيجابي فضلا عن السلبي - بتقريب أن الرواية في
مقام بيان عدم محجورية المالك لا في نفوذ جميع تصرفاته - غير مسموعة، فإنه
لا قصور في عموم الناس، ولا في إطلاق السلطنة، ومقتضى مقابلة الجمع بالجمع
أن يكون كل أحد مسلطا على ماله بأي نحو من أنحاء السلطنة، ومن أنحاء
السلطنة منع الغير عن التصرف في ماله.
ولا يقال: إن سلطنة المالك لا ينافي الخيار بناء على كونه متعلقا بالعقد لا
بالعين.
فإنا نقول: وإن كان الخيار على المختار متعلقا بالعقد دون العين إلا أن تعلقه
به طريقي لا موضوعي، لأنه متعلق به طريقا لاسترجاع العين. فبالآخرة إذا كان
لغير المالك حق استرجاع العين يستلزم أن تكون سلطنة المالك ناقصة، وبالعموم
ندفع هذا الحق أيضا.
ثم إن مما ذكرنا في تقريب الاستدلال ظهر أن التمسك به لأصالة اللزوم ليس
من قبيل التمسك بالعام في الشبهة المصداقية بأن يقال: مع الشك في تأثير الفسخ
يشك في بقاء الإضافة، فالتمسك به من التمسك بالعام مع الشك في المصداق،
وذلك لأن العموم يرفع الشك في تأثير الفسخ، لتنافي تأثيره مع العقد السلبي، فإن
مقتضى السلطنة التامة أن لا يكون لغيره التملك منه.
نعم، التمسك به في الشبهات الموضوعية تمسك بالعام في الشبهة المصداقية،
فإنه مع الشك في أن الواقع بيع أو هبة لا يمكن رفع الجواز بعموم (الناس

(1) يظهر هذا من الآخوند في حاشيته على المكاسب: كتاب البيع ص 12.
154

مسلطون) (1)، لاحتمال كونه من مصاديق ما ثبت فيه شرعا سلطنة غير المالك على
ملك المالك، وهذا بخلاف الشبهة الحكمية، والفرق بينهما واضح، فإن مرجعهما
إلى الشك في أصل التخصيص والشك في مصداق المخصص.
وأما الآيتين: فآية التجارة عن تراض (2) إفادتها اللزوم حتى في المعاطاة
ظاهرة - سيما بناء على ما تقدم من جعل الاستثناء متصلا - بأن يكون مفادها لا
تتصرفوا في أموالكم بنحو من الأنحاء فإنه باطل إلا بالتكسب عن الرضا، فبدون
رضا المالك لا يمكن التصرف في ماله إلا في الموارد التي رخص الشارع
التصرف فيها.
وأما آية (أوفوا بالعقود) (3) فدلالتها على اللزوم فيما عد عقدا لا إشكال فيه،
سواء قلنا بأن الملكية ونحوها من الأحكام الوضعية - كاللزوم في المقام - منتزعة
عن الحكم التكليفي كما هو مختار المصنف (4)، أو قلنا بتأصلها في الجعل وانحصار
الانتزاعية في الشرطية والجزئية والمانعية والسببية على ما هو المختار. وسيجئ
في أول الخيارات توضيح ذلك.
وإجماله: أنه بناء على التأصل فمفاد قوله عز من قائل: (أوفوا بالعقود) (5)
هو أن العقد لازم لا ينحل، فيكون الأمر فيه إرشادا إلى هذا المعنى وكناية عنه.
وأما بناء على الانتزاعية فمفاده وجوب الوفاء بكل عقد في كل زمان بالنسبة
إلى كل طار، فإذا كان مطلقا بالنسبة إلى جميع الأزمنة وبالنسبة إلى كل زماني
فلازمه بقاء وجوب الوفاء حتى بعد الفسخ، ولازمه عدم تأثير الفسخ.
ولا يقال: إذا بقي العقد يجب الوفاء به مطلقا، ومع الشك في بقائه لاحتمال
تأثير الفسخ فلا موضوع حتى يجب الوفاء به.
لأنا نقول: بناء على الانتزاعية لا بد أن يكون الحكم التكليفي المتأصل على

(1) مر تخريجه في الصفحة:
(2) النساء: 29.
(3) المائدة: 1.
(4) المكاسب: كتاب الخيارات ص 215 س 18 وما بعده.
(5) المائدة: 1.
155

نحو يناسب انتزاع اللزوم منه، والمناسب له أن يتعلق الوفاء بالمعنى المصدري،
أي الالتزام والتعقيد، لا العقدة والملتزم به، فإذا كان الالتزام بما التزم به واجبا
فمعناه أن كل واحد من المتعاقدين ليس مالكا لالتزامه الذي ملك صاحبه.
وبالجملة: دلالة الآية على اللزوم في المعاملات اللفظية لا إشكال فيها، كما لا
إشكال في عدم دلالتها عليه في المعاطاة، لعدم إمكان إفادتها له ثبوتا، مضافا إلى
قيام الاجماع على الجواز.
ومخالفة المفيد (1) قدس سره غير معلومة، والمصنف (2) قدس سره وإن استشكل في هذا
الاجماع بأن قول الأكثر بعدم اللزوم من باب عدم التزامهم بإفادتها الملكية إلا
أنه قدس سره أجاب عنه بالاجماع المركب، فإن أصحابنا بين قائل بالملك الجائز، وبين
قائل بعدم الملك رأسا، فالقول بالملك اللازم قول ثالث، لأنه مخالف للاجماع
البسيط المتحصل من المركب، فإن مرجع القولين إلى عدم إفادتها اللزوم.
وإشكاله عليه بقوله: (فتأمل) (3) - الراجع ظاهرا إلى عدم جامع بين السالبة
بانتفاء الموضوع والسالبة بانتفاء المحمول حتى يكون هذا الجامع متفقا عليه بين
الفريقين - غير وارد، فإن مجرد عدم وجود الجامع بين السالبتين لا يضر
بالاجماع، لإمكان قيامه على عدم إفادة المعاطاة اللزوم.
وكيف كان، فالحق عدم إمكان إفادتها له ثبوتا، وذلك لأن اللزوم المتصور في
باب العقد على قسمين: لزوم حكمي تعبدي، ولزوم حقي.
فالأول: كما في باب النكاح والضمان والهبة لذي الرحم، ونحو ذلك من
القربات التي لا رجعة فيها، فإن في باب النكاح - مثلا - يستكشف من عدم صحة
الإقالة، وعدم صحة جعل الخيار لأحد الزوجين أن اللزوم فيه حكم شرعي
تعبدي من لوازم ذاته، ويقابله الجواز في الهبة لغير ذي رحم فإنه أيضا حكم

(1) تقدم في الصفحة: 144.
(2) المكاسب: كتاب البيع ص 86 س 1 وما بعده.
(3) المصدر نفسه.
156

تعبدي، وإلا كان قابلا للإسقاط.
والثاني: كما في باب العقود المعاوضية اللفظية، تنجيزية كانت: كالصلح والبيع
والإجارة، أو تعليقية: كالسبق والرماية، فإن بقوله: بعت ينشأ أمران:
أحدهما: مدلول مطابقي للفظ، وهو تبديل أحد طرفي الإضافة بمثله الذي
ينشأ بالفعل أيضا، لأنه أيضا مصداق لعنوان البيع بالحمل الشائع الصناعي.
وثانيهما: مدلول التزامي له، وهو التزامهما بما أنشئ وهو يختص بما إذا أنشئ
التبديل باللفظ دون الفعل، فإن الدلالة الالتزامية بحيث ترى في العرف والعادة
ملازمة بين تبديل طرف إضافة بمثله، والتزام البائع بكون المبيع بدلا عن الثمن،
والتزام المشتري بكون الثمن عوضا عن المثمن تجري في اللفظ.
وأما الفعل فقاصر عن إفادة هذا المعنى فإن غاية ما يفيده هو تبديل أحد
طرفي الإضافة بمثله إذا قصد منه.
وأما التزام البائع ببقاء بدلية المبيع للثمن فليس الفعل دالا عليه، فلو فرض أن
المتبايعين قصدا التبديل وقصدا بقاءه على ما هو عليه - فحيث إن البناء القلبي في
باب العقود لا أثر له إلا إذا أتى بما هو مصداق لهذا العنوان، وليس الفعل وأما التزام
البائع ببقاء بدلية المبيع للثمن فليس الفعل دالا عليه، فلو فرض مصداقا لهذا - فلا
أثر له، فعلى هذا لا يمكن ثبوتا أن يفيد الفعل الالتزام العقدي، بل هو خارج
بالتخصص عن عموم (أوفوا بالعقود) (1) فإن العقد إنما يسمى عقدا لكونه مفيدا
للعهد المؤكد والميثاق والتعهد والفعل قاصر عن إفادة هذا المعنى.
نعم، يمكن إيجاد هذا المعنى بالفعل أيضا، إلا أنه لا بالتعاطي، بل بالمصافقة
ونحوها.
وأما باب الألفاظ: فحيث إن الملازمات العرفية من أنحاء المدلولات والعرف
يرى من أوجد البيع بلفظ (بعت) أنه التزم ببقائه على ما أنشأه فيمكن أن ينشأ
بلفظ (بعت) معنيان: أحدهما: نفس التبديل، وثانيهما: التزامهما بما التزما به من
التبديل.

(1) المائدة: 1.
157

ثم إن هذا اللزوم العقدي حق مالكي أمضاه الشارع بقوله: (أوفوا بالعقود) (1)
فإنه إذا كان من منشآت المتعاقدين لا من التعبد الصرف يصير حقا مالكيا، ولذا
يجري فيه الإقالة وحق الفسخ، فإنه لو كان اللزوم من لوازم ذات المنشأ لما صح
جعل الخيار في مقابله، سواء كان بجعل شرعي كخيار الحيوان والمجلس، أو
بجعل من المتعاقدين كخيار الشرط.
وعلى هذا، فأصالة اللزوم المستفادة من العمومات - مثل قوله صلى الله عليه وآله: (الناس
مسلطون) (2) وقوله عليه السلام: (لا يحل) (3) وقوله عليه السلام: (البيعان بالخيار) (4) وقوله عز
من قائل: (أوفوا بالعقود) وقوله: (لا تأكلوا أموالكم) (5) وقوله: (إلا أن تكون
تجارة عن تراض) (6) - تختص بالعقود اللفظية، ولا تشمل المعاطاة تخصصا.
أما آية (أوفوا) فواضح، لما ذكرنا من أنها ليست عقدا.
وأما (البيعان بالخيار) فلأن اللزوم الحاصل بالافتراق حيث إنه جعل مقابلا
للخيار فيختص بالبيع الذي كان الالتزام الحاصل منه من منشآت المتعاقدين.
وأما سائر الأدلة فحيث إن المستفاد منها ليس اللزوم الحكمي بل اللزوم
الحقي فلا تشمل المعاطاة، فعلى هذا لا تكون المعاطاة لازمة، لا بجعل شرعي
تعبدي، ولا بجعل شرعي حقي، فيكون جائزا بمعنى عدم تحقق موجب اللزوم.
وعلى هذا، فالجواز على أقسام ثلاثة: الجواز الحكمي التعبدي كالهبة،
والجواز الحقي كالبيع الخياري، والجواز من جهة عدم تحقق منشأ اللزوم
كالمعاطاة.

(1) المائدة: 1.
(2) مر تخريجه في الصفحة: 92.
(3) مسند ابن حنبل: ج 5 ص 72، عنه وسائل الشيعة: ج 3 ص 424 - 425 ب 3 من أبواب
مكان المصلي ح 1 - 3.
(4) الكافي: ج 5 ص 170 ح 5، 6، عنه في الوسائل: ج 12 ص 345 - 346 ب 1 من أبواب
الخيار، ح 1، 2، 3.
(5) النساء: 29.
(6) النساء: 29.
158

ثم إنه لا تنافي بين كون اللزوم من مقتضيات ذات النكاح والضمان، وبين
ثبوت خيار الفسخ في بعض الموارد، كالعيوب في الرجل والمرأة، واشتراط بنت
المهيرة في النكاح، وإعسار الضامن مع عدم علم الدائن في باب الضمان، وذلك
لإمكان التخصيص، فإن كل حكم تعبدي قابل للتخصيص.
وبالجملة: لو كان الالتزام فيهما حقيا ومن منشآت المتعاقدين لم يختص
الخيار بمورد خاص بل صح جعل الخيار مطلقا، لأنه لو كان منشأ اللزوم التزام
المتعاقدين لصح جعل ملكية كلا الالتزامين لأحدهما أو لكليهما، ولصح الإقالة
منهما، فمن عدم صحة جعل الخيار وعدم جواز الإقالة يستكشف أن اللزوم
حكمي.
قوله قدس سره: (بقي الكلام في الخبر الذي تمسك به في باب المعاطاة... إلى
آخره).
لا يخفى أن قوله عليه السلام: (إنما يحلل الكلام ويحرم الكلام) (1) حيث إنه ورد في
باب شراء الشئ ممن ليس مالكا له وفي باب المزارعة فلا بد أن يكون له معنى
يمكن تطبيقه على كلا البابين بحيث يكون كبرى كليا لهما، وإلا يلزم خروج
المورد.
فيجب أولا بيان محتملات هاتين الكلمتين في حد ذاتهما، ثم تطبيقهما على
محل ورودهما.
فنقول: الوجوه المحتملة خمسة:
الأول: أن يكون المراد انحصار المحلل والمحرم باللفظ دون القصد المجرد،
ودون الفعل مع القصد، وبناء عليه يلزم عدم إفادة المعاطاة للإباحة والتمليك.
الثاني: أن يكون المراد أن المضمون الواحد يختلف حكمه باختلاف الألفاظ
المفيدة له، مثلا: البينونة تتحقق بقوله: (أنت طالق) دون (أنت برية)، وعلقة

(1) الكافي: ج 5 ص 201 ح 6، وسائل الشيعة: ب 8 من أبواب أحكام العقود ح 4 ج 12 ص
376، و ج 13 ح 4، 6، 10 ص 200.
159

الزوجية تحصل بقولها: (متعتك) دون (سلطتك على بضعي) وهكذا، وحاصل هذا
المعنى: أنه يختلف الحكم باختلاف الأداء والتعبير وإن كان كل واحد من اللفظين
بمعنى واحد.
الثالث: أن يكون المراد أن الكلام الواحد قد يكون محللا إذا صدر في محل،
وقد يكون محرما إذا صدر في محل آخر، مثلا: عقد النكاح يكون محرما إذا كان
العاقد محرما، بخلاف ما إذا كان محلا.
وأما ما أفاده (1) في المتن باعتبار الوجود والعدم ففي غاية البعد.
الرابع: أن يراد منه أن العبارة الواحدة تختلف حكمها باعتبار قصد الإنشاء
منها، أو صرف المقاولة والمواعدة - مثلا - بناء على صحة النكاح بلفظ
(أزوجك)، فإذا وقع هذا اللفظ في زمان العدة بقصد إنشاء التزويج فيحرم، وإذا
وقع مواعدة فلا يحرم، وهكذا في الشراء من الدلال، فإذا أنشأ الدلال البيع قبل أن
يشتريه من مالكه يحرم، وإن كان مقاولة يحلل، أي لا يحرم.
وبعبارة أخرى: يراد من الكلام المحلل الأخبار والمقاولة، ومن المحرم
الإنشاء وإيجاب البيع.
الخامس: أن يراد من الكلام نفس معنى اللفظ، لا اللفظ بمعناه، فيصير حاصله
أن البيع قبل الشراء محرم، وبعده محلل، وهكذا في باب المزارعة جعل شئ بإزاء
البقر والبذر محرم، وجعله بإزاء عمل الزارع محلل.
ثم إن المعنى الأول لا ينطبق على باب المزارعة، فإن الظاهر من الكلام في
الفقرتين أن المضمون الواحد يختلف حكمه باختلاف التعبير، فإذا جعل في مقابل
البذر والبقر شيئا يفسد، وإذا جعل بإزاء عمل العامل يصح، مع أن المقصود واحد
في الحقيقة، فإن العامل لو لم يكن منه البذر والبقر لا يجعل بإزاء عمله هذا المقدار.
وما يقال (2) من كون المراد منهما في باب المزارعة أن القصد لا يؤثر بدون

(1) المكاسب: كتاب البيع ص 86 س 24 وما بعده.
(2) كما عن السيد اليزدي في حاشيته على المكاسب: كتاب البيع ص 75 س 7.
160

الإنشاء اللفظي، وإنما المؤثر هو الإنشاء. فخلاف الظاهر، لأن مع فرض الإنشاء
على نحوين أجاب الإمام عليه السلام بأن أحدهما محرم، فالظاهر من الكلام في كلا
البابين هو المعنى الثاني، وهو أن الغرض الواحد - وهو الربح في باب البيع، وجعل
العوض للبذر والبقر في باب المزارعة - لو عبر عنه بكلام خاص يفسد، ولو عبر
بكلام آخر يصح، وهذا لا يدل على اعتبار اللفظ في الصحة والفساد، لعدم كونه
ناظرا إلى هذه الجهة أو المعنى الثالث، بناء على ما احتمله المصنف (1) قدس سر ه.
من أن المحللية بالكلام باعتبار عدم البيع قبل الشراء، وباعتبار عدم الجعل
للبذر والمحرمية به باعتبار البيع والجعل للبذر، وهذا الاحتمال وإن كان جامعا
بين البابين إلا أنه لا يخفى ضعفه، لأن نسبة المحللية إلى عدم الشئ لا تصح، فإن
العدم لا يؤثر في الصحة، ولو أمكن التفكيك في معنى الفقرتين بين البابين لكان
الأنسب بالنسبة إلى الشراء من غير المالك هو المعنى الرابع، بأن يكون الألف
واللام للعهد، أي يحلل الكلام وهو المقاولة، ويحرم الكلام وهو البيع.
وعلى أي تقدير لا تدل الرواية على اعتبار اللفظ في المعاملات، إلا أن يقال -
كما أفاده المصنف (2) قدس سره -: إن هذه الفقرة على أي حال تدل على انحصار المحلل
والمحرم باللفظ وإن لم يستظهر منها المعنى الأول، وذلك لأنه لو انعقد البيع
بالمعاطاة لم يصح حصر المحرم بالكلام، لإمكان بيع ما ليس عنده بالمعاطاة.
ولكنه قدس سره أجاب (3) عن هذا الإشكال بأن وجه انحصار المحرم بالكلام في
هذا المورد من باب عدم إمكان المعاطاة، إذ المبيع ليس عند الدلال، ثم أمر
بالتأمل، ووجهه ظاهر، وهو:
أولا: إمكان كون المبيع عند الدلال فيبيعه من المشتري، ثم يشتريه من مالكه.
وثانيا: كفاية التعاطي من طرف واحد.

(1) المكاسب: كتاب البيع ص 86 س 24.
(2) المكاسب: كتاب البيع ص 86 س 32 وما بعده.
(3) المكاسب: كتاب البيع ص 86 السطر الثالث قبل الأخير وما بعده.
161

وكيف كان، فلا يخفى أنه على فرض إفادة الرواية للحصر فالحصر إضافي،
لأن حصر المحلل بالكلام إنما هو بالنسبة إلى إيجاب البيع قبل الشراء، وكذا حصر
المحرم بالكلام إنما هو بالنسبة إلى المقاولة، لا عدم تأثير الفعل رأسا.
وبعبارة أخرى: إذا كان مفاد الرواية حصر كل من المحلل والمحرم بالمقاولة
والبيع - أي كل واحد بالنسبة إلى الآخر، لا حصر أصل المحلل والمحرم باللفظ -
فلا يمكن التمسك بها، لبطلان المعاملة المعاطاتية، لعدم استفادة عدم تأثير الفعل
مع القصد منها، لعدم كونها ناظرة إليه.
قوله قدس سره: (وينبغي التنبيه على أمور: الأول... إلى آخره).
مقصوده قدس سره من هذا التنبيه أمران:
أحدهما: بيان اعتبار جميع شروط البيع العقدي في المعاطاة مطلقا، أو عدمه
مطلقا، أو التفصيل.
والثاني: لحوق أحكام البيع لها، وعدمه، ففيه مقامان:
أما المقام الأول: فالحق اعتبارها فيها مطلقا. أما على المختار من إفادتها
التمليك فلأنها بيع عرفا فيشترط فيها ما يشترط في البيع.
ودعوى: انصراف البيع إلى البيع العقدي فتختص شروط البيع به، غير
مسموعة، لأن الانصراف إنما يتم إذا كان صدق المفهوم على المعاطاة ضعيفا
بحيث تكون خارجا عن حقيقة البيع بنظر العرف واقعا، ولا شبهة أنها ليست كذلك.
وبالجملة: اختصاص الأدلة الدالة على اعتبار الشروط في العوضين أو
المتعاقدين بالبيع المنشأ باللفظ لا وجه له.
وأما بناء على القول بالإباحة فعلى ما اختاره صاحب الجواهر: (1) من أن
إفادتها الإباحة إنما هي في صورة قصد الإباحة فلأنه لو كان الدليل على صحة
الإباحة بالعوض هو قوله عليه السلام: (الناس مسلطون على أموالهم) (2) لكان إطلاقها

(1) جواهر الكلام: كتاب التجارة ج 22 ص 217 - 218.
(2) مر تخريجه في الصفحة: 92.
162

مفيدا لصحتها ولو مع فقد الشروط.
وأما بناء على ما تقدم وسيأتي من أن قوله عليه السلام: (الناس مسلطون) ليس
ناظرا إلى باب الأسباب ولا يدل على مشروعية صاحب المال وتسلطه على
الأحكام فينحصر دليلها بالسيرة، ولا خفاء أن المتيقن فيها صورة استجماع
المعاطاة لجميع ما يعتبر في البيع إلا الصيغة.
وأما على ما وجهنا به قول المشهور: من أن المتعاطيين وإن قصدا التمليك
ولكن حيث إنهما يوجدان مصداق التسليط فيترتب عليه الإباحة فلأن دليل
صحتها أيضا هو السيرة، والمتيقن منها صورة استجماعها لجميع الشرائط.
وأما على ما يستفاد من كلام الشيخ الكبير (1) واعترف به المصنف (2) في المتن:
من أن المتعاطيين يقصدان التمليك ويوجدان مصداق هذا العنوان - وإنما حكم
الشارع بالإباحة تعبدا على خلاف ما قصداه - فلأن الدليل على ذلك إما السيرة أو
الاجماع، وهما يقتضيان الصحة في مورد استجماع جميع شروط البيع.
وبالجملة: سواء قلنا بأن المعاطاة بيع أو معاوضة مستقلة كما ذكره الشهيد قدس سره
في موضع من الحواشي (3) فالحق اعتبار جميع الشروط فيها.
ثم إنه قد ظهر سابقا أن الوجه الأخير - وهو حكم الشارع بالإباحة تعبدا
على خلاف ما قصده المتعاطيان - وإن كان مستعبدا كما عده الشيخ الكبير (4) من
مستبعدات ما اختاره المشهور ولم يكن نقوض المصنف قدس سره عليه واردا إلا أنه
بناء على كون مقصود المشهور هذا الذي استفاده الشيخ الكبير، لا ما وجهنا به
مقصودهم، فاعتبار الشروط فيها أيضا مما لا إشكال فيه، مع أنه يمكن توجيه
آخر لكلامهم بحيث لا يرد عليه هذا الإشكال، وهو أنه يمكن أن يجعل الشارع

(1) شرح القواعد لكاشف الغطاء (مخطوط) الورقة 50.
(2) المكاسب: كتاب البيع ص 85 س 13 وما بعده.
(3) حكاه في الجواهر: كتاب التجارة ج 22 ص 226.
(4) شرح القواعد للشيخ كاشف الغطاء (مخطوط): الورقة 50.
163

لحصول الملك شرطا آخر، وهو التصرف أو التلف ونحو ذلك من الملزمات، كما
اعتبر لحصوله القبض في الصرف والسلم. فقول المشهور بالإباحة إنما هو قبل
الأول إلى البيع، أي قبل حصول الشرط، فعلى هذا إذا قصد المتعاطيان التمليك
وأوجدا مصداق هذا العنوان واعتبر شرعا في تحققه شرط متأخر - وهو التصرف
أو التلف، كشرطية القبض في حصول الملكية في الصرف والسلم - فلا تنخرم
قاعدة (العقود تابعة للقصود). وعلى هذا فاعتبار الشروط أيضا لا إشكال فيه،
لأنها بيع فيعتبر فيها ما يعتبر فيه.
وكيف كان، حيث إنه لا دليل على صحتها إلا أدلة البيع أو الاجماع والسيرة
فيقتضي اعتبار جميع ما أعتبر في البيع بالصيغة، فتدبر جيدا.
وأما المقام الثاني: فالحق فيه هو التفصيل فيجري فيها الربا، سواء قلنا بكونها
مفيدة للملك أو الإباحة، لأن الربا يجري في جميع المعاوضات، بل في الغرامات
وكذلك يجري فيها الانفساخ بالتلف قبل القبض، لما سيجئ من أن هذه القاعدة
وإن استفيدت من النص (1) وهو يختص بتلف المبيع إلا أن الأقوى أنها ليست
تعبدية صرفة، بل منطبقة على القاعدة ومنشؤها التزام المتعاملين بالتسليم ضمنا،
فإذا امتنع التسليم تنفسخ المعاملة فعلى القول بالإباحة أيضا تنفسخ المعاوضة، بل
الانفساخ هنا أولى، لأن المعاوضة المفيدة لإباحة (2) العوض المسمى قوامها
بوجود المباح، فلو تلف لا يبقى مورد للإباحة، وتعلق الإباحة بالمثل أو القيمة لا
وجه له: وأما لحوق الخيارات لها فتارة يتكلم فيه قبل اللزوم، وأخرى بعده.
أما قبل اللزوم فالأقوى عدم جريان الخيارات مطلقا، سواء قلنا بالملك أو
الإباحة، لأن الخيار هو ملك التزام نفسه مع كونه مالكا لالتزام طرفه.
وبعبارة أخرى: أثر إقالة الطرفين يملكه ذو الخيار، فهو مالك لكلا الالتزامين،
ومالكية الالتزام إنما تجري في العقد دون الفعل الذي لا ينشأ به إلا

(1) عوالي اللآلي: ج 3 ص 212 ح 59.
(2) في الأصل المطبوع: (للإباحة) والصواب ما أثبتناه.
164

تبديل طرف الإضافة دون البقاء على هذا التبديل والالتزام به.
وبالجملة: بعد ما عرفت أن الجواز في المعاطاة من باب عدم تحقق الملزم فلا
يجري فيها الخيار، لأنه مقابل للالتزام العقدي، فلو لم يكن التزام فلا خيار.
نعم، بناء على ما وجهنا به الإباحة على القول المشهور يمكن جريان
الخيارات مطلقا على القول بالإباحة، وذلك لأن حكم المعاطاة قبل الملزمات
حكم بيع الصرف والسلم قبل القبض، ومجرد جواز الرد لا يمنع عن جريان الخيار
حتى مثل: خيار المجلس والحيوان، لأنها بناء على هذا بيع يفيد الإباحة شرعا
قبل الملزمات، فإذا كانت بيعا فيدخل فيها الخيار، ولو كان مبناها على الجواز قبل
الملزمات فإن جوازها من وجه لا ينافي جوازها من وجه آخر. وأما حكم الخيار
بعد الملزمات فسيأتي إن شاء الله بعد ذكرها.
قوله قدس سره: (الأمر الثاني: أن المتيقن من مورد المعاطاة هو حصول التعاطي
فعلا من الطرفين... إلى آخره).
لا يخفى أنه لم ترد المعاطاة في نص أو معقد إجماع حتى يقال: إن المتيقن
من موردها ما إذا كان التعاطي من الطرفين دون ما إذا كان الإعطاء من طرف
والأخذ من الطرف الآخر، فالمدار على إمكان إنشاء عنوان البيع أو الإجارة
ونحوهما بالفعل من طرف واحد أم لا، وذلك لما أشرنا إليه سابقا وسيجئ في طي
المباحث الآتية أن المناط في تحقق عنوان عقد من العقود بالفعل كون الفعل
مصداقا لهذا العنوان بحيث يحمل عليه بالحمل الشائع الصناعي كحمل الانسان
على زيد، وأما مجرد قصد عنوان من الفعل من دون أن يكون هذا الفعل عرفا من
مصاديق هذا العنوان فلا أثر له في باب العقود، لأن عناوين العقود من المنشآت،
والمنشأ إنما يتحقق بما هو آلة لإنشائه.
ومن هنا يظهر أن مثل الصلح والهبة المعوضة: والنكاح والضمان ونحو ذلك،
لا يمكن إيجاده بالفعل، لعدم وجود فعل يكون مصداقا لهذه العناوين، فقصد
إيجادها بالفعل لا يفيد.
إذا عرفت ذلك فعمدة الإشكال في جريان حكم المعاطاة في الإعطاء من
165

طرف واحد أن الاعطاء كذلك ليس مصداقا لخصوص تبديل أحد طرفي الإضافة
بمثله الذي يسمى بيعا وإن قصد به التعويض بالثمن الكلي أو الشخصي وأخذ
الآخر المثمن بقصد القبول وأعطى الثمن بعد ذلك بعنوان الوفاء، لأن نسبة هذين
الاعطاءين إلى البيع والهبة المعوضة متساوية، ومجرد مقاولتهما على كونه بيعا
وقصدهما البيع من إيجاد الفعل لا يفيد بعد عدم كونه مصداقا له.
وبالجملة: حيث إنهما في مقاولتهما عينا عوضا معينا كليا كان أو شخصيا
فيخرج هذا الإعطاء عن عنوان القرض، لأن العوض فيه هو المثل أو القيمة، إلا
أنه لا وجه لخروجه عن الهبة المعوضة، لأنها ليست إلا هبتان مستقلتان
وتمليكان مجانيان وفي المقام يمكن ذلك، فجعله مصداقا للتبديل الملكي في
غاية الإشكال، ولا يقاس الإعطاء من طرف واحد بالإعطاء من الطرفين ويقال:
كيف يستفاد البيع من إعطاء الطرفين؟ مع أنه يمكن أن يكون هبة معوضة، وذلك
للفرق بينهما، فإنه لو كان في البين تعاط فنفس هذا التبديل المكاني بطبعه الأصلي
تبديل لأحد طرفي الإضافة الاعتباري بطرف إضافة أخرى، والمفروض أنهما
قصدا به التبديل البيعي وأوجدا ما هو مصداق له، فإخراجه عن البيع وإدخاله في
الهبة المعوضة يحتاج إلى مؤنة زائدة وهذا بخلاف ما إذا كان الإعطاء من طرف
واحد، فإنه ليس هناك تبديل خارجي حتى يكون قصد إنشاء التبديل الاعتباري
منه كافيا. (1)

(1) ولكنه يمكن أن يقال: لا فرق بين التعاطي والإعطاء من طرف واحد في أن تشخص الفعل
مع كونه ذا وجوه هو القصد.
ودعوى عدم كون الفعل الواحد مصداقا لتبديل أحد طرفي الإضافتين لا وجه لها، لأنه لو
لم يتعقبه الأخذ لكان كالإيجاب اللفظي بلا قبول، وأما مع تعقبه فإعطاء المبيع إيجاب للبيع
وأخذ المشتري قبول منه، ثم تسليمه الثمن وفاء للمعاملة كتسليمه في المعاملات القولية.
وبالجملة: لو قصد البائع من اعطائه المثمن تبديله بالثمن في ذمة المشتري أو بالثمن
المشخص الخارجي فعدم كونه هذا الإعطاء مصداقا لتبديل أحد طرفي الإضافة الاعتباري
لا وجه له (منه عفي عنه).
166

ثم إنه يقوى الإشكال فيما لم يكن الإعطاء والأخذ من طرف واحد أيضا، بل
كان مجرد إيصال الثمن وأخذ المثمن، كوضع الدراهم في دكان صاحب المخضر
وأخذ المخضر بدلا عنها مع غيبة صاحبه، ولا يمكن تصحيحه بكونه وكيلا من
الطرفين في تبديل أحد طرفي الإضافة بمثله، لوضوح عدم توكيل المالك شخصا
معينا.
نعم، لو قلنا: إن البيع هو اسم المصدر لا المصدر صح عده بيعا، لأن نتيجة
الإعطاء من الطرفين وصول العوضين إلى المالكين، إلا أن هذا فرض لا واقع له،
لأن البيع يتحقق بإنشائه بالفعل أو القول، ومجرد وصول كل عوض إلى مالك
الآخر ليس بيعا ولو قصد من الإيصال تبديل أحد طرفي الإضافة بمثله، لأن
القصد المجرد أو القصد مع إيجاد غير مصداق ما هو المقصود لا أثر له، فالالتزام (1)
بكونه إباحة بالعوض وأن الدليل عليه هو السيرة في خصوص المحقرات لا بأس
به، لعدم دليل على انحصار باب المعاوضات بالعناوين الخاصة.
ثم إن الأقوى إشكالا منه ما إذا لم يكن وصول أيضا، كما إذا تقاولا على
مبادلة شئ بشئ وتلفظا بالألفاظ الغير المعتبرة في العقد، بأن تكون المعاملة
بنفس هذه المقاولة لا بالإعطاء الواقع بعدها، بل كان وفاء بالمعاملة.
ووجه الإشكال: أن المقاولة ليست إلا التباني على أمر، ومجرد التباني ليس
بيعا.
نعم، لو أنشأ بهذه الألفاظ مصداق التباني بحيث يخرج عن البناء القلبي
والأخبار والوعد فالصواب أن يقال: إنها مصالحة، لعدم اعتبار لفظ خاص في
الصلح، وكون حقيقته هو التسالم على أمر، ويدل عليه الخبر الوارد في قول أحد
الشريكين لصاحبه: (لك ما عندك ولي ما عندي) (2) فإنه محمول على الصلح، لأن

(1) حكاه الشهيد الثاني عن بعض العامة، كما في مسالك الأفهام: كتاب التجارة ج 1 ص 170
س 34.
(2) من لا يحضره الفقيه: ج 3 ص 33 ح 3268. عنه في الوسائل ج 13 ص 165 - 166 ب 5
من أبواب أحكام الصلح ح 1.
167

المنشأ في الصلح هو التباني على أمر والتسالم عليه، فتأمل.
قوله قدس سره: (الثالث: تميز البائع من المشتري... إلى آخره).
محصل هذا التنبيه: أنه لو كان أحد المالين اللذين وقع التبديل بينهما من
الأثمان والآخر من العروض فصاحب الثمن هو المشتري، ولو كان كل منهما من
الأثمان فالمشتري هو المعطي ثانيا، ولو كان كل منهما متاعا فتمييز البائع من
المشتري من وجهين:
أحدهما: ما تقدم، وهو: كون المعطي أولا هو البائع، والتالي هو المشتري.
وثانيهما: من قوم متاعه بثمن وأعطى لكونه يسوى بدرهم كذا فهو المشتري،
والبائع من لم يلاحظ ماله مقوما بقيمة خاصة، ولو لم يكن كل ذلك ولا قصد ولا
سبق مقاولة يدلان على كون أحدهما بائعا والآخر مشتريا ففي كونه بيعا وشراء
بالنسبة إلى كل منهما، أو كونه صلحا، أو معاملة مستقلة وجوه، والأقوى عدم
صحتها.
أما الأول: فإن في المعاملة الواحدة لا يمكن أن يكون كل واحد منهما بائعا
ومشتريا، لما عرفت: من أن البيع تبديل أحد طرفي الإضافة بمثله، والبائع ينشئ
التبديل والمشتري يقبل ذلك.
وإذا فرضنا أن الفعلين وقعا دفعة واحدة، وأن المالين كلا منهما من الأثمان أو
من العروض ولم يكن سبق مقاولة منهما في تمييز البائع عن المشتري فلا بد أن
يكون هناك معاملة واحدة قائمة بصرف الوجود من تبديل أحدهما وقبول الآخر،
وصرف الوجود يتحقق بأحدهما من دون مميز بينهما: لا ظاهرا كما هو ظاهر، ولا
واقعا، لعدم خصوصية في أحدهما دون الآخر.
وبالجملة: التبديل بين المالين لا يتصور فيه أن يكون كل واحد بائعا ومشتريا
من جهة، إذ بعد حصول الإيجاب من أحدهما لا على التعيين والقبول من الآخر
كذلك لا يبقى محل للإيجاب والقبول مرة أخرى، فإنه تحصيل للحاصل،
والمفروض أنه لم يقع هناك إقالة منهما حتى يحصل البيع ثانيا.
168

وأما كونه صلحا فهو موقوف على أن يكون قصدهما من الإعطاء والأخذ هو
التسالم لا البيع، وعلى هذا لا وجه لكونه معاملة مستقلة، لأن مع قصدهما التبديل
لا يكون إلا بيعا، فالحق: كون أحدهما لا على التعيين بائعا والآخر مشتريا، من
دون امتياز بينهما واقعا، فلا يترتب على كل منهما الآثار الخاصة الثابتة للمشتري
والبائع.
قوله قدس سره: (الأمر الرابع: أن أصل المعاطاة - وهي: إعطاء كل منهما الآخر
ماله - يتصور بحسب قصد المتعاطيين على وجوه... إلى آخره).
لا يخفى أن الوجه الأول في كلامه هو أن يقصد المتعاطيان البيع والشراء، بأن
يقصد أحدهما تبديل ماله بمال الآخر الذي هو بيع حقيقة ويقصد الآخر تملك ما
أعطاه البائع مطابقة، الذي لازمه تمليك ماله للبائع.
ثم لا يخفى أنه بناء على ما أفاده من أن الإيجاب والقبول يتحقق بدفع العين
أولا من البائع وقبضها من المشتري، وخروج ما يدفعه المشتري ثانيا ويقبضه
البائع عن حقيقة المعاوضة فيلزمه أن تكون المعاملة حاصلة دائما بدفع العين أولا
وقبضها، ويكون دفع المشتري دائما خارجا عن حقيقة المعاوضة.
وعلى هذا، فلا وجه لما التزم به في الأمر الثاني من أن المتيقن من مورد
المعاطاة هو حصول التعاطي فعلا من الطرفين، (1) لأنه لا وجه لتيقنه من بين
الأفراد، لأن المفروض أن العطاء الثاني لا أثر له، ولا يتحقق به إلا عنوان الوفاء
بالمعاملة، لأن دفع المشتري إنما هو من باب التزامه به على نفسه، ولذا قال قدس سره:
بأنه لو مات الأخذ قبل دفع ماله مات بعد تمام المعاطاة. (2) فالأقوى أن يقال: إن
المعاملة تتحقق بفعل كل منهما، وفعل البائع بمنزلة الإيجاب القولي، وإعطاء
المشتري بمنزلة القبول القولي، وأخذ كل منهما وفاء بالمعاملة والتزام بآثارها.
وعلى هذا، فما يتعارف في قصد المتعاطيين بناء على الملك لا يخلو من ثلاثة
على سبيل المنفصلة الحقيقية، بناء على عدم خروج المعاطاة عن المعاملات

(1) المكاسب: كتاب البيع ص 88 س 4.
(2) المصدر نفسه س 29.
169

المتعارفة، لأن الإعطاء إما من الطرفين أو من طرف واحد.
وعلى الأول: إما أن يكون إعطاء أحدهما مترتبا على إعطاء الآخر أو في
عرضه، فلو كان من الطرفين طوليا فهو بيع لا غير، لأن الأول قصد بإعطائه تمليك
ماله وتبديله بمال الآخر، والثاني قصد بإعطائه قبول هذا المعنى وأخذ المعوض
من باب الاستيفاء. كما أن الأول يأخذ العوض كذلك.
ولو كان عرضيا فلو تسالما على أن يكون تمليكا بإزاء تمليك فهو مصالحة أو
معاملة مستقلة ليس بيعا، لأن البيع هو التبديل بين المالين لا التمليكين. وأما لو
قصد التبديل بين المالين فهو بيع. ولو كان من طرف واحد لا يكون إلا هبة
معوضة.
أما كونه هبة لا بيعا فلأن البيع تبديل مال بمال، فالمالان لا بد أن يكونا
موجودين، أو بمنزلة الموجود كالكلي، والمفروض في المقام: أن أحدهما ليس
موجودا، والكلي لا يمكن أن يكون عوضا في المعاملات الفعلية، لقصور الفعل
عن إفادة جعل الكلي في ذمة المشتري بدلا، والقرينة القائمة على عدم المجانية
إنما تقتضي اعتبار العوض، وهو يلائم مع الهبة المعوضة أيضا، فينحصر في الهبة
بعد عدم كونه بيعا ولا معاملة مستقلة. وأما كونها معوضة فلما عرفت من قيام
القرينة على عدم المجانية.
فظهر أن في مورد قصد التمليك وإفادة المعاطاة الملكية لا يتصور إلا ثلاثة
أقسام كل قسم في مقام خاص، لا كما يظهر من كلامه قدس سره من جريان جميع
الأقسام في جميع الموارد.
وبالجملة: لو ورد الفعل على المالين فهو إما بيع لو قصد أحدهما التمليك
والآخر التملك، أو مصالحة لو قصدا تمليكا بإزاء تمليك، ولا يمكن أن يكون
صلحا في مقام البيع، لأنه وإن قلنا بعدم كون الصلح عنوانا مستقلا من عناوين
العقود، بل كان في كل مقام تابعا لما يقصد منه إلا أن الصلح في مقام البيع معناه أن
يكون المتصالح عليه هو البيع، وحيث إنه لا يمكن أن يكون في المقام بيعا فلا
170

يمكن إنشاء التسالم عليه. ولو ورد الفعل على مال واحد فهي هبة لا غير، غاية
الأمر قرينة أنه لا يملك مجانا تقتضي اشتراط العوض، ولا يمكن أن يكون بيعا،
لما عرفت (1) من أن البيع تبديل مال بمال، والكلي لا يمكن أن يصير عوضا إلا
باللفظ، ومجرد القصد لا أثر له ما لم يتحقق على طبقه لفظ أو فعل يحمل عليه
عنوان التبديل، والانشاء باللفظ مفقود على الفرض، والفعل لا يقع في مقام اللفظ
إلا في تمليك المال بالمال الموجود لا بالكلي، والقرينة لا تقتضي إلا عدم
المجانية، فتأمل.
ثم لا يخفى أن الوجوه المتصورة فيما إذا قصد التمليك أو الإباحة أزيد مما
ذكره قدس سره، وإنما لم يذكرها لخروجها عما هو المتعارف من قصد المتعاطيين، مع أن
منها ما لا دليل على صحته، كما لو قصد أحدهما تبديل ماله بتمليك الآخر، وهو
الفعل الخارجي الصادر من المشتري، فيكون من بيع الأموال بالأعمال، وكما لو
أوقعا المعاملة على وجه الإباحة، أي تبديل المباح بالمباح.
فلبطلانه في المقام. وإن صح بيع الأموال بالأعمال، وذلك لأن العمل الذي
يقابل بالمال يشترط كونه مقصودا بالاستقلال لا آليا وطريقا لتحصيل المال كما
في المثال، لأنه ليس التمليك بالمعنى المصدري مالا، بل المال هو الحاصل من
المصدر، وليس هذا الفعل إلا آلة لحصول اسم المصدر، فلا يمكن أن يقابل بالمال
وفرق بين البيع بإزاء التمليك وبيع المال على أن يخيط له ثوبا أو يجري له صيغة
عقد أو يبيع مالا من أموال البائع فإن الفعل في الأول آلي بخلاف الثاني فإنه
استقلالي يبذل بإزائه المال.
وبالجملة: الأعمال التي تقابل بالمال هي ما تصح أن يتعلق به الإجارة،
وإجارة الانسان لأن يبيع ماله على المؤجر باطلة، والفرق بين التمليك وسائر
الأعمال يظهر في وقوعهما شرطا في ضمن عقد لازم، فإنه لو تخلف من اشترط
عليه التمليك ينوب عنه الحاكم، أو عدول المؤمنين، أو فساقهم، أو نفس المشترط

(1) تقدم في الصفحة: 93، 114.
171

كل لاحق بعد تعذر سابقة، وهذا بخلاف سائر الأعمال فإنه بمجرد التخلف يتعذر
الشرط ويثبت الخيار. والسر فيه أن التمليك طريقي آلي لا يشترط فيه المباشرة.
فلأن الإباحة ليست بنفسها أمرا حاصلا للمالك، لأن ما هو الحاصل له هو
الملكية، وهي قابلة للتبديل، لأن زمام أمرها بيده، بخلاف المباحية فإنها تحصل
بإباحة المالك لغيره، وليست هي حاصلة للمالك في عرض الملك، وجواز تصرف
المالك في ملكه من أثار مالكيته لا من آثار إباحته له.
قوله قدس سره: (وأما إباحة جميع التصرفات حتى المتوقفة على الملك فالظاهر أنه
لا يجوز... إلى آخره).
حاصل مرامه: أنه لو قصد أحدهما الإباحة والآخر التمليك أو قصد الإباحة
بإزاء الإباحة يشكل صحة هذه المعاملة، لأن التصرفات المتوقفة على الملك لا
تسوغ لغير المالك بمجرد إذن المالك، ولا يمكن التمسك لصحتها بعموم (الناس
مسلطون على أموالهم) (1). وليس عمومه بمنزلة دليل خاص يدل على صحة
التصرف حتى يكون مخصصا لأدلة (لا بيع إلا في ملك). (2) مثلا، أو يقدر الملك
آنا ما، وذلك لأن عموم (الناس مسلطون) إنما يدل على تسلط الناس على
أموالهم لا على أحكامهم. فالأدلة الدالة على عدم صحة البيع والعتق ونحوهما
- إلا في الملك - حاكم على عموم (الناس). والموارد التي يقدر الملك فيها آنا ما
لا يخلو من ثلاثة ليس الإذن في التصرف منها:
الأول: استيفاء المال أو العمل بالأمر المعاملي: كقول الآمر لمالك العبد أعتق
عبدك عني، ونحو ذلك.
والثاني: ملك العمودين.
والثالث: تصرف ذي الخيار فيما انتقل عنه.
وتقدير الملك في هذه الموارد ليس بمجرد الخيار والتصور حتى يتصور في
كل مقام، بل له حقيقة تقتضي الأدلة تقديره في هذه الموارد.

(1) مر تخريجه في الصفحة: 92.
(2) مر تخريجه في الصفحة: 103.
172

ومحصل وجه التقدير في أمثال العتق عن الآمر: أن أمر الآمر بإيجاد عمل
محترم أو بإتلاف مال محترم غير مجاني يرجع نفعه إلى الآمر يقتضي وقوعه لو
أوجده المأمور في ملك الآمر، لأنه استوفاه حقيقة بأمره، والمفروض عدم
صدوره عن المأمور تبرعا، بل بالعوض المسمى لو عينه، أو المثل أو القيمة لو لم
يعينه، فلا محالة يدخل هذا العمل أو المال في ملك الآمر وينتقل عنه أو يتلف في
ملكه. فلو أمره بعتق عبده عنه أو بإلقاء ماله في البحر وعليه ضمانه، أو بأداء دينه
من ماله أو بضمانه عنه، أو بحمل شئ له أو بحلق رأسه ونحو ذلك فباستدعائه عن
المأمور يصير شبه قرض في الجميع. أو يقال بأنه لو تعلق أمره بالأعيان فكأنه
اشتراها من المأمور، أو بالأعمال فكأنه استأجر عاملها، أو بأداء الدين فكأنه
اقترض من المأمور، فيدخل العبد المأمور بعتقه حقيقة في ملك الآمر وينعتق عنه،
وهكذا يدخل المال الذي أمر بإلقائه في البحر في ملك الآمر، ويتلف في ملكه إذا
لم تكن المعاملة سفهية، كما إذا توقف النجاة من الغرق على الألقاء، وهكذا في
مورد الأمر بأداء الدين فبعد دخول المال في ملكه يوفى به دينه، وكذا الحوالة
على البرئ، وهكذا الأمر بحمل شئ له ونحو ذلك.
وبالجملة: كل هذه العناوين حيث إنها معاملة واقعة بين الآمر والمأمور
والمأمور امتثل ما أمر به الآمر فتقع في ملك الآمر، وإذا عين له العوض فلا يستحق
إلا المسمى، ولو لم يعين فيضمن له المثل أو القيمة.
ومن أحكام هذه المعاملة أنه ليس للمأمور مطالبة العوض إلا بعد الامتثال،
ولا يضمن الآمر إلا بعد الاستيفاء، فصحة هذه المعاملة، لعموم (تجارة عن
تراض) (1) تقتضي تقدير الملك، فكأن العبد يدخل في ملك الآمر وينعتق عنه.
ثم إن تقدير الملك آنا ما في مسألة العتق ليس، لأن العتق لا بد أن يقع من
المالك، لأنه إذا وقع من دون أمر آمر واستدعائه يقع من مالكه ولو قصده عن
غيره بعوض، فإن هذا القصد من دون أمر الغير لغو، ولا لأن العتق لا يقع من المالك

(1) النساء: 29.
173

عن الغير كما توهم، فإن الدليل الدال على وقوعه تطوعا معتبر دلالة وسندا، لكونه
معمولا به بين الأصحاب، وبه يثبت التلازم بين صحة الوكالة وصحة النيابة في
خصوص العتق وإن لم نقل بأن كل ما يقبل الوكالة يقبل النيابة، بل لما ظهر من أن
استيفاء مال محترم كالعبد بالأمر المعاملي وباستدعاء التمليك بالعوض، وتمليك
المأمور جوابا عن الاستدعاء يقتضي دخول العبد في ملك المستدعي وانعتاقه
عنه دون مالكه الأصلي. فمعنى التقدير في أمثال هذه الموارد ليس بمعنى الفرض،
بل ملك حقيقي غير مستقر كالملك الحاصل لذي الخيار، والواهب بالتصرف
الناقل، والملك الحاصل لمشتري العمودين. ولا وجه لما يظهر من المصنف من
الفرق بين الموارد.
وحاصل الكلام: أن نفس استيفاء الأموال أو الأعمال بالاستدعاء المعاملي
تقتضي وقوع ما استدعاه في ملك المستدعي، وهذا المعنى مفقود في إذن المالك
للغير بالتصرف وإباحته له، لأن مجرد الإباحة والإذن لا يوجب وقوع المأذون فيه
والمباح في ملك المأذون والمباح له، فلو قال: أعتق عبدي عنك من دون إذن في
توكيله في العتق عن المالك تبرعا عن الوكيل ومن دون إذن في شرائه العبد لنفسه
ثم عتقه في ملكه فلا يقتضي وقوع العتق في ملك المأذون حتى يقدر الملك آنا ما،
لعدم دليل يدل على جواز هذا النحو من التصرف من غير المالك بإذن المالك حتى
يقدر الملك آنا ما بدلالة (الاقتضاء) وعموم (الناس مسلطون) قاصر عن شموله
له، لحكومة الأدلة الدالة على توقف هذه التصرفات على الملك عليه.
ثم لا يخفى أن دلالة الاقتضاء المستفادة في المقام ليست من مداليل الألفاظ،
ولا مما يتوقف صحة الكلام والخروج عن اللغوية عليه حتى تستفاد هذه الدلالة
في عكس المقام، وهو: ما لو قال أعتق عبدي عنك، أو اشتر من مالي لنفسك
طعاما، بل وجه استفادة دلالة الاقتضاء هو أن استيفاء المال أو العمل المحترم مع
عدم قصد التبرع من المالك أو العامل يقتضي ضمان المستوفى، ومقتضى ضمانه
انتقال ما استوفاه إلى ملكه، لأن ضمانه من باب المعاملة، لا الغرامة حتى لا يقتضي
174

دخول المضمون به في ملك الضامن، فدلالة الاقتضاء في المقام نظير اقتضاء
إيجاب شئ لإيجاب مقدمته، وهذه الدلالة لو وجدت في عكس المسألة نلتزم
بها، كما لو فرض أنه قصد الإعطاء مجانا بنفس الفعل وقال: اشتر لك من مالي
طعاما، من دون أن يقصد بالقول إنشاء التمليك، ومن دون توقف التمليك على
اشتراء المأمور، بل داعيه تمليك المال للمأمور مجانا لأن يشتري به شيئا خاصا،
أو قصد الإقراض وكان القبول من المتهب بنفس الأخذ، من دون مدخلية للاشتراء
في القبول، أو كان غرضه توكيله في الاشتراء للمالك ثم أخذ الطعام قرضا، أو
اشتراء الطعام لنفسه في ذمته وإيفائه من مال الأمر بإذنه، ويصح كل ذلك لو قلنا
بوقوعه بالألفاظ المجازية والكنائية، إلا أن جميع ذلك خارج عن مفروض
المسألة، لأن المفروض هو حصول النقل والانتقال بنفس الأمر والامتثال، وهذا
إنما يصح في (أعتق عبدك عني)، أو (أد ديني) أو (احلق رأسي)، لا في مثل:
(أعتق عبدي عنك) و (اشتر لنفسك من مالي طعاما).
وتوضيح الفرق بينهما: أن في الأصل - وهو العتق عن الغير وأداء دينه وحلق
رأسه - يصح بنفسه من مالك المال والعمل، وإذا صح مجانا يصح مع العوض، فإذا
استدعى الأمر صدوره من المالك والعامل مع التزامه الضمان وامتثل المأمور
فيقتضي الاستدعاء والامتثال مع عدم قصد التبرع الضمان، ولازم الضمان
التعهدي دخول المضمون به في ملك الضامن، وهذا هو الملك التقديري.
وأما في عكس المسألة: فالاشتراء للنفس بمال الغير وعتق عبد الغير لا يصح
حتى يكون الأمر به استدعاء وامتثاله إيجابا، فلا أثر هنا للامتثال ولا للأمر من
المالك وإباحته لغيره وإذنه في التصرف، لأنه ليس من أنحاء سلطنة المالك الإذن
بتصرف يتوقف على الملك، لأن الإباحة المطلقة لا يباح بها إلا ما هو جائز بذاته
شرعا كما عرفت في الأصل، لا ما يباح بالإباحة، فإن الإباحة بها فرع صحتها
وصحتها بالإباحة دور واضح فتقدير الملك في العكس دور واضح، لتوقفه على
صحة عتق المأمور، وصحته تتوقف على التقدير.
175

نعم، لو قام دليل خاص على صحة هذه الإباحة بالإذن كما ادعي (1) قيام
السيرة على صحة المعاطاة فيما لو قصد المتعاطيان الملك مع ترتب الإباحة عليه،
وكذا لو قصدا الإباحة المطلقة وادعي الإمضاء أيضا، أو قام دليل على عموم أنحاء
سلطنة المالك حتى إذنه في التصرفات المتوقفة على الملك لخصصنا به الدليل
الدال على اعتبار وقوع هذه التصرفات في الملك لو كان شرعيا، أو نقدر الملك آنا
ما لو كان عقليا.
وأما إذا لم يقم دليل خاص فبعموم (الناس مسلطون) (2) لا يمكن إحراز كفاية
إذن المالك وإباحته في التصرف فيما يتوقف على الملك.
وبالجملة: كون عكس المسألة من قبيل المسألة إنما هو فيما لو كان إذنه في
عتق العبد إذنا في توكيله باستيفاء العبد من قبل مالكه بأمر معاملي موجب
للضمان، فوقوع العتق بمنزلة الاستيفاء بالضمان، والإذن بمنزلة القبول، ولازم
الاستيفاء بالضمان وقوع العتق في ملك المستوفي الضامن وولائه له، بخلاف ما
إذا أذنه في عتقه من قبل مولاه تبرعا منه للمأمور، فإن ولاءه للآذن الذي خرج
العبد عن ملكه، وأما مجرد الإذن في العتق بدون قصد التبرع وبدون وقوع
المعاملة بينهما فلا يفيد في صحة وقوع العتق، لأن الناس غير مسلطين على إباحة
ما لا تؤثر الإباحة فيه.
ثم إن الأمور التي تتوقف على الملك قطعا هو البيع والعتق والوطئ، وأما
الخمس والزكاة وثمن الهدي ففيها خلاف كما سنشير إليه.
أما البيع فلما تقدم (3) من أن حقيقته تبديل المالين، ولازمه خروج العوض
عن ملك من يدخل في ملكه المعوض، وبالعكس، فمع بقاء ما أخذ بالمعاطاة في
ملك مالكه - أي المبيح - لا يمكن دخول العوض في ملك المباح له من دون
خروج المعوض عن ملكه، وليس اعتبار هذا الشرط لإخراج التمليك المجاني

(1) المدعي السيد اليزدي في حاشيته على المكاسب: كتاب البيع ص 81 س 14 وما بعده.
(2) مر تخريجه في الصفحة: 93.
(3) تقدم في الصفحة: 93.
176

حتى يقال: يعقل تمليك الانسان مال غيره بعوض يملكه بإزائه كما يعقل تمليك
ماله بعوض يملكه غيره، بل لبيان حقيقة البيع وهو تبديل أحد طرفي الإضافة
بمثله، فإذا كان في المثمن أحد طرفي الإضافة مالكه والطرف الآخر هو المثمن
وكان في طرف الثمن أيضا كذلك فلا بد أن يقوم العوض مكان المعوض في
الطرفية، ولازمه أن يصير مالك المعوض مالكا للعوض، وبالعكس، فلا يعقل أن
يقع التمليك من غير المالك ويقع العوض ملكا لهذا الغير، ولا يعقل أن يقع التمليك
من المالك بعوض يملكه غيره مع أن المعاملة مجانية بالنسبة إلى الغير الذي أخرج
منه المال في المثال الأول والمالك في المثال الثاني وإن لم يخرج المال مجانا
وبلا عوض.
وبالجملة: لا يمكن أن تقع المعاملة بين ثلاثة أشخاص أو أربعة بأن يخرج
المتاع من ملك زيد والعوض من عمرو، ويملك بكر العوض أو المعوض، أو يملك
بكر العوض وخالد المعوض بدون دخول العوض في ملك من خرج عنه المعوض
وبالعكس لا يمكن أن يكون بيعا، بل هذا حال سائر المعاوضات أيضا فإن
حقيقتها تقتضي أن يكون طرف العقد ومن يقام به المعاوضة مالكا للعوض، فإن
في المصالحة بين اثنين أو غيرها من العقود تقتضي أن يكون المتعاقدان طرفي
الإضافة، فلو صالح عن ماله زيدا على أن يكون عوضه الذي هو مال زيد لعمرو
يكون الصلح باطلا، إلا أن يكون بنحو الاشتراط الذي لازمه مالكية المشترط
الشرط على المشروط عليه دون عمرو. فالمعاوضة بين اثنين تقتضي أن يكون
الأجنبي أجنبيا، وعلى هذا فيلحق بالبيع الهبة، لتوقفها على الملك، حتى صار
قولهم: (وهب الأمير ما لا يملك) من الأمثال، وهكذا الصلح ونحوه من
المعاوضات فإنها في حكم البيع في اقتضائها دخول العوض، شرطا كان أو مالا،
أو سائر الاعتبارات العقلائية في ملك من يخرج المعوض عن ملكه.
نعم، شبه المعاوضات كالنكاح والخلع لا يقتضي ذلك، فيصح أن يكون
الصداق من غير الزوج، وهكذا يصح أن يكون البذل من غير الزوجة، إلا أنه في
177

الحقيقة خارج عن العقود المعاوضية.
وأما العتق فلأنه فك الملك ومن الإيقاعيات فلا بد من تحققه ممن له إيجاده
وإيقاعه. والإذن في التصرف لو كان راجعا إلى توكيل المأذون في العتق عن
المالك ولو تبرعا عن المأذون فهو خارج عن محل الكلام، لأن العتق - حقيقة -
واقع في ملك المالك، لا المباح له والمأذون، ولذا يكون ولاؤه للمالك، ولو رجع
إلى شرعية الإذن في وقوع العتق عن غير المالك فلا دليل عليها.
وبالجملة: لا فرق بين البيع والعتق، فكما لا يجوز بيع مال الغير بحيث يدخل
الثمن في ملك البائع دون المالك فكذا لا يجوز عتق عبد الغير بحيث يكون المعتق
غير المالك ويكون ولاؤه له أيضا.
وكما أن إباحة المالك وإذنه في بيع غيره وكذا إجازته بعد وقوع البيع
لا يجديان في أن يكون ثمن ماله للغير فكذا إباحته وإذنه للغير في عتق عبد الآذن
أو إجازته بعد وقوع العتق منه لا يجديان في أن يكون ولاؤه للغير.
نعم، بين البيع والعتق فرق من جهة أخرى، وهي أن في العتق حيث إنه يجوز
التبرع من مالك العبد عن غيره فينفذ إذنه للغير في أن يعتق عبد المالك عن نفسه،
فحيث إنه تبديل طرف إضافة بطرف إضافة أخرى فلا يؤثر إذن المالك في بيع
المأذون لنفسه وصيرورة الثمن له، لما عرفت: من أن هذا ليس معاوضة، لأنها
عبارة عن لبس بعد خلع، فكل من خلع يلبس بدله ولا يمكن أن يكون الخلع من
أحد واللبس للأجنبي.
وأما الوطئ: فلأنه اعتبر بالنص (1) والاجماع (2) وقوعه في ملك الواطئ، أي
لا بد أن يكون الواطئ مالكا للوطئ، سواء كان للزوجية أو لملك الرقبة، أو
للتحليل، ولا يملك الوطئ بالإذن من المالك، لاعتبار ألفاظ خاصة في التحليل
والتزويج.

(1) المؤمنون: 5 - 6.
(2) كما استظهره السيد اليزدي في حاشيته على المكاسب: كتاب البيع ص 79 س 22.
178

وأما ثمن الهدي فلا مانع من إعطائه من مال الغير بإذن مالكه، سواء كان في
الكفارات أو في حج القران أو الإفراد، لأن نفس السوق لا بد أن يقع قربيا ومباشرة
من السائق لو قلنا بالأخير، لا ثمن المسوق.
وأما الخمس والزكاة فلو قيل (1) بتعلقهما بالذمة يجوز اخراجهما من مال غير
من تعلقا بذمته كسائر الديون التي يجوز أداؤها من مال المديون. ولو قيل بتعلقهما
بالعين كما هو المشهور (2) فيشكل جواز التبرع عمن عليه إما لاعتبار مباشرته أو
لاختصاص ولاية الأخراج من غير العين به فلا يؤثر إذنه في الأخراج.
فتحصل مما ذكرنا: أن كل ما يتوقف صحته على الملك لا يجدي فيه الإذن
والإباحة، لأن صحته بهما تتوقف على عموم (الناس مسلطون)، وعمومه فرع عدم
تخصصه بما دل على اعتبار الملك عقلا، أو عدم تخصيصه بما دل على اعتباره
شرعا. ولا وجه للالتزام بالملك التقديري إلا بعد صحته في نفسه كما عرفت مما
ذكرنا في موارد استيفاء الأموال أو الأعمال بالأمر المعاملي، فإن إتلاف هذه
الأموال والإتيان بالأعمال بنفسها مشروعة من مالكها، ومقتضى الأمر المعاملي
أن يكون ضمانها على المستوفي، ومقتضى الضمان وقوعها في ملك الضامن.
أما ما شك في صحته - كما في الإذن والإباحة - فالتقدير فيه فرع عموم
التسلط، ولا عموم مع وجود الدليل الدال على لزوم وقوع هذه التصرفات في الملك.
والمورد الثاني من الموارد التي يقدر فيها الملك آنا ما تصرف ذي الخيار
فيما انتقل عنه وما يلحق به: كتصرف الواهب في العين الموهوبة بالتصرف الذي
يتوقف على الملك، فإن دليل نفوذ هذا التصرف يقتضي وقوعه في ملك المتصرف
ثم خروجه عنه، فإن من وجود المعلول - وهو نفوذ بيع ذي الخيار والواهب

(1) حكاه الشهيد الأول عن ابن حمزة لاحظ البيان: ص 186. ولكن ليس في الوسيلة أثر له
وعن بعض أن القائل به مجهول، وآخر نسبته إلى الشذوذ. لاحظ جواهر الكلام: كتاب الزكاة
ج 15 ص 138 - 139.
(2) كما في الحدائق الناضرة: كتاب الزكاة ج 12 ص 141.
179

وانتقال العين منهما إلى المشتري - يستكشف أن المبيع قبل البيع أو في زمان
الإنشاء ملك لهما، كما أن في مثل: (أعتق عبدك عني) يستكشف الملك من العلة،
وهو الضمان الناشئ عن الأمر المعاملي.
والمورد الثالث: شراء من ينعتق على المشتري، وانعتاق أم الولد من نصيب
ولدها، وانعتاق العبد المسلم على الكافر في بعض الصور، فإن من المعلول - وهو
الانعتاق - يستكشف الملك، أو يقال: ترتب الانعتاق من لوازم الملكية فعلية الملك
لأمر مترتب عليه، موجبة لثبوت الملك بالشراء أو التوريث ملكا غير مستقر.
وعلى أي حال، تحقق أصل الملك في الموارد الثلاثة لا إشكال فيه، لأنه
يستكشف: إما من علته، أو من معلوله، أو من أمر ملازم له مترتب عليه. وأما كونه
آنا ما وغير مستقر فهو مقتضى الدليل القائم في كل مورد.
وكيف كان، فالإباحة والإذن لا يدخلان (1) تحت هذه العناوين، ولا دليل على
نفوذهما حتى يستكشف منه الملك من جهة الجمع بينه وبين دليل توقف التصرف
على الملك.
قوله قدس سره: (فليس ملكا تقديريا نظير: الملك التقديري في الدية بالنسبة إلى
الميت أو شراء المعتق عليه... إلى آخره).
قد أشرنا إلى ما يرد على هذا الكلام، وقلنا في جميع هذه الموارد: إن الملك
حقيقي غير مستقر، وإن المراد من التقدير ليس مجرد الخيار، فلا فرق بين الملك
المستكشف من نفوذ تصرف الواهب وذي الخيار، والملك المستكشف من انعتاق
الأقرباء على المشتري، والملك المستكشف للميت القتيل من إرث وارثه، فإنه
كما يستكشف من صحة بيع الواهب أو عتقه كونه مالكا قبل البيع أو العتق لو قلنا
باعتبار وقوع الإنشاء في الملك، أو كونه مالكا حال البيع أو العتق لو قلنا باعتبار
وقوع المنشأ في الملك فكذلك يستكشف من وراثة الورثة من دية الميت المقتول:
أن المقتول حال القتل أو آنا ما قبله مالك لديته حتى يرث الوارث منها.

(1) في الأصل المطبوع: (لا يدخل) والأرجح ما أثبتناه.
180

نعم، لو كان مراده قدس سره من الميت هو الذي قطع أحد أعضائه بعد الموت ومن
الذي ينعتق عليه أقرباؤه هو الذي لا يملكهم - كما قيل (1) بعدم حصول الملك
لمشتري القريب نظرا إلى بعض الأخبار (2) الدالة على (أن العمودين لا يملكان) -
لكان الفرق بين هذين المثالين وتصرف الواهب بالبيع ونحوه بينا، فإن نفوذ بيع
الواهب كاشف عن كون المبيع ملكا له. وأما الميت فلا يملك إلا حكما.
كما أن الانعتاق على المشتري ليس إلا تعبدا، جزاء لكونه بصدد شراء
أقربائه، وعلى هذا، تسويته قدس سره بين الميت والمنعتق عليه أقرباؤه لا يصح، لأن
الميت يملك ديته حكما، والمنعتق عليه لا يملك رأسا.
كما أنه لا يصح كلامه لو كان مراده من الميت الذي قطع أعضاؤه بعد الموت،
ومن المشتري من ينعتق عليه ما ملكه بالشراء كما في بعض الأخبار (3) الدالة على
(أنهما يملكان فينعتقان) بلحاظ الفاء الدال على الترتب، لأنه لا جامع بينهما، فإن
الملك للمشتري ملك حقيقي، غاية الأمر جعله الشارع علة لزواله في المرتبة
المتأخرة، أو جعل الشراء سببا لأمرين: الملكية والانعتاق.
وأما ملك الميت للدية فهو ملك حكمي دل عليه الدليل، وإنما النزاع في
تقديره من زمان الموت حتى يرث منه كل وارث حينه، أو من زمان ورود القطع.
وهكذا النزاع في ملك الميت للصيد الواقع في الشبكة التي نصبها حال حياته
إنما هو في أن الوارث حين النصب يرث وحين الاصطياد.
قوله قدس سره: (فلم يبق إلا الحكم ببطلان الإذن في بيع ماله لغيره... إلى آخره).
قد تقدم: أن الإذن بنفسه ليس مشرعا، فنفوذه لجواز تصرف المأذون إنما هو
فيما ثبت للأذن شرعا.

(1) قاله الحلي في السرائر: كتاب العتق ج 3 ص 7.
(2) تهذيب الأحكام: ج 8 ح 871 ص 241، عنه وسائل الشيعة: ج 16 ص 12 ب 7 من
أبواب العتق ح 7.
(3) تهذيب الأحكام: ج 8 ص 240 - 241 ح 866 و 870.
181

وتفصيل ذلك: أن ما كان من قبيل الاتلافات التي كانت للمالك مباشرة أو
توكيلا فينفذ الإذن فيه، وما لم يكن له ذلك فلا ينفذ، فإذا أذن في الأكل والشرب
والعتق وأداء الدين ونحو ذلك فينفذ.
أما الأولان فواضح، لأنه من آثار سلطنة المالك على ماله.
وأما العتق فلما ظهر من أن العتق عن الغير تبرعا جائز ونافذ ويقع عنه، سواء
كان واجبا أو مستحبا على الغير، فإذن الغير به بمنزلة توكيله في عتقه عن مالكه
للوكيل، ومقتضاه وقوعه مجانا لو لم يكن مسبوقا بالاستدعاء من الغير، إلا أن
تقوم قرينة على التضمين فيضمن لو أعتقه، كما أن مقتضى الاستدعاء أن يكون
ضمانه على المستدعي فيقتضي دخوله في ملكه آنا ما، إلا أن تقوم قرينة على
عدم الضمان وعلى الاستدعاء من المالك مجانا.
وبالجملة: إذن المالك بالعتق عنه لغيره نافذ. ولكنه يحكى عن المسالك (1) في
باب الكفارات أنه لا بد أن يقع العتق في ملك المعتق وعن نفسه، لا عن غيره،
وإنما خرج عتق الولد عن الوالد تبرعا بالدليل.
ولا يخفى أن ما أفاده يتم لو قام إجماع عليه، وإلا مقتضى القاعدة صحته من
مالك العبد عن غيره، لأنه من قبيل سائر التبرعات كأداء الدين، وإعطاء ثمن
الهدي، ومهر زوجة الغير ونحو ذلك فحكمه حكم الإذن في الإتلاف.
نعم، تقدم (2) وجه الإشكال في الخمس والزكاة.
وبالجملة: كل ما كان للمالك إتلافه مباشرة يؤثر إذنه فيه، لأنه من الواضح
عدم اعتبار المباشرة في مثل ذلك وما لم يكن للمالك مباشرته: كالشراء بمال
الغير، بل مطلق المعاوضات، فإذنه لا يؤثر في صحته إلا أن يرجع إلى الإذن في
القرض ثم الاشتراء لنفسه بماله، أو يكون مجرد مقاولة قبل البيع، كما في أخبار (3)
العينة الدالة على أنه لو كان للآمر الخيار وللمأمور كذلك فلا بأس، أي إذا اشترى

(1) مسالك الأفهام: ج 2 ص 92 س 23.
(2) تقدم في الصفحة:
(3) الكافي: ج 5 ص 202 - 205.
182

أحد بماله لنفسه ولو كان داعيه أمر غيره بالشراء، ولذا كان مختارا في بيعه من
الآمر وعدمه فلا محذور، فأخبار العينة ناظرة إلى جهة المرابحة، وإلى بيان أنه لو
كان مقصود المتبايعين أخذ الربا يبطل البيع والشراء، وأما لو كان قصدهما البيع
الحقيقي فلا يبطل، وليست ناظرة إلى جواز شراء شئ بماله لغيره، ونحن نذكر
واحدا منها تيمنا.
ففي رواية الحسين بن منذر قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: الرجل يجيئني
فيطلب العينة فأشتري له المتاع مرابحة ثم أبيعه إياه، ثم اشتريه منه مكاني، فقال:
(إذا كان هو بالخيار إن شاء باع وإن شاء لم يبع، وكنت أنت بالخيار إن شئت
اشتريت وإن شئت لم تشتر فلا بأس (1) فإنه عليه السلام في مقام بيان أن
مقصودهما لو كان المعاوضة حقيقة فلا بأس، ولو كان مقصودهما أخذ الربح فربا.
وأما أن شراء المستدعى منه من مال المستدعي بعد قرضه منه أو من نفسه
فليس الإمام - عليه السلام - بصدد بيانه.
ثم لا يخفى أنه لو باع المأذون المفروض يقع البيع للمالك إما لازما أو
موقوفا على الإجازة ثانيا، كما سيجئ إن شاء الله في الفضولي تفصيله.
وملخص وجه الاحتمالين: أنه لو كان بيع المباح له مال غيره لنفسه من قبيل
بيع الولد مال أبيه بظن حياته ثم تبين موته قبل البيع فيحتاج إلى الإجازة، لأنه لم
يقصد بيع مال نفسه. ولو كان من قبيل من باع ماله على أن يصير الثمن ملكا للغير
فالقصد لغو، ويقع البيع لنفس البائع، ولا يحتاج إلى الإجازة، ففي المقام حيث
قصد البائع بيع مال غيره لنفسه يكون هذا القصد لغوا كقصد الغاصب بيع مال
المغصوب منه لنفسه، وبيع الغاصب وإن توقف وقوعه للمالك على إجازته إلا أن
في المقام يقع البيع للمالك بلا إجازته، للتلازم فيما صح بالإجازة صح بالإذن،
فإنه لو أثر الإجازة اللاحقة يؤثر الإذن السابق بطريق أولى.

(1) الكافي: ج 5 ص 202 ح 1. عنه في الوسائل: ج 12 ص 370 ب 5 من أبواب أحكام
العقود ح 4.
183

ولكن الأقوى الاحتياج إلى الإجازة في المقام، لأن التلازم فيما صح
بالإجازة صح بالإذن إنما هو لو وردا في محل واحد، وفي المقام الإذن تعلق ببيع
المأذون مال غيره لنفسه، لا لمالكه. وفي باب صحة ما باعه الغاصب لنفسه
بالإجازة إنما هو لأن الغاصب بنى على مالكيته فأوقع المعاملة بين ملكي
المالكين فالإجازة ترد على تبديل المالين.
فتلخص مما ذكرنا: أن الإذن ليس شرعا، ولا يباح به إلا ما يجوز للمالك
مباشرته، فتأمل.
قوله قدس سره: (ولكن الذي يظهر من جماعة منهم: قطب الدين... إلى آخره).
لا يخفى أنه وإن كان ظاهر جماعة أن شراء العالم بالغصبية من الغاصب
يوجب تملك الغاصب الثمن ولما اشتراه بهذا الثمن إلا أن هذا لا يمكن الالتزام به،
ولذا حمل بعض (1) تملك ما اشتراه الغاصب بالثمن الذي أعطاه العالم بالغصبية
على ما إذا وهبه العالم، لا على ما إذا أباح له، فإن مجرد الإباحة لا أثر له. ويمكن
أن يكون قوله قدس سره: (فتأمل) إشارة إلى أن ما يظهر من جماعة لعله محمول على
هبة العالم، لا إباحته له.
قوله قدس سره: (وأما الكلام في صحة الإباحة بالعوض... إلى آخره).
إباحة أحد المالكين ماله للآخر بعوض - أي تقابل الإباحة مع الملك - يقع
على قسمين:
الأول: أن يبيح المالك ماله على أن يكون المباح له ضامنا بالمثل أو القيمة،
وهذا لا إشكال فيه فإنه نظير العارية المضمونة.
الثاني: أن يبيح له بضمان المسمى كما هو مفروض البحث، وهذا تارة يقع
بالمعاطاة كما هو مفروض كلام المصنف، وأخرى بالقول، [و] على كلا التقديرين لا
إشكال في خروج هذه المعاملة عن عنوان البيع، لأنه تبديل مال بمال، لا تبديل
الإباحة بالمال، إنما الكلام في أنها عنوان مستقل، أو داخلة في عنوان الصلح.

