الكتاب: صلاة المسافر
المؤلف: الشيخ الأصفهاني
الجزء:
الوفاة: ١٣٦١
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق: لجنة التحقيق
الطبعة: الثانية
سنة الطبع: ١٤٠٩
المطبعة: مطبعة مؤسسة النشر الإسلامي
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
ردمك:
ملاحظات:

بحوث في الفقه
صلاة المسافر
1

الكتاب: صلاة المسافر
المؤلف: المحقق آية الله العظمى الشيخ محمد حسين الإصفهاني
المحقق: لجنة التحقيق
الموضوع: فقه
اللغة: عربي
عدد الأجزاء: جزء واحد
عدد الصفحات: 186
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
الطبع: مطبعة مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: الثانية
المطبوع: 2000 نسخة
التاريخ: 1409 ه‍. ق
2

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وآله
الطاهرين.
وبعد، فهذه نبذة من القول فيما يتعلق بصلاة المسافر. والكلام تارة في شرائط
القصر، وأخرى في أحكامه.
فهنا مقامان:
المقام الأول
في شرائط القصر
وهي مختلفة من حيث كون بعضها شرطا لحدوث القصر فقط كقصد المسافة،
وبعضها شرطا لبقائه فقط كاستمرار القصد، وبعضها شرطا لحدوثه وبقائه معا
كإباحة السفر. وليست هذه الشرائط المختلفة شرطا بالنسبة إلى الحكم الكلي
المترتب على المسافر، فإن حدوثه في مقام تشريع الشريعة بكون المتعلق ذا مصلحة
خاصة، وبقائه ببقائه على ما هو عليه من المصلحة إلى أن ينتهي أمدها فينسخ، وإنما
الاختلاف بالحدوث و البقاء بالإضافة إلى الأحكام الجزئية المنشعبة من ذلك
الحكم الكلي المنوطة فعليتها بفعلية موضوعاتها المتقومة بشرائطها الخاصة المختلفة
بالحدوث والبقاء. وبالجملة فللقصر شرائط خاصة تذكر في ضمن مسائل:
3

المسألة الأولى
في الشرط الأول
وهو قصد المسافة، كما عن غير واحد، أو المسافة بنفسها، بجعل القصد شرطا
آخر كما عن آخرين، وأما اعتبار المسافة، مع تعقيبه بشرط ثان وهو قصد المسافة
كما في الشرايع (1)، والصحيح هو الأول، لوضوح أن المسافة لو كانت بنفسها
شرطا، للزم تحققها بالتلبس بها في وجوب التقصير، مع أنه لا شبهة في عدم اعتبار
فعلية التلبس بمقدار نفس المسافة في لزوم القصر حدوثا كما سيأتي إن شاء الله
تعالى. ولا يجدي ضم الاعتبار بمعنى التقدير أو الاحراز إلى المسافة، كما في
الشرايع، فإنه إن كان مغنيا عن القصد كما سيأتي إن شاء الله تعالى كان اعتبار
القصد بعده بجعله شرطا آخر لغوا، وإن كان يجب القصد بخصوصه كان متقوما
بالاحراز فيلغوا اعتباره في قباله، فيلزم إما لغوية الشرط الأول، وإما لغوية الشرط
الثاني. وحيث إن قصد المسافة ينحل إلى حيثيتين، لكل منهما آثار، وللمسافة تقدم
طبيعي على قصدها، فنذكر المسافة بما لها من الآثار، ثم نعقبه بذكر القصد وآثاره.
في تحقيق المسافة
فنقول: أما المسافة ففيها أمور ينبغي التنبيه عليها.
[الأمر الأول]
في تحديد المسافة
والأخبار فيه مختلفة، ففي بعضها إناطة الحكم بمسيرة يوم وبياض يوم (2)، وفي
بعضها إناطته بثمانية فراسخ (3)، وفي بعضها بأحد الأمرين من مسيرة يوم أو
ثمانية فراسخ (4). ولذا ذهب إلى كل منها بعض الأصحاب فالشهيد الثاني إلى

(1) شرايع الإسلام: ص 39.
(2) الوسائل: ج 5، ص 493 و 490 و 492.
(3) الوسائل: ج 5، ص 493 و 490 و 492.
(4) الوسائل: ج 5، ص 493 و 490 و 492.
4

الأول والأول إلى الثاني (2) وصاحب المدارك (3) إلى الثالث.
ولا بد في تنقيح المقام من تقديم مقدمة هي:
إن المستفاد من الأخبار أن المراد بمسير اليوم ليس مطلقة كيفما اتفق، بل مسير
معتدل لا ينفك عن قطع ثمانية فراسخ، ففي الفقيه: " لأن ثمانية فراسخ مسير يوم
للعامة والقوافل والأثقال " (4) وفي حسنة الكاهلي: " إن التقصير لم يوضع على
البغلة السفواء (5) والدابة الناجية (6)، فإنما وضع على سير القطار " (7).
وفي صحيحة ابن الحجاج: " جرت السنة ببياض يوم، فقلت له عليه السلام: إن
بياض اليوم يختلف فيسير الرجل خمسة عشر فرسخا في يوم، ويسير الآخر أربعة
فراسخ وخمسة فراسخ في يوم، فقال (عليه السلام): أما إنه ليس إلى ذلك ينظر، أما
رأيت مسير هذه الأثقال بين مكة والمدينة؟ ثم أومى بيده أربعة وعشرون ميلا يكون
ثمانية فراسخ " (8)
وفي ذيل رواية العيون (9) والعلل (10) " وقد يختلف المسير فسير البقر إنما هو
أربعة فراسخ وسير الفرس عشرون فرسخا، إنما جعل مسير يوم ثمانية فراسخ لأن
ثمانية فراسخ هو سير الجمال والقوافل وهو الغالب على المسير وهو أعظم المسير الذي

(1) روض الجنان، ص 383.
(2) الدروس ص 50.
(3) مدارك الأحكام في شرح شرايع الإسلام ذيل قوله: وأما الشروط فستة ص 276.
(4) الوسائل: ج 5 ص 490، الباب 1 من أبواب صلاة المسافر ح 1 الفقيه، ج 1، ص 290، باب
61 باب علة التقصير في السفر، الحديث 1.
(5) سفا: يسفو، سفوا، أسرع في المشي (أقر الموارد).
(6) الناجية: مؤنث الناجي، الناقة السريعة، تنجو بمن ركبها (أقرب الموارد).
(7) الوسائل، ج 5، ص 491، الباب 1 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 3 مع اختلاف يسير
القطار من الإبل بالكسر: قطعة على نسق واحد (أقرب الموارد).
(8) الوسائل، ج 5، ص 493، الباب 1 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 15 مع اختلاف يسير.
(9) عيون أخبار الرضا، ج 2، ص 113، الباب 34، الحديث 1 مع اختلاف بين ألفاظ الحديث.
(10) علل الشرايع، ج 1، ص 266، الباب 182، الحديث 9 مع اختلاف بين ألفاظ الحديث.
5

يسيره الجمالون والمكاريون " (1)
وهذه الروايات صريحة في إرادة المسير بسير معتدل يوافق ثمانية فراسخ
ولا يتخلف أحدهما عن الآخر، ومسير يوم أقل من ثمانية، ليس من السير المعتدل
الذي هو موضوع الحكم، والسير السريع في بعض اليوم إذا كان ثمانية فراسخ هو
مسير يوم بالسير المعتدل، فهو داخل في موضوع الحكم. فهذه الروايات قرينة على
المراد من مسيرة يوم الظاهرة إطلاقا في جميع أنحاء المسير كما فهمه الراوي، وقال:
" إن بياض يوم يختلف ". وهذا غير تنزيل إطلاق مسير يوم على الغالب الموافق
لثمانية، فيحكم بتعين الثمانية وافقت مسير يوم أم لا، فإن التنزيل على الغالب
يوجب تيقنه لا تعينه، فيبقى الغير الغالب مسكوتا عنه ولا يوجب تعين الثمانية
مطلقا، لأن إطلاقها أيضا منزل على الغالب الموافق لمسير يوم، فالثمانية في بعض
اليوم مسكوت عنها، فراجع ما أفاده الشيخ العلامة الأنصاري (قدس سره) في بعض
تحريراته في صلاة المسافر (2).
وحيث عرفت موافقة مسير يوم لثمانية فراسخ بمقتضى النصوص. فاعلم أن الأمر
في هذين العنوانين يدور بين أمور، إما كونهما معرفين للشرط، وإما كونهما شرطا
وملاكا للحكم، إما تعيينا وإما تخييرا، وإما كون أحدهما المعين شرطا والآخر
معرفا له، لا مجال للأول، فإنه إنما يعقل كونهما معرفين إذا كان ما يقبل أن يكون
شرطا كما في خفاء الأذان وخفاء الجدران، بالنسبة إلى البعد المخصوص عن البلد في
نظر الشارع، وأما السير، فهو إما متكمم بالكمية الزمانية الغير القارة، وإما متكمم
بالعرض بالكمية القارة المكانية المساحية، ومع قطع النظر عن الكمية الاتصالية من
الوجهين لا يبقى إلا طبيعة السير المهملة اللا متعينة بأحد التعينين، وهي مع أنها
ليست موضوع الحكم لا يعقل أن تكون إحدى الكميتين معرفة لها، بل منوعة لها،
ولا سبيل إلى الثاني، لأنه مع فرض الملازمة بين العنوانين كما عرفت، يغني شرطية

(1) الوسائل، ج 5، ص 491، الباب 1 من أبواب صلاة المسافر الحديث 2.
(2) كتاب الصلاة صفحة 389.
6

أحدهما عن الآخر ويلغو شرطية الآخر. كما إذا كان استقبال الجنوب شرطا فإنه
يلغو شرطية استدبار الشمال، وكما لا يعقل شرطيتهما معا تعيينا، كذلك لا يعقل
شرطية كليهما تخييرا، فإن شرطية أحدهما إلى بدل إنما تعقل في مورد انفكاك
أحدهما عن الآخر لا في مورد تلازمهما، فينحصر الأمر في الثالث وهو كون أحدهما
المعين شرطا والآخر معرفا. وهذا وإن لم يكن له ثمرة عملية، إلا أن الظاهر شرطية
مسير يوم ومعرفية " الثمانية فراسخ "، لتعذر معرفة موافقة المسير لما هو المعتبر من سير
القطار بين الحرمين. فكذا جعلوا له معرفا يسهل تناوله ومعرفته. وإنما قلنا بأن
الظاهر شرطية مسير يوم لقوله (عليه السلام): " جرت السنة ببياض يوم " (1). ولما
في رواية الفقيه: " إنما وجب التقصير في ثمانية فراسخ لا أقل من ذلك ولا أكثر،
لأن ثمانية فراسخ مسيرة يوم للعامة والقوافل والأثقال فوجب التقصير في مسيرة يوم
الخ " (2). فإن ترتيب وجوب التقصير في مسيرة يوم يكشف عن أنه ليست حكمة
وغاية محضة، بل واجب بالأصالة، وإن وجوب التقصير في ثمانية فراسخ، لأجل
وجوب التقصير في مسيرة يوم، بل الأمر كذلك في قوله (عليه السلام): " إنما جعل
مسير يوم ثمانية فراسخ " (3)، فإنه كاشف عن أن العبرة بمسيرة يوم، وإنما عرفت
بثمانية فراسخ لكذا والله أعلم. هذا كله في الأخبار المعينة لمسيرة يوم تارة،
وللثمانية فراسخ أخرى وقد عرفت تلازمهما
وأما الأخبار الظاهرة في التخيير كروايات: زرارة (4) ومحمد بن مسلم (5)
وأبي أيوب (6) وأبي بصير (7)، فمقتضاها التقابل بين الأمرين لمكان العطف بأو،
وهو مناف لتلازمهما وتوافقهما الذي دلت عليه النصوص، وقد حملها الشيخ المحقق

(1) الوسائل، ج 5، ص 493، الباب 1 من أبواب صلاة المسافر الحديث 15.
(2) الوسائل، ج 5، ص 490، الباب 1 من أبواب صلاة المسافر الحديث 1 من لا يحضره الفقيه، ج 1
ص 290، باب 61 باب علة التقصير في السفر، ح 1.
(3) الوسائل، ج 5، ص 491، الباب 1 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 2.
(4 7) الوسائل، ج 5، الباب 1 و 2 من أبواب صلاة المسافر.
7

الأنصاري (1) (قدس سره) على التقابل بحسب علم المكلف، مع أنهما لو كانا
متلازمين واقعا وعلمت الملازمة لكانا متلازمين علما لا متقابلين علما، فإن تقابلهما
علما معناه إن العلم بأحدهما لا يجامع العلم بالآخر، أو أنه ينفك العلم بأحدهما
عن العلم بالآخر. والظاهر أن التقابل بلحاظ السبق واللحوق علما، والسبق
واللحوق متقابلان، ولا منافاة بين التلازم واقعا وعلما، والتقابل بين سبق العلم
بأحدهما ولحوق العلم بالآخر كما في العلة والمعلول، فإنهما متلازمان واقعا وعلما،
لكنه ربما ينتقل من العلة إلى المعلول، وربما ينتقل من المعلول إلى العلة، فالانسان
بحسب مباديه العلمية ربما يعلم أنه ثمانية فراسخ فينقل العلم بالتلازم إلى أنه مقدار
مسير يوم بالسير المعتدل، وربما بحسب تجربته مرارا يعلم أن المسافة مقدار مسير يوم
بالسير المعتدل فينتقل إلى أنه ثمانية فراسخ مساحة، والغالب هو الأول، ولذا
جعلت الثمانية حدا ومعرفا. والظاهر من قوله (عليه السلام): " بياض يوم أو بريدان " (2)
وإن كان التخيير بين الأمرين بنفسهما لكنه لما كان في مقام استعلام المسافة
الموجبة للقصر وتعريفها فلذا جعلنا التقابل بلحاظ السبق واللحوق علما، بل إذا
جعلنا الشرط نفس إحراز مسيرة يوم لا القصد والإرادة، أو نفس المسافة فوجوده
الواقعي عين وجوده العلمي، وحينئذ فملازمة الموصوف بالمعرفية لا بد وأن يكون
إحراز ثمانية فراسخ، لاستحالة التلازم بين الوجود العلمي لشئ، والوجود
الواقعي لشئ آخر، فتدبره فإنه حقيق به.
الأمر الثاني
في شمول الثمانية فراسخ للامتدادية والتلفيقية
ومختصر القول فيه: إن ظاهر أخبار (البريدين) و (الثمانية فراسخ) هي
الامتدادية حتى بملاحظة بعض ما ورد في التلفيق، كرواية سليمان بن حفص:

(1) كتاب صلاة، ص 389.
(2) الوسائل، ج 5، ص 492. الباب 1 من أبواب صلاة المسافر الحديث 11.
8