(1) يظهر هذا من صاحب الجواهر في جواهره: كتاب التجارة ج 22 ص 306.
184

ثم بناء على الأول ما الدليل على صحتها ونحن في الدورة السابقة بينا على
أنها داخلة في عنوان الصلح لأنها بمعنى التسالم والاتفاق على أمر؟ وهذا العنوان
لا يشترط أن يكون منشأ بلفظ (صالحت أو تسالمنا على كذا)، بل يكفي كل لفظ أو
فعل يدل عليه ولو بالالتزام، كما ورد في صلح الشريكين بقولهما: (لك ما عندك
ولي ما عندي) (1). إلا أن الأقوى عدم دخولها تحت عنوان الصلح ولو بناء على
تحققه بكل فعل أو لفظ يكون دالا عليه، لأن مجرد الاتفاق على أمر لا يوجب
دخوله في عنوان الصلح، وإلا كان البيع والإجارة ونحوهما أيضا داخلا فيه، بل
لا بد إما أن ينشأ عنوان الصلح بقولهما: (صالحت) و (قبلت)، أو بما يكشف عنه
بالدلالة السياقية كما في صلح الشريكين، فإنهما بعد نزاعهما لو تسالما على أمر
وقال أحدهما: (لك ما عندك ولي ما عندي) وقال الآخر كذلك أو: (قبلت) فمن
سوق كلامهما يستكشف أنهما في مقام التسالم.
وأما في المقام - وهي الإباحة بالعوض - فلا دلالة لفظية أو فعلية على إنشاء
العنوان، ولا سياقية، فكيف يقال: إنها صلح؟
ثم إنه لا يمكن التمسك لصحتها بقوله عز من قائل: (أوفوا بالعقود) (2)، ولا
بقوله: (تجارة عن تراض) (3).
أما الأول: فلأنها إذا وقعت بالفعل فلا تكون عقدا، وإن وقعت بالقول فلا
تكون من العهود المتعارفة حتى يكون قوله سبحانه إمضاء لها.
وأما الثاني: فلأن التجارة وإن كانت مطلق التكسب إلا أنه لا بد أن يكون
التكسب من الطرفين، والمباح له لم يكتسب ملكا، ومطلق استيفاء المنافع ليس
تكسبا، فتأمل.
نعم، قد تقدم: (4) أنه يمكن التمسك لصحته بعموم قوله عليه السلام: (الناس
مسلطون على أموالهم)، (5) لأن هذه القاعدة وإن لم تجر في ناحية الأسباب ولا

(1) مر تخريجه في الصفحة: 167.
(2) سورة المائدة: 1.
(3) النساء: 29.
(4) تقدم في الصفحة: 162.
(5) تقدم في الصفحة: 92.
185

تدل على كفاية العقد الفارسي - مثلا - إلا أنها جارية في ناحية المسببات، ومن
آثار سلطنة الناس على أموالهم إباحة مالهم بالعوض المسمى، إلا أن يناقش في
عموم القاعدة بحيث يشمل المقام، لأنه لو لم تكن الإباحة بالعوض المسمى
مندرجة تحت أحد العناوين المتعارفة التي أمضاها الشارع فليس للمالك التسلط
عليها.
هذا، مع أن كل إجارة فاسدة وبيع فاسد لا محالة متضمن للإباحة بالعوض
المسمى، فما معنى عده من العقود الفاسدة؟ فتأمل.
قوله قدس سره: (وعلى تقدير الصحة ففي لزومها مطلقا... إلى آخره).
لا يخفى أنه على فرض الصحة فالصواب هو التفصيل بين الواقع بالفعل
والقول على ما اخترناه من جواز المعاطاة، فلو وقع بالقول فالحق لزومه من
الطرفين، لعموم (أوفوا بالعقود) بناء على أن مفاده هو الحكم الوضعي كما هو
الحق، وتبين وجهه في محله، لأن نفوذ العقد وكونه ممضي يقتضي نفوذه من
الطرفين، فإن العقد هو العهد المؤكد الواقع بين المتعاملين، فلا يمكن التفكيك إلا
إذا ثبت بالدليل كما في الجواز الثابت للمرتهن دون الراهن.
نعم، بناء على أن مفاده الحكم التكليفي فيمكن أن يجب الوفاء على أحد
المتعاقدين دون الآخر، ولو وقع بالفعل فالحق جوازه من الطرفين، والتفصيل بين
الملك والإباحة لا وجه له.
قوله قدس سره: (الأمر الخامس: في حكم جريان المعاطاة في غير البيع... إلى
آخره).
لا يخفى أن الاستدلال بأدلة المعاملات لصحة المعاطاة فيها يتوقف على
إثبات مقدمتين:
الأولى: كون الفعل بنفسه مصداقا لهذه العناوين ليصح الاستدلال بأدلة
العناوين على صحته، أو كونه مصداقا لأمر ملازم لأحد العناوين، بحيث يترتب
عليه بجريان العادة المألوفة والسيرة المستمرة ما يترتب على ملازمه، بأن كانت
186

السيرة دليلا على ترتب ما يترتب على ملازم الفعل، لا أن تكون دليلا على أصل
صحة المعاملة الفعلية، فبعد جريان العادة يدخل الفعل بالملازمة في أحد
العناوين، ويصح الاستدلال له بما يستدل به للعناوين، نظير القول، فإنه قد ينشأ به
أحد العناوين مطابقة، وقد ينشأ به أحدها التزاما.
ووجه اعتبار كون الفعل مصداقا لها أو مصداقا لملازمها ما أشرنا إليه سابقا
من أن مجرد قصد عنوان ووقوع الفعل عقيبه لا يؤثر في تحقق هذا العنوان إذا لم
يكن الفعل آلة لايجاده أو إيجاد ملازمه.
والثانية: أن الفعل إذا كان مصداقا لعنوان خاص فلا إشكال في تحقق هذا
العنوان بإيجاده مع القصد، وأما إذا كان مشتركا وكان ذا وجوه فتعين أحد
العناوين دون غيره إنما هو بالقرائن المكتنفة به. والقرينة في باب الأفعال ليست
مما ينشأ بها جزء المعنى حتى يقال: إن المنشآت في باب المعاملات معان بسيطة
لا يمكن إنشاؤها تدريجا، وليست لها أجناس وفصول، لأن القرينة موجبة لتعين
وجه الفعل، فينشأ التمليك - مثلا - بالفعل وحده.
وبالجملة: وإن قلنا: بأنه لا يمكن إنشاء العقود بالمشترك المعنوي ولا
بالمشترك اللفظي إلا أنه لا يمكن قياس الفعل باللفظ، لأن القول في المشترك
المعنوي وضع لمعنى جامع، وفي المشترك اللفظي كل معنى مستقلا، فإيجاد المعنى
المشترك بالقول المفيد لمعنى عام إيجاد للجنس، واللفظ الدال على الخصوصيات
إيجاد للفصل، فيوجد المقصود بتعدد الدال والمدلول، وهكذا إيجاده باللفظ الذي
لا يستفاد منه معنى إلا بالقرينة كالمشترك اللفظي إيجاد للمقصود بلفظين، وهذا
وإن لم يخل عن المناقشة - كما سيجئ إن شاء الله من أنه لا مانع من إيجاد أحد
العناوين بالمشترك لفظا بين عناوين متعددة - إلا أن هذا الإشكال لا يرد في الفعل،
لأن وجه الفعل ليس بمنزلة القرينة لينشأ بهما شيئا غير ما ينشأ بذي القرينة، بل ينشأ
العنوان بنفس الفعل الموجه، فإذا كان المعطي في مقام البيع فينشأ البيع بنفس الفعل،
187

مقام إعطاء ماله قرضا أو هبة ينشأ القرض أو الهبة بنفس الفعل.
وبالجملة: فكما إذا كان الفعل موجها بعنوان واحد ينشأ العنوان به - كالوطئ
الذي به يتحقق الرجوع في العدة الرجعية وبه يتحقق الفسخ في البيع الخياري -
فكذلك بنفس الفعل ينشأ العنوان إذا كان ذا وجوه.
إذا عرفت ذلك ظهر جريان المعاطاة في البيع والهبة والقرض، وفي الإجارة
والعارية والوديعة، لأن الفعل إما بنفسه مصداق لأحد هذه العناوين، أو ملازم له،
فلو لو لم يكن إعطاء كل منهما ماله للآخر بيعا فلا أقل من كونه تسليطا، ومن جهة
العادة والسيرة المستمرة من قصد البيع به يقع البيع به وإن كان الفعل في الخارج
ملازما للبيع، وهكذا يصح إنشاء المضاربة ونحوها به، فإن الفعل وإن لم يكن
إنشاء جميع ما يعتبر في المضاربة به من تعيين الربح ونحوه إلا أنه كل ما يمكن
إنشاؤه بالفعل فينشأ به، وكل ما ليس الفعل مصداقا له يتعين بالقول وينشأ باللفظ،
ولا مانع من تركيب المعاملة من الفعل والقول إذا كانت المعاملة مشتملة على أمور
كلها لا بد من إنشائها إما بالفعل أو القول، كالشرائط التي في ضمن العقود.
وما يقال: من أن منشآت العقود بسيطة ليس معناه أنه لا يمكن إنشاء أمرين
في معاملة واحدة، بل معناه أن الأمر الواحد لا يمكن إنشاؤه تدريجا.
وبالجملة: كل شرط في ضمن العقد منشأ مستقل، وتحققه في عالم الاعتبار
بإنشائه قولا أو فعلا، فلا مانع من إنشاء المضاربة ونحوها من المزارعة والمساقاة
بالفعل. نعم، ما لا يجري فيه المعاطاة أمور:
منها: ما لا يمكن إلا إنشاؤه بالقول خارجا.
ومنها: ما لا يصح إنشاؤه بالفعل شرعا.
ومنها: مورد الخلاف.
فمن الأول: الوصية تمليكية كانت أو عهدية، والتدبير والضمان فإنها لا تنشأ
إلا بالقول، لعدم وجود فعل كان مصداقا لهذه العناوين، فإن انتقال الدين من ذمة
إلى أخرى لا يمكن أن يتحقق بالفعل، ولا العتق أو الملكية أو القيمومة بعد موت
188

الموصي.
ومن الثاني: النكاح، فإن الفعل فيه ملازم لضده، وهو الزنا والسفاح، بل
مصداق للضد حقيقة، فإن مقابل النكاح ليس إلا الفعل المجرد عن الإنشاء القولي
وعما جعله الشارع سببا للحلية.
ومن الثالث: الوقف، ولكن الأقوى هو التفصيل بين أقسامه، فما كان الفعل
بنفسه مصداقا لحبس العين وتسبيل المنفعة كوقف المساجد والقناطر والمدارس
ووقف الحصر والبواري ونحوهما للمساجد والمشاهد يقع بالفعل كوقوعه بالقول.
وما لم يكن الفعل مصداقا له كالوقف الخاص أو لمصرف خاص كالوقف لتعزية
سيد الشهداء - سلام الله عليه وعلى الدماء السائلات بين يديه - فلا يقع بالفعل.
وبالجملة لم يقم دليل خاص على اعتبار القول في مطلق الوقف: كباب
النكاح، بل النزاع صغروي.
ثم مما ذكرنا ظهر أنه لا يمكن وقوع الإيقاعات بالفعل إلا باب الإجازة
والفسخ وما يلحق بهما من الرجوع في العدة، لعدم وجود فعل يكون مصداقا
للطلاق والعتق ونحوهما، فإن إلقاء القناع على الزوجة، وإخراج العبد من الدار
وأمثال ذلك من الأفعال ليست مصداقا للطلاق والعتاق، بل هي من آثارهما.
ثم إن من القسم الثالث الرهن، فبعضهم (1) ادعى عدم تحققه بالفعل، لانعقاد
الاجماع على كونه من طرف الراهن لازما، وانعقاده على توقف العقود اللازمة
على اللفظ.
وبتعبير آخر: حقيقة الرهن - وهي كون المال وثيقة للدين - تقتضي عدم
إمكان الفسخ للراهن، مع أن المعاطاة سواء كانت مفيدة للملك أو الإباحة جائزة:
إما إجماعا أو لعدم ثبوت مقتضى اللزوم، فلا بد إما من القول ببطلان المعاطاة في
الرهن، أو تخصيص ما دل على كون المعاطاة جائزة، أو تخصيص أدلة الرهن،
وحيث إن الالتزام بالأخيرين ممتنع، للاجماع على توقف العقود اللازمة على

(1) كابن إدريس الحلي في السرائر: ج 2 ص 416 - 417.
189

اللفظ، ولمنافاة الجواز مع كون الشئ وثيقة فتعين الأول.
ولكنه لا يخفى أن الاجماع على توقف العقود اللازمة على اللفظ ليس
إجماعا تعبديا قائما على حصر ما يفيد اللزوم باللفظ، بل غرض المجمعين أن
حكم الشارع بلزوم المعاملة يتعلق بالمعاملة المنشأة باللفظ، لكونها مشتملة على
مدلول التزامي، وبهذا اللحاظ تسمى عقدا، وحيث إن المعاطاة ليست عقدا فلا
تكون لازمة، وهذا لا ينافي كون الرهن المعاطاتي لازما من جهة أخرى وهي
اقتضاء ذاته اللزوم، أي لا تنافي بين أن يكون الرهن من حيث وقوعه بالفعل
جائزا ومن حيث الحكم الشرعي، أو اقتضاء ذاته لازما.
كما أن عدم معروفية الجواز من الشارع في الوقف لا ينافي جوازه من حيث
وقوعه بالفعل، غاية الأمر يقدم جهته الذاتية أو عدم المعروفية على جهة نفس
الفعل.
وبالجملة: لو قلنا بأن المعاطاة جائزة من جهة عدم اقتضائها اللزوم أو
إجماعا فلا ينافي طرو جهة اللزوم عليها.
قوله قدس سره: (وفيه: أن معنى جريان المعاطاة في الإجارة على مذهب المحقق
الثاني... إلى آخره).
حاصل مرامه قدس سره في رد المحقق الثاني في الإجارة هو أن من آثار الإجارة
أن يكون المستأجر مالكا لعمل الأجير ولمنفعة دار المؤجر، وأن يكون الأجير
مالكا للأجر المعين، والمؤجر مالكا للعوض بإزاء المنفعة، بحيث يكون عمل
العامل أو تسليم الدار لاستيفاء المنفعة وفاءا للحق الحاصل بالإجارة، مع أن الآمر
ليس مالكا كذلك بلا إشكال، لأن للمأمور أن لا يعمل بما أمره الآمر وأن لا يسلم
داره، فأمر الآمر وعمل المأمور ليس داخلا في باب الإجارة المتعارفة، بل يدخل
في باب استيفاء العمل بالأمر المعاملي الموجب لضمان المثل أو القيمة لو لم يعين
له أجرة، ولضمان المسمى لو عين على إشكال فيه، ومنشأ الإشكال أن مجرد
تعيين الأجرة لا يوجب أن يكون ضامنا لما عين، لأن التعيين ليس بنفسه
190

عقدا ولذا لا يستحق العمل على المأمور، بل الضمان يتحقق بعد إتيان العامل بالعمل
بإذن الآمر مع عدم قصده التبرع، فيدخل في ملك الآمر آنا ما ويضمن.
وبالجملة: اختلفوا في أنه لو عين مقدار ما يضمن به فهل يتعين المسمى أو
يرجع إلى ضمان المثل أو القيمة، أو يضمن أقل الأمرين من ضمان المسمى
والمثل أو القيمة؟ والأقوى هو الثاني، لما عرفت: من أن التعيين بنفسه ليس عقدا،
بل التزام ابتدائي ولا يشمله (المؤمنون عند شروطهم) (1)، بناء على ما هو الحق من
اختصاص الحديث بالشرط في ضمن العقد، ومنه ظهر ضعف وجه القول الثالث،
فإن وجهه إقدام العامل ورضاه بما عين له الآمر، ومع بطلان التعيين فلو كان هو
الأقل فقد أقدم العامل به، ولو كان هو ثمن المثل فهو الذي يستحقه.
وجه الضعف: أن إقدام العامل لا أثر له، لأنه ليس إلا التزام بدوي.
وبالجملة: لو كان أمر الآمر وعمل المأمور داخلا في إجارة النفس للعمل
لكان المسمى متعينا، وأما مع عدم تحقق الإجارة لا قولا ولا معاطاة فالتعيين لا
أثر له.
أما قولا فلعدم الإنشاء باللفظ كما هو المفروض. وأما معاطاة فلأن العمل
بنفسه ليس إجارة، لأن إجارة العمل ليست بنفسها صحيحة ولو بالقول، فضلا عن
الفعل، وإجارة النفس للعمل لا تتحقق بالفعل، لأن العمل الخارجي ليس مصداقا
للإجارة المتعلقة بالنفس. ومجرد قرينية حرفته وصنعته على أنه لا يعمل مجانا لا
يوجب أن يكون عمله مصداقا لإجارة نفسه للعمل، فلو حمل المتاع بلا أمر من
صاحبه ولا رضاه الذي بمنزلة الآمر لا يدخل عمله في عنوان الإجارة ولا
يستحق شيئا من صاحب المتاع ولو قصد الأجرة.
نعم، في إجارة الأموال تسليم المال لاستيفاء المنفعة، وتسلم المستأجر
وإعطاء الأجرة إجارة معاطاتية.

(1) تهذيب الأحكام: ج 7 ص 371 ح 66. عنه في الوسائل: ج 15 ص 30 ب 20 من أبواب
المهور ح 4.
191

وعلى هذا، فما أفاده المحقق الثاني: (من أن في كلام بعضهم ما يقتضي
اعتبار المعاطاة في الإجارة، وذلك أنه إذا أمره بعمل على عوض معين وعمله
استحق الأجرة) (1) غير وجيه، لأن هذا غير داخل في الإجارة المعاطاتية، وإنما
يدخل في باب استيفاء العمل بالأمر المعاملي الموجب للضمان الواقعي، لا
المسمى كما ظهر.
وحاصل مقصوده قدس سره في رد المحقق الثاني في الهبة هو أنه لا يمكن جريان
المعاطاة فيها على مختار المحقق (2) الثاني القائل: بأن المعاطاة مفيدة للملك
الجائز، للاجماع على عدم حصول الملك في الهبة إلا باللفظ، فجريانها فيها إنما
يتم على القول بكونها مفيدة للإباحة. وفيه: أن الظاهر عدم كون المسألة إجماعية،
وعدم خصوصية للهبة في توقف حصول الملك فيها على اللفظ، بل لو توقف
حصوله على اللفظ لتوقف كل عقد عليه.
قوله قدس سره: (وأما على القول بالإباحة فالأصل عدم اللزوم... إلى آخره).
لا يخفى أن ما أختاره هنا ينافي ما ذكره في الأمر الرابع في الإباحة بالعوض
من أن الأقوى اللزوم، فإن مدرك الأقوال الثلاثة جار في مطلق ما يفيد الإباحة،
سواء كان قصد المتعاقدين الإباحة أو التمليك مع ترتب الإباحة على فعلهما، فإن
وجه الجواز مطلقا هو أن العقود التسليطية دائرة مدار الإذن والتسليط.
ولذا استشكل في لزوم الوكالة في ضمن العقد اللازم بتقريب أن الوكالة ثابتة
ما دام الإذن باقيا فإذا ارتفع ارتفعت، ولا يجدي اشتراط عدم عزله ولو في ضمن
عقد لازم.
ووجه اللزوم مطلقا كفاية عموم (المؤمنون عند شروطهم) (3) لإثبات اللزوم،
فإن العقود التسليطية لو خليت وطبعها دائرة مدار بقاء التسليط، لا فيما إذا اشترط

(1) جامع المقاصد: كتاب المتاجر ج 4 ص 59.
(2) جامع المقاصد: كتاب المتاجر ج 4 ص 58.
(3) مر تخريجه في الصفحة: 191.
192

اللزوم في ضمن عقد لازم، أو التزم وتعهد به ابتداء.
ووجه التفصيل: أن المباح له أخرج ماله عن ملكه، فلا دليل على إمكان
إرجاعه إليه ثانيا دون المبيح فإنه باق على سلطنته، فإذا كان مختار المصنف
اللزوم فكيف يصح قوله: وأما على القول بالإباحة فالأصل عدم اللزوم (1)؟
فالأولى أن يقال: حيث إن الفعل لا ينشأ به إلا نفس التبديل أو الإباحة
بالعوض وليس له مدلول التزامي فلا تشمله أدلة العهود والعقود، بل يكون بالنسبة
إلى (أوفوا بالعقود) (2) و (المؤمنون عند شروطهم) (3) و (البيعان بالخيار) (4)
خارجا بالتخصص.
أما الأولين فلعدم كونه عقدا ولا شرطا والتزاما بشئ.
وأما الأخير فلأنه وإن كان بيعا إلا أن الحكم المترتب على البيع بمقتضى هذا
الخبر من الخيار عند الاجتماع واللزوم عند الافتراق لا يترتب عليه، لأنه ليس
فيه التزام حتى يلزم بعد الافتراق، فليس فيه خيار أيضا، لأنه في مقابل اللزوم
الحقي، فكما أنه ليس لازما حكما - كالنكاح، لوضوح صحة الإقالة فيه، وكل ما
يدخل فيه الإقالة يدخل فيه خيار الفسخ واللزوم الحكمي لا يصح جعل الخيار فيه
من المتعاقدين - كذلك ليس لازما حقا أيضا، لأن اللزوم الحقي ينشأ من التزام
المتعاقدين، وفي الفعل لا ينشأ الالتزام فهو خارج عن عموم (البيعان). بالتخصص
أيضا.
وبالنسبة إلى قوله عز من قائل: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) (5) فهو
خارج بالحكومة، لأن بعد الاجماع على الجواز أو لعدم موجب اللزوم يكون
رجوع المتعاطيين أكلا بالحق لا بالباطل.

(1) المكاسب: كتاب البيع ص 90 السطر الأخير.
(2) المائدة: 1.
(3) مر تخريجه في الصفحة: 191.
(4) تقدم تخريجه في الصفحة: 158.
(5) البقرة: ص 188.
193

وبالنسبة إلى (الناس مسلطون) (1) و (لا يحل مال امرئ) (2) و (إلا أن تكون
تجارة عن تراض) (3) فهو خارج بالتخصيص، لأن بعد قيام الاجماع على الجواز
وعدم ما يوجب اللزوم يثبت حق للمالك الأول أو المبيح، فيخرج رد المتعاطيين
عين مالهما: إلى ملكهما عن عموم تسلط الناس على أموالهم، وحرمة التصرف إلا
بطيب النفس، والتجارة لا عن تراض.
كما لا فرق بين القول بالإباحة بناء على الوجه الثامن وهو الاستصحاب،
لأنه بناء على ما قلنا: من عدم تحقق ما يوجب اللزوم فلا يبقى شك في جواز الرد
حتى يتمسك بالاستصحاب، إلا أن يقال: وإن لم يتحقق موجب اللزوم إلا أنه بناء
على حصول الملك منه، فجواز الرجوع أيضا لا دليل عليه.
نعم، بناء على الإباحة جواز الرجوع هو مقتضى بقاء سلطنة المالك.
وفيه: أنه لا فرق بينهما أما بناء، على الملك فيكفي التمسك بالاجماع
للجواز، فإنه وإن كان مقتضى الاستصحاب بقاء أثر ما تحقق بالفعل إلا أن
الاجماع على الجواز يكفي للخروج عن أصالة اللزوم.
وأما بناء على الإباحة فأصالة سلطنة المالك الثابتة قبل المعاطاة حاكمة على
أصالة بقاء الإباحة الناشئة من التعاطي لو سلم جريانها، مع أن جريانها ممنوع، لا
لما توهم من أن المقام من قبيل الشك في المقتضي فإنه فاسد، لأن الشك في
المقتضي هو الشك في بقاء المستصحب في عمود الزمان، لا الشك في مقدار
استعداده بالنسبة إلى الزمانيات، وإلا رجع الشك في رافعية الموجود بأقسامه إلى
الشك في المقتضي، بل لأن قوام الإباحة الثابتة بالفعل إنما هو بالإذن، فإذا ارتفع
ارتفعت قطعا، فلا يبقى شك حتى يستصحب الإباحة.
وبالجملة: على فرض جريان أصالة الإباحة فأصالة السلطنة حاكمة عليها.
وأما استصحاب الملك فالاجماع على الجواز كاف في عدم جريانه.

(1) مر تخريجه في الصفحة: 92
(2) مر تخريجه في الصفحة: 158
(3) النساء: 29.
194

وكيف كان، بعد قيام الاجماع أو عدم تحقق موجب اللزوم يثبت جواز
المعاطاة بلا إشكال.
نعم، فرق بين المسلكين، وهو أنه لو قلنا: إن الأصل هو اللزوم كما على
مختاره قدس سره (1) بناء على الملك فالاجماع على الجواز إنما يفيد في المتيقن منه لو
كان معقد الاجماع مجملا، كما يظهر منه قدس سره ويقول: المتيقن منه مورد تراد
العينين (2) مع بقاء صفاتهما، وعدم انتقالهما إلى غيرهما، فمع تلفهما أو تغييرهما أو
تملك غير المتعاطيين لهما فالمرجع أصالة اللزوم، للشك في شمول دليل الجواز
لهذه الصورة.
وأما لو قلنا: إن الأصل عدم اللزوم كما على القول بالإباحة على مختاره
فالأمر بالعكس، فتأسيس الأصل على مختاره يترتب عليه آثار غير خفية.
نعم، يرد عليه إشكال، وهو أنه لو تمسكنا لأصالة اللزوم بغير الاستصحاب
من الوجوه السبعة الأخرى فيقتضي أن يكون اللزوم فيها هو اللزوم الحقي، سيما
إذا تمسكنا ب‍ (أوفوا بالعقود) (3) و (المؤمنون عند شروطهم) (4) و (البيعان
بالخيار) (5) فالاجماع على الجواز أيضا يقتضي أن يكون حقيا، ومقتضاه بقاء
الخيار عند التلف، إلا أن يدعى الاجماع على الجواز مقيدا ببقاء العينين كما
سيجئ توضيحه.
نعم، بناء على ما سلكناه من أن الفعل لا يقتضي اللزوم فالجواز المتصور فيه
يرجع إلى الجواز الحكمي لا الحقي، لأنه يقع في مقابل اللزوم الحقي: كالخيارات
الشرعية، فينحصر أن يكون الجواز حكميا.
قوله قدس سره: (إذا عرفت هذا فاعلم أن تلف العوضين ملزم إجماعا... إلى آخره).
لا يخفى أنا في تعليقتنا سابقا على هذا العنوان اخترنا ما هو ظاهر كلام

(1) المكاسب: كتاب البيع ص 90 السطر الأخير.
(2) المكاسب: كتاب البيع ص 91 س 3.
(3) المائدة: 1.
(4) مر تخريجه في الصفحة: 191.
(5) مر تخريجه في الصفحة: 158.
195

المصنف من تعلق جواز الرد بنفس العينين، ففي مورد تلفهما لا يبقى موضوع
للجواز. وبينا عدم إمكان تعلق حق الرجوع بالمثل أو القيمة عند التلف، لأن
التعاطي إنما يقتضي التبديل بين المالين دون الالتزام بهذا التبديل، فلو لم يمكن
رد نفس المالين إلى مالكهما الأصلي فرد بدلهما لا وجه له، لأن تحقق المعاملة كما
يتوقف على وجودهما فكذلك ردهما أيضا. ولكن الظاهر للمتأمل أن ما ذكرنا: من
عدم إمكان الرد إلا مع بقاء العينين استحساني ولا يبتنى على أساس، وذلك لأنه
لو قلنا بأصالة اللزوم من جهة الأدلة الثمانية فالاجماع على الجواز لا يقتضي إلا
الجواز الحقي المقتضي لبقائه عند التلف.
نعم، لو تردد الجواز بين معنيين متباينين - وهو جواز المعاوضة أو تراد
العينين - فلا يمكن التمسك بالعمومات في مورد الشك، لأن المخصص وإن كان
منفصلا إلا أن تردده بين المتباينين يوجب سقوط ظهور العام في كل منهما. ولو
قلنا بها من باب الاستصحاب فالاجماع على الجواز أيضا لا يقتضي انحصاره
بمورد بقاء العينين إلا أن يقوم الاجماع عليه مقيدا، أو كان هناك إجماع تعبدي
آخر على أن تلف العينين ملزم كما هو ظاهره قدس سره في قوله: على الظاهر المصرح
به في بعض العبائر.
والظاهر عدم كون الاجماع على الجواز مقيدا ببقاء العينين، وعدم قيام
الاجماع القطعي على أن تلفهما ملزم. ولو قلنا بأن الفعل ليس فيه جهة لزوم أصلا
فالاجماع على الجواز لا أثر له إلا إذا تحقق ما يوجب اللزوم من جهة، كما إذا
تلف العينين فإن الجواز من جهة عدم تحقق الملزم إنما يؤثر في رد العين، فإذا
تلفت لا يبقى موضوع لهذا الجواز، فيؤثر الجواز من جهة أخرى ويقتضي ثبوته
عند تلف العينين، لأن الجواز من جهتين نظير ثبوت الخيار من جهتين، وأحدهما
مع وجود الآخر لا أثر له، وإنما يؤثر مع سقوط الآخر.
وبالجملة: لا معنى لتعلق الجواز بنفس العين ابتداء، لأنه لم يقم دليل على
كون المقام من قبيل التقاص الثابت لغير المالك في تعلقه بنفس مال الغير، بل
196

الجواز هنا إما من قبيل جواز البيع الخياري، أو جواز الرجوع في الهبة. وعلى أي
حال له مساس بالمعاوضة، ويسترجع العين تبعا للرجوع عنها، وإنما لم يمكن
الرجوع في الهبة عند تلف العين، لأنها ليست معاوضة، بل تسليط مجاني، فإذا
تلفت العين التي لم يتعلق بها ضمان فرجوع مثلها أو قيمتها بلا موجب فلا يؤثر
رجوع الواهب، وهذا بخلاف باب المعاوضة فإنها ليست تسليطا مجانيا، فلو رجع
المالك الأصلي أو المبيح بمقتضى ثبوت جواز الرجوع له فلا بد أن يرجع إليه عين
ماله عند بقائها، وبدلها عند تلفها.
إلا أن يقال: بناء على الإباحة فبعد فرض إفادة المعاطاة الضمان بالمسمى
فمقتضاه أن يصير التالف آنا ما ملكا للمباح له، فإذا كان التالف ملكا لمن تلف
عبده فلا وجه لأن يكون عليه ضمان المثل أو القيمة، إلا إذا ثبت جواز رجوع
المالك الأصلي حتى بعد التلف، وفي خصوص الإباحة قام الاجماع القطعي على
أن المبيح ليس له الرجوع إلى المثل أو القيمة بعد التلف فلا يؤثر فسخه، بل يمكن
تطبيقه على القاعدة أيضا، بتقريب أن الجواز على الإباحة إنما يكون من جهة
سلطنة المالك، فإذا تلف العينين ينتقل ملكه إلى طرفه، وإرجاعه إلى ملكه ثانيا
يتوقف على ثبوت الجواز بعد التلف، وهذا يتوقف على دليل خاص عليه.
وبالجملة: حكم الإباحة حال التلف حكم الملك فإنه على كل تقدير يحصل
الملك: إما آنا ما، أو من أول الأمر، فإذا لم نقل بجواز الفسخ بعد التلف بناء على
الملك - كما سيجئ تقريبه - فعدم جوازه على الإباحة أولى.
ثم مما ذكرنا ظهر ما في قوله قدس سره: لأن تلفه من مال مالكه، ولم يحصل
ما يوجب ضمان كل منهما مال صاحبه (1)، لما عرفت من أن التالف ملك لمن تلف
عنده، لا للمبيح، فإن كونه من مال المبيح مناف لكون كل من المالين مضمونا على
الآخر بالضمان المعاملي، بل هو قدس سره أيضا صرح بما ذكرنا في جواب استبعاد
الشيخ الكبير كون التلف من الجانبين معينا للمسمى من الطرفين.

(1) المكاسب: كتاب البيع ص 91 س 2.
197

فقال: ما حاصله: (1) إن هذا مقتضى الاجماع على عدم ضمان المثل والقيمة
مع رعاية عموم (على اليد) بحيث لا يلزم التخصيص فيه وأصالة عدم الملك إلى
حين التلف، فيصير التلف في المقام كتلف المبيع عند البائع قبل إقباضه.
وبالجملة: ما ذكره في المقام مناف لما تقدم منه كما لا يخفى.
وأما على القول بالملك فلو ثبت الاجماع على أن تلف العوضين ملزم فلا
إشكال، وهذا وإن لم يكن إجماعا تعبديا إلا أنه يصير منشأ للشك في أن جواز
المعاملة دائمي أو مختص بما دام العين باقية، كما في باب خيار العيب، فبعد تلف
العين لم يحرز الجواز، ولا يمكن استصحابه أيضا كما سيجئ وجهه.
وأما لو لم يثبت فإذا قلنا: بأن الأصل في المعاطاة اللزوم للوجوه الثمانية
فالاجماع على الجواز لو كان مقيدا ببقاء العينين فالمرجع في مورد تلفهما هو
أصالة اللزوم، ولو لم يكن مقيدا وشك في بقاء الجواز حال التلف يدخل في النزاع
المعروف، وهو أن المرجع هل هو استصحاب حكم الخاص أو عموم العام؟
ولو شك في موضوع الجواز فلا يجري استصحاب حكم المخصص أيضا،
فإن الجواز وإن كان مرددا بين مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع فيدخل في القسم
الثاني من الاستصحاب الكلي إلا أنه لا يجري في الأحكام إذا كان منشأ الشك
فيها الشك في موضوعها.
وفي المقام وإن لم نقل بأن جواز المعاملة عبارة عن تراد العينين بل قلنا بأنه:
عبارة عن رد المعاوضة إلا أنه يمكن ثبوتا أن يكون ردها مشروطا ببقاء العين،
ومع الشك يؤخذ بالمتيقن.
وعلى هذا، فعلى القول بالإباحة أيضا لا يمكن أحراز جواز الرد بعد التلف،
لأن جواز الرد الثابت للمبيح قبل التلف كان من جهة سلطنة المالك، وحيث إنه
بالتلف خرج الملك عن ملكه ودخل في ملك المباح له فهذه السلطنة ارتفعت
قطعا، ولم يثبت سلطنة أخرى إلا ما ثبت بالاجماع الذي دل على جواز المعاطاة.

(1) المكاسب: كتاب البيع ص 84 س 26 وما بعده.
198

وعرفت أن هذا الاجماع لا يفيد لإثبات الجواز بعد التلف.
ولا يقال: لا إشكال في إمكان الإقالة منهما على كلا القولين بعد التلف،
ومقتضاه إمكان الرد منهما على القولين بعد التلف.
لأنا نقول: وإن ثبت الملازمة بين ما يجري فيه الإقالة وما يجري فيه الخيار
إلا أن ثبوت الملازمة إنما هو من حيث الاقتضاء، أي ما يصح فيه الإقالة يصح فيه
جعل الخيار، لا الملازمة الفعلية، ولذا تجري الإقالة بعد تلف المعيب أو تغيره مع
سقوط الخيار بهما.
ثم إن من جريان الإقالة بعد التلف لا يمكن استكشاف الجواز الحقي في
المعاطاة الذي هو بمعنى الخيار الثابت حتى بعد التلف.
أما أولا: فلما عرفت: أن الجواز الحقي أيضا يمكن ارتفاعه بالتلف، كما في
خيار العيب.
وثانيا: يمكن أن يكون الجواز حكميا كالجواز في باب الهبة وبقيام الاجماع
على أن تلف العينين ملزم يثبت اللزوم الحقي الذي تجري فيه الإقالة، وذلك لعدم
انحصار اللزوم الحقي بما إذا كان الالتزام بالمعاوضة من منشآت المتعاقدين، بل
كما يمكن أن يكون كذلك يمكن أن يكون بجعل شرعي كما في الجواز الحقي فإنه
يمكن أن يكون مالكيا كخيار الشرط، ويمكن أن يكون شرعيا كخيار المجلس
والحيوان، فإنه مع كونه شرعيا يكون حقيا. هذا إذا قلنا بأن الأصل في المعاطاة
على القول بالملك هو اللزوم.
وأما لو قلنا بأن الأصل فيها الجواز، لعدم منشأ اللزوم فالجواز فيها كالجواز
الحكمي حكما وثبوته بعد تلف العينين يتوقف على قيام دليل عليه، وحيث إن
الاجماع عليه لا يفيد لإثباته بعد تلفهما فينحصر بمورد البقاء.
قوله قدس سره: (ومنه يعلم حكم ما لو تلف إحدى العينين... إلى آخره).
بعد ما تقدم منا أنه يمكن ثبوتا أن يكون جواز المعاطاة مختصا بمورد قيام
العينين على حالهما فبعد تلف إحداهما أو تلف بعض من إحداهما يرتفع موضوع
الجواز، وهذا على الملك مسلم.
199

وتقدم منا أن الحكم كذلك على الإباحة أيضا حذو النعل بالنعل، لأنه بناء
عليها يحصل الملك أيضا بتلف إحداهما لكل من المبيح والمباح له، فإنه إذا صار
من تلف المال عنده مالكا للتالف آنا ما يملك الآخر العين الموجودة أيضا، فإذا
ملك كل منهما مال الآخر فمقتضى الاستصحاب بقاء ملكهما، واسترجاع العين
عمن بيده، حتى يرجع هو إلى مثل ماله أو قيمته الذي تلف عند طرفه يتوقف على
دليل، وحيث إنه لا دليل فيتعين المال الموجود للعوضية عن التالف.
إذا عرفت ذلك ظهر ما في كلام المصنف قدس سره في ذيل هذا العنوان من الأمور
الأربعة.
فإنه أولا: ارتضى (1) ما استوجهه بعض مشايخه (2)، وفاقا لبعض معاصريه (3)،
تبعا للمسالك (4) من جريان أصالة بقاء سلطنة مالك العين الموجودة وملكه لها فله
الرجوع، واستشكل فيه بمعارضتها بأصالة براءة ذمته عن مثل التالف أو قيمته.
وثانيا: جعل أصالة بقاء السلطنة حاكمة على أصالة البراءة.
وثالثا: ناقش في جريان الأصلين من جهة العلم الإجمالي بالضمان، والشك
في أن المضمون هو المسمى بحيث يتعين فلا يمكن لمن تلف عنده الرجوع إليه أو
المثل أو القيمة بحيث يمكن له الرجوع، ولا أصل يعين أحدهما (5).

(1) المكاسب: كتاب البيع ص 91 س 11.
(2) هو الشيخ صاحب الجواهر في جواهره: كتاب التجارة ج 22 ص 231، 232.
(3) هو الشيخ كاشف الغطاء في شرحه على القواعد (مخطوط): الورقة 51.
(4) مسالك الأفهام: كتاب المتاجر ج 1 ص 170 س 8.
(5) وحمل العبارة على المناقشة بالنسبة إلى خصوص أصل البراءة خلاف الظاهر، فإن قوله:
فلا أصل، ظاهر في أنه لا أصل يعين ضمان المسمى الذي هو موافق لأصل البراءة عن البدل
الواقعي، أو يعين ضمان الواقعي الذي هو موافق لبقاء السلطنة.
ثم بناء عليه أيضا لا ترد المناقشة، كما لا ترد على الوجه الذي حملنا عليه عبارة الكتاب
كما سيجئ، وذلك لأن ضمان المسمى له حالة سابقة، وضمان الواقعي لم يكن حال بقاء
العينين، فلا مانع من إجراء البراءة عن الضمان الواقعي. (منه دام ظله).
200

ورابعا: تمسك بعموم (الناس) (1) لرد البراءة عن المثل أو القيمة. وقال:
مقتضى عمومه: السلطنة على المال الموجود بأخذه، وعلى المال التالف بأخذ بدله.
أما في الأول: فلما عرفت: أن السلطنة على المال من آثار بقاء الملك في
ملك مالكه فإذا خرج عن ملكه بمقتضى الضمان المعاوضي انقطعت سلطنته أيضا،
فلا يجري استصحاب حتى يعارض بأصالة البراءة.
وبالجملة: مقتضى الضمان المعاملي - أي التعهد بكون المسمى عوضا - أن
تصير العين الباقية ملكا لمن هي في يده، لأن التالف يصير حين التلف ملكا لمن
تلف عنده، فلا محالة يصير عوضها ملكا للآخر، فكيف يبقى سلطنة مالك العين
الموجودة؟ ولا مجال لاستصحابها قطعا.
والعجب من السيد الطباطبائي قدس سره في حاشيته على المتن، حيث قال: إن
الأولى التمسك بعموم القاعدة لا الأصل، إذ لا مجرى مع العموم، (2) وذلك لما ظهر
من أنه لا مجال للتمسك بالعموم ولا الأصل، لأن عموم (الناس) لا يثبت بقاء
العين الموجودة في ملك مالكها الأصلي.
وأعجب منه ما في المتن في رد ترجيح أصالة بقاء السلطنة على أصالة
البراءة بالتمسك بعموم (على اليد) من قوله: والتمسك بعموم (على اليد) هنا في
غير محله بعد القطع بأن هذه اليد قبل تلف العين لم تكن يد ضمان، بل ولا بعده إذا
بنى مالك العين الموجودة على إمضاء المعاطاة (3)، وذلك لأن ما ذكره هدم
لأساس باب المعاوضة، فإن (ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده) قاعدة
مستخرجة من قواعد المعاوضات، وأساسها يبتنى على الضمان قبل تلف العين
وبعده. أما قبله فبالعوض المسمى، وأما بعده فبالعوض الواقعي من جهة عموم
(على اليد،) (4) فإن اليد على مال الغير توجب ضمانه إذا لم يكن مجانيا، فما دام

(1) مر تخريجه في الصفحة: 92.
(2) حاشية المكاسب للسيد اليزدي: كتاب البيع ص 82 س 16.
(3) المكاسب: كتاب البيع ص 91 س 10.
(4) مر تخريجه في الصفحة: 64.
201

العين باقية فالتضمين يقتضي بدلية كل من العينين عن الأخرى، فإذا رجع
إحداهما إلى مالكها الأصلي ترجع الأخرى إلى مالكها أيضا إذا كانت باقية،
وعوضها إذا كانت تالفة.
نعم، معنى ضمانها عند التلف هو الضمان عند الفسخ والرجوع، وأما مع
الإمضاء وعدم الرجوع فلا معنى للضمان.
وبالجملة: معنى الضمان أنه لو تلفت وطرأ فسخ أو انفساخ فيرجع مثلها أو
قيمتها، وليس هذا إلا مقتضى المعاوضة واليد، فإن المعاوضة تقتضي ضمان كل
من المالكين مال الآخر قبل القبض بمقتضى شرط التسليم ضمنا، وبالقبض ينتقل
الضمان، أي ضمان كل ملك على مالكه، فإذا طرأ عليه الفسخ فمقتضى (اليد) أن
يكون ضامنا لبدله لو كان تالفا.
وأما في الثاني فلأن حكومة أصالة بقاء السلطنة على أصالة البراءة إنما تتم
إذا كان مفاد أصالة بقاء السلطنة وأثرها الشرعي رفع البراءة، أو إثبات ضدها، أي
الاشتغال، وإلا فمجرد السببية والمسببية لا أثر له.
ولا شبهة أن أثر أصالة بقاء سلطنة مالك العين الموجودة ليس اشتغال ذمته
بالمثل أو القيمة أو عدم خلو ذمته عنهما، بل أثرها الشرعي هو: رجوع العين إلى
ملكه لو فسخ. نعم، لازم رجوعها إليه أن يضمن بدل التالف، لما ثبت من الخارج
أنه لم يعط مالك التالف ماله مجانا، والملازمة الخارجية غير مفيدة في رفع الشك
المسببي.
وأما في الثالث: فلأن قوله: (فلا أصل) إنما يصح لو كان الشك في مرحلة
الثبوت بأن يكون الحادث مشكوكا، وأما لو كان الشك في مرحلة البقاء فيجري
الاستصحاب فيتساقط الأصلان للعلم الإجمالي، وذلك لأنه لا إشكال في ثبوت
سلطنة كل منهما على ماله، وبراءة ذمة كل منهما على البدل الواقعي ما دامت
العينان باقيتين، وإنما الشك في ارتفاع السلطنة والبراءة بعد تلف إحداهما، فإذا
استصحب بقاء سلطنة مالك العين الموجودة وبراءة ذمته عن المثل والقيمة
202

فيتعارضان. وأصالة البراءة عن البدل الواقعي لها حالة سابقة، غاية الأمر لا
تجري إما للتساقط مع أصالة بقاء السلطنة، أو لعدم إمكان جعلهما في الجعل.
وبعبارة أخرى: في مورد بقاء العين لا معنى لاشتغال الذمة بالبدل الواقعي
حتى يقال: لا نعلم بعد التلف بأن الذمة مشغولة به أو بالمسمى، ولا أصل يعين، بل
الذمة لم تكن مشغولة به قطعا، وإنما الشك في أن عدم اشتغال الذمة به باق حتى لا
يمكن له الرجوع، بل يتعين المسمى للبدلية لئلا يلزم الجمع بين العوض
والمعوض، أو ارتفع حتى يمكن له الرجوع، فاستصحاب عدم اشتغال الذمة بالبدل
الواقعي لا محذور فيه في حد نفسه، ونتيجته تعيين المسمى للبدلية. كما أن
استصحاب بقاء السلطنة مع قطع النظر عما أوردنا عليه لا محذور فيه أيضا في حد
نفسه، ونتيجته اشتغال الذمة بالمثل أو القيمة.
وأما في الرابع: فلأن إبطال البراءة بعموم (الناس مسلطون) لا معنى له، لأن
العين الموجودة لو كانت ملكا لمالكها الأصلي فلا شبهة في ضمانه البدل الواقعي،
لأن بقاءها في ملكه ملازم لبقاء التالف في ملك الآخر، فإذا رجع مالك العين
الموجودة إلى عينه فيرجع الآخر إليه ويأخذ منه بدل التالف، لأنه لم يكن مجانيا،
ولو كانت ملكا لمن في يده فلا سلطنة للمالك الأصلي، وعموم السلطنة لا يحرز
موضوعه.
قوله قدس سره: (ولو كان أحد العوضين دينا في ذمة أحد المتعاطيين... إلى آخره).
أي لو باع أحد المتعاطيين ماله من الآخر بالعوض الذي في ذمته للآخر أو
اشترى ما في ذمته فهل يوجب امتناع الرجوع على القول بالملك والإباحة مطلقا،
أو لا يوجب مطلقا، أو يفصل بين القول بالملك فيمتنع دون القول بالإباحة؟
وجوه. وتوضيح ذلك يتوقف على صحة المعاطاة في المقام، وإمكان تملك
الانسان لما في ذمته ولو آنا ما.
أما صحتها في المقام فلا إشكال فيها. أما على القول بكفاية الإعطاء من
طرف واحد فواضح، وأما على القول بعدمه فللفرق بين المقام والبيع نسيئة، لأن
203

التعاطي متحقق في المقام، لأن الدين. بمنزلة المقبوض فلا يحتاج إلى القبض
ثانيا.
وأما تملك الانسان لما في ذمته آنا ما وسقوطه به فهو نظير تملك المشتري
لعموديه آنا ما وانعتاقهما عليه، والقول بعدم تعقل تملك الانسان لما في ذمته آنا ما
مساوق للقول ببطلان بيع الدين على من هو عليه وشراء مال المديون بالثمن الذي
في ذمته، لأنه لو قلنا بعدم تملك الانسان لعموديه وانعتاقه عليه فإنما هو لظاهر
بعض الأدلة (1) الدالة على أنهما لا يملكان ومع هذا ينعتقان، وهذا الدليل موجب
لتخصيص (لا عتق إلا في ملك) (2).
وأما في المقام فحيث لم يقم دليل خاص على صحة بيع الدين على من هو
عليه، ولا على صحة شراء مال المديون بالعوض الذي في ذمته فلا بد من تطبيقهما
على القواعد العامة.
ومقتضى المعاوضة أن يدخل العوض في ملك من خرج عنه المعوض، فإذا
اشترى المشتري مال المديون بالثمن الذي في ذمته فيملك المديون - لا محالة -
الثمن الذي في ذمته. نعم، حيث إنه لا يعقل أن يتملك الانسان لما في ذمته فيسقط.
وعلى أي حال، لا يترتب على النزاع في المقام وشراء العمودين ثمرة عملية،
لأنه ينعتق العمودين في ذلك الباب، ويسقط الدين في المقام.
إذا عرفت ذلك فيقع النزاع في أنه بعد تملك الانسان ما في ذمته وسقوطه
فهل يجوز لأحدهما الرجوع، أو حكم الساقط حكم التالف في الأعيان الخارجية؟
وجهان:
من أن الدين ليس بمنزلة العين التالفة التي لا يمكن تملكها، لأن تملك

(1) الكافي: ج 6 ص 177 - 178 ح 3، 7. عنه في الوسائل: ج 16 ص 9 ب 7 من أبواب العتق
ح 2، 5.
(2) الكافي: ج 6 ص 179 ح 1، 2 مع اختلاف يسير. عنه في الوسائل ج 16 ص 7 ب 5 من
أبواب العتق ح 1، 2.
204

الانسان ما في ذمة الآخر من الأمور الاعتبارية العقلائية فإذا رد المشتري العين
يملك الدين على البائع ثانيا.
هذا، مع أن الذمة لها عرض عريض، ولم يتشخص ما في الذمة حتى يمكن أن
يعرض عليه التلف، وليس حكم الساقط حكم التالف، فلا منافاة بين سقوطه
وإمكان الرجوع فيه.
ومن أن تملك ما في ذمة الغير وإن كان ممكنا إلا أنه يحتاج إلى موجب، فهو
فرع أن يملك، وملكيته فرع أن يمكن له الرجوع، وهذا دور.
وبعبارة أخرى: إن كان جواز الفسخ مفروغا عنه كما في باب الخيارات لقلنا
بأن في مورد التلف يرجع إلى المثل أو القيمة، فإن الرجوع إلى العين التالفة غير
معقول، وفي المقام إذا رجع المشتري لا يرجع أيضا إلى عين ما في الذمة الذي
كان سابقا فإنه إعادة للمعدوم، وهو ممتنع (1)، بل يرجع إلى مثله، وهذا يتوقف على
دليل.
والأقوى هو الثاني، فإنه مضافا إلى عدم الدليل على جواز الرجوع وتملك
ما في ذمة الغير ثانيا يمتنع لجهة أخرى، بناء على ما سيجئ في باب خيار
المجلس من أنه يعتبر في جواز الرجوع بالخيار ونحوه خروج الملك عن ملك
من انتقل إليه إلى ملك من انتقل عنه، نظرا إلى أن خروج أحد العوضين عن ملك
أحدهما يستلزم دخول الآخر فيه ولو آنا ما، وهذا ممتنع في المقام، لأنه إذا رد
المشتري العين الموجودة إلى المديون فلا بد أن يخرج الدين عن ملكه ويدخل
في ملك المشتري، ودخول الدين في ملك المديون نتيجته السقوط دائما، نظير:
انعتاق العمودين في ملك المشتري لهما، فإنه إذا ملكهما ينعتقان، فإذا كان نتيجته
السقوط يمتنع الرجوع، بل ولو لم نقل باعتبار تلقي الفاسخ الملك من المفسوخ

(1) وفيه: أن ما في الذمة لم يتشخص بخصوصية حتى يكون رجوع المتخصص مستلزما
لرجوع مثله من جهة امتناع إعادة المعدوم، بل هي اعتبار عقلائي فيمكن أن يرجع على
ما كان عليه. (منه عفي عنه).
205

عليه لكان مجرد احتماله منشأ للشك في جواز الرجوع، والمتيقن غير هذه
الصورة.
وأما على القول بالإباحة فقد يقال: إن إباحة الدين على من هو عليه لا
يستلزم السقوط، لأن كون الدين مباحا لمن عليه الدين معناه أنه يجوز له
التصرفات فيه بإسقاطه عما في ذمته والمصالحة عليه، وسائر أنحاء التصرفات
الجائزة على القول بالإباحة، فيرجع مالك ما في الذمة إلى ملكه الذي أباحه لمن
عليه، لعموم (الناس مسلطون) (1)، وسائر الأدلة.
ولكنه لا يخفى ما في هذا التقريب، لأن الإباحة التي هي محل البحث في باب
المعاطاة ليست بالمعنى الذي حملها عليه صاحب الجواهر (2) قدس سره: من أن إفادة
المعاطاة الإباحة إنما هو فيما إذا كان قصد المتعاطيين الإباحة، بل المراد منها
التسليط المالكي على التقريب المتقدم، فإذا أوجدا مصداق التسليط فلا فرق بينه
وبين الملك، فكما أنه لا يعقل أن يتملك الانسان ما في ذمته فكذلك لا يمكن أن
يكون مسلطا عليه، فنتيجة التسليط أيضا: السقوط، والتلف والتالف لا يعود.
قوله قدس سره: (ولو نقل العينين أو إحداهما بعقد لازم فهو كالتلف... إلى آخره).
أقول: التصرفات الواقعة من أحد المتعاطيين إما أن لا تتوقف على الملك،
وإما أن تتوقف عليه، وهذا على قسمين:
قسم من التصرفات الخارجية كالوطئ.
وقسم من التصرفات في عالم الاعتبار. وهذا أيضا على قسمين:
قسم من العقود المعاوضية وشبهها كالبيع والرهن.
وقسم من الإيقاعات، أو عقد غير معاوضي كالعتق والهبة.
والعقود المعاوضية تارة تقع على الأعيان كالبيع ونحوه، وأخرى على
المنافع: كالإجارة.

(1) مر تخريجه في الصفحة: 92.
(2) جواهر الكلام: كتاب التجارة ج 22 ص 214.
206

أما الإجارة وكل تصرف غير ناقل للعين: كالعارية والوديعة، أو غير متوقف،
على الملك كالركوب والافتراش فغير موجب لسقوط الرد، حقا كان أو حكما،
على الملك أو الإباحة لبقاء العين على حالها.
وأما التصرفات الناقلة أو الموقوفة على الملك: كالوطئ فموجبة لسقوط الرد
مطلقا، سواء كانت بالعقد اللازم أو الجائز على القول بالملك أو الإباحة، عاد العين
إلى من انتقل عنه بحق خيار أو إقالة أو معاوضة أم لا، والعقد جائز كان معاطاة أو
عقدا، فسخ العاقد أم لا، وذلك لأن العين بمجرد الوطئ أو النقل إلى غيره خرجت
عما هي عليها، لأن حكم الرد في المعاطاة حكم الرد في باب خيار العيب يعتبر
في جوازه أن تكون العين قائمة بعينها، فإذا صارت موطوءة وملكا للآخر لم تكن
قائمة بعينها.
وبالجملة: المراد من الجواز في المقام هو رد العين عن ملك من انتقلت إليه،
أو أبيحت له بنفس هذه المعاملة إلى ملك مالكه الأصلي أو المبيح، فرجوع العين
ثانيا إليه بأي نحو رجع ولو بالفسخ لا يفيد إمكان الرد، فإن الفسخ وإن قلنا بأنه
يوجب حل العقد من حينه لا من حين الفسخ إلا أنه حيث يكون دخيلا في انتقال
العين إلى ملك من انتقلت عنه يكون مالكية أحد المتعاطيين أو كونه مباحا له
بسبب غير السبب الأول، وبمقوم غير المقوم الأول.
وبعبارة واضحة: المناط في جواز الرد في المقام هو تعلق الرد بالعين بما هي
متعلقة للمعاوضة، لا بذاتها، ورد المعاوضة والمنشأ بالفعل يتوقف على بقاء
المعاوضة حتى يرجع عما أوجده أولا، فمع عروض معاوضة أخرى مباينة لها أو
مثلها انتفى موضوع الجواز، ورجوع العين إلى محلها بسبب آخر غير كونها في
محلها بالسبب الأول، فالموضوع معلوم الارتفاع، وهذا من غير فرق بين الملك
والإباحة، لأن التصرفات الناقلة تكشف عن سبق الملك للمتصرف، لأن مقتضى
الضمان المعاملي أن ينتقل الملك عن مالكه الأصلي بتصرف المباح له أو إتلافه،
ويدخل آنا ما في ملك المتصرف، ويخرج عن ملكه إلى ملك الثالث، فعوده إلى
207

ملك المالك الأول محتاج إلى دليل.
وبعبارة أخرى: اللزوم الحاصل من التصرف كونه مشروطا بعدم رجوع
الملك إلى ملك المتصرف يتوقف على دليل، فاستصحاب اللزوم جار بلا إشكال،
وهذا من غير فرق بين ما إذا قلنا: بأن تصرفات من عليه الخيار لا يوجب سقوط
حق ذي الخيار عن العين بعد رجوعها إلى ملك من عليه الخيار ثانيا بالفسخ، أو لم
نقل، وذلك لأن هذين القولين مبنيان على أن الزائل العائد كالذي لم يزل، أو
كالذي لم يعد. وفي المقام يقتضي أن يكون الزائل العائد كالذي لم يعد. لأنه
بمجرد زواله أوجب سقوط حق الرد، لأن الموضوع في باب الخيار لم يكن نفس
العين، ولذا لا يسقط بالتلف.
فيمكن أن يقال: تعلق الخيار بالمثل أو القيمة يدور مدار تعذر رد العين، فإذا
دخل العين في ملك من عليه الخيار فيتعلق الحق بها، وفي المقام التلف مسقط
للجواز رأسا، والتصرف بالنقل في حكمه أيضا، فإذا بطل التصرف بفسخ ونحوه
فرجوع الجواز متوقف على دليل.
قوله قدس سره: (نعم، لو قلنا بأن الكاشف عن الملك هو العقد الناقل... إلى آخره).
توضيح هذه العبارة يتوقف على بيان الوجوه المتصورة في نفوذ تصرف ذي
الخيار فيما انتقل عنه، وهي أربعة:
الأول: أن إرادة التصرف موجبة لنقل الملك عمن عليه الخيار إليه، فتصرفه
بالبيع ونحوه كالوطئ يقع في ملكه، وهذا الوجه وإن لم يكن مرضيا عندنا - لأن
القصد المجرد عن إنشاء قولي أو فعلي لا أثر له في باب العقود والإيقاعات - إلا
أنه بناء على صحته يرتفع جميع الإشكالات حتى في الوطئ، لأنه يقع بعد تحقق
الملك للواطئ.
الثاني: أن الفسخ يحصل بأول جزء من الفعل أو القول، وبتمامه يحصل الملك
للمشتري، وهذا يصح في البيع لا الوطئ، لأن الجزء الأول منه يكون محرما.
والثالث: أن الفسخ والبيع يحصلان معا بالتصرف إلا أن الأول مقدم طبعا على
الثاني.
208

وبعبارة أخرى: التصرف سبب لترتب مسببين طوليين عليه.
والرابع: أنه لو تحقق التصرف بالعقد الناقل فالفسخ يحصل بالإنشاء، والبيع
بالمنشأ، أي البيع من حيث إنه فعل من أفعال الفاسخ يتحقق به الفسخ، لأنه يحصل
بكل ما هو مصداق للتشبث بالملكية، ولذا يعد إنكار البيع والعرض على البيع،
والبيع الفاسد فسخا. وأما الانتقال إلى المشتري فهو يحصل بالمنشأ، لأنه لا يعتبر
في انتقال الملك إلى الغير أن يكون إنشاؤه أيضا في ملك الناقل، وهذا أمتن الوجوه.
وهذا وإن لم يجر في الوطئ إلا أن الإشكال في الوطئ أصلا غير وارد، لأن جوازه
ليس موقوفا على تملك الرقبة، بل يكفي لحليته ملكية الوطئ كما في التحليل.
وعلى أي حال، جميع هذه الوجوه لا يجري في تصرف أحد المتعاطيين فيما
انتقل إليه.
أما على الملك فلا يتوقف على شئ أصلا، لأنه ملكه فيتصرف فيه كيف شاء.
وأما على الإباحة فيجري فيها الوجه الأول والثالث، لأن تصرف المباح له
بالبيع ونحوه الذي يتوقف على الملك إنما يؤثر الانتقال إلى الثالث لو جعلنا إرادة
التصرف المتوقف على الملك من المملكات، أو جعلنا العقد سببا لأمرين مترتبين
دخوله في ملكه وانتقاله إلى الثالث.
وأما الوجهان الآخران فلا يجريان في المقام، لأن الجزء الأول من اللفظ
وكذا تمام اللفظ لا يوجب تملك المباح له، لأنه لم يقم دليل في المقام على أن كل
فعل من أفعال المباح له يوجب تملكه لما أبيح له، وهذا بخلاف باب الفسخ، لأنه
يحصل حتى بالعقد الفاسد.
وبعبارة واضحة: مجرد إنشاء المباح له لا يوجب تملكه مال المبيح فضلا عن
الجزء الأول من إنشائه، فتملكه لما أبيح له: إما بإرادة تصرفاته الناقلة، وإما بالعقد
الناقل.
فعلى الأول: لو رجع ما انتقل عنه إلى ملكه فلا وجه لرجوع المالك الأصلي
إليه.
209

وأما على الثاني: فيمكن أن يقال: إن العقد الذي كان سببا لتملك المباح له
وانتقال المال عن ملكه إلى الثالث إذا ارتفع بالفسخ يرتفع كلا مسببية.
وبتعبير آخر: لو قلنا: إن الملك الحاصل للمباح له إنما هو باقتضاء العقد الناقل
الواقع بين المباح له مع الثالث فإذا بطل العقد بطل مقتضاه رأسا.
ثم إنه يمكن أن يقال: إنه لا يقتضي دخول الملك في ملك المباح له إلا في
خصوص العقد المعاوضي، لا مطلق العقد الناقل حتى مثل الهبة، وذلك لأن العقد
المعاوضي يقتضي دخول العوض في ملك من خرج عنه المعوض، فعقد المباح له
مع المشتري يقتضي دخول الثمن في ملكه، وخروج المثمن عن ملكه إلى ملك
المشتري، ولازمه أن يخرج المال عن ملك المبيح، ويدخل في ملك المباح له آنا
ما حتى يمكن أن يخرج عن ملكه، فإذا فسخ المباح له ما أنشأه أصالة بطل لازمه،
فيرجع بفسخه إلى ملك المبيح.
وبالجملة: لو كانت المعاوضة مقتضية للخروج وجب الالتزام بأمرين.
أحدهما: أن الخروج ثابت ما دام العوض باقيا على عوضيته، فإذا رجع عما
هو عليه رجع إلى ملك مالكه الأصلي.
وثانيهما: عدم اقتضاء ذلك في هبة المباح له، إذ لا عوض فيها، فيمكن أن
يخرج المال رأسا عن ملك المبيح إلى المتهب.
هذا تمام الكلام في شرح العبارة، وتوضيح الفرق بين كون إرادة التصرف
موجبة للملكية والعقد الناقل، ولكن الفرق بينهما ضعيف جدا، والفرق بين البيع
والهبة أضعف.
أما الأول: فلأن تقدير الملك آنا ما للمباح له في المقام ليس لأجل وقوع
العقد بينه وبين الثالث، بل لاقتضاء المعاطاة ذلك، فإن الضمان بالمسمى الذي هو
مفاد المعاطاة يقتضي أن يكون تلف أحد العوضين أو نقله من ملك المتلف أو
الناقل، ودخول العوض الآخر في ملك المبيح، ولازمه رجوع المال بالفسخ إلى
الناقل لا المبيح، فإنه لو رجع إليه يلزم أن يخرج العوض الآخر عن ملكه، وأن
210

يكون الناقل ضامنا للمثل أو القيمة له، لا العوض الذي أعطاه إياه، وهذا خلف،
فالمسببان المترتبان على العقد إذا كان أحدهما مسببا عن المعاطاة وناشئا عنها
فرفع العقد لا يقتضي إلا رفع ما هو العلة له، لا رفع معلول علة أخرى.
وبالجملة: العقد الصادر من المباح له ليس إنشاء لأمرين: أصلي وهو الانتقال
إلى المشتري مثلا، وتبعي وهو الانتقال إلى نفسه حتى يكون التبعي مرتفعا برفع
الأصلي، بل المنشأ ليس إلا المعاملة مع المشتري. وأما دخول العين في ملك
المباح له فهو مقتضى الضمان بالمسمى، وهذا لا يرتفع بالفسخ مع المشتري.
وأما الثاني: فلعدم انحصار تقدير الملك بما إذا كان التصرف المباح له تصرفا
معاوضيا، بل مطلق التصرف الناقل مقتض لدخول ملك المبيح في ملك المباح له،
لأن نفوذه موقوف على التقدير، وهذا المعنى مشترك بين العقد المعاوضي: كالبيع،
وغيره: كالهبة، وبين بقاء العوض في ملك المبيح وخروجه عن ملكه. فكما لا ينفذ
بيع غير المالك فكذا لا ينفذ هبته، وعلى هذا لا يمكن أن يكون جواز الرجوع
للمالك الأصلي دون الواهب، لأن الواهب لم يكن وكيلا عن المالك، ولا مأذونا
شرعا في أن يهب عنه، فيكون هبته من قبيل هبة الأب والجد مال الصغير، ويكون
حق الرجوع له، كما أن حق الرجوع للصغير بعد الكبر لا لوليه.
وبالجملة: الواهب يهب عن نفسه لا عن المبيح، فلا يمكن أن يكون الهبة
صحيحة وحق الرجوع للمبيح، لأن حق الرجوع إلى العين الموهوبة إن كان مع
بقاء المعاطاة على حالها - كما هو مفروض البحث وصريح كلام المصنف - ففيه: أن
العوض الذي عند المبيح عوض عن تصرفات المباح له من قبل نفسه فهو يهب
مال نفسه لا مال المبيح، فينتقل العين الموهوبة آنا ما إلى ملكه ويخرج إلى
المتهب، فإن الواهب لا يعطي ماله بإزاء أن يكون وكيلا أو مسلطا على نقل مال
الناس إلى غيرهم. هذا، مضافا إلى أن الهبة عن قبل غيره خلاف الحس
والوجدان، فالجمع بين بقاء العوض الذي عند المبيح على عوضيته، وثبوت حق
211

الرجوع في الهبة للمبيح بأن يبطل الهبة، ويجعل العين الموهوبة مباحا للواهب كما
كان كذلك قبل الهبة جمع بين طرفي النقيض.
وإن كان حق الرجوع بعد بطلان المعاطاة، فهذا خلف، لأن المفروض عدم
وقوع ما يوجب الفسخ قبل صدور الهبة.
وإن كان جواز الرجوع إلى الهبة عبارة عن فسخ المعاطاة ففيه: مع كونه
خلاف فرض المصنف أن ثبوت حق الفسخ للمبيح أول الكلام، لاحتمال سقوط
الجواز بهبة المباح له.
وحاصل الكلام: صحة هبة الواهب عن قبل نفسه وجواز رجوع المالك إلى
العين الموهوبة جمع بين طرفي النقيض، ووقوع الهبة في ملك المالك الأصلي مع
بقاء العوض على ملكه جمع بين طرفي النقيض أيضا.
ثم إن المحقق الخراساني قدس سره في حاشيته (1) على المتن التزم بجواز الرجوع
للمبيح إلى العين الموهوبة، ولكنه اختار: أن الرجوع في الهبة ليس فسخا للهبة
حتى يرجع الأمر إلى ما كان سابقا، أي كأن لم يكن هناك هبة حتى تكون المعاطاة
على ما كانت محلا للتراد، بل تملك جديد، فإذا كان تملكا جديدا لا فسخا للهبة
ترتب عليه أمران:
أحدهما: عدم إمكان رد المعاطاة، لأنه سقط بالهبة.
وثانيهما: أنه لا يجب على المبيح رد العوض الذي كان عنده، فالعينان وإن
اجتمعتا عنده إلا أن إحداهما بالمعاطاة ابتداء أو بعد التصرف في إحداهما بالهبة،
وأخرى بالرجوع إلى العين في الهبة لا المعاطاة.
فهو قدس سره جمع بين جواز رجوعه في الهبة وعدم جواز رد المعاطاة، وجمع بين
المعوضين، أحدهما لكونه بإزاء إباحة المالك ماله للمباح له، وثانيهما لأنه تملك
جديد.

(1) حاشية المكاسب للآخوند الخراساني: كتاب البيع ص 25.
212

ولا يخفى ما فيه، لأن العوض عوض عن صيرورة المال للمتهب، لا عن إنشاء
الواهب، فإذا رجع المال عن المتهب فلا بد أن يرجع ما عند المبيح من العوض إلى
ملك الواهب.
وبعبارة أخرى: العوض في باب المعاطاة ليس بإزاء إباحة التصرف آنا ما
للمباح له مع عدم استقرارها، بل عوض عن نفوذ تصرفاته، فالتملك الجديد لا
معنى له في المقام.
قوله قدس سره: (ولو باع العين ثالث فضولا... إلى آخره).
لا يخفى أنه لا وجه لما أفاده المصنف قدس سره من كون الإباحة بعكس الملك
وضوحا وخفاء، بل على كل من القولين يجوز لكل منهما الإجازة، لأن مبنى
الإشكال على القول بالملك هو: أن رد المعاطاة ليس كرد ذي الخيار ما انتقل عنه
في تحققه بكل فعل أو قول، بل لا بد أن يكون بالدلالة المطابقية، وهي تتحقق برد
العين لا بإجازة عقد الفضولي فإنها لازمة للرد.
ومبنى الإشكال على الإباحة: أن المبيح ما لم يبطل المعاوضة بالمسمى ولم
يجعل الضمان ضمان اليد لا يمكنه الرجوع إلى ماله، ولا يخفى فساد كل منهما.
أما على الملك: فلأنه كما لا إشكال في أن المالك الثاني لو أجاز لنفذ - لأن
إجازته تصرف منه فيما انتقل إليه، فإن تصرفه فيه أعم من التصرف بنفسه أو
تصرف الغير بإذنه أو إجازته - فكذلك لا إشكال في أن تصرف المالك الأصلي
بالأنحاء الثلاثة فيما انتقل عنه فسخ منه للمعاطاة.
ودعوى أنه يجب أولا رد ما عنده حتى يتحقق الفسخ دعوى بلا برهان، فإنه
كما يتحقق به كذلك يتحقق بالتصرف فيما انتقل عنه.
وأما على الإباحة: فكما أن إبطال عوضية المسمى يتحقق برده إلى الآخر
كذلك يتحقق بالتصرف فيما أباحه له مباشرة، أو إذنا، أو إجازة. وعلى هذا، فعلى
كلا القولين ينفذ إجازة كل منهما. أما على الملك فلأن إجازة المالك الفعلي تصرف
فيما انتقل إليه، وبه يبطل موضوع جواز التراد للمالك الأصلي، وإجازة
213

المالك الأصلي تصرف فيما انتقل عنه، وبه تبطل المعاطاة.
وأما على الإباحة: فإجازة المباح له إتلاف لما أبيح له، وبه يلزم المعاملة،
وإجازة المبيح رجوع عن الإباحة.
قوله قدس سره: (ولكل منهما رده قبل إجازة الآخر... إلى آخره).
الكلام تارة على الملك، وأخرى على الإباحة، والراد على الأول: إما المالك
الأصلي، أو الفعلي. وعلى الثاني: إما المبيح، أو المباح له.
أما رد المالك الأصلي فلا يفيد، لأنه أجنبي بالنسبة إلى ما باعه الفضولي،
وليس كإجازته رجوعا إلى ملكه، لأنه ليس مصداقا للرجوع، وليس من قبيل
تصرف ذي الخيار بالبيع أو الإجازة، والحق الثابت له إنما هو بمعنى جواز رد
الملك عن المالك الفعلي إلى ملكه، لا رد الملك عن الثالث إلى ملك المالك الفعلي.
إلا أن يقال بالملازمة بين الرد وإرادة الرجوع عرفا، فينشأ به الرجوع التزاما.
أما رد المالك الفعلي: فلا إشكال في تأثيره، وينعكس الأمر في رد المبيح
والمباح له، فإن رد المبيح يؤثر بلا إشكال. وأما رد المباح له فليس كإجازته
تصرفا في المبيع، إلا أن يقال بتلك الملازمة.
قوله قدس سره: (ولو رجع الأول فأجاز الثاني... إلى آخره).
أي لو رجع المالك الأصلي أو المبيح عن المعاطاة فأجاز الثاني المعاملة
الصادرة من الفضولي فهل يؤثر الرجوع أو الإجازة؟
لا يخفى أن إطلاق كلامه منزل على ما إذا رجع أحد المتعاطيين إلى ما انتقل
عنه الذي باعه الفضولي، وأجاز الآخر المعاملة الواقعة على ما انتقل إليه لا مطلقا،
لأن الرجوع قد يؤثر في بعض الصور، سواء قلنا بالكشف أو النقل، فإن الصور
المتصورة في المقام كثيرة.
فإن الفضولي قد يبيع المثمن، وقد يبيع الثمن. والرد تارة يقع من البائع
والإجازة من المشتري، وأخرى بالعكس. وهذا تارة على الملك، وأخرى على
الإباحة. فلو باع الفضولي المبيع فرجع البائع وأجاز المشتري، أو باع الثمن فرجع
214

المشتري وأجاز البائع، وهذا هو محل الكلام.
ولو انعكس كما لو كان المبيع هو المبيع والراجع هو المشتري والمجيز هو
البائع، أو كان المبيع هو الثمن والراجع هو البائع والمجيز هو المشتري فلا إشكال
في تأثير الإجازة، لأنها تقع على ملك مالكه.
وبالجملة: محل الكلام فيما لو وقعت الإجازة على شئ لولاها لأثر الرجوع
بحيث يبطل عقد الفضولي، وأما لو كان رجوعه عن المعاطاة إبطالا لوقوع عقد
الفضولي في ملك نفسه فلا يؤثر الرجوع إلا هذا المقدار، فيبقى موضوع الإجازة
الآخر.
فإذا ظهر موضوع البحث، فلو رجع الأول ثم أجاز الثاني فلو جعلنا الإجازة
كاشفة بمعنى عدم دخلها في العقد لكون السبب التام هو العقد بحيث كانت الإجازة
طريقا صرفا إلى الواقع كالعلم - كما يظهر ذلك من بعض المحققين (1) - لغي
الرجوع، لوقوعه في ملك الغير ولو كان سابقا على الإجازة، لتأخره عن السبب
التام وهو العقد.
نعم، لو قلنا بأن لها دخلا في التأثير بنحو الشرط المتأخر أو بنحو آخر من
أنحاء الكشف غير الطريقية الصرفة فتلغو الإجازة، لتأثير الرجوع قبلها، فيصير
المقام نظير ما لو باع الأصيل ما باعه الفضولي ثم أجاز فإن الإجازة تقع من غير
المالك، ولا يقاس بما إذا باع الفضولي الخل ثم وقع الإجازة حين صيرورته خمرا
للفرق بينهما، فإن في هذا المثال وإن خرج المبيع عن قابلية التملك الفعلي إلا أن
المجيز الذي هو ذو الحق هو المالك حال العقد، ولم يخرج من زمان العقد إلى
زمان الإجازة عن الأهلية للإجازة، وهذا بخلاف المقيس والمقام، فإنه لو باع
الأصيل أو رد أحد المتعاطيين فليس المجيز مالكا للإجازة هذا إذا قلنا بأن
الإجازة كاشفة. وأما لو قلنا بأنها ناقلة فتلغو الإجازة قطعا.

(1) منهم السيد الطباطبائي في الرياض: كتاب التجارة ج 1 ص 513 س 18 وقواه شيخ
الجواهر في جواهره: كتاب التجارة ج 22 ص 285.
215

قوله قدس سره: (ولو امتزجت العينان أو إحداهما سقط الرجوع على القول
بالملك... إلى آخره).
ليعلم أن: حكم الامتزاج حكم التغيير في باب رجوع صاحب المال على
المفلس، وفي خيار العيب والغبن والهبة، فحكموا بأن التغيير أو المزج لا يوجب
سقوط حق صاحب العين عن عينه في باب الفلس، لأن المناط فيه: وجود العين
بمقتضى النبوي: (إذا أفلس الرجل ووجد سلعته فهو أحق بها) (1). وهما لا
يخرجان العين عن إمكان رجوع صاحبها إليها، فلا يضرب صاحب العين مع
الغرماء.
نعم، في بعض الصور - كما في المزج بالأجود - خالف الشيخ (2) والعلامة (3)
المشهور، فقالا بسقوط حقه من العين.
وأما المشهور فجعلوا المناط وجود العين، فما لم يطرأ عليها التلف فصاحب
العين أحق بها، وأما في باب خيار العين فحكموا بسقوطه بالتغيير والمزج، لأن
المناط فيه: هو بقاء العين بعينها كما هو مقتضى مرسلة جميل، عن الصادق عليه السلام قال
قطع أو خيط أو صبغ رجع بنقصان العيب) (4). وهذا المناط مشترك بين المزج
والتغيير، فيسقط الرد دون الأرش.
وأما الهبة والغبن فألحقوهما بباب العيب، بل ورد في صحيح الحلبي، عن أبي
عبد الله عليه السلام (إذا كانت الهبة قائمة بعينها فله أن يرجع فيها، وإلا فليس له) (5).

(1) صحيح مسلم: ج 3 ص 1194 ح 25. مع اختلاف يسير.
(2) كما في الخلاف: ج 3 ص 266 م 6.
(3) كما في التذكرة: كتاب الحجر ج 2 ص 69 س 15.
(4) من لا يحضره الفقيه: ج 3 ص 217 ح 3803. عنه في الوسائل: ج 12 ص 363 ب 16 من
أبواب الخيار ح 3.
(5) الكافي: ج 7 ص 32 ح 11. عنه في الوسائل ج 13 ص 341 ب 8 من أبواب أحكام
الهبات ح 1.
216

نعم، عن المحقق (1): اختصاص سقوط الرجوع بالتلف الحقيقي دون التغير
والامتزاج. وأما باب الغبن. فسيجئ حكمه في محله إن شاء الله. وعلى أي حال
لم يفرقوا بين التغير والمزج في الأبواب الأربعة.
وأما في المقام: فحيث إن المصنف قدس سره بنى على أن الجواز في المعاطاة ليس
بمعنى الجواز في باب الخيار، ولا كالجواز في باب الهبة، بل بمعنى: تراد العينين،
فيمكن الفرق بين التغير والامتزاج، فالايراد عليه: بأنه لا وجه للجزم باللزوم في
مورد المزج بناء على الملك والترديد في مورد التغيير. ضعيف.
نعم، الأقوى عدم الفرق بين التغير والمزج في سقوط جواز الرد على القول
بالملك والإباحة. وما اخترنا في الدورة السابقة من الفرق بين القولين لا وجه له.
وتوضيح ذلك - مضافا إلى عدم الفرق بينهما بحسب السيرة المستمرة، وأنه
لو رد أحد المتعاطيين المتاع الذي فصله أو صبغه أو مزجه بأي نحو من المزج
ينكرون عليه - أن الإباحة الحاصلة بالمعاطاة ليست عبارة عما اختاره صاحب
الجواهر (2) ويظهر من المصنف (3) من كونها كإباحة الطعام، بل تسليط مالكي
وتضمين معاوضي، ولا تنقص عن الملك، ويترتب عليه جميع ما يترتب على
الملك، فإن المعاطاة بناء على الملكية موجبة لتبديل طرف إضافة بطرف إضافة
أخرى، وبناء على الإباحة وإن لم تتبدل نفس طرفي الإضافتين إلا أن جميع آثار
التبديل كالسلطنة على التصرف المالكي يحصل للمباح له، ويبقى الملك مسلوب
الأثر لمالكه، فإذا كان كذلك فعلى الملك: المزج، وكذا التغيير موجب لسقوط جواز
الرجوع.
أما المزج: فلامتناع تراد الأعيان المملوكة، فإذا امتنع التراد لزم المعاطاة،
واحتمال حصول الشركة للمالك الأصلي فرع بقاء تعلق حقه بذات الأجزاء، وبقاء

(1) شرائع الاسلام: كتاب المفلس ج 2 ص 92.
(2) جواهر الكلام: كتاب التجارة ج 22 ص 217 - 218.
(3) المكاسب: كتاب البيع ص 91 السطر الأخير.
217

الحق فرع إمكان امتيازها. ولا يقاس المقام بما إذا بيعت الأجزاء من الغير، لأن
البيع يقع على مقدار من هذه الأجزاء، لا على نفسها، وإلا لا يصح البيع أيضا.
وما أفاده المحقق الخراساني قدس سره: من أنه لا يمتنع التراد لو لم نقل بحصول
الشركة بمجرد الامتزاج لبقاء الأجزاء الممتزجة على ما كانت عليه من الملك أو
الإباحة لمن صارت إليه من المتعاطيين (1) ضعيف، لأن مناط لزوم المعاطاة ليس
منحصرا بخروج المال عن قابلية التملك، بل مما يوجب اللزوم عدم بقاء العين
على ما هي عليه من الوصف كما في خيار العيب.
وأما التغيير فلعين البرهان المتقدم آنفا، سواء كان تغييرا موجبا لزيادة القيمة
كالسمن والصبغ والقصارة، أو لنقصانها كفصل الثوب أو تعيبه أو نسيان الكتابة
والطحن، أو لم يكن كذلك. وفي المزج أيضا لا يتفاوت المزج بالمساوي الأجود
أو الأردأ وبما يوجب الإتلاف أو لا، أي لا يتفاوت في البابين بين أن يوجب
المزج أو التغيير ضمان المازج أو المغير، كما لو مزجه بالأردأ أو غيره بما يوجب
النقص. وأن يوجب شركة المازج أو المغير، كما لو مزجه بالأجود أو غيره بما
يوجب زيادة القيمة، لأن المناط في مقامنا هذا عدم بقاء العين على ما هي عليه،
فلا فرق بين جميع الصور.
والسر في ذلك ما أشرنا سابقا أن الجواز هنا وإن لم يتعلق بالعين ابتداء بحيث
لا يكون له مساس بالمعاوضة إلا أنه من الممكن أن يكون كخيار العيب الثابت
في مورد بقاء العين على ما هي عليه. والتغيير أو المزج يخرج العين عما هي عليه.
فإن في مرسلة جميل (2): جعل قطع الثوب أو خيطه أو صبغه مقابلا لبقاء العين
وقيامها على ما هي عليه.
نعم، يمكن أن يكون كخيار المالك في باب المفلس، إلا أن الشك في كونه
ملحقا بأيهما يكفي في لزوم المعاطاة وعدم جريان استصحاب الجواز، وليس

(1) حاشية المكاسب للمحقق الخراساني: ص 25.
(2) مر تخريجها في الصفحة: 216.
218

منشأ الشك كون الموضوع عرفيا أو عقليا، ولا يبتنى جريان الاستصحاب وعدمه
على الوجهين كما لا يخفى. هذا على الملك.
وأما بناء على الإباحة: فحيث قد عرفت أنها ليست كإباحة الطعام دائرة
مدار الإذن حتى ترتفع برفعه، بل تسليط مالكي وتضمين معاوضي، فالمتيقن من
جواز الرد أيضا هو بقاء العين على ما هي عليه، فإذا تغير وصفها فيرتفع موضوعه.
هذا، مضافا إلى أن استصحاب الجواز له معارض باستصحاب بقاء سلطنة
المباح له واستصحاب بقاء المسمى على العوضية، وليس بينهما سببية ومسببية،
لكون كل منهما مسببا عن نحو الجعل الشرعي ثبوتا. هذا، مع ما تقدم من أن السيرة
المستمرة قائمة على اللزوم.
قوله قدس سره: (ثم إنك قد عرفت مما ذكرنا: أنه ليس جواز الرجوع في مسألة
المعاطاة نظير الفسخ في العقود اللازمة حتى يورث بالموت... إلى آخره).
لا إشكال فيما ذكره قدس سره سواء قيل بالملك أو الإباحة.
أما على الملك: فلأن الجواز في المقام ليس حقا مالكيا حتى ينتقل بموت
المورث إلى الوارث ويسقط بالإسقاط، بل هو نظير جواز الرجوع في الهبة،
فإثبات هذا الحكم للوارث يتوقف على دليل.
ولا يقاس الجواز الحكمي على حق الإقالة الذي يرثه الوارث، لأنه عبارة
عن ملك الالتزام الذي كان للمالك، فإذا مات انتقل هذا الحق إلى الوارث، بخلاف
الحكم المحض، فإن المالك لم يترك شيئا حتى يرثه وارثه.
ولا يقاس أيضا على حق الخيار، فإنه عبارة عن ملك التزام نفسه والتزام
طرفه، فقوامه بملك كلا الالتزامين.
ولذا قيل (1) بعدم ثبوت الخيار للزوجة في العقار الذي لا ترث منه، سواء كان
منتقلا إلى زوجها أو منتقلا عنه، لأنه لو انتقل إليه فالزوجة غير مالكة لالتزام
زوجها، لأن ملك التزام الزوج طريق لرد العقار، والمفروض أنها لا ترث العقار،

(1) قاله المحقق الثاني في جامع المقاصد: كتاب التجارة ج 4 ص 306.
219

فلا ترث طريق رده، وإن كان منتقلا عنه فهي غير مالكة لالتزام طرف زوجها،
لأنها لا ترث العقار لو رد بالفسخ، فلا ترث الفسخ أيضا. هذا على الملك.
وأما على الإباحة: فلو قيل بأنها من قبيل إباحة الطعام كان مقتضاه بطلان
المعاطاة بموت المبيح والمباح له، فإنها لو كانت كذلك كانت من قبيل العقود
الإذنية كالعارية والوديعة والوكالة التي تبطل بموت الآذن والمأذون، ولا يبقى
موضوع لها حتى تكون جائزة أو لازمة. ولكنك خبير بأنها من المعاوضات، ولا
تبطل بموت أحد المتعاطيين، فيقع الكلام في لزومها أو بقائها على الجواز.
ثم على اللزوم هل تبقى على ما كانت عليه من الإباحة، أو ينتقل المباح آنا ما
إلى ملك الميت وينتقل إلى الورثة؟ وجوه، والأقوى هو الأخير.
أما عدم بطلانها بالموت فللسيرة المحققة، وتفرع النزاع في اللزوم، أو البقاء
على الجواز على عدم البطلان بالموت فإنها لو بطلت بالموت كيف يفتي المحقق
والشهيد الثانيان بأنها تصير لازمة بالموت؟ بل يظهر من المصنف (1) ذلك أيضا،
فإنه في جواب استبعاد الشيخ الكبير بأنها على الإباحة كيف يرث الوارث؟
أجاب بأنها استبعاد محض، ولم يجب بأنها تبطل بالموت، ولا يرث الوارث ما
أخذه المورث معاطاة.
وأما لزومها فلعين ما ذكرنا في الملك، فهو أن الجواز الحكمي لا ينتقل إلى
الوارث، فليس له فسخ المعاطاة.
نعم، هنا شبهة لا تجري على الملك، وهي: أنها على الملك إذا بقي الجواز
للورثة فلا بد أن يكون من جهة إرث نفس الجواز، وحيث إنه حكم شرعي فلا
يرثه الوارث.
وأما بناء على الإباحة فحيث إن الملك باق على الملك المبيح فإذا مات انتقل
إلى وارثه فللوارث رد المعاطاة من حيث إنه من آثار سلطنته على المال، لا من
جهة إرثه الجواز، وذلك كما في الإجازة في باب الفضولي، فإنها غير قابلة لأن

(1) المكاسب: كتاب البيع ص 84 س 25.
220

يرثها الوارث، إلا أنه إذا انتقل ما باعه الفضولي إليه بالإرث فله أن يجيز. وهكذا
في وارث المستودع بناء على عدم بطلان الوديعة بالموت.
ولكنك خبير باندفاع هذه الشبهة أيضا في المقام، فإنه كما يعتبر في الجواز
الثابت في المعاطاة بقاء العين على ما هي عليه كذلك يعتبر في المتعاطيين أيضا
بقاؤهما كذلك، فلو تبدل أحدهما أو كلاهما يرتفع موضوع الجواز، بل لو شك فيه
أيضا فالمتيقن منه ثبوته لخصوص المتعاطيين.
وأما انتقال المال إلى ملك الميت وانتقاله إلى الورثة فلأن تقدير الملك عند
التلف هو الموجب للتقدير عند موت أحد المتعاطيين، وذلك لأنه لو كان المال
باقيا في ملك المبيح ولم يجز له التصرف بنحو من الأنحاء فهو بمنزلة العدم، لأنه
لا معنى لأن يكون الشخص مالكا ولا يتمكن من ترتيب آثار الملك على ملكه،
فكما أنه في مورد التلف يقدر الملك من باب عدم إمكان تعلق الملك بالتالف
فكذلك إذا امتنع التملك يقدر الملك آنا ما.
وبالجملة: لو فرضنا أن التسليط المالكي بقاء الملك للمالك مسلوب المنفعة
ولكنه كان مالكا لأن يرجع سلطنته إلى نفسه كان له أثر من آثار الملك. وأما إذا
ارتفع هذا الأثر أيضا فليس إلا كالتالف الحقيقي.
قوله قدس سره: (ولو جن أحدهما فالظاهر قيام وليه مقامه في الرجوع على
القولين... إلى آخره).
قد اخترنا في تعليقتنا سابقا على هذا العنوان ما هو مختار المصنف، وقلنا: إن
الجنون لا يقاس على الموت، لأن كل ما يقبل النيابة يقوم فيه الولي مقام المولى
عليه، ومباشرة المالك في الرد غير معتبرة - بلا إشكال - لصحة توكيله، فيقوم وليه
مقامه إذا جن.
ولذا قوينا في باب الطلاق (1) صحة طلاق الولي إذا جن المولى عليه بعد
الكبر، ولكن لا يخفى فساد ذلك.