" التقصير في الصلاة بريدان، أو بريد ذاهبا وجائيا " (1) فإن التقابل يقتضي كون
البريدين امتداديين لا جامعا بين الأمرين، فإنه لا تقابل بين الكلي وفرده. مضافا
إلى أن " الثمانية فراسخ " ظاهره في هذه المرتبة من العدد حقيقة بين المبدء والمقصد،
ففرض المبدء تارة مبدأ، وأخرى مقصدا، ولا يوجب أن يكون بينهما ثمانية فراسخ
إلا بالاعتبار لا بالحقيقة، مثلا بين النجف وكربلاء اثنا عشر فرسخا سواء لوحظ
المبدء من النجف أو من كربلاء، وفرض النجف تارة مبدءا وأخرى منتهى
لا يوجب أن يكون ما بين البلدين أربعة وعشرين فرسخا " وعليه فإذا أضيف إلى هذا
العدد شئ فقيل: سر، أي بقدر عشرين فرسخا، كان ظاهرا في مطلوبية السير المضاف
إلى هذا العدد حقيقية لا إليه ولو بالاعتبار، فكذا إذا جعل شرطا لحكم.
لا يقال: إذا ذهب أربعا ورجع أربعا فقد سار حقيقة ثمانية فراسخ، وإن لم
يصدق على ما بين المبدء والمقصد أنه ثمانية فراسخ، والعبرة بالسير المتكمم بهذه
الكمية لا بنفس المساحة المكانية.
لأنا نقول: حقيقة السير وإن كان متكمما بهذه الكمية لكن المساحة الموجبة
لهذه الكمية، ليست ثمانية بالذات، بل ثمانية بالعرض، لفرض
كونها مقومة لثمانية قطع من قطعات السير، والمفروض ظهور
الثمانية في هذا العدد بالذات لا بالعرض، فهو كما إذا قيل: امسح
شيئين فمسح شيئا مرتين، فإن تعدد المسح حقيقي وتعدد المقوم له اعتباري. مضافا
إلى أن ظاهر قوله " يخرج في سفره.. الخ " (2) يراد به الخروج من بلده إلى غيره
وهو السفر. ومن الواضح أن البعد عن الوطن مثلا لا يعقل أن يغيى بالقرب إلى
وطنه، فمنتهى البعد هو منتهى ثمانية فراسخ وهو منتهى مسيرة يوم من بلده، فلا تعم
الثمانية المنتهية إلى بلده فتدبر.
ومما ذكرنا تبين أن أدلة اعتبار الثمانية لا إطلاق لها بحيث يشمل التلفيقية،

(1) الوسائل، ج 5، ص 495. الباب 2 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 4.
(2) الوسائل، ج 5، ص 493، الباب 1 من أبواب صلاة المسافر الحديث 16.
9

وإنما التلفيق يستفاد من أخبار أخر، وهي كثيرة.
ومجمل الكلام فيه: أن جملة من الصحاح صريحة في أن أدنى ما يقصر فيه
بريد، وهي أربعة فراسخ. ففي صحيحة زرارة " التقصير في بريد، والبريد أربعة
فراسخ " (1). وفي صحيحة أبي أيوب " قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أدنى
ما يقصر فيه المسافر؟ قال (عليه السلام): بريد " (2). وفي صحيحة إسماعيل بن
الفضل الهاشمي " قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام): عن التقصير، فقال
(عليه السلام): في أربعة فراسخ " (3) وفي صحيحة زيد الشحام " قال: سمعت أبا
عبد الله (عليه السلام) يقول: يقصر الرجل في مسيرة اثني عشر ميلا " (4). إلى غير
ذلك مما يؤدي هذا المعنى، ومنافاته لما سبق من اعتبار الثمانية رأسا واضحة،
ولا استبعاد أن تكون الأربعة أدنى ما يوجب القصر، فهو تخفيف بعد التخفيف في
أصل القصر إلا أنه لا يعقل أن يكون الأكثر سببا للقصر على حد سببية الأقل
المأخوذ لا بشرط، فلا بد من حمل أخبار الأربعة على الرخصة وأخبار الثمانية على
العزيمة.
إلا أنه هناك طائفة من الأخبار شارحة لكلتا الطائفتين.
منها: صحيحة معاوية بن وهب " قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) أدنى
ما يقصر فيه المسافر الصلاة؟ فقال (عليه السلام): بريد ذاهبا وبريد جائيا " (5).
ومنها: مصححة سليمان بن حفص " قال: قال الفقيه (عليه السلام): التقصير
في الصلاة بريدان أو بريد ذاهبا وبريد جائيا " (6) الخبر. وغاية ما يستفاد منهما
إلحاق الملفق بالامتدادي في الحكم.

(1) الوسائل، ج 5، ص 494، الباب 2 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1.
(2) الوسائل، ج 5، ص 497 الباب 2 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 11.
(3) الوسائل، ج 5، ص 495، الباب 2 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 5.
(4) الوسائل، ج 5، ص 495، الباب 2 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 3 مع اختلاف يسير.
(5) الوسائل، ج 5، ص 494، الباب 2 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 2.
(6) الوسائل، ج 5، ص 495، الباب 2 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 4.
10

ومنها: صحيحة زرارة: " قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن التقصير،
قال (عليه السلام): بريد ذاهب وبريد جائي " (1) " وكان رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) إذا أتى ذبابا قصر. وذباب على بريد وإنما فعل ذلك لأنه إذا رجع
كان سفره بريدين ثمانية فراسخ " (2).
ومنها موثقة ابن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) " قال: سألته عن التقصير،
قال (عليه السلام): في بريد، قلت بريد؟ قال (عليه السلام): إذا ذهب بريدا
ورجع بريدا فقد شغل يومه " (3). ويظهر من هاتين الروايتين أن الثمانية الملفقة
ليست موضوعا آخر للحكم على حد موضوعية الثمانية الامتدادية، بل الاعتبار في
المسافة بالعنوان الجامع، فالثمانية الامتدادية والملفقة شرط بعنوان كونهما ثمانية
فراسخ من دون خصوصية للامتدادية، كما أنه شرط أو معرف باعتبار جامع آخر
وهي: " مسيرة يوم " فإن المراد " بشغل اليوم " استيعابه بالسير فيكون الاعتبار
بكونه بمقدار سير يوم من دون نظر إلى الامتداد.
وحيث عرفت أن باب هذين التعليلين باب إدراج الصغرى تحت كبرى كلية،
هو عنوان الشرط، تعرف قوة القول بالتلفيق كيفما اتفق ولو كان مسافة الذهاب
أقل من أربعة مع تتميمها ثمانية بالإياب من طريق أبعد. فإن توهم كون التعليل
حكمة، مدفوع بأن التعليل بعنوان حصول الشرط، وهو العنوان الجامع بين الامتداد
والتلفيق، ولا يعقل أن يكون عنوان الشرط حكمة للاشتراط. فحديث دوران الأمر
بين كونه حكمة وعلة ناقصة، أو علة تامة، غير صحيح هنا بالخصوص وإن أمكن في
غيره.
ولا يتوهم منه صحة التردد مرارا في حصول الثمانية التي هي شرط، لأن ظاهر
التعليل حصول الشرط بالذهاب من منزله والإياب إليه لا بذهابات وإيابات.
وما ورد من أن أدنى التقصير بريد فبالنظر إلى الغالب من اتحاد طريق الذهاب

(1) الوسائل، ج 5، ص 498، الباب 2 من أبواب صلاة المسافر الحديث 14 و 15 وذباب
جبل قرب المدينة على نحو بريد. مجمع البحرين.
(2) الوسائل، ج 5، ص 498، الباب 2 من أبواب صلاة المسافر الحديث 14 و 15 وذباب
جبل قرب المدينة على نحو بريد. مجمع البحرين.
(3) الوسائل، ج 5، ص 496، الباب 2 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 9.
11

والإياب، فإنه إذا كان أقل من بريد كان المجموع أقل من الثمانية.
ولا يتوهم أن الجامع طبيعي البريدين المنطبق على الامتداديين والملفق منهما،
بشهادة قوله (عليه السلام) في مقام التعليل -: " لأنه إذا رجع كان سفره
بريدين " (1) وسائر أنحاء التلفيق ليس من الملفق من بريدين، فإنه توهم فاسد
لوضوح أن البريد معرف معروف لأربعة فراسخ لا أنه بعنوانه شرط، ولذا قال
(عليه السلام): - في مقام التعليل: " لأنه إذا رجع كان سفره بريدين ثمانية
فراسخ " فأوضح عنوان الجامع بقوله: " ثمانية فراسخ ". وما ذكرنا في هذا
العنوان الجامع من اقتضاء اعتبار مطلق التلفيق جار في التعليل الآخر بقوله (عليه
السلام): " إذا ذهب بريدا ورجع بريدا فقد شغل يومه " (2) بناء على إرادة شغل
مقدار يوم ولو من أيام، فإن الملفق بأي نحو كان، شاغل لمقدار يوم. هذا والأحوط
الاقتصار على التلفيق من أربعة ذهابية وأربعة إيابية الملحوظتين لا بشرط من حيث
الزيادة.
(أدلة القول بعدم اعتبار الرجوع ليومه)
الأمر الثالث
بعد صحة التلفيق هل يعتبر كون الرجوع ليومه أو لا يعتبر؟
فيه خلاف عظيم وأقوال كثيرة، وأنهاها بعض أعلام السادة (قدس سره) (3)
إلى العشرة، والعمدة هو القول بالاثبات والنفي مطلقا.
وما يمكن أن يقال في وجوب القصر على مريد الرجوع ولولا ليومه أمور:
منها: إطلاقات أخبار التلفيق (4)، لوضوح كونها في مقام تحديد المسافة ولم يقيد
فيها الرجوع المتمم للحد بكونه في يوم الذهاب. ويؤكده إدراج الملفق تحت عنوان

(1) الوسائل: ج 5، ص 498، الباب 2 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 15.
(2) الوسائل: ج 5، ص 496، الباب 2 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 9 مع اختلاف يسير.
(3) الظاهر مؤلف مفتاح الكرامة في ج 3، ص 503.
(4) الوسائل: ج 5، ص 494 إلى 499، الباب 2 من أبواب صلاة المسافر.
12

جامع بينه وبين الامتدادي ولا يعقل مع وحدة الجامع وعدم اعتبار كون الفراسخ
الامتدادية في يوم واحد أن يختلف هذا الجامع بالصدق على المتصل والمنفصل في
الامتدادي وعدم الصدق، إلا على خصوص المتصل في التلفيقي. كما لا يعقل
اختصاص التعليل بقوله (عليه السلام): " لأنه إذا رجع كان سفره ثمانية
فراسخ " (1) بخصوص الرجوع ليومه لأن الرجوع يحقق الثمانية عقلا، سواء كان في
يوم الذهاب أو في غيره.
وأما التقابل بين بريدين وبريد ذاهبا وبريد جائيا فمن باب تقابل الفردين
لجامع واحد لا من باب أن كل واحد منهما شرط مستقل ينوب أحدهما مناب
الآخر. فلا تجب مساواة أحدهما للآخر في جميع الجهات، لصراحة التعليل باندراج
الملفق تحت جامع ينطبق عليه وعلى الامتدادي.
ومنه يتضح أن هذا المعنى أجنبي عن الحكومة والتنزيل حتى يتوهم أن تنزيل
الملفق منزلة الامتدادي في الشرطية لا يقتضي الاشتراك في سائر الآثار وذلك لأن
معنى الحكومة الحكم على الملفق بعنوان أنه امتدادي، فهو ملفق حقيقة، امتدادي
عنوانا، كتنزيل الظن منزلة العلم بعنوان أنه علم. ومن البين أنه ليس لسان
التعليل أن الملفق مسافة امتدادية عنوانا بل هو ثمانية فراسخ وهي الشرط، فتدبره
جيدا.
والانصاف قوة الاطلاقات فمنعها مكابرة. إلا أن الدعوى تقييدها بموثقة
محمد بن مسلم (2)، بل هي من أقوى أدلة القائلين باعتبار الرجوع ليومه. ومورد
الحاجة منها قال (عليه السلام): " إذا ذهب بريدا ورجع بريدا فقد شغل
يومه ". بتقريب أن الظاهر من قوله (عليه السلام): " شغل يومه " هو فعلية
الشغل، ولا يكون الرجوع المنضم إلى الذهاب شاغلا فعليا ليوم المسافر إلا إذا اتصل
إيابه بذهابه وإلا لم يكن شاغلا بالفعل، بل بالامكان والتقدير.

(1) الوسائل: ج 5، ص 498، الباب 2 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 15.
(2) الوسائل: ج 5، ص 496، الباب 2 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 9.
13

وتنقيح المقام: إن ظاهر الروايات المفسرة لمسيرة يوم بسير الأثقال بين مكة
والمدينة (1)، وإن كان إشارة إلى مسير معتدل في يوم واحد تام، إلا أنه ليس
مقتضاه تعين القصر على من سار سيرا معتدلا في يوم واحد تام، لوضوح اختلاف
سير المسافرين بالسرعة والبطئ والاعتدال، وبكونه في يوم أو أيام أو في ساعات من
أيام. فلا محالة يكون السير المشار إليه مقياسا لأنحاء السير المختلف في الكيفية
والكمية الزمانية، ومقتضاه تقدير السير بنحو الاعتدال، وإن كان الواقع سريعا أو
بطيئا، وتقدير اليوم الواحد التام وإن كان الواقع متكمما بساعات من أيام.
إذا عرفت ذلك نقول: إن مقتضى قوله (عليه السلام): " إذا ذهب بريدا
ورجع بريدا فقد شغل يومه " (2) وإن كان فعلية شاغلية السير الملفق ليوم واحد تام
عند فعلية السير الملفق، إلا أن مقام التحديد وجعله ميزانا ومقياسا، يقتضي إرادة
شاغلية السير الملفق لمقدار يوم واحد لا لنفسه، ولذا لا شبهة في أنه إذا ذهب بريدا
ورجع بريدا في نصف يوم لسرعة سيره كان موجبا للقصر مع أنه غير شاغل ليوم
واحد فعلا بل ليوم واحد تقديرا، وهو المراد بمقدار يوم لا نفسه. مضافا إلى أن ظاهر
هذا التعليل كظاهر التعليل الآخر من حيث إرادة اندراج الملفق تحت عنوان مسيرة
يوم تارة، وعنوان ثمانية فراسخ أخرى، لا أنه موضوع آخر موجب للقصر حتى يقال
لا يضر انفكاكه عن السير الامتدادي في أيام.
ودعوى أن نفس الشغل المساوق للمشقة يقتضي تعين الرجوع ليومه فإنه الذي
يظهر معه مشقة السير.
مدفوعة بأن الشغل لا بمفهومه يقتضي المشقة ولا بلازمه، لأن الشغل ينسب إلى
الخير والشر، والأمر الهين والشاق، ولا حاجة إلى الجواب بأنه حكمة لا يجب
إطرادها، بل شغل اليوم بالسير يزيد على التلبس بالسير بخصوصية كون السير مانعا
عن التلبس بأضداده. وكما أن شغل يوم واحد تام بالسير يلازم عدم إمكان

(1) الوسائل، ج 5، ص 490، الباب 1 من أبواب صلاة المسافر الحديث 1.
(2) الوسائل، ج 5، ص 496، الباب 2 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 9.
14