(1) لم نعثر عليه.
221

أما بناء على الإباحة فعلى ما يظهر من المصنف قدس سره من أنها من قبيل إباحة
الطعام فمقتضاه بطلان المعاطاة بالجنون، فإنها كالعقود الإذنية تبطل بجنون الآذن
والمأذون والمبيح والمباح له، بل لو جن الباذل للزاد والراحلة لا يجوز للمبذول له
التصرف في مال الباذل، خصوصا لو جن قبل إحرام المبذول له.
ففي المقام: لو جن كل واحد منهما فلا يجوز أن يتصرف الآخر في مال
المجنون، وبقاء حق الرجوع للولي فرع بقاء المعاطاة على حالها.
وأما على ما اخترناه من معنى الإباحة، وهي كونها تسليطا مالكيا فحكمها
حكم الملك، وحكم المجنون على الوجهين حكم الموت في لزوم المعاطاة،
لاشتراط بقاء الجواز ببقاء المتعاطيين على حالهما حين المعاطاة، وقيام الولي
مقامهما فرع بقاء الجواز.
قوله قدس سره: (الأمر السابع: أن الشهيد الثاني ذكر في المسالك (1) وجهين في
صيرورة المعاطاة بيعا بعد التلف، أو معاوضة مستقلة... إلى آخره).
توضيح المقام يتوقف على بيان حال المعاطاة قبل التلف بناء على الملك
والإباحة حتى يعلم حالها بعده.
فنقول: أما بناء على الملك فلا إشكال في أنها بيع من أول الأمر، غاية الأمر
أنها جائزة وتلزم بعروض أحد الملزمات، فالوجهان المذكوران في المسالك لا
يجريان على القول بالملك.
وأما بناء على الإباحة: فقد ظهر أنها متصورة على وجوه:
الأول: ما بنى عليه صاحب الجواهر (2) قدس سره وحمل عليه كلمات الأصحاب:
من أن المعاطاة تفيد الإباحة فيما إذا قصدها المتعاطيان.
الثاني: ما يستفاد من كلمات جماعة (3) من أنها إباحة شرعية رتبها الشارع

(1) مسالك الأفهام: كتاب التجارة ج 1 ص 170 س 21 وما بعده.
(2) جواهر الكلام: كتاب التجارة ج 22 ص 214.
(3) منهم الفاضل المقداد في التنقيح الرائع: كتاب التجارة ج 2 ص 25 والسيد الطباطبائي في
رياض المسائل: كتاب التجارة ج 1 ص 510 س 28 وما بعده.
222

على خلاف ما قصده المتعاطيان من التمليك.
الثالث: ما وجهنا به كلمات المشهور من أنهما قصدا التمليك، ولكنهما أوجدا
مصداق التسليط، فهي إباحة مالكية لإيجادهما ما هو مصداق التسليط المالكي
وأمضاها الشارع أيضا.
الرابع: ما قويناه أخيرا من أنهما قصدا التمليك وأوجدا ما هو مصداقه، إلا أن
حصول الملك مشروط بتعقبه بأحد الملزمات: كاشتراط حصول الملك في
الصرف، والسلم بالقبض، غاية الأمر جوز الشارع قبل الملزمات تصرف كل منهما
بأي نحو من أنحاء التصرف، سواء كان مما يوجب حصول الشرط: كالتصرفات
المتلفة وما بحكمها، أو لم يكن فالإباحة قبل حصول الشرط شرعية، وعلى هذا
فالفعل جزء السبب، وجزؤه الآخر التصرفات المتوقفة على الملك أو التلف.
وحيث إن جميع هذه الوجوه لا تخلو عن إشكال فالأقوى كونها مفيدة للملك
ابتداء.
وعلى أي حال لو قلنا بما اختاره صاحب الجواهر قدس سره الذي إليه يرجع تنظير
المصنف قدس سره الإباحة الحاصلة بالمعاطاة بإباحة الطعام، فلا بد من الالتزام بأنها
معاوضة مستقلة وخارجة من أبواب العقود المتعارفة، فتكون نظير استيفاء المال
أو العمل بالأمر المعاملي الموجب لتقدير الملك آنا ما، وبأن التضمين بالعوض
المسمى ينشأ من أول الأمر، لا عند التلف حتى يقال: إن التلف أو التصرف ليس
معاوضة، ولازم جعل المسمى عوضا هو انتقال الملك آنا ما إلى ملك المتصرف،
أو من تلف المال عنده. والدليل على هذا المعنى هو السيرة الموجودة، فلا تقاس
المعاطاة على إباحة المالك التصرفات المتوقفة على الملك لغيره، التي منعنا كونها
من أنحاء سلطنة المالك وقلنا: إنه ليس للمالك السلطنة على الأحكام الشرعية.
وبالجملة: بناء على الإباحة بالمعنى الأول فلا بد من جعلها معاوضة مستقلة
رتبها الشارع على قصد الإباحة من المالك بالعوض المسمى إذا تحقق منه فعل
223

على طبق قصده ولم يرتبها على قوله.
وأما جعلها بيعا بعد التلف فبعيد جدا، للزوم الانقلاب، فإن ما ليس بيعا كيف
يصير بيعا؟
ولو قلنا بالوجه الثاني فالصواب أن يقال أيضا: بأنها معاوضة مستقلة، ولكنها
قهرية شرعية وجعلها الشارع لازمة بأحد الملزمات، أو أن الشارع رتب عليها
أولا ما هو مخالف لما قصده المتعاطيان وحكم عند تحقق الملزمات بطبق
ما قصداه.
ولو قلنا بالوجه الثالث فهو وإن كان يقتضي كونها معاوضة مستقلة لا بيعا إلا
أنها لازم مساو للبيع، لأن التسليط المالكي عبارة عن إعطاء المالك جميع آثار
الملك لغيره، وهذا مرجعه - في الحقيقة - إلى إعطاء نفس الإضافة والسلطنة التي
منعنا سابقا كونها داخلة تحت سلطنة المالك، لأن ما هو داخل تحت سلطنته هو
طرف الإضافة، لا نفس الإضافة، إلا أنها - على أي حال - مرجعه إلى البيع.
ثم إن انتقال كل عوض إلى ملك من انتقل إليه بالتلف إنما هو من آثار جعل
الضمان بالمسمى، لا أنه بالتلف ينقلب عما هو عليه ويصير بيعا، فإن هذا
الاحتمال أبعد الوجهين المذكورين في المسالك (1).
ولو قلنا بالوجه الرابع فمقتضاه كونها بيعا من أول الأمر، ولا يجري فيه
الاحتمالان، كما لا يجريان على ما هو المختار تبعا للمحقق (2) الثاني: من حصول
الملك بنفس الفعل.
ثم إنهم ذكروا (3) نظير هذين الوجهين المذكورين في المسالك على القول
بالإباحة في مسألة القسمة والإقالة، فاختلفوا في أن القسمة بيع أو إفراز حق، وأن

(1) مر في الصفحة: 222.
(2) كما في جامع المقاصد: في المعاطاة ج 4 ص 58.
(3) لاحظ جامع المقاصد: في الإقالة ج 4 ص 454، جواهر الكلام: كتاب التجارة ج 24
ص 352.
224

الإقالة فسخ - أي حل - للعقد الأول الذي لازمه رجوع كل مال إلى مالكه
الأصلي، أو بيع، أي إنشاء تمليك عكس الإنشاء السابق. وقيل (1) بالتفصيل بين ما
إذا أقيل بلفظ: (فسخت) فإنها فسخ، وما إذا أقيل بلفظ: (أقلت) فهي بيع.
وكيف كان فعلى القول بالملك يلحقها من أول الأمر جميع الخيارات الثابتة
للبيع عدا ما أستفيد من دليله اختصاصه بالبيع العقدي الذي مبناه على اللزوم لولا
الخيار.
ولا وجه للقول بلحوقها بها بعد لزومها بالتلف ونحوه خاصة، لا قبله، كما هو
ظاهر المصنف التفاتا إلى كونها جائزة قبل التلف وعدم الفائدة في الخيار حينئذ،
وذلك لعدم انحصار الفائدة في الرد، لإمكان إسقاطها والصلح عليها.
وبالجملة: لا يلحقها خصوص خيار المجلس والحيوان، لظهور دليلهما في
اختصاصهما بالبيع العقدي الذي مبناه على اللزوم لولا الخيار.
نعم، لو قلنا بثبوتهما لكل بيع لازم - سواء كان الالتزام من منشآت
المتعاقدين، أي كان عقديا أو حقيا من مجعولات الشارع - فيلحقان بها بعد ما
صارت بيعا لازما، ويلحقها خيار العيب والغبن والشرط، لعدم اختصاصها بالبيع
العقدي، فإن ثبوتها في البيع وشبهه من المهر وعوض الخلع إنما هو للشرط
الصريح، أو للشرط الضمني الذي يتضمنه كل معاوضة عرفا وعادة فإن بناء النوع
على عدم الالتزام بالمعيوب وبما لا يتغابن بمثله. ولا ينحصر دليل الخيار بقاعدة
(لا ضرر) حتى يقال باختصاصه بالبيع العقدي لكونه متيقنا، كيف؟ ولولا الشرط
الضمني لما أمكن إثبات الخيار بتلك القاعدة، لبناء المتعاملين على المعاملة كيف
ما كانت، وإقدامهما عليها مطلقا.
وبالجملة: فكل عقد أو معاملة لم يكن اللزوم فيها حكميا ولم تكن من قبيل
النكاح والضمان يلحقها خيار العيب والغبن والشرط.
نعم، الخيار في المعاطاة ليس بمعنى ملك فسخ الالتزام وإقراره، فإنها لم تكن

(1) حكاه الشهيد الثاني في المسالك: في الإقالة والقرض ج 1 ص 218 س 4 وما بعده.
225

متضمنة للالتزام المنشأ من المتعاملين، بل بمعنى حل ما أوجداه، وهذا المعنى
يمكن ثبوته للمتعاطيين من حين المعاطاة إلى ما بعد التلف.
وليس الجواز الثابت من أجل تخلف الشرط الصريح أو الضمني كالجواز
الحكمي حتى يمتنع عند التلف، ولا يكون قابلا للإسقاط والأرث، بل جواز حقي
لا يتوقف على بقاء العينين، فلو تلف عوض المعيوب جاز رد المعيوب، ولو تلف
المعيوب جاز أخذ الأرش.
وأما خيار الرؤية وخيار التأخير فبناء على عدم اعتبار التعاطي من الطرفين
يجريان فيها، سواء قلنا بأنهما من مصاديق تخلف الشرط الضمني أم قلنا بكونهما
خيارين مستقلين.
وأما على الإباحة - كما هي مبنى المسالك (1) - فتثبت لها الخيارات الثابتة في
كل معاملة، وكذا الخيارات اللاحقة لكل بيع بعد ما صارت بيعا.
وأما الخيارات المختصة بالبيع العقدي كخيار المجلس والحيوان على ما
استظهرناه من دليلهما فلا تثبت لها، خلافا للمسالك (2) فإنه التزم بثبوت خيار
الحيوان له. وإنما استشكل في مبدئه، واحتمل أن يكون حين المعاطاة، وأورد
عليه بأن المعاطاة على مبناه ليست بيعا قبل التلف فكيف يحتمل أن يكون مبدأ
خيار الحيوان من حين المعاطاة؟ ولكنه يمكن أن يوجه بأن البيع وإن تحقق حين
التلف إلا أن منشأه والسبب الموجد له هو المعاطاة، وكأن ما يؤول إلى البيع بمنزلة
البيع.
ولكن يرد عليه بأنه لا فرق بين خيار المجلس والحيوان، فإذا انتفى خيار
المجلس ينتفي خيار الحيوان أيضا ولو بعد تحقق اللزوم.
نعم، بناء على الفرق بينهما فوجه تقييده رحمه الله ثبوت خيار الحيوان بما لو كان
التالف الثمن أو بعضه ظاهر، فإن ثبوت خيار الحيوان وإن لم يتوقف على بقاء

(1) مسالك الأفهام: كتاب التجارة ج 1 ص 169 س 30 وما بعده.
(2) مسالك الأفهام: كتاب التجارة ج 1 ص 170 س 24 وما بعده.
226

الحيوان في غير مقامنا هذا إلا أنه يتوقف على بقائه في المقام حتى يثبت الخيار،
لأنه يشترط في تعلقه بالتالف أن يتعلق به قبل تلفه ولو آنا ما حتى لا يكون تلفه
موجبا لسقوطه فيرد مثله أو قيمته، فلو كان التالف الثمن فبعد تلفه تصير المعاطاة
بيعا فيتعلق به خيار الحيوان. وأما لو كان التالف نفس الحيوان فما لم يتلف لم يكن
خيار، لعدم صيرورتها بيعا. وإذا تلف تلف غير متعلق به الخيار فمن أين يثبت
المثل أو القيمة؟
وبالجملة: تعلق حق الخيار في المقام بالمثل أو القيمة يتوقف على تحقق
الخيار، وتحققه يتوقف على تعلقه بالمثل أو القيمة.
نعم، لو ثبت من الخارج ثبوت الخيار في المقام فلا بد من تقدير تعلقه آنا ما
بالحيوان حتى يثبت المثل أو القيمة، لأن شرط تعلق الحق بالبدل أن يتعلق
بالمبدل ولو آنا ما، فلو لم يكن هناك دليل خاص فعمومات أدلة الخيار لا تفيد
لإثبات التقدير آنا ما.
ولذا قيل (1): بامتناع تعلق حق الخيار بمن ينعتق على المشتري. وسيجئ
توضيحه في محله إن شاء الله تعالى.
قوله قدس سره: (الأمر الثامن: لا إشكال في تحقق المعاطاة... إلى آخره).
لا يخفى أن ظاهر عبارته قدس سره أن المقصود في هذا العنوان تحقق المعاطاة
بالقول الغير الجامع لشرائط اللزوم فقط: كخلوه عن القبض في باب الوقف والهبة
بذي رحم، ولكن بالتأمل في مجموع كلماته يظهر: أن المقصود أعم من فقد
شرائط اللزوم والصحة.
وبالجملة: مقصوده الجمع بين ما هو المسلم بينهم من أن المقبوض بالعقد
الفاسد لا يترتب عليه شئ من آثار الملكية، بل يحرم التصرف فيه، ويجب رده
فورا إلى مالكه، ويضمن العين ومنافعها المستوفاة وغير المستوفاة، وبين ما يظهر

(1) قاله العلامة في التذكرة: كتاب البيع، ج 1 ص 539 س 17.
227

من كلام غير واحد تبعا للمحقق والشهيد الثانيين (1) أنه لو أخلا بالشروط المعتبرة
في الصيغة وأوقعا البيع خاليا عنها يكون معاطاة لو علم التراضي منهما.
ثم إن قوله قدس سره: أما إذا حصل بالقول الغير الجامع لشرائط اللزوم... إلى آخره.
ليس المقصود منه خلو القول عن شرائط اللزوم عند كل أحد حتى يكون قوله: فإن
قلنا بعدم اشتراط اللزوم بشئ زائد على الإنشاء اللفظي خلفا كما أورده عليه
المحقق الخراساني (2) قدس سره بل مقصوده خلوه عن شرائط اللزوم عند المشهور،
فالترديد لا يكون خلفا.
ثم إن ما ذكره هذا المحشي قدس سره في وجه الجمع من أن الحكم بضمان المقبوض
بالعقد الفاسد اقتضائي بمعنى أن قضية فساده إنما هو لكونه عقدا (3) فلا ينافي
صحته بما هو معاطاة لا يخفى ما فيه، فإن هذا العنوان الطارئ دائما موجود في
المقبوض، بالعقد الفاسد، سيما إذا قلنا بأن العقد الفاسد حكمه حكم المعاطاة ولو
لم يتحقق معه قبض أصلا، فترتيب الأعلام هذه الآثار عليه لا يبقى له موضوع.
إذا عرفت ذلك فنقول: تارة يتحقق قبض العينين بعد القول الفاسد، وأخرى لا
يتحقق، فلو لم يتحقق فهذا خارج عن المعاطاة المصطلحة، ولا بد من إخراجه من
موضوع بحث الشهيد والمحقق الثانيين ومن تبعهما.
والقول (4) بأن الانشاء القولي الغير الجامع لشرائط الصحة يرجع إلى حكم
المعاطاة مطلقا، لا وجه له.
ولو تحقق قبض العينين فتارة بناؤهما على الإغماض عن القول السابق
وإنشاؤهما التمليك أو التسليط بالفعل فهذا داخل في المعاطاة موضوعا، وليس

(1) المحقق الثاني في الرسائل: رسالة في صيغ العقود، ج 1 ص 178 والشهيد الثاني في
المسالك: في عقد البيع وشروطه، ج 1 ص 169 س 31 وما بعده.
(2) حاشية المكاسب للمحقق الخراساني: ص 25.
(3) حاشية المكاسب للمحقق الخراساني: ص 26.
(4) استظهره الشيخ الأنصاري قدس سره من كلام غير واحد من مشايخه المعاصرين، لاحظ
المكاسب: كتاب البيع، ص 92، س 17 وما بعده.
228

هذه الصورة محط كلام المحققين ومن تبعهما، لأن مجرد وقوع المعاطاة بعد العقد
الفاسد لا يوجب الشك في دخولها في عنوان المعاطاة.
وأخرى: ليس بناؤهما على الإغماض، وهذا على قسمين، لأنهما قد يقبضان
وفاء بما التزما به على البيع الفاسد بحيث لم يعلم منهما رضا بالتصرف إلا الرضا
المعاملي الذي كان في ضمن الإنشاء الفاسد ومقيدا به، وهذا أيضا خارج عن
موضوع البحث، لأن هذا هو المقبوض بالعقد الفاسد الذي هو موجب للضمان
ويترتب عليه آثار خاصة. وقد يقبضان لا بما أن القبض وفاء، بل رضا جديد
حاصل لهما على أي حال، وهذا هو موضوع كلامهما وكلام من تبعهما.
ثم الرضا كذلك تارة تحقيقي، كما لو علما بفساد الصيغة، ومع ذلك رضيا
بالتصرف.
وأخرى تقديري، كما لو جهلا به ولكن استكشف من حالهما أنهما لو علما
بفسادها لرضيا بالتصرف أيضا كالرضا المستفاد من شاهد الحال في غير المقام،
فمرجع كلامهما إلى أنه يكفي الرضا والطيب الذي يجوز معه التصرفات الغير
المتوقفة على الملك للتصرفات المتوقفة عليه وسائر الآثار المترتبة على المعاطاة
من اللزوم بالملزمات.
ولا يخفى أن إدخال هذا في المعاطاة يتوقف على أمرين:
الأول: كفاية الرضا الشأني حتى يشمل كلامهما صورة الجهل بالفساد.
الثاني: عدم اعتبار إنشاء عنوان العقود قولا ولا فعلا، بل كفاية مجرد وصول
كل من العوضين إلى المالك الآخر، وهذا مما لا يمكن الالتزام به، سواء قلنا بالملك
أو الإباحة، لأن مجرد الرضا - سواء كان فعليا أو تقديريا وتحقق قبض بعده أو
قبله - لا أثر له في باب العقود والإيقاعات، فإن القبض الواقع بعد العقد الفاسد إذا
لم ينشأ به التمليك ولا التسليط - كما هو المفروض وجوده: كالعدم والرضا
بالتصرف أيضا - لا أثر له إلا جواز التصرفات الغير المتوقفة على الملك.
وأما حصول الملك بمجرد الرضا أو الأول إليه - أي تعين المسمى للبدلية
229

بطرو أحد الملزمات - فلم يقم دليل على حصوله بمجرد الرضا، لأن عناوين
العقود إيجادية ولا بد من حصولها بإنشائها قولا أو فعلا، ولا عموم في طرف
المستثنى في قوله عليه السلام: (إلا بطيب نفسه) (1)، لأن عموم المستثنى منه لا يقتضي
عموم المستثنى.
هذا، مع أنه ولو قلنا بإباحة جميع التصرفات حتى المتوقفة على الملك
بمجرد الرضا الباطني إلا أنه كيف يتحقق الركن الآخر وهو الضمان بالمسمى
وانتقال التالف إلى ملك من تلف في يده؟ فإنه يتوقف على إنشاء لا محالة إما
بقوله: أعتق عبدك عني وعلي عشرة، وإما بإعطائه الناشئ عن قصد التمليك أو
التسليط، وكفاية وصول كل واحد من العوضين إلى المالك الآخر - كما في مسألة
كوز الحمامي والسقاء ونحوهما وإن لم ينشأ إباحة أو تمليكا - ممنوعة.
أما أولا: فلعدم كون أمر الحمام والسقاء من باب المعاطاة.
وأما ثانيا: فلأن قيام السيرة على تحققها بالإنشاء من طرف واحد غير
موجب لتحققها ولو لم يكن هناك إنشاء أصلا كما في المقام.
تذنيبان
الأول: في حكم النماء والمنافع على القول بالملك قبل الرجوع وبعده، وبيانه
يتوقف على رسم أمور:
الأول: أن النماء: عبارة عن الأعيان المستخرجة من المال، أي: ما يمكن
الإشارة الحسية إليه، لوجود ما بحذاء له في الخارج، سواء كان قابلا للانفصال
كاللبن والثمرة والنتاج والصوف ونحو ذلك، أو لم يكن كالسمن ونمو الأشجار.
والمنافع: ما لا يكون بحذائه شئ في الخارج كسكنى الدار، وركوب الدابة.
وقد يطلق كل منهما على الآخر.
الثاني: أن حكمهما في الرد بالخيار مختلف، سواء كان الخيار أصليا كخيار
المجلس والحيوان والشرط ونحو ذلك، أو عرضيا كخيار التفليس.

(1) مر تخريجه في الصفحة: 158.
230

فذهب المشهور إلى أن النماء المنفصل والمنافع - مستوفاة كانت أو تالفة -
ملك لمن انتقل إليه المال، فلا ترد برد العين، والنماء، المتصل تابع للعين.
واختلفوا في مثل الصوف أو الشعر المتصل الذي يقبل الانفصال في أن حكمه
حكم السمن، أو حكم المنفصل، والحق أنه قبل انفصاله أو جزه يتبع العين وإن بلغ
أوان جنائه أو زمان جزه.
الثالث: أن مدرك الحكم في باب الرد بالخيار هو قوله صلى الله عليه وآله: (الخراج
بالضمان) (1).
والمصنف (2) وبعض من تبعه (3) وإن ناقشوا في سنده إلا أن المستفاد من كلام
شيخ الطائفة (4) وجماعة (5) أنه من النبويات المتلقاة بالقبول عند الفريقين، فهو
نظير: (على اليد ما أخذت) (6)، بل معناه في الجملة من الارتكازيات، وهذه
القاعدة هي مدرك فتوى أبي حنيفة (7) في قضية البغلة في الحكم بأن منافع
المغصوب للغاصب، لأن ضمانه عليه، فالمناقشة في سنده لا وجه لها، إنما الكلام
في دلالته، وقد استظهر منه أبو حنيفة أن المراد من الضمان: فيه هو الضمان بمعنى:
اسم المصدر، فيشتمل الضمان الثابت بمقتضى قاعدة اليد. فتوهم أن كل من كان
ضامنا لشئ فخراجه - أي ما يستفاد منه - منفعة كان أو نماء له. وقد قال
الإمام عليه السلام في رده: (في مثل هذا القضاء وشبهه، تحبس السماء ماءها، وتمنع

(1) تقدم تخريجه في الصفحة: 142.
(2) المكاسب: كتاب البيع، ص 104، س 26.
(3) كالآخوند في حاشيته على المكاسب: ص 34.
(4) كما في المبسوط: كتاب البيع، ج 2، ص 126، والخلاف: كتاب البيوع، المسألة 174 ج 3،
ص 107.
(5) كابن حمزة في الوسيلة: في بيان البيع الفاسد، ص 255 والسيد بحر العلوم في بلغة الفقيه:
في تلف المبيع قبل القبض، ج 1 ص 177.
(6) مر تخريجه في الصفحة: 64.
(7) الكافي: ج 5 ص 290 - 291 ح 6، عنه الوسائل: ج 13 ص 255. مع اختلاف يسير ب 17 من أبواب الإجارة ح 1.
231

الأرض بركاتها) (1).
هذا، مع أن من مناسبة الحكم والموضوع يستفاد أن كل من تعهد مالا وجعل
ضمانه في عهدته فخراجه له، لأن العاقل لا يتعهد مالا إلا لأن يملك نماءه ومنافعه
ويصرفهما في حوائجه، وهذا يختص بالضمان الجعلي الأصلي الفعلي الذي أمضاه
الشارع، فيخرج منه الضمان القهري كباب الغصب، والضمان التبعي كضمان البائع
للمبيع والمشتري للثمن قبل القبض، لأن ما تعهده البائع أصالة هو ضمان الثمن
الذي انتقل إليه. ومعنى ضمانه له أن دركه عليه بحيث أنه لو تلف ثم طرأ على
المعاوضة فسخ أو انفساخ يجب عليه رد مثله أو قيمته.
وهكذا في طرف المشتري فإن ما تضمنه أصالة هو المثمن، وضمان كل منهما
لما انتقل عنه إنما هو لشرط التسليم الذي يتضمنه كل عقد، فمناسبة الحكم مع
موضوعه تقتضي خروج الضمان التبعي، لأن هذا الضمان على عكس ما اقتضاه
المعاوضة، فإن البائع أقدم على المعاوضة لأن يملك منافع الثمن، وحيث إن هذا
الأقدام يقتضي تسليم المبيع فلا يمكن أن تكون منافعه للبائع.
ويخرج عنه - أيضا - الضمان التقديري كالضمان في باب أعتق عبدك عني،
والضمان في باب السبق والرماية قبل وصول السابق والرشق، فإن منافع العبد
والسبق والعوض ليس للآمر والسابق والرامي، لعدم كونها فعلا ملكا للضامن، مع
أن المضمون غالبا خارج عن تحت تصرف الضامن فلا معنى لأن تكون منافعه له،
ويخرج عنه المقبوض بالعقد الفاسد، لعدم كون الضمان الجعلي ممضيا شرعا،
فوجوده كالعدم.
إذا ظهر معنى الحديث إجمالا فنقول: لو لم يرجع أحد المتعاطيين فنماء كل
عين أو منافعها لمن بيده، سواء قلنا بالملك أو الإباحة.
أما على الملك فواضح.

(1) الكافي: ج 5 ص 290 - 291 ح 6، عنه الوسائل: ج 13 ص 255، ب 17 من أبواب
الإجارة ح 1. مع اختلاف يسير.
232

وأما على الإباحة فظاهر استبعاد الشيخ الكبير (1) قدس سره بأنه كيف يكون النماء
للأخذ دون العين إن حدث والنماء في ملك المباح له مفروغ عنه؟ بل لا إشكال
في أن السيرة عليه أيضا، فإنه لم يعهد من أحد مطالبته النماء.
وعلى أي حال قوله صلى الله عليه وآله: (الخراج بالضمان) (2) يشمل كل ضمان معاوضي،
سواء كان بالتضمين الملكي أو الإباحي، لأن كل مورد جعل ضمان مال بإزاء
عوض بضمان أصلي فعلي مع كونه ممضيا من الشارع فالخراج مسبب عن هذا
الجعل. وأما لو رجع أحدهما فحكم الرجوع في المقام حكم الرجوع في باب
الخيار في أن النماء المتصل يتبع العين دون المنفصل والمنافع المستوفاة قبل
الرجوع، فإنهما لمن كان العين بيده، ولا وجه لاسترجاعهما منه ولو على القول
بالإباحة.
وبالجملة: يشمل القاعدة المعاطاة على كلا المسلكين وإن تقدم عن المصنف
القول بعدم انتقال النماء إلى الآخذ نقلا عن بعض القائلين بالإباحة، فراجع (3).
الثاني: يظهر من المحقق الثاني (4) - على ما حكي عنه - الفرق بين المعاطاة
في البيع والقرض، فقال بحصول الملك في الأول كما هو مختاره فيها، والإباحة في
الثاني، ثم رتب عليها أن نماء المبيع للمشتري دون نماء العين في باب القرض فإنه
للمقرض لا للمقترض، ولا يخفى ما فيه:
أولا: من أنه لا فرق بينهما، فإن المعاطاة لو كانت مفيدة للملكية فلا فرق بين
القرض والبيع.
وثانيا: لا فرق بين الإباحة والملك في مسألة النماء، لما عرفت أن قاعدة
الخراج بالضمان تشمل البابين، هذا مع أن السيرة قائمة في باب القرض أيضا فإنه
لم يعهد مطالبة نماء العين من المقترض مطلقا.

(1) شرح القواعد لكاشف الغطاء (مخطوط): الورقة 50.
(2) تقدم تخريجه في الصفحة: 142.
(3) راجع ما تقدم في الصفحة: 142.
(4) كما في رسائله: ج 1 ص 187.
233

قوله قدس سره: (مقدمة في خصوص ألفاظ عقد البيع... إلى آخره).
توضيح ما أفاده قدس سره في هذا العنوان وما يرد عليه يتم برسم أمور:
الأول: قد عرفت في بحث المعاطاة: أن عدم إفادتها اللزوم على مسلكين:
أحدهما: عدم كون الفعل مطلقا مصداقا لعناوين العقود، فيكون قاصرا عن
إفادة التمليك فضلا عن اللزوم، ولذا قيل بإفادتها الإباحة.
وثانيهما: الاجماع على اعتبار اللفظ في اللزوم مع صدق عنوان العقد على
الفعل، وإفادته الإلزام والالتزام مثل القول، فلو قلنا بالأول فما شك في اعتباره:
فيه فالأصل اعتباره لأصالة الفساد، لأنه لو منعنا عن صدق العقد وعنوان أبواب
المعاملات عليه فلا دليل على صحته إلا ما قامت السيرة عليه، فلو شك في كونه
موردا للسيرة فأصالة عدم ترتب الأثر عليه هي المرجع، ولو قلنا بالثاني فالأصل
عدم اعتباره، لصدق عنوان العقد.
وعلى هذا فلا وجه لما أفاده المصنف من أن الأصل يقتضي كفاية إشارة
الأخرس في مورد العجز عن التوكيل، لا في مورد القدرة عليه (1)، لأنه قدس سره اعتبر
اللفظ في اللزوم من جهة الاجماع، لا من جهة عدم صدق البيع على الفعل، فإذا
سلم صدق العنوان فالأصل يقتضي عدم الاشتراط بالعجز.
وبعبارة أخرى: أصالة الفساد إنما تجري في مقابل الشك في أصل الصحة
والفساد، لا بعد إحراز الصحة والشك في اللزوم وعدمه.
وكيف كان، فسواء قلنا: بأن الفعل ليس مصداقا لعنوان العقود أو قلنا بأنه
مصداق - ولكنما الاجماع قام على اعتبار اللفظ في اللزوم - فالإشارة من
الأخرس تقوم مقام اللفظ وإن لم يقم معاطاته، أي أخذه وإعطاؤه مقام اللفظ كما
سيظهر وجهه، وذلك لأن إشارة الأخرس وإن كانت فعلا من أفعاله إلا أن قصور
الفعل عن كونه إيجادا لعنوان العقد إنما هو في غير إشارته، فإن إشارته لا تقصر
عن قول غيره، لا سيما من يفهم مقاصده الكلية والأمور الغير المحسوسة

(1) المكاسب: كتاب البيع ص 93 س 24.
234

بالإشارة. هذا بناء على الأول.
وأما بناء على أن اللزوم يتوقف على اللفظ إجماعا فالاجماع إنما قام في
مورد القدرة على التكلم، وأما مع العجز عنه فلم يقم اجماع.
ثم هل تقوم إشارته مقام اللفظ مطلقا، أو مع العجز عن التوكيل؟ وجهان،
والأقوى هو الأول.
أما بناء على صدق عنوان العقد على إشارته فواضح، لأن الأصل عدم
اشتراطه.
وأما بناء على عدم الصدق فلإطلاق الأخبار في باب الطلاق (1) المستفاد منها
بالفحوى حكم عقده وإيقاعه في سائر الأبواب، وحملها على صورة العجز عن
التوكيل حمل على الفرد النادر.
هذا، مع أنه لو كانت إشارته كافية في التوكيل لكانت كافية في أصل طلاقه.
ولا يقال: إن العقود الإذنية يكفي فيها كل ما يدل على الإذن والرضا بخلاف
غيرها.
لأنا نقول: وإن كان الإذن المطلق يكفي فيه كل ما يدل عليه إلا أن الإذن في
التصرف بعنوان الوكالة لا بد في تحققه من إشارة خاصة، فإذا كانت إشارته مفيدة
لعقد الوكالة فهي مفيدة لغيره من العقود والإيقاعات أيضا.
الثاني: أن محل البحث في إشارة الأخرس إنما هو فيما إذا كانت المعاملة
منشأة بإشارته بحيث كان القبض والإقباض وفاء بها، لا ما إذا كان الإنشاء بهما،
فإن معاطاته لا خصوصية فيها.
فما أفاده المصنف قدس سره في قوله: ثم لو قلنا: بأن الأصل في المعاطاة اللزوم
فالقدر المخرج صورة قدرة المتبايعين على مباشرة اللفظ (2). لا يستقيم، لأن جهة

(1) الكافي: ج 6 ص 128، باب طلاق الأخرس، عنه وسائل الشيعة: ج 15 ص 299 أحاديث
الباب ب 19 من أبواب مقدمات الطلاق.
(2) المكاسب: كتاب البيع ص 93 س 27.
235

البحث ليست في معاطاة الأخرس حتى يبحث أنها لازمة أو جائزة، لعدم انعقاد
الاجماع هاهنا.
نعم، لو أراد من لفظ المعاطاة مطلق الفعل لا خصوص القبض والإقباض
لاستقام ما أفاده.
الثالث: فيما يتحقق به الإشارة وأنه هل تعتبر كيفية خاصة من تحريك
اللسان أو الأصبع أو غيرهما، أو لا تعتبر؟ الأقوى هو الثاني، لأنه لا دليل على
اعتبارها بعد كون مطلق أفعاله مفهما لمراده، وبعد صدق عنوان العقد أو الإيقاع
على مطلق إشاراته واختلاف الأخبار في باب الطلاق (1) من إلقاء القناع أو
الإشارة بالأصبع ناظر إلى هذا المعنى، لأن كلا منهما من أنحاء إفهام المراد، ومن
مصاديق العناوين، وليس لنوع الأخرس كيفية واحدة نوعية حتى لا يتجاوز عنها.
الرابع: هل الإشارة مقدمة على الكتابة، أو العكس متعين، أو كل منهما في
عرض الأخرى؟
في بعض أخبار (2) الطلاق ما يدل على تقدم الكتابة، وبه أفتى الحلي (3) قدس سره
هناك.
ولا يخفى أنه لو قلنا به هناك للتعبد لا يمكن التعدي منه إلى كل باب، لأن
الكتابة ليست مصداقا في العرف والعادة لعنوان عقد أو إيقاع، فليست آلة لإيجاد
عنوان بها، ولذا انعقد الاجماع على عدم تأثيرها في غير الوصية وإن كان الحق
أنه لا ينشأ بها الوصية أيضا. نعم، هي معتبرة عند العرف من حيث الكاشفية،
وتصير مدركا وسندا لإثبات البيع والدين والوصية ونحو ذلك.
وبالجملة: إذا لم يكن الفعل مصداقا لعنوان عقدي أو إيقاعي فقصد إيجاد هذا
العنوان لا يؤثر أثرا، لأنه إذا لم يكن مصداقا فليس هناك إلا القصد المجرد، وهذا
لا أثر له في العناوين الإيجادية والموجدات الاعتبارية التي هي منشأ الآثار

(1) تقدم تخريجه في الصفحة: 235.
(2) الكافي: ج 6 ص 128 ح 1.
(3) السرائر: ج 2 ص 678.
236

الشرعية والعرفية.
الخامس: هل الحكم مختص بالأخرس الذي نشأ خرسه من صممه أو يشمل
كل من لا يتكلم ولو لعذر من نذر أو إكراه أو أخص من ذلك وأعم من الأول،
فيشمل كل من كان عاجزا خارجا، سواء كان لصممه، أو لاعتقال في لسانه، أو
لمرض مرجو الزوال؟ وجوه، الأقوى هو الأول، فإنه الذي يصدق عليه الأخرس
يقينا، ثم الأخير. وأما الخرس لعذر فلا تشمله الأدلة قطعا، بل ليس هو خرسا.
وبالجملة: وإن قلنا بعموم الأخرس لكل من كان عاجزا عن النطق وإن لم
يكن منشأ خرسه الصمم كما لا يبعد دعواه - ولا وجه للأخذ بالقدر المتيقن، لعدم
إجمال في اللفظ - إلا أن شموله لمن نذر ترك التكلم ونحوه ممنوع جدا، وعلى
هذا فلو صدق عنوان العقد والإيقاع على إشارة كل عاجز فهو وإلا فمن فحوى
باب الطلاق نتعدى إلى غيره، ونحكم بلزومه بإشارته كما نحكم بجواز معاطاته
التي هي في حكم معاطاة غيره.
وعلى أي حال، كتابته ليست داخلة في إشارته، ولا هي معاطاة منه.
قوله قدس سره: (ثم الكلام في الخصوصيات المعتبرة في اللفظ تارة يقع في مواد
الألفاظ... إلى آخره).
توضيح البحث في هذا العنوان يتم بتمهيد مقدمات:
الأولى: أنه لو شك في صدق عنوان من عناوين العقود والإيقاعات على
لفظ صادر من الموجب والقابل أو الموقع فأصالة الفساد تقتضي عدم صحته. وأما
مع صدق العنوان عليه عرفا فمقتضى الإطلاقات والعمومات عدم اعتبار ما شك
في شرطيته في مادة العقود والإيقاعات أو هيئتهما. فإن قوله عز من قائل:
(أحل الله البيع) (1) - مثلا - وإن كان ناظرا إلى المسببات بالمعنى الذي بيناه
- وهو الموجد بالآلة - إلا أن إمضاء اسم المصدر إمضاء للمصدر فيقتضي
حلية جميع ما كان آلة عرفا لإيجاد البيع، سواء كان بمادة البيع أو بغيرها من

(1) البقرة: 275.
237

المواد، وسواء كانت الهيئة التي توجد بها المادة ماضوية أو غيرها، وسواء أنشأ
هذا العنوان بألفاظ صريحة أو بغيرها، وباللغة العربية أو غيرها، كان الإيجاب
والقبول متواليين أو لا.
نعم، لو منع من صدق البيع عرفا على ما إذا أنشأ بغير لفظ الماضي أو بما إذا لم
يكن بين الإيجاب والقبول موالاة، أو بما أنشأ بالكناية ونحوها، أو ادعي
الانصراف عنها فلا يفيد الاطلاق.
ثم إنه كما يصح التمسك بالإطلاق فيما إذا كان الشك في ناحية الأسباب
كذلك يصح التمسك به فيما إذا كان الشك في ناحية المسببات، فلو لم يكن مسبب
متعارفا في زمان الشارع وصار متعارفا بعده كالأمر بإلقاء المتاع في البحر وتعهد
الأمر الضمان ونحو ذلك من استيفاء مال أو عمل بأمر معاملي لجاز التمسك
لصحته بعموم (أوفوا بالعقود) (1)، ولا وجه لدعوى اختصاصه بالعقود المتعارفة
والمعاملات المتداولة إلا إرادة العهد من اللام، وهو خلاف ظاهر اللام في كل
مقام، لا سيما في مثل هذه الأحكام.
نعم، هنا إشكال في صحة التمسك بعموم (أوفوا) فيما إذا كان الشك راجعا
إلى الشك في الصحة والفساد.
وتقريبه: أن العموم في هذه الآية الشريفة وارد مورد حكم آخر، لأنه في
مقام بيان لزوم ما هو صحيح، وليس في مقام بيان أصل الصحة، فلا بد أن تكون
الصحة مفروغا عنها حتى يجب الالتزام بما أنشأه المتعاقدان. ولكن التمسك
بعموم (تجارة عن تراض) (2) لا إشكال فيه.
وبالجملة: إذا لم يكن سبب متعارفا في زمان الشارع كبعض اللغات
المستحدثة وصار إيجاد المسببات متعارفا بها وصدق عليها عنوان المعاملة، أو
إذا لم يكن مسبب متعارفا في زمانه وصار متعارفا في عصر فيتمسك بإطلاق أدلة
العناوين لصحتهما. ولا وجه لدعوى الاختصاص ولا الانصراف.

(1) المائدة: 1.
(2) النساء: 29.
238

الثانية: لا شبهة في الفرق بين الحكايات والإيجاديات، فإن الحكايات لا
يتعلق غرض بها إلا إظهار ما في الضمير وإلقاء المقصود إلى المخاطب، فكل لفظ
لم يكن خارجا عن أسلوب المحاورة يصح إظهار ما في الضمير به، سواء كان
الاستعمال حقيقة أم مجازا، صريحا أم كناية، كانت قرينة المجاز حالية أو مقالية،
كان المجاز بعيدا أو قريبا، وهذا بخلاف الإيجاديات فإنها لا توجد إلا بما هو آلة
لإيجادها ومصداقا لعنوانها، فلو لم يكن شئ مصداقا لعنوان وآلة لإيجاده، بل
كان للازمه أو ملازمه لم يوجد الملزوم أو الملازم الآخر به وإن كان الغرض من
ايجاد اللازم أو الملازم إيجاد الملزوم أو الملازم الآخر بحيث كان هو المقصود
الأصلي، إذ لا عبرة بالدواعي والأغراض في الإيجادات، فلو قصد البيع وأتي
بغير ما هو مصداقه فلا أثر له، ولذا لا يرتبون الآثار على الشروط البنائية التي لم
تذكر في متن العقد.
ثم إن الإيجاد المعتبر في العقود غير الإيجاد الحاصل في سائر الإنشائيات
وغير الإيجاد الحاصل في معاني الحروف، فإن الهيئة في سائر الإنشائيات
وضعت لإلقاء الحدث على الفاعل، وإيجاد النسبة بين الفاعل والفعل وبإيجاد
النسبة إذا كان المتكلم في مقام البعث والتشريع يتحقق مصداق للأمر، وإذا كان في
مقام السؤال يتحقق مصداق للاستفهام، وإذا كان في مقام إظهار المحبة في وقوع
النسبة يتحقق التمني والترجي ونحو ذلك.
وأما الهيئة في باب العقود فمضافا إلى أن بها تتحقق النسبة توجد المادة بها
أيضا إذا كان المتكلم في مقام الإنشاء، فإنه بقوله: (بعت) يوجد البيع. وأما
الإيجاديات في باب الحروف فقوامها بأمور أربعة:
الأول: كون معنى الحروف إيجاديا لا إخطاريا.
الثاني: كونه قائما بغيره.
الثالث: عدم التقرر له في غير وعاء الاستعمال.
الرابع: كون المعنى حين إيجاده مغفولا عنه.
239

وأما الإيجادي في باب العقود - كالملكية مثلا - فهو أمر متقرر في حد نفسه،
وله وعاء غير وعاء الاستعمال، فإنه موجود في عالم الاعتبار، وليس بمغفول عنه،
وتمام الكلام موكول إلى بحث الحروف (1).
الثالثة: لا شبهة في أن البيع بل كل عنوان من عناوين العقود والإيقاعات
عنوان بسيط ليس مركبا من الجنس والفصل، فإذا كان بسيطا فلا يمكن إيجاد هذا
المعنى تدريجا، بل إما أن يتحقق آنا، أو لا يتحقق أصلا، بل المركب من الجنس
والفصل أيضا لا يمكن أن يوجد تدريجا، فإن تحصل الجنس إنما هو بالفصل،
وتحقق الهيولي إنما هو بالصورة فلا يعقل أن يوجد المادة أولا ثم الصورة، فإذا
كان هذا حال المركب الخارجي فكيف بما هو بسيط وما به امتيازه عين ما به
اشتراكه؟ فإن السواد الشديد بعين ما هو لون يكون سوادا، وبعين ما هو سواد
يكون شديدا، وهكذا التمليك البيعي والقرضي ونحوهما من الهبة والإجارة يكون
التمليك في كل منها بعين كونه بيعا أو قرضا أو نحوهما، أي لا يكون التمليك في
البيع جنسا وبيعيته فصلا، بل هو بيع بعين كونه تمليكا، بل لا شبهة أن التمليك ليس
شيئا والبيع شيئا آخر، وإن قلنا بأن كل واحد من هذه الأمور الأربعة مباين في
السنخ مع الآخر.
مضافا إلى أن التمليك في جميع هذه الأمور أمر واحد، وإنما الاختلاف بينها
كالاختلاف بين أفراد البيع.
وعلى أي حال، المعنى المنشأ بلفظ (بعت) أمر بسيط ليس مركبا من الجنس
والفصل، ولا يمكن أن يوجد تدريجا كتدريجية الباء والعين والتاء.
إذا عرفت ذلك فيقع البحث تارة في صحة إنشاء العناوين بالكنايات، وأخرى
بالمجازات، وثالثة بالمشترك اللفظي، ورابعة بالمشترك المعنوي.
أما صحته بالكناية فلو قيل: إنها قسم من المجاز - كما عرفها بعضهم: (2) من

(1) لاحظ فوائد الأصول: ج 1 ص 44 - 46.
(2) كالتفتازاني في المطول: ص 407.
240

أنها ذكر اللازم وإرادة الملزوم - فحكمها حكمه. ولو قيل (1): إنها قسيم للمجاز
- كما هو الحق - فإن قوله: زيد طويل النجاد استعمل في نفس معناه الحقيقي وألقي
معنى اللفظ إلى المخاطب لينتقل منه إلى ملزومه وهو طول القامة، وهكذا في
أمثال ذلك من قوله: زيد كثير الرماد، أو مهزول الفصيل، فإن الانتقال إلى الجود
من دواعي استعمال هذه الألفاظ في معانيها الموضوعة لها، لا أنها استعملت في
الجود، فالأقوى عدم صحة إنشاء العنوان بها، فإن إنشاء اللازم وإيجاده في
الإنشاء القولي ليس إيجادا للملزوم عرفا، وكون الملزوم مقصودا وداعيا من
إيجاد اللازم لا أثر له. بعد ما عرفت في المقدمة الثانية أن الأغراض والدواعي لا
أثر لها في باب العقود والإيقاعات فلو قال كناية عن البيع: (ترى خيره) أو في
مقام النكاح: (ألف الله بين قلبيكما) وأمثال ذلك فلا أثر له.
وبالجملة: ما لم ينشأ عنوان العقد بما هو آلة لإيجاده عرفا فلا أثر له، ولا يرى
العرف آلة إيجاد اللازم آلة لإيجاد الملزوم.
ثم لو قيل: بأن الملزوم وإن لم ينشأ أصالة إلا أنه منشأ تبعا وفي المرتبة
الثانية من الإيجاد، ولا وجه للاقتصار على المنشأ الأول بعد إطلاق أدلة العناوين
فيقال: الإيجاد بهذا النحو في كمال الضعف من الوجود فينصرف الاطلاق عنه، ولا
يشمله العمومات أيضا، لخروجه عن الأسباب المتعارفة، ومع الشك في دخوله
تحت العموم والاطلاق فالأصل عدم ترتب الأثر عليه (2).
وأما صحته بالمجاز فإن كان مجازا مشهورا فالأقوى كفايته دون ما لم يكن
كذلك، وذلك لأن الشهرة توجب أن لا يحمل اللفظ على معناه الحقيقي أو المجازي
إلا بانضمام قرينة معينة لأحدهما، فعدم حمله على معناه الحقيقي بمجرد التلفظ

(1) حكاه التفتازاني عن السكالي كما في المطول: ص 408.
(2) وفيه: أن الفرق بين القول والفعل لا وجه له، وتقدم أنه لو قصد البيع بما هو مصداق للازمه
كالتسليط فلا مانع من إنشاء البيع به نعم، لا يبعد اعتبار ألفاظ خاصة في بعض العقود
كالنكاح. (منه عفي عنه).
241

يجدي في وقوعه به، ولا يلزم إيجاد عنوان البسيط تدريجا، وهذا بخلاف المجاز
الغير المشهور فإنه يحتاج إلى قرينة صارفة أيضا، فحاله أردأ من الكناية، لأن
ما يوجد به بحسب الدلالة التصورية هو معناه الحقيقي، وبحسب الدلالة التصديقية
معناه المجازي فيتناقضان وليس باب الإيجاد كباب الحكاية كما عرفت.
ولذا قال المشهور: بأن (بعتك بلا ثمن) و (آجرتك بلا أجرة) لا يفيدان فائدة
الهبة الصحيحة والعارية كذلك، وليس ذلك - مع أن القرينة الصارفة مقرونة باللفظ -
إلا لأن ما أوجد أولا بلا مجئ القرينة كان معاندا لما أوجد ثانيا، ولا يمكن
إرجاع ما أوجد عما هو عليه في الإيجاديات وإن أمكن في الحكايات.
نعم، لو قيل: بأن في باب المجاز لا ينشأ بالقرينة شئ حتى يكون بين القرينة
وذي القرينة تناقض، بل عنوان العقد ينشأ بنفس ذي القرينة، والقرينة كاشفة عن
المعنى المقصود من ذي القرينة - ولذا التزمنا بصحة إنشاء العناوين بالمجاز
المشهور - لصح إنشاؤها بالمجاز الغير المشهور أيضا، سواء كانت قرينته حالية أو
مقامية، إلا أن يمنع كون المجاز الغير المشهور آلة لايجاد العنوان الذي قصد
إيجاده به عرفا، فإن مجرد قصد العنوان من اللفظ مع عدم كون اللفظ آلة لإيجاده
لا أثر له، فإنه في حكم القصد المجرد.
ولذا قلنا في أول المعاطاة بالفرق بين الفعل واللفظ، وأن الفعل لو قصد به
التمليك يقع به وإن كان مصداقا للتسليط، وهذا بخلاف قوله: سلطتك، وذلك لأن
التسليط الخارجي لو قصد منه البيع يصير مصداقا لهذا العنوان، لقيام السيرة عليه
دون التسليط اللفظي (1).
وأما صحته بالمشترك اللفظي: فلو كان هناك لفظ مشترك لفظا بين عنوان
عقدين أو عقود كاشتراك لفظ الشراء بين البيع والاشتراء فلا مانع عن إنشائه به،
لأنه لا يوجب تعين معناه بالقرينة المعينة أن يوجد العنوان بالقرينة حتى يلزم
تدريجية المعنى البسيط، بل العنوان ينشأ بنفس اللفظ، والقرينة كاشفة عن وقوع

(1) قد تقدم أنه لا فرق بينهما، وأن التسليط القولي لا يقصر عنه التسليط الخارجي (منه عفي عنه).
242

اللفظ في مقام إنشاء هذا العنوان الخاص، إلا أن يقال: إن القرينة متمم المراد،
والمعنى يستفاد من مجموع القرينة وذيها كاستفادة موضوع الحكم في العام
المخصص من مجموع العالم العادل (1).
وأما صحته بالمشترك المعنوي: فلو كان مشتركا بين العقود التمليكية
ك‍ (ملكت) صح إنشاؤها به، ويتعين كل واحد من العناوين المقصودة بالقرينة
المكتنفة به، ولا يلزم إشكال إيجاد الأمر البسيط تدريجا، لأنه لو فرض أن البيع
والقرض والهبة والإجارة مفيدة للتمليك والتمليك الحاصل بكل منها حاصل بعين
ذلك العنوان لا بغيره فلا يلزم التدريجية، فإن البيع بما هو بيع تمليك وهكذا الهبة
بما أنها هبة تمليك، والخصوصيات الخارجية ككون البيع بعوض معين والهبة بلا
عوض كالخصوصيات اللاحقة لأفراد البيع، فكما أن هذه الخصوصيات لا توجب
اختلافا في حقيقة البيع ولا تضر ببساطته - فإن معنى بساطته بساطة أصل
الحقيقة، لا مع الشروط المذكورة فيه، ولا مع بيان عوضه ومعوضه ونقده ونسيئته -
فكذلك تلك الخصوصيات.
ولو كان مشتركا بين العقود التمليكية وغيرها من النقل الخارجي كلفظ
(نقلت) فلا يصح إنشاء التمليك العقدي به، لأن ما به امتياز النقل الخارجي عن
النقل الاعتباري ليس بعين ما به اشتراكهما، فلا يمكن إنشاء تمام معنى البسيط به،
بل ينشأ الجنس العالي أولا، ثم يميز بالفصل، فيلزم التدريجية في الوجود.
قوله قدس سره: (إذا عرفت هذا فلنذكر ألفاظ الايجاب والقبول... إلى آخره).

(1) وفيه: أن استفادة كون موضوع الحكم مركبا في العام المخصص إنما هو بتعدد الدال
والمدلول، وأما المشترك اللفظي فحيث إنه وضع لجميع المعاني مستقلا فلو قيل: عين جارية
فقد استعمل لفظ (العين) في هذا المعنى الخاص، ولفظ (جارية) لا يمكن أن يكون متمما
للمراد، وهكذا في قرينة المجاز، فإن (يرمي) في (رأيت أسدا يرمي) يكون علامة
لاستعمال أسد في الرجل الشجاع، ولا يمكن أن يكون متمما للمراد من الأسد.
نعم، ما أفاده مد ظله إنما يصح بناء على ما قيل: من أن المشترك اللفظي يرجع إلى المشترك
المعنوي، لوجود الجامع بين المعاني حتى في المشترك اللفظي بين الضدين (منه عفي عنه).
243

بعد ما نقل قدس سره الأقوال التي هي بين إفراط وتفريط وبين الإشكال في إنشاء
العناوين بالمشترك اللفظي والمعنوي والمجاز إذا كانت قرائنها غير اللفظ شرع في
بيان الصغرى وتعيين أن الشراء والاشتراء والبيع ونحو ذلك هل هو من المشترك
اللفظي بين الإيجاب والقبول، أو من الحقيقة والمجاز، أو من المشترك المعنوي؟
والظاهر أن لفظ (شريت) مشترك لفظي وإن لم يستعمل في القرآن الكريم إلا
في معنى البيع، واشتريت بعكس ذلك، كما هو معنى باب الافتعال، ومجيئه بمعنى
(شريت) كاكتسبت بمعنى (كسبت) على خلاف ما وضع له، أو ما هو الظاهر.
وعلى أي حال، قياسه قدس سره الهبة المعوضة بالصلح وابتناء صحة إنشائهما بلفظ
(ملكت) على صحة عقد بلفظ غيره مع النية قياس مع الفارق، لأن الهبة مطلقا من
أفراد التمليك، لما عرفت: أن التمليك معنى يشترك فيه جميع أنواع العقود
التمليكية، سواء أكانت مع العوض أم بلا عوض، كانت مجانية محضة أو مشروطا
فيها العوض.
وأما عنوان الصلح فهو عنوان آخر في مقابل التمليك، إذ به تنشأ المسالمة
والمصالحة، والتمليك في باب الصلح هو المصالح به.
ثم إنه لو كان لفظ مشتركا بين الإيجاب والقبول ولم يعلم تقديم أحدهما حتى
يميز البائع من المشتري أو علم بالتقارن وقلنا بصحته ولم يكن هناك جهة مميزة
أخرى فالحكم التحالف، وعدم ترتيب آثار البائعية والمشترية على واحد منهما،
لتعارض الأصلين إذا كان الحكم مترتبا على وصف البيعية والثمنية، أو على البائع
والمشتري. وأما إذا كان الأثر مترتبا على أحدهما دون الآخر بأن علم عدم ثبوته
له وشك في ثبوته للآخر كما لو كان أحد العوضين ثوبا والآخر حيوانا وادعى من
بيده الحيوان أنه اشتراه والثوب ثمن له وقال الآخر: إن الحيوان ثمن فلو قلنا
باختصاص خيار الحيوان بالمشتري فأصالة عدم ثبوت خيار الحيوان له جارية
بلا معارض.
قوله قدس سره: (المحكي عن جماعة... إلى آخره).
244

لا يخفى أن اعتبار العربية في العقود مما يقطع بعدمه، وإلا كان على كل مكلف
تعلم صيغ العقود: كوجوب تعلم الصلاة، لأن ابتلاء الناس بالمعاملات كابتلائهم
بالعبادات، ولا يمكن توكيل العارف بلغة العرب غالبا، فيلزم سد باب المعاش،
فكل ما صدق عليه عنوان العقد والعهد يصح إنشاؤه به، سواء كان عربيا أم لم
يكن، فضلا عن العربي الملحون في الأعراب الغير المغير للمعنى، وفضلا عن
العربي المتعارف في زماننا.
نعم، إذا كان التحريف في الحروف كجوزت بدل زوجت مفيدا لمعنيين كان
في حكم المشترك اللفظي.
وعلى أي حال، منع صدق العقد على غير العربي مما لا يصغى إليه.
ثم إن العربية بناء على اعتبارها إنما تعتبر في نفس عنوان المعاملة وما هو
ركن فيها: كالعوضين في البيع، والزوجين في النكاح، وأما في غيرهما فلا وجه
لاعتبارها، بل دلت رواية العلاء على عدم اعتبارها في نفس العوضين وصحة
العقد بغيرها.
قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: الرجل يريد أن يبيع بيعا يقول: أبيعك بده دوازده،
فقال: (لا بأس، إنما هذه المراوضة، فإذا جمع جعل البيع جملة واحدة) (1).
إلا أن يقال: إن هذه الرواية وردت في المقاولة قبل البيع.
وعلى أي حال فالتركيب بين اللغات أيضا لا يضر بالعقد بعد صدق العنوان
عليه كما هو المتعارف الآن بين الترك والكرد المختلطين مع العرب، لأن المدار
على إنشاء عنوان العقود بما هو آلة له عرفا.
قوله قدس سره: (المشهور - كما عن غير (2) واحد - اشتراط الماضوية... إلى آخره).

(1) تهذيب الأحكام: ج 7 ص 54 ح 235، عنه وسائل الشيعة: ج 12 ص 386 ب 14 من
أبواب أحكام العقود ح 5.
(2) منهم الأردبيلي في مجمع الفائدة: كتاب المتاجر ج 8 ص 145 والكاشاني في المفاتيح
ج 3 ص 49 والعاملي في المفتاح كتاب المتاجر ج 4 ص 162.
245

أقول: وجه اعتبار الماضوية صراحة الفعل الماضي في إنشاء العناوين به،
لأنه وضع للتحقق والثبوت، ولذا يستلزم المضي ووقوعه سابقا إذا كان المتكلم
في مقام الأخبار عن تحقق المبدأ عن الفاعل، فإذا كان في مقام إيجاد المبدأ
بالهيئة كقوله: (بعت) كان صريحا في تحقق الأمر الاعتباري بما هو آلة له، وهذا
بخلاف الفعل المضارع فإنه وضع لتلبس الفاعل بالمبدأ، وهذا ملازم للتحقق، لا
أنه صريح فيه، فإن ظهوره البدوي وإن كان تلبسه بالمبدأ حالا - ولذا يتوقف
استفادة الاستقبال عنه (كالسين وسوف) - إلا أن التلبس الحالي أيضا ليس
صريحا في التحقق، بل لازمه كذلك، لأنه في معنى اشتغاله بإصدار المبدأ
فاستعماله وقصد الإنشاء به دائر مدار القول بصحة الإنشاء بالكنايات.
وبالجملة: الفعل المضارع مع اسم الفاعل متحدان في المعنى وإن كان بينهما
ترتب في النسبة، فإن المضارع وضع لنسبة الفعل إلى الفاعل، وبعد تحقق هذه النسبة
يتصف الفاعل بأنه ممن صدر عنه الفعل، ولذا يقال: ضرب يضرب فهو ضارب.
وكما لا يصح إنشاء عناوين العقود والإيقاعات باسم الفاعل فكذا لا يصح
بالفعل المضارع، فقوله: أبيعك أو أطلقك أو أحررك بمنزلة قوله: أنا البائع، أنا
المطلق، أنا المعتق في عدم كونهما آلة لإنشاء العناوين بهما.
نعم، في خصوص لفظ (طالق) دل الدليل على وقوع الإيقاع به. ومما ذكرنا
ظهر حال الأمر أيضا فإنه وضع لإلقاء نسبة المادة إلى الفاعل، فإذا لم يكن من
العالي فليس إلا استدعاء والتماسا، فقولها: زوجني نفسك لا يفيد الإنشاء وإيجاد
علقة الزوجية، بل يفيد الاستدعاء وطلب الإنشاء منه، فحكمه حكم المضارع،
فكما أنه أشبه بالوعد فكذلك هو أشبه بالمقاولة واستدعاء الإيقاع.
والأخبار (1) الواردة في بيع الآبق الظاهرة في كفاية قوله: (أشتري) في إنشاء
العنوان بالفعل المضارع، والواردة في باب النكاح (2)، وبيع المصحف (3) كذلك

(1) وسائل الشيعة: ج 12 ص 262 - 263 ب 11 من أبواب عقد البيع أحاديث الباب.
(2) وسائل الشيعة: ج 14 ص 194 - 197 أحاديث الباب ب 1 من أبواب عقد النكاح.
(3) وسائل الشيعة: ج 12 ص 114 - 116 أحاديث الباب ب 31 من أبواب ما يكتسب به.
246

محمولة على أن لفظ المضارع وقع مقاولة، لا أن به إنشاء المعاملة. كما أن الأخبار
الواردة في النكاح الظاهرة في كفاية الأمر في الإنشاء محمولة على ذلك، ويقيد
بما إذا وقع القبول بعد قوله: (زوجتكها)، (1) لا أنه إنشاء النكاح بقوله: (يا رسول
الله (زوجنيها) إن لم يكن لك بها حاجة) (2).
وبالجملة: المراجعة إلى رواية أبان بن تغلب (3) وسهل الساعدي (4) وغيرهما
مما ورد في باب شراء العبد الآبق وبيع المصحف، وما ورد عن أبي جعفر
الباقر عليه السلام في باب التزويج (5) توجب القطع بأن الفعل المضارع والأمر في هذه
الأبواب وقعا مقاولة ووعدا واستدعاء، فاعتبار الماضوية لا إشكال فيه.
قوله قدس سره: (الأشهر - كما قيل (6) - لزوم تقديم الإيجاب على القبول... إلى
آخره).
توضيح هذا العنوان يتوقف على تمهيد المقدمة، وهي أنه لا إشكال في أن
تسمية العقد عقدا إنما هو بلحاظ ارتباط ينشئه أحد المتعاقدين بما ينشئه الآخر،
وإلا كان كل عقد مركبا من إيقاعين.
ثم الارتباط الحاصل بينهما قد يتحقق بأن ينشئ أحدهما قبول ما أوجده
الآخر بلفظ (قبلت) وما يشبهه من (رضيت) و (أمضيت). وقد يتحقق بغيرها
ك‍ (اشتريت) و (ارتهنت) ونحو ذلك.
والسر في ذلك هو أن العقود على أقسام:
قسم يتضمن الإعطاء والأخذ من الطرفين، وهو العقود المعاوضية وما يشبهها
كالنكاح، وجامعها ما يحتاج إلى أخذ وعطاء من كل منهما فيتوقف على الإلزام
والالتزام من الطرفين.

(1) سنن البيهقي: ج 7 ص 242.
(2) سنن البيهقي: ج 7 ص 242.
(3) الكافي: ج 5 ص 455 ح 3.
(4) سنن البيهقي: ج 7 ص 242.
(5) الكافي: ج 5 ص 380 ح 5، عنه في الوسائل: ج 14 ص 195 ب 1 من أبواب النكاح ح 3.
(6) قاله العلامة في المختلف: كتاب المتاجر ج 1 ص 348 س 4.
247

وقسم يتضمن الإعطاء من طرف والأخذ من آخر كالهبة والرهن والصلح
المحاباتي.
وقسم لا يتضمن إعطاء وأخذا، بل إنما يفيد إباحة أو سلطنة على التصرف أو
الحفظ كالعقود الإذنية من الوكالة والعارية والوديعة.
ثم إن تمييز الموجب عن القابل في القسم الأول تارة يكون بالقصد
والاعتبار، وأخرى يكون بذاته، وذلك فيما إذا أتى القابل ما ينشئه بلفظ (قبلت)،
فإن اختلاف الموجب والقابل في البيع والنكاح إنما هو بالاعتبار، فإن العرف
والعادة بناؤهم على أن الزوجة معطية نفسها للزوج وهي الموجبة، والزوج يقبل
الزوجية ويعطي المهر بدلا عن إعطائها، وبناؤهم على أن مالك العروض هو
الموجب، ومالك الثمن هو القابل.
وإذا كان كل من العوضين عروضا أو ثمنا فمن قصد تمليك ماله من غيره
بعوض فهو البائع، ومن قصد تملك مال غيره بعوض فهو المشتري والقابل، فإن
الموجب والقابل في عقود المعاوضة كل منهما ينشئ أمرين: أحدهما بالمطابقة،
وثانيهما بالالتزام، فالموجب ينقل ماله إلى ملك المشتري مطابقة، ويتملك مال
المشتري عوضا عن ماله التزاما، والقابل بعكس ذاك.
وعلى هذا، فلو لم يكن هناك لفظ يدل على نحو القصد كما إذا أنشأ كل منهما
بلفظ (شريت) فنقول: المقدم هو الموجب، والمتأخر هو المشتري. ولو اشتبه أو
تقارن وقلنا بصحته فلا يترتب الأثر الخاص على كل منهما كما أوضحنا في المعاطاة.
وأما في الصلح المعاوضي فالتفاوت بينهما لا يمكن إلا بأن ينشئ أحدهما
عنوان الصلح، والآخر قبول ذلك العنوان، لأن كلا منهما ينشئ المسالمة
والمصالحة على أمر، فإذا لم ينشئ أحدهما بلفظ القبول فلا يرتبط إنشاء أحدهما
بإنشاء الآخر، ويصير كل من الإنشاءين إيقاعا مستقلا.
وأما في القسم الثاني والثالث فتمييز الموجب عن القابل في غاية الوضوح،
فإن الواهب والراهن والمصالح هو الموجب، فإنه هو الذي يعطي ماله، والمتهب
248

والمرتهن والمصالح له هو القابل، لأنه هو الذي يأخذ مال غيره، وهكذا في
الوكالة والعارية والوديعة كل من الموكل والمعير والمودع هو الموجب، وكل من
الوكيل والمستعير والمستودع هو القابل.
إذا عرفت ذلك فنقول: أما العقود الإذنية فيجوز تقديم القبول فيها على
الإيجاب، كأن يلفظ (قبلت) أو غيره، لأن المدار فيها ليس إلا الرضا في التصرف
والحفظ، فإذا استدعى الوكيل الاستنابة في التصرف وأظهر الموكل الرضا بها كفى
لتحقق هذا العنوان.
والسر في ذلك: أنه ليس في العقود الإذنية إلزام والتزام وإنشاء ومطاوعة، بل
نيابة، وتسميتها عقدا مسامحة، ومنشؤها ليس إلا كونها بين الطرفين فيتحقق بكل
ما يظهر هذا العنوان، أي النيابة في التصرف والحفظ.
نعم، بعض الآثار الخاصة مترتب على الوكالة العقدية كعدم انعزال الوكيل قبل
وصول خبر العزل إليه. وأما في غير العقود الإذنية فسواء أكان قبوله منحصرا بلفظ
(قبلت) أم لم يكن منحصرا به ولكنه أنشأه بهذا اللفظ ونحوه فلا يجوز تقديمه
على الإيجاب، لأنه ظاهر في مطاوعة شئ وإنفاذ أمر أوجده غيره، وهذا المعنى
بحيث يكون جزءا من العقد ولا يكون إيقاعا يتفرع على وقوع إيجاد من الآخر
كتفرع الانكسار على الكسر، فإن إنشاء المشتري نقل ماله عوضا عن نقل البائع لا
يتحقق إلا بعد وقوع النقل من البائع، ولا يقاس على الإيجاب، فإن في مفهوم
الإيجاب لم يؤخذ إنفاذ أمر وإن توقف تأثيره خارجا على القبول، فإن مفهوم
الإيجاب هو تمليك مال بعوض، وهذا يمكن إنشاؤه في عالم الاعتبار ولو لم
يتحقق قبول أصلا، وما يتوقف على القبول هو تأثيره.
وأما مفهوم القبول فلا يمكن إنشاء النقل به اعتبارا أيضا فإن مطاوعة الأمر
المتأخر فعلا يمتنع عقلا، وليس مفهومه مجرد الرضا بشئ حتى يقال: إن الرضا بأمر
ليس تابعا لتحقق ذلك الأمر في الخارج، ولا تابعا لرضا من يوجد ذلك الأمر، بل
المراد منه ما هو ركن في العقد ومطاوعة لما أوجده البائع، فلا يمكن أن يكون مقدما.
249

وبالجملة: تبديل المال بالعوض الذي هو فعل الموجب لا يتوقف على القبول
في ناحية الإنشاء. وأما قبول هذا التبديل وإنفاذه فهو لا يمكن إلا بعد وقوع التبديل
سابقا، لا من جهة التعليق في الإنشاء، فإنه لا يلزم من إنشاء القبول قبل الإيجاب،
فإن الإنشاء خفيف المؤنة، فينشأ القبول فعلا وإن توقف منشؤه على أمر متأخر كما
في الوصية والتدبير. ولا من جهة التعليق في المنشأ، فإنه لا دليل على بطلانه إلا
الاجماع، والاجماع قام على اعتبار التنجيز في مقام التلفظ، لا على اعتباره في
واقع المعنى، وإلا لفسد جميع المعاوضات والإيقاعات، لأن البيع يتوقف على
الملكية، والطلاق على الزوجية، وهكذا، بل لأن المعنى معنى لا يمكن أن يتحقق
في عالم الاعتبار إلا إذا كان متأخرا، فإن المطاوعة لا تتحقق إلا بعد وقوع
الإيجاب من الموجب فإذا أريد من النقل الحاصل من (قبلت) ما يكون مرتبطا
بفعل غيره وإنشاء التملك ما أعطاه وإنفاذا لما أوجده فقوامه بأن يكون الإيجاب
صادرا من غيره قبل ذلك.
وما قيل: من أن الإنشاء خفيف المؤنة، فلا يفيد في المقام، لأنه إذا اعتبر
المطاوعة في مفهوم القبول فإنشاؤه بحيث يخرج عن الإيقاع متوقف على وقوع
الإيجاب قبل ذلك، وعلى هذا فالقبول في العقود العهدية الغير المعاوضية: كالهبة
والرهن أيضا لا بد أن يكون متأخرا ولو كان بغير لفظ (قبلت) كاتهبت وارتهنت،
لأنه لو قدم لا يكون إنفاذا لما أوجده غيره، ولا يتضمن نقلا حتى يمكن تقديمه
بالهيئة الواردة على المادة المناسبة لهذا الباب.
بل التحقيق أنه لا يجوز تقديم القبول في باب المعاوضات أيضا ولو بالهيئة
الواردة على المادة المناسبة لكل باب كاشتريت واستأجرت وتزوجت ونحو
ذلك، فإنها وإن لم تتضمن المطاوعة - لأن صيغة التفعل والافتعال والاستفعال
ونحو ذلك ليست كصيغة الانفعال ومادة القبول متضمنة للمطاوعة دائما، بل إذا
تأخرت عن الإيجاب - إلا أنها من جهة خروجها عن الإيقاع وصيرورتها جزءا
من العقد لا بد أن تكون متأخرة، فإن قوله: (اشتريت) لو لم يكن قبولا للشراء
250

لا يرتبط بقول البائع: بعت، وعدم توقف مفهومه على بعت وإن كان مسلما إلا أن
تقديمه يوجب عدم ارتباطه بالبيع، فإنه لو لم يتضمن مطاوعة فلا يرتبط
بالإيجاب، ولو تضمن المطاوعة فلا بد أن يكون متأخرا. فما أفاده قدس سره من
التفصيل وتبعناه في الدورة السابقة لا وجه له.
قوله قدس سره: (ومن جملة شروط العقد: الموالاة... إلى آخره).
اعلم: أن من العقود ما يعتبر فيه الموالاة قطعا، ومنها ما لا تعتبر فيه قطعا،
ومنها: ما هو محل الإشكال.
أما القسم الأول: فكالعقود العهدية المعاوضية كالبيع وما يلحق بها كالنكاح
ونحوهما. ووجه اعتبارها فيها أمران:
الأول: أنه لما كان فيها خلع ولبس أو إيجاد علقة فلا بد أن يكون مقارنا
للخلع لبس، وهكذا مقارنا لإيجاد العلقة قبول، وإلا يقع الإضافة أو العلقة بلا محل
ومضاف إليه.
الثاني: أن اعتبار كونها عقدا يقتضي أن يرتبط إنشاء أحدهما بإنشاء الآخر
بأن يصيرا بمنزلة كلام واحد، بل كل أمرين أو أمور يجمعها عنوان واحد: كالصلاة
والأذان ونحوهما يجب أن لا يفصل بينها فأصل مخل بالجهة الجامعة، وإلا يصير
كل واحد عنوانا مستقلا.
وبهذا الملاك أيضا لو انفصل المستثنى عن المستثنى منه في باب الاقرار صار
إنكارا بعد الاقرار، فقول الشهيد قدس سره: وهي - أي الموالاة - مأخوذة من اعتبار
الاتصال بين المستثنى والمستثنى منه (1). إنما هو بلحاظ أن باب المستثنى منشأ
للانتقال إلى اعتبار الاتصال بين كل أمرين أو أمور يجمعها عنوان واحد، لا أن
باب الاستثناء أصل وسائر الأبواب فرع له بأن يكون اعتبار الاتصال في
الاستثناء ألزم وأقوى من غيره، لأن اعتبار الاتصال في المقام آكد، فإن في باب
الاقرار من المستثنى والمستثنى منه يصدر من متكلم واحد، وفي المقام من

(1) القواعد والفوائد: قاعدة 73 ج 1 ص 234.
251

متكلمين، فارتباط كلام أحدهما بالآخر موقوف على اتصالهما، لأن المعنى
الواحد لا يتحصل من كلامهما إلا إذا اتصلا عرفا.
وكيف كان، فوجوب الوفاء بالعقد موقوف على اتصال كلام الموجب بكلام
القابل، فإن العقد لا يتحقق ولا يصدق إلا معه.
ولا يقال: إن لزوم المعاوضة يتوقف على عنوان العقدية المتوقف على
الاتصال، لانحصار دليله بقوله عز من قائل: (أوفوا بالعقود) (1) وأما صحتها فلا،
لعدم انحصار دليل صحة العناوين ب‍ (أوفوا بالعقود) فإن (أحل الله البيع) (2) و
(تجارة عن تراض) (3) وأدلة النكاح والصلح ونحو ذلك تدل على صحة العناوين
من دون اعتبار العقدية فيها فيكون الانشاءان المنفصلان بيعا صحيحا غير لازم.
لأنا نقول: ليس البيع والتجارة والصلح والنكاح إلا العقود المتعارفة، مع أن
هذا النحو من المطلقات ليس في مقام البيان من جميع الجهات.
هذا، مضافا إلى عدم إمكان التفكيك بين اللزوم والصحة إلا بدليل خارجي
من الاجماع ونحوه من جعل الشارع الخيار للمتعاقدين، أو جعلهما لأنفسهما، أو
للأجنبي، وإلا فكل ما يقع صحيحا ويؤثر في النقل لا ينقلب عما وقع عليه إلا
بمقلب خارجي، فما أثر يؤثر دائما، وهو معنى اللزوم.
وأما القسم الثاني: فكالعقود الإذنية من الوكالة والعارية والوديعة، فوجه عدم
اعتبار الموالاة فيها ما عرفت أن إطلاق العقد عليها مسامحة، كيف ويكفي فيها كل
ما يدل على الرضا؟ فلا وجه لاعتبار الاتصال بين مظهر الإذن والتصرف لا
بمعنى عدم اعتبار بقاء إذن الموكل حين تصرف الوكيل، بل بمعنى: عدم اعتبار
اتصال مظهر الرضا مع رضا المتصرف بالتصرف، مع أن هذه العقود ليس فيها
الخلع واللبس.
وأما القسم الثالث: فكالعقود العهدية الغير المشتملة على المعاوضة كالهبة

(1) المائدة: 1.
(2) البقرة: 275.
(3) النساء: 29.
252

والرهن، ومنشأ الإشكال فيها كونها من العقود، والعقد أمر وجداني يتحصل من
كلامين فلا بد أن يكون بينهما اتصال.
ومن قيام السيرة القطعية على عدم اعتبار الموالاة في موارد المعاطاة منها
فإنه قد ترسل الهدية والهبات من البلاد البعيدة، ويتحقق القبول من القابل بعد
زمان طويل، ويدل عليه قضية (1) مارية القبطية سلام الله عليها الموهوبة
للنبي صلى الله عليه وآله.
وإيجاد الواسطة والوكيل في الإرسال متصلا بالقبول بعيد جدا، والتفكيك بين
المعاطاة والعقد أبعد، ولكن الحق اعتبار الاتصال فيها أيضا.
وإرسال الهدايا من البلاد البعيدة لا يدل على جواز الانفصال، فإن تحقق
الأفعال مختلف: فمنها ما لا يحتاج إلى زمان ممتد كما لو وقعت في حضور
المتعاطيين. ومنها ما يحتاج إليه: كالهدايا المرسلة من الأماكن البعيدة فإن الفعل لا
يتحقق إلا بوصولها إلى يد المهدى إليه، وجميع هذه الأفعال الصادرة من الواسطة
كأنها صادرة من الموجب، فهو بمنزلة من كان في المشرق وكانت يده طويلة تصل
إلى المغرب فمد يده وأعطى شيئا لمن كان في المغرب فإن فعله يتم في زمان
وصول يده إلى المغرب، فتأمل جيدا.
قوله قدس سره: (ومن جملة الشرائط التي ذكرها جماعة: التنجيز... إلى آخره).
لا يخفى أن بطلان العقد بالتعليق الذي هو ضد للتنجيز المعتبر في العقود ليس
إلا من جهة الاجماع، أو لعدم صدق عناوين العقود والإيقاعات عليه، وإلا فلم
ينهض دليل آخر من العقل والنقل على اعتبار التنجيز الذي يعبر عنه في كلام
بعضهم بالجزم، وذلك لأن ما يمتنع عقلا هو التعليق في الإنشاء فإن الإيجاد سواء
كان اعتباريا أو تكوينيا يستحيل أن يعلق على شئ، أي كما لا يمكن أن يعلق
وقوع الضرب على أحد على كونه عدوا فكذلك يستحيل أن يكون إنشاؤه شيئا
وإخباره به معلقا على شئ، فإن إيجاد المعنى المقصود باللفظ: إما لا يحصل رأسا،

(1) قرب الإسناد: ص 6 - 7.
253

وإما يحصل مطلقا، فوقوع الإيجاد معلقا مرجعه إلى التناقض.
وبالجملة: فرق بين أن يكون المخبر به معلقا بأن يقول: أعطيك إن آتيتني،
وأن يكون نفس هذا الأخبار معلقا، فإنه لو كان معلقا فلا يتحقق الأخبار. وهكذا
فرق بين أن يكون المنشأ معلقا بأن ينشأ البيع على تقدير كون اليوم يوم الجمعة،
وأن يكون أصل إنشائه البيع معلقا، فإنه لو كان كذلك لاستحال الإنشاء، فما هو
محل الكلام التعليق في المنشأ، وصحته لا يخفى على أحد، بل وقوعه في الأحكام
الشرعية فوق حد الإحصاء، فإن أغلب الأحكام الشرعية بل جميعها - إلا ما شذ -
قضايا حقيقية، وأحكام مشروطة على تقدير وجود موضوعاتها، ووقوعه في
الجملة في العقود والإيقاعات كالوصية والتدبير والنذر وأخويه مما لا إشكال فيه.
ثم إنه لا ينحصر التعليق في أداة الشرط، بل كل ما كان في معنى التعليق ولو
بغير الأداة كالتعليق بالزمان المعبر عنه في كلماتهم بالتعليق بالوصف، وفي
كلمات بعضهم بمعلوم الحصول كقوله: (أنت وكيلي في يوم الجمعة) يدخل في محل
النزاع، فبناء عليه التعليق إما على الزمان، أو على الزماني، وحيث إن صحة العقد
لا تتوقف على التعليق على الزمان لم يدخله المصنف قدس سره في مورد (1) التفصيل
فنحن نتبعه أيضا في التقسيم.
فنقول: المعلق عليه العقد: إما أن يكون معلوم التحقق، وإما أن يكون مشكوكا.
وعلى التقديرين: إما أن يكون حاليا، أو إستقباليا.
وعلى التقادير: إما أن يكون مما يتوقف عليه صحة العقد ثبوتا: كتوقف
الطلاق على الزوجية بناء على بطلان إيقاع الفضولي. وإما أن لا يتوقف عليه صحة
العقد: كتعليقه على مجئ الحاج.
فالأقسام ثمانية، إلا أن في توقف صحة العقد على الأمر الاستقبالي - سواء
كان مشكوكا أو متيقنا - مجرد تصوير، لأن الشروط المعتبرة في العقد لا بد أن
تكون حاصلة حين الإنشاء.

(1) لاحظ المكاسب: كتاب البيع ص 99 س 25 وما بعده.
254

إلا أن يقال: في باب السلم يتوقف ثبوتا صحة العقد على الأمر الاستقبالي
بأن لا يكون المسلم فيه عزيز الوجود، فلو قال: (بعتك الحنطة سلما) إذا كان مبذولا
في ذاك الزمان دخل في التعليق على الأمر الاستقبالي المعلوم أو المشكوك
حصوله ومما يتوقف صحة العقد عليه.
وكيف كان، فالمتيقن من الاجماع بطلان التعليق بما كان مشكوك الحصول،
ولم تتوقف صحة العقد عليه، حاليا كان أو استقباليا.
والظاهر أن الاستقبالي المعلوم الحصول زمانا كان أو زمانيا إذا لم يتوقف
صحة العقد عليه ملحق بالصورتين المتقدمتين في دخوله في معقد الاجماع. وأما
باقي الصور الخمس وهو معلوم الحصول الحالي الذي لا يتوقف عليه صحة العقد
والصور الأربع التي يتوقف عليه صحة العقد فهي خارجة عن معقد الاجماع، فلا
محذور في تعليقها بها، بل الحق أن الاجماع الثابت في الصور الثلاث ليس
إجماعا تعبديا، بل إنما أبطلوها لتوهم اعتبار التنجيز أو مانعية التعليق.
نعم، يمكن أن يقال: إن التعليق ليس مما جرى عليه العرف والعادة في الأمور
العهدية والعقود المتعارفة بين عامة الناس وإن مست الحاجة إليه أحيانا في العهو د
الواقعة بين الدول والملوك فلا يشمله أدلة العقود والعناوين، لكونه مما يشك في
صدقها عليه.
ومن هذا البيان يظهر وجه الصحة فيما لو علق العقد على ما يتوقف صحته
عليه، سواء كان المعلق عليه معلوما أو مشكوكا، لجريان العرف والعادة على
التعليق عليه، سيما إذا كان مشكوكا فإن طريق التخلص منوط به، ونرى وقوعه
كثيرا بين عامة الناس، وبعد كونه متعارفا يصدق العقد عليه فلا محذور فيه، وهذا
هو المدرك للصحة، لا ما أفاده شيخ الطائفة بأن المنشئ لم يشترط إلا ما يقتضيه
إطلاق العقد، (1) فإن هذا الوجه لا ينهض لدفع محذور التعليق إن كان فيه محذور
كما أورد عليه المصنف قدس سره.