التلبس بأضداده في نفس ذلك اليوم، كذلك التلبس في نصفين من يومين يمنع عن
التلبس بأضداده في مقدار يوم واحد. فالعمدة في الباب هو التصرف في اليوم بإرادة
مقداره دون نفسه، وإلا فقضية الفعلية في الشاغلية، أو اقتضاء الشغل بمفهومه أو
بلازمه كما أطنب فيه الباحثون عن المسألة أجنبية عن المقصود، والله المسدد.
ومنها: أخبار عرفات (1) وهي كثيرة مشتملة على تشديد بالغ على المتمين في
هذا السفر، إلا أن جملة منها مشتملة إما صدرا أو ذيلا على ما يرد عليه بعض
الاعتراضات، ويكفي في الباب بعض الروايات الخالية عن تلك المحاذير كصحيحة
معاوية بن وهب (2) " إنه قال لأبي عبد الله (عليه السلام): إن أهل مكة يتمون الصلاة
بعرفات، فقال (عليه السلام): ويحهم أو ويلهم وأي سفر أشد منه لا تتم " (3) وفي
نسخة أخرى لا تتموا. وموثقة معاوية بن عمار " قال: قلت لأبي عبد الله (عليه
السلام): في كم التقصير؟ فقال (عليه السلام): في بريد ألا ترى أن أهل مكة إذا خرجوا
إلى عرفة كان عليهم التقصير " (4). وقد تضمن هذا الخبر الشريف للموضوع
وحكمه، وأما ما في بعضها: " ويحهم كأنهم لم يحجوا مع رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) فقصروا " (5) فربما يعترض عليه بما محصله بتوضيح مني إن حجه
(صلى الله عليه وآله) قبل الهجرة ليس مرتبطا بالمقام فإن آية التقصير نزلت
في المدينة، وأول سفر قصر النبي (صلى الله عليه وآله) فيه سفره إلى ذي
خشب وهو بريدان من المدينة فقصر وأفطر كما نص بكل ذلك الأخبار. وأما حجه
بعد الهجرة فلم يحج (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا حجة الوداع، وقيل إنه ثبت
بالأخبار ونص أهل السير والآثار أن خروجه لحجة الوداع كان يوم السابع
والعشرين من ذي القعدة، وفي صحيحة معاوية بن عمار: " في أربع بقين من ذي

(1) الوسائل، ج 5، ص 499، الباب 3 من أبواب صلاة المسافر.
(2) والصحيح " معاوية بن عمار ".
(3) الوسائل، ج 5، ص 499، الباب 3 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1.
(4) الوسائل، ج 5، ص 500، الباب 3 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 5.
(5) الوسائل، ج 5، ص 500، الباب 3 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 6.
15

القعدة) (1) ودخل مكة في أربع من ذي الحجة بحيث لم يبق له (صلى الله عليه وآله
وسلم) مجال للإقامة بها، فقصره (صلى الله عليه وآله) مستند إلى سفره من
المدينة لا إلى سفره من مكة، قيل ولم يلزم انقطاع سفره بورود مكة لأنه لم يبق له
(صلى الله عليه وآله) ملك بها لأن عقيلا باع داره (صلى الله عليه وآله
وسلم) ولذا قال (صلى الله عليه وآله): - حين قيل له أتنزل دارك غدا؟
وهل ترك لنا عقيل دارا؟ (2) ويمكن اختيار الشق الثاني.
ودفع الاشكال بأن المرور إلى الوطن كاف في انقطاع السفر ولم يشترط في
الوطن الأصلي أن يكون للمتوطن ملك كما سيجئ إن شاء الله تعالى
ومن البعيد جدا إعراضه (صلى الله عليه وآله) عن هذا الوطن العزيز مع
كمال العلقة القلبية منه (صلى الله عليه وآله) به فتدبر.
وبالجملة فمن المسلم بالأخبار والآثار أن المسافة من مكة إلى عرفات أربعة
فراسخ، كما أنه من المسلم عدم الرجوع ليومه للسواد الأعظم مع الترتيب المنتظم
للحاج من حيث الخروج يوم التروية والبيتوتة بمعنى ليلة عرفة، والخروج في نهارها
إلى عرفات، والبقاء فيها إلى الغروب والبيتوتة بمشعر الحرام، وإتيان جملة من
المناسك يوم العيد، مع عدم تعين زيارة البيت في يوم العيد، فلا رجوع ليومه بوجه.
فهذه الأخبار بعد التقييد بأخبار التلفيق من أقوى الأدلة على عدم اعتبار
الرجوع ليومه ولا إعراض عنها.
وتوضيح المقام: إن أخبار عرفات كالأخبار السابقة المتضمنة للبريد ظاهرة في
أن أربعة فراسخ حد السفر، وكون المورد هنا مما له الرجوع لغير يومه، لا يقتضي
اعتبار أصل الرجوع فالمائز بين هاتين الطائفتين أن هذه الطائفة يتعين في موردها
الرجوع دون تلك الطائفة. فهذه الأخبار بنفسها معارضة لظاهر أخبار الثمانية
الامتدادية، ولظاهر أخبار التلفيق، ولظاهر ما يدعى دلالته مما سيأتي إن شاء الله

(1) الوسائل، ج 8، ص 150، الباب 2 من أبواب أقسام الحج، الحديث 4.
(2) كتاب أخبار مكة، الجزء الثاني، ص 162، وكذا في السير الحلبية.
16

تعالى على اعتبار الرجوع ليومه.
ووجوه الجمع بينها وبين أخبار الثمانية الامتدادية، وأخبار التلفيق ثلاثة:
أحدها: أن كلا من الثمانية والأربعة حد لتعين القصر، وشبهة التخيير بين
الأقل والأكثر، وعدم تأثير للزائد مع تأثير الأقل، مدفوعة بأخذ الأقل بشرط لا
بالنسبة إلى حد الأكثر، فالأربعة في ضمن الثمانية لا أثر لها حتى لا يبقى مجال لتأثير
الأكثر بل الأربعة ال‍ " بشرط لا " يستحيل تحققها في ضمن الأكثر لتباين اعتباري بشرط
لا وبشرط شئ، وعليه فماذا قصد الثمانية امتدادية أو ملفقة تعين القصر عليه لهذا
السبب بالخصوص، وإذا قصد ما دون الثمانية أي الأربعة بشرط عدم بلوغ الثمانية
أيضا تعين عليه القصر. فلا تصرف في شئ من الظهورين.
ثانيها: حمل أخبار الثمانية مطلقا على تعين القصر بنحو العزيمة، وأخبار عرفات
على الرخصة، إذ ليس مقتضى التحديد بالثمانية إلا تعين القصر، ومفهومه ارتفاع
تعين القصر بعدم بلوغ المسافة ثمانية فراسخ لا وجوب الاتمام تعيينا، فلا ينافي
الرخصة في القصر بمقتضى هذه الأخبار، فلا تصرف إلا في أخبار (الأربعة فراسخ)
برفع اليد عن تعين القصر، فيتخير في الأربعة بين القصر والاتمام، حيث لا يمكن
الالتزام بتعينهما معا للشبهة السابقة.
ثالثها: التخيير بين الأخذ بأخبار الثمانية وطرح أخبار الأربعة فيتم، والأخذ
بأخبار الأربعة وطرح ما ينافيها فيقصر، نظرا إلى تكافؤهما، والبناء على التخير في
الخبرين المتعارضين دون التساقط في مورد التعارض.
والجواب أما عن الوجه الأول: فإن التعليل بقوله (عليه السلام): " لأنه إذا
رجع كان سفره ثمانية فراسخ " (1). ظاهر في أن الثمانية الملفقة عين موضوع الحكم
لا موضوع آخر، وظاهر قوله (عليه السلام): " فقد شغل يومه " (2) أي مقداره كذلك
فيعلم أن الاقتصار على الأربعة لأن رجوعه أيضا أربعة، والمجموع هو السبب الوحيد

(1) الوسائل: ج 5، ص 498، الباب 2 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 15.
(2) الوسائل: ج 5، ص 496، الباب 2 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 9.
17