(1) المبسوط: كتاب الوكالة ج 2 ص 385.
255

وحاصله: أن ما يتوقف عليه العقد من حيث ترتب الأثر الشرعي عليه هو
المتوقف على الشرط، لا ما ينشئه المنشئ فإن إنشاءه لا يتوقف على التعليق
لتمكنه من أن ينشئ منجزا، فيقول: بعت، أو: هي طالق، فإذا كان التعليق مضرا
وفرضنا أن إنشاء المنشئ لا يتوقف عليه ثبوتا بل الحكم الشرعي متوقف عليه
ويمكنه إثباتا إيجاد العقد منجزا يبطل إيجاده معلقا.
وبالجملة: التعليق في الحكم الشرعي ليس من مدلولات كلام المتكلم ومن
منشئه، وما هو من منشئه لا يتوقف ثبوتا على التعليق، فيضره إثباتا إذا كان أصل
التعليق مضرا انتهى.
ولكن لا يخفى أن ما يتوقف عليه الحكم الشرعي تارة لا يتوقف إنشاء
المنشئ عليه، وهو ما كان من مقتضيات إطلاق العقد. كالبيع الواقع عن البائع.
وأخرى يتوقف عليه الإنشاء ثبوتا أيضا، وهو ما كان ركنا وموضوعا للعقد أو
الإيقاع: كالزوجية للطلاق، والرقية للعتق، فالتعليق على أمثالهما لا يضر، لأنه لم
يشترط إلا ما يتوقف العقد عليه، فالأولى هو التفصيل لو كان التعليق باطلا.
قوله قدس سره: (ومجملة شروط العقد: التطابق بين الإيجاب والقبول... إلى آخره).
لا يخفى أن اعتبار التطابق من القضايا التي قياساتها معها، لأن العقد عبارة
عن أمر وجداني متحصل عن الإيجاب والقبول، فلو أنشأ أحدهما البيع والآخر
قبل بعنوان الهبة، أو أحدهما باع الجارية والآخر اشترى العبد لم يتحصل معنى
واحد منهما، لعدم ارتباط كلام أحدهما بالآخر. نعم، لو لم تكن الخصوصية التي
اختلفا فيها ركنا في المعاملة ولا توجب اختلافا في العقد مثل كون المخاطب هو
المشتري أو كونه وكيلا منه فلا بأس بعدم التطابق، لما عرفت أن البيع تبديل أحد
طرفي الإضافة بمثله مع بقاء الطرف الآخر بحاله، فالمعاوضة تقع بين المالين، ولا
خصوصية لمالكهما، وهذا بخلاف عقد المزاوجة فإن العلقة فيها تحصل بين
الزوجين، فهما بمنزلة العوضين في باب المعاوضة، فلا بد في النكاح من التطابق
256

بين الإيجاب والقبول بالنسبة إلى الزوج والزوجة.
ومما ذكرنا ظهر أنه لا بد من اتحاد المنشأ حتى بالنسبة إلى التوابع
والشروط، فلو أنشأ أحدهما مع شرط وقبل الآخر بلا شرط، أو باع البائع عبدين
وقبل المشتري أحدهما وغير ذلك مما هو نظير ما ذكرناه لم يصح أيضا، لعدم
ارتباط كلام أحدهما بالآخر. ولا يفيد لصحة العقد المختلف فيه من حيث الإنشاء
ثبوت خيار تبعض الصفقة، والتوقف على الإجازة اللذان هما من آثار العقد
الصحيح، لأنه لا بد أولا من صحة العقد باتحاد المنشأ بأن يتقبل المشتري ما
يملكه البائع وما لا يملكه كليهما حتى يتخير بين الفسخ والإمضاء لو علم بالحال،
فما يترتب على الصحة لا يمكن أن يكون منشأ للصحة.
نعم، في بعض الأمثلة يمكن دعوى تطابق الإنشاءين كما لو قال: بعتك الكتب
بدرهم والثوب بدرهم، فقال: قبلت الثوب بدرهم، لأنهما عقدان مستقلان. وكيف
كان، فلا إشكال في الكبرى.
قوله قدس سره: (ومن جملة شروط العقد: أن يقع كل من إيجابه وقبوله في حال
يجوز لكل منهما الإنشاء... إلى آخره).
لا يخفى أن هذا الشرط أيضا كالشرط السابق من القضايا التي قياساتها معها،
بل منشأ اعتباره هو المنشأ لاعتبار الشرط السابق، لأن العقد لا ينعقد إلا بفعل
الاثنين، فلو فقد حين أنشأ أحدهما شرائط العقد فوجودها سابقا أو لاحقا لا أثر
له، ومجرد تحقق الشرط حين أنشأ الآخر لا يفيد بعد كون إنشائه جزءا للعقد لا
إيقاعا مستقلا، فلو كان المشتري حين إنشاء البائع نائما لا يصح العقد، وكذلك
العكس.
والتفصيل بينهما كما في حاشية (1) السيد قدس سره لا وجه له. وما يدعيه من الصحة
بلا إشكال في العقود الجائزة فإنما هو في العقود الإذنية لا العهدية.
ثم لا فرق بين الموت والجنون ونحوهما، وبين الفلس والرقية ونحو ذلك،

(1) حاشية السيد اليزدي على المكاسب: ص 92 س 26.
257

لأن المدار في التطابق بين المشتري والبائع حال العقد على اجتماع جميع شرائط
الصحة واللزوم.
وبعبارة أخرى: المدار على ما به يصير العقد عقدا. نعم، رضا المشتري حين
إيجاب البائع وكذا العكس غير معتبر في صحة العقد والمعاهدة، لأن ما يعتبر في
صدق العقد هو: قصدهما لإيجاد المادة، لا رضاهما به، فلا يكون صحة بيع المكره
إذا لحقه الرضا على خلاف القاعدة.
قوله قدس سره: (فرع: لو اختلف المتعاقدان اجتهادا أو تقليدا في شروط الصيغة...
إلى آخره).
قد يقال: بأن اعتبار العقدية والمعاهدة بين الانشاءين يقتضي أن يكونا
متفقين في الصحة، فلو اختلفا بأن اعتقد المشتري فساد العقد الفارسي فصحته عند
الموجب لا أثر له، وهكذا العكس، وهذا من غير فرق بين اتفاقهما على الفساد أو
اختلافهما فيه، فكما يبطل العقد الذي إيجابه فاسد بنظر المشتري وقبوله فاسد
بنظر الموجب فيكون العقد مما اتفقا على بطلانه فكذا يبطل لو اختلفا فيه، كما إذا
كان أحد الركنين فاسدا، وذلك لما حقق في الأصول (1) من أن الأحكام الظاهرية
أحكام لمن لا ينكشف خلافها عنده، فالاجزاء لا وجه له إلا في تبدل الرأي،
ومثله بالنسبة إلى القضاء والإعادة في العبادات، لقيام الاجماع عليه. وأما في
غيره كاقتداء من يرى وجوب السورة بمن لا يرى وجوبها ويتركها في الصلاة فلا
دليل عليه.
ففي المقام: من يرى فساد سبق القبول على الإيجاب كيف يصح منه
الإيجاب بعد هذا القبول؟
وما أفاده المصنف قدس سره من أن الوجهين الأولين - وهو جواز اكتفاء كل منهما
بما يقتضيه مذهبه، وعدم جواز اكتفائه - مبنيان على أن الأحكام الظاهرية

(1) لاحظ أجود التقريرات: ج 1 ص 205 - 206.
258

المجتهد فيها هل هي بمنزلة الواقعية الاضطرارية، أم هي أحكام عذرية (1)؟ لا
موضوع له في المقام، لأن المسلم من ترتيب أثر الحكم الواقعي الاضطراري على
الحكم الظاهري هو ما إذا كان فعل العامل بالحكم الظاهري موضوعا بالنسبة إلى
غيره، كمن اعتقد صحة العقد الفارسي وتزوج امرأة به فلا يجوز لغيره أن يتزوج
بهذه المرأة ما دامت في حبالة الزوج، وإلا كيف يجوز الاكتفاء بالعقد الفارسي لمن
يرى بطلانه؟ وكيف يصح أن يوكل الزوج الذي يرى بطلانه من يعتقد صحته؟
وبالجملة: النكاح فعل واحد وأمر خاص يحصل من الإيجاب والقبول، فمن
يظن فساد الإيجاب اجتهادا أو تقليدا كيف يجوز له قبول هذا الإيجاب فضلا
عمن يقطع بفساده؟!
نعم، لو قلنا بصحته فالوجه الثالث أردأ الوجوه، لأن مجرد عدم القائل لا
يقتضي الفساد، فلو فرضنا عدم القائل بجواز تقديم القبول وجواز العقد الفارسي
والقابل أنشأ قبل الإيجاب والموجب أنشأ بالفارسي مع أن كلا منهما يرى صحة
إنشاء نفسه - من حيث هو - فلا وجه لبطلانه.
وبالجملة: الحق عدم صحة اكتفاء كل منهما بما يراه صحيحا عند الآخر
وفاسدا عند نفسه، ولا فرق بين هذه الصورة والإخلال بالتنجيز أو الموالاة
ونحوهما التي حكم المصنف قدس سره أن اختلافها يوجب فساد المجموع، لأن فساد
الجزء في باب العقد كفساد المجموع.
هذا، مع أن في غير التنجيز في فساد المجموع تأملا، فإن في باب التنجيز
يمكن أن يقال: إن البائع إذا أنشأ الإيجاب معلقا زاعما صحته وقبل المشتري هذا
الإيجاب الذي يعتقد فساده يكون قبوله أيضا باعتقاده فاسدا، لأن قبول المعلق
معلق.
وأما الأخلال بالموالاة فكيف يفسد كلا الجزءين؟ فإن القابل الذي يعتقد
عدم اعتبار الموالاة إذا أوجد القبول بعد مدة لا يفسد الإيجاب عنده، وإلا فيقتضي

(1) المكاسب: كتاب البيع ص 101 س 16.
259

أن يكون فساد كل جزء موجبا لفساد المجموع، ولعل هذا وجه نظر المصنف قدس سره ب‍
ولكن الأقوى أن يقال: وإن كان بين العقد والايقاعين فرق، فإن العقد يرتبط
كل جزء منه بالآخر، إلا أن ذلك لا يقتضي فساده فيما إذا اختلف المتعاقدان
اجتهادا أو تقليدا، فإن اختلافهما في اعتبار تقديم الإيجاب والماضوية ونحو هما
ليس كاختلافهما في المنشأ بأن ينشئ أحدهما البيع والآخر الهبة، فإنه لو لم
يتطابقا في المنشأ لا يرتبط الإيجاب بالقبول، وهذا بخلاف ما إذا اختلفا في
شرائط الصيغة، فإن الإيجاب بالفعل المضارع وإن كان باطلا عند القابل إلا أن فعل
الموجب ومنشأه لا يدخل في مفهوم القبول كالعكس، فإذا أوجد البائع ما هو
وظيفته باعتقاده فقد أتى بأحد جزئي العقد، وهكذا من طرف المشتري.
والتعليل للفساد بأن العقد متقوم بالطرفين فاللازم أن يكون صحيحا من
الطرفين كما في العروة (1)، أو بأن البيع فعل واحد تشريكي ولا بد من كونه صحيحا
في مذهب كل منهما كما في حاشية السيد (2)، لا يستقيم، لأن تقوم العقد بالطرفين
لا يقتضي أن يكون الموجب ينشئ مقصوده على نحو ينشأ طرفه مقصوده به.
وكون البيع فعلا واحدا تشريكيا ممنوع، بل فعلان مرتبط أحدهما بالآخر، فتأمل.
قوله قدس سره: (لو قبض ما ابتاعه بالعقد الفاسد لم يملكه... إلى آخره).
لا يخفى أن الكلام في المقبوض بالعقد الفاسد يقع في مقامين: الأول: في
الحكم التكليفي، والثاني: في الحكم الوضعي.
أما حكمه التكليفي: فقد يقال: بجواز تصرف القابض، لأن فساد المعاملة لا
يوجب زوال الإذن والرضا بالتصرف الذي كان في ضمن العقد، لأن الجنس لا
يتقوم بفصل خاص.

(1) العروة الوثقى: كتاب القضاء ج 3 ص 180.
(2) حاشية السيد اليزدي على المكاسب: ص 93 س 14.
260

وأما حكمه الوضعي: فقد عرفت (1) في الأمر الثامن في المعاطاة ما يظهر من
بعضهم: من حصول الملك بالقبض الحاصل بعد العقد الفاسد، زاعما كونه معاطاة أو
راجعا إليها، وفيهما ما لا يخفى:
أما في الأول: فلأن الرضا أمر بسيط ما به امتيازه عين ما به اشتراكه، وليس
من قبيل الجنس المتقوم بفصول مختلفة حتى يبتنى على تلك المسألة، فإذا لم
يرتب الشارع على الرضا في ضمن المعاملة الفاسدة أثرا فليس هناك رضا آخر.
نعم، لو فرض رضا جديدا بتصرف المأذون في ملك الآذن فهو موجب لجواز
التصرف، ولكنه خارج عن الرضا بالمعاقدة.
وبالجملة: فرق بين الرضا الحاصل من باب أنه ملك للقابض - للجهل
بالفساد، أو للبناء على الصحة تشريعا، أو لا هذا ولا ذاك، بل مجرد البناء المعاملي
ولو عصيانا، كما في بناء الغاصب والمقامر ونحوهما على البيع - وبين الرضا
الحاصل من باب أنه ملك للآذن.
وما يوجد في المقبوض بالعقد الفاسد هو الأول، والمفروض أن الشارع لم
يرتب عليه الأثر، فالأقوى بالنسبة إلى الحكم التكليفي هو حرمة التصرف
ووجوب الرد فورا.
وأما في الثاني: فقد عرفت أن القبض الواقع بعد العقد الفاسد إنما يقع وفاء، لا
إغماضا عن العقد، فالأقوى عدم حصول الملك بالقبض بعد العقد الفاسد، فيضمن
القابض ما أخذه به.
والدليل عليه - مضافا إلى دعوى الاجماع عليه من الأساطين (2) - النبوي
المعمول به عند الفريقين (على اليد ما أخذت حتى تؤدي) (3) فإن الظرف في
المقام ظرف مستقر لوقوعه خبرا، فاستقرار الأموال وثبوتها على اليد ظاهر في

(1) تقدم في الصفحة: 227 - 228.
(2) كالعلامة في التذكرة: كتاب البيع ج 1 ص 495 س 22. وصاحب الجواهر في جواهره:
كتاب التجارة ج 22 ص 256.
(3) تقدم تخريجه في الصفحة: 64.
261

الحكم الوضعي، كما إذا قيل: عليه دين أو عين، أي: يستقر عليه الدين.
وحمل الحديث (1) على الحكم التكليفي خلاف الظاهر، لاقتضائه أن يجعل
الظرف لغوا، ويقدر: يجب ونحوه، ولا شاهد عليه.
نعم، إذا كان متعلق الحروف الجارة وما أسند إليه الظرف فعلا من الأفعال كما
إذا قيل: (عليه القيام والقعود) فظاهره في الحكم التكليفي.
ثم إن كلمة الموصول عمومها باعتبار صلتها، فإذا كان الأخذ عاما لكل
ما دخل تحت اليد واستولى عليه الأخذ سواء كان عدوانا أو لم يكن فيكون
خروج اليد الحقة - كموارد إذن المالك الحقيقي، أو إذن المالك المجازي مجانا -
بالتخصيص.
وأما لو قلنا بأن الأخذ هو الأخذ عن قهر والاستيلاء بلا حق كما هو الظاهر
فخروجها بالتخصص، وتظهر الثمرة في الشبهات المفهومية، كما ستجئ الإشارة
إليها - إن شاء الله تعالى - في طي المباحث.
وكيف كان، فدلالة النبوي على الضمان في الجملة لا إشكال فيه. ويدل عليه
أيضا قوله عليه السلام في الأمة المبتاعة إذا وجدت مسروقة بعد أن أولدها المشتري: إنه
يأخذ الجارية صاحبها، ويأخذ المشتري ولده بالقيمة، (2) فإن حكمه عليه السلام بضمان
الولد ليس إلا لكونه تابعا للعين، فيقتضي كون العين مضمونة.
وتوضيح ذلك: أن ضمان المنافع تارة يكون تبعا لضمان العين، وأخرى يكون
مستقلا، والقسم الثاني على أقسام:
منها: ما إذا أتلف المنفعة باستيفائها، كما إذا سكن الدار المستأجرة بالإجارة
الصحيحة والفاسدة فإن العين في الأولى ليست مضمونة وتضمن المنفعة، وفي
الثانية وإن كانت مضمونة إلا أن ضمان المنافع ليس تبعا لها، بل إنما يضمنها من

(1) كما عند المحقق الإيرواني في حاشيته على المكاسب: كتاب البيع ص 94 س 12.
(2) الكافي: ج 5 ص 215 ح 10، عنه في الوسائل، ج 14 ص 592 ب 88 من أبواب نكاح
العبيد والإماء ح 3.
262

باب قوله عليه السلام: (من أتلف مال الغير) (1).
ومنها: هذه الصورة مع عدم كون العين تحت يد المتلف، كمن ركب دابة الغير،
أو جلس في بيته، مع كون الدابة والبيت تحت يد المالك، أو شرب حليب شاة
الغير، أو أكل من ثمرة بستانه.
ومنها: ما إذا تلفت المنفعة بسبب منه، كما لو منع مستأجر الدار عن التصرف
فيها فإنه يضمن المنفعة.
وعلى أي حال ليس استيلاد الأمة داخلا تحت هذه العناوين، فإنه لم يستوف
منفعة الأمة، فإن استيفاء المنافع إنما هو من قبيل الركوب والجلوس والأكل
والشرب والوطئ ونحو ذلك.
وعد العرف حصول الولد له منفعة من الأمة لا اعتبار به، لأن نظر العرف ليس
متبعا في تعيين المصاديق.
نعم، أوجد ما هو السبب لفوت المنفعة على المالك، لأن وطئه الذي استلزم
الحمل صار سببا لفوت المنفعة عليه، ولكن ضمان من منع المالك من التصرف
حتى تلف المنفعة ممنوع، إلا إذا قيل بأن قاعدة (لا ضرر) كما تنفي الحكم الثابت
الذي يلزم منه الضرر كذلك تثبت الحكم الذي لولا تشريعه لزم منه الضرر.
وبالجملة: الذي استوفاه المشتري إنما هو الوطئ والمفروض أن القيمة لم
تجعل عوضا له، بل للولد، والولد ليس من المنافع المتلفة، ولا مما كان المشتري
سببا لإتلافها، لأن الولد لم يكن لمالك الأمة حتى يكون مشتري الأمة سببا
لإتلافه، فليس استيلاد الأمة إلا من قبيل منع المالك من السكون في داره، فضمان
الولد الذي يرجع إلى ضمان قيمته لكونه حرا إنما هو من جهة تبعية المنافع التالفة

(1) لم توجد رواية مما ورد في كتب الفريقين بهذا النص كما اعترف به بعض المحققين
ولكنها قاعدة فقهية متصيدة من روايات كثيرة في أبواب متفرقة من أبواب الفقه، منها: ما في
الكافي: باب الرهن ج 5 ص 235، والوسائل: ج 18 ص 238 - 239 ب 11 من أبواب
الشهادات.
263

للعين المضمونة، فيدل الخبر على ضمان العين، لا للأولوية، بل لأن ضمان العين
صار سببا لضمان التالف.
وبالجملة: منشأ الضمان إما قاعدة اليد، أو الإتلاف، أو التسبيب، والأخيران
منتفيان في المقام.
أما الإتلاف فلأن الأب لم يستوف المنفعة، فإن الولد لا يعد من المنافع، فإن
حكمه حكم الأب والأم، فكما أنه لا يكون من المنافع - مع أنهما من أعظم
ما يتصور من الفوائد في الدنيا - فكذلك الولد. فمراد المصنف قدس سره (1) من أن
الاستيلاد ليس استيفاء أنه ليس مما استعمله وأتلفه المستولد.
والأصل في هذا التعبير العلامة قدس سره فإنه قال في التذكرة: منفعة بدن الحر
تضمن بالتفويت، لا بالفوات، فلو قهر حرا واستعمله في شغل ضمن أجرته، لأنه
استوفى منافعه وهي متقومة، كما لو استوفى منافع العبد، ولو حبسه مدة لمثلها
أجرة وعطل منافعه فالأقوى أنه لا يضمن الأجرة، لأن منافعه تابعة لما لا يصح
غصبه... إلى آخره (2).
ومراده من قوله: فهو كالتالف أن الولد لو لم يكن حكم الشارع بحريته كان
تابعا لأمه في الرقية، وأما بعد حكمه بها فيكون كالتلف السماوي.
وفي باب ضمان اليد لا فرق بين التلف السماوي وما بحكمه. وأما باب
التسبيب فواضح أن وطئ المشتري ليس سببا لتلف المنفعة الموجودة المملوكة
لمالك الأمة فلا يدخل تحت قاعدة الضمان بالتسبيب، فانحصر أن يكون منشؤه
ضمان اليد، لأن سائر ما يوجب الضمان منتف في المقام.
قوله قدس سره: (ثم إن هذه المسألة من جزئيات القاعدة المعروفة: كل عقد يضمن
بصحيحه يضمن بفاسده... إلى آخره).
قد يقال: بأن هذه القاعدة لم يدل عليها نص، ولا وقعت في معقد إجماع حتى
تكون مدركا لضمان المقبوض بالعقد الفاسد، فعلى هذا لا أهمية في بيان معناها

(1) المكاسب: كتاب البيع ص 101 س 29.
(2) تذكرة الفقهاء: ج 2 ص 382 س 7.
264

أصلا وعكسا، وبيان مدركها كما أهتم به المصنف.
ولكنك خبير بأن ظاهر صدر العنوان وإن دل على أن هذه القاعدة أصلا
وعكسا من الأصول المسلمة والقواعد الكلية الشرعية إلا أنه يظهر من مجموع
كلامه: أنه بصدد بيان ما هو خارج عن قاعدة اليد تخصصا أو تخصيصا، فإن اليد
تقتضي الضمان، ويرفع هذا الاقتضاء في الجملة إذن المالك وتسليطه، فالمهم بيان
ما يخرج عن العموم، وليس ذكر القاعدة المعروفة أصلا وعكسا إلا لبيان ذلك.
إذا عرفت ذلك فنقول: الضمان قد يراد به معنى المصدري كما في قاعدة
الخراج بالضمان كما تقدم (1) وجهه، وقد يراد به معنى الاسم المصدري كما في
المقام، فإن (يضمن) حيث إنه مبني للمفعول يناسب معنى الاسم المصدري، مع
أن تعهد الضامن في الفاسد كالعدم فالجامع بينه وبين الصحيح هو هذا المعنى، وكما
في باب الغصب والمقبوض بالسوم ونحو ذلك مما حكم الشارع بالضمان من دون
تعهد الضامن والتزامه، وهو في الأصل مأخوذ من ضمن بمعنى التزم، وتعهد، فكأن
الضامن بجعله الضمان أو بالجعل الشرعي متضمن للمال ومثبت في ذمته التي هي
واد وسيع.
وبالجملة: معنى الضمان كون المال في الذمة، ومن آثار ثبوت المال في الذمة
الغرامة والخسارة، لا أن الغرامة معناه الحقيقي.
ثم إنه ليس معنى الضمان كون تلف ما يضمنه الضامن في ملكه كما احتمله
العلامة (2) في الأواني المكسورة، واختاره صاحب المقابس (3) في مطلق
الضمانات ولو في غير باب الإتلاف كباب المغصوب ونحوه، لأنه لا موجب
لتقدير التالف ملكا لمن تلف في يده، لأن الغرامة في باب الإتلاف والغصب ليست
معاوضة حتى يعتبر دخول معوضها في ملك الغارم.

(1) تقدم في الصفحة: 142.
(2) تحرير الأحكام: كتاب الغصب ج 2 ص 139 س 21.
(3) لم نعثر عليه.
265

ثم إن اختلاف آثار الضمان وأحكامه باختلاف موارده لا يوجب اختلافا في
معناه فإن معناه كما عرفت هو كون الشئ في عهدة الضامن والخروج عن العهدة.
وتفريغ الذمة عما اشتغلت بها تارة بالعوض المسمى، وأخرى بالمثل أو
القيمة، وثالثة بأقل الأمرين، كما في تلف الموهوب بشرط التعويض قبل دفع
العوض، فاختار في المسالك (1) ثبوت أقل الأمرين، وذلك لأن المتهب كان له
التخيير مع بقاء العين بين ردها ودفع المسمى، فإذا تلفت فإن كان الأقل هو
المسمى فقد رضي به الواهب، وإن كان قيمة العين فحيث إن المتهب كان مخيرا فله
رد الهبة برد قيمة العين.
ولكن عن جماعة (2) تعين دفع المسمى، لأن تعذر رد العين أوجب تعيين أحد
عدلي التخيير، مع أنه يمكن أن يقال: بأن الضمان في الصحيح والفاسد كليهما
المثل أو القيمة، فإن الضمان بالمسمى في الصحيح هو قبل القبض، وهو خارج عن
القاعدة فإنها أسست لموارد ضمان اليد ويتحقق بالقبض. ويقال: إن بالقبض ينتقل
الضمان، ومعنى انتقاله أن المسمى يصير بعد القبض هو المثل أو القيمة، ومعنى
ضمان القابض بعد قبضه مع أن المقبوض ملكه أنه لو تلف وطرأ عليه فسخ أو
انفساخ يجب عليه رد المثل أو القيمة، فالمثل أو القيمة هو المضمون في الصحيح
والفاسد.
وبالجملة: مرادهم من انتقال الضمان بالقبض أن الضمان قبل القبض كان على
المنتقل عنه، وبعده انتقل إلى المنتقل إليه. ولا شبهة أن الضمان كما ينتقل عن
المالك الأصلي إلى المالك الفعلي كذلك ينتقل بالقبض من الضمان الجعلي إلى
الضمان الواقعي، أي ينتقل من المسمى إلى المثل أو القيمة، فلا فرق بعد القبض
بين المقبوض بالعقد الصحيح والفاسد. وعلى هذا، فلا وجه للالتزام بأن الخروج

(1) مسالك الأفهام: كتاب الهبات ج 1 ص 378 س 18.
(2) منهم المحقق الثاني في جامع المقاصد: في الهبة ج 9 ص 177، وصاحب الجواهر في
جواهره: كتاب الهبات ج 28 ص 211.
266

عن العهدة في العقد الفاسد أيضا بأداء المسمى حتى لا يلزم التفكيك بين لفظي الضمان
في قولهم: [ما] (1) يضمن بصحيحه يضمن بفاسده، لما عرفت من عدم لزوم
الاختلاف. ومع أن كيفية الخروج عن العهدة خارج عن حقيقة الضمان فلو التزمنا
بأن كيفيته في العقد الصحيح بأداء المسمى وفي الفاسد بأداء المثل أو القيمة فلا
يلزم تفكيك في معنى الضمان.
ثم لا يخفى ما في كلام المصنف (2) في رد من توهم: أن الضمان في الفاسد
أيضا بالمسمى بأن احتماله ضعيف، لأن ضمانه المسمى يخرجه من فرض الفساد،
إذ يكفي في تحقق فرض الفساد بقاء كل من العوضين على ملك مالكه، وإن كان
عند تلف أحدهما يتعين الآخر للعوضية نظير المعاطاة على القول بالإباحة... إلى
آخره، فإن الجمع بين الفساد وتعيين المسمى للعوضية جمع بين المتناقضين،
وتعين العوض المسمى في المعاطاة ليس مع فرض فسادها، لأنه لا يعقل مع عدم
تعلق الجعل الشرعي بكون المسمى عوضا وحكمه بفساده أن يكون عوضا، بل
تعينه للعوضية في المعاطاة إنما هو مع فرض صحتها، غاية الأمر أنها لا تفيد
التمليك الذي قصده المتعاطيان ابتداء، بل إما تفيد الإباحة أو التسليط أو التمليك
بشرط تحقق أحد الملزمات. وعلى أي حال تصح المعاطاة، لا أنها تفسد، ومع
ذلك يتعين المسمى للعوضية، فقياس العقد الفاسد على المعاطاة على القول
بالإباحة قياس مع الفارق.
قوله قدس سره: (ثم العموم في العقود ليس باعتبار خصوص الأنواع... إلى آخره).
لا يخفى أن بعضهم عبر عن هذه القاعدة. بقوله: كل عقد يضمن بصحيحه...
إلى آخره. وبعضهم عبر عنها بقوله: ما يضمن بصحيحه... إلى آخره. وعلى أي
حال، المقصود واحد، فإن المراد من العقد ليس خصوص ما لم يكن فيه شائبة
الايقاع، بل يشمل كل ما فيه تضمين وتعهد، فمعناه: أن كل ما صدر على وجه

(1) ما بين المعقوفتين أضفناه لاقتضاء سياق العبارة.
(2) المكاسب: كتاب البيع ص 102 س 7.
267

التعويض فالفاسد منه كصحيحه يوجب الضمان، فيكون المراد من عكسه أن كل ما
صدر لا على وجه التعويض بل مجانا ففاسده كصحيحه لا يوجب الضمان، وعلى
هذا فتشمل القاعدة مثل الجعالة والخلع، فلو فرضنا كون الخلع فاسدا فليس المهر
للزوج مجانا، كما أنه لو فرض أن عوض الخلع كان مال غير الزوجة فلا يمكن أن
تكون الزوجة مطلقة بلا عوض، بل إما يفسد الخلع، وإما يجب عليها المثل أو
القيمة، وهكذا في مسألة الجعالة.
ثم بعد ما ظهر أن هذه القاعدة إنما أسست لموارد تمييز اليد المجانية عن
غيرها فلا بد من أن يكون معناها مطابقا لما هو مدركها. ولا وجه لما أفاده
المصنف قدس سره من أن الكلام في معنى القاعدة لا في مدركها (1)، فعلى هذا لو كان
ظاهر هذه القاعدة ما أفاده قدس سره من أن الموضوع هو العقد الذي كان له بالفعل فرد
صحيح وفاسد (2). وكأن هذا المعنى منافيا لمدركه فيجب أن يحمل على معنى آخر
لا يكون منافيا لدليله، والمعنى الصحيح هو الذي ذكرناه، وحاصله أن المراد من
الأصل إن كل عقد صحيح صدر على وجه التعويض فالفاسد منه يوجب الضمان.
والمراد من العكس أن كل ما صدر صحيحه مجانا فالفاسد منه لا يوجب الضمان،
وهذا المعنى جامع ومانع، ولا يحتاج إلى إرادة النوع في العقد ولا الصنف، ولا
خروج ما كان موجب الضمان هو الشرط دون العقد، ولا فرض الوجود بالفعل
للصحيح والفاسد، لأن كل ما صدر مجانا كالهبة الغير المعوضة والصلح في مقام
الإبراء فالصحيح والفاسد منه لا يوجبان الضمان. كما أنه لو فرض صحة البيع بلا
ثمن والإجارة بلا أجرة فكذلك لا يوجبان الضمان، لأن فرض صحته معناه
مجانية المبيع والعمل ففساده ولو كان ناشئا من قبل الشرط لا يوجب الضمان.
نعم، لو كان الشرط فاسدا بعد التعويض كما لو جعل بإزاء المبيع الثمن ثم
شرط أنه لو تلف المبيع عند المشتري فضمانه على البائع فهذا خارج عن عنوان

(1) المكاسب: كتاب البيع ص 102 س 20 وما بعده.
(2) المصدر نفسه.
268

البحث، لأنه التزام في التزام، وسيجئ حكمه.
وبالجملة: ما احتمل بعضهم (1) في العبارة من أن يكون معناها أن كل شخص
من العقود يضمن به لو كان صحيحا يضمن به مع الفساد ورتب عليها عدم الضمان
في مثل: (بعتك بلا ثمن) و (آجرتك بلا إجارة) هو المعنى الصحيح للقاعدة، لأن
هذه القاعدة كجميع القضايا الحقيقية الحكم فيها مرتب على فرض وجود الموضوع،
فمعناها أن كل ما يضمن لو كان صحيحا يضمن بفاسده، وكل ما لا يضمن لو كان
صحيحا لا يضمن بفاسده، وفرض صحة البيع بلا ثمن عبارة أخرى عن فرض
المجانية ففساده - ولو كان من قبل نفس هذا الفرض حيث إن البيع بلا ثمن باطل -
لا يقتضي الضمان.
قوله قدس سره: (ثم إن لفظة (الباء) في: (بصحيحه وبفاسده)... إلى آخره).
لا يخفى أن الباء يستعمل في الظرفية: كقوله سبحانه: (ولقد نصركم الله
ببدر) (2) وقوله: (ونجيناهم بسحر)، (3) والسببية كقوله عز من قائل: (إنكم ظلمتم
أنفسكم باتخاذكم العجل) (4) وقوله: (فكلا أخذنا بذنبه) (5) وليست السببية أظهر
من الظرفية، فعلى الظرفية لا يلزم تفكيك، وعلى السببية يختلف معناها في
الصحيح والفاسد، فإن الضمان في قولهم: (بصحيحه) مسبب عن العقد، وفي
الفاسد مسبب عن القبض.
نعم، يمكن أن يوجه هذا المعنى أيضا بأن العقد في كل منهما هو السبب
الناقص، فإن القبض لو لم يتحقق في الصحيح لم يتحقق الضمان لقولهم: وبالقبض
ينتقل الضمان، وفي الفاسد العقد أيضا منشأ للقبض الذي هو منشأ للضمان.
ولكنه لا يخفى الاختلاف بين الصحيح والفاسد في السببية، لأن القاعدة حيث

(1) جعله في المكاسب احتمالا، وقواه أبو القاسم الإشكوري في بغية الطالب في حاشية
المكاسب: ص 42 س 23.
(2) آل عمران: 123.
(3) القمر: 34.
(4) البقرة: 54.
(5) العنكبوت: 40.
269

ما عرفت: أنها لتأسيس تمييز موارد التسليط المجاني عن غيره، فالتسليط مع
العوض الذي يقتضي الضمان في الصحيح مستند إلى العقد، وهذا لا ينافي إناطة
صحة العقد بالقبض كما في الصرف والسلم، أو كون تلف المبيع قبل القبض على
البائع لانفساخ العقد، فإن شرطية القبض لا توجب أن يكون الضمان مستندا إليه.
كما أن انفساخ المعاملة بعدم القبض لا يوجب أن يكون الضمان والإتلاف بلا
تحقق رافع له. وأما لو كان مورد الإجارة منفعة الأجير فلم يتحقق يد وهو متبرع
بنفسه العمل وهو المباشر لإتلاف المنفعة فلا يستحق شيئا. وفيه ما عرفت من أن
لغوية العقد الكذائي وكون وجوده كعدمه بالنسبة إلى أثره الشرعي لا يوجب أن
يكون كذلك بالنسبة إلى أثره التكويني، وهو التسليط المجاني. فكما أن المباشر
هو المقدم لإتلاف منفعته فكذلك البائع في العين والمؤجر في منفعة الدار.
هذا، مضافا إلى أن المباشر في إجارة الأعمال لم يقدم على العمل إلا بناء
على الوفاء بالمعاملة، ولم يقدم عليه ابتداء من دون عقد ولا أمر معاملي، فإذا قلنا
بالضمان في إجارة الأموال فلا بد من القول به في إجارة الأعمال.
فتحصل مما ذكرناه أن نظر من قال بالضمان إما إلى دخولهما تحت قاعدة اليد
والإتلاف وخروجهما عن عنوان العقود، وإما إلى دخولهما في الأصل، وقال:
حيث إن صحيح البيع والإجارة يضمن بهما فيضمن بفاسدهما ومن قال بعدمه
أدرجهما في العكس، فإن صحيح الهبة والعارية وكذلك فاسدهما لا ضمان فيهما.
ولكنك خبير بأنه يمكن إدراجهما في العكس بما بيناه، وهو أن كل عقد
لا يضمن به على فرض صحته لا يضمن به مع فساده، وشخص هذا البيع والإجارة
لو فرض صحتهما لا ضمان فيهما فلا ضمان مع فسادهما.
ولا وجه لما أفاده المصنف (1) من أن المراد من كل عقد: هو النوع أو الصنف،
لأن هذه القضية وضعت لبيان أشخاص العقود التي يفرض وقوعها في الخارج، لا
النوع أو الصنف.

(1) المكاسب: كتاب البيع ص 102 س 10.
270

ومن فصل بين إجارة الأعمال وبين البيع وإجارة الأموال أدخل العمل في
التبرع، وأخرجه عن الإجارة، وأخرج البيع وإجارة الأموال للمناقضة عن عنوان
العقد، فيدخل كل منها تحت القواعد الكلية.
ومقتضى احترام الأموال أن يكون المتصرف فيها والمستوفي عنها المنفعة
ضامنا.
وأما الحر فحيث لم يدخل تحت اليد فهو متبرع مع فساد الإجارة، ومتلف
لعمل نفسه، فلا يكون المستأجر ضامنا، لأن عمل العامل بدون الإجارة والأمر لا
يضمنه غيره.
الثالث (1): أنه قد يتوهم نقوض أخر لم يتعرض لها المصنف، لخروجها عن
عنوان العقود المعاوضية:
منها: النكاح الدائم والمتعة الفاسدين، فإن الزوج لا يضمن المهر إذا كان
جاهلا بفساد العقد وكانت الزوجة عالمة به، مع أن الصحيح منهما يوجب الضمان،
فيرد النقض على الأصل. وفيه: أن مجرى القاعدة في الضمان المعاوضي إنما هو
بالنسبة إلى ما دخل تحت اليد، لا في الضمان مطلقا بجعل من المتعاقدين من غير
عنوان المعاوضة، مع أن عدم الضمان لدليل خارجي، ولكونها بغيا لا ينافي اقتضاء
العقد للضمان، ولذا لو كانت جاهلة بالفساد فلها حق على الزوج.
ومنها: بيع الغاصب مال الغير فإنه لا يضمن الثمن للمشتري إذا تلف عنده عند
الأكثر، مع أن صحيح البيع يوجب الضمان.
وفيه أولا: أن عقد الغاصب ليس بفاسد حتى يدخل في المقبوض بالعقد
الفاسد، بل يقع موقوفا.
وثانيا: أن العقد لم يقع معه وبعنوان شخصه، بل وقع مع مالك المبيع فتعهد
الغاصب بالثمن ليس تعهدا بعنوان المعاوضة مع شخصه، لأنه تعهد مال المشتري
بمال المالك، لا على كون المال في ذمته.
ومن وقع معه العقد حقيقة ضامن للثمن لو أجاز المعاملة، فلو تلف الثمن عند

(1) لم يمر ذكره الأول والثاني منه - قدس سره - فلاحظ.
271

الغاصب وقلنا بأنه لا يضمن، لأن المشتري سلطه عليه مجانا وجب على المشتري
رد ثمن آخر على المالك، وكل من المالك والمشتري يضمنان لما وصل بيدهما.
وبالجملة: من هو طرف المعاوضة فهو ضامن للعوض، ومن ليس ضامنا لا
يكون طرفا.
ومنها: اشتراء الصبي والمجنون وهبتهما وعاريتهما، فإن اشتراءهما نقض
للأصل، وهبتهما وعاريتهما نقض للعكس، لأن المبيع لو تلف عندهما لا يضمنان،
مع أن صحيح البيع يوجب الضمان، وكذا يضمن المتهب والمستعير لما وهبه أو
أعاره الصبي أو المجنون، مع أن الصحيح من الهبة والعارية لا يوجب الضمان
وفيه: أن عقدهما كلا عقد، والأفعال القصدية منهما كالعدم، ومحل الكلام في
الصحيح والفاسد فيما يضمن ولا يضمن هو العدم والملكة، أي محل البحث فيمن
كان قبضه معتبرا، وإنشاء الصغير والمجنون وقبضهما كالعدم، فإنهما غير قابلين
للتعهد، فعدم ضمانهما للمبيع إنما هو لضعف مباشرتهما، فسند التلف إلى السبب
وهو البائع.
وكذا ضمان المتهب والمستعير إنما هو لعدم أهليتهما للهبة والإعارة.
فتحصل مما ذكرنا كله أمور:
الأول: أن هذه القاعدة أسست لموارد تمييز اليد المجانية عن غيرها الناشئة
عن العقود وما يلحق بها، فعلى هذا يخرج مثل السبق والرماية ونحوهما مما لا
يدخل تحت اليد، فلا نقض بمثل ذلك، وتخرج اليد الناشئة عن غير العقود وما
يلحق بها.
الثاني: أن معنى الضمان هو كون الشئ في عهدة الضامن، والخروج من
العهدة يختلف باختلاف الموارد. ففي الصحيح الجامع بين المسمى والمثل أو
القيمة هو المضمون، لأنه لو تلف أحد العوضين فلو لم ينفسخ العقد فمن تلف
المال عنده ضامن للمسمى، ولو فسخ أو انفسخ أو أقيل فضامن للمثل أو القيمة،
وفي الفاسد من أول الأمر الضمان يتعلق بالمثل أو القيمة.
272

ثم إن الضمان كما يتعلق بنفس العينين فكذا يتعلق بصفاتهما وأجزائهما
والشروط المنضمة معهما.
الثالث: أن مورد الأصل والعكس هو مورد العقد ومصبه، لا ما هو خارج عنه،
وإنما حكم بتبعيته له شرعا، أو لتوقف استيفاء المنفعة عليه. ومن هذا الأمر ظهر
عدم ورود النقض بالنسبة إلى المنافع، ولا تلف العين المستأجرة، ولا تلف الحمل
ونحو ذلك من النقوض المتقدمة.
الرابع: أن موردهما هو التسليط على العوض، أو المجانية التي يتضمنهما
نفس العقد ولو بتوسط الشرط الذي هو جزء للإيجاب أو القبول، كما لو قال: بعتك
بشرط أن لا يكون ثمن، ووهبتك بشرط العوض، ويخرج ما هو شرط خارجي
والتزام في التزام.
وبعبارة أخرى: الالتزام الابتدائي هو المدار، لا الالتزام الثانوي، فلا نقض
على الأصل بما إذا باع بثمن وشرط في ضمن العقد أنه لو تلف المبيع عند
المشتري فخسر أنه على البائع، فإن نفس العقد لا يتضمن المجانية، ولذا يأخذ
الثمن ويستقر ملكه عليه لو لم يتلف المبيع.
الخامس: أن المراد من القاعدة بالنسبة إلى أفراد العقود هو الأفراد الشخصية
بالنسبة إلى كل نوع، لا الأنواع ولا الأصناف، لأن هذه القاعدة ناظرة إلى ما يقع في
الخارج، فكل ما يقع في الخارج لو فرض صحته ولا يضمن به فلا يضمن به مع
الفساد، فمثل: بعتك بلا ثمن ونحوه لا ضمان فيه، فتأمل في أطراف ما ذكرناه
تجده حريا بالتأمل فيه، لما ظهر من مجموع الكلام أن معنى القاعدة ينطبق على
مدركها فلا إشكال فيها.
قوله قدس سره: (الثاني: من الأمور المتفرعة على عدم تملك المقبوض بالعقد
الفاسد وجوب رده فورا... إلى آخره).
قد ظهر في صدر المبحث: أن البحث في المقبوض بالعقد الفاسد تارة يقع في
حكمه التكليفي، وأخرى في حكمه الوضعي، وذكرنا أنه بحسب الحكم التكليفي
273

يحرم تصرف القابض في المقبوض، وحرمة التصرف ملازم لوجوب الرد فورا.
ودعوى أن الامساك ليس تصرفا ممنوعة، فإنه وإن كان منصرفا عنه بدوا إلا أن
الانصراف البدوي لا عبرة به، ويصدق عليه التصرف بعد صدقه على الأخذ، فإذا
كان الأخذ تصرفا فبقاء المأخوذ عند الآخذ حكمه حكم نفس الأخذ، لأنه باق
على ما كان عليه.
بل ولو سلمنا عدم شمول التصرف في قوله - أرواحنا له الفداء - في التوقيع
المبارك: (لا يجوز لأحد أن يتصرف في مال غيره إلا بإذنه) (1) للإمساك فلا شبهة
في شمول قوله صلى الله عليه وآله: (لا يحل مال امرئ مسلم لأخيه إلا عن طيب نفسه له) (2)،
فإن تعلق الحل والحرمة بالمال ليس كتعلقهما بالغنم - مثلا - مخصوصا بالأكل
ونحوه مما يناسب الحكم مثل: حرمة التزويج المتعلقة بالأمهات في قوله عز من
قائل: (وحرمت عليكم أمهاتكم) (3)، بل يشمل كل ما يعد في العرف قلبا وانقلابا
كالتصرف فيه، وإمساكه تحت يده، وأكله وبيعه وأنحاء ذلك. وإنما يخرج مثل
النظر إليه والوقوف تحت ظله إذا لم يعدا تصرفا، وإلا يحرم هذا أيضا: كالوقوف
في ظل الخيمة.
وبالجملة: أن قوله عليه السلام: (لا يحل مال امرئ) عنوان عام يشمل إمساك المال
أيضا. ويدل عليه أيضا عموم (على اليد ما أخذت حتى تؤدي) (4)، فإنه وإن لم
يكن متعرضا للحكم التكليفي بالدلالة المطابقية إلا أنه متعرض له بالدلالة
الالتزامية، فإن استقرار الضمان على عهدة القابض ملازم لوجوب الرد، لأنه لا
أثر لاستقرار الضمان على العهدة إلا وجوب رد العين ما دامت باقية ورد المثل أو
القيمة لو كانت تالفة، فحرمة إمساك مال الغير من غير إذنه ووجوب رده إليه فورا
بالفورية العرفية لا إشكال فيه، إنما الإشكال في مقامنا هذا، وهو المقبوض بالعقد

(1) كمال الدين: ج 2 ص 521 ح 49، عنه وسائل الشيعة: ج 6 ص 377 ب 3 من أبواب
الأنفال قطعة من ح 6.
(2) تقدم تخريجه في الصفحة: 158.
(3) النساء: 23.
(4) مر تخريجه في الصفحة: 64.
274

الفاسد من جهتين:
الأولى: توهم أن الإذن المالكي الذي تتضمنه المعاملة كاف في رفع الحرمة،
ولكنه ظهر جوابه سابقا، وهو أن الإذن الذي يرفع حرمة التصرف هو الإذن
بتصرف القابض في ملك الآذن، والتسليط الذي يقع من المالك إنما هو من باب
الوفاء بالمعاملة.
نعم، لو أغمض المالك عن المعاملة وأذن بالتصرف فهو يرفع الضمان
والحرمة، ولكن المفروض عدمه.
ثم لا فرق في حرمة التصرف بين علم الدافع بالفساد وجهله به، لأن علمه
بالفساد لا ينافي البناء على المعاملة تشريعا كما نرى حصوله من السارق
والغاصب والمقامر، وليس الإذن من حيث البناء على المعاملة حيثية تعليلية، ومن
الدواعي التي لا يوجب تخلفها تخلف أصل الإذن لأن عناوين العقود مختلفة،
والبيع الفاسد مغاير للعارية أو الوديعة، فما بنى عليه العاقد هو البيع ولو مع علمه
بالفساد، لا الوديعة، وإلا لم يكن وجه لضمانه.
الثانية: توهم أن حرمة التصرف فيما يضمن بصحيحه لا يلازم حرمته فيما لا
يضمن بصحيحه كالهبة أو العارية الفاسدة، فإنه كما لا ضمان فكذلك لا حرمة أيضا،
فإن رافع الضمان هو الرافع للحرمة، لأن تسليط المالك مجانا لو رفع الضمان
فكذلك يرفع الحرمة، والتفكيك بينهما لا وجه له.
وفيه ما لا يخفى من عدم الملازمة بينهما، فإن عدم الضمان لو كان من جهة
تأثير الهبة الفاسدة الملكية للمتهب لكان ملازما مع حلية تصرفه.
وأما لو كان من جهة التسليط المجاني الذي لا أثر له - إلا أن العين لو تلفت بلا
تعد وتفريط لا يضمنها المتهب - فلا يوجب جواز التصرف.
وبعبارة أخرى: مع فرض بقاء العين في ملك الواهب يدخل إمساك المتهب
في تصرف مال الغير الذي يحرم بمقتضى التوقيع الشريف (ولا يحل)، وعموم
(على اليد).
275

نعم، بناء على خروج اليد التي نشأت من تسليط المالك مجانا عن العموم
بالتخصص فلا يمكن التمسك به، لحرمة تصرف المتهب أو المستعير في المال
الموهوب أو المستعار بالهبة أو العارية الفاسدة، ولكن الظاهر شمول قوله صلى الله عليه وآله:
(ما أخذت) لكل أخذ، حقا كان أولا، فإنا وإن استظهرنا منه أن الأخذ منصرف
إلى الأخذ القهري إلا أن الأنصاف أنه انصراف بدوي، فإذا عم لكل أخذ فعدم
كونه مقتضيا للضمان في مورد التسليط المجاني لا ينافي بقاء حرمته تحت العموم،
وهذا لا ينافي ما تقدم منا من الملازمة بين الحرمة والضمان، فإن الاستكشاف في
مقام الأثبات لا يوجب التلازم في مقام الثبوت، فيمكن أن يكون التصرف حراما،
ولا يكون التلف موجبا للضمان.
وعلى أي حال، يكفي للحرمة قوله عليه السلام: (لا يجوز لأحد أن يتصرف) (1)
وقوله صلى الله عليه وآله: (لا يحل مال امرئ) (2) لأنه مع بقاء العين الموهوبة في ملك الواهب
وعدم تأثير الهبة الفاسدة في تملك المتهب يجب ردها إلى الواهب.
وبالجملة: لا إشكال في حرمة تصرف ما قبض بالعقد الفاسد ووجوب رده إلى
مالكه فورا، إنما الكلام في أن مؤنة الرد على القابض مطلقا، أو على المالك كذلك،
أو فيه تفصيل؟ وجوه، والأقوى هو الأخير.
وحاصله: أنه لو كانت المؤنة بمقدار ما يقتضيه - طبعا - رد مال الغير فهو على
القابض، ولو لم يكن كذلك بأن كانت زائدة عليه فلا يجب عليه، وذلك لأن الحكم
المجعول إذا اقتضى في طبعه مقدارا من الضرر فهو مخصص لقاعدة الضرر، ولا
أقل من عدم حكومتها عليه.
نعم، لو احتاج الرد إلى المؤنة الزائدة على المتعارف بحيث صار وجوبه بدون
جبرانه من المالك إجحافا على القابض فأدلة (لا ضرر) حاكمة عليه.
ثم لا فرق في وجوب الرد إذا كان متوقفا على المؤنة المتعارفة بين نقل
القابض المال عن مكانه إلى بلد آخر، أو لا مع وجود المالك في بلد القبض.

(1) وسائل الشيعة: ج 6 ص 377 ب 3 من أبواب الأنفال ح 6، مع اختلاف يسير.
(2) تقدم تخريجه في الصفحة: 158.
276

وأما إذا كان المقبوض في بلد القبض وانتقل المالك إلى مكان آخر فلا يجب
نقله إليه، بل يرده إلى وكيله أو الحاكم، لعدم دليل على لزوم الدفع إلى شخص
المالك في هذه الصورة.
ويشكل الأمر لو نقله القابض من بلد القبض إلى بلد آخر وانتقل المالك أيضا
إلى بلد ثالث فيحتمل أن لا يكون الرد إلى بلد القبض أو البلد الذي انتقل إليه
المالك واجبا، إلا إذا كان في بلد القبض خصوصية بأن يكون قيمته أغلى أو راغبه
أزيد أو نحو ذلك.
وعلى أي حال، الرد إلى البلد الذي انتقل إليه المالك لا دليل عليه، إلا إذا نقله
القابض أيضا إلى هذا البلد، فإنه مع مطالبته يجب دفعه إليه، لأن ماله موجود
ويستحق المطالبة فيجب رده إليه.
قوله قدس سره: (الثالث: أنه لو كان للعين المبتاعة منفعة استوفاها المشتري قبل
الرد كان عليه عوضها... إلى آخره).
ويدل عليه مضافا إلى عموم (على اليد) القواعد الكلية المستفادة من الشرع
من قاعدة الإتلاف، وحرمة التصرف في مال الغير التي تستلزم ضمانها في المقام،
ومنع شمول المال للمنفعة لا وجه له، فإنه أعم من الأعيان والمنافع، لأنه عبارة
عن أمر اعتباري عقلائي يبذل بإزائه المال.
والظاهر أنه لم يخالف أحد في المسألة إلا ابن حمزة في الوسيلة (1) ومستنده
النبوي (الخراج بالضمان) (2) وقد تقدم (3) أن مفاده بمناسبة الحكم والموضوع هو
الضمان الجعلي الفعلي الأصلي الممضى من الشارع، فالقابض في المقام وإن تعهد
المبيع - مثلا - وتقبل ضمانه بإزاء خراجه إلا أن هذا التعهد كالعدم شرعا، فليس
منافع المبيح له.
وبالجملة: كما أن النبوي لا يشمل الضمان القهري الذي حكم الشارع به من

(1) الوسيلة: البيع الفاسد ص 255.
(3) تقدم تخريجه في الصفحة: 142.
(3) تقدم في الصفحة: 143
277

دون تعهد من الضامن - كما في ضمان المغصوب إما لما استظهرناه منه من مناسبة
الحكم والموضوع، وإما للتخصيص كما يدل عليه صحيحة أبي ولاد الآتية (1) -
فكذلك لا يشمل الضمان الجعلي الذي لم يمضه الشارع كما في المقبوض بالعقد
الفاسد، لأن الشارع إذا ألغى هذا التعهد من الضامن فوجوده كعدمه، فإن الألفاظ
وإن لم توضع للمعاني الصحيحة إلا أنها لما كانت للمعاني الواقعية فلا تشمل ما كان
وجوده كعدمه، فإن الشارع إذا أخرج هذا الفرد من الضمان من المفهوم النفس
الأمري وخطأ العرف في تطبيق المفهوم على هذا المصداق فلا وجه لأن تكون
المنافع بإزاء الضمان، فلا بد من أن يرجع بالأخرة إلى قاعدة اليد. والحكم بأن
منافع العين المغصوبة للغاصب كما أفتى به أبو حنيفة. (2) فابن حمزة قدس سره في النتيجة
موافق له، فإذا فسد هذان الاحتمالان - وهو تملك الخراج في الغصب، والمقبوض
بالعقد الفاسد - انحصر في التعهد المصدري الذي أمضاه الشارع، وهذا أيضا
يحتمل وجهين:
الأول: أن يكون كل من تعهد لشئ مالكا لمنافعه وخواصه، أي مالكا لما
يستخرج منه مع بقائه كمنافع الدار ونحوها، ومالكا لما يستخرج منه مع تلفه:
كخواص العقاقير ونحو ذلك، ومقتضى ذلك أن تكون منافع المبيع للبائع لو اشترط
ضمانه عليه بعد قبض المشتري. وكذا لو أعاره بشرط الضمان تكون منافعه ملكا
للمستعير، وكذا في عارية الذهب والفضة.
والثاني: أن يكون منشأ ضمان العين والداعي عليه هو تملك المنافع، فينحصر
في باب البيع ونحوه.
وإذا احتمل كل منهما تسقط الرواية عن الاستدلال بها، ولا تكون دليلا لتملك
البائع منافع البيع وتملك المستعير منفعة العين المعارة في مورد شرط الضمان، بل
ظاهرها هو المعنى الأخير بقرينة الباء الظاهرة: إما في السببية أو المقابلة،
ومقتضاهما أن تكون السببية والمقابلة من الطرفين، أي تملك المنافع صار داعيا

(1) تقدمت في الصفحة: 231 - 232 وستأتي في الصفحة: 280.
(2) تقدم في الصفحة: 231.
278

للضمان، والضمان صار سببا لكون المنافع له، كما في كل علة غائية فإنها داعية
لإيجاد الفعل، والفعل سبب لترتبها عليه خارجا.
وبالجملة: قوله صلى الله عليه وآله: (الخراج بالضمان) (1) ظاهر في أن التضمين كما صار
سببا لأن يكون الخراج له فكذلك لحاظ الخراج صار سببا وداعيا لأن يتعهد
المال، وهذا يختص بضمان المشتري المبيع، فإن المقصود الأصلي من ضمان
المبيع وجعل الثمن بإزائه هو: أن ينتفع به، بل مناط مالية الأموال إنما هو لمنافعها
وخواصها.
ومما ذكرنا من أن الغرض الأصلي إنما هو استفادة المنفعة والخاصية يظهر أن
العارية المضمونة وشرط ضمان المبيع على البائع ونحوهما خارج عن قوله صلى الله عليه وآله:
(الخراج بالضمان).
أما العارية فلأن الضمان ليس بإزاء المنفعة، ولا الانتفاع، فإن المعير لا يضمن
المستعير في مقابل المنفعة والانتفاع، بل ينتفع المستعير مجانا، وإنما يضمنه خوفا
من تلفه، وليس المستعير ضامنا على كل تقدير، ولذا لو لم يتلف لا ضمان عليه.
وهكذا في ضمان البائع المبيع إذا تلف عند المشتري.
وقاعدة الخراج بالضمان ظاهرها أن الضمان فعلي، وهو يناسب باب البيع،
فإن المشتري ضامن للمبيع، والبائع ضامن للثمن، فلهما منافعهما على ما هو
المرتكز من أن (من عليه الغرم فله الغنم)، وهذا المعنى يستفاد أيضا من
قوله عليه السلام: (ألا ترى أنها لو احترقت كانت من مال المشتري)؟ (2) في جواب من
سأل عن منفعة المبيع في زمان خيار المشتري، أي كون المنافع له إنما هو بإزاء
تلف المبيع في ملكه، فإذا التزم بكون المبيع تالفا في ملكه ناسب أن يكون هذا
الالتزام بإزاء ما قصده من تملك المنافع.

(1) تقدم في الصفحة: 142.
(2) من لا يحضره الفقيه: ج 3 ص 205 ح 3771، عنه وسائل الشيعة: ج 12 ص 355 ب 8 من
أبواب الخيار ح 1.
279

ويدل عليه أيضا ما ورد في الرهن: فعن إسحاق بن عمار (قلت لأبي إبراهيم
عن الرجل يرهن الغلام أو الدار فتصيبه الآفة على من يكون؟ قال عليه السلام: على
مولاه، ثم قال: أرأيت لو قتل قتيلا على من يكون؟ قلت: هو في عنق العبد،
قال عليه السلام: ألا ترى فلم يذهب مال هذا؟ ثم قال عليه السلام: أرأيت لو كان ثمنه مائة
دينار فزاد وبلغ مائتي دينار لمن كأن يكون؟ قلت: لمولاه، قال عليه السلام: كذلك يكون
عليه ما يكون له) (1).
وبالجملة: استفادة أن (من عليه الغرم فله الغنم) من عدة من الأخبار لا
إشكال فيه، ولكن بعد ما أفاده عليه السلام في صحيحة أبي ولاد (2) ردا على أبي حنيفة
أنه ليس كل ضامن عين مالكا لمنفعتها، فلا بد من تخصيص ما يستفاد منه العموم
بمورد الضمان المصدري الذي أمضاه الشارع، بل بالقرينة الارتكازية ومناسبة
الحكم مع الموضوع يستفاد اختصاص قوله صلى الله عليه وآله: (الخراج بالضمان) (3 المبيع، والثمن على المشتري والبائع فلا عموم له من أول الأمر.
وعلى أي حال، ما أفاده ابن حمزة (4) لا دليل عليه، فالأقوى هو الضمان
لقاعدة الإتلاف، واليد، وقوله صلى الله عليه وآله: (لا يحل) (5)، وقوله عليه السلام: (لا يجوز لأحد أن
يتصرف في مال غيره إلا بأذنه) (6).
قوله قدس سره: (وأما المنفعة الفائتة بغير استيفاء فالمشهور فيها أيضا الضمان...
إلى آخره).
لا يخفى أن المصنف قدس سره في ذيل هذا العنوان تارة حكم بالضمان، وأخرى

(1) الكافي: ج 5 ص 234 ح 10، عنه الوسائل: ج 13 ص 126 ب 5 من أبواب الرهن ح 6.
(2) الكافي: ج 5 ص 290 ح 6، عنه الوسائل: ج 17 ص 313 ب 7 من أبواب الغصب ح 1.
) بضمان
(3) سنن ابن ماجة: ج 2 ص 754 ح 2243، عوالي اللئالي: ج 1 ص 219 ح 89.
(4) الوسيلة: البيع الفاسد ص 255.
(5) مسند ابن حنبل: ج 5 ص 72، وسائل الشيعة: ج 3 ص 424 ب 3 من أبواب مكان المصلي ح 1.
(6) كمال الدين: ج 2 ص 521 ح 49، عنه وسائل الشيعة: ج 6 ص 376 - 377 ب 3 من
أبواب الأنفال ح 6.
280

بعدمه، لا سيما مع علم الدافع بالفساد. وثالثة توقف في حكم المسألة. ورابعة قوى
الضمان تبعا للعلامة، حيث اختاره في التذكرة (1) ناسبا له إلى علمائنا أجمع،
والسرائر (2) لدعواه الاتفاق عليه.
فأورد عليه السيد الطباطبائي قدس سره في الحاشية بأنه لو فرضنا عدم تمامية
الأدلة الدالة على الضمان فلا وجه للقول به اعتمادا على هذين الإجماعين
المنقولين (3).
ولكنه لا يخفى أن اختياره الضمان أخيرا ليس لاعتماده على الاجماع
المنقول، مع أنه قدس سره منكر لحجيته في الأصول، بل اعتمد على نقل الاجماع من
جهة كشف اتفاق الأعلام على شمول قاعدة اليد والاحترام للمنافع.
وكيف كان، الكلام في المنفعة الفائتة تحت اليد يقع في مقامين:
الأول: في إثبات مقتضى الضمان وعدمه.
والثاني: في تحقق رافعه وعدمه.
أما ثبوت المقتضى فيكفي له عموم (على اليد ما أخذت)، والمنع عن صدق
الأخذ بالنسبة إلى المنافع لا وجه له، لأن أخذها هو قبضها، وقبضها يتحقق بقبض
العين فهي مأخوذة بتبع أخذ العين، وليس الأخذ بمعنى القبض باليد، بل بمعنى
الاستيلاء، والتفكيك بين الأخذ والقبض لا وجه له.
نعم، قد يكفي التخلية في القبض، ولكن لا بمعنى أنها قبض حقيقة، بل بمعنى
أنها هو حكما، وعلى فرض كونها قبضا فهي أخذ أيضا.
وأما الرافع فتارة يتكلم مطلقا، وأخرى في مورد العلم بالفساد.
أما تحققه مطلقا فمدركه ما لا يضمن بصحيحه، وفيه: أن القاعدة أصلا
وعكسا تجري في مصب العقد، والمنافع خارجة عنه، فيرجع فيها إلى القواعد

(1) تذكرة الفقهاء: كتاب البيع ج 1 ص 495 س 23.
(2) السرائر: باب الغصب ج 2 ص 490.
(3) حاشية المكاسب: كتاب البيع ص 96 س 20 وما بعده.
281

الأخرى. وكونها تابعة لملك العين إنما هو لحكم شرعي تابع لصحة العقد، لا مما
أقدم عليه العاقد بالمجانية، وإلا لاقتضى عدم الضمان في مورد الاستيفاء أيضا،
لأن التسليط المجاني كما يرفع الضمان الناشئ عن اليد كذلك يرفع الضمان
الناشئ عن الإتلاف.
وأما تحققه في مورد العلم بالفساد فتقريبه أن البائع حيث يعلم بفساد البيع
فهو المقدم على استيلاء المشتري على المنافع مجانا.
وفيه أولا: أنه يلزم عدم الضمان في المستوفاة أيضا.
وثانيا: قد تقدم: أن العلم بالفساد لا ينافي البناء على الصحة تشريعا،
والتسليط الرافع للضمان هو التسليط على مال نفس الآذن، لا التسليم وفاء
بالمعاملة.
وثالثا: أنه لا نظر للمسلط في المقام إلى المنافع، لأنه لو كان متعلق العقد هو
المنفعة بحيث كان الاستيلاء على العين من قبل المالك مقدميا لكان للبحث: عن
أنه سلطه على المنافع مجانا مجال، فإن التسليط على المنافع لو كان على وجه
التعويض فهو إجارة، ولو كان على وجه المجانية فهو عارية.
وأما لو كان العين ملحوظا استقلاليا لا مقدميا كما في محل البحث فلا مجال
للبحث في تحقق الضمان وعدمه، لأنه لو تحقق التضمين فهو بيع، وإلا فهبة،
فالتسليط على المنافع لا موضوع له في المقام حتى يبحث عن أنه مع العوض أو
مجاني، فالحق هو الضمان مطلقا.
وعلى أي حال، لا ينبغي عد الأقوال في المسألة خمسة، فإن التوقف في
الحكم مطلقا أو مع العلم بالفساد ليس قولا.
قوله قدس سره: (الرابع: إذا تلف المبيع فإن كان مثليا وجب مثله... إلى آخره).
لا إشكال في أن جميع ما يتعلق به الضمان الذي منه المقبوض بالعقد الفاسد
إذا تلف، فإن كان مثليا وجب على الضامن مثله، وإن كان قيميا يجب عليه قيمته،
إلا في المضمون بالعقد الصحيح فإن ضمانه بالمسمى على تفصيل تقدم.
282

إنما الإشكال في أن دليل الضمان بالمثل في المثلي والقيمة في القيمي هل هو
الاجماع، أو أدلة نفس الضمانات من قاعدة اليد وغيرها، والآية الشريفة، وهي
قوله تعالى: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) (1)؟
فنقول: أما الاجماع فالظاهر أن مدرك المجمعين هو أدلة الضمانات، ولا
يكشف عن قول المعصوم، ولا عن دليل معتبر سواها، مع أنه لم ينعقد على مفهوم
مبين حتى يكون النزاع في مقام الشك في أن الضمان بالمثل أو القيمة في الصغرى
وفي تطبيق المفهوم المبين على المشكوك، بل انعقد على مفهوم مجمل.
وأما الآية الشريفة: فاستفادة المعتدى به منها في غاية الإشكال، فإن الظاهر
كونها ناظرة إلى اعتبار المماثلة في مقدار الاعتداء، فالعمدة نفس أدلة الضمانات،
وهي وإن لم تكن متكفلة بالدلالة المطابقية لكيفية الضمان إلا أنها تدل عليها بدلالة
الالتزام، فإن ظاهر قوله: (على اليد ما أخذت حتى تؤدي) (2) بعد استفادة الضمان
منه لو تلف المأخوذ أن أداء المأخوذ إنما هو بما يعد أداء له عرفا وعادة. ولا شبهة
أن المرتكز في الأذهان أن أداء المثلي بالمثل والقيمي بالقيمة، فإن الضامن لو
أداهما فكأنه لم يتلف من المضمون له شيئا من أمواله، ويصدق أنه هو الذي أخذ
منه.
وبالجملة: مقتضى النبوي أن كل ما دخل تحت اليد يجب على الضامن رده،
فما دام العين موجودة تدخل بخصوصياتها النوعية والشخصية والمالية تحت
الضمان، وإذا تلفت لا بد من رد عوضها، ويعتبر في وجوب رد عوضها شروط
ثلاثة:
الأول: أن يكون التالف مما يتمول عرفا وشرعا، فمثل الخنفساء والخمر وإن
وجب ردهما حين بقائهما لجهة حق الاختصاص الثابت لمن أخذ منه إلا أنه بعد
تلفهما لا يتعلق بهما ضمان.
الثاني: أن يتعلق الضمان بما يمكن عقلا وعادة الخروج عن عهدته، أي في

(1) البقرة: 194.
(2) تقدم تخريجه في الصفحة: 64.
283

مقام الأداء لا بد أن يكون ما يؤديه تحت قدرة الضامن عقلا وعادة، فالخصوصية
العينية ساقطة حين الأداء، وهكذا الخصوصية النوعية إذا لم تكن مبذولة، فلو لم
يجد مثل التالف إلا عند من لا يبيعه إلا بثمن كثير في العادة أو عند من يحتاج
الشراء منه إلى مصرف كثير فلا يجب رده.
الثالث: أن يكون البدل هو المبدل عرفا وعادة بحيث يقال بعد أدائه: إن
التالف كأن لم يتلف، وعلى هذا، ففي المثلي المثل هو المعين، وفي القيمي القيمة،
لأن بردهما كأن لم يتلف من المضمون له شيئا.
وأما كون المدار على الأقرب إلى التالف فلا وجه له، لأنه مضافا إلى عدم
ميزان مضبوط له لا دليل على اعتباره، إلا أن يكون المقصود كون المثل أقرب إلى
التالف مطلقا حتى في القيمي.
وعلى أي حال مقتضى الشرط الثاني أن الخصوصية العينية لا يمكن أن
تدخل تحت ضمان الضامن، وإلا يقتضي تلفها سقوط الضمان، فإذا لم تكن
بخصوصيتها تحت عهدة الضامن إلا عند وجودها فلا محالة متعلق الضمان هو ما
يعد أنه هو، وهو في المثلي المثل، وفي القيمي القيمة، إلا على ما سيجئ: من أن
الأصل هو الضمان بالمثل مطلقا إلا إذا قام الاجماع على كونه بالقيمة، فتدبر جيدا.
ثم لا يخفى أن التعاريف المذكورة للمثلي والقيمي كلها تقريبية، ولم نظفر على
تعريف جامع مانع كما يظهر بالتأمل فيها، والأجود منها ما يستفاد من تعريف
المصنف قدس سره بأن المثلي ما لا يتفاوت أفراد نوعه أو صنفه، ولا يتميز كل فرد منه
من الآخر بحيث لو امتزج الفردان منه كمنين من الحنطة الخاصة الكذائية من
مالكين حصل الشركة القهرية.
بل لا يبعد أن يقال: كل ما صح المسلم فيه فهو مثلي، والقيمي ما يتفاوت
صنفا، ولا يشترك فرد مع آخر في جميع الصفات، ولا يصح السلم فيه بحيث يتميز
المسلم فيه.
ثم المتيقن من المثلي بحيث لم يكن للضامن إلزام المالك بالقيمة ما كان له
284

قيود أربعة:
الأول: أن يكون تساوي الصفات والآثار بحسب الخلقة الإلهية كالحبوبات.
وأما ما كان متساويا بحسب الصناعة البشرية فهو محل خلاف.
فبعضهم (1) عد المسكوكات قيميا، ولعل وجهه أن المادة والهيئة وجدتا
بوجود واحد في المماثل بحسب الخلقة الإلهية، وكلاهما ملك لشخص واحد،
بخلاف المماثل في الصنع بالمكائن فإن المسكوكات وكذلك الأقمشة المصنوعة
في هذه الأزمنة وإن لم يكن تفاوت بين أفرادها أصلا إلا أنه يمكن أن يكون
مادته من شخص وصوغه أو نسجه من آخر، فإذا تلف جنكل الزهور أو الليرة فرد
طاقة جنكل (2) أخرى أو ليرة أخرى لا وجه له، لأن القطن أو الذهب من شخص
والنسج أو الصوغ من آخر، وهذا وإن لم يكن وجها لكون الليرة ونحوها قيميا -
لأن على الضامن رد ليرة أخرى وتصير بين مالك المادة والهيئة شركة كما كانت
بينهما بالنسبة إلى التالف - إلا أنه على أي حال ليس المتساوي في الصفات
بحسب الجعل الخلقي والصنع العرضي مثليا على جميع الأقوال، فالمتيقن هو
المتساوي بحسب الخلقة الأصلية، بل مقتضى ما سيجئ في تعذر المثل من أن
صفة المثلية لا تسقط بالإسقاط أن يكون المثلي بالصنع والعمل قيميا، لأنه لا
إشكال في أن العمل الذي به صار الشئ مثليا قابل للإسقاط فيكشف ذلك عن أن
مثل هذه الأشياء مركبة من أمرين: المادة، والعمل، ونفس المادة يمكن أن تكون
مثلية أو قيمية، والعمل يمكن أن يكون من صاحب المادة، وأن يكون من غيره،
سواء أكان هو القابض أم غيره، فإذا اشترك القابض والمقبوض منه في الليرة
- مثلا - قبل العقد والقبض ثم قبضت بالعقد الفاسد فلا محالة يلاحظ ضمان ما أخذه
الضامن، ولا معنى لتعلق الضمان بالمثل مطلقا.
الثاني: أن لا يتغير بالبقاء أو بتأثير من الهواء: كالخضرويات والفواكه، وكل ما
يفسد من يومه فإنه أيضا محل خلاف في كونه مثليا أو قيميا.

(1) كالشيخ في المبسوط: كتاب البيوع ج 2 ص 88.
(2) كذا في الأصل.
285

فقد حكي عن الشيخ في المبسوط (1): كون الرطب والعنب قيميا.
وحكى المصنف (2) عن بعض من قارب عصره أنهما مثليان. فالمتيقن من
المثلي بحيث لا يكون فيه اختلاف غير هذا.
الثالث: أن يكون مماثله كثيرا مبذولا، لما ظهر أن ما لا يمكن رده عادة
لا يمكن أن يستقر في عهدة الضامن، فمجرد صدق المثلي عليه لغة لا يوجب أن
يكون الضامن ضامنا لمثله.
الرابع: أن يكون تماثل الصفات موجبا لتماثل القيمة وتقاربها، وأما لو كان
شئ مماثلا لشئ آخر في جميع الصفات والآثار، ولكنهما متفاوتان في القيمة
جدا، فهذا ليس مثلا لذاك.
وعلى هذا، فالمتيقن من المثلي الحبوبات، ولكنه لا بحسب الجنس أو النوع،
بل بحسب الصنف. كما أن المتيقن من القيمي الحيوانات.
وما قيل: إن الجواري والعبيد يمكن أن تكونا مثلية (3) لا وجه له، لأنه على
فرض أن تكون جارية متقاربة الصفة مع جارية أخرى، إلا أن المدار في المثلي
على التساوي في الصفة لا التقارب، مع أن مقتضى الحكمة الإلهية أن لا يكون
حيوان مماثلا لحيوان، ولا متقاربا معه بحيث يعد أنه هو، لما يلزم فيه من
المحاذير الكثيرة كما لا يخفى.
كما أن عد أصول المعادن من المثلي لا وجه له، فإن الحديد والنحاس
ونحوهما وإن كانت مثلية ظاهرا إلا أن التفاوت بين أصنافها في اللين والخشونة
ونحوهما يلحقها بالقيمي.
ثم إنه لو شك في كون الشئ مثليا أو قيميا فهل الأصل هو الضمان بالمثل أو
القيمة، أو تخيير الضامن لأصالة براءة ذمته عما زاد على ما يختاره، أو تخيير
المالك لأصالة اشتغال ذمة الضامن، أو الرجوع إلى القرعة، أو الصلح القهري؟

(1) المبسوط: كتاب الغصب ج 3 ص 99.
(2) المكاسب: كتاب البيع ص 106 س 10.
(3) لم نعثر على قائله.
286

وجوه مبنية على دلالة (على اليد) على كيفية الضمان، أو أن المقام من دوران
الأمر بين المتباينين أو الأقل والأكثر.
ثم على الأخير هل الدوران بينهما في مقام الاشتغال وأصل ثبوت التكليف
حتى يكون المرجع هو البراءة، أو مقام الخروج عن العهدة حتى يكون المرجع هو
الاحتياط؟
قد يقال: إن قوله صلى الله عليه وآله: (على اليد ما أخذت حتى تؤدي) (1) يدل على الضمان
بالمثل مطلقا خرج منه ما كان قيميا إجماعا وبقي الباقي، فإن الظاهر أن ما يستقر
في الذمة بمقتضى الظرف المستقر هو نفس المأخوذ بجميع خصوصياته العينية
والنوعية والمالية، فإذا تلف ولم يمكن أداء نفسه بنفسه بقيت خصوصيته النوعية
والمالية.
وقد يقال بحذف المضاف، والتقدير: على اليد خسارة ما أخذت ودركه
وغرامته، لأنه لا وجه لتعلق الضمان بنفس العين، فإنها ما دامت موجودة لا يتعلق
بها إلا الحكم التكليفي، وهو وجوب ردها، فالحكم الوضعي - وهو استقرارها
على العهدة - إنما هو عند تلفها، فمعنى (على اليد) أنه لو تلف المأخوذ فخسارته
على الآخذ، وهو لا يقتضي إلا قيمة الشئ، بل لو لم نقل بحذف المضاف أيضا
نقول بأنه لا وجه لدخول الصفات النوعية أو الصنفية تحت الضمان حتى يقتضي
كون الأصل في المضمون هو المثلية، لأن الصفة لو لم توجب تفاوتا في المالية
فهي تابعة للعين، ومجرد اقتضائها تفاوت الرغبات لا أثر لها، فإذا كانت تابعة
للعين فكما تسقط شخص العين عن الذمة بتلفها فكذا صفاتها النوعية الغير
الموجبة للتفاوت في المالية.
وبالجملة: لا يستقر على العهدة إلا ضمان ما يوجب تفاوت القيمة، والمثل
ليس قيمته مساويا لقيمة التالف عند التلف دائما أو غالبا حتى يتعلق بالذمة به،
وكونه أقرب إلى التالف لا كبرى له، لأنه لا عبرة بالأقربية.

(1) تقدم في الصفحة: 64.
287

ولكن الحق أن قاعدة اليد غير متعرضة لبيان أن المضمون هو المثل مطلقا إلا
ما خرج بالاجماع، ولا أنه هو القيمة، لأنه يمكن استفادة المثلية والقيمية كليهما
على كل من صورتي تقدير المضاف وعدمه، فإنه لو قيل: إن التقدير هو خسارة ما
أخذت على اليد أمكن أن يقال: إن الخسارة التي هي بمعنى الغرامة والدرك هي
في كل شئ بحسبه، ففي القيمي هو القيمة، وفي المثلي هو المثل.
ولو قيل: إن نفس (ما أخذت) على العهدة أمكن أن يقال: إن هذا المعنى لا
يقتضي أن يكون الأصل هو المثل وهو في الذمة، لأنه ليس استقرار المأخوذ في
العهدة إلا عبارة عن استقرار شخص العين، وأما صفاتها الموجودة فيها وكذلك
ماليتها فليست في عرض شخص العين مما يتعلق به الضمان بحيث إذا تلفت
العينية بقيت الصفة والمالية.
وبالجملة: لا تدل قاعدة اليد إلا على لزوم أداء المأخوذ وضعا وتكليفا، وإذا
تلف فكل ما صدق أنه أداء له هو الذي يتعلق به الضمان، وهو يختلف باختلاف
المثلي والقيمي، ففي مورد الشك في كون الشئ مثليا أو قيميا فالأصل اللفظي لم
يقم على كون الشئ مثليا إلا ما خرج، ولا على كونه قيميا إلا ما خرج، فلا بد من
الرجوع إلى الأصول العملية. ولا شبهة أنه لو قلنا: بأن القيمي والمثلي من
المتباينين فالأصل هو تخيير الضامن، لأنه يعلم إجمالا باشتغال ذمته بواحد من
المثل والقيمة.
وبعد ما قام الاجماع على عدم وجوب الموافقة القطعية في الماليات انتهى
الأمر إلى الموافقة الاحتمالية، وهي تحصل بأداء كل ما أراد، واشتغال ذمته بأحد
الخصوصيتين التي اختارها المالك غير معلوم، فالأصل هو البراءة.
ولو قلنا بأنهما من الأقل والأكثر بتقريب أن القيمة ليست لها خصوصية
وجودية مثل المثلي، بل هي عبارة عن المالية المشتركة بين كون العين مثلية
وقيمية، فالمقام من دوران الأمر بين الأقل والأكثر في مقام الاشتغال، وأصل تعلق
الخصوصية في الذمة والمرجع هو البراءة. فعلى كلا التقديرين التخيير للضامن.
288

هذا بناء على ما ذهب إليه المشهور من أن مقتضى الضمان المستفاد من الآية
الشريفة (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) (1) ومقتضى
قوله صلى الله عليه وآله: (على اليد ما أخذت) (2) هو المثلية في المثلي والقيمية في القيمي.
وهكذا مقتضى الاجماع المدعى (3) في المقام.
ولو منعنا عن ذلك وقلنا: إن مقتضى الآية والنبوي هو: اعتبار المماثلة في
جميع الخصوصيات، والأقرب إلى التالف هو المثل مطلقا، والاجماع على ضمان
القيمي بالقيمة على تقدير تحققه لا يجدي بالنسبة إلى ما لم يجمعوا على كونه
قيميا، لأن المقام من دوران المخصص المنفصل بين الأقل والأكثر فالمرجع عند
الشك هو عموم العام، كما سلك هذا المسلك المصنف (4) قدس سره.
أو قلنا: بأن الآية والنبوي مجملان ولكن مقتضى الاستصحاب هو تعلق
الخصوصية الصنفية - أي الصفات بالذمة - ونشك في مقام الفراغ بكفاية القيمة
فالأصل هو تخيير المالك مطلقا.
قلنا: بأن القيمي والمثلي متباينان كما هو الحق، فإن النسبة بينهما نسبة
الدراهم والدينار مع العروض، أو قلنا بأنهما من قبيل الأقل والأكثر. وتوضيح ذلك
في ضمن أمور:
الأول: أن المشهور جواز المصالحة على التالف ولو كان قيميا بأي مقدار من
الذهب والفضة. ولو كان مجرد تلف القيمي موجبا لانتقاله إلى القيمة للزم الربا فيما
إذا كان الذهب أزيد أو أقل وزنا من القيمة.
الثاني: عدم اعتبار تعلق الضمان بما يمكن أن يخرج عن عهدته عادة، بل
يمكن أن يتعلق في الذمة ما لا يمكن أداؤه فعلا، غاية الأمر أنه يسقط الخطاب
التكليفي بوجوب الأداء. وأما الوضعي فيمكن أن يكون في الذمة مالا يقدر على

(1) مرت في الصفحة: 283.
(2) تقدم في الصفحة: 64.
(3) كما في الخلاف: ج 3 ص 402 - 403 م 11.
(4) المكاسب: كتاب البيع ص 106 س 19 وما بعده.
289

أدائه كما في المثلي المتعذر أداؤه.
وكما في العين إذا غصبت أو أغرقت فإن وجوب رد المثل والعين في الصورتين
ساقط، لأن الخطاب بغير المقدور قبيح. وأما بقاؤها في ذمة الضامن فلا مانع منه.
وبعبارة واضحة: مقتضى (على اليد ما أخذت حتى تؤدي) (1) أن يستقر في
عهدة الضامن نفس العين ما دامت موجودة، فإن أداءها بأداء الخصوصية العينية،
وأما إذا تلفت فلا يمكن أن يكون شخص العين في العهدة، لا وضعا ولا تكليفا. أما
تكليفا فواضح. وأما وضعا: فلأن الذمة وإن كانت وسيعة إلا أن ما يدخل فيها هو
الكليات دون الأشخاص، فإن الاعتبار العرفي لا يساعد على دخول ما يستحيل
أداؤه أبدا في الذمة، بل مقتضى كون شخص العين بشخصيتها في الذمة سقوط
الضمان فلا محالة عند التلف ليس خصوص العين في الذمة، إلا أن سقوط شخصية
العين لا يقتضي أن تكون المالية المتقدرة بقيمة خاصة في الذمة، بل يمكن أن
يكون غير شخص العين من سائر الصفات في ذمة الضامن، ومجرد عدم وجود
هذه الصفات فعلا لا يقتضي سقوطها والانتقال إلى القيمة، غاية الأمر حين مطالبة
المالك تقوم الخصوصية أيضا، وفي مقام الوفاء يؤدي إما من الجنس أو من غير
الجنس، بل لو لم نقل بأن شخص الجارية التي تلفت - مثلا - عند القابض في ذمته
إلا أن تقديرها بمجرد التلف بالقيمة لا وجه له، بل تبقى في ذمته غير متقدرة
بمقدار من القيمة.
وبعبارة أخرى: تتعلق بالذمة مالية المال غير متقدرة بالقيمة. ومالية الشئ
التي يبذل بإزائها المال هي في الجارية عبارة عما يخدم المالك. وفي الحنطة
عبارة عما يشبعه، وفي الثوب عما يستره ونحو ذلك، وهي قابلة لأن يتعلق بها
الضمان، وتكون هي في الذمة.
نعم، لو طالب المالك يقوم بقيمة يوم المطالبة، وتدفع بدلا عما في الذمة.

(1) تقدم في الصفحة: 64.
290

الثالث: أن قوله صلى الله عليه وآله: (على اليد ما أخذت حتى تؤدي) (1) وإن كان يقتضي
استقرار المثل في الذمة في المثلي، والقيمة في القيمي على ما هو المرتكز في
الذهن، إلا أن القيمي والمثلي حيث إنهما مجملان والشك في كون الشئ مثليا أو
قيميا من الشبهة المفهومية، فلا بد من الرجوع إلى الأصل العملي، والاستصحاب
يقتضي كون التخيير للمالك، وذلك لأن القابض بعد أن وضع يده على المال جاء
في عهدته جميع ما له دخل في مالية الشئ تبعا لضمان العين، غاية الأمر سقطت
الخصوصية الشخصية. وأما وصفه فلم يعلم سقوطه بالتلف، إلا إذا أحرز كونه قيميا
بناء على ثبوت الاجماع على كون القيمي مضمونا بالقيمة فيستصحب اشتغال
الذمة.
بالجملة: الأصل هو المثلية إما للاستصحاب أو لما أفاده المصنف: من أنه
مقتضى الأدلة الاجتهادية، خرج منه ما علم أنه قيمي، بل بالتأمل فيما ذكرنا ظهر
أن في القيمي أيضا نفس المال هو بنفسه في الذمة ويقوم يوم المطالبة. وسيجئ
في الأقوال في القيميات ما يوضح ذلك.
وعلى أي حال، لا تصل النوبة إلى القرعة، لأنها جارية في خصوص
الشبهات الموضوعية في بعض الموارد، ولا إلى الصلح القهري، لأن مورده ما إذا
لم يمكن فصل الخصومة بغيره.
قوله قدس سره: (الخامس: ذكر في القواعد: أنه لو لم يوجد المثل إلا بأكثر من ثمن
المثل ففي وجوب الشراء تردد (2)).
لا يخفى أن مقصود العلامة ليس من وجود المثل بأكثر من ثمنه وجوده كذلك
بحسب القيمة السوقية، بل وجوده غير مبذول، وعند من لا يبيعه إلا بثمن غال.
وعلى هذا، فوجوب شراء المثل في غاية الإشكال، بل لا وجه له، لما عرفت: أن
الشئ إذا لم يكن مثله كثيرا مبذولا فهو قيمي، هذا من غير فرق بين التعذر

(1) تقدم آنفا.
(2) قواعد الأحكام: كتاب الغصب ج 1 ص 204 س 8.
291

الطارئ أو البدوي، أي الذي أوجب كون الشئ قيميا من أول الأمر هو الذي
أوجب سقوط المثل عن الذمة ما دام التعذر، فكون العين مثليا من أول الأمر لا
يوجب أن يجب شراء مثله ولو ببذل مال كثير، بل يسقط بالتعذر.
وبالجملة: وجوده عند من لا يبيعه إلا بأضعاف قيمته في حكم التعذر،
ومقتضى قاعدة الضرر عدم وجوب شرائه على الضامن.
وأما لو كان كثيرا مبذولا ولكن زادت قيمته السوقية فيجب شراؤه، وهذا
الضرر الوارد عليه لا يكون داخلا في قاعدة لا ضرر، فإنه يعتبر في دخول الضرر
في الضرر المنفي أن لا يكون طبع الحكم مقتضيا للضرر، فإن ترقي القيمة وتنزلها
على مساق واحد وكل واحد منهما يقتضي ضررا على شخص، فكما أنه لو تنزل
قيمة المثل ليس للمالك مطالبة قيمة التالف أو قيمة المثل قبل تنزل قيمته فكذلك لو
ترقى القيمة ليس للضامن إلزام المالك لقيمة المثل قبل الترقي.
وحاصل الكلام: أن المثلي لا ينقلب قيميا بزيادة قيمته أو تنزله. نعم، لو سقط
عن المالية كالماء على الشاطئ والثلج في الشتاء فكون المالك ملزما بقبول المثل،
مع أنه دفع إلى الضامن الماء في المفازة والثلج في الصيف ففي غاية الإشكال،
فإن مقتضى كون الشئ مثليا أن لا يجب إلا رد مثله، سقط عن المالية أم لا.
ومقتضى كون الزمان والمكان دخيلا في مالية المال أن يكون خصوصية
الزمان والمكان في عهدة الضامن، إلا أن يقال: يرجع خصوصية الزمان والمكان
بالأخرة إلى القيمة السوقية، لأن تنزل القيمة وترقيها ينشئان عن كثرة الوجود وقلة
الطالب، وعن عزته وكثرة الطالب، فإن الثلج في مفازة الحجاز لو لم يكن له طالب
أو كان كثيرا يكون رخيصا، ولو كان في الشتاء قليل الوجود كثير الطالب يكون
غالبا.
ثم لو قلنا بضمان خصوصية الزمان والمكان فيتحقق موضوع لنزاع آخر،
وهو: أنه هل المدار في الضمان قيمة الماء في المفازة أو قيمته قبيل سقوطه عن
292

المالية؟ وسيجئ ما هو الحق.
قوله قدس سره: (السادس: لو تعذر المثل في المثلي فمقتضى القاعدة وجوب دفع
القيمة مع مطالبة المالك... إلى آخره).
تنقيح المقام يستدعي رسم أمور:
الأول: في بيان ميزان التعذر، فنقول قد أشرنا آنفا أن الذي يوجب في ضمان
العين عند تلفها استقرار القيمة في الذمة، لا المثل هو الميزان للتعذر الطارئ
للمثل.
وبعبارة أخرى: عدم وجود المماثل للعين بحسب الخلقة الإلهية أو مطلقا
المقتضي لاستقرار قيمة العين في الذمة عند تلفها هو الموجب لصدق تعذر المثل،
ولاستقرار القيمة عند تعذر مثلها بناء على الانقلاب فالقيمي هو الذي لا يوجد
مثله أصلا كالحيوانات، أو يوجد ولكن كان عزيز الوجود غير مبذول بحيث صار
عزة وجوده باعثا لأن يعد مثله عديم المثل، لأن ما لا يمكن أداؤه ولو عادة لا
يمكن أن يجب رده إلى المالك، فإذا تعذر المثل بهذا المقدار فهو ميزان للتعذر في
المقام. فالذي يوجد في البلاد النائية أو عند ملك من الملوك لا يعد مثلا له، فميزان
التعذر في المقام هو التعذر في باب القرض والسلم. وعلى هذا، فلا يجب عند
إعوازه في البلد وما حوله مما ينقل منه إليه عادة تحصيله من الأماكن التي لم تجر
العادة بنقل ما فيها من الحبوب والأدهان إليه.
كما أنه لو كان لنفس العين مثل في غاية العزة أو في بلاد بعيدة لم نقل
بوجوب رد مثلها عند تلفها.
نعم، لو شك في التعذر إما للشك في وجود المثل بعد ما كان موجودا، أو للشك
في إلحاق هذا المقدار من العزة بالقيمي مع وجود المثل ابتداء فمقتضى
الاستصحاب بقاء المثل في الذمة بلا إشكال، وهذا بخلاف الشك في باب ضمان
العين في أنه مثلي أو قيمي، فإنه لا أصل يعين كون الذمة مشغولة بالمثل. كما أنه
مع العلم تكون العين مثلية لو تعذر مثلها ابتداء وشك في أن هذا التعذر يوجب أن
293

يكون المثل قيميا أم لا؟ فلا أصل.
الثاني: هل التعذر موجب لانقلاب المثل أو العين إلى القيمة، أو يبقى في
الذمة إلى حين مطالبة المالك، أو إلى رد الضامن؟ وجهان، والأقوى عدم
الانقلاب، فإن مجرد عدم وجود المثل لا يوجب أن ينتقل إلى القيمة، والحكم
كذلك في باب السلم والقرض، فليس للضامن إلزام المالك بأخذ القيمة.
ولا يقال: ما لا يمكن أداؤه لا يمكن أن يثبت في الذمة، ولذا تسقط
الخصوصية العينية بتلف العين، وينتقل ما في الذمة إلى المثل أو القيمة.
لأنا نقول: فرق بين تلف العين وإعواز المثل من جهتين:
الأولى: أن الخصوصية العينية لا يمكن أن تدخل في الذمة، بل الصفات
والكليات قابلة لأن تدخل في الذمة.
نعم، الشخص يدخل تحت العهدة بمعنى أنه ما دام موجودا فعلى الضامن
رده، فدليل اليد يقتضي ضمان الجامع بين العين والبدل، فإن أداء المضمون إنما هو
بأداء الأعم من أداء شخصه وبدله، فسقوط العين عن الذمة تكليفا ووضعا لا
يقتضي سقوط المثل في المثلي المتعذر مثله كذلك، فإن الصفات كالكلي قابلة لأن
تبقى في ذمة الضامن.
والثانية: أن حكم تعذر المثل حكم تعذر العين، لا حكم تلفها، فإنه لو تعذر
العين لا ينتقل في العهدة إلى القيمة، بل تبقى نفس العين في العهدة، وإنما يجب
على الضامن بدل الحيلولة عند مطالبة المالك.
ففي المقام أيضا لا وجه لسقوط ضمان المثل، غاية الأمر أنه يقع نزاع آخر،
وهو: أنه هل للمالك المطالبة بالقيمة بإلقاء خصوصية المثلية أم لا؟ وجهان،
والأقوى جواز إلقاء الخصوصية، لأن الحق للمالك، وصبره إلى وجود المثل ضرر
عليه، بل له الاكتفاء بالقيمة أيضا وإن لم يكن ضررا عليه، فإن مالية ماله وقيمة
ملكه مما يمكنه المطالبة من الضامن، فإذا اكتفي بالقيمة بدل ماله فليس للضامن
الامتناع منه.
294

ثم إنه لا فرق بين التعذر الطارئ للمثل والتعذر الابتدائي، سواء أقلنا
بالانقلاب أم لم نقل كما هو الأقوى، فإن ظاهر عنوان التذكرة في قوله: لو تلف
المثلي والمثل موجود ثم أعوز (1) وإن كان اختصاص النزاع بالتعذر الطارئ - بل
هو صريح جامع المقاصد، لأنه قال: لو تعذر المثل ابتداء يتعين حينئذ قيمة يوم
التلف (2) - إلا أن الأقوى عدم الفرق بينهما، فإن غاية ما يتوهم من الفرق: أن التعذر
البدوي بمنزلة كون العين قيمية، ولكنه فاسد، فإن القيمي ما لا يوجد له مثل في
الصفات كالحيوانات والفيروزج والعقيق ونحو ذلك، لا ما كان في جنسه مثليا، ولم
يوجد مثله من باب الاتفاق في عصر من الأعصار مع وجوده قبل ذلك وبعده،
فمن التزم بأن التعذر الطارئ لا يوجب الانقلاب فيجب أن يلتزم بأن التعذر
الابتدائي أيضا كذلك.
وبعبارة أخرى: كما أن استدامة وجود المثل ليس شرطا لتعلق الضمان
بالمثل، بل يمكن بقاء المثل في الذمة مع إعوازه فكذلك التمكن منه ليس شرطا
لحدوثه.
نعم، بين التعذر البدوي والطارئ فرق من جهة أخرى، وهي أن التعذر
البدوي قد يوجب الشك في أن العين مثلي أو قيمي، ولكن هذا الشك مندفع
بملاحظة وجود المماثل للعين قبل ذلك أو بعده.
وكيف كان، العين إذا كانت مثلية لا تنتقل إلى القيمة بمجرد تعذر مثلها، سواء
تعذر حين تلف العين أو بعده.
ثم لا فرق في التعذر بين أن يكون خارجيا أو شرعيا، كما لو فرض أن جميع
مماثل العين صار نجسا ولا يمكن تطهيره كالدهن أو الخل صار خمرا... وهكذا
فللمالك إلقاء الخصوصية والمطالبة بالقيمة.
الثالث: هل إلقاء الخصوصية والتجاوز عن الصفات موجب لسقوطها عن ذمة

(1) تذكرة الفقهاء: كتاب الغصب ج 2 ص 383 س 15.
(2) جامع المقاصد: كتاب الغصب ج 6 ص 81، 254. وفيه: أنه لم يقيد التعذر بالابتداء.
295

الضامن بحيث إنه لو وجد المثل بعد المطالبة وقبل الأداء لا يجب عليه رده، أم لا
تسقط إلا بالأداء لا بالإسقاط، وليست كالدين قابلة للإسقاط؟ وجهان، والأقوى
عدم سقوطها بالإسقاط لأنها لم يتعلق بها ضمان مستقل، بل هي تابعة للعين ومن
الكيفيات، وإبراؤها بإبراء منعوتها، فمجرد مطالبة المالك مالية العين لا يوجب
سقوط المثل عن ذمة الضامن.
نعم، بعد أداء القيمة يسقط حقه عن المثل ولو وجد بعده، لأن الأداء بما جعله
المالك مصداقا لوفاء حقه صار مصداقا له، فلا ينقلب ثانيا عما وقع عليه، وهذا
الكلام يجري في القرض والبيع ومال الصلح، وكل كلي تعلق بالذمة فإنه بأحد
مصاديقه أو بأداء غيره في مقام الوفاء يسقط ما في الذمة.
والفرق بين الأداء بمصداقه وبغيره أنه لو أداه بغيره يحتسب مقدار ماليته، أي
لو تجاوز عن خصوصية الحنطة ورضي بالدهن يحسب الدهن بمقدار قيمة
الحنطة، وأما لو أخذ حنطة أخرى من هذا الصنف فيؤخذ بمقدار نفس المضمون.
وبالجملة: للمالك الرضا بالفاقد، ولكنه لو لم يؤده الضامن بقي المثل
بخصوصياته تحت الضمان، فإن الرضا لا يوجب الانقلاب، وإنما يوجبه الأداء،
لما ثبت في باب القرض أن ما رضي به المالك أداء لماله يتحقق به الأداء.
إذا عرفت ذلك ظهر أن القول الموافق للتحقيق هو عدم انقلاب المثل، ولا
العين التالفة، ولا القدر المشترك بينهما إلى القيمة، بل يبقى المثل في الذمة إلى أوان
الفراغ منه بدفع القيمة، من غير فرق بين التعذر الطارئ والتعذر الابتدائي، فإن بعد
فرض كون العين مثلية لا فرق بينهما، فالانقلاب إلى القيمة لا وجه له، فالأقوال
الأربعة والخمسة في القيميات لا تتطرق في المقام، لأنها من قبيل السالبة بانتفاء
الموضوع.
نعم، بناء على الانقلاب فالتعذر الابتدائي موجب لانقلاب العين إلى القيمة،
وهذا بخلاف التعذر الطارئ، فإنه يمكن أن يقال بانقلاب المثل إلى القيمة،
ووجهه ظاهر، وهو أن تلف العين صار موجبا لتعلق الضمان بالمثل، فإذا تعذر
296

المثل فمقتضى ما يقال: إن كل ما لا يمكن أداؤه لا يمكن أن يبقى في الذمة: هو
انقلاب المثل إلى القيمة. ويمكن أن يقال بانقلاب نفس العين التالفة إلى القيمة.
ووجهه على مسلك المصنف (1) قدس سره من أن المدار في باب الضمان الأقرب إلى
التالف ظاهر، لأن المثل للعين التالفة ما دام موجودا فهو المضمون، فإذا تعذر
فالأقرب إليها هو قيمتها، لا قيمة المثل.
وأما وجه انقلاب القدر المشترك إلى القيمة فقد يتوهم في بادئ النظر أنه
لا وجه له أصلا، إذ العين بعد ما كانت مثلية وبعد وجود مثلها في أول الأمر إما أن
تنقلب هي إلى القيمة أو مثلها، ولم يكن الجامع بينهما في الذمة في زمان حتى
ينقلب هو إلى القيمة، ولكن بالتأمل فيما ذكره المصنف قدس سره وجها له يظهر أن له
وجها وجيها.
وحاصله: أنه بناء على استقرار ارتفاع القيم في الذمة سقوطه بأداء نفس
العين في القيميات يقتضي في المقام القول باستقرار ارتفاع قيمة العين والمثل
كليهما ويسقط بأداء المثل. وأما لو تعذر أداؤه فيبقى في العهدة، وينتج هذا انقلاب
القدر المشترك إلى القيمة.
وبالجملة: لو قلنا بضمان القيمي بأعلى القيم من حين الغصب إلى حين التلف
ينتج في المقام ضمانه بأعلى القيم من حين أخذ العين إلى زمان إعواز المثل، لأن
معنى الضمان بأعلى القيم هو استقرار مراتب القيمة السوقية في عهدة الضامن
بشرط تلف المضمون. وأما مع بقائه فيرتفع ضمان أعلى القيم برده.
وحيث إن العين في المقام مثلية فكما أن رد نفس العين يوجب سقوط ارتفاع
القيمة فكذلك رد مثلها، فإذا تعذر رد مثلها كما تعذر رد نفسها بقي ارتفاع القيمة
في الذمة. وهذا معنى أن الجامع بين العين والمثل ينقلب إلى القيمة.
وكيف كان، فالاحتمالات في المسألة كثيرة.
وتوضيح الصور المنتجة للثمرة موقوف على بيان الأقوال في القيميات.

(1) المكاسب: كتاب البيع ص 106 س 18.
297

فنقول: قد يقال (1) بقيمة يوم الغصب وما يلحق بالغصب، أي قيمته يوم دخول
العين تحت يد الضامن.
وقد يقال (2) بقيمة يوم التلف.
وقد يقال (3) بقيمة يوم الدفع.
وقد يقال (4) بأعلى القيمة من يوم الغصب إلى يوم التلف.
واحتمل المحقق (5) الأعلى من زمان الغصب إلى زمان الدفع.
وعلى هذا، فبناء على المختار - وهو عدم الانقلاب - فالمدار على قيمة يوم
الدفع وهو أحد الأقوال والاحتمالات في المسألة، ويتحد في النتيجة مع المختار
انقلاب العين أو المثل إلى القيمة على القول بيوم الدفع في القيميات، فإن قيمة
العين أو المثل يوم الدفع قيمة واحدة لا محالة.
والاحتمال الثاني: قيمة يوم أخذ العين.
والثالث: قيمة يوم تلفها.
والرابع: الأعلى من يوم أخذها إلى يوم تلفها، أو إلى يوم دفع القيمة، وهذه
الاحتمالات الثلاثة الأخيرة مبنية على انقلاب العين إلى القيمة بتعذر مثلها.
والخامس: قيمة يوم تلف العين بناء على انقلاب المثل إلى القيمة. وكون
المدار في القيميات على زمان الضمان فإن أول يوم دخل المثل في الذمة هو يوم
تلف العين.
والسادس: يوم إعواز المثل.
والسابع: الأعلى من زمان تلف العين إلى يوم الأعواز.
ووجه هذين الاحتمالين ظاهر، فإن الأول مبني على انقلاب المثل إلى

(1) نسبه المحقق إلى الأكثر كما في الشرائع: كتاب الغصب ج 3 ص 240.
(2) كما اختاره العلامة في المختلف: كتاب الغصب ص 455 س 17.
(3) لم نعثر على قائل به.
(4) اختاره جماعة لاحظ مفتاح الكرامة: كتاب الغصب ج 6 ص 244.
(5) حكاه عنه الشهيد الثاني في الروضة البهية: كتاب الغصب ج 7 ص 40.
298

القيمة، وكون المدار في القيميات على يوم التلف، والثاني على هذا المبنى أيضا،
وكون المدار على الأعلى من زمان الضمان إلى يوم التلف، فإن يوم إعواز المثل
هو يوم تلفه.
والثامن: الأعلى من زمان دخول العين تحت اليد إلى زمان دفع القيمة، وقد
بينا وجهه.
ولا يخفى أن غير هذه الاحتمالات إما لا يبتنى على أساس، وإما لا ينتج
ثمرة، أي لا يتفاوت بها القيمة مع المحتملات المذكورة.
وكيف كان، فقد عرفت أن الأقوى عدم الانقلاب، وأن مجرد المطالبة لا
يوجب سقوط الخصوصية، فالمدار على قيمة يوم الدفع، فإن القيمة في هذا اليوم
تكون وفاء للمال.
ثم إنه ينبغي التنبيه على أمور:
الأول: أن من فروع تعذر المثل ما إذا أسقط السلطان دراهم وروج غيرها
بناء على كونها مثليا، فإن ذلك قد يوجب تعذر ما أسقطه، كما إذا صار عزيز
الوجود وفي غاية القلة، وقد لا يوجب تعذره.
وهذا على قسمين: فإنه تارة يسقط عن المالية رأسا، وأخرى تنقص عنها كما
إذا كان فضة أو ذهبا، فإذا تعذر ما أسقطه فحكمه حكم تعذر المثل في المثليات.
وقد تقدم (1) أنه لا وجه لانقلابه إلى القيمة.
وأما لو لم يتعذر فإذا سقط عن المالية فحكمه حكم التلف فينتقل إلى القيمة،
نظير الجمد في الشتاء والماء على الشاطئ لو اقترضهما في الصيف في مفازة
اليمن والحجاز مثلا.
وأما إذا لم يسقط عن المالية ففيه قولان:
قول: بأنه يرد مثل الدراهم السابقة، أو عينها إذا كانت موجودة، سواء أكان
منشأ تعلق الضمان بها العقود المضمنة: كالبيع والقرض، أم قاعدة اليد والإتلاف.

(1) تقدم في الصفحة: 294.
299

وقول: بأنه يرد الرائجة إذا كانت مساوية للسابقة في الوزن والقيمة. أو يرد
من غير الجنس بقيمة السابقة.
وبالجملة: لو نقصت قيمة السابقة فالمشهور على أن نقصان القيمة ليس مضمونا.
وذهب بعضهم (1) إلى أنه مضمون، فلا بد من رد ما يساوي القيمة السابقة،
فيرد من الرائجة لو كانت في الوزن والقيمة مساوية للسابقة، كما قد يتفق نادرا أو
من غير الجنس لو كان بينهما تفاوت حتى لا يلزم الربا.
ومنشأ الاختلاف اختلاف الأخبار في المسألة.
ففي مكاتبة يونس إلى أبي الحسن الرضا عليه السلام: أنه كان لي على رجل عشرة
دراهم، وأن السلطان أسقط تلك الدراهم، وجاءت بدراهم أعلى من تلك الدراهم
الأولى، ولها اليوم وضيعة فأي شئ لي عليه، الأولى التي أسقطها السلطان، أو
الدراهم التي أجازها السلطان؟ فكتب عليه السلام: (لك الدراهم الأولى) (2).
وعن العباس بن صفوان قال: سأله معاوية بن سعيد عن رجل استقرض
دراهم عن رجل، وسقطت تلك الدراهم أو تغيرت، ولا يباع بها شئ، الصاحب
الدراهم الدراهم الأولى، أو الجائزة التي تجوز بين الناس؟ فقال: (لصاحب
الدراهم الدراهم الأولى) (3).
هذا مدرك المشهور، ومدرك غيرهم: مكاتبة أخرى من يونس، قال: كتبت
إلى الرضا عليه السلام: أن لي على رجل ثلاثة آلاف درهم، وكانت تلك الدراهم تنفق
بين الناس تلك الأيام وليست تنفق اليوم، فلي عليه تلك الدراهم بأعيانها، أو
ما ينفق اليوم بين الناس؟ قال: فكتب إلي (لك أن تأخذ منه ما ينفق بين الناس كما

(1) لم نعثر عليه.
(2) من لا يحضره الفقيه: ج 3 ص 191 ح 3716، عنه الوسائل: ج 12 ص 488 ب 20 من
أبواب الصرف ح 2.
(3) الإستبصار: ج 3 ص 99 ح 2، عنه الوسائل: ج 12 ص 488 ب 20 من أبواب الصرف ح 4
300

أعطيته ما ينفق بين الناس) (1).
وفي الوسائل، عن الصدوق: أن الحديثين متفقان غير مختلفين، فمن كان له
عليه دراهم بنقد معروف فليس له إلا ذلك النقد، ومتى كان له دراهم بوزن معلوم
بغير نقد معروف فإنما له الدراهم التي تجوز بين الناس (2).
ونحن نقول مع قطع النظر عن الأخبار وإمكان الجمع بينها. وعدمه إن مقتضى
القاعدة عدم الفرق بين الصفات الداخلية والخارجية في الضمان، إلا إذا رجعت
الصفة الخارجية إلى تفاوت الرغبات، أي القيمة السوقية، من غير فرق بين أن
يكون الموصوف بها مضمونا بالعقد أو باليد والإتلاف، فإن الأوصاف وإن كانت
تابعة ولم تدخل تحت اليد والعقد مستقلا إلا أنها تدخل تحتهما للشرط الضمني،
أو الصريح كما في باب العقود، أو تبعا كما في باب اليد ونحوه.
ومجرد كون الوصف خارجيا كرواج السلطان الموصوف به لا يوجب
خروجه عن تحت الضمان، فإن الرواج نظير: كون المال في محل كذا أو زمان كذا
التي بها تتفاوت مالية الأموال، بل لا شبهة أن الاعتبار ليس بذات النقد من حيث
هو، بل برواجه عند الناس، وهذا بنفسه خصوصية في المال من غير جهته السوقية
وتفاوت الرغبات، فإن كل صفة وإن رجع دخلها في الموصوف في الحقيقة إلى
الرغبة التي بها يتغير سعر السوق حتى مثل: كتابة العبد إلا أنه لا شبهة أن في مقام
الاعتبار فرق بين الرواج، أو كون المال في محل كذا وزمان كذا وبين القيمة
السوقية، فعدم التزامنا بضمان زيادة القيمة السوقية لا يلازم الالتزام بعدم ضمان
الرواج وصفة كونه في محل كذا. هذا ما تقتضيه القاعدة.
وأما جمع الصدوق فحاصله ظاهرا أنه لو كان الدراهم السابقة بقيمة الدراهم
الرائجة فله الدراهم السابقة، وإلا فله الدراهم اللاحقة. ولا يخفى أن هذا

(1) الكافي: ج 5 ص 252 ح 1، عنه الوسائل: ج 12 ص 487 - 488 ب 20 من أبواب
الصرف ح 1.
(2) الوسائل: ج 12 ص 488 ب 20 من أبواب الصرف ذيل الحديث 3.
301

التفصيل لا يظهر من الأخبار، بل مفروض السؤال أن السابقة ساقطة عن درجة
الاعتبار وإن لم يخرج عن القيمة لكونه ذهبا أو فضة.
وجمع الشيخ بين الأخبار بحمل ما ينفق بين الناس على معنى قيمة ما كان
ينفق، وحمل الدراهم الأولى في الخبرين على قيمة الدراهم الأولى (1).
وحاصل جمعه: أنه ليس له الدراهم الرائجة، وإنما له قيمة الدراهم السابقة،
وهذا أيضا خلاف ظاهر كل من الطائفتين، فإن ظاهرهما عين الدراهم السابقة أو
ما ينفق.
فالصواب: أن يجعل الطائفتين من قبيل الاطلاق والتقييد، فإن قوله عليه السلام:
(الدراهم الأولى) مطلق من حيث ضم تفاوت السكة وعدمه إليها، وقوله عليه السلام:
(لك أن تأخذ منه ما ينفق بين الناس) مقيد له، أي تأخذ الدراهم الأولى بقيمة ما
ينفق (2).
الثاني: قد أشرنا (3) أنه لا فرق في عدم انقلاب المثلي المتعذر مثله إلى القيمة
بين أن يكون التعذر طارئا، وأن يكون ابتدائيا، لأن الملاك متحد فيهما، إلا أن هذا
إنما هو في المضمون باليد. وأما المضمون بالعقد كالسلم والقرض ففي مورد
التعذر الابتدائي يشكل أصل صحة التعهد.
أما السلم فالظاهر اتفاق الأصحاب عليه، ووجهه: أن من لا يمكنه أداء
الحنطة - مثلا - حال حلول الأجل يدخل بيع الحنطة فيما لا يقدر على تسليمه.
وأما القرض فإنا وإن لم نجد من صرح بالبطلان ولكن لو جعل للقرض مدة لا

(1) الإستبصار: ج 3 ص 100 ذيل الحديث 3.
(2) ولا يخفى أن هذا خلاف ظاهر قوله عليه السلام: (لك أن تأخذ منه ما ينفق بين الناس) فإن ظاهره
استحقاقه الأخذ من الدرهم الرائج، فالطائفتان متباينتان، فإما تطرحان ويرجع إلى القواعد
العامة المقتضية لضمان نقص السكة، وإما يطرح خصوص ما يدل على استحقاقه للرائج كما
اختاره العلامة [المختلف: ص 416 س 2] وصاحب الحدائق [الحدائق الناظرة: ج 20
ص 144، 146] إما لضعف سنده، أو لحمله على التقية، وحيث إن المسألة مشكلة
فالاحتياط بالصلح طريق التخلص. (منه عفي عنه).
(3) تقدم في الصفحة: 291 - 292.
302

يمكنه رد العين المقترضة ولا مثلها، كما لو اقترض بطيخا ونحوه مما يفسد في هذه
المدة ولا يوجد مثله فأصل صحة القرض مشكل حتى يقال بالانقلاب أو عدمه.
ثم إنه هل يفرق بين التعذر المؤقت والتعذر الدائمي أم لا؟ وجهان، أقواهما
الثاني، لأن غاية ما يوجه به الفرق أن في التعذر المؤقت لبقاء المثل في ذمة
الضامن أثر عقلائي، فللمالك الصبر إلى زمان وجود المثل. وأما التعذر الدائمي
كالدراهم الساقطة رأسا، فمضافا إلى أنه لا يترتب أثر بقائه في الذمة لا يمكن أن
يتعلق به الضمان شرعا، لأن ما لا يمكن أداؤه كيف يبقى في الذمة؟ فلا بد من
القول بسقوط المثل عن الذمة: كسقوط خصوصية العين عنها بعد تلفها، ولكنه
فاسد.
أما عدم ترتب الأثر على بقاء المثل في الذمة ففيه: أن له أثرا، وهو: عدم
إمكان إلزام الضامن المالك بأخذ القيمة وثبوت التخيير للمالك بين المطالبة
والصبر، وفي هذا الأثر كفاية، لأنه قد يتفق أن دفع الضامن القيمة موجب لتضرر
المالك، وكون المال في ذمة الضامن أنفع له.
وأما مسألة أن ما لا يمكن أداؤه لا يمكن أن يكون في الذمة ففيه: أنه وإن لم
يمكن تعلق التكليف بالرد إليه لخروجه عن القدرة إلا أن الوضع لا يتوقف على
القدرة، فالأقوى في جميع الصور الأربع من التعذر البدوي والطارئ والمؤقت
والدائمي عدم الانقلاب، ولا يقاس المثل المتعذر على العين الشخصية إذا تلفت،
فإن العين التالفة لا يمكن دخولها في الذمة رأسا، فإن الذمة ظرف للكليات لا
الأعيان، فتلف العين موجب لسقوط الخصوصية الشخصية، وهذا بخلاف تعذر
المثل فإنه لا وجه لسقوطه عن الذمة.
الثالث: بعد ما ثبت أن للمالك التجاوز عن الخصوصية ومطالبة القيمة فيتفرع
عليه أن المناط في معرفة القيمة مع عدم وجود المثل هل بفرض وجوده في غاية
العزة، أو بفرض وجوده كثيرا مبذولا، أو المتوسط بينهما؟ وجوه، والحق هو
الأول، ولكن لا في مورد صار عزة وجوده موجبا لأن يعد مثله عادم النظير، بل
303

المقصود: أنه لو صار عزة وجوده موجبا لغلائه فقيمته في حال غلائه تستقر في
ذمة الضامن، لأن المال - حينئذ - مثلي فإنه آخر أزمنة وجود المثل، وبعد ذلك لو
وصل عزته بحيث لا يباع إلا بإزاء عتاق الخيل، فهذا يعد متعذرا.
ثم إن هذا بناء على عدم الانقلاب، وأما بناء على الانقلاب سواء أقيل بانقلاب
العين أم المثل فمقدار القيمة معلوم، لأن العين أو المثل في يوم الضمان أو يوم
التلف أو يوم الأعواز إما موجود، أو كان موجودا ثم تلف أو أعوز فلا تخفى
قيمته.
الرابع: قد عرفت أنه لو أخذ المالك قيمة المثل المتعذر فليس له مطالبة
المثل لو تمكن الضامن منه، لأن قبض المالك ما عينه مصداقا لوفاء ماله يوجب
تعيين حقه في المقبوض. وأما لو لم يقبضها فنفس المطالبة وإسقاط الخصوصية
غير موجب للتعيين، لأن غاية الأمر أنه تصير القيمة بالمطالبة من أحد مصاديق
الكلي الثابت في الذمة، وتعيين الكلي في المصداق الخاص إنما هو بقبض المالك،
فلو لم يقبضه لم يكن وجه لتعينه، بل لو قيل بالانقلاب أيضا يمكن القول بأن
الانقلاب ما دام التعذر فبعد التمكن يرجع الأمر إلى ما كان عليه.
وعلى أي حال، فبناء على عدم الانقلاب لا إشكال في أن للمالك مطالبة
الضامن بالمثل عند تمكنه، إنما الكلام في أن له المطالبة به ولو في غير بلد الضمان
أولا؟ وهذا النزاع يجري في مطالبة العين والقيمة أيضا.
وتوضيح ذلك: أن في المقبوض بالعقد الفاسد ونحوه تارة تكون العين
موجودة، وأخرى تالفة.
وعلى الثاني: إما تكون العين قيمية أو مثلية.
وعلى الثاني: إما المثل موجود أو متعذر، فلو كان العين موجودة قيل (1)
بجواز مطالبة المالك بها من الضامن في أي بلد أراد، سواء كان قيمة العين في بلد
المطالبة أزيد عن قيمتها في بلد الضمان أم لا، لعموم (الناس مسلطون على

(1) قائله الحلي في السرائر: باب الغصب ج 2 ص 490.
304

أموالهم) (1)، وقوله صلى الله عليه وآله: (حتى تؤدي) (2) فيجب من باب المقدمة ردها إليه.
وفيه: أن عموم السلطنة إنما هو باعتبار أنحائها من البيع والصلح ونحوهما.
وأما بالنسبة إلى الأشخاص الذين كانت الأموال في عهدتهم فلا عموم لها. وأما
(على اليد) فلا يدل إلا على وجوب أداء المضمون، وأما رده إلى شخص المالك
أو وكيله أو الحاكم الشرعي فليس في مقام بيان ذلك، فلو كان المالك في بلد
الغصب والغاصب أخرج المال إلى بلد آخر فليس على الضامن إلا تخلية اليد عن
المال، لا رده إلى مالكه وإن فعل محرما بالإخراج، إلا أن الظاهر من الفقهاء أن
للمالك إلزام الغاصب بالرد إلى بلد الغصب.
وعلى أي حال، لو كان للأمكنة خصوصية في المالية بحيث عد عرفا كونه في
هذا المكان من صفات المال كسائر الصفات من السمن والكتابة ونحوهما فيجب
على الغاصب تفاوت القيمة أو رد المال إلى بلد الضمان، بل لو أخرج المال إلى بلد
يكون المال فيه في غاية الغلاء ثم رده إلى بلد الرخص يجب عليه رد تفاوت
القيمة، لأنه بمنزلة صيرورة المغصوب كاتبا عند الغاصب أو سمينا ثم زال سمنه
أو كتابته عنده.
وأما لو كان المالك في غير بلد الضمان فلا يجب على الضامن رد المال إليه،
ولا تفاوت القيمة لو كانت قيمة المال في البلدة التي كان المالك فيها أزيد من بلد
الضمان، لأنه لم يدل دليل على تسلط المالك بالمطالبة في أي بلد أراد، ولا
موجب لضمان الضامن تفاوت القيمة بين البلدتين في هذه الصورة.
وأما لو كانت العين تالفة: فإذا كانت مثلية فحكم المثل حكم العين في
التفصيل المتقدم. وأما لو كانت قيمية أو تعذر المثل فيجب عليه قيمة العين أو المثل
مع الخصوصية على ما تقدم.
وبالجملة: لو لم يكن للمال خصوصية من حيث الزمان أو المكان فوجوب
رده إلى شخص المالك في أي بلد طالبه لا دليل عليه، بل يرد إلى وكيله، أو إلى

(1) تقدم تخريجه في الصفحة: 92.
(2) تقدم تخريجه في الصفحة: 64.
305

الحاكم الشرعي، أو إلى عدول المؤمنين، أو إلى فساقهم، ومع تعذر المراتب
الطولية السابقة يعزله عن ماله ويحفظه لمالكه، ولو تلف فحكمه حكم ضمان الدين
والخمس والزكاة (1)، بل الضمان في باب الغصب والمقبوض بالعقد الفاسد لا
إشكال فيه فإنه ليس داخلا في الأمانات الشرعية أو المالكية، فتأمل.
ثم لا يخفى أنه بناء على دخل الأزمنة والأمكنة في مالية الأموال لا وجه لما
أفاده المصنف في مسألة خروج المثل عن القيمة: كالماء على الشاطئ والجمد
في الشتاء من احتمال ضمان آخر مكان أو زمان سقط المثل فيه عن المالية، لأنه
يجب عليه رد جميع هذه الخصوصية فيلاحظ قيمة الماء في المفازة، وقيمة الجمد
في الصيف.
قوله قدس سره: (السابع: لو كان التالف المبيع فاسدا قيميا فقد حكي (2) الاتفاق على
كونه مضمونا بالقيمة... إلى آخره).
قد تقدم أن المرتكز في الأذهان: لزوم رد المثل في المثلي التالف والقيمة في
القيمي وتقدم (3) ميزان المثلية والقيمية، فإذا كان أداء القيمة في القيميات ارتكازيا
فلو لم يقم دليل على خلافه فلا بد من الالتزام به وحمل الأدلة العامة عليه. هذا، مع
أن الأخبار الخاصة الدالة على وجوب القيمة في العبد (4) والغنم (5) ونحو ذلك
تشهد للمدعي، ولم ينقل الخلاف إلا عن الإسكافي (6) والشيخ والمحقق في

(1) لا يخفى أنه يختلف حكم العزل في هذه الموارد الثلاثة: ففي باب الزكاة ظاهر الفقهاء أنه
لو عزل مقدار النصاب وتلف من دون تفريط فلا يضمن، وفي الخمس استشكل بعضهم في
تعينه في المعزول، وفي الدين لا يؤثر العزل في تعين ما في ذمته، فإنه كلي، ولا يتعين إلا
بقبض الدائن ومن في حكمه. (منه عفي عنه).
(2) الحاكي هو السيد في المناهل: ص 298 س 30.
(3) تقدم في الصفحة: 284.
(4) تهذيب الأحكام: ج 8 ص 220 ح 789 وما بعده.
(5) قرب الإسناد: ص 116.
(6) حكاه في غاية المراد (مخطوط): الورقة 71.
306

الخلاف (1) والشرائع (2) في باب القرض.
ولكنه يمكن توجيه كلامهما بأن المتعارف في باب القرض لا سيما بالنسبة
إلى الرغيف أن وجوب رد مثله ولو في بعض الصفات من باب الشرط الضمني.
وتقدم أيضا أنه لم ينهض دليل على وجوب رد الأقرب إلى التالف، مع أنه
ليس له ميزان مضبوط، لإمكان أن يكون شئ أقرب إلى التالف من جهة وشئ
آخر من أخرى، فوجوب رد القيمة في القيميات لا اشكال فيه، إنما الكلام في أن
المدار على قيمة يوم دخول العين تحت العهدة، أو يوم التلف، أو يوم الدفع، أو
أعلى القيم من زمان أخذ العين، ودخولها تحت الضمان إلى زمان التلف أو إلى
زمان الدفع؟ وجوه، بل أقوال، منشأ القولين الأولين الاختلاف في فعلية الضمان
يوم الأخذ وتعليقيته.
فمن قال بتحقق الضمان فعلا بمجرد الأخذ - غاية الأمر أنه مشروط بشرط
متأخر وهو تلفها - قال بقيمة يوم الأخذ.
ومن قال بأن الضمان تعليقي - أي يجب الخروج عن عهدة العين إذا تلفت -
قال بيوم التلف.
ثم إن الاختلاف في صحة ضمان الأعيان وعدمها ناش عن الاختلاف في
الفعلية والتقديرية، لأنه لو كان الضمان حين وجود العين فعليا بحيث يجب
الخروج عن عهدة قيمتها فعلا فيصح لغير الآخذ أن يضمنها، لأنه ليس ضمانا لما
لم يجب. وأما لو كان الضمان تعليقيا فضمان الغير ضمان لما لم يجب، ومنشأ
القول بيوم الدفع أمران:
الأول: أن العين بخصوصيتها الشخصية في عهدة الضامن حين وجودها
وحين تلفها، لأن الذمة أمر وسيع ولا وجه للانقلاب إلى القيمة بمجرد التلف، فإذا
أمكن أن يتعلق بها الضمان على نحو الجامع بين الحالتين فنتيجته تختلف
باختلاف الأحوال، فمع التمكن من رد العين يجب أن ترد بشخصها، ومع التعذر

(1) الخلاف: ج 3 ص 460 م 4.
(2) شرائع الاسلام: ج 2 ص 68.
307

لغرق ونحوه يرد بدل الحيلولة، ومع تلفها وما بحكم التلف لخروجها عن المالية
شرعا يجب رد مثلها إن كانت مثلية، وإلا فقيمتها. ولكنك خبير بأن هذا مما لا
يمكن الالتزام به.
أما أولا: فلما عرفت: من أن جعل الأداء غاية للتعهد، والضمان ملازم لاعتبار
تعلق الضمان بما يمكن أداؤه وشخص العين حين التلف مما لا يمكن أداؤه فلا
يمكن أن تكون بنفسها تحت الضمان. وتقدم: أن الذمة ظرف للكليات لا
الخارجيات.
وثانيا: أن لازم ذلك إما الالتزام بسقوط الضمان، وإما بعدم تعين قيمة يوم
الأداء، لأن الخصوصية لو كانت مضمونة حين التلف لزم التكليف بغير المقدور،
فلا بد أن يسقط الضمان، وأداء القيمة ليس أداء للمصداق فلا وجه لسقوط ما في
الذمة بأمر مباين له إلا بالتراضي، ولا يعقل تعين القيمة للبدلية بنفسها. ولو لم تكن
مضمونة حين التلف إلى زمان الأداء فلا موجب لتعين قيمة يوم الأداء.
الثاني: أن قوام الشئ بماليته، وأما خصوصياته الشخصية والمثلية فهي من
قبيل الفضلة، فما يبقى في الذمة ما هو الركن للشئ، وهو ماليته التي هي عبارة
عما ينتفع به من غير تقديرها بقيمة. فلو كان المأخوذ هو الحقة من الحنطة - مثلا -
فإذا تلفت بقي في الذمة ما يشبع عشرة أنفس إلى زمان المطالبة، فإذا طالبها
المالك فيقوم بقيمة هذا اليوم، لا يوم الأخذ والتلف.
ومنشأ القول بأعلى القيم هو كون تفاوت الرغبات - أي القيمة السوقية -
مضمونة.
ثم إن ضمان الأعلى مع كون المبدأ يوم الأخذ والمنتهى يوم التلف أو الدفع
مبتن على أمور ثلاثة:
الأول: كون الضمان يوم الأخذ فعليا.
الثاني: تعلق الضمان بالأمور الخارجة عن مالية الأموال، فيكون حكم قلة
المال وكثرة الراغب حكم الصفات أو الاعتبارات، فكما يضمن الكتابة والسمن لو
308

زالا - سواء أحصلا بفعل الله سبحانه أم بفعل الضامن، وسواء أكانا موجودين حين
الأخذ أم حصلا عند الضامن وزالا، وكذا يضمن خصوصية كون المال في زمان
كذا أو مكان كذا التي هي من الأمور الاعتبارية العقلائية - فكذلك يضمن الرغبات.
وبالجملة: ما يوجب زيادة القيمة على أقسام ثلاثة:
قسم من قبيل السمن والصوف الذي لا إشكال في دخوله تحت عهدة الضامن
بتبع المال.
وقسم من الاعتباريات ككون الجمد في الصيف والماء في المفازة.
وقسم من الأمور الخارجية الاتفاقية ككثرة الراغب أو قلة المال.
الثالث: بناء على كون المنتهى يوم التلف يجب الالتزام بانقلاب العين إلى
القيمة في ذاك اليوم، فإنها لو انتقلت إلى القيمة فليس للقيمة علو ونقيصة، لأن
عشرة دنانير - مثلا - لا تنقص ولا تزيد، وبناء على كونه يوم الدفع يجب الالتزام
ببقاء المضمون في الذمة إلى يوم الدفع، سواء أقلنا ببقاء خصوصية العينية إلى ذاك
الزمان كما على الوجه الأول، أم قلنا ببقاء المالية غير متقدرة بقيمة كما على الوجه
الثاني، أو قلنا بانتقال العين إلى الأقرب إلى التالف بمجرد التلف. كما احتملوا هذا
الوجه في ترديد المحقق (1) في كون المنتهى يوم التلف أو يوم الدفع، فيبتنى كون
منتهى الأعلى يوم الدفع على بقاء الأقرب في الذمة بعد تلف العين.
وبالجملة: لا بد - بناء على القول بالأعلى - من تعلق الضمان بالرغبات وكون
الذمة مشغولة بغير القيمة حتى يلاحظ أعلى القيم من زمان الأخذ إلى يوم التلف
أو إلى يوم الدفع.
ثم لا يخفى أن لازم تعهد الضامن للرغبات أن يكون كذلك حتى مع رد العين،
ولا يلتزمون به، فيلزم التناقض بين القول بالأعلى وعدم ضمان نقصان القيمة عند
رد العين.

(1) شرائع الاسلام: ج 3 ص 240.
309

قوله قدس سره: (فالمهم صرف الكلام إلى معنى الصحيحة (1)... إلى آخره).
وجه الأهمية: إما لكون المقبوض بالعقد الفاسد حكمه حكم المغصوب
كما ذكره الحلي (2) قدس سره. وإما من جهة استفادة قاعدة كلية من الصحيحة في جميع
موارد ما يضمن بالقيمة، فإذا دلت على أن الاعتبار بقيمة يوم الغصب تكشف عن
عدم اقتضاء إطلاقات الضمان اعتبار قيمة يوم التلف، وإلا لزم أن يكون الضمان
في الغصب أقل من غيره في بعض الموارد، كما إذا كانت قيمة يوم الغصب أقل من
قيمة يوم التلف فيلزم خروج المغصوب عن سائر ما يتعلق به الضمان خروجا
حكميا.
وبالجملة: لو دلت الصحيحة على عدم وجوب التدارك إلا بقيمة يوم المخالفة
فيستكشف منها أن ما عدوه مصداقا للتدارك من قيمة يوم التلف أو الدفع خطأ،
وإلا يلزم أضعفية الغصب وعدم وجوب تدارك قيمته بمقدار ما يتدارك به سائر
المضمونات ولو في بعض الموارد.
نعم، لو دلت الصحيحة على ضمان أعلى القيم فلا محذور في خروج
المغصوب عن سائر المضمونات.
وكيف كان، فالصحيحة تدل على أن المدار على القيمة يوم الأخذ في
موضعين:
الأول: قوله عليه السلام (نعم، قيمة بغل يوم خالفته)، سواء كان يوم خالفته
مضافا إليه للقيمة، أو مضافا إليه لمجموع المضاف والمضاف إليه، أو كان قيدا
للاختصاص الحاصل من إضافة القيمة إلى البغل، أو كان متعلقا (بنعم) الذي
معناه: يلزمك.

(1) أي صحيحة أبي ولاد الحناط لاحظ الكافي: ج 5 ص 290 - 291 ح 6، عنه وسائل
الشيعة: ج 13 ص 255 ب 17 من أبواب الإجارة ح 1.
(2) السرائر: كتاب المتاجر باب الشرط في العقود ج 2 ص 285.
310

أما على الأولين فواضح، لأن معنى الحديث على الأول يلزمك قيمة البغل
قيمة يوم المخالفة.
وعلى الثاني يلزمك القيمة الثانية للبغل يوم المخالفة.
وأما بناء على أن يكون متعلقا (بنعم) بأن يكون الظرف لغوا متعلقا يشبه
الفعل الذي معناه يلزمك، فإنه وإن لم يدل بالمطابقة على قيمة يوم المخالفة لأن
معناه أنه يلزمك يوم المخالفة القيمة إما قيمة ذلك اليوم أو قيمة يوم التلف أو يوم
الدفع فالحديث ساكت عنه إلا أنه بالالتزام يدل على أن المدار على قيمة يوم
المخالفة، فإنه لو لم يكن يوم المخالفة إلا يوم دخول نفس العين في العهدة لكان
ذكر القيمة بلا موجب، لأن مالية المال إذا قدر بالقيمة يوم المخالفة فلا محالة تكون
القيمة قيمة ذلك اليوم، لأنه لا يعقل أن يكون الضمان بقيمة يوم المخالفة فعليا
ويقدر قيمة يوم ما بعد المخالفة.
نعم، وجوب الأداء يمكن أن يكون متأخرا، ولكن قيمة اليوم المتأخر
لا يمكن أن تكون هي قيمة اليوم المتقدم.
وبالجملة: كل من قال بضمان قيمة يوم التلف لكون الضمان بالقيمة في هذا
اليوم فعليا فلا يمكن أن يجعل المدار على قيمة غير هذا اليوم، فالتزام المشهور
بقيمة يوم التلف ليس إلا لفعلية الضمان بالقيمة في هذا اليوم، وهكذا على القول
بيوم الدفع. فلا وجه لما تمحله المصنف (1) قدس سره من جعل اليوم قيدا للقيمة، أو لقيمة
البغل مع ما فيهما من المخالفة للقواعد العربية والخروج عن طريقة أهل اللسان،
لأنه لو كانت القيمة مضافة إلى البغل فلا يعقل أن يضاف في عرض هذه الإضافة
إلى أمر آخر، فإنه يتوقف على لحاظين مستقلين متباينين.
وهكذا لو أضيف مجموع المضاف والمضاف إليه إلى اليوم الذي هو ظاهر
المتن فإن قوله قدس سره: (فيكون إسقاط التعريف للإضافة) (2) صريح في أن البغل أيضا
مضاف إلى اليوم كإضافة القيمة التي هي مضاف إلى البغل إليه، فإنه لو كان

(1) المكاسب: كتاب البيع ص 110 س 14 وما بعده.
(2) المكاسب: كتاب البيع ص 110 س 14 وما بعده.
311

مقصوده إضافة القيمة إلى اليوم لا إضافة البغل إليه لما كان لسقوط حرف
التعريف وجه.
وعلى أي حال، فإضافة المجموع أيضا لا معنى له، لأنه يلزم الجمع بين
اللحاظ الآلي والاستقلالي في لحاظ واحد، فإن جهة إضافة المضاف هي معنى
حرفي، ولا بد من لحاظها مستقلا في الإضافة الثانية كما لا يخفى.
نعم، يجوز الإضافة الطولية نحو: (مثل دأب قوم نوح)، أو حافر فرس
جبرئيل. ولكن الإضافة الطولية لا معنى لها في المقام، لعدم معنى لقولك: بغل يوم
المخالفة فإن البغل لا يمكن أن يتخصص بيوم المخالفة، وهكذا لا يمكن أن يتعلق
اليوم بالاختصاص الحاصل من إضافة القيمة إلى البغل فإنه معنى حرفي، فالأوفى
والأوفق بالقواعد العربية تعلق الظرف بنعم، وهو أيضا يدل بالالتزام على أن
المدار على قيمة يوم المخالفة.
بل لو قيل: إن المقام من قبيل تتابع الإضافات وحيث لا تختلف الأعيان
باختلاف الأيام فبدلالة الاقتضاء لا بد أن تكون إضافة البغل إلى اليوم باعتبار
قيمته في ذلك اليوم لكان المدار أيضا على قيمة يوم المخالفة.
هذا، مع أن البغل في بعض نسخ الكافي (1) والاستبصار (2) باللام، فيكون يوم
المخالفة حالا من القيمة، بل لو كان غير محلى بالألف واللام يمكن أن يكون منونا
بدلا عن اللام.
وبالجملة: ظهور هذه الفقرة في أن المدار على قيمة يوم المخالفة مما لا ينبغي
التشكيك فيه، لأنه لو كان السؤال عن أصل الضمان لكان اللازم الاكتفاء
بقوله عليه السلام: (نعم)، فتعقيبه بقوله عليه السلام: (قيمة بغل يوم خالفته) كاشف عن أن أصل
الضمان كان مفروغا عنه عند السائل، لذا قال: (أرأيت لو عطب أو نفق؟) سيما بعد
فتوى أبي حنيفة بأن الضمان موجب لسقوط الكرى من باب الخراج بالضمان،

(1) ما بأيدينا من الكافي والاستبصار ورود البغل منكرا، نعم أثبته محلى بالألف واللام
البحراني في حدائقه: ج 21 ص 595، والجواهري في جواهره: ج 27 ص 316.
(2) ما بأيدينا من الكافي والاستبصار ورود البغل منكرا، نعم أثبته محلى بالألف واللام
البحراني في حدائقه: ج 21 ص 595، والجواهري في جواهره: ج 27 ص 316.
312

وإنما كان سؤاله عن مقدار الضمان، فأجاب الإمام عليه السلام بعد تقديره له أصل
الضمان بقوله: (نعم) عن المقدار بقوله: (قيمة بغل يوم خالفته) أو (قيمة البغل يوم
خالفته) بنصب اليوم.
الثاني: قوله عليه السلام: (أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أن قيمة البغل حين
اكترى كذا وكذا) فإن إثبات قيمة يوم الاكتراء في خصوص المورد ليس إلا من
حيث أنه يوم المخالفة، والتعبير به عنه لنكتة إمكان إقامة الشهود، لأن الاكتراء
يقع غالبا بمحضر من الناس.
وعلى هذا، فلا ينبغي طرح الرواية من باب دلالتها على ضمان العين
المستأجرة بلا شرط، الذي هو مخالف للقواعد، لأنها لم تدل على ضمان يوم
الاكتراء الذي وقع الإجارة فيه صحيحا وبلا شرط الضمان، بل تدل على ضمان
يوم المخالفة، وهذا على طبق القواعد.
وحاصل الكلام: أن ظهور الصحيحة في أن المدار على قيمة يوم المخالفة
لا شبهة فيه، إنما الكلام في ما يتخيل أنه موهن لهذا الظهور، وهو أمور:
الأول: قوله عليه السلام: (عليك قيمة ما بين الصحة والعيب يوم ترده عليه)، وظاهره
أن المدار في القيمة على قيمة يوم الرد لا يوم المخالفة، سواء كان اليوم قيدا للقيمة
أو متعلقا بأفعال العموم المقدرة، أو متعلقا ب‍ (عليك).
أما بناء على كونه قيدا للقيمة أو متعلقا بأفعال العموم فواضح، لأن معناه عليك
ما يتقوم به يوم الرد، أو القيمة الثابتة يوم الرد.
وما أفاده المصنف في رد تعلق الظرف بالقيمة بقوله: إذ لا عبرة في أرش
العيب بيوم الرد إجماعا (1) ففيه: إنه لم ينعقد الاجماع على عدم اعتبار يوم الرد، بل
قد انعقد على تبعية النقص الحادث في تعين يوم قيمته ليوم قيمة أصل العين. فلو
قيل في أصل العين بيوم الرد فيتبعها الصفات أيضا فلتكن هذه الصحيحة دليلا ليوم
الرد بناء على التبعية التي هي مسلمة.

(1) المكاسب: كتاب البيع ص 110 س 23.
313

وأما بناء على كونه متعلقا بعليك: فلما ذكرنا من الملازمة بين فعلية الضمان
في زمان وزمان القيمة. ولكنك خبير بأن هذا لا يوجب الوهن أصلا وإن اخترناه
في تعليقتنا سابقا، وذلك لظهور هذا الكلام في تعلق الظرف بعليك، والملازمة
ممنوعة في المقام، لأنها ثابتة في مقام اشتغال الذمة، لا في مقام الفراغ.
والرواية ليست في مقام بيان أن نقص الصفات موجب للضمان في يوم الرد،
بل مفادها: أن يوم رد البغلة. عليك التفاوت بين الصحيح والمعيب، ولا تعرض
فيها على أن التفاوت يلاحظ يوم الغصب، أو يوم تلف وصف الصحة، أو نفس هذا
اليوم الذي يرد فيه.
ورد المصنف (1) هذا الموهن بوجه آخر، وهو احتمال أن يكون اليوم قيدا
للعيب، أي: العيب الموجود حال الرد يوجب الضمان، ولكن ضعفه بأن العيب قد
يرتفع أو ينقص يوم الرد، ولازم كون اليوم قيدا للعيب أن لا يوجب ضمانا في
هاتين الصورتين، مع أن مقتضى الفتوى خلاف ذلك.
وفيه: أنه ليس عدم سقوط الضمان مقتضى فتوى الكل، بل المسألة خلافية
بسقوط الضمان.
فقيل بسقوط الضمان مطلقا (2)، وقيل بعدم سقوطه مطلقا كما عليه الفاضل في
التذكرة (3)، وقيل بالتفصيل (4) بين الوصف القابل للزيادة كالسمن، وما لم يكن
كذلك كوصف الصحة فإذا زال السمن ورجع فعليه الضمان، بخلاف ما إذا حدثت
نقطة في عين الدابة وارتفعت، وهذا الاختلاف رجاء في العيب الموجود حال
العقد، أو الحادث بعده إذا زال قبل القبض.
ولكن الأقوى في الغصب عدم ارتفاع الضمان بارتفاع الوصف، سواء ارتفع
بفعل الله سبحانه، أم بفعل الغاصب، أم الأجنبي، لأن ارتفاعه حصل في ملك المالك
فلا ينفع به الغاصب.

(1) المكاسب: كتاب البيع ص 110 س 27.
(2) المبسوط: كتاب الغصب ج 3 ص 64.
(3) تذكرة الفقهاء: كتاب الغصب ج 2 ص 387 س 18 وما بعده.
(4) جواهر الكلام: كتاب الغصب ج 37 ص 170.
314

والأقوى في باب العقد ارتفاع الضمان، لأن المدار في هذا الباب تسليم
المبيع صحيحا.
وعلى أي حال، ليس ضمان الوصف في باب الغصب مطابقا لفتوى جميع
الفقهاء. هذا، مضافا إلى أن كون أحد الاحتمالات مخالفا للفتوى لا يوجب ظهور
الكلام في غيره، فإن الظهور لا بد أن يكون مستندا إلى اللفظ.
فالصواب: أن العيب غير قابل لأن يتعلق به الظرف، لأن المراد منه هنا:
الحاصل من المصدر، وهو معنى اسمي ليس فيه معنى الفعل، ولا يمكن إشراب
معناه فيه، ولا يمكن أن يجعل اليوم صفة للعيب بأن يكون الظرف مستقرا، لأنه
نكرة، والعيب معرف باللام، والظرف المستقر منحصر في النعت والصلة والحال
والخبر، وكل منها لا محل له في المقام.
الثاني: قوله عليه السلام: (أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون على أن قيمة البغل
يوم اكترى كذا وكذا) فيلزمك، فإنه لو كان العبرة بيوم المخالفة لم يكن وجه، لكون
القول قول المالك مع كونه مخالفا للأصل، فإن الأصل براءة ذمة الضامن عما
يدعيه المالك، وهذا بخلاف ما إذا قلنا بيوم الدفع فإن القول قول المالك، لكونه
مطابقا للأصل، لأن القول بيوم الدفع مرجعه: إما إلى بقاء العين بخصوصيتها إلى
يوم الدفع في عهدة الضامن، وإما إلى بقاء ماليتها الغير المتقدرة بالقيمة، فإذا ادعى
المالك زيادة قيمة العين أو الوصف يوم الدفع فالقول قوله، لأن الأصل عدم فراغ
ذمة الضامن بما يدفعه بدلا عن التالف. فإن ظاهر السؤال في قول السائل: فمن
يعرف ذلك؟ هو السؤال عن صورة التنازع، فكون قول المالك موافقا للأصل
منحصر في أن يكون المدار على يوم الدفع.
وفيه: أنه يمكن النزاع في تنزل القيمة يوم المخالفة مع اتفاقهما في القيمة قبل
ذلك فيدعي الغاصب التنزل فالقول قول المالك.
الثالث: أن سماع البينة من المالك لا يجتمع مع كون القول قوله، فلا بد من أن
يجعل سماع البينة منه في مورد، وكون القول قوله في مورد آخر، وهذا يتم على
315

القول بيوم التلف بحمل الرواية على صورتين:
الأولى: ما إذ اختلفا في تنزل القيمة يوم التلف مع اتفاقهما على قيمته سابقا،
فيدعي الغاصب التنزل فالقول قول المالك.
الثانية: ما إذا اختلفا في قيمته سابقا مع اتفاقهما على بقائه عليها إلى يوم
التلف فالقول قول الغاصب لأصالة البراءة، وعلى المالك إقامة البينة على
ما يدعيه.
وأما بناء على يوم المخالفة فلا بد إما من حمل النص على التعبد، وأن البينة
تسمع من المنكر في خصوص الغصب أو غصب الدابة. وإما من حمل كون قول
المالك موافقا للأصل على ما إذا اتفقا على القيمة قبل الغصب واختلفا في التنزل
يوم الغصب، فيدعي الغاصب التنزل، وكلاهما بعيد.
وفيه أولا: أن مجرد الاستبعاد لا يثبت المدعى، لأن للخصم دعوى الاستبعاد
في بعض الموارد على الوجه الآخر أيضا، فكما يمكن فرض مورد سماع البينة
من المالك غير مورد كون القول قوله بناء على القول بيوم التلف فكذا يمكن
اختلاف الموردين على القول بيوم المخالفة.
وثانيا: يمكن حمل الرواية على صورة واحدة، وهي دعوى الغاصب كون
الدابة معيوبة حين اكتراها فالأصل مع المالك، لأصالة الصحة، أو دعواه التنزل عما
اتفقا عليه سابقا قبل يوم المخالفة، وسماع البينة منه إنما هو لدفع اليمين عن نفسه
فتكون الصحيحة من الأدلة الدالة على سماع البينة من المنكر، كما في قضية
السرج المعروفة، وهي أن عيسى بن موسى أمر رجلا في السعي أن يدعي البغلة
التي عليها أبو الحسن موسى عليه السلام، فأتاه وتعلق باللجام وادعى البغلة، فثنى أبو
الحسن عليه السلام رجله ونزل عنها وقال لغلمانه: خذوا سرجها وادفعوها إليه، فقال:
السرج أيضا لي، فقال عليه السلام: كذبت عندنا بالبينة بأنه سرج محمد بن علي. وأما
316

البغلة فإنا اشتريناها منذ قريب وأنت أعلم بما قلت (1).
هذا تمام الكلام في مدرك القول بأن المدار على قيمة يوم المخالفة، وأما
مدرك سائر الأقوال فمدرك أعلى القيم وجوه:
الأول: ظهور الصحيحة، فإن قوله عليه السلام: (يوم خالفته) بيان لأن المخالفة
موجبة للضمان، والمفروض أن كلما كان الشئ تحت سلطنة الغاصب فالغاصب
خالف المالك فيه، ولا موجب لأن تكون القيمة ملحوظة في أول حدوث المخالفة،
بل إذا فرض قيمة العين في يوم أعلى من سائر الأيام فيضمنها الغاصب وإن تنزلت
بعد ذلك أو لم يكن بهذا المقدار في أول الأيام. ولامتناع اجتماع الضمانات لعين
واحدة يدخل الأدنى تحت الأعلى وينحصر في الأعلى.
الثاني: ما تقدم: من أن تفاوت الرغبات أيضا كالصفات يدخل تحت الضمان.
الثالث: ما ذكره المصنف قدس سره: من أنه إذا تلفت العين في يوم ارتفاع قيمتها
فلا إشكال في ضمان الأعلى بناء على الاعتبار بيوم التلف، فكذلك إذا حيل بينها
وبين المالك حتى تلفت فيضمن الأعلى ولو تنزلت يوم التلف، لكون الغاصب منع
المالك عن التصرف في اليوم الذي ارتفعت قيمتها.
الرابع: قاعدة نفي الضرر.
ولكن لا يخفى أن هذه الوجوه كلها تقتضي عدم الفرق بين رد العين وبين
تلفها، مع أنهم لا يلتزمون بذلك.
ولو قيل: بأن ضمان الأعلى مشروط بالتلف لقلنا بأن هذا يمكن بناء على
الوجه الأول والثالث. وأما الثاني والرابع فلا وجه لتقدير التلف في العين، بل نفس
تلف الوصف كاف لثبوت ضمانه على الغاصب.
هذا، مع أن التمسك بقاعدة الضرر لا وجه له في مثل المقام، لأن نفي الضرر
حاكم على الأدلة المثبتة للتكاليف وليس مثبتا لحكم يرفع به الضرر، فالحكم

(1) الكافي: ج 8 ص 72 ح 48، وفيه: (موسى بن عيسى)، عنه وسائل الشيعة: ب 24 من
أبواب كيفية الحكم ح 1 ج 18 ص 214.
317

بوجوب دفع الأعلى حتى لا يرد الضرر لا يستفاد من (لا ضرر). وأما مدرك يوم
الدفع فمن وجوه أيضا:
الأول: الصحيحة (1) فإن قوله عليه السلام: (يوم ترده عليه) ظاهر في أن المدار على
يوم الرد، وفيه ما تقدم من عدم الدلالة.
وحكي عن صاحب الجواهر: (2) أن لفظ (يوم) ليس في نسخة التهذيب
المصححة، فبناء على عدم الدلالة على يوم الدفع في غاية الوضوح، ولكن ما
أفاده معارض:
أولا: بنسخ الكافي الذي روى التهذيب (3) عنها، فإن لفظ (يوم) موجود فيها،
كما هو موجود في الوسائل (4) وغيره.
وثانيا: في مقام الدوران بين الزيادة والنقصان الترجيح مع عدم الزيادة، ولا
ينافي ذلك اشتراك كل منهما في الأصل العقلائي، وهو أصالة عدم الغفلة، لأن
الغفلة بالنقص أقرب إلى الانسان من الغفلة بالزيادة، فإن زيادة الراوي من عند
نفسه في غاية البعد.
وثالثا: مقتضى القواعد العربية لو لم يكن لفظ (يوم) أن يقال: تردها عليه،
لانحصار المرجع في القيمة، وهذا بخلاف ما إذا كان لفظ (يوم) في العبارة، فإن
مرجع الضمير هو البغل، لعدم إمكان إرجاع الضمير إلى القيمة، لأنه لا معنى لأن
يقال: عليك قيمة ما بين الصحة والعيب يوم ترد القيمة، لأنه ليس للقيمة قيمة يوم
الرد.
الثاني: قوله صلى الله عليه وآله: (على اليد ما أخذت حتى تؤدي) (5) بناء على ما

(1) تقدم تخريجها في الصفحة: 310.
(2) جواهر الكلام: كتاب الغصب ج 37 ص 102.
(3) تهذيب الأحكام: ج 7 ص 215 ح 943.
(4) وسائل الشيعة: ج 17 ص 313 ب 7 من أبواب الإجارة ح 1 و ج 13 ص 255، ب 17 من
أبواب الغصب ح 1.
(5) تقدم تخريجه في الصفحة: 64.
318

استظهرناه منه من أنه ظاهر في استقرار نفس المأخوذ في عهدة الآخذ، وتلفه لا
يقتضي انقلابه إلى القيمة، بل يبقى المال غير متقدر بالقيمة إلى يوم الأداء.
الثالث: تسالم الأصحاب على صحة المصالحة بين التالف وأي مقدار من
القيمة، ولو كان التلف موجبا للانقلاب إلى القيمة لم تصح المصالحة إلا على مقدار
ما يساوي قيمة التالف، وإلا لزم الربا، فعدم ملاحظة أحكام الربا كاشف عن أن
العوضين ليسا متجانسين.
وأما مدرك القول بيوم التلف فهو الأخبار الواردة في باب الرهن والعتق.
أما الأول: ففي الوسائل عن أبي حمزة سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول
علي عليه السلام: (يترادان الفضل، فقال: كان علي عليه السلام يقول) ذلك، قلت: كيف يترادان؟
فقال: إن كان الرهن أفضل مما رهن به ثم عطب رد المرتهن الفضل على صاحبه،
وإن كان لا يسوى رد الراهن ما نقص من حق المرتهن، قال: وكذلك كان قول
علي عليه السلام في الحيوان وغير ذلك (1).
وفيه أيضا عن إسحاق بن عمار (سألت أبا إبراهيم عليه السلام عن الرجل يرهن
الرهن بمائة درهم وهو يساوي ثلاثمائة درهم فيهلك، أعلى الرجل أن يرد على
صاحبه مائتي درهم؟ قال: نعم، لأنه أخذ رهنا فيه فضل وضيعه، قلت: فهلك
نصف الرهن؟ قال: على حساب ذلك، قلت: فيترادان الفضل؟ قال: نعم) (2). فهذان
الخبران يدلان على أمرين:
الأول: أن القيمي بمجرد التلف ينتقل إلى القيمة.
الثاني: أنه يحتسب التالف قهرا في مقابل الدين، والتهاتر القهري لا يمكن
إلا بالانتقال إلى القيمة في يوم التلف، وإلا كان على الراهن أن يؤدي الدين
ويأخذ حقه من المرتهن إما بقيمة يوم الإتلاف، أو يوم الدفع، أو أعلى القيم، أو
يوم التفريط لو كان غير يوم التلف.

(1) وسائل الشيعة: ج 13 ص 129 ب 7 من أبواب الرهن ح 1.
(2) المصدر السابق: ح 2.
319

وحملهما على الاحتساب بالتراضي لا شاهد له، لا سيما الأخير فإن ذيله وهو
قوله عليه السلام (على حساب ذلك) يدل على أن مجرد التلف يوجب فراغ ذمة الراهن
بمقدار ما تلف بتفريط المرتهن.
نعم، لا بد من حملهما على أن الرهن قيمي لا مثلي، وأن الدين من النقدين،
ولا بعد فيه، كما يدل عليه ذيل الخبر الأول، حيث قال عليه السلام: (وكذلك كان قول
علي عليه السلام في الحيوان).
ولو نوقش فيهما ففي الباب أخبار صريحة في السقوط، كقوله عليه السلام: (وإن
كان الرهن سواء فليس عليه شئ) (1). وقوله عليه السلام: (وإن كان الرهن يسوى ما
رهنه فليس عليه شئ) (2). وفي خبر آخر (وإن كان الرهن يسوى ما رهنه عليه
فالرهن بما فيه) (3). أي الرهن بدل عن الدين.
وأما الثاني: عن عبد الرحمن، عن أبي عبد الله عليه السلام: عن قوم ورثوا عبدا
جميعا فأعتق بعضهم نصيبه منه هل يؤخذ بما بقي؟ فقال عليه السلام: (نعم يؤخذ منه بقيمة
يوم أعتق) (4). وفي معناه روايات أخر (5).
واستدلوا أيضا بالأخبار الواردة في باب الإجارة، ولكن لا يخفى ما في
الجميع، فإنها واردة في باب الإتلاف.
ولو فرض أن إطلاق أخبار الرهن يشمل صورة التلف فلا بد من حمله على
صورة التعدي والتفريط، وإلا فليس المرتهن ضامنا عند التلف، وموضوع البحث

(1) الكافي: ج 5 ص 23 ح 6، عنه وسائل الشيعة: ج 13 ص 129 ب 7 من أبواب الرهن ح 3.
(2) من لا يحضره الفقيه: ج 3 ص 312 ح 4115، عنه وسائل الشيعة: ج 13 ص 129 - 130
ب 7 من أبواب الرهن ح 4.
(3) من لا يحضره الفقيه: ج 3 ص 308 ح 4101، عنه وسائل الشيعة: ج 13 ص 130 ب 7 من
أبواب الرهن ح 5.
(4) الكافي: ج 6 ص 183 ح 6، عنه وسائل الشيعة: ج 16 ص 22 ب 18 من أبواب العتق ح 6.
(5) وسائل الشيعة: ج 16 ص 23 - 24 ب 18 من أبواب العتق ح 9 وما بعده.
320

هو صورة التلف، ولا دليل على اشتراكهما في الحكم.
هذا، مع أن يوم الإتلاف والتعدي في باب عتق شقص من العبد وفي مسألة
الرهن والإجارة هو يوم المخالفة غالبا، فإن يوم التعدي والتفريط الذي هو يوم
المخالفة هو اليوم الذي يتلف الرهن.
فتحصل مما ذكرنا أن كون المدار على يوم المخالفة هو أقوى الأقوال، وبعده
يوم الدفع، بل لا يبعد أن يقال: إن المتفاهم بحسب العرف والعادة كون اليد
والاستيلاء على العين سببا لتقدير القيمة، وكون العين بماليتها الغير المتقدرة في
عهدة الضامن ليس أمرا ارتكازيا، لأن المال عند العرف هو المقدر بالقيمة.
هذا، مع أن حكمهم بجواز مطالبة المالك لقيمة العين في صورة تعاقب الأيدي
مع إمكان مطالبته ممن يكون العين تحت استيلائه ظاهر في أن الغصب سبب
لتحقق الضمان فعلا بقيمة المغصوب، وإلا لم يكن وجه لجواز مطالبته من الغاصب
الأول مع وجود العين في يد الغاصب الثاني، بل لا يمكن الجمع بين عدم فعلية
الضمان إذا كانت العين موجودة ولم يتمكن الغاصب من ردها إلى مالكها، وبين
القول بوجوب بدل الحيلولة، مع أن القول بيوم الدفع بناء على كون العين في الذمة
يقتضي ضمان منافعها أيضا، والظاهر بل المتيقن عدم التزامهم به، فيكشف عن أن
المدار على زمان وضع اليد على العين.
وكيف كان، فالمسألة مشكلة، والالتزام بآثار الأقوال أشكل كما سيظهر ذلك
إن شاء الله.
فينبغي لتوضيح جميع ما تقدم من التنبيه على أمور:
الأول: قد يتخيل في بادئ النظر التنافي بين ما تسالم عليه المشهور من صحة
المصالحة على المال التالف بأي مقدار من الدرهم أو الدينار، وبين قولهم بيوم
التلف، لأنه لو كان المال منتقلا إلى القيمة يوم التلف فالمصالحة على العين لا
وجه له، بل قد يتفق مضافا إلى ذلك صيرورة المعاملة ربوية فالمصالحة عليها إنما
يصح على القول بيوم الرد، كما تقدم أنه أحد الوجوه الدالة عليه، ولكنه يمكن
الجمع بينهما بأن يكون مقتضى الأصل هو يوم الدفع، ومقتضى الدليل هو يوم
321

التلف، بمعنى أن القائل بيوم التلف لا يقول بانتقال العين في يوم التلف إلى القيمة
حتى لا يصح المصالحة عليها، بل يلتزم ببقاء المال غير متقدر بالقيمة إلى يوم
الدفع، ولكن يوم الدفع إذا قدر بالقيمة يقدر بقيمة يوم التلف، للأدلة الدالة على
تعيين قيمة ذاك اليوم. ونظير ذلك: اجتماع الضمان يوم المخالفة مع بقاء العين في
ذاك اليوم، فإن معنى كون المدار على يوم المخالفة ليس بمعنى انتقال العين إلى
القيمة في ذاك اليوم، ولا بمعنى اجتماع ضمان العين والقيمة معا، بل معناه أن يوم
التلف يقوم بقيمة يوم المخالفة.
نعم، مقتضى ذلك أن يكون القول قول المالك عند الاختلاف، سواء قلنا بقيمة
يوم المخالفة أو يوم التلف، ولا يختص بما إذا قلنا بقيمة يوم الدفع، لأن الشك بناء
على كون العين بماليتها الغير المتقدرة في الذمة يرجع إلى الشك في الخروج عن
العهدة، لا إلى الشك في الاشتغال، فإن رجوع الشك إليه إنما يصح بناء على
الانتقال إلى القيمة.
الثاني: قد تقدم: أن تلف الوصف أيضا كتلف العين موجب للضمان، وهذا من
غير فرق بين الأوصاف الخارجية كوصف الصحة والكتابة والسمن ونحو ذلك،
والأوصاف الاعتبارية ككون الشئ في زمان كذا أو مكان كذا، فإنه مما يزيد في
مالية المال، وليس كتفاوت الرغبات وقلة المال، أي فرق بين نقصان القيمة
السوقية ونقص القيمة الحاصل باختلاف الزمان والبلاد، فلو رد العين في غير هذا
الزمان أو المكان وجب تدارك نقص قيمتها، وبناء عليه يجب رد النقص الخاص،
لا رد قيمة آخر الأزمنة أو الأمكنة الذي يخرج العين فيه عن القيمة، لأنه لو كان
للزمان أو المكان خصوصية فلا وجه لتدارك قيمة قبيل خروج العين عن المالية،
فلو نقل الماء عن مفازة الحجاز إلى محل آخر للماء قيمة فيه أيضا وجب تدارك
النقص.
نعم، نقصان القيمة السوقية بناء على القول بوجوب تداركه مختص بما إذا
تلف العين لا مطلقا. وذكرنا أن هذا ينافي القول باعتبار الأعلى، لأن القول به
322

معناه إلحاق القيمة السوقية بسائر الصفات، فاعتبار تلف العين فيه مشكل.
الثالث: لو تعذر الوصول إلى العين فهل حكمه حكم التلف؟ قولان، المشهور
ذلك.
وتبعهم المصنف قدس سره، فقال: ثم إن في حكم تلف العين في جميع ما ذكر من
ضمان المثل أو القيمة حكم تعذر الوصول إليه وإن لم يهلك، كما لو سرق أو
غرق. (1) لا يخفى أنه يسمى هذا الضمان ببدل الحيلولة، وتوضيح ذلك يتوقف
على بيان أمور:
الأول: في تنقيح مورده، وهو على ما يستفاد من كلمات الأعلام صرف
التعذر لا التلف وما بحكمه، كما إذا خرج المال عن المالية شرعا، أو سرق ولم
يعرف السارق بحيث لا يتمكن من رده إلى مالكه عادة، ونحو ذلك مما يعد تالفا
عرفا كما في الغرق ونحوه، فإن في هذه الموارد لا يضمن إلا قيمة المال أو مثله،
لا بدل الحيلولة.
نعم، في بعض الموارد يشك أنه من مصاديق التعذر أو التلف، كما لو غرق
ولم يحصل اليأس من الوصول إليه، فالأولى تأسيس الأصل في المسألة، ثم بيان
موارد الغرامات التي يكون التعذر منها، ثم بيان أقسام التعذر.
أما الأصل في المسألة فقد يقال: إن مقتضى قوله صلى الله عليه وآله: (على اليد ما أخذت
حتى تؤدي) (2) أن يكون المال بجميع خصوصياته الشخصية المثلية والصفات
المالية والسلطنة عليه في عهدة الضامن بمجرد وضع اليد عليه، خرج منه صورة
رد العين إجماعا، فيبقى الباقي فيشمل صورة التلف وما بحكمه، وصورة التعذر
بأقسامه، لأنه لو كان المال بماليته وخصوصياته في عهدة الغاصب مشروطا بعدم
رده فإذا لم يكن رد عينه فللمالك مطالبة بدله، سواء أصدق التلف أو التعذر أم لم
يصدق، خرج المال عن القيمة أم لم يخرج، كان التعذر عقليا أم عرفيا، كان زمانه
قصيرا أم طويلا، حصل اليأس من العين أم لم يحصل.

(1) المكاسب: كتاب البيع ص 111 س 31.
(2) تقدم في الصفحة: 64.
323

وقد يقال - كما هو المتبادر بدوا -: إن عموم (على اليد) لا يقتضي إلا ضمان
مالية المال عند التلف، لا ضمان شخص المال، فضلا عن توابعه إلا بمعنى رده
تكليفا، فكون العين تحت سلطنة المالك ليس مما يدخل تحت ضمان الغاصب
حتى يجب أن يخرج عن عهدة ذلك مع بقاء العين، فثبوت البدل عند التعذر
وإلحاقه بالتلف يتوقف على دليل.
ثم بناء على هذا يصير الأصل على عكس الأصل بناء على الأول، لأنه إذا
شك في صدق التلف أو التعذر فالأصل براءة ذمة الغاصب ومن بحكمه. وأما
موارد الغرامات فأربعة:
الأول: التلف الحقيقي.
الثاني: تلف جميع الانتفاعات في جميع الأزمنة، وهذا على قسمين:
قسم يخرج العين فيه عن الملكية، ولا يبقى إلا حق الاختصاص: كصيرورة
الخل خمرا، والدهن نجسا، بناء على عدم جواز الانتفاع بهما أصلا، وعدم
الانتفاع المعتد به.
وقسم لا تخرج فيه عن الملكية، كما إذا انكسرت المرآة أو الظروف
الصينية (1) ونحوهما.
الثالث: تلف بعض الانتفاعات الذي ليس مما يتقوم به الملكية في جميع
الأزمنة، كما لو صار الحيوان موطوءا فإنه لم يتلف منه إلا الانتفاع به دائما في بلد
الوطئ لا في سائر البلاد.
الرابع: تلف جميع الانتفاعات في بعض الأزمنة كاللوح المنصوب في السفينة
الذي يخاف بنزعه على النفس المحترمة ولو كان هو الغاصب أو تلف مال غير
الغاصب.
ولا شبهة في أن الثاني ملحق بالأول، فإنه في حكم التلف إما شرعا أو عرفا.
وأما الثالث: فلولا الدليل على الضمان لكان مقتضى القواعد العامة عدمه،

(1) أي: أواني الخزف، أو المنسوبة إلى بلد الصين.
324

لعدم فوت معظم الانتفاعات.
وأما الرابع: فهو مورد البحث في ثبوت بدل الحيلولة وعدمه، وعلى أي حال
بدل الحيلولة لا يقتضي دخول المبدل في ملك الضامن، فإنه غرامة عن المبدل،
لأنه عوض عنه.
فتفصيل المصنف بين غرامة الحيوان بالوطئ وسائر الغرامات - حيث اختار
دخول الحيوان في ملك الغارم دون غيره - لا وجه له، لأن وجوب الغرامة لو
اقتضى ملكية المتدارك من باب عدم إمكان الجمع بين العوض والمعوض لاقتضى
في الجميع، ولو لم يقتض ذلك لا يقتضي في الجميع.
وتوهم أنه إذا خرج الحيوان عن ملك المالك فلا بد أن يدخل في ملك الغارم
وإلا يبقى الملك بلا مالك، فاسد.
أما أولا: فلأنه لا موجب لخروجه عن ملك المالك، فإن الغرامة ليست عوضا
حتى يقتضي دخولها في ملك المضمون له خروج العين التي وجب على الضامن
غرامتها عن ملكه.
وأما ثانيا: فلأن خروجها عن ملكه لا يقتضي دخولها في ملك الغارم، لإمكان
دخولها في بيت المال، إلا أن يقال: إن تفصيل المصنف مستفاد من نفس الرواية
الدالة على غرامة الحيوان فإن قوله عليه السلام: (يغرم ثمنه) (1) ظاهر في أن الحيوان
بالوطئ يدخل في ملك الواطئ، فإن التعبير بالثمن إنما هو لبيان ذلك.
وأما أقسام التعذر فأصولها أربعة:
الأول: أن يكون لسرقة المال المضمون مع معرفة السارق، أو لأباق العبد،
وحاصله: ما تمكن الضامن من رده ذاتا، وإنما تعذر لعارض خارجي.
الثاني: أن يكون لعدم التمكن خارجا كالرطوبة الباقية على أعضاء الوضوء.
الثالث: أن يكون لخروج المال بالرد عن المالية كالخيط المغصوب الذي

(1) الكافي: ج 7 ص 204 ح 1، مع تفاوت يسير، عنه وسائل الشيعة: ج 18 ص 571 ب 1 من
أبواب نكاح البهائم ح 4.
325

خيط به الثوب، فإنه قد يكون إخراجه من الثوب مفضيا إلى التلف.
الرابع: أن يكون لخلطه بمال آخر، ولا يخفى أن بدل الحيلولة إنما يجري في
القسم الأول دون غيره، وسنشير إلى ذلك إن شاء الله.
الأمر الثاني: في الأدلة التي أقاموها على لزوم بدل الحيلولة، وهي أمور:
الأول: قاعدة لا ضرر، وفيه: أن هذه القاعدة كقاعدة لا حرج إنما تكون
حاكمة على الأحكام الثابتة في الشريعة الشاملة بإطلاقها لمورد الضرر، فكل
مورد استلزم من تشريع الحكم فيه ضرر على المكلف فهذا الحكم مرفوع.
وأما الحكم الغير الثابت الذي يلزم من عدم ثبوته ضرر على شخص فبقاعدة
لا ضرر لا يمكن إثباته، لأن القاعدة ناظرة إلى نفي ما ثبت من الأحكام الشرعية،
وعدم حكم الشارع بالضمان ليس من الأحكام المجعولة في الشريعة.
الثاني: أن فيه جمعا بين الحقين بعد فرض رجوع البدل إلى الضامن لو ارتفع
التعذر.
وفيه: أنه لو ثبت حق للمالك على الضامن مع بقاء عين ماله لكان دفع القيمة
إليه ما دام العين خارجة عن تحت استيلائه جمعا بين الحقين، وهذا يتوقف على
كون مجرد وضع اليد على العين مع بقائها موجبا لتعلق حق فعلي بالبدل للمالك
على الغاصب، وهذا مما لا يلتزم به أحد، حتى بناء على القول بأن المدار في
القيمي على يوم المخالفة، لأنه ليس معناه فعلية الضمان بالقيمة والعين، بل فعليته
بالنسبة إلى القيمة مشروطة بالتلف، غاية الأمر أنه يلاحظ قيمة يوم المخالفة،
وأما بدون تلف العين فلا حق له إلا على العين.
الثالث: عموم (الناس مسلطون). وفيه: أنه لا سلطنة له إلا على العين،
وعموم السلطنة لا يثبت الصغرى.
الرابع: كون الغاصب حائلا بين المالك وملكه.
وفيه: أن الحيلولة ليست من موجبات الضمان مستقلا إلا إذا دخل تحت اليد
أو الإتلاف. والمفروض أن قاعدة اليد لا تقتضي رد البدل مع عدم التلف،
326

والمفروض عدم الإتلاف.
الخامس: أنه فوت سلطنة المالك فيجب عليه تداركها.
وفيه: أنه ليس للمالك إلا الملك، وأما السلطنة عليه فهي من أحكام الملك،
فلا معنى لتعلق الضمان بها.
وهذا مراد المحقق الثاني - الذي هو ترجمان الفقهاء - من قوله: جعل القيمة
في مقابل الحيلولة لا يكاد يتضح معناه (1).
وحاصل إشكاله: أن مجرد منع الضامن عن إعمال المالك سلطنته في ماله
وحيلولته بينه وبين ماله لا يوجب أن تكون القيمة واجبة عليه، إلا أن يقال: ليس
المراد من السلطنة التي التزم المصنف قدس سره بتداركها هي الحكم الشرعي، بل المراد
هي الجدة الاعتبارية، فالبدل بدل لهذه الجدة التي هي: عبارة عن كون المال تحت
استيلاء المالك يتقلب فيه ما يشاء ويتصرف فيه ما يريد.
بل قيل (2): هذه هي التي تقع متعلقة للإجارة في مثل الدار والدكان، فإن
الأجرة تقع بإزاء كون العين تحت يده، فإذا كان الضامن سببا لتفويت هذه
الخصوصية على المالك وجب عليه تداركها، وهو لا يتحقق إلا بأداء ما هو بدل
المال من المثل أو القيمة حتى يتصرف المالك فيه على مشيئته.
وفيه: أن مقتضى ذلك إما ضمان المنافع، أو التفاوت بين كون العين تحت
استيلائه وبين كونها خارجة عنه لا بدلها، فإن المالك وإن لم يقدر على جميع أنحاء
التقلبات في ماله بواسطة الحيلولة إلا أن هذا لا يقتضي إلا الضمان للمنافع أو
النقص، فإما يستحق أجرته، أو أرشه، فالأولى الاستدلال له بما أشرنا إليه في
صدر المبحث، وهو أن (على اليد) يقتضي كون الضامن ضامنا للمأخوذ بجميع
خصوصياته: الشخصية، والنوعية، والمالية، والصفات، والسلطنة، فإذا كان ماليته
في عهدته فإطلاقه يقتضي عدم الفرق بين أن يكون التعذر دائميا أو مؤقتا.