لتعين القصر، لا أن الأربعة مأخوذة بشرط لا وأنها سبب آخر.
وأما عن الوجه الثاني: مضافا إلى ما عرفت، فهو مناف لهذا التشديد العظيم،
" والطعن على عثمان، وامتناع أمير المؤمنين (عليه السلام) عن إتيان القصر أربعا
بعد أن صلى عثمان الظهر أربعا حتى أن المحكي في الصحيح أن معاوية اعترف عند
أصحابه بأن السنة إتيان الصلاة قصرا وأن الاتمام خلاف ما سنه النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) " (1) فإرجاع هذه التشديدات إلى الالتزام بالاتمام لا إلى نفس
الاتمام، في غاية الانحراف عن جادة الانصاف.
وأما عن الوجه الثالث: فقد اتضح من شاهد الجمع المخرج لهما عن التعارض
فلا تصل النوبة إلى التخير بين الخبرين. فتدبر جيدا.
وأما إذا لوحظت نسبة أخبار عرفات بعد إرادة الأربعة ذهابا، والأربعة إيابا
مع ما سيأتي إن شاء الله تعالى مما استدل به على تعين الاتمام مع عدم الرجوع
ليومه، فربما يقال بأن المرجع بعد تكافؤهما، عمومات أخبار الثمانية الامتدادية، نظرا
إلى أن مقتضى التحديد وجوب الاتمام مع عدم الثمانية الامتدادية والمتيقن في
تخصيصها الثمانية الملفقة مع الرجوع ليومه، فيبقى غيره تحت عموم المفهوم، إلا أن
الظاهر مع التكافؤ والتساقط الرجوع إلى إطلاقات أخبار التلفيق لابتلاء المقيد لها
بالمعارض، فالاطلاقات على حالها. وأما بناء على عدم التساقط في الخبرين فهل
يجب الجمع بينهما بالتصرف فيهما أو في أحدهما، فلا تصل النوبة إلى الترجيح أو
التخيير مع إمكان الجمع نظرا إلى أن كلا من الدليلين نص في الجواز وظاهر في
التعيين فيرفع اليد بنصوصية كل منهما عن ظاهر الآخر؟ أو أن الجمع الذي هو
أولى من الطرح إذا لم يوجب التصرف في كلام المتعارضين؟ وتمام الكلام في محله.
هذا كله في الوجه الثاني من وجوه الاستدلال.
ومنها: الأخبار الخاصة الواردة في موارد مخصوصة، وأوضحها دلالة على المقصود

(1) الوسائل، ج 5، ص 500، الباب 3 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 9.
18

ما رواه البرقي في المحاسن (1)، والصدوق في العلل (2)، بل في الكافي (3) إلى حد
التعليل الآتي عن إسحاق بن عمار قال: " سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن قوم
خرجوا إلى سفر فلما انتهوا إلى الموضع الذي يجب فيه التقصير قصروا من الصلاة،
فلما صاروا على فرسخين أو ثلاثة فراسخ أو أربعة فراسخ تخلف عنهم رجل
لا يستقيم لهم سفرهم إلا به فأقاموا ينتظرون مجيئه إليهم، وهم لا يستقم لهم السفر إلا
بمجيئه إليهم، فأقاموا على ذلك أياما لا يدرون هل يمضون في سفرهم أو ينصرفون،
هل ينبغي لهم أن يتموا الصلاة أو يقيموا على تقصيرهم؟ قال (عليه السلام): إن
كان بلغوا مسافة أربعة فراسخ فليقيموا على تقصيرهم أقاموا أو انصرفوا، وإن كانوا
ساروا أقل من أربعة فراسخ فليتموا الصلاة أقاموا أو انصرفوا فإذا مضوا فليقصروا.
ثم قال (عليه السلام): هل تدري كيف صار هكذا؟ قلت: لا، قال (عليه
السلام): لأن التقصير في بريدين، ولا يكون التقصير في أقل من ذلك، فإذا كانوا
ساروا بريدا وأرادوا أن ينصرفوا كانوا قد سافروا سفر التقصير، وإن كانوا قد
ساروا أقل من ذلك لم يكن لهم إلا إتمام الصلاة " (4).
وهذا الخبر صريح في الرجوع لغير يومه سؤالا وجوابا، وبملاحظة التعليل ظاهر في
أن ضم الاياب إلى الذهاب هو الموجب لتعين القصر، وحيث إن قاطع الأربعة
جازم بأن سفره ثمانية إما لرجوعه إلى بلده أو لمضيه إلى مقصده فلا يضره التردد
بين الأمرين مع انحفاظ الجامع في البين، وقد تقدم سابقا إن الذي يجب قصده هو
الجامع المنطبق على الثمانية الامتدادية والتلفيقية والخصوصيات غير دخيلة فلا يجب
قصدها، ولا يضر قصد خلافها من أول الأمر، ولا التردد فيها في الأثناء. وأما رمي
الخبر بضعف السند مع كونه مرويا في الكافي والمحاسن والعلل فأظنه من جهة محمد بن

(1) المحاسن، ص 213، كتاب العلل من المحاسن، الحديث 29 مع اختلاف يسير.
(2) علل الشرايع ص 367 الحديث 1. مع اختلاف في بعض ألفاظ الحديث.
(3) الفروع من الكافي المجلد 3. ص 433. باب حد المسير الذي تقصر فيه الصلاة. الحديث 5 مع
اختلاف يسير.
(4) الوسائل، ج 5، ص 501، الباب 3 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 10.
19

أسلم الجبلي في السند، مع أنه ذكر الشيخ في فهرسته: (ابن الجبلي له كتاب أخبرنا
به أبو عبد الله المفيد (رحمه الله)، عن محمد بن علي بن الحسين، عن أبيه، ومحمد بن
الحسن عن سعد، والحميري، ومحمد بن يحيى، وأحمد بن إدريس عن محمد بن
الحسين بن أبي الخطاب عنه) (1). ومنه يظهر قوته مع أن ضعفه إنما
هو لرميه بالغلو، ومن الواضح أن الغلو في الصدر الأول عند أرباب الحديث ليس
من الغلو الموجب للفسق أو الكفر فإنهم يرون أن نفي السهو عن النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) من الغلو والله أعلم.
ويقرب من الرواية المتقدمة صحيحة عمران بن محمد " قال قلت: لأبي جعفر
الثاني (عليه السلام): جعلت فداك إن لي ضيعة على خمسة عشر ميلا، خمسة فراسخ
فربما خرجت إليها فأقيم فيها ثلاثة أيام أو خمسة أيام أو سبعة أيام فأتم الصلاة أم
اقصر؟ قال (عليه السلام): قصر في الطريق وأتم في الضيعة " (2).
وتقريب الدلالة أن الرجوع من الضيعة إلى منزله مفروض بملاحظة تحديد إقامته
بما دون العشرة وكون الرجوع لغير يومه أيضا كذلك ولا ينافي هذه الفقرة إلا أمره
(عليه السلام) بالاتمام في الضيعة فإنه لا محالة، بملاحظة كفاية الأربعة فما زاد في
التقصير كما هو ظاهر جملة من الأخبار المحددة بالبريد، وإلا فينقطع سفره بالوصول
إلى ضيعته.
وأحسن توجيه لها حملها على التقية لعدم اشتراط الاستيطان عند العامة فلا
ينقطع السفر بذلك واقعا والمفروض هو الرجوع لغير يومه فتدبر.
وأيضا يقرب من الرواية المتقدمة صحيحة أبي ولاد بملاحظة تعليله (عليه
السلام) بقوله: " لأنك كنت مسافرا إلى أن تصير إلى منزلك ". (3) فإنه إشارة إلى
مناط السفر بقطع ثمانية فراسخ ولو ذهابا وإيابا، وهذا التعليل لا يعقل إناطته

(1) الفهرست ص 130. وبدل محمد بن علي بن الحسين عن أبيه، ابن بابويه عن أبيه.
(2) الوسائل: ج 5، ص 523، الباب 14 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 14. مع اختلاف يسير.
(3) الوسائل: ج 5، ص 504، الباب 5 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1.
20