(1) جامع المقاصد: كتاب الغصب ج 6 ص 261.
(2) لم نهتد إلى قائله.
327

نعم، يرد عليه أن مع بقاء العين لا وجه لدخول مالية المال في عهدة الآخذ، بل
تعلق الضمان بماليته إنما هو في طول تعلق الضمان بالعين، فإن ظاهر الحديث أن
نفس المأخوذ في عهدته، غاية الأمر أن وجوب الرد حيث إنه ليس حكما تكليفيا
محضا يقتضي أداء ما هو هو عند التلف.
إلا أن يقال: إنه بمناسبة الحكم والموضوع يستفاد عرفا من الحديث الشريف
أن الآخذ إما يجب عليه رد المأخوذ بشخصه، وإما ما يصدق عليه أنه أداء له ما لم
يتمكن من رد شخصه، ولا يرى العرف فرقا بين التلف والتعذر من حيث الدلالة
للحديث، فإن استقرار العين في عهدة الضامن يقتضي أن يخرج من تبعات ماليته.
نعم، إذا كان زمان التعذر قصيرا جدا فليست هذه المناسبة متحققة، كما أنه
لا يصدق الضرر أيضا.
الأمر الثالث: هل المدار في التعذر على التعذر المسقط للتكليف برد العين، أو
الأعم منه ومن التعذر العرفي؟ وجهان مبنيان على ما تقدم من الاختلاف في
تقريب الأصل في المسألة.
ولكن مقتضى الأدلة عدم الفرق بين الصورتين، فإن فوت سلطنة المالك
والضرر عليه مشترك بينهما، ففي مورد التعذر العرفي وإن وجب على الضامن
السعي في تحصيل العين إلا أن هذا لا ينافي وجوب البدل في زمان السعي، ولا
وجه لإجراء استصحاب عدم تسلط المالك الذي كان قبل التعذر، فإنه محكوم
بإطلاق (على اليد)، وعموم (السلطنة)، وقاعدة (لا ضرر)، وغير ذلك من الأدلة
التي أقاموها على ثبوت البدل واستحقاق المطالبة.
كما أن مقتضى الأدلة أيضا عدم الفرق بين العلم بحصول العين واليأس منه
ورجائه، ولا وجه لاختصاصه بمورد اليأس، وليس دليل بدل الحيلولة لبيا حتى
يكون المتيقن منه صورة اليأس.
ثم لا يخفى أن جهة البحث في التعذر العقلي أو العادي غير جهة البحث في
328

تقييد التعذر بمورد اليأس أو إطلاقه، لأن اليأس من الحصول قد لا يوجب سقوط
التكليف، لعدم كونه متعذرا عقلا، كما أن العلم بوجدانه فيما بعد أو رجاء وجدانه
قد يوجب سقوط التكليف فعلا، لكونه متعذر الحصول عقلا في هذه الحال: إما
للمنع الشرعي الذي هو كالامتناع العقلي كما في اللوح الذي يوجب نزعه تلف
النفس المحترمة أو مال غير الغاصب، وإما للمنع الخارجي التكويني، فكل من
مورد اليأس والعلم قابل لتقسيمه إلى التعذر العقلي والعرفي. كما أن طول الزمان
وقصره أيضا قابل لتقسيمه إليهما وإلى اليأس والعلم.
فما أورده السيد قدس سره في حاشيته بعد قول المصنف: ثم الظاهر عدم اعتبار
التعذر المسقط للتكليف بقوله: لا يخفى أن هذا ليس مطلبا آخر، بل هو نفس الوجه
الأخير الذي أيده بأن فيه جمعا بين الحقين. كما أن تعبير البعض بالتعذر هو نفس
الوجه الأول وهو اليأس من الوصول فلا وجه للتكرار (1) غير وارد، فتدبر.
وكيف كان، لو قلنا: بأن المالك يستحق المطالبة بالبدل من الضامن بمجرد
أخذ المبدل غاية الأمر أنه مشروط بالتلف أو التعذر فلا فرق بين أقسام التعذر إلا
أن يكون زمانه قصيرا جدا.
الأمر الرابع: في الأحكام المتفرعة عليه بعد ثبوته، وهي في ضمن مسائل:
الأولى: هل البدل ملك للمالك أو مباح له؟ وجهان، والأقوى كونه ملكا له،
لأنه لو ثبت للمالك حق في أخذه البدل فهو ملك له، ولو لم يثبت فلا يباح له
أيضا، والالتزام بالإباحة حتى لا يجتمع العوض والمعوض في ملك المالك لا
موجب له، لأنه يمكن أولا: الالتزام بكون العين المتعذر ردها ملكا للضامن، كما
اختار ذلك صاحب الجواهر (2) قدس سره في بعض أقسام التعذر كالخيط الذي برده
يتلف، (أو تلف) المخيط، والرطوبة الباقية على أعضاء الوضوء. واختار ذلك

(1) حاشية المكاسب للسيد الطباطبائي اليزدي: ص 107 س 15.
(2) جواهر الكلام: كتاب الغصب ج 37 ص 79 - 80.
329

السيد المحشي (1) قدس سره في جميع أقسام التعذر، بل في التلف الحقيقي، وهذا وإن لم
يستقم - كما سيجئ وجهه - إلا أنه يرفع إشكال الجمع.
وثانيا: وجوب البدل ليس إلا من باب الغرامة لا المعاوضة، فإذا كان كل
واحد من البدل والعين المتعذر ردها ملكا للمالك فلا محذور فيه، لأن اجتماعهما
كاجتماع الأرش والعين المعيبة.
ولكن الصواب أن يقال: لو كان البدل بدلا عن المالية بأن استفدنا وجوبه عن
عموم (على اليد) فهو ملك للمالك، ولو كان بدلا عن السلطنة الفائتة فمقتضاه كونه
مباحا له كالإباحة في المعاطاة، لأن ما فات عن المالك هو آثار الملك، وهي
التصرف والتقلب فيه كيف شاء، فلا بد أن يقام مقامه ما جاز للمالك التصرف فيه
حتى المتوقف على الملك، كما كان له السلطنة على عينه قبل التعذر، ومقتضى ذلك
هو الإباحة المطلقة، والالتزام بالملكية آنا ما في التصرف المتوقف على الملك لا
الملكية من أول الأمر.
وكيف كان، لم يجتمع عند المالك العوض والمعوض، ولا البدل والمبدل، لأن
الغرامة لو كانت مباحة له كانت بدلا عن السلطنة الفائتة، ولو كانت ملكا له فهي
بدل عن مالية ماله التي فاتت منه زمان التعذر.
الثانية: هل البدل بدل للعين دائما، أو ما دام التعذر، أو ما لم يرد العين، أو
تفصيل بين القول بالملكية والإباحة؟ وجوه، والأقوى كونه موقتا مطلقا فيعود إلى
ملك الغارم، أو إلى تحت سيطرته بعد التمكن، أو بعد رده العين على الوجهين
الآتيين، وذلك لأن من مناسبة الحكم والموضوع يستفاد أن الحيلولة أو التعذر
موضوع للحكم بوجوب الغرامة وعنوان له، لا أنه علة له حتى يمكن أن تبقى
الغرامة للمالك دائما، لاحتمال كون حدوثه آنا ما كافيا لبقائها له أبدا، كما في
مسألة التغير الذي هو علة لثبوت النجاسة في الماء لا عنوانا للموضوع، بل لو شك
في كونه عنوانا أو علة لكفى في عدم جريان استصحاب بقاء حق المالك.

(1) حاشية المكاسب للسيد الطباطبائي اليزدي: ص 108 س 33 وما بعده.
330

وبالجملة: بعد التمكن أو بعد رد العين لا وجه لبقاء الغرامة في ملك المالك، أو
تحت سلطانه، فإنها وإن لم تكن عوضا بل كانت: إما بدلا عن السلطنة، أو بدلا عن
المالية إلا أن بدليتها كانت موقتة لا دائمية.
إلا أن يقال: إنها لو كانت بدلا عن السلطنة فحيث إنها كانت بدلا عن السلطنة
الفائتة التي لا ترجع إلى المالك أبدا، فتبقى هذه أيضا على البدلية دائما، بل يمكن
أن يقال أيضا بالملكية الدائمية على القول بالملك من جهة عدم ثبوت الملك
الموقت في الشرع.
ولكن الحق عدم إمكان الالتزام بالسلطنة الدائمية، ولا بالملكية كذلك، ولا
يجري الاستصحاب على الوجهين.
أما بناء على بدليتها عن السلطنة فلأن مقدار ما فاتت من السلطنة تتدارك
بالغرامة، فإذا عادت فتعود الغرامة أيضا إلى الغارم.
وأما بناء على كونها بدلا عن المالية فلأن القول بأن الملكية المؤقتة غير ثابتة
في الشرع غير مسموع، لأن ثبوتها كذلك لم يقم برهان على امتناعه إلا في البيع،
لقيام الاجماع على بطلانه كذلك، فإذا اقتضى الدليل التوقيت في غير البيع فيتبع
هذا، مع أن في الأوقات الخاصة الملك للبطون ليس دائميا (1).
الثالثة: هل العين التي يجب على الضامن غرامتها ملك للضامن مطلقا، أو
باقية في ملك المالك مطلقا، أو تفصيل بين الغرامات؟ وجوه، قد تقدم أن كل مورد
دل الدليل على كون الغرامة ثمنا فيستكشف منه: أن وجوب دفع الغرامة من باب
المعاوضة الشرعية القهرية، وما لم يقم دليل عليه فلا موجب لدخول العين في ملك
الغارم، من غير فرق بين التعذر بأقسامه والتلف الحقيقي والعرفي، وجريان
الرجاء فيها لا يدل على كون الغرامات من باب المعاوضة، إلا إذا قلنا: بالتلازم
بينهما، وبناء عليه لا نلتزم بجريان الرجاء فيها، فإن عدم صحة رد الزائد أو

(1) لا يقال: إن دوران الملك مدار الحياة لا يقتضي التوقيت وإلا لجرى ذلك في جميع
الأملاك، للفرق بين ملك البطون وملك غيره كما لا يخفى. (منه عفي عنه).
331

الناقص في المكيل أو الموزون وبدلا عن التالف أو المتعذر ليس اتفاقيا، وبناء
على ثبوت الاتفاق ليس اختصاص الربا بالمعاوضات اتفاقيا.
وبالجملة: الغرامة لا معاوضة مالكية ولا شرعية قهرية، فإن الدليل الدال على
الضمان لا يقتضي كون العين ملكا للضامن، سواء أصارت تالفة حقيقية أم عرفا،
كما إذا خرجت عن قابلية الانتفاع بها، كالأواني المكسورة، والماء المصبوب على
أعضاء الوضوء. أو شرعا، كما إذا صار الخل خمرا، أو صارت متعذرة، كمورد بدل
الحيلولة، بل في التلف الحقيقي لا يعقل دخول التالف في ملك الضامن، وللقطع
باتحاد الحكم في جميع موارد الغرامات نحكم بعدم دخول المبدل في ملكه
مطلقا، بل يبقى في ملك مالكه، وذلك لأن في التلف الحقيقي إما أن يقال بدخول
التالف في ملكه قبل التلف أو بعده، فلو قيل بدخوله قبله: كدخوله في تلف المبيع
قبل قبضه آنا ما في ملك البائع وكذلك في المعاطاة. ففيه:
أولا: أنه يلزم تقدم المعلول على علته بيان الملازمة واضح، فإن التلف علة
للغرامة، والغرامة علة لدخول التالف في ملك الغارم، فكيف يدخل في ملكه قبل
التلف الذي هو علة لعلته؟.
والقول: بأن في الرتبة السابقة على التلف يقدر التالف ملكا للضامن لا في
الزمان السابق عليه لا يستقيم، لامتناع التقدم الرتبي أيضا.
وثانيا: أن هذا يقتضي التقدير في التلف الحكمي والتعذر بأقسامه، فيلزم أن
يكون التعذر بنفسه موجبا لملكية المتعذر للغارم، ولازم ذلك أن تكون منافعه قبل
أداء الغرامة له، ولا أظن أن يلتزم به أحد ولو كان بعده، فدخول المعدوم في الملك
أمر لا يعتبره العقلاء، وفرضه موجودا، لا يجعله موجودا، مع أنه بلا موجب.
وبالجملة: حيث إن الغرامة سادة للثلمة التي وردت على ملك المالك فلا
يقتضي لزومها على الغارم دخول عين المالك في ملكه، لأنها ليست بدلا عن نفس
العين، فبقاء العين في ملك المالك لا يقتضي الجمع بين العوض والمعوض، ولا
البدل ولا المبدل.
332

ثم إن مقتضى ذلك أنه لو خرج العين عن قابلية التملك كما إذا صار الخل
خمرا كان المالك أولى من الضامن به، ويبقى حق الاختصاص له.
ولا يقال: لم يكن له حق الاختصاص في عرض الملك، لأن لكل منهما موردا
مستقلا، ولا يجتمعان في مورد واحد حتى يبقى أحدهما بعد زوال الآخر، فإذا
زالت الملكية فإما يلحق بالمباحات الأصلية فهو لكل من سبق إليه، وإما للغاصب
لكونه في يده. وعلى أي تقدير، فثبوت الأولوية للمالك مشكوكة، لأنها جديدة
تتوقف على سبب، والأصل عدمه.
لأنا نقول: ليس الحق أمرا مغايرا للملك، بل هو من شؤونه ومراتبه الضعيفة
المندكة تحت القوي، لأنه عبارة عن إضافة خاصة بين المستحق والمستحق
عليه، وهي حاصلة للمالك ومحفوظة في جميع الحالات المتواردة على الملك،
فهي كالهيولي لا تزول بزوال الصور النوعية، فإذا صار الخشب رمادا لا يزول عنه
إضافة المالك، بل قد لا تزول الصورة كالماء الخارج عن المفازة، والجهد الباقي
من الصيف إلى الشتاء، ولا يصح قياس الملك والحق على الوجوب والاستحباب،
لأنهما متغايران بالملاك، ولكل منهما مصلحة مستقلة، فإذا نسخ الوجوب لانتهاء
مصلحته فلا تبقى مرتبة ضعيفة من الطلب حتى يبقى الاستحباب، فإنه يحتاج إلى
ملاك مستقل، والجامع الطلبي لا يكفي للحكم بالاستحباب، ولذا عدا حكمين
متضادين.
نعم، لو أحرزنا ملاك الاستحباب في ضمن ملاك الوجوب لقلنا ببقائه بعد
فسخ الوجوب.
ثم إن هنا قولا بالتفصيل بين من كان يده يدا تبعية كيد الوكيل، والودعي،
والمرتهن، وكل يد أمانية فحق الاختصاص للمالك، ومن كان يده يدا استقلالية
كالغاصب والآخذ بالعقد الفاسد فهو له، ولكن الأقوى ما عرفت: من بقاء حق
الاختصاص للمالك مطلقا، لكونه من مراتب الملك، بل لو قيل: بأنه من أحكام
السلطنة وآثارها فهو له أيضا، لأنه إذا كان من آثار السلطنة على الشئ ثبوت
333

حق الاختصاص فيه فهذا غير قابل للزوال بزوال الملكية.
نعم، لو قيل: بأن الحق والملك متغايران ذاتا وموردا فيجئ النزاع في أنه
لمن سبق إليه، أو للمالك مطلقا، أو لمن كان يده يدا استقلالية؟ وعلى هذا لا يجري
استصحاب وجوب الرد الثابت سابقا، سواء كان هو المتأصل في الجعل والملكية
أو الحق، منتزعة عنه أم كان المجعول هو الملكية، أو حق الاختصاص، وكان
وجوب الرد من أحكامه.
أما على الأخير فواضح، للعلم بزوال الملكية والشك في ثبوت حق
الاختصاص، وأما على الأول فلأن الوصف العنواني وهو الملك أو الحق له دخل
في وجوب الرد، وليس الموضوع هو ذات الشئ، ولا أقل من الشك فلا مجال
لاستصحابه، فتأمل.
ولكن هذا القول ضعيف جدا، ولا يشهد له الاختلاف في باب إحياء الموات،
وهو: أن من عمر أرضا خربة تركها أهلها هل ينتفع بها بلا حق لصاحبها الأصلي،
أو مع إعطائه طسقا، لأن الاختلاف فيه: إنما هو لاختلاف الأخبار في بقاء الملك
على ملك المالك الأصلي فيستحق الطسق، أو زواله فلا يستحق شيئا، ولا تدل
على عدم بقاء حق الاختصاص لصاحبه الأصلي مع بقاء الملك على ملكه، بل من
نفس هذه الأخبار يظهر صدق ما ادعيناه من أن الحق من مراتب الملكية،
لظهورها في أن من حجر مكانا يستحقه اختصاصا لا ملكا، وإذا عمره يصير ملكا
له، فيحصل له أولا حق الاختصاص ثم الملكية، ولا شبهة في أن الحق لا يزول بعد
حصول الملك، بل يندرج فيه.
وكيف كان، لا إشكال في أن الخمر إذا صار خلا عاد إلى ملك المالك اتفاقا
إذا لم يسبقه سابق.
ثم إن مما يتفرع على هذه المسألة عدم جواز المسح بالبلل الباقي على
أعضاء الوضوء، فإن الماء وإن كان تالفا عرفا فيجب على الضامن بدله، إلا أنه لم
يخرج عن ملك المالك، لما عرفت أن الضمان في حد نفسه لا يقتضي دخول
334

المضمون في ملك الضامن، ولذا لم يلتزم أحد بأن الضامن لدين الغير يملك الدين،
وعرفت أن جريان الربا في الضمان لا يلازم كونه معاوضة، ولذا ينسب إلى
المشهور جريانه في الضمان العقدي، فقالوا: لا يجوز أن يصير الشخص ضامنا
لدين في ذمة الغير أزيد مما في ذمته إذا كان مكيلا أو موزونا، مع أنهم لا يلتزمون
باقتضاء الضمان المعاوضة مطلقا.
اللهم إلا أن يقال بالفرق بين الخمر والرطوبة الباقية على أعضاء الوضوء، فإن
الخمر قابل للتخليل فيبقى حق الاختصاص للمالك، أو هو مباح لكل من سبق إليه،
وأما الرطوبة فلا هي مال، ولا فيها حق اختصاص، لعدم إمكان ردها إلى المالك
خارجا، وعدم قابلية الانتفاع بها لغير المتوضئ.
وبالجملة: الرطوبة شئ لا يمكن أن يتعلق بها وجوب الرد تكليفا، ولا هي
في عهدة الضامن وضعا، لأن ما لا يمكن أداؤه أبدا لا معنى لأن يتعلق الضمان به،
فإذا خرجت عن المملوكية عرفا فلا مانع لأن ينتفع بها من هي على أعضائه، فتأمل.
الرابعة: هل دفع البدل حق للضامن أو المطالبة به حق للمالك، أو لكليهما؟
والأقوى هو الثاني كما اختاره المصنف قدس سره، فقال: ثم إن ثبوت القيمة مع تعذر
العين ليس كثبوتها مع تلفها في كون دفعها حقا للضامن (1).
ووجهه واضح، فإن مجرد التعذر لا يوجب انقلاب العين إلى القيمة كما قلنا
بذلك في المثلي المتعذر مثله، فليس للضامن إلزام المالك بأخذ البدل بحيث لو
امتنع منه رده إلى الحاكم، بل للمالك الإغماض عن الخصوصية الشخصية
والمطالبة بالبدل، وله الصبر، لأنه لو كان العذر أبديا لم يكن المتعذر قابلا لأن
يتعلق به وضع، كما لا يمكن أن يتعلق به تكليف.
وأما العذر الموقت فهو وإن استلزم سقوط الحكم التكليفي ما لم يتمكن
الضامن من الرد ولو بالسعي في مقدماته إلا أنه لا وجه لسقوط الخصوصية
الشخصية فالخيار للمالك، وهذا من غير فرق بين القول بأن البدل بدل عن المالية

(1) المكاسب: كتاب البيع ص 112 س 5.
335

أو عن السلطنة، والقول بأنه بدل عن كون العين تحت الاستيلاء، لأن الخصوصية
الشخصية تسقط على جميع التقادير لا وجه له. ومجرد إرادة الضامن تفريغ ذمته
عن تبعات العين من ضمان المنافع وارتفاع القيمة السوقية ونحو ذلك من نقص
الأوصاف لا يقتضي أن يكون حق الدفع له.
الخامسة: أنه لا إشكال في أن الضامن قبل دفع الغرامة يضمن منافع العين
المتعذرة، ولو تلفت يضمن ارتفاع القيمة السوقية، بناء على القول بأعلى القيم، فإن
العين في عهدته بجميع تبعاتها، ولا فرق بين ضمان المنافع وارتفاع القيمة.
وما استظهره المصنف (1) من كلام بعض من تعرض لضمان المغصوب من عدم
ضمان ارتفاع القيمة السوقية الحاصل بعد التعذر وقبل الدفع، حيث عطف التعذر
المتعذر على التلف. ففيه: أن العطف لا يقتضي الاتحاد بين المعطوف والمعطوف
عليه من جميع الجهات، فعدم ضمان ارتفاع القيمة بعد التلف لا يقتضي عدمه بعد
التعذر وقبل الدفع.
وعلى أي حال، فالحق هو ما اختاره قدس سره من اتحاد حكمهما لو تلفت العين،
وإنما الفرق بينهما من جهة أخرى، وهي أن ضمان ارتفاع القيمة مشروط بالتلف،
لأنه لو رد العين فلا يجب غيرها، وأما المنافع فيضمنها مطلقا.
وبالجملة: لا إشكال في أنه يضمن المنافع وارتفاع القيمة، إنما الإشكال في
أنه يضمن كذلك بعد الدفع أيضا، أو يخرج عن عهدة جميع ذلك بالدفع، والأقوى
خروجه عن جميع التبعات بعد ما قوينا أن وجوب البدل إنما هو من باب تدارك
المالية، أو كون العين تحت اليد، لأنه سقط خصوصية العين بالتعذر وأدى المالية
فلم يبق في ذمته شئ يستتبع المنافع، فيكون هذا نظير ما إذا أدى القيمة في
المثلي المتعذر مثله. نعم، لو كان وجوبه من باب تدارك السلطنة فيبقى جميع
التبعات على عهدته.
السادسة: إذا ارتفع العذر وتمكن من رد العين إلى مالكه وجب الرد فورا،

(1) المكاسب: كتاب البيع ص 113 س 13.
336

حتى على القول بالمعاوضة القهرية الشرعية، لأن حكم الشارع بالمعاوضة مترتب
على عنوان التعذر، ويدور مداره، ولا يمكن قياس المقام على المثلي المتعذر مثله
بعد أداء قيمته، حيث قلنا بأنه لا يجب رد المثل بعد التمكن، فإنهما وإن اشتركا
في أن الخصوصية العينية أو المثلية غير قابلة للإسقاط بنفسها إلا أنهما مفترقان في
أن المثلية أثر كلي تدخل في الذمة، فإذا أغمض المالك عنها ولم يصبر إلى زمان
تمكن المثل وطالب المالية فيقع كل ما أداه الضامن مصداقا لما في ذمته وبدلا عن
الكلي.
ولا شبهة أن كل ما وقع بدلا عن الدين يوجب سقوطه ولو كان من غير جنسه،
وهذا بخلاف العين الشخصية فإنها إذا سقط أداؤها بالتعذر وطالب المالك ماليتها
فوقوع كل ما يؤديه الضامن بدلا عن العين يحتاج إلى معاوضة مالكية أو شرعية
أبدية، لا دائرة مدار التعذر، لأن العين لا تدخل في الذمة حتى تبرأ ذمة الضامن
عنها بأداء بدلها، فإذا ارتفع التعذر يجب رد العين، وهذا أيضا مقتضى قوله عليه ا لسلام:
(على اليد ما أخذت) (1) المعني بأداء المأخوذ.
السابعة: قد عرفت أن الغرامة ليست ملكا دائميا للمالك على جميع التقادير،
إنما الكلام في أنه يرجع إلى الغارم بمجرد تمكنه من رد العين، أو بردها خارجا؟
وجهان، والأقوى هو الثاني، وذلك لأن التعذر وإن أوجب استحقاق البدل إلا أنه
علة للوجوب، لا أنه موضوع له حتى يبطل البدلية بمجرد التمكن، وذلك لأن
التمكن لا يخرج العين عما هي عليه من انقطاع سلطنة المالك عنها وعدم كونها
تحت يده، فما لم يرجع العين لا تدخل تحت سلطنته ويده، ولا تعد مالا من أمواله،
فالموضوع هو خروج العين عن تحت السلطنة لا التعذر، فإنه علة للوجوب
كالتغير الذي هو علة لعروض النجاسة على الماء، فإذا شك في أنه علة محدثة
فقط أو علة محدثة ومبقية أيضا فيستصحب بقاء البدل على ملك المالك، ولازم
ذلك عدم ثبوت الضمان الجديد، فإن منشأ توهم الضمان الجديد هو عود الغرامة

(1) تقدم تخريجه في الصفحة: 64.
337

إلى الغارم، ومنشأ العود هو كون التعذر ركنا لثبوت تملك المالك للغرامة، وكونه
ركنا يتوقف على أن يكون التمكن موجبا للجمع بين العوض والمعوض عند
المالك، مع أن مجرد التمكن لا يخرج العين عما هي عليه من انقطاع سلطنة
المالك، ولا تعد مالا من أمواله، فلا وجه لخروج البدل عن ملك المالك قبل رد
العين، ولا وجه للضمان الجديد، بل العين قبل الرد مضمونة بالبدل، فإذا تلفت بعد
التعذر وقبل الرد يتعين البدل للبدلية، وعلى هذا لا وجه لاستحقاق الغارم لحبس
العين، لأنه لا يستحق الغرامة إلا برد العين، فإذا كان علة استحقاقه هو الرد فكيف
يتقدم المعلول على علته؟
ولا يقال: مقتضى ذلك عدم جواز مطالبة المالك العين من الغارم، لأنه ما لم
يرد الغارم العين إليه يبقى بدلية الغرامة على حالها، فإن سقوط البدلية وارتفاعها
على الفرض إنما هو بالرد، فمع بقاء البدلية كيف يجوز له المطالبة؟
نعم، بناء على كون البدل بدلا عن السلطنة يمكن التفكيك بين الأحكام
الوضعية، فيبرأ الضامن عن بعض آثار المضمون دون بعضها الآخر، فيجوز للمالك
المطالبة مع بقاء البدل في ملكه.
لأنا نقول: لا تنافي بين براءة ذمة الضامن عن مالية المال وعدم عود البدل
إلى ملكه بمجرد التمكن وبين جواز مطالبة المالك بحق مالكي، وذلك لأن براءة
ذمة الضامن ليس إلا لأنه لم يبق من حيث مالية المال في عهدته شئ، ولكن
علقة المالك بالنسبة إلى ملكه باقية، ولذا يصح في هذا الحال بيعه أو صلحه من
غير الغارم، فاستحقاق المالك إنما هو لبقاء علقته كما في الخل الذي صار خمرا،
وكما في الأواني المكسورة، وحيث إنه لا يمكن رد العين إلا في ضمن ماليتها
فيجب عليه رد المال، وبعد ذلك يستحق البدل، لئلا يجتمع البدل والمبدل عند
المالك.
بل يمكن أن يقال: ليس للغارم حق حبس العين ولو قيل ببطلان البدلية
بمجرد التمكن.
338

وتوضيح ذلك: أن النزاع في استحقاق الغارم حبس العين إلى أن يدفع المالك
الغرامة وعدمه يقع في مقامين: الأول: فيما لو وصل العين في يده. والثاني: مجرد
التمكن من ردها مع بقائها في يد الغير، أو المحل الذي كانت فيه، فمعنى حبسها
هو الأعم من حبسها تحت يده وعدم إقدامه على تحصيلها.
والمصنف (1) رجح أولا عدم ثبوت حق له، لأن العين لم تكن معوضة عن
البدل، بل كانت السلطنة معوضة عنه. ثم رجح ثانيا ثبوت الحق له، لأن العين وإن
لم تكن معوضة بل كان المعوض هو السلطنة إلا أن حبس السلطنة لما كان متوقفا
على حبس العين لتضمن العين السلطنة عليها فلا مانع من حبس العين، وذلك كما
يحبس الخياط الثوب المخيط لتضمنه الخياطة التي هي معوض عن الأجرة،
وكذلك حبس القصار الثوب.
ولكنك خبير بأن المورد الذي دل الدليل على جواز الحبس فيه: هو مورد
المعاوضات قبل الفسخ وبعده.
أما قبله فللشرط الضمني من المتعاوضين، فإن بناءهما بحسب العادة هو
التسليم والتسلم بحيث صار ذلك من الأمور الارتكازية عند العرف، فللبائع
حبس المبيع ليأخذ الثمن، وللمشتري حبس الثمن ليتسلم المبيع.
وأما بعد الفسخ فحق الحبس وإن لم يكن خاليا عن الإشكال، لأن العقد إذا
بطل بطل بتوابعه ومنها الشرط الضمني إلا أنه ادعي الاجماع على أن لهما حق
الحبس، أو أن الشرط الضمني اقتضى حق الحبس بعد الفسخ أيضا، وبطلانه
لبطلان متبوعه لا يقتضي ذهاب أثره، لأن هذا الأثر أثر لمطلق وجوده لا لبقائه،
وإذا ثبت حق الحبس إما للشرط الضمني أو الاجماع ارتفع إشكال
الأردبيلي (2) قدس سره: من أن ظلم أحدهما لا يسوغ ظلم الآخر، وأما ثبوته في المقام
فلا دليل عليه، سواء قلنا بأن باب الغرامات باب المعاوضات، أو قلنا بأنه ليس

(1) المكاسب: كتاب البيع ص 113 س 33.
(2) مجمع الفائدة والبرهان: كتاب المتاجر ج 8 ص 504.
339

إلا تدارك الفائت، وسواء أقلنا بعود الغرامة بمجرد التمكن أم بعد رد العين، وذلك
لأنه لو قلنا بأن الغرامة لا تعود إلا برد العين فلا يتحقق موضوع لحق الحبس، فإنه
نظير الخيار الحاصل برد مثل الثمن، فإنه ليس للبائع حبس الثمن لأخذ المثمن،
لعدم تحقق الخيار له إلا بعد رد الثمن.
وأما لو قلنا بأن الغرامة تعود بمجرد التمكن فلو قلنا بالمعاوضة بين الغرامة
والعين فهذا وإن كان نظير بعد الفسخ إلا أن الدليل الدال على ثبوت حق الحبس
بعد الفسخ لا يدل على ثبوته في المقام، لأن الحبس فيه إنما هو لفسخ المعاوضة
المالكية، وفي المقام معاوضة شرعية قهرية، فيتوقف ثبوت الحق فيه على دليل
بالخصوص.
ولو قلنا بأنه من باب الغرامة فأمره أظهر، لأن باب الغرامة لم يثبت فيها
جواز الحبس للغرم، فلا يشبه بالعقد بعد الفسخ أيضا، وهذا من غير فرق بين كون
الغرامة بدلا عن السلطنة أو المالية، لعدم ثبوت الحق للضامن على أي تقدير.
وحاصل الكلام أنه لا وجه لعود الغرامة إلى الضامن بمجرد تمكنه من رد
العين، فلا يضمن ضمانا جديدا، وليس له حق الحبس.
ولا يقال: فيما إذا دخل العين تحت يد الضامن لا يمكن الالتزام بعدم ضمانه
ضمانا جديدا، وإلا يلزم أن يكون التصرف في مال الغير بغير إذنه خارجا عن أدلة
الضمانات، مع أنه ليس أمانة شرعية، وإذا التزمنا بالضمان الجديد في هذه
الصورة فلا بد من الالزام بأن مجرد التمكن يوجب عود الغرامة إلى الضامن
ويوجب الضمان الجديد أيضا، وإلا لزم القول بالفصل في المسألة مع اتفاق
الأعلام على أحد القولين: إما عود الغرامة إليه بمجرد التمكن، وإما برد العين
فعودها إليه في بعض أقسام التمكن دون بعض قول ثالث.
لأنا نقول، أخذ العين ووضع اليد عليها: إما لمحض الرد إلى المالك، وإما
للتصرف فيها عدوانا، فلو كان للرد إلى المالك: فإما أن نتصرف فيها بمقدار يتوقف
الرد عليه، وإما زائدا عليه. فلو كان مقدمة للرد وتصرف فيها بمقدار ما يتوقف
340

عليه الرد فالحق عدم تعلق الضمان الجديد بها، لأن تصرفه فيها إما من باب الإذن
الشرعي الذي نشأ من وجوب الرد تكليفا، وإما لمطالبة المالك، وإما لحق الحبس
بناء على ثبوته له ولو قبل عود الغرامة إليه.
وعلى أي تقدير، فيد الغارم يد أمانة لا يد عدوان، ويد الأمانة خارجة عن
عموم (على اليد) إما تخصصا، أو تخصيصا، وكون قبضه لمصلحة نفسه ليس من
موجبات الضمان في حد ذاته، كما أنه ليس رافعا للضمان أيضا، مع أن القبض
ليس أصلح له دائما، كما إذا كانت الغرامة أغلى قيمة وأكثر نفعا من العين.
وبالجملة: العين التي وجب ردها إلى المالك عين مسلوبة المالية، فإذا تصرف
فيها مقدمة للرد ولم يماطل فيه فلو تلفت بقيت الغرامة على البدلية، وتكون العين مضمونة بها لا بشئ آخر فلا وجه للضمان الجديد وبطلان الضمان الأول.
وأما لو تصرف فيها زائدا عما يتوقف الرد عليه أو عدوانا فلا إشكال في
ثبوت الضمان بالنسبة إلى المنافع وارتفاع القيمة، لأنه تصرف بلا إذن مالكي ولا
شرعي. وأما ضمان نفس العين غير الغرامة بحيث لو تلفت بطلت بدلية الغرامة
ورجعت إلى ملك الغارم وضمن العين بالضمان الجديد فلا نعرف له وجها.
هذا، مضافا إلى ما أفاده المصنف قدس سره من أن الاستصحاب يقتضي كون العين
مضمونة بالغرامة وعدم طرو ما يزيل ملكية المالك عن الغرامة أو يحدث ضمانا
جديدا (1).
بقي هنا فروع لا بأس بالتعرض لها وإن كان بعضها سيجئ - إن شاء الله
تعالى - في تعاقب الأيدي وفي خيار الغبن:
الأول: لو أقر أحد بمال في يده لزيد ثم أقر أنه لعمرو، أو باع ذو اليد ما في
يده ثم أقر أنه لغيره، أو قامت البينة على أن ما في يد زيد لعمرو وأقر زيد بأنه
لبكر فهل الغرامة التي يغرمها المقر في هذه الموارد من باب بدل الحيلولة، أو من

(1) المكاسب: كتاب البيع ص 113 س 25.
341

باب الإتلاف، أو فرق بين خروج المال عن يد الغارم بسبب منه كإقراره أولا، أو
بيعه وخروجه بسبب غيره كالبينة؟ وجوه.
نسب صاحب الجواهر (1) قدس سره إلى ظاهر الأصحاب أن الغرامة في الجميع من
باب بدل الحيلولة، واحتمل هو قدس سره أن تكون من باب الإتلاف.
ثم إن كلامه قدس سره في انتقال العين التي هي مبدل الغرامة إلى الضامن مختلف،
ففي باب الغصب (2) يظهر منه: أنه ينتقل التالف إلى الغارم دون المبدل في
بدل الحيلولة فإنه باق على ملك مالكه.
وفي أبواب أخر يظهر منه العكس، وقد يظهر منه عدم الانتقال مطلقا، وقد
يظهر منه الانتقال مطلقا.
وحيث إن المسألة خلافية فلا بأس باختلاف الأنظار للفقيه الواحد. والمختار
عدم الانتقال مطلقا. فعليه نتيجة البحث واضحة، فإنه لو كان وجوب الغرامة من
باب الإتلاف فالاعتبار بقيمة يوم البيع، أو الاقرار الأول، أو الشهادة، لأن هذا
اليوم يوم التلف على المقر له ثانيا بعد الاقرار الأول ونحوه، فارتفاع القيمة بعد
هذا اليوم غير مضمون، وكذلك المنافع والأوصاف.
وأما لو كان من باب الحيلولة فالاعتبار بقيمة يوم الدفع إلى المقر له، ويضمن
المنافع والأوصاف وارتفاع القيمة من يوم البيع - مثلا - إلى يوم الدفع بناء على
المختار من براءة الضامن عن المنافع ونحوها بدفع الغرامة.
والحق أن وجوب الغرامة في المقام من باب بدل الحيلولة، لما عرفت من أن
المناط في بدل الحيلولة هو كون العين باقية على حالها من دون نقص في قيمتها،
ولا تغيير في هيئتها، وإنما امتنع الرد للغارم لبعض الموانع، وفي المقام العين كذلك
لبقائها على ما كانت عليه، وإنما امتنع الرد إلى مالكه لإقراره أو بيعه أو الشهادة
من غيره.

(1) جواهر الكلام: كتاب الاقرار ج 35 ص 130.
(2) جواهر الكلام: كتاب الغصب ج 37 ص 131 - 132.
342

هذا، مع أنه ليس فيه مناط التلف وما بحكمه، لأن المناط فيه هو كون العين
معدومة أو في حكم المعدوم، كالماء الباقي على أعضاء الوضوء، والمسروق
بالسرقة التي لا يعلم سارقها، ولا يعلم بقاء العين أو تلفها، أو الخيط الممتنع نزعه،
أو المزج ونحو ذلك.
وتوهم أنه في حكم التلف لعدم إمكان رده أبدا فاسد، لإمكان تكذيب المقر
له أولا للمقر وتصديقه الاقرار الثاني، وإمكان تصديق المشتري أو رده المبيع
بفسخ أو إقالة، وإمكان الشراء منه، وهكذا يمكن رجوع الشاهدين عن الشهادة.
وبالجملة: ليس الاقرار الأول والبيع والشهادة إلا كالخروج عن يد الغارم
بالأباق أو الغصب أو السرقة، مع العلم ببقاء العين على حالها، والعلم بمكانها، أو
العلم بالسارق التي قد عرفت أن هذه جميعها من موارد بدل الحيلولة، فتدبر.
الثاني: المدار في بدل الحيلولة هو تعذر رد العين على الضامن، سواء أتمكن
المالك من أخذ العين أم لا، لأن أخذ مال الغير يقتضي أن يكون عهدة المال على
الآخذ، فإذا تلف فعليه القيمة، وإذا غصبه غاصب أو وقع في البحر فعليه بدل
الحيلولة.
وتمكن المالك لا يرفع الضمان، وعلى هذا لو تعاقبت الأيدي على العين
فتمكن المالك من أخذ العين من الثاني فلا يخرج اليد الأولى عن الضمان،
فللمالك أن يرجع إلى الضامن الأول ويأخذ الغرامة منه، وأن يرجع إلى من كان
العين في يده.
نعم، لو رجع إلى الثاني لا يجوز له الرجوع إلى الأول. ثم هل يجوز للغاصب
الأول قبل دفع البدل إلى المالك الرجوع إلى الثاني مطلقا، أولا يجوز له مطلقا، أو
فيه تفصيل؟ الأقوى هو التفصيل، لأن مع عجز الثاني عن رد العين إلى المالك
وإلى الغاصب الأول لا وجه لرجوع الأول إليه، وأما مع تمكنه فقد يقال: بأنه
لا يجوز للأول أيضا الرجوع إليه، لا بإلزامه بدفع البدل، لعدم استقرار البدل
للغاصب الأول في عهدة الثاني قبل دفعه إلى المالك، ولا بإلزامه بدفع العين، لأنها
343

باقية في ملك مالكها.
ولكن الأقوى أنه يجوز له إلزامه بدفع العين إما إليه، وإما إلى مالكه، ويجوز
للثاني الرد إليه أيضا، لأن الأول حيث يكون قصده الإحسان أو إيصال المال إلى
المالك فلا مانع من رده إليه. نعم، لو تلف عنده فلم يخرج عن الضمان، لأن الأول
لم يكن وكيلا عن المالك. وأما بعد دفع البدل إلى المالك ففي مورد عجز الثاني
يجوز له مطالبة البدل عنه، لأن مقتضى ضمان كل لاحق لسابق بمقتضى أخذه
العين منه - مع عدم كونه مغرورا منه - أن يكون في عهدة كل ضامن لاحق تدارك
ما اغترمه السابق.
وبعبارة أخرى: ضمن اللاحق شيئا له البدل فهو يضمن على سبيل البدلية
واحدا من البدل والمبدل، والمفروض أن البدل خارج عن تحت يده، ولم يؤد
البدل إلى المالك أيضا، لرجوع المالك إلى الأول، فيجب عليه دفع البدل إلى
السابق.
وأما في مورد تمكنه عن العين فلو قلنا بدخولها في ملك الأول بدفع الغرامة
إلى المالك فلا إشكال في وجوب رد الثاني إليه.
وأما لو نقل بالمعاوضة فلو قلنا بأن الغارم له حق الحبس فيجوز له مطالبة
العين من الثاني لأن يحبسها على مالكها حتى يأخذ الغرامة منه.
وأما لو لم نقل به فهل يستحق مطالبة العين أو لا يستحق إلا إلزامه برد العين
إما إلى مالكه أو إليه كما كان له إلزامه كذلك قبل دفع البدل؟ وجهان.
والحق استحقاقه مطالبة نفس العين، لأن مقتضى ضمان كل لاحق لسابق: إما
بالبدل أو المبدل على سبيل البدلية أن يكون الغاصب الأول مستحقا لها، لأن
المفروض أن العين تحت يد الثاني فليس مورد بدل الحيلولة، والمفروض أنه لا
يمكن أن لا يكون ضامنا للأول، فإذا كان ضامنا له ولم يكن مورد بدل الحيلولة فلا
محالة يضمن له العين.
ثم مما يتفرع على تعاقب الأيدي جواز مطالبة المالك من كل من وصل المال
344

إليه ودخل تحت استيلائه، سواء أكان باقيا أم تالفا، لأن كلا من الأيدي يد ضمان
على نحو الواجب الكفائي، فضمان كل منها بالنسبة إلى المالك ضمان استقراري
فعلي مشروط بعدم سقوطه بأداء الآخر، ولذا تقدم: أنه لو تمكن أحدهم من رد
العين وتعذر على البقية فيلاحظ حكم كل منهم على حسب تكليف نفسه، فلا
يختص مطالبة بدل الحيلولة بصورة التعذر على الكل، بل لو رجع إلى الأول ولم
يتمكن من رد العين غرم البدل، ولو رجع إلى الأخير فهو لا يرجع إلى أحد، ولو
رجع إلى الوسط فهو لا يرجع إلا إلى لاحقه، ويلاحظ حكم كل لاحق بالنسبة إلى
السابق لا بالنسبة إلى المالك، فلو رجع إلى الثاني وأخذ البدل منه في صورة
وجود العين عند غيره رجع الثاني إلى الثالث، فلو تمكن من رد العين فهو
المطلوب، وإلا فالبدل. ولو رجع إلى الثاني في صورة تلف العين عند الثالث أخذ
القيمة من الثاني، ويأخذها الثاني من الثالث.
الثالث: قد تقدم حكم قسمين من أقسام التعذر، وبقي قسمان:
أحدهما: ما تعذر رده لأدائه إلى تلف نفس أو مال محترم كالخيط المخيط به
جرح حيوان أو ثوب.
الثاني: ما تعذر رده بسبب الخلط أو المزج. أما الخيط فإذا كان المخيط به
جرح حيوان يؤدي إخراج الخيط منه إلى تلف الحيوان فلا يجوز لمالك الخيط
مطالبة نفس الخيط، سواء أدى إخراجه إلى تلف الخيط أم لا، لعدم جواز إتلاف
النفس المحترمة، فله قيمة الخيط، لأنه بحكم الشارع تالف.
وأما لو كان المخيط به ثوبا: فلو كان الثوب من غير الضامن فكذلك أيضا،
لأنه مال محترم لا يجوز إتلافه، وأما لو كان منه ففيه خلاف.
فقيل (1): باستحقاق نزعه، وحينئذ فلو لم يبق له قيمة فعلى الضامن تمام
القيمة، وإلا فعليه التفاوت بين صحيحه ومعيبه.

(1) مسالك الأفهام: كتاب الغصب ج 2 ص 258 س 37.
345

وقيل (1): باستحقاقه قيمته، لأن إتلافه لا يجوز حتى من المالك، فهو بمنزلة
التلف، والأقوى حصول الشركة بين مالك الخيط والثوب، لأنه لم يتلف فعلا، ولا
يصح إتلافه، فيكون كالثوب المصبوغ لو كان الصبغ من غير مالك الثوب، فيباع
الثوب ويؤخذ القدر المشترك بين كونه مخيطا وغير مخيط لمالك الثوب، وقيمة
الخيط لمالكه إذا كان كونه في الثوب أقل قيمة أو مساويا لما لم يكن كذلك، وقيمة
الفعلي إذا كان أزيد، لأن الزيادة حصلت في ملكه. وهذه الأقوال جارية في الفسخ
بالخيار والإقالة أيضا، ومنشؤها النزاع في أن فساد الخيط هل هو بمنزلة التلف
الحقيقي أوليس كذلك؟ وسيجئ في خيار الغبن - إن شاء الله تعالى - حكم الثوب
الذي صبغه من عليه الخيار فإن حكمه حكم المقام وإن كان بينهما فرق، وهو
احترام عمل الصباغ في تلك المسألة، بخلاف المقام، فانتظر.
وأما مسألة الخلط أو المزج فتوضيحها متوقف على تمهيد مقدمتين:
الأولى: أن ملاك بدل الحيلولة لا يجري في الخلط أو المزج، فإن المدار فيه
على تعذر رد المال وعدم إمكان رده لا صحيحا ولا ناقصا، لا منضما ولا مفروزا.
وأما إذا أمكن رده ولو منضما مع غيره فلا وجه لوجوب البدل عليه، فإن
خصوصية المال وشخصيته وإن زالت - لأن ما لا يمكن امتيازه لا يمكن أن يتعلق
به إضافة مالكية، ولا أن يتعلق به الضمان أيضا - إلا أنه مع بقائه عند الضامن
وعدم تلف ماليته عرفا وشرعا لا وجه لثبوت بدل الحيلولة، كما لا وجه لإجراء
حكم التلف عليه أيضا في غير مورد الاستهلاك.
الثانية: أن الاستهلاك إنما يتصور في المزج بغير الجنس إذا زال صورته
النوعية حقيقة أو عرفا، فالحقيقي كمزج حقة حليب بمائة كر من الماء، فإن تفرق
أجزاء الحليب في الماء الكثير موجب لذهاب صورته النوعية بالدقة، والعرفي
كخلط حقة من طحين الشعير بعشر حقق من طحين الحنطة.
وأما المزج بالجنس وكذا الخلط كذلك فلا معنى لاستهلاكه، وهكذا المزج أو

(1) مجمع الفائدة والبرهان: كتاب الغصب ج 10 ص 521.
346

الخلط بغير الجنس مع بقاء صورتهما النوعية: كمزج حقة من الحليب بحقة من
الماء.
إذا عرفت ذلك فإذا امتزج - مثلا - شئ بغيره فالمزج قد يقع من غير
المالكين، وقد يكون من فعل أحدهما، والأخير: إما بحق كأحد المتبايعين، وإما
بغير حق كالغاصب ومن بحكمه.
ثم إنه قد يكون بالجنس، وقد يكون بغيره.
والمزج بالجنس تارة يكون بالمساوي، وأخرى بالأجود أو الأردأ.
والمزج بغير الجنس تارة يكون موجبا للاستهلاك، وأخرى لا يكون كذلك،
فإذا امتزجا من دون اختيار المالكين فلو كان المزج بالجنس المساوي فيحصل
الشركة في العين، وفي غير المساوي يحصل الشركة في المالية، فيباع المجموع
ويعطى كل من المالكين مقدار قيمة ماله. ولو نقص قيمته بسبب المزج أو زاد
فالنقصان ليس على أحد المالكين، والزيادة موهبة من الله.
ثم إن الفرق بين المزج بالمساوي وغيره واضح، فإن الشركة في العين في
الأول لا يستلزم الربا، بخلاف الثاني، فإن صاحب الجودة لو أعطي مقدارا من
العين بدل جودة ماله لزم أن يستحق زائدا على مقدار ماله من العين، وحيث إن
صفة ماله محترمة فيباع العين ويعطى من القيمة مقدار ماله مع الخصوصية. نعم،
نفس الامتزاج لو صار موجبا للزيادة فلا شئ له، بل هذه موهبة لكليهما.
ولو كان المزج بغير الجنس ففي صورة الاستهلاك إذا لم يوجب زيادة مالية
في المزيد عليه كما لو استهلك ماء الورد في الدهن فلا شئ لمالكه، لأنه تلف من
غير ضمان له على أحد، ولو أوجب كاستهلاك الحليب في الماء أو دهن الجوز في
الزيت فيشتركان بمقدار مالية مالهما من نفس العين، لعدم لزوم الربا في غير
الجنس، لأن مقتضى القاعدة هو الشركة من نفس العين، إلا إذا استلزم محذورا،
وفي غير صورة الاستهلاك فحكمه الشركة في العين أيضا بمقدار المالية.
ولو امتزجا بفعل أحد المالكين فلو كان المزج بحق: فإذا كان بالجنس
347

المساوي يحصل الشركة في العين، وإذا كان بأردأ من مال صاحبه فعليه الأرش،
لعدم التنافي بين جواز المزج وثبوت الضمان عليه، فهما يشتركان في العين،
وعلى المازج الأرش. وإذا كان بأعلى منه فليس له الأرش، لأن المزج صار بفعله.
نعم، حيث إنه كان بحق وكان صفة الجودة محترمة يحصل بينهما الشركة في
المالية، وفي الخلط بغير الجنس إذا أوجب الاستهلاك فهو بمنزلة التلف، وإلا
فيتحقق الشركة في العين بمقدار المالية.
ولو كان بغير حق: كالغاصب والآخذ بالعقد الفاسد فحكمه حكم المزج
بالحق، إلا أن صفة الجودة هنا غير محترمة حتى في المقبوض بالعقد الفاسد، لأن
كونها ملكه لا أثر له، فإن حصول صفة في مال غيره بفعله لا يوجب استحقاقه
الأرش من الغير، لأن الزيادة الحكمية ليست كالزيادة العينية من الغاصب
محترمة.
فظهر مما ذكرنا الفرق بين المزج القهري والاختياري، والفرق في الاختياري
بين من له الحق وغيره، فإن النقص الحاصل قهرا لا يضمنه أحد المالكين، بخلاف
النقص الحاصل بالمزج الاختياري، وأن الزيادة الحكمية من غير الغاصب
محترمة، بخلاف الزيادة الحكمية الحاصلة من الغاصب ومن بحكمه. هذا بحسب
ما هو الحق عندنا.
ولكن نسب إلى ابن إدريس قدس سره أنه قال في مورد الغصب: الخلط بمنزلة
التلف حتى في الجنس المساوي (1).
ونقل المحقق والشهيد (2) الثاني قولين في الخلط بالجنس في الأردأ
والأجود، ولم يرجحا أحد القولين.
ففي الشرائع: إذا غصب دهنا كالزيت أو السمن فخلطه بمثله فهما شريكان،
ولو خلطه بأجود أو أدون قيل: يضمن المثل، لتعذر التسليم، وقيل: يكون شريكا

(1) السرائر: باب الغصب ج 2 ص 482.
(2) كما في مسالك الأفهام: كتاب الغصب ج 2 ص 264 س 9.
348

في فضل الجودة، ويضمن المثل في فضل الرداءة، إلا أن يرضى المالك بأخذ
العين (1) انتهى.
والشهيد الأول (2) حكم بضمان المثل في المزج بالأردأ، والشركة في العين
في المزج بالأعلى أو المساوي.
وقال في الشرائع: أما لو خلطه بغير جنسه لكان مستهلكا وضمن المثل (3).
واحتمل الشهيد الثاني في الروضة (4) في مورد الخلط بالأجود الانتقال إلى
المثل للاستهلاك.
هذا، ولكن مما بينا في المقدمتين ظهر: أن الإلحاق بالتلف منحصر في مورد
الاستهلاك، وهو في غير الجنس. وأما مجرد عدم الامتياز فليس في حكم التلف.
وكيف كان، فقد ظهر مما ذكرنا أنه ليس مورد يكون التخيير للغاصب بين دفع
المثل أو القيمة، ولا للمالك بين أخذ العين الممتزجة مع الأرش في مورد النقصان
وأخذ القيمة، لأن المزج لو كان بحكم التلف تعين القيمة، وإلا فليس للمالك إلا
العين مع أخذ الأرش في مورد النقصان.
ثم إن ما ذكرنا من تعين القيمة في مورد التلف إنما هو بحسب الكبرى. وأما
تعيين الصغرى ففي غاية الإشكال.
ولذا ذهب شيخ الطائفة (5) بأنه لو زرع الحب أو استفرخ البيض فليس على
الغاصب إلا المثل أو القيمة.
وعن الخلاف: أن القائل بأن الفرخ عين البيض والزرع عين الحب مكابر (6).

(1) شرائع الاسلام: كتاب الغصب ج 3 ص 244.
(2) الدروس الشرعية: كتاب الغصب ج 3 ص 110.
(3) انظر الهامش (1).
(4) الروضة البهية: كتاب الغصب ج 7 ص 56 - 57.
(5) المبسوط: كتاب الغصب ج 3 ص 105.
(6) الخلاف: كتاب الغصب ج 3 ص 421 ذيل م 38.
349

وذهب صاحب الجواهر (1) إلى عكسه، وادعى بأن القائل بأن الزرع والفرخ
للغاصب مكابر، ومنشأ النزاع: أن تلف الصورة النوعية مع بقاء المالية هل هو
بمنزلة التلف، أو أن المدار في التلف هو تلف المال؟ وأما تبدل الصورة بصورة
أخرى مع بقاء المادة الجامعة بين الصور فلا يوجب الانتقال إلى القيمة أو المثل،
بل على الضامن الأرش لو حصل النقصان.
وعلى هذا، ففي الخلط بغير الجنس لو بقي مقدار من المالية كما إذا امتزج
الحليب بالماء في البلاد التي للماء فيها قيمة ينشأ الإشكال، لأن نقصان القيمة لا
يقتضي إلا الأرش مع الشركة في العين، لا المثل أو القيمة، فالمسألة في غاية
الإشكال.
ويمكن الجمع بين كلماتهم بأن يقال: كل من حكم بأن المزج بغير الجنس
بمنزلة التلف مقصوده صورة الاستهلاك بنحو خاص، فإن الاستهلاك على قسمين:
قسم لا يوجب زيادة المالية في المزيد عليه كاستهلاك الجلاب في الدهن.
وقسم يوجب الزيادة كاستهلاك الحليب في الماء، أو استهلاك دهن اللوز في
الزيت. فالقسم الأول ملحق بالتلف، والثاني حكمه الشركة في المالية.
ثم الشركة في المالية على قسمين:
قسم يقوم المال ويؤخذ حق المضمون له من عين المال، وهذا فيما لم يلزم
منه ربا.
وقسم يعطي القيمة إذا كان مال الضامن أردأ، فتأمل جيدا.
قوله قدس سره: (المشهور كما عن الدروس (2) والكفاية (3) بطلان عقد الصبي...
إلى آخره).
أقول: تقدم في صدر الكتاب: أن شروط العقد على أنحاء ثلاثة: شروط

(1) جواهر الكلام: كتاب الغصب ج 37 ص 198 - 199.
(2) الدروس الشرعية: كتاب البيع ج 3 ص 192.
(3) كفاية الأحكام: كتاب التجارة ص 89 س 1.
350

الصيغة، والمتعاقدين، والعوضين. وتقدم حكم الأول.
وأما الثاني فمن جملتها: بلوغ العاقد، ولا إشكال في تحققه بالاحتلام
والانبات. وأما تحققه بالسن فالمشهور أنه بتمام خمسة عشر في الرجل،
وقيل (1): بتحققه بعشر سنين.
ثم إنهم اختلفوا في اعتبار البلوغ في جميع الأحكام المتعلقة به وعدمه.
فبعضهم (2) فرق بين الفروع والأصول فلم يعتبره في إسلامه.
وبعضهم (3) استثنى من الفروع وصيته الشاملة لتدبيره، لأنه وصية أيضا كما
يظهر من قضية وصية عيسى بن موسى المذكورة في صحيحة عبد الرحمان بن
الحجاج (4)، وكذلك طلاقه وعتقه ومعاملته الصادرة منه امتحانا للرشد، فإن الامتحان
قبل البلوغ إنما هو بالمعاملة الحقيقية لا الصورية وغير ذلك مما هو مذكور في
محله، فإن هذه المستثنيات وإن لم تكن اجماعية إلا أن جملة من المحققين
التزموا بصحتها من الصبي المميز، أو ممن بلغ عشرا.
وعلى أي حال، لا إشكال في إسلام الرشيد الغير البالغ وخروجه به عن تبعية
الوالدين، لأن المدار فيه على الإدراك والاقتدار على الاستدلال ولو إجمالا، فكل
من عرف أن للعالم صانعا وأن له سفراء وحججا فهو مسلم حقيقة، وبهذا نفتخر
على مخالفينا بأن عليا - عليه الصلاة والسلام - أول القوم إسلاما وأقدمهم إيمانا.
وكيف كان، فليس المقام مقام تنقيح ذلك، ولا بيان المستثنيات، فإن عقد
البحث إنما هو في صحة معاملاته بمجرد الرشد مطلقا، أو أن صحتها موقوف على
الرشد والبلوغ، فإذا قلنا بالثاني يتفرع عليه النزاع من جهات أخرى:

(1) نسبه المحقق السبزواري إلى بعض الأصحاب في الكفاية: ص 112 س 12، ولم نعثر على
قائل به.
(2) لم نقف عليه.
(3) منهم العلامة في التذكرة: كتاب الحجر ج 2 ص 73 س 25، وابن فهد في المهذب: كتاب
الحجر ج 2 ص 513 - 514، والطباطبائي في الرياض: كتاب الحجر ج 1 ص 590 س 30.
(4) الكافي: ج 7 ص 26 ح 1، عنه وسائل الشيعة: ج 13 ص 423 ب 39 من أبواب الوصايا ح 5.
351

الأولى: أنه هل تنفذ تصرفاته في ماله بإذن الولي كنفوذ تصرفات الراهن
بإذن المرتهن أم لا؟
الثانية: هل يصح وكالته عن الولي في تصرفاته في ماله الذي يرجع سلطنته
إلى الولي أم لا؟
الثالثة: أنه هل يصح وكالته عن الغير أم لا؟ فهنا جهات أربع:
الأولى: استقلاله في التصرف.
والثانية: صحته بإذن الولي.
والرابعة: وكالته عن غيره.
ومنشأ النزاع في هذه الجهات هو أن الصبي الرشيد هل هو من المحجورين أو
لا؟ وعلى القول بأنه محجور فهو من أي قسم من أقسامه؟ فإن المحجور لا يخلو
أمره من أحد أمرين، لأنه إما محجور عن الاستقلال، وإما محجور عن أصل
السلطنة، والأول على قسمين:
أحدهما: من كان سبب حجره تعلق حق مالكي على ماله كالراهن والمفلس
بعد حكم الحاكم.
والثاني: من كان سبب حجره تعلق ولاية شرعية عليه كالبالغة الباكرة بناء
على اعتبار إذن الولي في صحة نكاحها.
والثاني أيضا على قسمين، فإن كونه محجورا عن أصل التصرف إما لتعلق
حق مالكي عليه كالعبد لكون ملكه لمولاه، وإما لتعلق حق الولاية عليه، وهذا
على قسمين:
أحدهما: من كان منشأ تعلق حق الولاية عليه كونه مسلوب العبارة، وكون
فعله كالعدم: كالمجنون.
والثاني: من لا يكون محجورا من حيث الفعل، بل من حيث المعاملة لنفسه
والتصرف في ماله كالسفيه فإنه ليس محجورا عن العقود الراجعة إلى الغير. ووجه
والثالثة: وكالته عن الولي.
352

الخلاف الاختلاف في ما يستفاد من الكتاب والسنة:
أما الكتاب: فهو قوله عز من قائل: (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن
آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) (1) فإنه يمكن أن يكون قوله: (فإن
آنستم) تفريعا على الابتلاء، أي اختبروهم قبل البلوغ من زمان يمكن رشدهم
فيه إلى زمان البلوغ، فإن آنستم منهم الرشد في خلال هذه الأزمنة فادفعوا إليهم
أموالهم. فعلى هذا يكفي الرشد لنفوذ تصرفهم ولو لم يبلغوا.
ويمكن أن يكون تفريعا على الامتحان بعد البلوغ، أي امتحنوهم من زمان
قابليتهم للامتحان إلى زمان البلوغ، فإذا بلغوا راشدين فادفعوا إليهم أموالهم،
والظاهر هو الثاني.
أما أولا: فلأنه سبحانه لما أمر بإيتاء الأيتام أموالهم بقوله عز شأنه: (وآتوا
اليتامى أموالهم) (2) ونهى عن دفع المال إلى السفيه بقوله: (ولا تؤتوا السفهاء
أموالكم) (3) بين الحد الفاصل بين ما يحل ذلك للولي وما لا يحل، فجعل لجواز
الدفع شرطين: البلوغ وإيناس الرشد فلا يجوز قبلهما.
وثانيا: لو لم يكن قوله: (فادفعوا) تفريعا على إحراز الرشد بعد البلوغ لم
يكن وجه لجعل غاية الابتلاء هو البلوغ، وكان المناسب أن يقال: وابتلوا اليتامى
فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم.
ولا يقال: لو كان المدار على الرشد والبلوغ لا وجه لإيجاب الامتحان قبل
البلوغ، فإن ظاهر كلمة (حتى) أنها غاية للامتحان، فلا محالة يكون مبدؤه قبل
البلوغ.
لأنا نقول: إيجاب الامتحان قبله إنما هو لإحراز الرشد حتى تدفع إليهم
أموالهم بمجرد البلوغ، ولا يكون الولي ممن يأكل أموالهم إسرافا وبدارا أن
يكبروا، فإن الأولياء لو أمروا بالامتحان مقارنا للبلوغ يحتمل أن يكون رشد

(1) النساء: 6.
(2) النساء: 2.
(3) النساء: 5.
353

الصبي من باب الاتفاق، فأمر سبحانه بالابتلاء من زمان القابلية إلى زمان البلوغ
حتى يرد أموالهم إليهم من دون تأخير مع بقاء الرشد الممتحن إلى هذا الزمان.
بل قيل: (1) إن (إذا) للشرط، وجوابها مجموع الشرط والجزاء، و (حتى)
حرف ابتداء، وغايتها مضمون الجملة التي بعدها، وهو دفع المال عقيب إيناس
الرشد الواقع عقيب بلوغ النكاح، وعلى هذا فقوله: (حتى إذا بلغوا) جملة
مستأنفة.
وكيف كان، فظهور مجموع الكلام في اعتبار الرشد والبلوغ مما لا مجال
لإنكاره، وهذا هو المستفاد من أغلب التفاسير كما في المجمع، (2) والصافي (3)
والكشاف (4) والرازي (5) وحاشيته (6).
ففي تفسير الفخر: وشرط في دفع أموالهم إليهم شرطين: أحدهما: بلوغ
النكاح، والثاني: إيناس الرشد... إلى آخره (7).
نعم، استدل أبو حنيفة على صحة تصرفات الصبي بإذن الولي بهذه الآية،
وقال: لأن قوله: (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح) يقتضي أن هذا الابتلاء
إنما يحصل قبل البلوغ، والمراد من هذا الابتلاء اختبار حاله في أنه هل له تصرف
صالح للبيع والشراء؟ وهذا الاختبار إنما يحصل إذا أذن له في البيع والشراء، وإن
لم يكن هذا المعنى نفس الاختبار فهو داخل في الاختبار، بدليل أنه يصح
الاستثناء، يقال: وابتلوا اليتامى إلا في البيع والشراء، وحكم الاستثناء إخراج ما
لولاه لدخل، فثبت أن قوله: (وابتلوا اليتامى) أمر للأولياء بأن يأذنوا لهم في البيع
والشراء قبل البلوغ، وذلك يقتضي صحة تصرفاتهم... إلى آخره (8).
وأجاب عنه الشافعي بما حاصله: أن الله سبحانه أمر بدفع المال إليهم بعد

(1) قاله الفاضل الطباطبائي كما في الجواهر: كتاب الحجر ج 26 ص 19.
(2) مجمع البيان: ج 3 ص 9.
(3) تفسير الصافي: ج 1 ص 422.
(4) الكشاف: ج 1 ص 473 - 474.
(5) التفسير الكبير: ج 9 ص 187.
(6) أي حاشية ابن المنير الإسكندري ضمن الكشاف: ج 1 ص 473.
(7) التفسير الكبير: ج 9 ص 187.
(8) نقله الفخر الرازي في تفسيره: ج 9 ص 187.
354

البلوغ وإيناس الرشد، وإذا ثبت بموجب هذه الآية أنه لا يجوز دفع المال إليه
حال الصغر وجب أن لا يجوز تصرفه حال الصغر، لأنه لا قائل بالفرق (1).
ثم إن المستفاد من هذه الآية والآية التي قبلها وهي قوله عز من قائل: (ولا
تؤتوا السفهاء أموالكم) (2) أن الصبي إذا بلغ سفيها لا يدفع وليه أمواله إليه، إن
المراد من الأموال في قوله عز من قائل: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) هو أموال
نفس الأيتام كما في التفاسير (3). ويشهد له أيضا وقوع هذه الآية الشريفة بين قوله
عز أسمه: (ولا تأكلوا أموالهم)، وقوله: (وابتلوا اليتامى).
ثم لا فرق في الولي بين الوصي والأب والجد والحاكم، لأن الخطاب شامل
للوصي أيضا، فالقول بالتفصيل بين الأب والجد والحاكم وبين الوصي في عدم
انقطاع سلطنة الثلاثة دون الوصي لا وجه له.
وكيف كان، يستفاد من الآية المباركة عدم استقلال الصبي في التصرف في
أمواله وإن كان رشيدا لا مباشرة ولا توكيلا، إنما الكلام في استفادة سائر المراتب
منها، وهي نفوذ تصرفه في ماله بإذن الولي ووكالته عنه، ووكالته عن غيره.
فتقول: أما عدم نفوذ تصرفه في ماله بإذن الولي فيستفاد منها أيضا بضم
مقدمة عقلية.
وأما عدم صحة وكالته عنه وعن الغير فلا يستفاد منها، بل يستفاد من القواعد
العامة، وتوضيح ذلك يتوقف على تمهيد مقدمات:
الأولى: أنه كما لا يمكن اجتماع مالكين مستقلين على مال واحد ولا مالك
مستقل ومالك كان شريكا معه فكذلك لا يمكن اجتماع سلطنتين مستقلتين، ولا
سلطنة تامة وناقصة في مال واحد، فإن البرهان على الامتناع واحد في كليهما،
وهو أنه ليس الملكية أو السلطنة إلا إضافة بين المالك أو السلطان والمال،

(1) كما في تفسير الفخر الرازي: ج 9 ص 188.
(2) النساء: 5.
(3) منها تفسير العياشي: ج 1 ص 220 ح 23، تفسير النووي: ج 1 ص 140.
355

وليستا عبارة عن أمر موهوم كأنياب الأغوال حتى يتخيل للملك مالكان
ومسلطان، والإضافة إذا كانت مرتبطة بشخص على نحو الاستقلال بحيث كان له
التصرف في المال من دون توقف على إذن غيره وكان له المنع من تصرف الغير
فيه يمتنع أن يكون في عرض هذا الشخص شخص آخر تكون له هذه الإضافة،
تامة كانت أو ناقصة.
نعم، يمكن ثبوت الإضافة الطولية والإضافة على نحو الإشاعة، والإضافة
الناقصة التي لم يكن لصاحبها منع غيره لأشخاص متعددة.
فالأول: كإضافة ملك العبد إلى العبد ومالكه، وهكذا سلطنة الوكيل وموكله.
والثاني: كإضافة الشريكين.
والثالث: كسلطنة الأب والجد أو الوكيلين، أو حكام الشرع.
وأما إضافتان مستقلتان عرضيتان بحيث يكون لكل منهما طرد الآخر ومنعه
عن التصرف فغير معقول، فإذا امتنع هذا امتنع إضافة مستقلة مع إضافة منضمة، إذ
مع استقلال واحد في التصرف يمتنع أن يكون تصرفه منوطا بضم الآخر إليه، بل
لا بد أن يكونا كالشريكين، أو كسلطنة الراهن والمرتهن، فإن ثبوت نصف الإضافة
لأحد لا يجتمع مع ثبوت تمام الإضافة لغيره، لأنه خلف ومناقضة.
وبتعبير آخر: أن الولاية الثابتة للولي لا بد أن تكون بمقدار حجر المولى عليه،
فإن كان محجورا عن أصل السلطنة كالمجنون والعبد فالولي مستقل في التصرف،
ولو كان محجورا عن الاستقلال كالراهن والباكرة فيجب أن تكون ولاية الولي
بنحو الانضمام، فلا يمكن أن يكون للصبي حق التصرف منضما إلى الولي، وكان
للولي التصرف بالاستقلال.
وحيث إن الولي بمقتضى الآية الشريفة له تمام السلطنة قبل قابلية الصبي لأن
يمتحن ويختبر وتبقى له هذه السلطنة قبل البلوغ والرشد على ما استفدناه من
الآية فتأثير إذنه للصبي إما يرجع إلى كونه وكيلا من قبل الولي فسيجئ حكمه،
وإما يرجع إلى كونه ضميمة مع الولي في التصرف كتصرف السفيه بإذن الولي،
356

والراهن بإذن المرتهن فهذا غير معقول.
وبالجملة: مقتضى هذه المقدمة عدم صحة بيع الصبي لنفسه بإذن الولي أيضا،
لاستفادة السلطنة التامة الاستقلالية للولي من الآية الشريفة.
ثم إنه كما لا يجوز له مباشرته ولو بإذن الولي فكذلك لا يجوز له توكيله الغير،
لأنه لا يصح التوكيل إلا في فعل يكون مملوكا للموكل بحيث يصح له مباشرته
بنفسه، فتوكيله الغير في هذه الصورة نظير صورة عدم إذن الولي.
الثانية: أنهم اعتبروا في الوكيل أمورا:
منها: البلوغ إلا فيما استثني.
ومنها: كمال العقل.
ومنها: أن يكون ما وكل فيه مما يجوز له أن يليه بنفسه لنفسه، ولا يعتبر
المباشرة فيه، فكل ما لا يجوز للوكيل صدوره من حيث إنه فعله ومن جهة
الإصدار فلا يجوز أن يصير وكيلا عن غيره فيه.
وفرعوا على ذلك عدم صحة وكالة المحرم لابتياع الصيد وإمساكه وعقد
النكاح وإن كان الموكل محلا، وصحة وكالة المفلس والسفيه والمرتد.
أما عدم صحة وكالة المحرم فلحرمة هذه الأفعال عليه من حيث السبب ولو
مع قطع النظر عن المسبب.
وأما صحتها عن المفلس والسفيه والمرتد فلأن منع هؤلاء يرجع إلى
التصرف المالي في أموالهم، لا لقصور فعلهم من حيث إنه فعل، فإن المفلس يتعلق
بماله حق الغرماء، والسفيه يتعلق عليه حق الولاية، والمرتد لا ذمة له.
وبالجملة: يعتبر في الوكالة: كون الفعل مما يجوز وقوعه من النائب، وأن لا
يعتبر فيه المباشرة. وعلى هذه المقدمة يترتب أمران:
أحدهما: عدم جواز وكالته عن الولي في أن يتصرف في مال نفسه الذي
يرجع ولايته إلى الولي بالفرض.
وثانيهما: عدم وكالته عن الناس في التصرف في أموالهم، لأنه إذا ثبت أن
357

الصبي كالمجنون في كونه مسلوب العبارة فحيث إن إجراء الصيغة منه لا أثر له في
ماله فوكالته أيضا كالمباشرة.
نعم، إثبات هذه المقدمة - وهي اعتبار البلوغ كاعتبار العقل، وأن الصبي لا
ينفذ منه البيع من حيث جهة الإصدار - موقوف على قيام دليل على ذلك، وعلى
هذا فكل ما ثبت جواز تولية الصبي فيه بنفسه يصح وكالته فيه، كما يصح توكيله،
إلا إذا اعتبر المباشرة في الموكل، ففي العتق والطلاق والوصية كما يجوز أن يليها
بنفسه فكذلك يجوز أن يتوكل عن غيره، وأن يوكل غيره عن نفسه.
الثالثة: أن الأغراض بالنسبة إلى الآثار المترتبة على الأفعال مختلفة، فقد
يتعلق الغرض بحصول الأثر في الخارج من دون دخل لفاعل خاص، أي:
المقصود حصول النتيجة، وقد يكون الغرض حصوله من شخص خاص بحيث كان
فعله موضوعا للحكم، والقسم الأخير هو المقصود في باب الوكالة، لأن البيع
- مثلا - مترتب على فعل الوكيل من حيث أنه هو الفاعل ونظيره في الأحكام
التكليفية الفعل العبادي، فإن المقصود منه حصوله من شخص المكلف. وأما القسم
الأول الذي نظيره في التكاليف هو الفعل التوصلي فهو خارج عن باب الوكالة.
فعلى هذا، عد إيصال الهدية والإذن في دخول الدار من مستثنيات معاملات
الصبي لا وجه له، لأن هذه الأمور ليست من باب الوكالة، بل الغرض وصول
الهدية إلى المهدى إليه ولو كان بتوسط حيوان، وهكذا في مسألة الدخول في الدار
الغرض استكشاف رضا صاحب الدار.
بل لو قلنا في باب المعاطاة إن الغرض منها وصول كل واحد من العوضين إلى
مالك الآخر كما قيل (1) به في مسألة كوز السقاء وصندوق الحمامي، فلا بأس بأن
يكون الصبي مقام الكوز والصندوق.
ودعوى صاحب الجواهر (2) قدس سره أن السيرة الثابتة في مثل إيصال الهدية

(1) مقابس الأنوار: كتاب البيع ص 113 س 30.
(2) جواهر الكلام: كتاب التجارة ج 22 ص 263.
358

والإذن في الدخول من المسامحين لا المتدينين لا وجه لها، فإن خروج ذلك من
باب معاملات الصبي خروج موضوعي.
أما السنة فهي على طوائف ثلاثة:
الأولى: ما دل (1) على جواز أمر اليتيم بعد الاحتلام وعدم خروجه عن اليتم
قبله.
الثانية: ما دل (2) على رفع القلم عنه.
الثالثة: ما دل (3) على أن عمده وخطأه واحد.
أما الطائفة الأولى: فالاستدلال بها غير مفيد، لأنها في مقام بيان أن الاحتلام
شرط في نفوذ أمر الصبي، وليست في مقام بيان عدم نفوذ أمره قبله ولو مع إذن
الولي.
وأما الثانية: فالحق دلالتها على كونه مسلوب العبارة فإن الظاهر من
قوله عليه السلام (رفع القلم عنه) ما هو المتعارف بين الناس والدائر على ألسنتهم: من أن
فلأنا رفع القلم عنه، ولا حرج عليه، وأعماله كأعمال المجانين، فهذه الكلمة كناية
عن أن عمله كالعدم، ورفع عنه ما جرى عليه القلم فلا ينفذ فعله، ولا يمضي عنه،
فإن ما صدر عنه لا ينسب إليه. نعم، يختص رفع القلم بالفعل الذي لم يكن موضوعا
لحكم بذاته، لأن الظاهر من هذا الحديث الشريف أن الأفعال التي تترتب عليها
الآثار لو صدرت من البالغ العاقل المستيقظ فهي إذا صدرت من الصبي ومثله فلا
أثر لها. وأما الأفعال التي تترتب عليها الآثار من دون فرق بين الالتفات وغيره،
ومن غير فرق بين الاختيار وغيره فهذه خارجة عنه تخصصا.
فعلى هذا، لا يشمل الحديث مثل الإتلاف والجناية، بل مطلق الحدث والجناية

(1) الكافي: ج 7 ص 68 ح 2، عنه وسائل الشيعة: ج 13 ص 141 ب 1 من أبواب الحجر ح 1.
(2) مسند ابن حنبل: ج 6 ص 100 - 101، عوالي اللئالي: ج 1 ص 209 ح 48.
(3) تهذيب الأحكام: ج 10 ص 233 ح 920، عنه وسائل الشيعة: ج 19 ص 307 ب 11 من
أبواب العاقلة ح 2.
359

الموجبة للدية ونحو ذلك. وعلى هذا لا ترد المناقشات التي أوردها المصنف قدس سره على
أولا: أن الظاهر منه قلم المؤاخذة.
وثانيا: أن المشهور على الألسنة أن الأحكام الوضعية لا تختص بالبالغين.
وثالثا: لا مانع من كون فعل غير البالغ موضوعا للأحكام المجعولة في حق
البالغين، فيكون الفاعل كسائر غير البالغين خارجا عن ذلك الحكم إلى وقت
البلوغ (1).
أما في الأولى التي مرجعها إلى اختصاص الرفع بالأحكام التكليفية دون
الوضعية فلما أوضحنا في الأصول (2) في حديث الرفع من أن الرفع التشريعي
يصح تعلقه بالأمور الخارجية من دون توقف على تقدير المؤاخذة أو غيرها،
والرفع التشريعي يقتضي رفع جميع الآثار. ففي المقام يمكن تعلق الرفع بنفس
القلم، أي: رفع قلم جعل الأحكام عنه، سواء أكانت موجبة للمؤاخذة على مخالفتها
كالأحكام التكليفية أم لم تكن كالوضعية.
وأما في الثانية فلأن اشتراك غير البالغ مع البالغ في الأحكام الوضعية التي
هي محل البحث: كعقد الصبي أول الكلام، بل المشهور عدمه. نعم، يشتركان في
مثل الإتلاف ونحوه.
وأما في الثالثة فلأنه مضافا إلى عدم إمكان تفكيك الآثار بين البالغ وغيره
فيما كان ذات الفعل موضوعا للأثر، بل فيما كان الأثر مترتبا على الفعل القصدي
أيضا فإنه لو أفاد عقد الصبي الملكية فلا يمكن أن لا يكون مؤثرا فعلا ويصير ذا
أثر بعد البلوغ أن كون فعله موضوعا للأحكام المجعولة في حق البالغين فرع أن
يكون فعله مؤثرا، وهذا أول الكلام، لأنه يحتمل أن يكون وجوده كعدمه كما في
عقد المجنون ومثله، فكيف يمكن أن يكون هذا الذي صدر من مثل المجنون

(1) المكاسب: كتاب البيع ص 114 س 21 وما بعده.
(2) فوائد الأصول: ج 3 ص 342 - 343.
360

موضوعا لحكم البالغ العاقل؟
وبالجملة: ظهور الحديث في كون عبارته كالعدم بقرينة جعله رديفا للمجنون
والنائم مما لا ينبغي المناقشة فيه.
وأما الثالثة فدلالتها على أن أفعاله القصدية كالفعل الصادر عن غيره بلا قصد
واضحة.
نعم، يمكن دعوى ورودها في مورد خاص، وهو باب الديات، أو عمومها
للكفارات أيضا، وعدم شمولها لجميع أفعاله كالعقود والايقاعات، وذلك لأن
الخطأ والعمد لم يؤخذا موضوعا لحكم إلا في الجنايات والكفارات الواجبة على
المحرم، فإن في تلك المسألتين قوبل العمد مع الخطأ، وأما في غيرهما فالحكم:
إما مترتب على ذات الفعل وهو الغالب، أو على خصوص العمد، أو خصوص
الخطأ، أو ما هو مرادف لهما من القصد والاختيار، أو السهو والنسيان والاضطرار.
ويشهد لذلك تذييل بعضها بقوله عليه السلام: (تحمله العاقلة) (1) فإن تحمل العاقلة
إنما هو الدية في الجنايات.
ولكن يمكن الجواب عن هذا الإشكال بأن تذييل بعضها بقوله: (تحمله
العاقلة) لا يوجب حمل الأخبار المطلقة على باب الجنايات، هذا مضافا إلى ما
ورد في رواية أبي البختري عن علي عليه السلام أنه كان يقول: (المجنون والمعتوه
الذي لا يفيق والصبي الذي لم يبلغ عمدهما خطأ تحمله العاقلة، وقد رفع عنهما
القلم) (2)، فإن قوله عليه السلام: (وقد رفع عنهما القلم) بمنزلة العلة، لقوله عليه السلام: (عمدهما
خطأ)، ومقتضاه أن الأفعال التي تترتب عليها الآثار إذا صدرت عن قصد من غير
الصبي والمجنون إذا صدرت عنهما فكالصادرة عن غيرهما بلا قصد، لأن قلم

(1) تهذيب الأحكام: ج 10 ص 233 ح 921، عنه وسائل الشيعة: ج 19 ص 307 ب 11 من
أبواب العاقلة ح 3.
(2) قرب الإسناد: ص 72، عنه وسائل الشيعة: ج 19 ص 66 ب 36 من أبواب القصاص في
النفس ح 2.
361

جعل الأحكام مرفوع عنهما، فمقتضى التعليل هو التعدي إلى غير الجنايات، بل
يستفاد منه أن الطائفة الثانية والثالثة وردتا لمعنى واحد، وكل منهما مخصوصان
بالأفعال القصدية، لا الأفعال التي تكون موضوعات للأحكام بذواتها.
وعلى هذا، فلا وجه لقول المصنف قدس سره: بل يمكن بملاحظة بعض ما ورد من
هذه الأخبار في قتل المجنون والصبي استظهار المطلب من حديث رفع القلم...
إلى آخره، لأنه بعد ما عرفت من اتحاد معنى الفقرتين لا وجه لاستظهار الاتحاد
من هذه الرواية بالخصوص، بل في جميع الروايات الواردة هذه الكلمة يراد منها
مع قطع النظر عن معناه الكنائي رفع فعله القصدي، فإن معنى رفع قلم الأحكام هو:
أن عمدهما خطأ، فإن اشتراكه مع المجنون في رفع القلم عنه وكون عمده خطأ
يقتضي أن يكون المرفوع هو الفعل القصدي.
ثم لا يخفى أنه لا وجه لتقدير المؤاخذة ثم تعميمها للآثار الأخروية
والدنيوية فإن المؤاخذة بناء على لزوم تقديرها ظاهرة في العقوبة الأخروية. ثم لا
وجه لأحتمال العلية والمعلولية كليهما في رفع القلم فإن الظاهر منه كونه علة لأنه
أعم موردا من قوله: (تحمله العاقلة)، والعلة بمنزلة الكبرى الكلية، والحكم المعلل
بمنزلة الصغرى. وجعله معلولا لقوله عليه السلام: (عمدهما خطأ) لا يستقيم لأنهما: إما
متحدان معنى بناء على أن يكون المراد من رفع القلم رفع الأفعال القصدية، وإما
يناسب العلية لو كان المراد الأعم منها ومن غيرها.
وبالجملة: وإن أجاد المصنف قدس سره فيما أفاد من أن المرفوع عن الصبي هو
الأحكام المترتبة على الأفعال بعنوانها القصدي، لا الأحكام المترتبة على الأفعال
التي بذاتها موضوعات لها لظهور الخبر في أن الصبي كالمجنون، إلا أنه لا وجه
لالتزامه بتعلق الرفع بالمؤاخذة، ثم تعميمها للآثار الدنيوية، ثم تمسكه بإطلاق
الرفع لما إذا صدر الفعل عن الصبي بإذن الولي فإن التمسك بالإطلاق في هذا
المقام من الغرائب على مذهب من اختار من أن التقابل بينه وبين التقييد تقابل
العدم والملكة، فإنه لو كان المراد من الرفع رفع الأثر رأسا وإن فعله كالعدم وقصده
362

كعدم القصد فلا موقع للتمسك بالإطلاق، لأن الإذن لا يمكن أن يؤثر في الفعل
الذي هو بمنزلة العدم حتى يتوهم تقييد عدم الأثر بمورد الخلو عن الإذن،
فيتمسك بالإطلاق لرفع هذا التوهم.
ولو كان المراد منه أن الصبي ليس مستقلا في التصرف فهو كالراهن أو الباكرة
فلا يصح التمسك بالإطلاق، لأنه ينقلب الفعل في مورد الإذن عما عليه. فلا يصح
أن يقال: الراهن لا يستقل بالتصرف، سواء أذن له المرتهن أم لا.
فتلخص مما ذكرنا أن قصد الصبي كالعدم، وفعله العمدي خطأ لا مؤاخذة
عليه، ولا دية في ماله، ولا يلزم بالإقرار، ولا حد عليه، ولا تعزير على أفعاله.
ولو قام دليل على أنه يعزر فليحمل على التأديب، لئلا يتمرن على الفعل
المحرم.
نعم، لو ثبت لزوم تعزير في مورد ثبوت الحد على البالغ لكان ثبوت هذه
العقوبة من أثر فعله القصدي. وأما لو ثبت لزومه في غير هذه المعصية فليس المراد
منه إلا التأديب، أي ليس العقوبة عليه لأجل ما صدر منه، بل لئلا يصدر منه بعد
البلوغ بحيث لو علم موته قبل البلوغ فتأديبه أيضا لا وجه له، إلا أن يكون نفس
صدور الفعل منه نقصا لأقربائه.
وكيف كان، لو ثبت لزوم التعزير عليه فيدخل في المستثنيات، لما بينا أن
الصبي كالمجنون، فهو داخل في هذا القسم من المحجورين، فلا يترتب على
إنشائه أثر، ولا يؤاخذ على فعل من أفعاله. وإذا ثبت صحة فعل منه بدليل خاص
يكون مخصصا لحديث رفع القلم. وأما لو لم يثبت - كما قيل (1) بالنسبة إلى
عباداته - فيقتضي أن تكون تمرينية لا شرعية.
ثم كلما ثبت صحته مطلقا ولم يدل دليل على اعتبار صدوره من فاعل خاص
يصح فيه توكيله للغير، ووكالته عن الغير، وهذا كله في الأفعال التي يعتبر فيها
القصد. وأما الذي لا يعتبر فيه فخروجه عن الحديث بالتخصص.

(1) يظهر من الشهيد الثاني في مسالك الأفهام: كتاب الصلاة ج 1 ص 21 س 4.
363

فالفروع التي ذكرها العلامة قدس سره في التذكرة (1) مبتنية على إحدى القاعدتين،
أي:
كل فعل اعتبر فيه القصد، كحصول الملك في الهبة وتعين الكلي بالقبض فقبول
الصبي فيه وقبضه كالعدم، سواء أكان بإذن الولي أم لا، وسواء كان لنفسه أو للولي
أو لغيره.
وكل ما لا يعتبر فيه القصد كقبض مال معين من الولي بإذن الولي فقبضه فيه
كقبض الولي. كما أن من عليه الخمس أو الزكاة تبرأ ذمته منهما لو دفعهما إلى
الصبي أو صرفهما في مصارف الصبي، لأن قبضه هنا لا يعتبر فيه القصد.
قوله قدس سره: (ثم إنه ظهر مما ذكرنا: أنه لا فرق في معاملة الصبي بين أن يكون
في الأشياء اليسيرة أو الخطيرة... إلى آخره).
وإن كان مقتضى الأدلة السابقة ما ذكره قدس سره من عدم الفرق إلا أنه بعد
ما يشاهد من الناس أنهم لا يعاملون مع الصبي معاملتهم مع المجانين، بل سيرة
أهل العرف من كل ملة ونحلة: الإيكال إلى الصبي باختلاف المعاملات، فيوكلون
إلى من بلغ أربع سنين معاملة البقول، وإلى من بلغ ثمانية بيع اللحوم، وإلى من
تجاوز العشرة معاملة الثياب... وهكذا.
فلا بد إما من القول بخروج هذه الأشياء عن معاملات الصبي بالتخصيص
والمخصص لها هو السيرة، ولكن الالتزام بهذا مشكل كما أفاده قدس سره، لأن السيرة
مختلفة باختلاف الأشياء، وثبوت السيرة من عصرنا إلى عصر الأئمة عليهم السلام من
المتدينين بهذا التفصيل مشكل، بل المعلوم عدمها، فإنا نرى تحرز المتدينين عن
المعاملة مع الصبي في مثل اللحم ونحوه فضلا عن الثياب.
وإما من القول بأن السيرة جارية بين من لا يبالي بالمحرمات. ولا يخفى أن
الالتزام بهذا أشكل، فإن شراء البقول ونحوها منه معمول بين المتدينين.
وإما بجعل الصبي في الموارد التي ثبتت السيرة فيها بمنزلة الآلة والواسطة في

(1) تذكرة الفقهاء: كتاب البيع ج 1 ص 462 س 26.
364

الإيصال، وهذا على وجوه:
أحدها: ما ذكره كاشف الغطاء (1) بأن المعاملة في الحقيقة واقعة مع الولي
والطرف الآخر، فيكون الأخذ من الطفل - مثلا - موجبا وكالة من قبل الولي،
وقابلا من قبل نفسه، فيكون فعل الصبي من قبيل فتحه باب الدار والإذن في
دخول الأغيار من كونه كاشفا عن رضا الولي.
وفيه أولا: أن دخول عمل طرف الصبي في عنوان الوكالة مشكل، لأن الولي
لم يعينه لها، ومجرد رضا المالك لا يدخله في هذا العنوان.
وثانيا: أن ما هو الواقع في الخارج ليس إلا المعاملة مع الصبي، للعلم بعدم
إنشاء التوكيل من الولي، وعدم قصد الطرف الوكالة عنه.
وثالثا: مقتضى ذلك اختصاص الصحة بما إذا كان المال من غير الصبي، وأما
إذا كان منه ولم يعلم له ولي إجباري فلا يجوز، مع أن بناء الناس ليس على
التفحص.
وثانيها: أن يكون المنشئ للمعاملة هو الولي مع طرف الصبي، وكان الصبي
واسطة في إقباض المالين وإيصاله إلى المالكين كإيصاله الهدية إلى المهدى إليه.
وفيه أولا: أن إنشاء التمليك لشخص غير معلوم بوجه لا يدخل تحت أحد
العناوين التمليكية.
وثانيا: أن الفصل بين هذا الإنشاء والإنشاء من طرف الصبي قد يكون أزيد
من سنة.
وثالثا: أن ما هو الواقع في الخارج ليس كذلك غالبا، بل دائما.
وثالثها: الاكتفاء في المعاملة بوصول كل من المالين إلى المالك الآخر مع
رضا الطرفين. وقد تقدم في المعاطاة ما يدل على صحة ذلك، فإنه إما من
مصاديقها بناء على عدم اعتبار التعاطي فيها، وإما أنه ملحق بها حكما بناء على
ما تقدم من أن المعاطاة إنما تدل على التسليط المالكي، فلو أنشأ التسليط عن

(1) شرح القواعد (مخطوط): الورقة 53.
365

المالك بعوض معين فكل من أقدم على إعطاء العوض فهو مسلط على المعوض
فإنه لا يعتبر في حقيقة التسليط تعيين المباح له كما في نثار العرس، ولا الموالاة
بين الايجاب والقبول، فهذا لو كان داخلا في عنوان العقود فيدل على صحتها
عموم (أوفوا بالعقود) (1)، ولو لم يكن داخلا فيكفي في صحتها السيرة الجارية بين
المتدينين.
نعم، لا بد من الاكتفاء بما هو المتيقن من جريان سيرة المتدينين عليه، وهو
المعاملة التي لا تحتاج إلى المساومة، بل كانت قيمة العين معينة في الخارج بحيث
كان الصبي آلة صرفة وواسطة في الإيصال.
قوله قدس سره: (مسألة: ومن جملة شرائط المتعاقدين: قصدهما لمدلول العقد...).
توضيح هذه المسألة يقع في طي مباحث:
الأول: أن بعض الجمل مختص بالإنشاء كصيغة الأمر والنهي فإن مفادهما:
إيقاع النسبة بين الفاعل والمادة تشريعا، أو سلبها عنه كذلك.
وبعبارة أخرى: مفاد الأمر: البعث نحو المطلوب تشريعا، ومفاد النهي: الزجر
عنه كذلك، وهذان المعنيان متمحضان في الانشائية، وبعض الجمل مختص
بالإخبار كالجملة التي كان محمولها أمرا خارجيا: كقوله: زيد قائم. وبعضها
مشترك بين الأمرين: كالفعل الماضي والمضارع.
والجمل الاسمية التي يكون محمولها قابلا لأن يوجد بالإنشاء فالفعل
الماضي يصح أن ينشأ بها عناوين العقود، والفعل المضارع يصح أن ينشأ بها
الأحكام.
والسر في اختصاص كل واحد بباب هو: أن الفعل الماضي للنسبة التحقيقية،
والفعل المضارع للنسبة التلبسية، فالماضي أمس بإيجاد عناوين العقود به،
والمضارع أمس بتشريع الأحكام به، فإن إيجاد عنوان العقد لا يناسبه التلبس،
وإيجاب متعلقات الأحكام لا يناسبه التحقيق. وأما الجمل الأسمية فكاسم الفاعل

(1) المائدة: 1.
366

في قوله: هي طالق، واسم المصدر في قوله: أنت حر، ونحو ذلك كقوله: أنت وصيي
أو وكيلي، وكل ما كان من هذا القبيل.
ولا يخفى أن كون الجملة مفيدة للإنشاء أو الأخبار إنما هو باقتضاء المقام،
ومن المداليل السياقية، فإن لكلمة (بعت) معنى إذا كان المتكلم به في مقام
الحكاية يكون إخبارا، وإذا كان في مقام إيجاد المادة بالهيئة يكون إنشاء، وهكذا
سائر الصيغ القابلة للمعنيين.
ثم إنه لا شبهة أن لكل من الأخبار والإنشاء مراتب ثلاث:
الأولى: القصد إلى اللفظ، لا بمعنى أن يكون اللفظ بالنظر الاستقلالي ملحوظا
فإن هذا خارج عن استعمال اللفظ في المعنى، فإن الاستعمال عبارة عن إلقاء
المعنى باللفظ، فاللفظ غير منظور فيه وفان صرف، بل بمعنى أن لا يكون اللفظ
صادرا عن غير الملتفت، والغافل كالنائم والغالط، فإن اللفظ إذا صدر في حال
النوم أو على غير عمد بأن سبق اللسان إليه فلا أثر له.
والثانية: أن يكون قاصدا للمعنى باللفظ، أي بعد كونه قاصدا لصدور اللفظ
كان قاصدا لمدلوله، لا بمعنى كونه قاصدا لأصل المعنى، فإنه بعد قصده اللفظ
وعلمه بمعناه لا يعقل عدم قصده معناه، فإن استعمال اللفظ عبارة عن إلقاء المعنى
باللفظ، بل بمعنى كونه قاصدا للحكاية أو الإيجاد، أي كان داعيه على استعمال
اللفظ في المعنى الحكاية عن وقوع هذا المدلول في موطنه من ذهن أو خارج، أو
إيجاد المنشأ بهذا اللفظ الذي هو آلة لايجاده، فلو كان قصده الهزل واللعب فلا أثر
له، وفقد هذين المرتبتين في الأخبار يوجب عدم صدق الحكاية عليها.
وأما في المنشآت ففي العقود يوجب عدم صدق عنوان العقد، وفي الأحكام
يوجب عدم صدق الحكم الواقعي، بل يطلق عليه (الحكم الصوري) أو (الهزلي)،
أو نحو ذلك من الدواعي.
والمرتبة الثالثة في الأخبار: أن يكون مدلول اللفظ مطابقا لما يحكى عنه،
وإلا يكون كذبا، وفي الإنشاء أن يكون المنشأ متحققا في عالم الاعتبار، بأن لا
367

يكون المبيع خمرا مثلا. ولا يخفى أن هذه المرتبة في الأخبار والإنشاء خارجة
عن اختيار المتكلم، لأنها أمر خارجي، وليست من مدلول لفظه أيضا. وقد ظهر
مما ذكرنا أمور:
الأول: أن جعل القصد من شرائط العقد أولى من أن يجعل من شرائط
المتعاقدين، إذ بدونه لا يتحقق العقد كعدم تحققه الفصل بين الإيجاب والقبول،
وبعدم تطابق الإيجاب والقبول، ومجرد أن عدم تحققه نشأ من قبل العاقد
لا يوجب عده من شرائطه، وإلا لصح أن يقال ومن شرائط العاقد: أن لا يتلفظ
بالفارسي، وأن لا يقدم القبول على الإيجاب.
الثاني: أن قياس الأمر الصوري على الكذب في الأخبار لا وجه له، لأن
الكذب مرتبة ثالثة في الأخبار، والأمر الصوري يشبه الهزل في الأخبار، لأنه لم
يقصد به البعث نحو المطلوب، وهكذا في العقود لو لم يقصد إيجاد المادة بالهيئة،
بل قصد الهزل ونحوه، فحكمه حكم الهازل في الحكاية.
وشبيه الكذب في الأخبار منحصر في الإنشاء في عدم وقوع المنشأ في عالم
الاعتبار، وعدم المطابقة في الأخبار كعدم وقوع المنشأ في الإنشاء كلاهما
خارجان عن مدلول اللفظ وإمكان القصد إليه.
الثالث: ما أفاده في المسالك (1) من عدم تحقق القصد في عقد الفضولي
والمكره،
خلط قصد بقصد، فإن القصد يستعمل في موارد:
أحدها: قصد اللفظ.
وثانيها: قصد المعنى، فإنهما معتبران في أصل صدق العقد، فإن عقد النائم
وعقد الهازل ليسا بعقد، فإنهما لم يقصدا إيجاد المادة بالهيئة.
وثالثها: قصد وقوع العقد خارجا عن طيب في مقابل وقوعه عن كره، فإن
العاقد مع قصده اللفظ والمعنى تارة داعيه على وقوع مضمون العقد إكراه المكره،
وأخرى غيره من الدواعي النفسانية.

(1) مسالك الأفهام: كتاب التجارة ج 1 ص 171 س 19.
368

ورابعها: قصد وقوع المضمون عن العاقد في مقابل وقوعه عن غيره كبعض
أقسام عقد الفضولي. ولا يخفى أن اعتبار القصدين الأخيرين إنما هو لأمر تعبدي،
لا لتحقق مفهوم العقدية، فإن عقد المكره والفضولي من حيث جهة العقدية لا يقصر
عن غيره. فما أفاده في المسالك (1) من أنهما قاصدان إلى اللفظ دون مدلوله لا وجه
له، لأنهما قاصدان للمدلول أيضا، وإنما الفرق أن قصد وقوع مضمون العقد في
المكره ليس عن داع اختياري وقصد نفساني، بل عن وعيد المكره - بالكسر - مع
عدم إمكان التورية، أو مطلقا على ما سيجئ. وفي الفضولي هذا المعنى أيضا
موجود، وإنما المفقود قصد وقوع المضمون عن نفسه. وعلى هذا فقياس المكره
على الفضولي أيضا لا وجه له، لأنهما ليسا في وزان واحد.
المبحث الثاني: في اعتبار قصد المالكين وعدمه
وتوضيحه يتم برسم أمور:
الأول: لا شبهة أن تعيين العوضين في العقود التمليكية كتعيين الزوجين في
النكاح.
الثاني: أن مقتضى المعاوضة والمبادلة دخول كل من العوضين في ملك مالك
الآخر.
الثالث: بعد تحقق المعاوضة تعقيبها بما ينافيها لا يوجب بطلانها، بل يقع لغوا.
وبرهان الجميع واضح.
أما اعتبار تعيين العوضين من حيث الجنس والمقدار في العقود المعاوضية
فلأن عيش بني آدم يتوقف على تبديل الأموال، ولا يتم ذلك إلا بتعيين ما يقع
المال بإزائه من حيث الجنس والمقدار، فإن المال يقع بإزاء الصور النوعية لا

(1) مسالك الأفهام: كتاب التجارة ج 1 ص 171 س 23.
369

بإزاء المادة المشتركة، ثم لا يقع أي مقدار من المال بإزاء أي مقدار من الصورة
النوعية، فيجب تعيين كلتا الجهتين. وسيجئ توضيح ذلك في محله.
وأما اقتضاء حقيقة المعاوضة دخول كل واحد من العوضين في ملك مالك
الآخر فقد تقدم وجه ذلك في أول البيع. وإجماله أن المعاوضة تبديل طرف إضافة
بطرف إضافة أخرى، مع بقاء الطرف الآخر من كل من الإضافتين على حاله، أي
بتبدل المملوكين لا المالكين، فإذا كان المالكان على حالهما في المعاوضة ولم
يقم مقام مالك المال مالك آخر كمسألة الإرث، بل تبدل طرف الإضافة القائمة
بالمال بطرف الإضافة القائمة بمال آخر فلا بد أن يقع كل من المضافين مكان
الآخر في الملك، ويجب أن يدخل البدل في ملك من يخرج عنه المبدل، وهذا لا
يمكن إلا إذا دخل المبدل في ملك من خرج عنه البدل. ومجرد عدم المجانية
ووقوع مال بإزاء مال ليس معاوضة، لأن العقد: هو الأثر الحاصل من فعل
المتعاقدين، وليس الثالث طرفا لهما.
فلو كان أثر تمليك البائع تمليك المشتري غير البائع لزم أن يكون هنا عقدان
لو احتاج كل تمليك إلى قبول، أو إيقاعان لو لم يتوقف.
وقد تقدم أيضا: أنه لو قام دليل على صحة ما لو قال: اشتر بمالي لنفسك
طعاما فلا بد من حمله إما على هبة المال له قبل الشراء، وإما على هبة الطعام له بعد
الشراء، وإما على إعطائه له أحدهما قرضا.
وهكذا لو قام دليل على صحة بيع معلقات الكعبة المشرفة وتملك ثمنها فلا بد
من حمله على غير البيع من أنحاء التصرف، أو تملكها آنا ما قبل البيع ثم بيعها.
وأما عدم بطلان المعاوضة بعد تحقق أركانها بذكر ما ينافيها بعدها فلأنه لا
موجب لأبطال الأمر اللاحق الأمر الصحيح المتقدم.
نعم، لو لم يتحقق ركن المعاوضة - وهو تبديل المالين - فذكر ما ينافيها يوجب
بطلانها، كقوله: (بعتك بلا ثمن)، و (آجرتك بلا أجرة) على التفصيل الذي تقدم في
قاعدة ما يضمن.
370

إذا عرفت ذلك فنقول: تارة يكون العوضان شخصيين، وأخرى كليين، وثالثة
يكون أحدهما شخصيا والآخر كليا. فإذا كانا شخصيين فلا يعتبر تعيين مالكهما،
سواء أكان العقد من المالكين أم من غيرهما، وكيلا كان أم لم يكن، عقبه بما ينافيه
أم لم يعقبه، فإنه بعد ما عرفت: من أن المعاوضة تقتضي دخول العوض في ملك
من خرج عنه المعوض وبالعكس، فلو بدل المبيع الشخصي بالثمن الشخصي وقال:
بعتك هذا بهذا أو قال: بعت هذا بهذا صار المثمن لمالك الثمن، والثمن لمالك المثمن،
ولا يعتبر تعيين المالكين، لكونهما معينين في الواقع، ولا يضر تعقيب العقد بما
ينافيه بأن يقول: (بعتك هذا بهذا لزيد) مع عدم كون زيد مالكا لأحد العوضين، بل
ولا يضر ذكر المنافي بين الإيجاب والقبول بأن يقول: بعت هذا الذي لزيد بهذا الثمن
الذي لعمرو، فإنه يقع التبديل بين الثمن والمثمن، وقصد كونه لزيد أو ذكره لغو
لا يوجب البطلان، ولا يقاس على قوله: بعتك بلا ثمن، لما عرفت من الفرق بينهما.
وبالجملة: لم يقم دليل تعبدي على اعتبار قصد المالكين، ولا على بطلان
قصد الخلاف، ولا يتوقف عنوان العقدية أيضا على قصد المالكين أو ذكرهما، ولا
يمكن أن يؤثر قصد الخلاف في البطلان، كما لا يمكن أن يتعدد وجه وقوع العقد
أيضا حتى يتوقف على التعيين.
وأما إذا كانا كليين فلا بد من تعيين ذمة شخص بالنسبة إلى أحد العوضين،
والعوض الآخر لو لم يجعله العاقد في ذمة غيره يتعلق بذمته ظاهرا، فلو قصد
الإبهام وقال: (بعت) أو: (اشتريت منا من الحنطة بعشر قرانات) فلا يصح، لأن
الكلي ما لم يضف إلى ذمة شخص لا يكون مالا ولا ملكا، فإنه وإن لم يعتبر الملكية
والمالية قبل العقد ويكفي تحققهما بنفس العقد كما في السلم إلا أن تحققهما به
يتوقف على تعيين ذمة شخص، فإن المن من الحنطة بدون تعيين ذلك مفهوم،
والمفهوم بما هو مفهوم لا مالية له، وإنما ماليته باعتبار انطباقه على المصاديق
الخارجية وما لم يعينه في ذمة شخص لا ينطبق على مصداق، ولا دليل على كفاية
371

تعيين المبهم بعد العقد كشفا، أو نقلا.
وبالجملة: القدر المشترك بين الذمم لا مالية له، ولا يقاس على عتق أحد
العبدين وطلاق إحدى الزوجتين وبطلان الزائد على الأربع من دون تعيين فيما لو
أسلم الكتابي على الزائد عليهن، فإنه يمكن الفرق بين المقام وبين الأمثلة:
أولا: بأن الأمثلة من باب الشبهة المحصورة.
ويمكن أن يقال: إن إحدى الذمتين في المقام أيضا لها اعتبار الملكية دون
ذمة من في العالم.
وثانيا: بأن هذه الأمثلة ثبتت بالتعبد لا على طبق القاعدة، فإن القاعدة لا
تقتضي تعلق الطلاق بإحدى الزوجتين، فإن طلاق القدر المشترك لا معنى له، ولا
معين في الواقع أيضا حتى يتعين بالقرعة، فالقاعدة تقتضي البطلان.
وأما إذا كان أحدهما كليا فإن كان الشخصي ملك شخصه وجب تعيين من
يقع الكلي في ذمته. وأما لو انعكس فلا يجب التعيين، وذلك لأنه لو كان الشخصي
ملك غيره تعلق الكلي بذمة نفسه، لأن ذمة الغير تحتاج إلى التعيين، وإلا انصرف
إلى النفس حتى فيما لو كان وكيلا عن الغير، ونظير ذلك: النيابة والأصالة في
العبادات، فإنه لو اشتغل ذمته بفريضة لنفسه وكان أجيرا للغير أيضا فلو صلى ولم
يقصد النيابة وقعت عن نفسه، ولو لم يشتغل ذمة نفسه بها وقعت لغوا، فالانصراف
إلى النفس لا مؤنة له.
نعم، لو قصد الإبهام وقع في نفس الأمر باطلا وإن كان ملزما في الظاهر
بالالتزام المعاملي كما سيجئ في العنوان الآتي نظير ذلك.
ثم إن اعتبار تعيين البائع أو المشتري في الكليين ليس كاعتبار طرفي العقد
في غير باب المعاوضات: كالنكاح والوصية والهبة والوقف ونحو ذلك، فإن
الزوجين والموصى له أو الوصي أو المتهب أو الموقوف عليه ركن في هذه
الأبواب، وبدون التعيين لا ينعقد العقد، ولا يرتبط إنشاء الموجب بإنشاء القابل،
لأنه ليس قصد الواهب - مثلا - الهبة لكل من يقبلها.
372

وأما المعاوضات فاعتبار التعيين فيها إنما هو لاعتبار العوض فيها، حيث إن
تحقق المالية في الكلي إنما هو بتعيين المالك، وإلا فما هو الركن فيها هو العقد
والعوضين، فلو تم شرائطهما لم يعتبر شئ آخر أصلا.
وعلى هذا، فلا يخفى ما في كلام المحقق التستري من النظر:
أما أولا فلأن اعتبار التعيين في الكلي ليس لاعتبار قصد المالكين، بل
لاعتبار العوضية، فإن قوام العقد بجعل العوض في مقابل المعوض وبالعكس،
والكلي ما لم يضف إلى ذمة شخص ليس مالا، وتعيين الذمة بعد العقد لا يكفي في
تحقق العقدية، لأن الإنشاء من الإيجاديات، والإيجادي في الحال لا يعقل تحققه
في الاستقبال، فلو قام دليل على كفاية تحقق ما يجب أن يتحقق فعلا فيما بعد فلا بد
من تنزيله منزلة تحققه فعلا، وإلا لا يمكن وجود شئ في ظرف أن يكون وجودا
له في غير هذا الظرف، فلا يمكن قياس المقام على العتق ونحوه.
وعلى هذا، فلو سلمنا صدق العقد على الكلي ولو لم يضفه إلى شخص فقوله:
لا دليل على تأثير التعيين المتعقب، (1) فيه: أن الدليل عليه عموم (أوفوا بالعقود).
وقوله: ولا على صحة العقد المبهم لانصراف الأدلة إلى الشائع المعهود (2).
ففيه: أن التعارف بنفسه لا يوجب الانصراف.
وقوله قبل ذلك: والدليل على اشتراط التعيين ولزوم متابعته في هذا القسم
أنه لولا ذلك لزم بقاء الملك بلا مالك (3)، ففيه: أن هذا لا يتم في جميع الصور، لأنه
لو كان كل من العوضين كليا فقبل التعيين لا يتحقق نقل حتى يبقى الملك بلا مالك.
وأما ثانيا: فقوله: ولو اشترى لنفسه بمال في ذمة زيد، فإن لم يكن وكيلا عن
زيد وقع عنه وتعلق المال بذمته لا عن زيد ليقف على إجازته، وإن كان وكيلا
فالمقتضي لكل من العقدين منفردا موجود، والجمع بينهما يقتضي إلغاء أحدهما،

(1) مقابس الأنوار: كتاب البيع ص 115 س 22 - 23.
(2) مقابس الأنوار: كتاب البيع ص 115 س 21، 23.
(3) مقابس الأنوار: كتاب البيع ص 115 س 21، 23.
373

ولما لم يتعين احتمل البطلان للتدافع... إلى آخره (1). ففيه: أنه لا فرق بين صورة
الوكالة وغيرها في أن التصريح بالخلاف لا يضر بالعقد، ولا يقاس على مثل: بعتك
بلا ثمن، مع أن احتمال البطلان يجري في غير صورة الوكالة أيضا، فإن مجرد
قابلية وقوع العقد عن الموكل لو كان منشأ للتدافع بين قوله: اشتريت لنفسي وقوله:
في ذمة زيد فقابلية وقوعه عن زيد فضولا أيضا يوجب التدافع، لأن كلما صح عن
قبل الموكل في صورة الوكالة صح عن المالك في صورة الفضولي فالتفصيل بينهما
لا وجه له.
نعم، يعتبر في قابلية وقوع العقد عن قبل الموكل أو المالك أن يكون العقد
جامعا لشرائط الصحة من جميع الجهات، إلا أنه في صورة الوكالة لا يحتاج
استناده إلى الموكل إلى الإجازة منه بعد وقوع العقد، وهذا بخلاف عقد الفضولي،
فإن استناده إلى المالك يتوقف على الإجازة.
وعلى هذا، فيرد على عبارة المتن في قوله: وإذا لم يقصد المعاوضة الحقيقية
فالبيع غير منعقد، فإن جعل العوض من عين غير المخاطب الذي ملكه المعوض
فقال: ملكتك فرسي هذا بحمار عمرو فقال المخاطب: قبلت لم يقع البيع لخصوص
المخاطب، لعدم مفهوم المعاوضة معه، وفي وقوعه اشتراء فضوليا لعمرو كلام
يأتي، فإن مع تصريحه بعدم انعقاد البيع لا وجه له، لوقوعه اشتراء فضوليا لعمرو،
فإن العقد الفضولي لا بد أن يكون المقصود منه المعاوضة الحقيقية حتى في بيع
الغاصب لنفسه. وأما مع عدم قصد البيع أصلا فلا يصح رأسا.
وما وجهنا به هذه العبارة سابقا - وهو عدم قصد المعاوضة مع المخاطب، لا
عدم قصد أصل المعاوضة - لا يستقيم، لأنه لولا قوله: فالبيع غير منعقد لكان لهذا
التوجيه وجه.
وأما معه ومقابلة قوله: وإذا لم يقصد المعاوضة مع قوله سابقا، فالمقصود إذا
كان المعاوضة الحقيقية فلا وجه له، فتأمل لعلك تتصور وجها له.

(1) مقابس الأنوار: كتاب البيع ص 116 س 3 وما بعده.
374

ثم لا بأس بالإشارة إلى ما أفاده المصنف في توجيه ما أفاده المحقق
التستري فيما إذا كان العوضان معينين بناء على عدم اعتبار التعيين، فقال المحقق
التستري: وعلى الأوسط لو باع مال نفسه عن الغير وقع عنه، ولغا قصد كونه عن
الغير (1).
وقال المصنف: وأما ما ذكره من مثال: من باع مال نفسه عن غيره فلا إشكال
في عدم وقوعه عن غيره، والظاهر وقوعه عن البائع ولغوية قصده عن الغير، لأنه
أمر غير معقول لا يتحقق القصد إليه حقيقة، وهو معنى لغويته، ولذا لو باع مال غيره
عن نفسه وقع للغير مع إجازته... إلى أن قال: إلا أن يقال: إن وقوع بيع مال نفسه
لغيره إنما لا يعقل إذا فرض قصده للمعاوضة الحقيقية لم لا يجعل هذا قرينة على
عدم إرادته من البيع المبادلة الحقيقية، أو على تنزيل الغير منزلة نفسه في مالكية
المبيع... إلى آخره (2).
وحاصل ما أفاده أنه بعد تحقق المعاوضة وتبديل مال معين بمال آخر كذلك
فذكر ما ينافي ذلك لا يضر، فلو قصد بيع مال نفسه للغير يقع لنفسه، ولو قصد بيع
مال غيره لنفسه كالغاصب فيقع للغير، لأن بعد قصد المعاوضة لا أثر لقصد
ما ينافيها.
نعم، لو قيل: بأن قصد بيع مال نفسه للغير كاشف عن عدم قصد المعاوضة فلا
موجب للصحة، كما أنه لا موجب لها أيضا لو نزل الغير منزلة نفسه فأوقع المعاملة
بين ذلك الغير والمشتري، فإنه بهذا التنزيل أخرج نفسه عن الطرفية فلا تقع له، ولا
يمكن أن يقع أيضا للغير بإجازته، لأنه غير مالك، ولا إضافة بينه وبين المبيع،
فهذا التنزيل موجب للبطلان، عكس ما إذا نزل الغاصب نفسه منزلة المالك فإنه
موجب للصحة.
ثم إن بعض المحشين أورد على الشق الأول من الترديد بأن كون عدم

(1) مقابس الأنوار ونفائس الأسرار: كتاب البيع ص 116 س 2.
(2) المكاسب: كتاب البيع ص 118 س 2 وما بعده.
375

المعقولية قرينة على عدم إرادة المعاوضة الحقيقية إنما يتم إذا شك في قول الغير،
وأما مع صدور المعاملة الخاصة عن نفسه فلا معنى لجعله قرينة، إذ هو مطلع على
ما قصد.
وعلى الشق الثاني من الترديد بأن تنزيل الغير منزلة نفسه في مالكية المبيع
وجه للصحة لا للبطلان كما في تنزيل الغاصب نفسه منزلة المالك (1). وفيهما
ما لا يخفى.
أما في الأول فلأن القرينة الواقعة في الإنشاء ليست كالقرينة الواقعة في
الأخبار كاشفة عن المراد حتى يقال: إن المتكلم مطلع على مراده، بل قرينية
القرينة في الإنشاء معناها أن العقد المتحصل من إنشاءين إذا لم يتعقب بما ينافيه
فهو يقع على طبق ما أنشأ.
وأما إذا اقترن بما ينافيه كقوله: بعتك بلا ثمن فلا يقع الإنشاء للتدافع، ففي مثل
بيع مال نفسه عن غيره يحتمل الصحة بأن يجعل قصد الغير لغوا. ويحتمل البطلان
بأن يجعل قصد الغير بمنزلة بلا ثمن في كونه إيجادا لما ينافي إنشاءه، وهذا هو
معنى قرينيته، لعدم قصد المعاوضة الحقيقية.
وأما في الثاني فللفرق بين قصد المالكية في بيع الغاصب وتنزيل الغير منزلة
نفسه في بيع المالك، وهو أن القصد في الأول مصحح للمعاملة دون الثاني، وذلك
لأن العناوين الواقعية أو الجعلية قد يكون الأثر فيها مترتبا على المعنون بها أولا
وبالذات، وبتوسط انطباقها على المصداق يرتب على هذا المصداق ثانيا
وبالعرض، فإن زيدا يجب عليه الحج لكونه مستطيعا.
وقد يكون الأثر مترتبا على المصداق لكونه معنونا، فالعنوان من قبيل الداعي
وواسطة في الثبوت، مثلا: لو اقتدى بالعادل وتخيل أنه عمرو فبان أنه زيد
صحت صلاته، ولو اقتدى بعمرو لكونه عادلا فتبين أنه زيد بطلت صلاته.

(1) السيد اليزدي في حاشيته على الكتاب: كتاب البيع ص 117 س 21 وما بعده.
376

ففي الأول قصد كونه مالكا من الدواعي ومن قبيل الخطأ في التطبيق، فإن
المقصود إيقاع المبادلة بين المالين من المالكين، وحيث يعلم بأن كلا منهما ليسا له
يبني على مالكية نفسه حتى يتحقق قصد المعاوضة حقيقة، فإذا تمت المعاوضة
وأجاز المالك وقعت له.
وأما في الثاني فقصد كون ماله لغيره لا يمكن أن يكون من قبيل الخطأ في
التطبيق، بل يكون ضد ذلك، لأنه يرى نفسه خارجا عن طرف المعاوضة، فصحته
عن قبل نفسه لا يعقل بعد إخراج نفسه عن المالكية، وصحته عن الغير أيضا لا
معنى لها بعد عدم تأثير إجازته.
وبالجملة: تنزيل الغير منزلة النفس موجب للبطلان، لأنه لا يعقل دخول
البدل في ملك الغير مع عدم خروج المبدل عن ملكه، ولا وقوعه عن نفسه
لإخراج نفسه عن المالكية وتعقيب إنشائه بما ينافيه.
نعم، بناء على ما ذكرنا من أن ذكر ما ينافي العقد بعد تحقق أركانه يقع لغوا ولا
يوجب بطلانه فهذا القصد لغو.
وعلى أي حال، هذا القصد ليس مصححا للمعاملة، بل إما يقع لغوا أو موجبا
للبطلان.
المبحث الثالث: في تعيين الموجب لخصوص المشتري والقابل
لخصوص البائع...
وفيه أيضا جهات من البحث:
الأولى: في أنه هل فرق بين هذا المبحث والمبحث الثاني أو لا فرق بينهما؟
والحق عدم الفرق بينهما، ففيما إذا كان العوضان شخصيين فكما لا يعتبر تعيين
البائع من يبيع له ولا تعيين المشتري من يشتري له فكذا لا يعتبر أن يعلم البائع بأن
المشتري يشتريه لنفسه أو لغيره وأن الثمن ملك له أم لا، وهكذا في طرف
المشتري، لأن التبديل يقع بين المالين، فكل من هو مالك للثمن ينتقل إليه الثمن،
وبالعكس.
377

نعم، في غير باب المعاوضات كعقد النكاح والهبة والوقف والوصية، ونحو
ذلك: كالضمان والحوالة يعتبر العلم بالطرف، فإن خصوصيات الأشخاص لها
ركنية ودخل تام في نظر الطرف.
وبالجملة: من يتعلق العقد به تارة هو ركن في العقد، وأخرى ليس كذلك، فلو
كان ركنا فلا بد من تعيينه، فلو لم تعلم الزوجة بأن القابل هو الزوج أو وكيل عنه لم
يصح العقد، وهذا بخلاف البيع.
الثانية: إذا علم بأن الطرف الآخر وكيل أو ولي فهل يصح في مقام إجراء
الصيغة المخاطبة مع الطرف مطلقا بأن يقول: أنكحتك، أو لا يصح مطلقا، أو
التفصيل بين البيع وما يحذو حذوه وبين النكاح وما يتلو تلوه؟
والحق هو التفصيل، لا للفرق بين وكيل الزوج ووكيل البائع بأن يقال يطلق
على وكيل البائع بأنه بائع، وأما وكيل الزوج فلا يقال: بأنه زوج فإن هذا باطل،
لعدم الفرق بين الإطلاقين كما أشار إليه المصنف بقوله: فتأمل، بل لأن ما لم يعتبر
فيه أن يكون شخصا خاصا صح مخاطبته بما أنه هو، أو بما أنه وكيل، لا بمعنى
أن كاف الخطاب وضع في البيع ونحوه للأعم فإنه باطل، بل بمعنى: أنه في البيع
يتعارف تنزيل الغير منزلة المخاطب، فلو علم بالوكالة نزل الوكيل منزلة نفس
الموكل، فيخاطبه بقوله: بعتك بما أنت موكلك، وأما لو يعلم بها فيخاطبه بقوله:
بعتك بما أنت أنت، وهذا بخلاف باب النكاح فإنه لا يتعارف فيه ذلك، فمع أن
المخاطب في كلتا الصورتين هو العاقد يختلف كيفية الخطاب اعتبارا.
الثالثة: بعد صحة البيع ولو لم يعلم بأن الطرف يشتريه لنفسه أو لغيره فهل
الملزم بالالتزام العقدي نفس العاقد ولو ثبت بأنه وكيل، أو يفصل بين ما إذا ثبت
وكالته فالملتزم هو الموكل وما لم يثبت فالعاقد؟ وجهان، والأقوى هو الأول.
وعلى هذا، فلا تسمع دعوى الوكالة، لأن الدعوى إنما تسمع فيما إذا كان
الأثر مترتبا على المدعى به. وأما لو لم يكن له الأثر - سواء أكان ثابتا في الواقع أم
لا - فلا وجه لسماع الدعوى، فالعمدة إثبات أن الملتزم بالالتزامات نفس العاقد
378

فيما لم يعلم أنه وكيل، لأنه لو علم كونه وكيلا فالملتزم هو الموكل بلا شبهة، لأن
الخطاب وإن كان متوجها إلى الوكيل إلا أنه لا بما هو هو، بل بما أنه موكله،
فكأن الطرف مع علمه بوكالة المخاطب جعل الالتزامات العقدية على الموكل،
وأما لو يعلم بها فالملزم هو الوكيل ولو ثبت كونه وكيلا بعد هذا، غاية الأمر أنه
أيضا يرجع إلى الموكل، لأن الطرف حيث إنه جاهل بوكالته فينشئ الالتزامات
الصريحة أو الضمنية معه، بل لعله لو كان عالما بوكالته لما أوقع المعاملة مع
الموكل، لأن الناس في السهولة والصعوبة والعسر واليسر والمماشاة والمماطلة
مختلفون، فالوكيل المفوض كما هو مفروض الكلام لو لم يصرح بالوكالة فهو
الملزم بالتسليم، وسلامة المبيع ونحو ذلك من الشروط الضمنية والصريحة، لأنه
بإنشائه التزم أمرين:
أحدهما: الالتزام بكون المبيع عوضا عن الثمن، وأثر هذا الالتزام انتقال كل
واحد من العوضين من أي مالك كان إلى مالك الآخر، فعليه إلزام موكله بأخذ
الثمن أو المثمن منه وتسليمه إلى الطرف وللطرف الرجوع إليه ابتداء.
وثانيهما: الالتزام بعدم العيب والغبن ونحو ذلك من الشروط الضمنية أو
الصريحة، وأثر هذا الالتزام أيضا رجوع الطرف إليه ابتداء، وبعد رجوعه إليه فهو
أيضا يرجع إلى موكله.
نعم، لو كان كاف الخطاب موضوعا للأعم لكان سماع الدعوى منه في غاية
الوضوح، لأن ظهور الاطلاق في كونه هو الأصيل لا ينافي سماع الدعوى منه، فإن
مورد سماع الدعوى هو: كون الأثر على المدعى به مع كونها مخالفة للأصل أو
الظاهر، فمع الالتزام بكون الكاف موضوعا للأعم لا وجه لعدم سماع قول من
يدعي الوكالة، ولعل قوله: فتأمل إشارة إلى ذلك.
قوله قدس سره: (مسألة: ومن شرائط المتعاقدين: الاختيار... إلى آخره).
قد تقدم: أنه يعتبر في تحقق عنوان العقدية أمران:
الأول: أن يكون قاصدا للفظ بما أنه فان في المعنى وحاك عنه، وقصده كذلك
379

مع عدم قصد المعنى لا يجتمعان، فإن قصده كذلك الذي هو: عبارة عن استعماله
في المعنى ملازم لقصد المعنى منه.
نعم، قصد اللفظ موضوعيا كمن يتكلم تقليدا أو غير عالم بالمعنى لا يلازم
قصد المعنى.
الثاني: أن يكون الداعي على الاستعمال بعد قصد اللفظ وقوع المدلول في
الخارج، فعقد الهازل لا أثر له، لأنه وإن قصد المعنى بتوسط قصده اللفظ إلا أنه
غير قاصد لوقوع المدلول في الخارج، أي لم يقصد من قوله: (بعت) إيجاد المادة
بالهيئة خارجا، بل قصد صورة وهزلا.
ويعتبر في نفوذ العقد ومضيه شرط ثالث، وهو أن يكون إرادة الفعل ناشئة عن
طيب النفس، أي يكون الموجب لإرادة الفعل والداعي لها الذي هو بمنزلة العلة
للإرادة وإن لم تكن علة، وإلا لزم القول بالجبر كما برهن في محله طيب نفسه، لا
إكراه المكره، فإن المكره - بالفتح - وإن كان قاصدا للفظ وقاصدا لوقوع مدلوله
في الخارج أيضا إلا أن هذا اللفظ نشأ عن غير رضا منه، فلو كان هذا القصد أيضا
ناشئا عن الرضا خرج عن عنوان الاكراه ولو انتهى إلى غير الرضا.
كما أنه لو كان أصل صدور الفعل عن غير اختيار فهو أيضا خارج عن عنوان
الاكراه.
وبعبارة واضحة: هنا أمور ثلاثة، اثنان منها خارج عن عنوان الاكراه،
والإكراه متوسط بينهما:
الأول: ما إذا صدر الفعل عن غير إرادة، كمن وجر في حلقه مفطر، أو كتف
وألقي في السفينة.
والثاني: ما إذا صدر الفعل عن إرادة ونشأت هذه الإرادة عن داع نفساني، إلا
أن الداعي على هذا الداعي غير الرضا والاختيار، كمن كان جائعا فباع ثوبه
ليشتري بثمنه خبزا بحيث لو لم يكن مضطرا لما باعه، والمكره واسطة بين هذين
الشخصين فإنه مختار في الفعل، إلا أن هذا الاختيار نشأ عن غير اختيار. وأما
380

الجائع ونحوه كمن أكره على إعطاء مائة دينار فباع داره لإعطاء الدنانير، فإرادة
الفعل أيضا نشأت عن الاختيار، إلا أن هذا الاختيار نشأ عن أمر غير اختياري.
وكيف كان، فموضوع البحث في عقد المكره وجود جميع الشرائط، سوى
الرضا بالمعاملة.
فما عن العلامة والشهيدين قدس سرهم من أن المكره قاصد إلى اللفظ دون مدلوله، (1)
ليس مقصودهم ما هو ظاهر عبارتهم.
أما مراد الشهيدين فبالنظر إلى قياسهما المكره على الفضولي يظهر أن
مقصودهما من قولهما: إن المكره قاصد إلى اللفظ غير قاصد إلى مدلوله هو أن
المكره لم يقصد ما هو ظاهر إنشاء كل منشئ من رضائه بوقوع المدلول في
الخارج. كما أن الفضولي لم يقصد ما هو ظاهر المعاملة من وقوعها لنفسه.
وأما العلامة فمقصوده من قوله في التحرير: لو أكره على الطلاق فطلق ناويا
فالأقرب وقوع الطلاق إذ لا إكراه على القصد، (2) هو التفصيل بين أقسام المكره،
وهو أن كل من لم يتمكن من التورية فهو مكره، وأما من أمكن له التورية فإذا لم
يور وأوقع المعاملة فليس مكرها، بل صدرت المعاملة عنه عن طيب.
وبالجملة: فمحل الكلام في المقام هو أن الداعي الذي ينشأ منه إرادة الفعل:
يجب أن يكون اختياريا، فعدم قصد وقوع المدلول في الخارج كما في الهازل لا
يدخل تحت هذا العنوان.
كما أن انتهاء جميع الدواعي في السلسلة الطولية إلى الاختيار أيضا لا دليل
على اعتباره، وإلا لزم عدم صحة أغلب المعاملات، فلو كان محل البحث هو البيع
الصادر عن إرادة ناشئة عن الاكراه لصح التمسك لاعتبار الاختيار المقابل لهذا
المعنى بالأدلة العامة والخاصة.

(1) العلامة الحلي في التحرير: كتاب الفراق ج 2 ص 51 س 16، الشهيد الأول في الدروس الشرعية:
كتاب البيع ج 3 ص 192، الشهيد الثاني في المسالك: كتاب التجارة ج 1 ص 171 س 23.
(2) تحرير الأحكام: ج 2 ص 51 س 15.
381

أما الأدلة العامة فكقوله عز من قائل: (إلا أن تكون تجارة عن تراض) (1)
وقوله عليه السلام: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفسه) (2)، وقوله صلى الله عليه وآله: (رفع
ما أكرهوا عليه) (3) فإن الاكراه على إرادة المعاملة يخرجها عن التجارة الناشئة
عن الرضا بها، وعن طيب النفس، فإن المكره وإن كان راضيا بالفعل بمعنى أنه
يصدر عنه بالاختيار إلا أنه غير راض بحاصل فعله وبإرادته للفعل الذي يترتب
عليه الأثر فلم تصدر التجارة عن رضا.
وأما حديث الرفع فبناء على ما بينا مفاده في الأصول (4) من أن الرفع رفع
تشريعي ولا يحتاج إلى التقدير فدلالته على المقصود واضحة، ولا يتوقف التمسك
به على ضم استشهاد (5) الإمام عليه السلام به على رفع أثر الحلف بالطلاق إذا كان
الحالف مكرها، لما بينا من دلالته بنفسه مع قطع النظر عن الخارج.
وعلى أي حال، المناقشة في الاستشهاد بحمل نفس الاستشهاد على التقية
غير صحيحة، لأن الظاهر أن الإمام عليه السلام في استشهاده بحديث الرفع بين الحكم
الواقعي وإنما اتقى في تطبيق الحديث على المورد، ففي بيان الكبرى لا تقية، فيدل
الحديث على رفع الآثار الوضعية: كرفع الآثار التكليفية في حال الاكراه.
ونظير المقام ما ورد عن الصادق عليه السلام في قوله: (ذاك إلى الإمام إن صمت
صمنا، وإن أفطرت أفطرنا) (6)، فإن الظاهر من هذا الحديث أنه عليه السلام لم يتق في
ثبوت الهلال بحكم إمام المسلمين، بل في تطبيق الإمامة على المنصور الذي أمر
الإمام عليه السلام بإفطار آخر يوم الصيام.

(1) النساء: 29.
(2) وسائل الشيعة: ج 3 ص 424 بتفاوت يسير ب 3 من أبواب مكان المصلي ح 1.
(3) الخصال: ص 417 ح 9.
(4) فوائد الأصول: ج 3 ص 342 - 343.
(5) الكافي: ج 6 ص 128 - 129 ح 4، عنه وسائل الشيعة: ج 15 ص 331 ب 37 من أبواب
مقدمات الطلاق ح 4.
(6) الكافي: ج 4 ص 82 - 83 ح 7، عنه وسائل الشيعة: ج 7 ص 95 ب 57 من أبواب
ما يمسك عنه الصائم ح 5.
382

كما أن الإشكال عليه بأن مقتضاه بطلان البيع عن اضطرار مع عدم إمكان
الالتزام به غير وارد، لأن الحديث حيث ورد في مقام الامتنان فلا امتنان في رفع
أثر المعاملات الصادرة عن اضطرار. هذا، مع أن الاضطرار إلى المعاملة: عبارة
عما يكون نفس المعاملة اضطرارية، وأما إذا كانت المعاملة مما يدفع بها
الاضطرار فلا يدل الحديث على رفعها.
كما أنه لو كان الخطأ أو النسيان متعلقا بأمر آخر غير نفس المعاملة عن عمد
والتفات فهذه لا ترتفع بالحديث.
وعلى أي حال، سواء أقلنا برفع الآثار الوضعية أيضا: كرفع الأحكام التكليفية
كما هو ظاهر استشهاد الإمام عليه السلام بالحديث أم لم نقل به بأن يحمل نفس
الاستشهاد على التقية فعدم مضي المعاملة إذا كانت كراهية لا إشكال فيه، لأن
الاكراه موجب لفقد الرضا، مع أن رفع الآثار الوضعية به في الجملة لا إشكال فيه.
وتمام الكلام في الأصول.
وأما الأدلة الخاصة فهي الأخبار الواردة في الطلاق والعتق.
فعن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام: عن طلاق المكره وعتقه، فقال عليه السلام: (ليس
طلاقه بطلاق ولا عتقه بعتق) (1).
وعن أبي عبد الله عليه السلام: (لا يقع الطلاق بإكراه، ولا إجبار، ولا مع سكر، ولا
على غضب) (2) إلى غير ذلك من الأخبار.
ثم إنه لا ينافي الصحة مع الرضا اللاحق في العقود البطلان مطلقا في الطلاق
والعتق، لأن البطلان فيهما إنما هو لخصوصية كونهما إيقاعيين، والإيقاع لا يقبل

(1) الكافي: ج 6 ص 127 ح 2، عنه وسائل الشيعة: ج 15 ص 331 ب 37 من أبواب مقدمات
الطلاق ح 1.
(2) من لا يحضره الفقيه: ج 3 ص 497 ح 4754، لكن يظهر أن هذه الزيادة من كلام الصدوق
وليس جزءا من الرواية الواردة عن الإمام الباقر عليه السلام، وفي الوسائل: ب 10 من أبواب
مقدمات الطلاق ح 9 ج 15 ص 284، نقل الرواية من دون هذه الزيادة، نعم جعلها السيد
السند جزءا من الرواية كما في نهاية المرام: ج 2 ص 13.
383

الرضا المتأخر.
كما أنه لا محذور في الجميع بين ما لا إرادة في الفعل: كما في السكر
والغضب الذي أريد منه مورد سلب الشعور والإجبار إذا أريد منه سلب الاختيار
كحركة المرتعش، وما فيه الإرادة: كالإكراه لاشتراك القسمين في الجامع وهو
بطلان الطلاق.
قوله قدس سره: (ثم إن حقيقة الاكراه لغة (1) وعرفا: حمل الغير على ما يكرهه... إلى
آخره).
بعد ما تبين حكم الاكراه وأنه لا يترتب الأثر على العقد أو الإيقاع الصادر
عن المكره يجب التنبيه على موضوع الحكم وبيان العقود المعتبرة فيه، وفيه
جهات من البحث:
الأولى: في بيان حقيقته. وقد ظهر مما قدمنا أن الاكراه المبحوث عنه بين
الأعلام هو الواسطة بين مثل حركة المرتعش والاضطرار، فهو عبارة عن تحقق
إرادة وقوع المضمون عن غير رضا وطيب، وهذا هو مقصود المصنف قدس سره في قوله:
فالمعيار في وقوع الفعل مكرها عليه سقوط الفاعل من أجل الاكراه المقترن بإبعاد
الضرر عن الاستقلال في التصرف بحيث لا تطيب نفسه بما يصدر منه، ولا يتعمد
إليه عن رضا وإن كان يختاره دفعا للضرر.
وتوضيح ذلك: أن الغرض من المعاملة قد يكون هو التجارة، وقد يكون حاجة
عارضة، وهذه الحاجة تارة هي دفع ضرر ترك المعاملة، وأخرى دفع ضرر آخر،
فلو كان مكرها بدفع شئ فباع داره لتحصيل المكره عليه، أو كان مضطرا لشراء
ما يسد به خلة عياله فباع داره لتحصيل ثمن ما يحتاج إلى شرائه فهذا ليس مكرها
على المعاملة بالداعي الأولي وإن كان مكرها عليها ثانيا وبالعرض. وأما لو كان
مكرها على المعاملة أولا وكان الحامل لها أمر المكره فهو موضوع البحث.
واعتبار كون التجارة عن تراض يقتضي خروج هذه المعاملة عما تعلق

(1) لاحظ الصحاح للجوهري: ج 6 ص 2247 (مادة كره).
384

الإمضاء الشرعي به، لكونها عن غير رضا، لا القسم الأول، فإنه وإن انتهى إلى عدم
الرضا إلا أنه لا يصدق عليه أنه غير راض، لأنه وإن أوجد المعاملة لدفع الضرر
إلا أنه مستقل في فعله.
ثم بعد اعتبار الاكراه على نفس المعاملة وكون وقوعها ناشئا عن حمل الغير
على ما يكرهه لا مجرد استرضاء خاطره من دون طلب منه يعتبر توعيد الطالب
على الترك، ثم يعتبر الظن أو الاحتمال العقلائي على ترتب ذلك الوعيد على
الترك، فمجرد أمر الغير مع عدم اقترانه بتوعيد منه لا يدخل في موضوع البحث
وإن خاف من تركه ضررا سماويا، أو الضرر من شخص آخر غير الأمر.
كما أنه مع عدم احتماله الترتب ليس داخلا في عنوان الاكراه، لأن الشخص
في هذه الصور إما مستقل في التصرف، وإما أن صدوره منه ليس لعنوان الاكراه بل
للاضطرار ونحوه، وعلى هذا فمثل أمر الوالدين أو أمر من لا يمكن مخالفته حياء
لا يدخل في عنوان الاكراه إلا إذا خرج صدور الفعل من الفاعل عن داعي حصول
اسم المصدر، وعلى هذا يحمل ما دل على رفع أثر الطلاق الصادر مداراة بأهله، أو
على عدم قصد المضمون.
كما أن رواية ابن سنان عن الصادق عليه السلام قال: (لا يمين في قطيعة رحم،
ولا في جبر، ولا في إكراه، قلت: أصلحك الله، وما الفرق بين الجبر والإكراه؟ قال:
الجبر من السلطان، ويكون الاكراه من الزوجة والأم والأب، وليس ذلك
بشئ) (1) الدالة على دخول إكراه الزوجة والأبوين في عنوان الاكراه، لا بد أن
تحمل على خصوص الاكراه في اليمين، لأنها حيث تكون مرجوحة فلا أثر
للإكراه عليها ولو كان من قبل الأبوين والزوجة، وعلى هذا فالاستدلال بها للمقام
غير مستقيم، لأن البيع ليس مرجوحا، فإذا لم يخف البائع من تركه وصدر منه فهو
مستقل في التصرف.

(1) الكافي: ج 7 ص 442 ح 16، عنه وسائل الشيعة: ج 16 ص 143 ب 16 من أبواب
الايمان ح 1.
385

ثم إن قوله: (وليس بشئ) يرجع إلى صدر الحديث، أي ليس اليمين في
مورد الإجبار والإكراه بشئ، فيكون السؤال والجواب جملتين معترضتين بين
الصدر والذيل، ومنشأ الفصل عدم إمهال السائل لاتمام الإمام عليه السلام كلامه.
ثم إن مما ذكرنا: من الفرق بين الاضطرار والإكراه ظهر اندفاع ما يتوهم من
التناقض بين كلامي المصنف.
وجه التوهم هو أن توجيهه قدس سره كلام الشهيدين (1) - وهو أن المكره والفضولي
غير قاصدين لمدلول العقد - بأن المراد من القصد المفقود في المكره هو القصد إلى
وقوع أثر العقد، ومضمونه في الواقع مناقض لما ذكره في أول العنوان: من أن
المراد من الاختيار هو القصد إلى وقوع مضمون العقد عن طيب النفس في مقابل
الكراهة، فإن قوله أول العنوان ظاهر في أن المكره قاصد لوقوع أثر العقد
ومضمونه في الواقع، إلا أنه نشأ قصد وقوع مضمونه في الخارج عن إكراه،
وكلامه في التوجيه ظاهر في أن المكره لا يكون قاصدا لوقوع مضمون العقد،
مضافا إلى كونه غير راض به.
وجه الدفع يتوقف على تمهيد مقدمة، وهي أن الفعل المحرم الصادر عن
الانسان: كشرب الخمر يقع على أنحاء: منها شربه تشهيا، ومنها شربه علاجا،
ومنها شربه مكرها عليه. ولا إشكال في أن القسم الأول يصدر عنه بتمام
الاختيار، من حيث اختيار الفعل واختيار الأثر الحاصل منه وهو السكر.
وأما الثاني فالفعل وقصد حصول الأثر المرغوب عنه وإن صدرا بالاختيار
إلا أن قصد الأثر حصل لدفع الضرر، فهو نشأ عنه ثانيا، لا أولا وبالذات.
وأما الثالث فالفعل وإن صدر عنه بالاختيار إلا أنه لم يقصد حصول الأثر
حتى في المرتبة الثانية، لأنه لا يكون غرضه في صدور الفعل حصول النتيجة.
والثاني يسمى بالمضطر إليه، والثالث بالمكره عليه.

(1) تقدم تخريجه في الصفحة: 381.
386

إذا عرفت ذلك ظهر أن مراده في التوجيه من أن المكره غير قاصد لمضمون
العقد ليس كونه غير قاصد للانفعال الذي هو أثر الفعل مع قصده الفعل، بل مراده أن
نتيجة فعله - أي الأثر المترتب عليه - كالانتقال الخارجي الذي هو بمعنى اسم
المصدر لم يصدر عنه باختيار ورضا.
وبعبارة أخرى: يشترك المضطر مع المكره في قصدهما المعنى المصدري، إلا
أنهما يفترقان في قصد اسم المصدر، فإن المضطر قاصد له كقصده المعنى
المصدري عن طيب، بخلاف المكره فإنه لم يقصد حاصل المصدر عن رضا.
ويمكن أن يكون هذا مراد العلامة قدس سره في قوله: لو أكره على الطلاق فطلق
ناويا فالأقرب وقوع الطلاق، إذ لا إكراه على القصد (1)، أي نوى الحاصل من
المصدر وقصد تحقق مضمون العقد لا بمعنى أنه قصد مدلوله، بل بمعنى كون الفعل
ناشئا عن قصد حصول الأثر.
وبعبارة أخرى: قد يكون قصد المعنى المصدري تبعا لقصد اسم المصدر، فإن
المقصود التوجه أولا إلى قصد اسم المصدر، وحيث إنه حاصل من المصدر فيقصد
المعنى المصدري مقدمة. والمضطر كذلك، لأنه لما توقف علاج مرضه على
السكر فيقصد الشرب المحصل له مقدمة. وأما المكره فلا يريد السكر أصلا، بل
الشرب هو المقصود الأصلي له. فعلى هذا يصح أن يقال: إن المكره غير قاصد
لوقوع مضمون العقد، أي للمتحصل من العقد. والأخبار (2) المصرحة بأنه (لا
طلاق لمن لا يريد الطلاق) ناظرة إلى هذا المعنى.
وحاصل الكلام: أنه ليس مقصود المصنف قدس سره من أن المكره لا يكون
الداعي له من الإنشاء قصد وقوع مضمونه في الخارج أن المكره لا يقصد إيجاد
المادة بالهيئة، بل مقصوده أنه لا غرض له من إيجاد المادة بالهيئة وإن أوجدها

(1) تقدم تخريجه في الصفحة: 381.
(2) الكافي: ج 6 ص 62 ح 1، 2، عنه وسائل الشيعة: ج 15 ص 285 ب 11 من أبواب
مقدمات الطلاق ح 1، 2.
387

بها، فإن غرضه وداعيه هو دفع الضرر الذي ينشأ من تركه إيجادها، فهو يوجدها
بها لا عن رضا، بخلاف المضطر فإنه يوجدها بها عن رضا منه، فهو مستقل في
التصرف دون المكره.
الجهة الثانية: ما أشار إليه المصنف قدس سره بقوله: ثم إنه هل يعتبر في موضوع
الاكراه أو حكمه عدم إمكان التفصي عن الضرر المتوعد به بما لا يوجب ضررا
آخر... إلى آخره؟
وحاصله: أن إمكان دفع الضرر بالوقوع في ضرر آخر لا يخرج الفعل عن
عنوان الاكراه، ولذا لو أكره على الطبيعي فكل واحد من مصاديقه يصدق عليه أنه
وقع مكرها عليه. وهكذا لو أكره على أحد الشيئين فاختيار أحدهما لا يخرجه
عن عنوان الاكراه.
وتوهم: كونه مختارا في اختيار الخصوصية فاسد جدا، لأن الخصوصية إذا
صدرت لدفع إيعاد المكره فليس صادرة عن طيب، وهذا لا إشكال فيه، إنما
الإشكال في أنه إذا أمكنه دفع الضرر بالتوصل إلى شخص ليدفع ضرر المكره أو
بالتورية فهل يكون مكرها مطلقا، أو لا يكون كذلك مطلقا، أو يفصل بين التورية
فيكون مكرها وغيرها فلا؟ وجوه، والأقوى هو التفصيل، وتوضيحه يتوقف على
رسم أمور:
الأول: في معنى التورية، والمشهور أنها عبارة عن إلقاء الكلام الظاهر في
معنى وإرادة خلاف ظاهره مع إخفاء القرينة على الخلاف.
وفي مجمع البحرين: وريت الخبر تورية إذا سترته وأظهرت غيره، حيث
يكون للفظ معنيان: أحدهما أشيع، فتنطق به وتريد الخفي... إلى آخره (1).
وفي القاموس: ورآه تورية أخفاه (2).
وفي تلخيص المفتاح: ومنه التورية، وتسمى الإيهام أيضا، وهو أن يطلق

(1) مجمع البحرين: ج 1 ص 436 (مادة ورا).
(2) القاموس المحيط: ج 4 ص 399 (مادة الورى).
388

لفظ له معنيان: قريب وبعيد، ويراد البعيد... إلى آخره (1).
والظاهر عدم انحصار التورية بما عرفوها به، فإن هذا الذي ذكر في تعريفها
ينحصر في الأخبار، والجامع بين الأخبار والإنشاء هو أن تعرف بمطلق إخفاء
المقصود، سواء أكان بهذا النحو الذي ذكر أم بنحو ذكر اللفظ، وعدم قصد المعنى بأن
لا يكون ذكره اللفظ استعمالا، بل ناظرا إليه بالنظر الموضوعي. وبعبارة أخرى:
استعمال اللفظ: عبارة عن إلقاء المعنى باللفظ، فإذا لم يكن مقصود اللافظ هو
الاستعمال إما بأن لا يلقي ما هو معناه، وإما بأن لا يلقي به معنى أصلا، بل ينظر إليه
لا بما هو فان وآلي، بل بالنظر الاستقلالي كاستعمال اللفظ وإرادة شخص هذا
اللفظ، كقوله: زيد لفظ فهو المورى.
وعلى هذا، فالتورية في الحكايات قد تكون: عبارة عن إراءة استعمال
الألفاظ في المعاني حكاية، مع أنه ليس داعيه إلا صرف التلفظ. وفي
الإنشائيات: عبارة عن كونه مرائيا بأنه يوجد المواد بالهيئات وينشئ المعاني
بالألفاظ، مع أنه ليس كذلك.
وعلى أي حال لا يخرج الكلام عن الكذب بالتورية، لأنه عبارة عن مخالفة
ما هو ظاهر اللفظ مع ما هو الواقع خارجا، سواء أكان اللافظ مريدا للظاهر أم لا،
قاصدا لاستعمال اللفظ في المعنى أم لا.
الثاني: قد تقدم أنه يعتبر في رفع الاكراه أثر المعاملة ترتب الضرر على
مخالفة الفعل المكره عليه.
ومحل بحث الأعلام في عدم اعتبار إمكان التفصي مطلقا أو اعتباره كذلك أو
التفصيل بين إمكانه بغير التورية وإمكانه بها إنما هو بعد الفراغ عن اعتبار ترتب
الضرر على مخالفة الفعل المكره عليه. وأما لو قلنا بأن مجرد حمل الغير على ما
يكرهه يكفي في ارتفاع أثره لصدق الاكراه فالنزاع في اعتبار إمكان التفصي

(1) كتاب المطول للتفتازاني: ص 425.
389

مطلقا وعدم اعتبار إمكانه كذلك أو التفصيل لغو، وذلك لصدق الاكراه بمجرد عدم
رضا المكره بالنتيجة. ومن هنا صح تمسك المصنف (1) برواية ابن سنان الدالة على
عدم اعتبار إمكان التفصي مطلقا، ولا يرد عليه ما أورد بأن الظاهر من الرواية
تحقق الاكراه بدون التوعيد بالضرر لا أن التفصي بغير التورية أيضا غير لازم فلا
دخل لها بمسألة إمكان التفصي وعدمه، وذلك لما عرفت: من أن محل البحث إنما
هو بعد اعتبار ترتب الضرر والرواية حيث دلت على أن إكراه الزوجة أو الوالدين
ليس بشئ، مع أن التفصي بغير التورية بالنسبة إلى مخالفتهم أيضا ممكن، فتدل
على عدم اعتبار العجز عن التفصي مطلقا.
نعم، قد يورد عليه أن الرواية مختصة بمسألة الاكراه في مورد اليمين لا
مطلقا.
وكيف كان، فثمرة هذا النزاع إنما هو بعد الفراغ عن اعتبار ترتب الضرر على
مخالفة الفعل المكره عليه.
الثالث: يظهر من المصنف أن الفرق بين التخلص من التورية وغيرها من
وجهين: أحدهما: من حيث الحكم. وثانيهما: من حيث الموضوع.
أما من حيث الحكم فحاصله أن الاكراه وإن لم يكن صادقا موضوعا على ما
إذا تمكن من التفصي مطلقا إلا أن إطلاق الأخبار ومعاقد الإجماعات تلحقان
القادر على التفصي بالتورية بمن لا يقدر عليه.
أما عدم صدق الاكراه موضوعا على مورد إمكان التفصي فلما عرفت: أنه
يعتبر في وقوع الفعل عن إكراه أن يكون الداعي إليه هو خوف ترتب الضرر
الموعود على الترك، ومع القدرة على التفصي ولو بالتورية لا يكون الضرر مترتبا
على ترك المكره عليه، بل على تركه وترك التفصي معا، فدفع الضرر يحصل بأحد
الأمرين، فإذا اختار الفعل ولم يور فهو مختار فيه، ولا يقاس على اختيار أحد

(1) المكاسب: كتاب البيع ص 119 س 23 وما بعده.
390

فردي المكره عليه، كما إذا أكرهه على بيع داره أو بستانه في أن اختيار كل واحد
لا يخرج الفعل عن كونه مكرها عليه، للفرق بينهما، فإن المكره لم يكرهه إما على
المعاملة أو على التفصي فليس التفصي عدلا للمكره عليه، بل هو من قبيل شرط
الوجوب، ومسقط للتكليف، وموجب لذهاب الموضوع، ولذا لو تفصى بعقد آخر
غير ما أكره عليه وقع صحيحا، وليس ذلك إلا أنه ليس فردا لما أكره عليه، ولا
عدلا له.
وأما دخول إمكان التفصي بالتورية في حكم الاكراه فلإطلاق معاقد
الإجماعات والأخبار، وبعد حملها على صورة العجز عن التورية لجهل أو دهشة.
وفيه ما لا يخفى من الغرابة، فإنه لو سلم أن مع القدرة على التفصي ولو
بالتورية ليس مكرها عليه فكيف يشمله إطلاق معاقد الإجماعات والأخبار، فإن
الاطلاق يؤخذ به في أفراد الموضوع أو أحواله مع خروجه موضوعا لا يعقل
شمول نفس هذا الاطلاق له؟ نعم، لو نهض دليل آخر على إلحاقه به حكما أو قام
إجماع على عدم اعتبار العجز عن التورية في رفع الاكراه أثر الفعل المكره عليه
لصح دعوى الإلحاق الحكمي، ولكن أنى لنا بإثباته؟ مع أن الاجماع إذا كان
مستنده صدق الاكراه فلا يفيد.
وقوله قدس سره: مع أن العجز عنها لو كان معتبرا لأشير إليها في تلك الأخبار
الكثيرة المجوزة للحلف كاذبا عند الخوف، والإكراه خصوصا في قضية عمار،
ففيه: أن عدم الإشارة إليها في باب الحلف كاذبا عند الخوف والإكراه إنما هو لعدم
فائدة للتورية في الخروج عن الكذب، كما تقدم: من أن الكذب هو مخالفة ما هو
ظاهر الكلام مع ما هو الواقع في الخارج. وأما في قضية عمار فلا أثر للتنبيه عليه
بأن يوري إذا ابتلي بعد ذلك.
أما أولا: فلأن الألفاظ الكفرية يحرم التلفظ بها ولو لم يقصد بها معانيها، لأن
لها موضوعية من وجه وإن كانت طريقية من وجه آخر فالتبري من الله سبحانه
ورسوله وأئمة الهدى صلوات الله عليهم أجمعين يحرم وإن لم يقصد به معناه، كما
391

قيل (1) في عكس ذلك بالنسبة إلى الشهادتين في أن بعض الآثار مترتب على
نفس التنطق باللسان وإن لم يقصد بهما معناهما، لعدم اعتقاد المتلفظ بمدلولهما.
وبالجملة: في مورد ترتب الأثر على الواقع قد أشير في بعض الأخبار بأنه
يجب التورية كما في الحلف كذبا، وأما في مورد ترتب الأثر على اللفظ فلا يفيد
التورية.
وثانيا: أن مثل عمار لا يحتاج إلى التنبيه، لأن المؤمن - لا محالة - لا يقصد
معنى لفظ الكفر لو أكره عليه، فمع أنه يوري - لا محالة - ورد قوله عز من قائل:
(إلا من أكره وقلبه مطمئن بالأيمان) (2).
وأما من حيث الموضوع فلأن الاكراه يصدق مع امكان التفصي بالتورية، ولا
يصدق مع إمكان التفصي بغير التورية، وذلك لأن المكره - بالفتح - لو ورى والتفت
المكره - بالكسر - إلى توريته لأوقعه في الضرر الذي أوعده به. نعم، قد لا يلتفت
إلى توريته وامتناعه مما أكرهه عليه. وأما لو توسل إلى غيره لدفع ضرر المكره
وامتنع عن الفعل المكره عليه لم يوقعه في الضرر.
وبعبارة واضحة: لا بد في تحقق الاكراه من أمرين:
أحدهما: اطلاع من يكره أحدا على فعل بأن المكره ممتنع حتى يوصل
الضرر إليه. وأما لو لم يعلم بأنه يمتنع أو لا يمتنع فلا معنى لتوعيده.
وثانيهما: أن يوقعه في الضرر الذي أوعده. وأما لو اطلع بالامتناع ولم يكن له
أن يوقعه في الضرر فهذا ليس إكراها.
وعلى هذا، فإذا تمكن المكره من دفع ضرر المكره بالتثبت بذيل من يرفع
ضرره أو بإذهاب الموضوع الذي أكرهه عليه فهو ليس مكرها، لأن مع اطلاع
المكره على امتناعه لا يقدر أن يوقعه في الضرر، وهذا بخلاف من يتفصى
بالتورية، فإنه لو اطلع المكره على امتناعه أوقعه في الضرر، وعلمه بامتناعه

(1) حكاه السيد اليزدي عن الشهيد الثاني لاحظ، حاشيته على الكتاب: كتاب البيع ص 119 س 5.
(2) النحل: 106.
392

يتوقف على أن يكون الموري أيضا مكرها، وإلا فمن أين يطلع على أنه امتنع أو
لم يمتنع؟ لأن المكره إذا أوقع صورة البيع من دون قصد معناه فلم يمتنع ظاهرا،
ولكنه امتنع واقعا، فامتناعه إنما يتحقق بأن لا يوقع صورة البيع أيضا.
والحاصل: أن في مورد التفصي بغير التورية لا يلازم وقوعه في الضرر الذي
توعد عليه مع علم الحامل بالامتناع.
وأما في مورد التفصي بها فأولا: لا يعلم الحامل على الامتناع، فلا معنى
لتوعيده.
وثانيا: يوقعه في الضرر لو اطلع على الامتناع فلا يفيده التفصي بها.
ولكنك خبير مضافا إلى أن هذا البيان مرجعه إلى أن الأمور القصدية لا معنى
لتعلق الاكراه به فيقع الاكراه على ذات الفعل، فمخالفة المكره تتحقق بأن لا يقع
منه ذات الفعل، لا أن لا يقصد معناه، إن غاية الفرق أن المتمكن من التفصي بغير
التورية يمكنه التخلص من الضرر، والمتمكن من التفصي بها لا يمكنه التخلص من
الضرر، ومجرد هذا الفرق لا يفيد، لأن المدار في صدق الاكراه أن يكون قصد
وقوع المضمون لا عن طيب النفس، والمتمكن من التفصي مطلقا يقع قصد وقوع
المضمون عنه عن طيب النفس، فكما أن المتمكن من التثبت بذيل الغير لرفع إكراه
المكره إذا لم يتثبت ولو لعدم تحمل المنة وأوقع المعاملة تقع المعاملة منه اختيارا
فكذلك المتمكن من التورية إذا لم يور وقصد وقوع المضمون تقع المعاملة منه
اختيارا عن طيب. ومن هذا الوجه قال العلامة قدس سره: ولو أكره على الطلاق فطلق
ناويا فالأقرب وقوع الطلاق (1)، لأن هذا الطلاق صدر عن نية إليه وطيب النفس به.
ويمكن أن يكون قوله: فافهم إشارة إلى هذا، فالأولى أن يقال: بأن التورية لما
كانت مغفولا عنها غالبا وعلى خلاف طبع الاستعمال فمع تمكنه منها لو لم يور
وأوقع البيع أو الطلاق فلا يكون إيقاعه ناشئا عن الاختيار وطيب النفس بوقوع
المضمون، بل مع كراهته له أوقع البيع أو الطلاق بمقتضى جبلته التي تقتضي قصد

(1) تقدم في الصفحة: 381.
393

المعنى من اللفظ. وأما مع تمكنه من دفع ضرر المكره بغير التورية بنحو من
الأنحاء فلا محالة إذا لم يتفص فهو راض بوقوع المضمون خارجا (1).
الجهة الثالثة: هل المدار في إمكان التفصي بغير التورية للخروج عن موضوع
الاكراه هو الامكان الفعلي أو الامكان المطلق؟ أي: المدار على القدرة الفعلية أو
القدرة على أن يقدر كاف في صدق عدم الاكراه؟ لا إشكال في أن المسوغ للمحرم
هو العجز المطلق حتى عن القدرة بإقدار نفسه، فمن يمكن له التخلص عن شرب
الخمر المكره عليه ولو بسير مسافة بعيدة غير حرجي - فضلا عن خروجه عن
الدار والتمسك بذيل الأخبار - فلا يجوز له شرب الخمر ولو كان بالفعل عاجزا.
وأما الاكراه الرافع لأثر المعاملة فهو الأعم من ذلك - أي: العجز الفعلي -
كاف، لأن المدار فيه على عدم حصول المصدر بداعي اسم المصدر خارجا. نعم،
يعتبر فيه صدق العجز الفعلي، فمن كان خادمه حاضرا ولا يتوقف دفع الاكراه إلا
على الأمر فهو قادر فعلا على التفصي.
وبالجملة: الاكراه الرافع لأثر المعاملة أعم من الاكراه الرافع للحرمة. نعم، مع

(1) ولكن الأولى أن يقال: إن الفرق بينهما أن التورية ليست في مرتبة صدور اسم المصدر، لأن
المفروض في موضوع البحث انقسام العقد إلى الاكراه والاختيار، وأما الموري فليس قاصدا
لمعنى العقد فلم يصدر عنه المصدر أصلا حتى ينقسم إلى الاكراه وغيره.
وأما المتمكن من التفصي بغير التورية فلا محالة يصدر عنه اسم المصدر بالاختيار، لأن
صدور المصدر عنه إنما هو بداعي حصول اسم المصدر ولو من باب عدم تحمل المنة.
وبعبارة أخرى: المكره - لا محالة - يأمره بقصد وقوع المضمون، ولا يأمره بذات القول،
فخروج الفعل عن عنوان الاكراه إنما هو بأن لا يقع الفعل على النحو الذي أمره الآمر به، ولا
يترتب على تركه ضرر، لا بأن يموه المأمور على الآمر ويلقيه في الخلاف، فإراءته أنه فعل
الفعل بسبب أمره غير أنه تخلص عن ضرره لو امتنع.
ثم لا يخفى أن السيد في حاشيته [حاشية المكاسب: ص 123 س 1] مثل للتفصي بغير
التورية بعين ما هو التفصي بالتورية. نعم، مثاله ذلك هو التورية في الأفعال لا في الأقوال،
فراجع. وكيف كان، الفرق بين التفصي بالتورية وغيرها واضح، وإمكان التفصي بها لا يخرج
الفعل عن الاكراه لو لم يتفص وأوقع الفعل. (منه عفي عنه).
394

قطع النظر عن عنوان الاكراه النسبة بين العلة الرافعة للحكم التكليفي والرافعة
للحكم الوضعي هي الأعم من وجه، فإن المناط في الأول هو دفع الضرر، سواء
أكان للإكراه أم لا. والمناط في الثاني عدم الإرادة وطيب النفس، سواء أكان لرفع
الضرر أم لا.
الجهة الرابعة: قد تقدم أن الاكراه على القدر المشترك سواء كان حقيقيا أو
انتزاعيا إكراه على الأفراد، فاختيار أحد الأفراد لا يخرجه عن الاكراه كما هو
واضح، إنما الكلام في أن ذلك يطرد في مطلق الاكراه على القدر المشترك،
التأصلي، أو الانتزاعي، أو يختص بما إذا كان الأفراد متساوية الأقدام بالنسبة إلى
القدر المشترك، وأما لو كان لأحدها خصوصية لا تكون لغيره، أو كان لأحدها
خصوصية زائدة لا تكون لغيره فاختيار المتخصص بها لا يقع عن إكراه أو
اضطرار؟ وجهان، بل قولان. والأقوى هو الفرق بين الصور. وتوضيح ذلك يتم
بذكر الصور المتصورة في المقام.
فمنها: الاكراه على الأفراد الطولية، والظاهر في هذه الصورة الفرق بين
المحرمات والمعاملات، فلو كان مكرها أو مضطرا إلى شرب الخمر موسعا فلا
يجوز له المبادرة إليه في أول الوقت، سواء احتمل التخلص منه لو أخره أم لم
يحتمل، إذ لا بد في ارتكاب المحرم من المسوغ له حين الارتكاب، فإذا لم يكن
حين الشرب ملزما فاختياره فعلا لا مجوز له. نعم، لو كانت المبادرة من جهة
خوف عدم الامكان بعد ذلك والوقوع في الضرر فلا إشكال في جوازها.
وأما لو كان مكرها في بيع داره موسعا فلو كان مأيوسا من التخلص عنه
فإقدامه على البيع في أول الوقت لا يخرجه عن الاكراه. وأما لو احتمل التخلص
فلو باع أول الوقت فهو مختار، والفرق واضح.
ومنها: الاكراه على الأفراد العرضية: كالإكراه على شرب الخمر، أو الماء، فلو
اختار شرب الخمر فلا يكون مكرها.
وهكذا لو أكره إما على العقد الصحيح أو الفاسد فلو اختار الصحيح فلا يكون
مكرها.
395

وما أفاده المحقق الخراساني قدس سره في حاشيته: من أن الاكراه على أحد
الأمرين كاف في وقوع ما اختاره مكرها عليه مطلقا، كان لكل واحد منهما
بخصوصه أثر، أو كان لخصوص أحدهما. نعم، يمكن أن يقال: إن دليل ذي الأثر
في الفرض أظهر، ففيما أكره على مباح أو محرم أو عقد فاسد أو صحيح يقدم دليله
على دليل رفع الاكراه... إلى آخره (1).
ففيه: أن الاكراه على القدر المشترك إكراه على الأفراد لو كان الأفراد
متساوية. وأما لو كانت مختلفة فيتوجه الاكراه ثبوتا على ما لا أثر له، أو على ما
كان أثره أقل أو أخف (2).