بالرجوع ليومه.
وأما سائر الروايات فدلالتها على عدم اعتبار الرجوع ليومه إنما هي بالاطلاق.
هذا كله فيما استند إليه القائل بعدم اعتبار الرجوع ليومه.
[أدلة القول باعتبار الرجوع ليومه]
وأما ما استند إليه القائل باعتبار الرجوع فهي روايات:
الأولى:
موثقة محمد بن مسلم بملاحظة التعليل بقوله (عليه السلام): " فقد شغل
يومه " (1). وقد تقدم تقريبه مع دفعه.
الثانية:
موثقة سماعة " قال: سألته عن المسافر في كم يوم يقصر الصلاة؟ فقال (عليه السلام): في
مسيرة يوم وذلك بريدان وهما ثمانية فراسخ، ومن سافر قصر الصلاة وأفطر إلا أن
يكون رجلا مشيعا لسلطان جائر أو خرج إلى صيد أو إلى قرية له، يكون مسيرة يوم
يبيت إلى أهله لا يقصر ولا يفطر " (2).
وتقريبها: إن الظاهر من الاستثناء ثبوت الموجب للقصر من حيث المسافة في
الموارد المستثناة، وباعتبار عروض المانع لا يجب القصر ولا يجوز الافطار ولا يكون
كذلك في الفقرة الأخيرة إلا بفرض المسافة فيما أقل من الثمانية امتدادا وإلا لو
بلغت الثمانية الامتدادية وجب القصر والافطار في الطريق وإنما ينقطع الحكم
بالوصول إلى قريته ففرض القصر والافطار في الطريق لولا المانع لا يتحقق إلا بكون
المسافة تلفيقية وهي في حد ذاتها يوجب القصر والافطار لكنه لوقوع المرور بالملك في
أثنائها لا يجوز فيها القصر والافطار.
إذا عرفت ذلك فنقول: إن تقييد مسيرة اليوم بقوله (عليه السلام): " يبيت إلى أهله ".

(1) الوسائل، ج 5، ص 496، الباب 2 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 9.
(2) ذكر صدر الحديث في الوسائل، ج 5، ص 492، الباب 1 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 8.
وذيله في الباب 8 الحديث 4.
21

يدل على اعتبار الرجوع ليومه الذي لازمه بيتوته إلى أهله ولو كفى الرجوع مطلقا لما
كان وجه لتقييد " مسيرة اليوم " بحيثية البيتوتة في الأهل، وليس ذلك من باب
الاستناد إلى مفهوم الوصف، بل من باب الاعتماد على مفهوم الحد في مقام تحديد
المسافة الموجبة للقصر فعلا، ولعدم القصر فعلا.
والجواب عنها ما مر مرارا من أن مقام التحديد مقام إعطاء المقياس والميزان
وإرادة مقدار يوم، وليس ما في الرواية بأقوى من قوله (عليه السلام): " جرت السنة
ببياض يوم " (1) فإنه لا يراد منه وقوع السير في النهار بحيث يعود ليلا إلى منزله في
المسافة التلفيقية فكذا المراد هنا أن المسافة التلفيقية بمقدار بحيث إذا ذهب ورجع
بات عند أهله، مع أن تمام النظر إلى أنه لا يقصر ولا يفطر لمروره بقريته في مسافته
الملفقة لا في مقام الحكم بالقصر والافطار ليدقق النظر في قيود الكلام بملاحظة مقام
التحديد.
الثالثة:
ما حكاه بعض علماء العامة حيث قال روي عن علي (عليه السلام): " إنه
خرج إلى النخيلة فصلى بهم الظهر ركعتين ثم رجع من يومه " (2). نظرا إلى أنه لولا
دخله في الحكم لما ذكره الراوي وإلا لكان بمنزلة، ثم أكل، أو شرب، أو نام.
وهي بعد فرض كون مقصده النخيلة دون الأنبار الذي أغار عليها عساكر الشام،
ومع الغض عن كونها عامية لا حجية لها، مدفوعة بأن ذكر الرجوع ليومه ليس لدخله
في القصر، بل لما حكي في هذه القضية أنه (عليه السلام) لما غضب من تخاذل
أصحابه خرج ماشيا إلى النخيلة فلحقه الأشراف وقالوا: نكفيك المؤونة، فرجع
(عليه السلام) من يومه.

(1) الوسائل، ج 5، ص 493، الباب 1 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 15.
(2) البحار، ج 89، ص 15، الباب 1 من أبواب القصر وأسبابه وأحكامه، ينقله عن الحسين بن
مسعود في شرح السنة.
22

الرابعة:
ما حكي عن الصدوق في المقنع (1) مرسلا، قال: " سئل أبو عبد الله (عليه
السلام) عن رجل أتى سوقا يتسوق وهي من منزله على أربع فراسخ فإن هو أتاها
على الدابة أتاها في بعض يوم، وإن ركب السفن لم يأتها في يوم، قال (عليه
السلام): يتم الراكب الذي يرجع من يومه صومه، ويفطر صاحب السفن " (2).
وحيث إن ظاهر صدوره مخالف إما للمشهور إذا أريد عدم الاكتفاء بالأربعة
ذهابا والأربعة إيابا وإما مخالف للمجمع عليه إذا أريد كفاية التلفيق، واعتبار
عدم الرجوع ليومه في القصر مع أنه إما يعتبر الرجوع ليومه في القصر أو لا يعتبر. والقول
باعتبار عدمه فيه خلاف الاجماع فلذا حاول جماعة لدفع الاشكال بوجوه:
منها: ما عن البحار (3) والوسائل (4) بتقريب أن مورد الخبر كما يفصح عنه
الجواب خصوص الصوم، وفيه: يمكن الذهاب والإياب في يوم واحد قبل الزوال
لقلة المسافة على الدابة، فالرجوع ليومه معتبر في إتمام الصوم بالنسبة إلى راكب
الدابة دون صاحب السفينة المفروض فيه أنه لا يصل معها إلى السوق في يوم لبعد
المسافة.
ويندفع: بأن فرض الذهاب أربعة والإياب أربعة على الدابة في نصف يوم
فرض بعيد، خصوصا مع قضاء حاجته من السوق، مع أن المفروض في الخبر هو
رجوعه ليومه لا رجوعه قبل الزوال من يومه.
ومنها: ما في الوسائل (5) وهو حمله على الخروج بعد الزوال فإنه يجب عليه
إتمام الصوم.
وفيه: أولا: إن الخروج بعد الزوال لا يختص براكب الدابة، بل يجري في

(1) المقنع ص 17 باب تقصير المسافر في الصوم. إلا أنه ذكر " على سبع " بدل " على أربع ".
(2) الوسائل: ج 5، ص 503، الباب 3 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 13.
(3) البحار: ج 89، ص 13.
(4) الوسائل: ج 5، ص 502، الباب 3 من أبواب صلاة المسافر في ذيل حديث 13.
(5) نفس المصدر السابق.
23

راكب السفينة أيضا.
وثانيا: إن خروجه بعد الزوال ورجوعه ليومه، فيه الاستبعاد المتقدم، وخروجه
بعد الزوال في يوم ورجوعه قبل الزوال في يوم آخر وإن كان معقولا وموجبا للصوم
في كلا اليومين، إلا أنه غير مفروض في الجواب.
ومنها: حمله على اعتبار الرجوع ليومه في المسافة التلفيقية بوجهين:
أحدهما: بدعوى تقدير أداة النفي على قوله: " يرجع من يومه "، بقرينة أن
السؤال عن المتسوق الذي لا يرجع من يومه، وحيث إن المقام بملاحظة القرينة
المزبورة لا يلتبس النفي فيه بالاثبات صح حذف حرف النفي، كما في باب القسم،
مثل قوله تعالى: " تالله تفتؤا تذكر يوسف " (1) أي لا تفتؤا بمعنى لا تزال، حيث إن
القسم على الاثبات لا بد من أن يكون مقرونا باللام والنون، فيقال: " تالله
لأفعلن " فمع عدم اللام والنون يعلم أن القسم على النفي، فلا مانع من حذف أداة
النفي لعدم الالتباس.
وفيه: إن كان عدم الالتباس كافيا في الحذف كلية صحت الدعوى المزبورة، إلا
أنه غير معلوم إلا في مورد القسم فالتعدي إلى غيره مشكل جدا.
ثانيهما: إبقاء قوله (عليه السلام): " يرجع من يومه " (2)، على حاله،
والاكتفاء في عدم الرجوع من يومه بقرينة السؤال المتضمن للذهاب إلى السوق
للتسوق المستلزم لعدم الرجوع في يوم ذهابه إليه عادة نظير أخبار عرفات المفروض
فيها عدم الرجوع ليومه. وحينئذ فالمراد من قوله (عليه السلام): " يرجع من
يومه " (3)، كقوله (عليه السلام) " بيت إلى أهله " (4) تحديد المسافة بكونها بحيث يمكنه
الرجوع من يومه. وعليه فمعناه إن راكب الدابة الذي يتمكن من الرجوع ليومه
ولا يرجع يتم صومه، فلا تصرف في شئ من أجزاء هذه الفقرة للدلالة على اعتبار