(1) حاشية المكاسب للخراساني: كتاب البيع ص 49.
(2) لا يخفى أنه لا يمكن ثبوتا أن يتعلق الاكراه بالمباح أو بما هو أخف عقوبة من الآخر مع
تعلق غرض المكره بالقدر المشترك.
ولا يمكن قياس المقام على الاضطرار بارتكاب أحد الإنائين اللذين علم حرمة أحدهما،
حيث نقول بتعلق الترخيص بالمباح دون المحرم، فيكون المحرم من المتوسط في التنجز.
أما أولا: فلعدم صحة ذلك في تلك المسألة أيضا، فإن المباح الذي لا يمكن تمييزه أبدا كيف
يتعلق الترخيص به؟ فعلى هذا يكون الحرام من المتوسط في التكليف كما بينا وجهه في
الأصول. فوائد الأصول: ج 4 ص 105.
وأما ثانيا: فللفرق بين البابين، فإن في باب العلم الإجمالي يمكن أن يقال: إن جواز دفع
الاضطرار بأحدهما متوجه ثبوتا إلى المباح، لوجود المانع عن تعلقه بالحرام، فإن مع تحريم
الشارع أحدهما وعدم اضطرار المكلف بارتكابه بالخصوص لا وجه لتعلق الترخيص به.
وأما في الاكراه فليس للمكره غرض إلا وقوع أحدهما لا على التعيين، فكل واحد منهما
مصداق للمكره عليه.
نعم، حيث تقدم أن المسوغ لارتكاب المحرمات ليس مجرد الاكراه فمع إمكان التخلص من
ارتكابها لا يكون حديث الرفع حاكما على دليل المحرمات.
وبالجملة: عدم تجويز العقل والعقلاء ارتكاب المحرم أو ما هو أشد عقوبة ليس لعدم صدق
الاكراه عليه إذا كان عدلا للمباح أو لما هو أخف، بل لكون الاكراه الرافع لأثر الحكم
التكليفي أخص من الاكراه الرافع لأثر المعاملات، وعلى هذا فلو أكرهه على بيع صحيح أو
فاسد يرتفع أثر الصحيح، لأنه مكره عليه لو فرض أنه لولا الاكراه لما أقدم عليه، فتأمل
جيدا. (منه عفي عنه).
396

فلو أكره على شرب أحد الإنائين اللذين أحدهما نجس والآخر نجس
ومغصوب فالإكراه إنما يتعلق بالنجس، فلا يجوز شرب ما هو مغصوب ونجس.
وهكذا لو أكره على شرب الخمر أو الماء فالإكراه يتعلق بالماء، وذلك لأن
الحامل له على العمل وإن لم يتعلق غرضه بخصوص ما لا أثر له، بل غرضه تعلق
بالقدر المشترك، وانطباقه على الأفراد عقلي، إلا أن هذا يصح فيما كان الأفراد
متساوية. وأما لو لم تكن كذلك بل كان أحد الأفراد ممتنعا تكوينا أو شرعا
فالانطباق يقع على ما عدا ذلك، لوضوح الفرق بين الاكراه على أحد الإنائين
اللذين كل منهما خمر، والإكراه على أحد الإنائين اللذين أحدهما خمر والآخر
ماء، فإن المكره لا يكون في الثاني مكرها على شرب الخمر وإن كان مكرها على
شرب المائع، بخلاف الأول فإنه - على أي حال - لا مفر له منه.
ولو قلنا بأن في المثال الثاني أيضا مكره عليه فلا وجه لتقديم أدلة المحرمات
على أدلة الاكراه، مع أن الحكومة بالعكس، بل الحق أنه ليس مكرها على
المحرم، لأن اختيار ماله أثر زائد على القدر المشترك ليس إلا عن طيب النفس به.
ومنها: الاكراه على أحد المحرمين اللذين أحدهما أشد عقوبة من الآخر،
وفي هذه الصورة ارتكاب الأشد وإن لم يجز إلا أنه لا لكونه مختارا فيه، بل
لكون الآخر أقل قبحا منه، فإنه - على أي حال - مكره على ارتكاب المحرم،
ولكن العقل يحكم بتقديم الأقل قبحا.
ويمكن أن يقال في هذه الصورة أيضا: ارتكاب أشدهما عقوبة أيضا يخرج
عن عنوان الاكراه، فإن القدر المشترك هو أصل الحرمة والزيادة بمنزلة عنوان
آخر يختص بفرد دون الآخر.
ومنها: ما لو أكره على بيع شئ أو أداء مال مستحق عليه، فإذا اختار البيع لم
يكن مكرها، كما لو أكره، إما على شرب الخمر، أو فعل الصلاة الواجبة عليه فإن
اختيار شرب الخمر يقع عن غير كره.
والسر في ذلك أن القدر المشترك لا أثر له، والخصوصية غير مكره عليها،
397

وإلا لوقع الإيفاء أو الصلاة أيضا باطلا.
وهكذا لو أكره الراهن عند حلول الدين على بيع العين المرهونة، أو بيع غيرها
مما لا يستحقه المكره فاختار غيرها فيقع صحيحا.
والسر في ذلك أن بيع المرهونة ليس عدلا لبيع غيرها، لأن رضا الراهن ساقط.
ويشترط في رفع الاكراه أثر المعاملة أن يكون رضا الفاعل معتبرا فيها. ولذا
لو أكره من عليه الدين مع كونه مليا ومماطلا ببيع ماله فهذا البيع ليس إكراهيا.
نعم، هنا كلام آخر، وهو أن في مثل هذا المورد هل يسقط شرطية رضاه
بالبيع، أو يسقط شرطية مباشرته الأعم من فعل نفسه، أو استنابته؟ وجهان، بل
وجوه.
قد يقال بأنه لا وجه لرعاية أحد الشرطين بالخصوص، لدوران الأمر بين
سقوط المباشرة أو الرضا فالحكم التخيير.
وقد يقال بأن للرضا دخلا في حقيقة المعاملة وقوامها به، والمباشرة لا دخل
لها فيها، ولذا يجوز التوكيل، فيرجح جانب الرضا ويسقط المباشرة فينوب عنه
الحاكم ويبيع عن طيب به.
والأقوى أن ولاية الحاكم ثابتة فيما يمتنع صدور الفعل عن المالك أو وكيله،
فليس فعل الحاكم في عرض فعل المالك، لأن الفعل المباشري يشترط فيه الرضا،
فإذا صدر بالمباشرة وكان مكرها، فلو كان الصدور واجبا عليه يسقط رضاه، وإلا
كان إكراهيا فعلى الحاكم إجباره على البيع، فإذا امتنع فهو - حينئذ - ولي الممتنع.
الجهة الخامسة: إكراه أحد الشخصين على فعل واحد بمنزلة إكراه شخص
واحد على أحد الفعلين. مثاله في المحرمات واضح.
وأما في المعاملات كإكراه أحد من الأب والجد على بيع مال اليتيم، أو أحد
الوكلاء المفوض إليهم أمر بيع شخصي. ولكن قيل (1): بأنه يعتبر في صدق المكره

(1) قائله السيد اليزدي في حاشيته على الكتاب: كتاب البيع ص 123 س 30.
398

على كل واحد عدم علمه بصدور الفعل أو المعاملة من الآخر. وأما لو علم بأن
الآخر يفعله إما لعدم اطلاعه على حال صاحبه، أو لكونه مريدا له بلا إكراه فلو
بادر هذا فلا يكون مكرها، لأنه لا يكون قصده - حينئذ - دفع ضرر المكره
الحامل على الفعل، بل لو احتمل صدوره عن الآخر ومع ذلك بادر إلى الفعل تقربا
إليه - مثلا - لم يكن مكرها، لأن داعيه على الفعل في هذه الصورة ليس إكراه
المكره، بل التقرب إليه، فإن الفعل الإكراهي ما كان تمام العلة لصدور الفعل هو
إكراه المكره، وأما لو انضم إليه التقرب إليه فلا يكون إكراهيا. فلو أمر الجائر بأخذ
مظلوم على جميع أهل البلد وعلم بعض بأنه يأخذه غيره، فلو بادر إلى أخذه
فالأخذ هنا لا يكون عن كره، فعلى هذا كلام المصنف لا يمكن الأخذ بإطلاقه،
سيما إذا أتى بالفعل كل واحد منهما على التعاقب، بل في هذه الصورة لو أتى به كل
واحد منهما دفعة فليس الفعل من كل منهما إكراهيا. وعلى هذا لو أكره أحد
الشخصين على أحد الفعلين فمع احتمال كل منهما إقدام الآخر فصدور أحد
الفعلين عن أحدهما وصدور الفعلين عن الشخصين لا يدخل في عنوان الاكراه.
ولكنه لا يخفى عليك الفرق بين المحرمات والمعاملات.
وتوضيح ذلك: أن في المحرمات كما لو أكره أحد أهل البلد على أخذ مظلوم،
أو أكره أحد الشخصين على شرب الخمر فمع علم أحدهما بإقدام الآخر أو
احتماله لا يجوز له الأقدام عليه. نعم، لو علم بعدم إقدام أحد فيجب عليه الأقدام
لدفع الضرر عن نفسه أو أخيه.
وأما مسألة الأب والجد فمع علم أحدهما بإقدام الآخر لو أقدم على بيع مال
اليتيم فلا يكون البيع اختياريا فضلا عن الشك. ووجه الفرق أن في باب
المعاملات يرجع أمر مال اليتيم إلى كل من الأب والجد، وهكذا يرجع أمر مال
الموكل إلى كل من الوكيلين، أو إلى كل من الوكيل والموكل، فإقدام كل واحد لا
يخرج المعاملة عن عنوان الاكراه، فعلم الأب - مثلا - بأن الجد يقدم على البيع
لدفع الاكراه لا يخرج المعاملة عن الاكراه إذا سبق الأب إلى البيع لدفع ضرر
399

المكره عن نفسه وأبيه. نعم، لو فرض قصده التقرب إلى الحامل أو قصده البيع على
أي حال كما إذا باع بعد بيع الجد عن كره فهذا خارج عن الفرض.
كما أنه لو كان المكره على البيع شخص خاص ولكنه باع عن طيب بحيث إنه
لو لم يكن إكراه لباعه أيضا فهذا خارج، لأن محل البحث ليس مجرد وقوع معاملة
بعد إكراه، بل موضوعه ما لو كانت المعاملة لإكراه الحامل بحيث نشأ إرادة الفاعل
عن إرادة الحامل، وفي هذا الفرض لو أقدم على البيع كل من الأب والجد لدفع
الضرر عن نفسه وغيره فلا يخرج عن كونه مكرها ولو علم بأن الآخر يقدم عليه لو
لم يقدم هذا.
بل يمكن أن يقال: إن حكم المحرمات أيضا حكم المعاملات في هذه
الصورة، وهو ما إذا علم أحدهما بأن الآخر يفعله لدفع الاكراه لا للشهوة فيجوز
للعالم أن يقدم على شرب المحرم لدفع الاكراه عن نفسه وأخيه، لأن مجرد علمه
بأن الآخر يفعله لا يدخله في عنوان الاختيار إذا فعل العالم لدفع ضرر الحامل.
وهكذا لو أكره أحد الشخصين على أحد الفعلين فإن كل واحد منهما لو أقدم على
أحد الفعلين لدفع الضرر عن نفسه وأخيه فهو مكره وإن علم بأن الآخر يفعله لدفع
الضرر، فتدبر جيدا. وكيف كان فالحكم في مسألة الأب والجد واضح.
الجهة السادسة: لو تعلق الاكراه بالمالك دون العاقد أو بالعاقد دون المالك
فهل حكمه حكم ما لو تعلق بالمالك العاقد مطلقا، أو لا يكون محكوما بحكمه
مطلقا، أو فرق بين الصورتين؟ وجوه، والأقوى أنه في الجهة التي هي موضوع
البحث - وهي رفع الاكراه - أثر كل ما صدر عن كره لا فرق بين الصور، وإنما
الاختلاف في نتيجة الرفع، فقد ينتج الصحة إذا لحقه الرضا، وقد لا يفيد الرضا
المتأخر.
وتوضيح ذلك: أنه لو أكره الزوج على التوكيل في طلاق زوجته فالتوكيل
الصادر عنه بمنزلة العدم، فيقع طلاق الوكيل بلا إذن من الموكل فيكون فضوليا. ولا
إشكال في أنه لو لم يلحقه الإجازة أصلا وقع باطلا.
400

وأما لو لحقه الإجازة فإذا أجاز الطلاق الواقع من الموقع فلا تؤثر الإجازة
في الصحة بناء على ما سيجئ في الفضولي من أن الإيقاعات كلية لا تصح
بالإجازة اللاحقة إجماعا.
وأما لو تعلق الرضا بالتوكيل الذي صدر عنه كرها فصحته بالرضا اللاحق
مبنية على دخول العقود الإذنية في عنوان الفضولي، وعلى القول بأن الإجازة
كاشفة حقيقة أو حكما. وأما على القول بكونها ناقلة فلا يصح التوكيل إلا حينها،
لأن الرضا في زمان الإجازة بناء على النقل يكون بمنزلة القبض في الصرف
والسلم. فالتوكيل المتعقب بالإجازة إنما يؤثر بعد مجئ الإجازة. ولا فائدة في
عقد الوكالة السابقة إلا عدم الاحتياج إلى إعادته، فيكون كل ما وقع من الوكيل
قبل الإجازة نظير وقوعه من الأجنبي، وإنما يؤثر ما وقع منه بعدها.
وأما لو انعكس الأمر بأن أكره الوكيل دون الموكل فالإكراه تارة من قبل
الموكل، وأخرى من غيره. وعلى كلا التقديرين تارة يقع على العقود، وأخرى
على الإيقاعات.
ثم الاكراه على العقود تارة يتعلق بالعقود التي تتعلق الالتزامات العقدية فيها
بالوكيل، وأخرى يتعلق بغيره، فإذا كان المكره هو الموكل فلو أكرهه على الطلاق
فلا إشكال في الصحة، لأن المفروض أن الإيقاع الصادر من المكره من حيث جهة
الإيقاعية لا يقصر عن إيقاع غيره، فليس عبارة المكره كالعدم، ورضا الزوج
حاصل بالفرض.
ولا أثر يترتب على فعل الموقع من حيث إنه فعله حتى يرتفع بالاكراه، لأن
(حديث الرفع) حيث إنه ورد في مقام الامتنان فلا بد أن يرفع الأثر الثابت على
المكره - بالفتح - لولا الاكراه. والوكيل لولا الاكراه لا يرتبط وقوع الطلاق به، فلا
يرفع أثره بالاكراه، وهذا هو مقصود المصنف، لا أن المرفوع هو الحكم الذي عليه
لا له حتى يناقش بأن لازمه صحة قبول الهبة إكراها، لأن المصنف قدس سره لم يفرق بين
ماله وعليه حتى ينتقض عليه بقبول الهبة، بل ادعى أنه لا بد أن يكون لفعل المكره
401

أثر حتى يرتفع بالاكراه. وأما لو لم يكن له أثر فلا يشمله الحديث. هذا، مع أن
المدار إذا كان على الامتنان فلا امتنان على قبول الهبة، لأن كون الانسان مقهورا
في التملك، خلاف الامتنان.
وبالجملة: لا بد أن يقال في مفروض الكلام: إن الاكراه لا يرفع أثر الإنشاء.
وأما لو قلنا بأنه يرفع أثره فالقول بصحة الطلاق لتحقق رضا الزوج غير
مستقيم.
أما أولا: فلأن مجرد الرضا لا يصحح الاستناد، كما أن الكراهة الباطنية ليست
ردا. إلا أن يقال: إن الرضا في المقام ليس مجرد الرضا الباطني، بل مظهره نفس
الاكراه الحاصل من الزوج على طلاق زوجته، وهو يصحح الاستناد.
وأما ثانيا: فلأن رضا الزوج إنما يفيد فيما إذا تم شرائط الإيقاع من حيث
الصيغة وغيرها. وإذا فرض أن الاكراه يرفع أثر اللفظ فالرضا وحده لا أثر له.
فالصواب أن يقال: بأنه بعد ما فرض أن الزوج هو الحامل للوكيل على
الطلاق فهو قاصد لنتيجة فعل المطلق، أي قاصد لاسم المصدر، والوكيل أيضا
قاصد لمعنى المصدر فلا مانع من صحته.
واحتمال كون ألفاظ الوكيل كالعدم، لا وجه له إلا إذا احتمل في حقه عدم
القصد، وهذا الاحتمال مندفع بأصالة تحقق القصد في كلام كل متكلم عاقل
ملتفت، إلا أن يمنع بناء العقلاء على إجراء أصالة القصد هنا، كما أشار إليه المصنف
بقوله: فتأمل.
وبالجملة: فالحق أن المدار في الصحة على صدور الفعل عن الوكيل بقصد منه
إلى اللفظ والمعنى، ورضا المالك بوقوع المدلول في الخارج، وهذا حاصل في
الوكيل المكره مع كون الموكل مختارا. ويؤيد الصحة في المقام حكم المشهور
بصحة بيع المكره بعد لحوق الرضا، فإن الرضا الحاصل منه بعد العقد لا يصحح
الألفاظ، بل يوجب استناد قصد النتيجة إليه، فلا بد أن يكون مفروض كلامهم عدم
بطلان أثر اللفظ بالاكراه على العقد.
402

وأما لو أكرهه على البيع أو النكاح، فإذا كان الطرف عالما بوكالته فحيث إن
الالتزامات العقدية على الموكل فالعقد يصح، سواء أكان عالما بكونه مكرها أم لا.
وأما لو لم يكن عالما بوكالته فحيث إن الالتزامات العقدية عليه فترتفع هذه
الالتزامات بواسطة الاكراه.
وأما لو كان المكره غير الموكل وكان الموكل راضيا فإشكال الاستناد هنا
أقوى، لأن مجرد رضا المالك لا يصحح الاستناد، وهذا الإشكال وإن أمكن دفعه
فيما إذا كان المكره هو الموكل - كما تقدم بيانه - إلا أنه لا يمكن دفعه فيما إذا كان
المكره غيره.
ولا يخفى أن هذه الصورة هي الفرع الثاني المذكور في المسالك، وهو قوله:
لو أكره الوكيل على الطلاق دون الموكل ففي صحته وجهان... إلى آخره (1).
ثم إنه يمكن أن يكون مراده من الوكيل والموكل هما اللذان يتصفان بهذين
العنوانين فرضا. ويمكن أن يكون مراده من اتصفا بهذين العنوانين فعلا، كما لو
أكره الوكيل المفوض. وعلى أي حال أقوى الوجهين: هو عدم الصحة.
الجهة السابعة: لو أطاع المكره من جهة وخالف من أخرى فهل يعد هذا
إكراهيا أم لا؟
فنقول: المدار في صدق الاكراه على أن تكون إرادة الحامل هي الداعي
لإرادة المأمور بحيث ينشأ إرادة المأمور من إرادة الآمر وكانت إرادته تابعة
لإرادته، فيصدر المعنى المصدري الاختياري لا لداعي وقوع اسم المصدر. وأما
مجرد تحقق إكراه مشتمل على إيعاد ضرر من شخص ووقوع فعل عقيبه من آخر
مع صدوره بداعي وقوع النتيجة وعن طيب النفس إليه فهذا ليس إكراهيا. فهناك
صور لا بد من البحث فيها:
الأولى: ما إذا أكرهه على بيع أحد العبدين لا على التعيين فباعهما دفعة،

(1) مسالك الأفهام: كتاب الطلاق ج 2 ص 4 س 20.
403

والحق عدم كون كل منهما إكراهيا، لأن ما صدر عنه خارجا غير ما أكره عليه، وما
أكره عليه لم يصدر. ومجرد اشتمال المجموع على أحدهما لا يوجب صدق
الاكراه على أحدهما فضلا عن كليهما.
واحتمال كون المجموع باطلا من باب وقوع أحدهما مكرها عليه وبطلان
الترجيح بلا مرجح، لا وجه له كاحتمال بطلان أحدهما وتعيينه بالقرعة، لأن
الاحتمالين إنما يجريان فيما إذا صدر أحدهما عن كره ولم يعلم أن المكره عليه
أي منهما. وفي المقام ليس كل واحد واقعا عن كره، لأن ما أكره عليه لم يقع، وما
وقع لم يكره عليه، فيقع المجموع صحيحا.
ولا يقاس المقام على بيع ما يملك وما لا يملك بأن يقال: ما قصد - وهو بيع
المجموع - لا يقع شرعا، وما وقع شرعا - وهو بيع ما يملك - لم يقصده، وذلك للفرق
بين المقامين، فإن في بيع ما يملك وما لا يملك وإن تعلق القصد بالمجموع إلا أن
من تعلق القصد به ينشأ قصد تبعي بالأجزاء، ولازم وقوع المجموع بإزاء المجموع
وقوع البعض مقابل البعض، وفي المقام لم يتعلق إرادة الأمر بالمجموع حتى
يكون إرادة المأمور بالبعض تبعا لإرادة الأمر بالكل. نعم، لو فرض أن إرادة الأمر
بالبعض تتعلق في الواقع بالكل كما لو أكرهه على بيع أحد مصراعي الباب ونحو
ذلك فباعهما دفعة فيمكن أن يكون المجموع إكراهيا. ولذا لو فرض أن إرادة
المكره لم تتعلق إلا بأحدهما وحده لارتفاع حاجته ببيع مصراع واحد فباع
المأمور كليهما وقع الكل صحيحا، لأن إرادة الأمر صارت علة لرفع المأمور يده
عن المجموع، فيقع الكل صحيحا.
الثانية: هذه الصورة مع وقوعهما تدريجا، والأقوى وقوع الأول إكراهيا،
لانطباق عنوان أحدهما عليه، والثاني صحيحا.
واحتمال الرجوع إلى المأمور في تعيين المكره عليه عن غيره لا وجه له، لأن
انطباق أحدهما على الأول قهري، ولزوم تصديق دعوى ما لا يعلم إلا من قبل
404

المدعي لا دليل عليه في جميع (1) الدعاوي.
الثالثة: لو أكره على المعين فضم إليه غيره وباعهما دفعة فالصحة في غير ما
أكره عليه لا إشكال فيه، إنما الكلام فيما أكره عليه.
ولا يبعد أن يقال: إن مجرد ضم غيره لا يخرجه عن كونه مكرها عليه، فإن
كل واحد ناش عن إرادة غير ما نشأ منه الآخر، إلا أن يكون هناك أمارة على
تحقق الداعي له في بيع المجموع فيتبع الأمارة.
وتوضيح ذلك: أنه قد يكون بناء المالك إبقاء من أكره عليه من عبديه - مثلا -
لخدمة نفسه وبيع الآخر الذي لم يكره عليه، فإذا باعهما دفعة وقع البيع بالنسبة إلى
ما أكره عليه إكراهيا. وأما إذا كان بناؤه على عدم بيع واحد منهما أو بيع كليهما فإذا
أكره على واحد معين فباعهما دفعة وقع المجموع صحيحا، لأنه وقع الفعل على
خلاف ما أكره عليه.
وكيف كان، فلا إشكال في هذه الصورة أنه لو باعهما تدريجا لحق كلا منهما
حكمه.
الرابعة: لو أكره على واحد فباع نصفه فتارة يشمل إكراه المكره على بيع
مجموع النصفين لبيعه دفعتين. وأخرى لا يشمله، فإذا لم يشمله فلا إشكال في أن
النصف يقع صحيحا، لأن ما وقع غير ما أكره عليه.
وأما إذا شمله فتارة يبيعه لرجاء أن يقنع المكره بالنصف، وأخرى يبيعه لا
لذلك، بل لكونه مكرها عليه، فيبيع نصفه فعلا والنصف الآخر بعد ذلك لرفع ضرر
الحامل، فلو باعه رجاء وقع صحيحا، لأن إكراهه صار داعيا لبيع النصف، فهو يرفع
اليد عن نصف ماله لدفع ضرر المكره على المجموع.
ولا وجه لما أفاده المصنف من كونه إكراهيا، فإن البيع كذلك غير ما تعلق
الاكراه به، فإن رجاء قناعته بالنصف يوجب تحقق الطيب والرضا ببيع النصف.
وتقدم أن مجرد وقوع فعل بعد الاكراه ليس مصححا لصدق عنوان الاكراه

(1) في المطبوع من الأصل: (جمع) والصحيح ما أثبتناه.
405

عليه. وأما لو باعه لكونه مكرها عليه فيندرج في موضوع الاكراه.
قوله قدس سره: (بقي الكلام فيما وعدنا ذكره من الفرع المذكور في التحرير، قال
في التحرير: لو أكره على الطلاق فطلق ناويا فالأقرب وقوع الطلاق) (1).
لا يخفى أن الاحتمالات المتصورة في كلام العلامة على وجوه، إلا أنه لا بد
أن يؤخذ بما يمكن أن يتصور فيه الصحة والفساد. ونحن نذكر الاحتمالات حتى
يتضح أن المتعين منها في كلامه ما هو؟:
فالأول: أن لا يكون الاكراه مؤثرا في إرادة الفاعل أصلا، بل كان بانيا على
الطلاق، لكن لما كان الآمر جاهلا بحاله أكرهه عليه، وهذا لا يتطرق فيه الوجهان،
بل لا شبهة في صحته.
والثاني: أن يكون كل من الاكراه والرضا سببا مستقلا بحيث لولا الاكراه
لأوقعه، ولولا الرضا لأوقعه أيضا دفعا للإكراه. وحيث لا يمكن توادر علتين
مستقلتين على معلول واحد فيصير كل واحدة إذا اجتمعا جزء السبب والفعل
يسند إليهما معا.
وهذه الصورة يحتمل فيها وجهان، ولكن الأقوى فيها الفساد، لأنها وإن لم
تكن إكراهيا إلا أنها لا تكون (تجارة عن تراض)، أو أنها وإن كانت عن رضا
إلا أنها عن إكراه أيضا.
وكل علتين مستقلتين إذا وردتا على معلول واحد وكان بينهما تدافع فلا يؤثر
كل منهما كاجتماع الرياء، وقصد الأمر في العبادات، بل كاجتماع التبريد وقصد
الأمر. نعم، لو كان التبريد ضميمة لا داعيا مستقلا صحت العبادة.
وفي المقام لو كان الاكراه ضميمة لصحت المعاملة. كما أنه لو كان الرضا
ضميمة لفسدت.
وبالجملة: لو كان كل من السببين مستقلا فلا يؤثر كل منهما، إلا أن يقال: ليس

(1) تقدم تخريجه في الصفحة: 381.
406

المقام من تعارض المقتضيين، بل من قبيل تعارض المقتضي واللا مقتضي فإن
الاكراه غايته أن لا يقتضي الصحة، لا أنه يقتضي الفساد فيؤثر الرضا، وفيه
ما سيجئ.
الثالث: أن يكون كل منهما جزء السبب بحيث إنه لولا اجتماعهما لا يؤثر كل
منهما. وهذه الصورة أيضا يحتمل فيها الوجهان، ولكن قد يقال بأن الأقوى فيها
الصحة، لأنه وإن انضم الاكراه إلى الرضا إلا أن الاكراه لا يقتضي الفساد حتى
يعارض ما يقتضي الصحة، ولكن الأقوى فيها الفساد، لأن قوله عز من قائل: (إلا
أن تكون تجارة عن تراض) (1)، وقوله عليه السلام: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب
نفسه) (2) ظاهران في اعتبار الرضا والطيب مستقلا، فإذا كان جزء السبب بأن ورد
مع الاكراه دفعة على المسبب فالفعل مستند إليهما، والإكراه وإن لم يقتض الفساد
إلا أن المقتضي للصحة أيضا لم يتحقق، لعدم صدق التجارة عن تراض.
وبالجملة: فإذا ورد الجزءان في عرض واحد لم يتحقق مقتضى الصحة. نعم،
إذا كان أحدهما في طول الآخر فالفعل يستند إلى الجزء الأخير للعلة التامة، فإذا
صار الاكراه منشأ لتحقق الرضا فالفعل يستند إلى الرضا. كما أنه إذا صار الأمر
بالعكس فحكمه العكس. وسيجئ الكلام في هذه الصورة.
الرابع: أن يطلق من غير تورية مع علمه بأنه يمكن التلفظ بلا قصد المعنى
وإرادة خلاف الظاهر.
ولا يخفى أن هذا الاحتمال ليس مراده، لأن عدم إمكان التفصي بالتورية لا
دليل على اعتباره أولا.
ثم بناء عليه لا وجه لاحتمال فساده ثانيا، مع أنه يرجع إلى الوجه الأول،
لأنه طلق زوجته راضيا بالطلاق فلا وجه لعده وجها آخر ثالثا.
الخامس: أن يكون الاكراه داعيا للداعي على الطلاق، فالفعل مستند إليهما

(1) النساء: 29.
(2) تقدم في الصفحة: 382.
407

طوليا، وهذا يتفق كثيرا، فإذا أكره على بيع الدار يوطن نفسه على بيعها ويصير
الاكراه داعيا على الرضا بنتيجة الفعل، أي باسم المصدر، وهذه الصورة أيضا
يتطرق فيها الوجهان، والأقرب هو الصحة، لأنه طلق ناويا ومريدا للطلاق.
ويحتمل البطلان إما لأن الاكراه صار علة لإرادة اسم المصدر فالفعل بالأخرة
يستند إليه وإن كان الداعي الثانوي اختياريا.
وإما لأن الاكراه أسقط أثر اللفظ، لأن اللفظ وقع تبعا لإكراه المكره، والنية
المجردة عن اللفظ لا أثر له.
وهذان الاحتمالان وإن كانا ضعيفين - كما ظهر وجه ضعفهما في طي ما
ذكرناه، فإن الاحتمال الأول مستلزم لبطلان أغلب المعاملات، فإنها بالأخرة
تنتهي إلى غير الاختيار. والثاني يرجع إلى الأول، لأن سقوط أثر اللفظ بالاكراه
إنما هو لكونه داعيا للداعي على التلفظ، مع أن اختيارية التلفظ بهذا المعنى لا
برجوعه إلى تلفظ النائم والغالط لا دليل عليه - إلا أن منشأ احتمال الفساد في
كلام العلامة قدس سره هو هذا كما وجهه به ثاني الشهيدين (1) قدس سره.
ومنشأ احتمال الصحة وأقربيتها هو كون الاكراه داعيا على الداعي، لا داعيا
على الفعل. فهذه الصورة هي المتعينة بين الصور.
ثم بناء عليه فالإكراه إذا كان داعيا على الداعي لا يوجب البطلان، سواء أكان
الضرر المتوعد به ضررا على نفس المكره - بالفتح - أم على المكره بالكسر، كما لو
قال له ولده: طلق زوجتك وإلا قتلت نفسي، أو قتلتك، فطلق الوالد خوفا من قتل
الولد نفسه أو قتل الغير له إذا تعرض لقتل والده، أم وقوع المكره - بالكسر - في
المعصية كما لو قال: طلق زوجتك لأزوجها وإلا زنيت بها، فالطلاق في جميع هذه
الصور صحيح، لأن الاكراه صار داعيا على الطلاق عن طيب.
كما قد يكون الداعي له أمور أخر، ولا وجه لإشكال المصنف (2) فيه، فضلا

(1) مسالك الأفهام: كتاب الطلاق ج 2 ص 4 س 17.
(2) المكاسب: كتاب البيع ص 121 السطر قبل الأخير.
408

عن قوله: إلا أن تحقق الاكراه أقرب، بل لا يخفى أن عدم تحققه أقوى وأقرب.
الجهة الثامنة: في تحقيق ما أفاده المصنف قدس سره في قوله: ثم المشهور بين
المتأخرين أنه لو رضي المكره بما فعله صح العقد... إلى آخره. وتنقيحه يتوقف
على بيان أمرين:
الأول: أن وجه توهم عدم قابلية عقد المكره للصحة بالرضا المتأخر أمور
كلها فاسدة:
الأول: اعتبار مقارنة طيب نفس المالك في صدق العقد. ووجه الفساد ما تقدم
في أول العنوان من أن عقد المكره من جهة العقدية لا يقصر عن سائر العقود، لأنه
قاصد للفظ والمعنى، وإنما لم يصدر قصده اسم المصدر عن داع اختياري، فإذا
لحقه الرضا يتم أركان العقد.
هذا، مضافا إلى أن لازم هذه الدعوى عدم كون عقد الفضولي - أيضا - عقدا
حقيقة، فإنهما مشتركان في عدم مقارنة طيب نفس المالك للعقد.
الثاني: اعتبار طيب نفس العاقد في تأثير عقده، أي العاقد لا بد أن يكون
راضيا بإنشاء ما ينشئه.
وفيه أولا: أن هذا الإشكال يتوجه في بعض صور الاكراه، وهو ما إذا كان
المكره هو المالك العاقد، وما إذا كان المالك أكره العاقد، وإما إذا كان المالك
مكرها على التوكيل والعاقد مختارا فلا يتوجه.
وثانيا: قد تقدم: أنه لا دليل على اعتبار اختيار العاقد من حيث إنشائه، لأن
العقد من حيث إنه عقد لا يعتبر فيه سوى القصد الموجود في المالك المكره.
[و] (1) بالجملة: عقد المكره ليس فاقدا لما كان الفضولي واجدا له بدعوى أنه
ومشتمل على المفسد، وهو عدم رضا العاقد بإنشائه وبمنشئه، فإن عدم رضائه بهما
لا يضر بصدق العقدية بعد قصده اللفظ ومدلوله. ولا دليل على اعتبار الرضا

(1) ما بين المعكوفتين أضفناه ليستقيم السياق.
409

بالإنشاء، فإن اللفظ الصادر عن غير النائم والغالط إذا قصد به المعنى بأن لا يكون
هازلا يؤثر في النقل والانتقال مراعى بالرضا بهما، فحكم عقده حكم عقد
الفضولي لو لم يكن أولى منه، لكونه واجدا لما كان الفضولي فاقدا له، وهو
الاستناد إلى المالك. فمع الالتزام بصحة عقد الفضولي على القاعدة لا محيص إلا
عن الالتزام بصحة عقد المكره، فإن اشتمال عقد الفضولي على الرضا بالمنشأ لا
أثر له بعد عدم مدخلية رضا غير المالك.
نعم، لو قلنا بأن عقد الفضولي يصح على خلاف القاعدة فلا دليل على إلحاق
عقد المكره به فضلا عن كونه أولى منه، لاحتمال خصوصية في الفضولي دونه ولو
كانت المباشرة فيه موجودة.
الثالث: دعوى اعتبار مقارنة طيب النفس للعقد في تأثيره شرعا.
وفيه: أنها خالية عن الشاهد يدفعها الإطلاقات، لأن غاية ما يتوهم لاعتبار
مقارنة طيب النفس للعقد أمران:
أحدهما: عدم شمول المطلقات مثل: (أحل الله البيع) (1)، و (الصلح جائز) (2)
ونحوهما له، لأن عناوين العقود موضوعة للمسببات، والمكره في إرادته المسبب
مقهور فلا يندرج عقده تحت الإطلاقات.
وثانيهما: تخصيص المطلقات بالأدلة الدالة على اعتبار الرضا المقارن، كقوله
عز من قائل: (تجارة عن تراض) (3)، وقوله عليه السلام: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا
بطيب نفسه) (4)، وقوله صلى الله عليه وآله: (رفع عن أمتي تسعة) (5) وكلاهما ضعيفان.
أما خروج عقده عن المطلقات فلا وجه له أصلا.
لأنه أولا: ليس عنوان العقود - أي المنشأ بها - من قبيل المسببات، أو العقود

(1) البقرة: 275.
(2) من لا يحضره الفقيه: ج 3 ص 32 ح 3267، عنه وسائل الشيعة: ج 13 ص 164 ب 3 من
أبواب الصلح ح 2.
(3) النساء: 29.
(4) تقدم في الصفحة: 382.
(5) الخصال: ص 417 ح 9.
410

من قبيل الأسباب، بل من قبيل الإيجاد بالآلة. والمكره وإن كان مقهورا في
إيجاده المنشأ إلا أنه لا دليل على اعتبار الاختيار في الإيجاد فيصدق البيع على
بيع المكره قبل الرضا وبعده، وإنما أخرجته أدلة اعتبار الرضا عن حكم البيع، فلا
يكون في حال من الأحوال خارجا موضوعا حتى يقال: كيف يخرج عنه في
حال ويدخل فيه في حالة أخرى؟
وثانيا: المقهورية في المسبب لا تخرج العقد عن الاختيارية كما تقدم أن
المناط في اختيارية العقد كونه قاصدا للفظ ومدلوله.
وأما دلالة الأدلة على اعتبار الرضا المقارن ففيه: أما آية (إلا أن تكون
تجارة عن تراض) فلا تدل إلا على اعتبار الرضا في نتيجة المصدر، ونحن نلتزم
به ونقول باشتراط الرضا المتأخر.
وليس المراد من التجارة هي العقد حتى يعتبر أن يكون عن رضا، بل هي
الاكتساب، ولا يحصل شرعا إلا بعد تحقق الرضا كما هو الحق في المقام من النقل
والكشف الحكمي. نعم، بناء على الكشف الحقيقي فيشكل الأمر، ولكن لا موجب
للالتزام به.
فالصواب في الجواب عن الآية المباركة منع دلالتها على اعتبار الرضا
المقارن للعقد.
وأما ما أفاده المصنف (1) قدس سره من منع دلالتها على الحصر مع تسليمه دلالتها
على اعتبار الرضا المقارن للعقد ففيه:
أولا: أن كلامه هنا مناف لمختاره في سائر الأبواب (2)، فإن استدلاله بها على
أصالة اللزوم لا يتم إلا على فرض دلالتها على الحصر، لأن الأكل بالفسخ لو لم
يكن حلالا فلا وجه له إلا عدم كونه تجارة عن تراض، فيجب أن يكون أكل
الحلال منحصرا بالتجارة عن تراض.

(1) المكاسب: كتاب البيع ص 122 س 11.
(2) كما في باب الخيارات: ص 215 س 26 وما بعده.
411

وثانيا: لا وجه لإشكاله في الحصر إلا كون المستثنى منقطعا. وأما كونه غير
مفرغ فلا دخل له في الإشكال. مضافا إلى أنه قيد توضيحي، لأن الاستثناء
المنقطع لا ينقسم إلى قسمين: مفرغ وغير مفرغ، لأن كل مفرغ - لا محالة -
الاستثناء فيه متصل، لأنه لا موجب لتقدير المستثنى منه معنى لا يشمل المستثنى.
فلو قيل: (ما جاءني إلا حمار) فيقدر ما جاءني حيوان يصير متصلا.
وبعبارة أخرى: المتصل ينقسم إلى قسمين: مفرغ وغيره. والمفرغ مفيد
للحصر قطعا، والمنقطع لا يكون إلا غير مفرغ. وكونه غير مفرغ لا يوجب عدم
إفادته الحصر، لأنه بناء على عدم إفادة غير المفرغ الحصر فإنما هو في المتصل،
لا المنقطع، فإنه مفيد له ولو كان المستثنى منه مذكورا، بل هو أبلغ في الحصر من
المتصل المفرغ، لأنه لا يصح التعبير بالانقطاع إلا فيما كان بين المستثنى منه
والمستثنى ارتباط ما ومناسبة في الجملة، فكل ما يناسب مع المستثنى منه يخرج
عنه بأداة الاستثناء، ولا يبقى إلا خصوص المستثنى فقوله: ما جاءني إلا حمار،
أي من كل من احتمل أن يجئ من القوم ومن دوابهم ما جاءني إلا حمارهم،
فانحصر الجائي بالحمار وهكذا مفاد الآية الشريفة، أي كل كسب واكتساب أكل
بالباطل إلا الكسب عن الرضا.
وبالجملة: وجه توهم عدم إفادة الاستثناء المنقطع للحصر عدم محصورية
المستثنى بالخروج، وكون الخارج مما لا يتناهى، فإن المنقطع من القوم ليس
خصوص الحمار، فإن البقر والفرس وغيرهما أيضا غير داخل في القوم، فلا يفيد
نفي المجئ عن القوم، وإثباته للحمار اختصاصه به، لإمكان اشتراك سائر
الحيوانات معه. وهذا التوهم فاسد، فإن المستثنى في المنقطع ليس كل ما لا يرتبط
بالمستثنى منه حتى يكون مما لا يتناهى، بل لا بد في صحة المستثنى المنقطع من
عناية وتنزيل، فينحصر فيما يناسب مع المستثنى منه ولو كان أدنى مناسبة، فإذا
انتفى المجئ من القوم وما يناسبهم وانحصر الجائي في الحمار فيفيد اختصاص
الحكم به ونفيه عما عداه. ففي الحقيقة كل منقطع راجع إلى المتصل.
412

هذا، مضافا إلى أنه لا يمكن في خصوص المقام عدم إفادة الجملة للحصر،
لأن أكل المال بالباطل لا يمكن أن يكون حلالا في مورد من الموارد، فيكون
الاستثناء في المقام من قبيل التخصص لا التخصيص، لأنه لم يستثن موضوع من
الموضوعات من حكم الأكل بالباطل، بل (التجارة عن تراض) مغايرة للأكل
بالباطل، ويكون مفاد الآية الشريفة كل كسب واكتساب متداول بينكم: من النهب
والسرقة والقمار أكل للمال بالباطل، إلا التجارة عن تراض فإنها ليس كذلك،
فيكون قوله عز من قائل: (بالباطل) بمنزلة التعليل لقوله: (لا تأكلوا)، فيرجع مقام
المعلل والتعليل إلى قوله: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم) بوجه من الوجوه، لأن كل
وجه باطل إلا التجارة عن تراض، وهذا راجع إلى المتصل.
وأما دلالة قوله عليه السلام: (لا يحل مال امرئ) (1) على اعتبار المقارنة ففيها ما لا
يخفى، فإنه غير ناظر إلى اعتبار الطيب حال العقد أصلا، بل على أن مال الناس
لا يحل إلا بالطيب ونحن نلتزم به حين تحقق النتيجة وصيرورة المبيع مالا
للمشتري.
وأما حديث الرفع فقد ناقش فيه المصنف أولا: بأنه يدل على رفع
المؤاخذة (2)، لا مطلق الآثار. ولكنك خبير بأنه لا وجه لهذا الاستظهار.
ثم تعميم المؤاخذة لمطلق الأحكام التي يتضمنها عقد المكره ولو كانت
دنيوية حتى يحتاج إلى الجواب بقوله: والحكم بوقوف عقده على رضاه راجع إلى
أن له أن يرضى بذلك، وهذا حق له لا عليه (3).
وحاصل هذا الكلام: أن سوقه في مقام الامتنان يقتضي صحة عقد المكره إذا
تعقبه الرضا، لأن المرفوع بالاكراه هو الحق الثابت عليه لا له، ووقوف عقده على
رضاه راجع إلى ثبوت اختيار العقد له.
وفيه: أنه لا وجه لاختصاص المرفوع بالآثار المتعلقة بالمكره، بل المرفوع

(1) تقدم في الصفحة: 382.
(2) المكاسب: كتاب البيع ص 122 س 13.
(3) المكاسب: كتاب البيع ص 122 س 13.
413

مطلق آثار الفعل، مع أن أصل الدعوى، وهي أن الحكم بوقوف عقده على رضاه
راجع إلى أن له أن يرضى بذلك وهذا حق له لا عليه ممنوعة، لأنه ليس وقوف
عقده على إجازته من الحق الثابت له لولا الاكراه، لأن موقوفية العقد على
الإجازة حكم شرعي مستفاد من الآية الشريفة، وهي قوله عز من قائل: (إلا أن
تكون تجارة عن تراض)، ومن حديث الرفع، ولولا هذه الأدلة كان عقد المكره
من حيث العقدية مثل سائر العقود، فلم يكن من آثار العقد - لولا الاكراه - الوقوف
على الإجازة حتى يقال: إن الحديث لا يرفعها، لأن هذا الحق له لا عليه، بل لولا
حديث الرفع وأمثاله من قوله عز وجل: (تجارة عن تراض) لم يكن عقده موقوفا
على الإجازة.
وبعبارة أخرى: كل قيد صار وجوده موجبا للانقلاب فالأثر المرفوع به وهو
الأثر المترتب على الفعل المطلق كالمرفوع بالخطأ والنسيان، فيجب أن يكون
المرفوع بالاكراه هو الأثر المترتب على مطلق الفعل، لا الأثر بوصف الاختيار،
ولا الأثر المترتب عليه بوصف الاكراه. وليس من آثار الفعل المطلق الوقوف على
الإجازة حتى يقال: إن هذا الحق له لا عليه فلا يرتفع بالحديث، فالصواب في
الجواب هو ما أفاده بقوله: ثانيا.
وحاصله: أن المرفوع بالاكراه هو الأثر الثابت على فعل المكره لولا الاكراه،
أي: الأثر المترتب على الفعل المجرد عن عنوان الاكراه والاختيار.
كما أن المرفوع بالخطأ والنسيان أيضا كذلك، لأن الأثر المترتب على الفعل
بعنوان العمد يرفع بمجرد فقد نفس القيد لا بحديث الرفع.
كما أن الأثر المترتب على الفعل بعنوان الخطأ يستحيل أن يرتفع بالحديث،
فإن ما كان علة للوضع لا يمكن أن يكون علة للرفع، فإذا كان الأمر كذلك
فبانضمام مقدمة أخرى إلى ذلك، وهو عدم كون ذات العقد ذا أثر شرعا لاعتبار
الرضا فيه بالأدلة الخاصة الموجبة لتقييد عموم (أوفوا بالعقود) (1) و (أحل الله

(1) المائدة: 1.
414

البيع) (1) ونحو ذلك تنتج عدم إمكان عروض البطلان لعقد المكره الملحوق
بالرضا، لأن قبل لحوق الرضا لا أثر للعقد حتى يرتفع بالاكراه، وبعد لحوقه ينقلب
العقد عما هو عليه.
وغاية ما يتوهم لفساد عقد المكره أمران:
أحدهما: ما أفاده المصنف بقوله: لكن يرد على هذا أن مقتضى حكومة
الحديث على الإطلاقات هو تقييدها بالمسبوقية بطيب النفس فلا يجوز الاستناد
إليها، لصحة بيع المكره ووقوفه على الرضا اللاحق، فلا يبقى دليل على صحة بيع
المكره، فيرجع إلى أصالة الفساد (2).
ولكن أجاب عنه بقوله: اللهم إلا أن يقال (3)، وحاصله: أن دليل الاكراه لا
يمكن أن يكون حاكما في المقام، لأنه حاكم على الحكم الثابت في الشريعة،
والمطلقات بإطلاقها ليست أحكاما ثابتة في الشريعة حتى ترتفع بالاكراه، بل
الحكم الثابت هو البيع المقيد بالرضا، سبقه الرضا أو لحقه، وبعد تحقق الرضا
يخرج البيع عن كونه إكراهيا.
وبعبارة أخرى: لو دلت أدلة الرضا على اعتباره في العقد سابقا لكان الرضا
اللاحق لغوا.
وأما لو كان الأعم معتبرا فالكره الواقع في المقام لو بقي على ما كان لكان
العقد باطلا.
وأما لو رضي المكره بما فعله فلا وجه لبطلان العقد. وقياس الاكراه على
الرياء باطل، فإنه لو أتى بالجزء رياء فيبطل هذا الجزء، وليس قابلا للحوق سائر
الأجزاء به.
وأما الاكراه على العقد فلا يرفع أثره إلا إذا لم يلحقه الرضا، وإلا يخرج عن
كونه إكراهيا.
وثانيهما: ما أفاده بقوله: إلا أن يقال: إن أدلة الاكراه كما ترفع السببية المستقلة

(1) البقرة: 275.
(2) المكاسب: كتاب البيع ص 122 س 21.
(3) المكاسب: كتاب البيع ص 122 س 21.
415

التي أفادتها الإطلاقات قبل التقييد كذلك ترفع مطلق الأثر عن العقد
المكره عليه، لأن التأثير الناقص أيضا استفيد من الإطلاقات بعد تقييدها بالرضا
الأعم من اللاحق (1)، انتهى.
ولا يخفى أن هذه العبارة ليست في النسخ المصححة، ولا ينبغي أن تكون،
فإن قوله: وهذا لا يفرق فيه أيضا بين جعل الرضا ناقلا أو كاشفا، وقوله: وكيف
كان فذات العقد المكره عليه مع قطع النظر عن الرضا أو تعقبه له لا يترتب عليه إلا
كونه جزء المؤثر التام، وهذا أمر عقلي... إلى آخره (2) لا يرتبطان بهذا الكلام، بل
يرجعان إلى قوله: وهذا لا يرتفع بالاكراه، لأن الاكراه مأخوذ فيه بالفرض، وعلى
فرض وجودها في النسخ وكونها من كلام الشيخ قدس سره كما هو ظاهر المحقق
الخراساني، حيث أورد على هذه العبارة بقوله: إنما ترفع مطلق الأثر فيما كان ذاك
الأثر بمقتضى الإطلاقات نفسها، لا فيما إذا كان ثبوته بملاحظة أدلة الاكراه كما
هو الفرض (3).
فنقول: منشأ توهم ارتفاع الأثر الناقص بأدلة الاكراه أمران:
الأول: قياس هذا الأثر الناقص على الأثر الثابت لأجزاء المركب المصحح
لإجراء الأصل بالنسبة إلى كل جزء. فكما يجري استصحاب الاطلاق أو الطهارة
أو كليهما - مع أن الأثر الشرعي مترتب على المجموع - فكذلك يصح رفع الأثر
الناقص للعقد بحديث الرفع. ولكنك خبير بالفرق بينهما، لأن الأثر الثابت للجزء
وإن كان جزء الأثر إلا أنه كان له لنفس دليل الجزء، لا للأصل الجاري فيه، أي
كان هذا الأثر لجزء المركب شرعا، ولذا صار محلا للأصل.
وأما الأثر الثابت للمقام فإنما هو بنفس دليل الرفع، أي صار دليل الرفع
موجبا لتقييد العقد بالرضا، وعدم صحة عقد المكره وحده. وأثر المقيد يرفع
بحديث الرفع إذا كان له مع قطع النظر عن التقييد، لا إذا حصل له بلحاظ التقييد.

(1) المكاسب: كتاب البيع ص 122 س 27.
(2) المكاسب: كتاب البيع ص 122 س 27.
(3) حاشية المكاسب للمحقق الخراساني: ص 50.
416

وبعبارة أخرى: الأثر الثابت للجزء في المقام أثر قهري عقلي نشأ من دليل
الرفع، وإلا كان العقد سببا مستقلا والناشئ منه لا يمكن أن يرتفع به.
والثاني: أن يكون حديث الرفع مقيد آخر للمطلقات غير أدلة الرضا كما
توهمه المحقق الطباطبائي (1).
وحاصل هذا الوجه أن يكون نتيجة المطلقات بعد تقييدها بقوله عز من قائل:
(إلا أن تكون تجارة عن تراض) صحة العقد المرضي به، سبقه الرضا أو لحقه،
فالعقد أيضا جزء السبب. ونتيجة حكومة حديث الرفع اعتبار الرضا السابق.
وفيه: أن أدلة المقيدات سواء أكانت بلسان الحكومة كما في حديث الرفع، أم
بلسان التخصيص كما في آية التجارة كلها بمساق واحد وفي عرض الآخر
توجب تقييد المطلقات، ولا وجه لتقييدها أولا بطائفة ثم تقييد المقيد بطائفة
أخرى. وليس الاكراه عنوانا مستقلا غير خلو عقد المكره عن الطيب والرضا.
وما توهمه (2) من أن عقد المكره واجد لجميع الشرائط حتى الرضا في المرتبة
الثانية، وأن البطلان نشأ من جهة أخبار الاكراه. ففيه ما لا يخفى من الفرق بين عقد
المكره وعقد من اضطر إليه لقوت عياله ونفقة من يجب عليه إنفاقه، فإن المكره
غير راض بما ينشئه، ولا يشكر الله سبحانه، بخلاف المضطر فإنه يثني على الله
- جلت آلاؤه - بإعطائه إياه ما ينفق به عياله، فتأمل جيدا كي لا يختلط عليك
الأمر.
وبالجملة: جميع هذه الأدلة تدل على اعتبار الرضا، سواء كان سابقا أو
لاحقا، فالعقد المقيد بالرضا لا يمكن أن يلحقه الاكراه، وقبل لحوق الرضا له ليس
له أثر يقبل أن يرتفع بالاكراه. هذا تمام الكلام في الأمر الأول.
الثاني: أن الرضا المتأخر كاشف أو ناقل؟ وتنقيحه يتم برسم أمور:
الأول: في بيان الفرق بين الشروط المتأخرة التي تصلح لأن تكون كاشفة أو

(1) كما في حاشيته على المكاسب: كتاب البيع ص 128 س 14.
(2) أي المحقق الطباطبائي في حاشيته على المكاسب: كتاب البيع ص 128 س 2.
417

ناقلة، وبين ما لا يكون إلا ناقلا فقط.
وضابط الفرق على ما يظهر من المحقق الثاني: أن كل شرط كان ناظرا إلى
ما وقع من سائر أجزاء العقد وأركانه فهو مما وقع فيه هذا النزاع، كالإجازة
فإنها ناظرة إلى ما وقع من العقد. وكل شرط كان هو بنفسه من شرائط العقد
ومتمماته فهو ليس إلا ناقلا (1).
وبعبارة أخرى: كل ما يرجع إلى تنفيذ ما سبق وإمضائه فهو محل هذا النزاع.
وأما كل ما كان متمما وهو بنفسه من الأجزاء ومما له دخل في تأثير البقية فلا
يجري فيه هذا النزاع، بل يكون ناقلا.
وعلى هذا فمثل القبول مطلقا والقبض في الصرف والسلم ونحو ذلك ناقل (2).
وأما مثل الإجازة وأداء من باع ماله المشتمل على الزكاة مقدار الزكاة فهو محل
هذا النزاع.
وعلى هذا، فذهاب المحقق الثاني إلى كون إجازة المرتهن ناقلة (3) مع قوله
بالكشف في إجازة الفضولي إنما هو للنزاع في الصغرى، أي إجازة المرتهن ليست
ناظرة وتنفيذا لما صدر من الراهن، بل حيث إن من أركان البيع الطلقية - أي: خلو
المبيع من حق غير البائع - فإذا أسقط المرتهن حقه أو أدى الراهن الدين أو أبرأه
المرتهن تم جميع أركان العقد. ومن المعلوم أنها تتم حين الإسقاط، فلا معنى
لكونه كاشفا. وهذا الكلام وإن لم يكن صحيحا لأن الإسقاط كالإجازة ناظر إلى
تنفيذ العقد السابق إلا أن الكبرى صحيحة. وعلى هذا فيجري النزاع في إجازة
العمة والخالة العقد الواقع على بنت الأخ والأخت، وإجازة الديان بيع الورثة،
وإجازة المرتهن بيع الراهن بناء على ما قلنا، ونحو ذلك من إسقاط المرتهن حقه،
وأداء الراهن الدين الذي عليه الرهن.

(1) جامع المقاصد: كتاب البيع ج 4 ص 74 - 75.
(2) نعم، يبقى في جريان النزاع في قبول الوصية إشكال النقض، فتأمل. (منه عفي عنه).
(3) جامع المقاصد: كتاب الرهن ج 5 ص 75 - 76.
418

الثاني: هل الأصل أن تكون الإجازة ناقلة أو كاشفة؟ الأقوى هو الأول، لأن
لازم دخلها بوجودها الخارجي - كما هو ظاهر الأدلة - عدم تحقق النقل إلا بعد
تحققها.
نعم، لو ساعد العرف والاعتبار على دخل وصف التعقب كما في شرطية
الأجزاء اللاحقة في الصلاة للأجزاء السابقة فنلتزم بالكشف. وأما في خصوص
الإجازة فمضافا إلى أن ظاهر الأدلة الدالة على اعتبار الرضا والطيب كونها
بوجودها الخارجي شرطا، العرف والاعتبار أيضا يساعدان على ذلك.
وقد قيل: (1) إن مقتضى الأصل هو الكشف، لأن إجازة العقد السابق عبارة عن
الرضا بما دل عليه العقد وهو نقل الملك حين تحققه.
وفيه: أن مفاد العقد ليس إيجاد المنشأ حين صدور الإنشاء. وفرق بين وقوع
الإنشاء في زمان من باب أن كل زماني يقع في الزمان لا محالة، ودلالة اللفظ على
الإيجاد في زمان الإنشاء، فلو كان مفاد (بعت) أوجدت البيع الآن كما هو ظاهر
بعض النحويين (2) في مفاد الأمر والنهي من كونهما موضوعين للطلب في الحال
لكان الأصل هو الكشف. وأما لو كان مفاده أصل إيجاد البيع واستفيد وقوع المنشأ
في الحال من أدلة أخرى، كمقدمات الحكمة الجارية في الإجارة ونحوها، وهي
كون المنشئ بصدد الإيجاد وعدم تقييد منشئه بقيد، ونظير مقدمات الحكمة
الجارية في البيع ونحوه فلا يكون الرضا كاشفا، لأن العلم بمدخلية الرضا في النقل
من قبيل تقييد الملكية بقيد متأخر، فما لم يحصل القيد لا يحصل الملك. والمنشئ
وإن لم يقيد إنشاءه بقيد ولكن تقييد الشارع بمنزلة تقييد نفس العاقد، فحصول
النقل في نظر الشارع يتبع زمان حكمه الناشئ من اجتماع جميع ما يعتبر في
الحكم، ومما يعتبر فيه الإجازة.

(1) لم نقف عليه.
(2) كالفيومي في المصباح المنير: (مادة: أمر) ص 21.
419

وما أجاب بعض المحققين (1) عن هذا: من أن المنشأ بنظر العاقد لا يتخلف
عن زمان إنشائه، والتخلف عند الشارع لا يضر بالكشف فإن المجيز يمضي ما
أوجده العاقد، وعقده وإن لم يدل على الإيجاد في زمان التلفظ ولكن مقتضى
وقوع الإنشاء في ذاك الزمان وتحقق المنشأ بنظره لتحقق كل اسم مصدر بإيجاد
المصدر وقوع المنشأ في زمان الإنشاء، فإذا أمضى المجيز ما أوجده العاقد فينفذ
من ذاك الزمان غير مفيد، لأن الأمور الاعتبارية تحققها باعتبار من بيده الاعتبار،
فتحقق المنشأ بنظر المنشئ لا أثر له بعد دخل الرضا فيه شرعا، فيكون الإجازة
كالقبول وكالقبض في الصرف والسلم والهبة.
ثم لا يخفى أنه إذا ثبت كون الإجازة ناقلة صح تنظيره بالقبض والقبول،
وأما في مقام إثبات ذلك فلا يصح القياس عليهما.
فما أفاده المصنف في قوله: ولذلك كان الحكم بتحقق الملك بعد القبول... إلى
آخره، لم يقع في محله، لأن القبول والقبض هما بأنفسهما من أركان العقد
ومتمماته ولا يجري نزاع الكشف والنقل فيهما، وهذا بخلاف الإجازة فإنها مما به
يرفع توقيفية العقد عن تأثير ما اقتضاه.
وكيف كان فالأقوى هو النقل بمقتضى الأصل الأولي.
الثالث: بعد ما ظهر أن مقتضى القاعدة الأولية هو النقل فهل الكشف الحكمي
الثابت في الفضولي تعبدا ثابت في المقام أيضا أو لا؟ وجهان، والأقوى هو
الأول، لأن من نفس الأخبار الواردة في الفضولي يظهر أنه لا خصوصية لإجازة
المالك عقد الفضولي، بل كل ذي حق له أن ينفذ العقد الواقع على متعلق حقه، فعلى
هذا حكم الرضا المتأخر في المقام حكم الإجازة في العقد الفضولي من حيث
الأصل الأولي والثانوي.
بقي هنا أمران:
الأول: أنه لا وجه لاستفادة حكم الرضا في المقام من حكم فسخ ذي

(1) يظهر من السيد اليزدي في حاشيته على الكتاب: كتاب البيع ص 151 س 17.
420

الخيار، فكون الفسخ حلا للعقد من حين الفسخ لا حين العقد لا يلازم كون الرضا
والإجازة كذلك أيضا، فإن الفسخ مقابل لإجازة ذي الخيار، وكل زمان أعمل
الخيار فيه بإزالة العقد وإقراره فيؤثر في ذلك الزمان. وأما الإجازة أو الرضا في
المقام فمقابل لرد عقد الفضولي. ورد المالك كما يؤثر من حين العقد فيمكن أن
يقاس عليه الرضا من المكره والإجازة من المالك.
ثم لا يخفى أن المحقق الطباطبائي وإن أجاد في قوله: إن الفسخ ليس مثل
الإجازة (1) إلا أنه لا وجه لتنظيره الفسخ بالرضا بالمضمون، فإن الفسخ نظير
اختيار العقد كما تقدم، لا الرضا بالمضمون في عقد المكره فإنه بعينه كالإجازة في
الفضولي، ولا فرق بينهما في الكشف والنقل. فلو قيل بأن الرضا ناقل فكذلك
الإجازة، لأن كلا منهما يرفع توقيفية العقد، ولا فرق بين إنفاذ نتيجة العقد أو إنفاذ
مفاده. فلو قيل بأن التوقيف يرتفع حين الرضا فلا بد أن يقال بأن مدلول العقد أيضا
ينفذ حين الإجازة.
ولو قيل بأن الإجازة تؤثر من حين العقد فكذلك الرضا، لأن محل البحث في
الكشف والنقل ليس في ما كان بمدلوله اللفظي متعرضا للعقد، كما لو قيل: أجزت
العقد، أو رضيت بما صدر من العاقد، بل في الأعم منه ومما كان ناظرا إلى النتيجة،
سواء أكان بلفظ (أجزت العقد) أو (رضيت به)، أم كان بلفظ (أجزت النقل) أو
(رضيت به)، وسواء أكان بالقول أم كان بالفعل، كأداء من عليه الزكاة الزكاة من
غير المال الزكوي، وأداء الراهن الدين.
الثاني: هل للطرف الغير المكره عليه أن يفسخ قبل رضا المكره أم لا؟ ظاهر
المتن أن هذا النزاع يجري بناء على الكشف. وأما بناء على النقل فلا إشكال في
تأثير فسخه. ولكن الأقوى جريان النزاع على المسلكين. وسيجئ في باب
الفضولي توضيح ذلك.
قوله قدس سره: (مسألة: ومن شروط المتعاقدين إذن السيد لو كان العاقد

(1) كما في حاشيته على المكاسب: كتاب البيع ص 151 س 27.
421

عبدا... إلى آخره).
لا يخفى أن البحث في هذا العنوان يقع من جهات:
الأولى: في جواز تصرفاته الراجعة إلى ما في يده المترتبة عليه الآثار حين
عبوديته.
الثانية: في نفوذ معاملاته المترتبة عليها الآثار بعد حريته.
الثالثة: في معاملاته الراجعة إلى الغير، كوكالته عنه.
ثم إن محل البحث في المقام أعم من القول بعدم مالكية العبد والقول بمالكيته
لما في يده لإرث ونحوه.
كما أن محل البحث أيضا بعد الفراغ عن عدم كونه مسلوب العبارة بحيث لا
يترتب على فعله وعبارته أثر، فليس كالمجنون والصبي بحيث لا يؤثر إذن المولى
في قوله وفعله. وتنقيح هذه الجهات يتوقف على بيان ما يستفاد من الآية الشريفة
(ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شئ) (1).
فنقول: إن الأصل في القيد وإن كان الاحترازية إلا أن قوله عز من قائل: (لا
يقدر على شئ) قيد توضيحي، كقوله: (مملوكا) فإن العبد كما لا ينقسم إلى
مملوك وغير مملوك فكذلك لا ينقسم إلى القادر والعاجز، فإن للمملوكية مساوية
للعجز ومنافية للاستقلال في التصرف، كما أن العبودية مساوية للملوكية ومنافية
للحرية.
ثم إن المراد من عدم القدرة شرعا سلب القدرة عما يناسب المقدور، فإن كان
الشئ من متعلقات الأحكام التكليفية فعدم القدرة عليه عبارة عن حرمته عليه.
وإن كان من متعلقات الأحكام الوضعية فعدم القدرة عليه عبارة عن عدم نفوذه
ومضيه عنه.
والمراد من الشئ بقرينة رواية زرارة، عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام

(1) النحل 75.
422

قالا (المملوك لا يجوز نكاحه ولا طلاقه إلا بإذن سيده قلت إن كان السيد
زوجه بيد من الطلاق؟ قال: بيد السيد، ضرب الله مثلا عبد مملوكا لا يقدر على
شئ، فشئ الطلاق... إلى آخره) (1) هو الشئ الذي يعد في العرف والعادة شيئا،
فليس المراد منه هو مفهومه العام الشامل لكل حركة وسكون حتى مثل التكلم
والنظر وأمثال ذلك فإنها خارجة من الشئ خروجا موضوعيا لا حكميا كما
توهم (2)، لأن مساق الآية مساق لا يقبل التخصيص.
كما أن التكاليف الإلهية كالواجبات والمحرمات المشتركة بين الأحرار
والعبيد خارجة عنه موضوعا، فإن هذه تحت ملك السيد الأصلي، لا المالك
العرفي، لأن الآية في مقام بيان ما يختص بالعبد، لا ما يشترك بينهما.
ثم إن الأقوال في المسألة بين إفراط وتفريط واعتدال.
فقيل (3) بمحجوريته عن كل شئ إلا الضروريات التي بها قوام عيشه، فلا
يجوز له التمدد والمشي ونحو ذلك.
وقيل (4) بنفوذ جميع تصرفاته إلا ما يرجع إلى التصرف في سلطان مولاه،
فيجوز له الوكالة عن الغير وضمانة عند الذي يتعلق برقبته بعد العتق.
وقيل (5) بأنه لا يجوز له كل ما يعد شيئا، من غير فرق بين عناوين المسببات
من النكاح والطلاق والوكالة والتوكيل وغير ذلك.
والأقوى هو الأخير، لما عرفت: أن ظاهر الآية الشريفة أن كل ما يعد شيئا
بحسب العرف والعادة كالطلاق ونحوه فالعبد لا يقدر عليه ولا ينفذ منه. وعلى هذا
فلا يجوز وكالته عن الغير ولو في إجراء الصيغة، فضلا عما إذا كان وكيلا مفوضا،

(1) من لا يحضره الفقيه: ج 3 ص 541 ح 4860، عنه وسائل الشيعة: ب 45 من أبواب
مقدمات الطلاق ح 1 ج 15 ص 343 مع تفاوت يسير.
(2) يظهر ذلك من السيد اليزدي في حاشيته على الكتاب: كتاب البيع ص 129 س 1 - 4.
(3) نفى عنه البعد في الجواهر: كتاب التجارة ج 25 ص 69.
(4) قائله السيد اليزدي في حاشيته على الكتاب: كتاب البيع ص 129 س 17.
(5) يظهر ذلك من الأشكوري في بغية الطالب: ص 74 س 11.
423

لا لتوقف صدور اللفظ منه على إذن مولاه حتى يرد عليه ما أورده عليه صاحب
الجواهر (1) قدس سره: بأن مع نهي السيد أيضا يصح عقده، فضلا عن الوقوع بغير إذنه إذ
أقصاه الإثم في التلفظ، والنهي لا يقتضي الفساد إذا رجع إلى الأسباب، بل لأن
نفس الوكالة عن الغير هو بنفسه شئ لا يقدر عليه العبد، وهو غير قادر على إيجاد
العلقة الملكية بين المالك والمملوك، كما هو غير قادر على سلب علقة الزوجية
عن نفسه وزوجته. وهكذا لا يقدر على الالتزام بشئ والتعهد بدين وإن تعلق
الدين بذمته بعد حريته فإن الضمان أيضا شئ، وهكذا نذره وعهده وسائر
ما يتعلق برقبته بعد العتق.
وعلى هذا فلا تشمل الآية المباركة مثل: التكلم والمشي وتمدد الأعصاب
ونحو ذلك من الأمور الغير المعتد بها.
ويدل عليه أيضا صحيحة زرارة (2) المعبر فيها عن الشئ بالطلاق، ولا
تختص أيضا بما يرجع إلى التصرف في سلطان المولى بدعوى: أن مناسبة الحكم
والموضوع تقتضي أن جهة المملوكية هي الموجبة للحجر، وهذه تقتضي حجره
عما يرجع إلى المولى، لا وكالته عن الغير وضمانه عنه ونحو ذلك، لما عرفت: من
أن العموم لا وجه له، والاختصاص أيضا لا دليل عليه، فإن الطلاق لا خصوصية
فيه، فإذا لم يكن منه نافذا مع أنه لا يتعلق بالمولى فلا ينفذ وكالته عن الغير
وضمانه ونذره.
ثم إنه لا ينبغي الإشكال في أن إذن السيد يرفع حجره، إنما الكلام في أن
الإجازة اللاحقة أيضا كالإذن السابق تفيد الصحة مطلقا، سواء كان عمله راجعا
إلى ملك المولى، أو راجعا إلى نفسه حال عبوديته، أو راجعا إلى ما يتعلق برقبته
بعد الحرية، أم إلى غيره، أم تفصيل بين الموارد؟ وجوه. وتوضيح الحق يتم برسم
أمور:

(1) جواهر الكلام: كتاب التجارة ج 25 ص 70.
(2) تقدم تخريجها في الصفحة: 423.
424

الأول: لا شبهة أن إذن المولى يرفع الحرمة التكليفية. وأما الإجازة اللاحقة
فلا تؤثر في رفع الحرمة، لأن الفعل لا يتغير عما وقع عليه. فلو قيل بأن نفس تلفظ
العبد وكذلك قصد معنى اللفظ - أي: استعمال اللفظ في المعنى - محرم بلا إذن
فالإجازة اللاحقة لا ترفع الحرمة. إلا أنك قد عرفت أن مثل ذلك لا يشمله عموم
الشئ.
الثاني: أن النهي المتعلق بالمعاملات تارة يرجع إلى الأسباب، وأخرى يرجع
إلى المسببات، فإذا رجع إلى الأسباب فلا يوجب الفساد، وإذا رجع إلى المسببات
فيوجبه، وتوضيحه موكول إلى الأصول.
وإجماله: أن حرمة السبب إما لمزاحمة لواجب: كالبيع وقت النداء، أو لتعلق
النهي به بالخصوص: كحرمة تلفظ العبد بألفاظ العقود لا يلازم عدم ترتب الأثر
عليه، فتحقق المنشأ بالألفاظ المحرمة من جهة كونها فعلا من أفعال المكلف لا
محذور فيه.
وأما حرمة المسبب فمرجعها إلى سلب قدرة المكلف عن وقوعه وإخراجه
عن عموم السلطنة.
ثم المراد من السبب هو قصد المعنى من اللفظ. والمراد من المسبب هو النقل
والانتقال، أي إيجاد المنشأ وموجديته بهذا الإيجاد، أي المصدر واسم المصدر
اللذان فرقهما اعتباري.
فمن حيث نسبة الأثر إلى الفاعل يقال: أوجده وأثر فيه. ومن حيث نسبته إلى
المنفعل يقال: موجد وأثر.
وهذه الأمور كلها صادرة عن العاقد، فالعبد في مقام البيع يصدر عنه اللفظ
الذي اعتبر فيه الماضوية والعربية، وعدم كونه غلطا، ويقصد المعنى في مقابل كونه
هازلا، ويقصد إيجاد المادة بالهيئة في مقابل استعمال اللفظ في المعنى لداع آخر
كالأخبار ونحوه، ويقصد اسم المصدر أيضا تبعا من حيث إنه فعل توليدي له.
والإجازة اللاحقة تؤثر في الأمرين الأخيرين، لا في الأولين.
425

أما عدم تأثيرها في الأولين لما عرفت من أن الفعل الخارجي سواء كان
جوارحيا أو جوانحيا لا ينقلب عما وقع عليه.
وأما تأثيرها في الأخيرين فلأن إيجاد النقل والانتقال لا خارجية لهما إلا
باعتبار من بيده إنفاذهما، وإلا فمجرد قوله: (بعت) لا يؤثر في تحقق الملكية
للمشتري، فلو أنفذ من بيده الأنفاذ فسواء أرجع إنفاذه إلى جهة الصدور وحيثية
إيجاد المعنى بالقول كإيجاده في المعاطاة بالفعل، أم رجع إلى المضمون واسم
المصدر لصح ما وقع، من دون استلزامه لانقلاب الشئ عما وقع عليه حتى
يستحيل، بل لأنه لم يقع شئ في عالم الاعتبار، بل كان مراعى.
وإن كان واقعا في نظر المنشئ فحيث كان مراعى بإنفاذ من بيده الأمر فيؤثر
إنفاذه. وسيجئ مزيد توضيح لذلك في المقام وفي باب الفضولي.
الثالث: لا يمكن استفادة شرطية كون العاقد حرا - أي شرطية كون الصيغة
صادرة من الحر - من الآية الشريفة بحيث تكون الرقية كالفارسية وغير الماضوية،
لما عرفت من أن عدم القدرة قد استعمل في الوضعي والتكليفي بجامع واحد، من
دون مجاز ولا عموم مجاز، فعدم القدرة بالنسبة إلى أفعاله: عبارة عن أن طرفي
فعلها وتركها ليسا تحت اختياره، أي: تحرم عليه بلا إذن من سيده، وهذا لا يمكن
استفادة الشرطية منه.
وبعبارة أخرى: كون عبارة العبد كعبارة المجنون لا يستفاد من مثل قوله
تعالى: (لا يقدر على شئ)، وعلى هذا فلا يقصر عقد العبد من حيث جهة العقدية
عن عقد غيره.
غاية الأمر على فرض عموم الشئ لكل شئ يكون محرما من حيث إنه
فعله.
الرابع: أن العقد الواقع من العبد تارة يتعلق بما في يده من مال المولى، أو مال
نفسه الراجع إلى ملك المولى طولا، أو يتعلق بنفسه التي هي ملك المولى كإجارة
نفسه وتزويجه. وأخرى يتعلق برقبته بعد العتق. وثالثة يتعلق بالأمور
426

الراجعة إلى الغير كوكالته عن الغير.
وكل واحدة من هذه الأصناف الثلاثة كما يصح بالإذن السابق فكذلك يصحح
بالإجازة اللاحقة.
غاية الأمر أن كلما كان تصرف العبد راجعا إلى ملك المولى فإجازة المولى
ترجع إلى مضمون العقد، وهو معنى الاسم المصدري.
وما كان تصرفه راجعا إلى ملك الغير أو إلى ذمة نفسه يتبعه بعد العتق فإجازته
ترجع إلى جهة المصدر، وكل منهما قابل للإجازة، لأن إيجاده المعنى حيث إنه لا
يقدر عليه موقوف على الإذن، وحيث إن الإجازة كالإذن فيما لم يكن من
الأفعال الخارجية فالإجازة تصحح إيجاده.
وبعبارة أخرى: سيجئ في باب الفضولي أنه كما يكون إجازة المالك
بمقتضى القاعدة مصححة لعقد الفضولي فكذلك إجازة المرتهن عقد الراهن،
وإجازة العمة أو الخالة العقد الواقع على بنت الأخ أو الأخت، وإجازة الغرماء
للمفلس، وإجازة الديان للورثة، ونحو ذلك من الأمور المتوقفة على إذن الغير.
والمناط في الجميع أن كل ما كان العقد واقفا وغير ماض إلا بإذن الآخر فإجازته
بمنزلة إذنه، فعلى هذا يصح تعلق إجازة المولى بالعقد الواقع من العبد وكالة عن
الغير، فإن مضمون العقد وإن لم يرجع إلى المولى إلا أن إيجاد العبد العلقة بين
الشيئين من الأشياء التي لا يقدر عليها العبد، وهذا يكون واقفا وغير ماض،
فالإجازة ترفع وقوفه وتجعله ماضيا.
إذا عرفت ذلك ظهر أن ما لا يقبل الإجازة - وهو السبب - لا يتوقف على
الإجازة، لعدم الدليل على حرمته أولا، وعدم الدليل على فساده ثانيا.
وما يقبل الإجازة كالمسبب فالمفروض تحققها من غير فرق بين تعلقها باسم
المصدر أو بالمصدر، فإن الفرق بينهما اعتباري. فلو فرض أن إيجاد العبد من
حيث كونه إيجادا موقوف على إذن المولى، وبالإذن يصح، فيصح بالإجازة
اللاحقة أيضا.
427

وما أفاده قدس سره في وجه عدم الصحة بالإجازة اللاحقة من أن المنع راجع إلى
نفس الإنشاء الصادر، وما صدر على وجه لا يتغير منه بعده (1). غير وارد أصلا،
لأنه لو كان المراد من الإنشاء في كلامه هو تلفظ العبد وقصده المعنى لكان
إشكاله واردا، ولكن حيث إنه ليس المراد من الإنشاء في كلامه ذلك، لأنه يصرح
في رد صاحب الجواهر بأن هذه التصرفات لا دليل على حرمتها، ثم لا دليل على
فساد العقد بها، بل هو إيجاد العبد من حيث المسبب، أي المصدر، فإذا كان هو
المراد من الإنشاء فقوله: وما صدر على وجه لا يتغير منه بعده غير صحيح، لأنه
لم يقع الإنشاء في عالم الاعتبار، ولم يتحقق ما أوجده، بل هو مراعى وموقوف
على الإجازة. فكما أن الإجازة تصحح المضمون إذا كان راجعا إلى المولى فكذلك
تصحح هذا الإيجاد الصادر من العبد، لكون إنشاء هذا المضمون قائما بعبده.
ثم إنه قدس سره (2) رفع الإشكال بوجوه ثلاثة:
الأول: التمسك بعموم أدلة الوفاء بالعقود، خرج منها عقد العبد بلا إذن رأسا،
لا سابقا ولا لاحقا، وبقي الباقي، لأن المخصص إذا كان مجملا مفهوما بأن كان
مرددا بين الأقل والأكثر يؤخذ بالقدر المتيقن منه إذا كان منفصلا، والمتيقن منه
عقده بلا إذن ولا إجازة، لا العقد الملحوق بالإجازة.
الثاني: الصحيحة المتقدمة (3) الدالة على صحة النكاح والطلاق بالإذن،
وحيث قام الدليل على أن النكاح يصح بالإجازة اللاحقة أيضا فيصح جميع
العقود بالإجازة، لعدم الفرق بينها.
ثم تفطن لإشكال وارد على التعميم، وهو: أن لازمه صحة الطلاق بالإجازة
أيضا ولا يلتزمون بها.
ودفعه: بأنه خرج الطلاق بالدليل الخارجي، وإلا لقلنا بصحته بها من جهة

(1) المكاسب: كتاب البيع ص 123 س 14.
(2) المكاسب: كتاب البيع ص 123 س 17 وما بعده.
(3) تقدمت في الصفحة: 422 - 423.
428

التعميم، ولا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، لأن الكلام مسوق لنفي استقلال
العبد في الطلاق، لا لصحته مطلقا حتى بالإجازة.
الثالث: الأخبار الدالة على أن إجازة المولى موجبة لصحة نكاح العبد مطلقا،
سواء أكان هو المباشر للصيغة أم غيره من جهة ترك الاستفصال، فإذا صح نكاحه
لنفسه مطلقا فيصح كل تصرف منه مطلقا ولو كان وكالة عن الغير، وهذا لوجهين:
أحدهما: أن إجازة المولى إذا كانت موجبة لصحة عقد العبد الصادر منه
مباشرة من جهة المضمون - أي من جهة رجوعها إلى متعلق حق المولى، وهو
تصرف العبد في سلطان المولى - فلا محالة موجبة لجهة الإصدار أيضا، لأنه
لا يمكن أن يصح اسم المصدر، ولا يصح الإنشاء، أي جهة الإصدار، فإذا صح
المصدر بالإجازة في نكاح العبد لنفسه يصح مطلقا بها ولو كان راجعا إلى غير
المولى، كما لو كان وكيلا عن الزوجة في هذا العقد، أو كان وكيلا عن غيرها في
غير هذا العقد. وهذا الوجه موقوف على استفادة التعميم من ترك الاستفصال من
جهتين:
من جهة عمومها لصدور النكاح لنفسه مباشرة وتوكيلا.
ومن جهة عمومها لصدور العقد منه لغيره، وهذا لا يخلو عن الإشكال كما
سنشير إليه.
وثانيهما: أن تعليل الصحة بأنه لم يعص الله في قوة أن يقال: كلما لم يكن
العبد إلا عاصيا لسيده فبإجازة السيد يرتفع وقوف تصرفه فمعيار الصحة في
معاملة العبد بعد عدم كونها مخالفة لله سبحانه هو إذن السيد أو إجازته.
وهذا الوجه أيضا كما يمكن أن يكون مدركا لحكم ما يتعلق مضمونه بالمولى
كذلك يمكن أن يكون مدركا لحكم ما لا يتعلق مضمونه بالمولى، لأن المدار في
صحة عقد العبد على رضا المولى، ولو لم يكن مضمونه راجعا إلى المولى، بل كان
جهة معصيته لمولاه ايجاده ما لم يأذن فيه، وهذا أيضا لا يخلو عن مناقشة، لأن
الأخبار الواردة في نكاح العبد راجعة إلى المعصية الفعلية الراجعة إلى التصرف
429

في سلطان المولى، لأن نكاح العبد وطلاقه لنفسه كإجازة نفسه بلا إذن من المولى،
فهو تصرف في نفسه التي هي ملك للمولى. وأين هذا من استفادة حكم المخالفة
الغير الراجعة إلى سلطان الولي من حيث الإصدار وإيجاد المادة بالهيئة؟
وعلى أي حال، فالوجوه الأخر واضحة الفساد.
أما التمسك بالعموم فهو فرع إجمال المخصص، وهو مبين، فإن دليل اعتبار
الإذن ظاهر في الإذن السابق، والإجازة غير الإذن.
وأما الدليل الثاني ففيه أولا: أن صحة النكاح بالإجازة اللاحقة لا تكشف عن
أعمية الإذن مفهوما، بل غاية الأمر أن الدليل الدال على صحة النكاح بالإجازة
حاكم على الدليل الدال على اعتبار الإذن، ويوسع دائرة الموضوع تعبدا.
وثانيا: يصح دعوى عكس ما استظهره قدس سره من الصحيحة، بأن يقال: لما كانت
الصحيحة مشتملة على الطلاق الذي لا يصح بلحوق الإجازة نستكشف أن المراد
من الإذن فيها خصوص الإذن السابق وصحة النكاح بالإجازة فإنما هي لدليل
خارج، ولا يلزم تأخير البيان، لأن الكلام المذكور مسوق لبيان نفي استقلال العبد
في النكاح والطلاق بحيث لا يحتاج إلى رضا المولى.
ولا يخفى أن العكس أولى مما استظهره قدس سره، فإنه لو كانت الصحيحة بصدد
بيان صحة النكاح والطلاق بالأعم من الإذن والإجازة للزم تأخير البيان عن
وقت الحاجة.
وقوله قدس سره: إن الصحيحة مسوقة لبيان نفي استقلال العبد بالطلاق. (1) لا يدفع
المحذور فإنه لو كانت الصحيحة مسوقة لهذا لكانت مسوقة بالنسبة إلى النكاح
أيضا لبيان نفي استقلال العبد به، لا لصحته بالأعم من الإذن والإجازة، فمن أين
تستفاد الصحة بالإجازة من الصحيحة؟ ولا خصوصية في الطلاق حتى يقال: إنها
بالنسبة إليه ناظرة إلى نفي الاستقلال دون النكاح، فتدبر جيدا.

(1) المكاسب: كتاب البيع ص 123 س 19.
430

وأما الدليل الثالث: فقد أوضحنا ما في التقريب الثاني منه الذي أمر بأن يفهم
ويغتنم، جزاه الله تعالى عن العلماء خير الجزاء.
وأما التقريب الأول ففيه: أن ترك الاستفصال وإن كان مفيدا للتعميم في باب
النكاح ونحوه إلا أنه للتعدي إلى غير مورده لا يفيد، لأنه لو فرض بأنه عليه السلام صرح
وكالة العبد لغيره أو إجرائه الصيغة وإيجاده العلقة فضولا، لأن صحة نكاحه لنفسه
وإن استلزم تصحيح جهة إصداره أيضا حيث إن الإجازة ترجع إلى ما يتعلق
مضمونه بالمولى فصحة جهة إصداره إنما لوحظ معنى حرفيا، وإذا دل الدليل على
صحة النتيجة بالإجازة فيدل على صحة جهة الإصدار، لأنها من مقدمات حصول
النتيجة إلا أن هذا الدليل لا يمكن أن يدل على صحة جهة الإصدار إذا لوحظت
معنى إسميا، وعقد العبد لغيره فضولا أو وكالة جهة توقفه على إجازة المولى هو
جهة إصداره، وإلا فمضمونه غير راجع إلى المولى، ولم يدل دليل على أن الإجازة
أيضا كالإذن في جهة الإصدار كما لا يخفى.
إلا أن يقال: إن الأخبار الدالة على صحة نكاح العبد إذا أجازه المولى الواردة
في رد حكم ابن عيينة وإبراهيم النخعي ظاهرة في إعطاء قاعدة كلية، وهي أن
كلما رجع جهة الصحة إلى إذن السيد فإجازته كإذنه.
وكيف كان فمما ذكرنا من أن المراد من الشئ في الآية المباركة هو الشئ
المعتد به، وأن إيجاد العبد العلقة المالكية ونحوها شئ لا يقدر عليه العبد إلا بإذن
سيده. يظهر أن الوكالة من الغير أو إيقاع العبد العقد للغير فضولا أيضا محتاج إلى
إذن السيد.
فما أفاده صاحب الجواهر قدس سره (1) من صحة عقد العبد للغير وإن لم يسبقه إذن
ولم يلحقه إجازة استدلالا بهذه الأخبار الدالة على أن معصية السيد لا يقدح

(1) جواهر الكلام: ج 22 ص 271.
431

بصحة العقد وإنما تدل على التوقف على الإجازة فيما يرجع مضمونه إلى السيد
دون ما لا يرجع إليه، غاية الأمر: أنه عصى السيد في التصرف في لسانه، والنهي
إذا كان راجعا إلى المعاملة من حيث السبب لا يدل على الفساد.
ففيه: أنه كما يتوقف المضمون على الإذن أو الإجازة إذا رجع إلى المولى
فكذلك يتوقف المعنى المصدري على الإذن أو الإجازة ولو لم يرجع مضمونه إلى
المولى، لأنه شئ لا يقدر عليه العبد. فوجه بطلان عقد العبد لغيره إذا لم يكن
مأذونا ولا مجازا هو هذا، لا لكونه تصرفا في لسانه الذي هو ملك السيد، فإنه لا
دليل على حرمته أولا، وحرمته لا يوجب الفساد ثانيا، فلا يكون حرمته منشأ
الالتزام المشهور بفساد عقد العبد للغير بلا إذن ولا إجازة. مع أنه لو كان هذه
الأخبار دالة على أن معصية السيد في تحريك اللسان لا يوجب الفساد لكان
مقتضى التعليل فساد البيع لو عصى الله سبحانه كما في البيع وقت النداء، مع أنه لم
يقل به أحد، فهذه الأخبار ناظرة إلى إعطاء قاعدة كلية، وهي أنه كلما رجع أمر
العبد إلى المولى من جهة من الجهات فهو موقوف إما على الإذن أو الإجازة.
قوله قدس سره: (فرع: لو أمر العبد آمر أن يشتري نفسه من مولاه فباعه مولاه
صح... إلى آخره).
لا وجه للإشكال (1) في صحة اشتراء العبد نفسه من مولاه بوكالته من
المشتري، لأن الإشكال بأن الموجب والقابل متحد - وهو المولى فإن لسان العبد
لسان المولى - واضح الاندفاع، لأن الاتحاد تنزيلا غير الاتحاد خارجا، ويكفي
التغاير الخارجي في اعتبار التغاير بين الموجب والقابل، كما أنه يكفي الاتحاد
خارجا مع التغاير اعتبارا.
كما أن الإشكال بتوقف وكالته على إذن المولى - وهو حين إيجاب المولى
غير مأذون منه، وإنما يصير وكيلا بعد الإيجاب فيجب إعادة الإيجاب ثانيا - غير
وارد، لعدم الدليل على اعتبار الإذن حين الإيجاب، فإن الشروط المعتبرة في

(1) حكى هذا الاشكال عن القاضي ابن البراج في الجواهر: ج 22 ص 271.
432

العقد على أنحاء:
منها: ما يعتبر في مجموع العقد.
ومنها: ما يعتبر حين صدور الإنشاء ممن بيده صدوره، فيكفي للصحة وكالة
العبد حين إنشائه القبول للمشتري الآمر له.
كما أنه لو لم يكن القابل مأذونا حين الإيجاب وصار مأذونا بعده قبل القبول
لكفى لصحته.
هذا، مضافا إلى أن اعتبار الإذن حين الإيجاب يوجب مدخلية إجازة المولى
بعد القبول، لا بطلان العقد.
وبعبارة أخرى: إنشاء العبد يحتاج إلى إذن مولاه أو إجازته، وإلى إذن
المشتري أو جازته، فلو لم يتحقق الإذن من أحدهما أو كليهما كفت الإجازة
اللاحقة، وليست عبارة العبد كعبارة الصبي والمجنون. هذا لو وكله المشتري في
الاشتراء من نفس المولى.
وأما لو وكله في الاشتراء من وكيل المولى فلو كان وكيله وكيلا في خصوص
بيع العبد لا في بيعه وإذنه للعبد في وكالته عن الغير فلا شبهة في احتياج الاشتراء
إلى الإجازة من المولى في وكالته. وأما لو كان وكيلا حتى في التوكيل أيضا
فإيجاب الوكيل بمنزلة إيجاب المولى، فيعود النزاع المتقدم. فظهر أن الحق هو
التفصيل بين الموردين.
ولعل وجه نظر المحقق والشهيد الثانيين (1) إلى الصورة الأولى.
إلى هنا انتهى الجزء الأول من كتاب (منية الطالب) حسب تجزئتنا، ويليه
- إن شاء الله - الجزء الثاني وأوله: (بيع الفضولي)

(1) المحقق الثاني في جامع المقاصد: ج 4 ص 68، الشهيد الثاني في مسالك الأفهام: كتاب
التجارة ج 1 ص 171 السطر الأخير.
433