(1) يوسف: 85.
(2) الوسائل: ج 5، ص 502، الباب 3 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 13.
(3) الوسائل: ج 5، ص 502، الباب 3 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 13.
(4) الوسائل: ج 5، ص 492، الباب 8 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 4.
24

الرجوع ليومه، إلا في قوله (عليه السلام): " يرجع من يومه " (1)، بالتصرف الشايع في نظائر
المقام بقرينة كونه في مقام تحديد المسافة، وإعطاء الميزان والمقياس الذي لا يراد منه
فعلية البيتوتة، أو فعلية الرجوع من يومه.
وأما صاحب السفينة فإنما يجب عليه الافطار لبلوغ المسافة ثمانية امتدادية لما في
الأنهار من الدورات والاعوجاجات الموجبة لبعد المسافة بالإضافة إلى البر، لا لما في
حركة السفينة من البطئ بالإضافة إلى سير الدابة، وما في السؤال (2) من تحديد
المسافة بأربعة فراسخ لما هو المعتاد في التحديدات من ملاحظة البعد بين البلد
والمقصد بالنسبة إلى البر، إلا مع انحصار الطريق في البحر.
ومنه يظهر إن دعوى كون المسافة من طريق الماء أربعة، وإنه لمكان بطؤ سير
السفينة لا يتمكن من طي المسافة إلا في يوم أو أزيد وإن الموجب للقصر هو التلفيق
بالرجوع لغير يومه وإن المسافة بحسب البر أقل من أربعة فلذا يجب الاتمام، وإن
رجع ليومه.
مدفوعة بما عرفت، مع أن التقييد بقوله (عليه السلام): " يرجع من يومه " (3)
مما لا حاجة إليه إلا تنبيها على الحكم بالأولوية، بمعنى أنه يجب عليه الاتمام إذا
رجع ليومه، فضلا عما إذا لم يرجع ليومه كما هو مفروض السؤال.
وبالجملة فهذه الرواية بملاحظة ما ذكرنا أحسن ما في الباب، ولا ينبغي إدراجها
في المؤول في قبال النص والظاهر لئلا يصح الاستدلال بها إذ لا تصرف فيها بموجب
عقلي، لمنافاته لما هو المشهور، أو لما هو المجمع عليه، صونا للكلام حتى يعد من
المؤول. إلا أنه لا يكافؤ ظهورها في اعتبار الرجوع ظهور أخبار عرفات في عدم
اعتباره، ولا سنده من حيث إرساله للصحاح والموثقات الواردة في تلك الروايات
والله أعلم.

(1) الوسائل، ج 5، ص 502، الباب 3 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 13.
(2) الوسائل، ج 5، ص 502، الباب 3 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 13.
(3) نفس المصدر السابق.
25

الخامسة:
ما رواه عما كما في التهذيب " قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل
يخرج في حاجة فيسير خمسة فراسخ أو ستة فراسخ، فيأتي قرية فينزل فيها ثم يخرج
منها فيسير خمسة فراسخ أو ستة لا يجوز ذلك، ثم ينزل في ذلك المنزل (الموضع) قال
(عليه السلام): لا يكون مسافرا حتى يسير من منزله أو قريته ثمانية فراسخ فليتم
الصلاة " (1).
بتقريب: إن موجب الاتمام إما عدم سير ثمانية امتدادية وهو خلاف
النصوص المصرحة بكفاية التلفيق وإما عدم الرجوع في يومه المفروض في الرواية
الصريحة في النزول في القرية ولا أقل من يوم.
ويندفع بأن الجواب الذي هو كالتعليل لوجوب الاتمام لا يعقل أن يكون
منوطا بعدم الرجوع ليومه، فإن الملفق من فراسخ الذهاب والإياب، ثمانية وأزيد
سواء رجع ليومه أو لا، لما مر من استحالة دوران كونه ثمانية مدار الرجوع ليومه
فإن الملفق ثمانية على أي حال، فلا يمكن تنزيل الجواب على عدم الرجوع ليومه.
نعم ظاهره إن الخروج لأجل الحاجة فتمادى به السير إلى خمسة فراسخ أو ستة،
فالمفقود في هذا الفرض قصد المسافة وهو المعتبر في التكليف بالقصر دون قطعها
بمجرده، كما يؤكده وروايته الأخرى " عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن
الرجل يخرج في حاجة وهو لا يريد السفر فيمضي في ذلك يتمادى به المضي حيث يمضي به
ثمانية فراسخ كيف يصنع في صلاته؟ قال (عليه السلام) يقصر الخ " (2) فالمورد في
كليهما خال عن القصد، لكن حيث أن مسافة الذهاب أقل من ثمانية في الأول فلا
يقصر في إيابه وحيث إنها ثمانية في الثاني فيقصر في إيابه.
وبالجملة الموجب للاتمام ليس عدم كفاية التلفيق، ولا عدم الرجوع ليومه، بل
عدم القصد.

(1) الوسائل: ج 5، ص 504، الباب 4 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 3. التهذيب، ج 4،
ص 225، الباب 56 باب حكم من أفطر.. الحديث 36.
(2) الوسائل: ج 5، ص 503، الباب 4 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 2.
26

السادسة:
ما رواه الشيخ ونسبه بعض الفحول إلى العيص بن القاسم وتبعه بعض
المشايخ ولم يعلم له وجه باسناده عن عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله (عليه
السلام) قال: " سألته عن التقصير في الصلاة فقلت له: إن لي ضيعه قريبة من الكوفة
وهي بمنزلة القادسية من الكوفة فربما عرضت لي حاجة أنتفع بها أو يضر بي القعود
منها في رمضان فأكره الخروج إليها لأني لا أدري أصوم أو أفطر؟ فقال (عليه
السلام): فأخرج وأتم الصلاة وصم فإني قد رأيت القادسية الخبر " (1). والقادسية على خمسة
فراسخ تقريبا من الكوفة. ومع كفاية التلفيق كما هو المنصوص والمشهور لا موجب
للصيام والاتمام وإلا عدم الرجوع ليومه كما هو المفروض في السؤال بحسب العادة.
ويندفع بأن الموجب هو المرور بالملك والمنزل كما سيجئ إن شاء الله تعالى ولذا
أورد في موثقة ابن بكير بالإضافة إلى نفس القادسية الأمر بالقصر " قال: سألت أبا
عبد الله (عليه السلام) عن القادسية أخرج إليها أتم أو أقصر؟ قال (عليه السلام)
وكم هي؟ قلت: هي التي رأيت، قال (عليه السلام): قصر " (2) هذه جملة القول
في أدلة العاملين باعتبار الرجوع ليومه، وقد عرفت حالها بالإضافة إلى نفسها
وبالنسبة إلى أخبار عرفات ونحوها.
وأما ما في كتاب الفقه (3) المنسوب إلى مولانا الرضا (عليه السلام) من
التخيير بين القصر والاتمام مع عدم الرجوع ليومه كما هو المحكي عن المشهور بين
المتقدمين، فيجاب عنه. أولا: بعدم معلومية النسبة إليه (سلام الله عليه). وثانيا:
بأقوائية سائر ما ورد عنهم (سلام الله عليهم) سندا ودلالة فيرد علمه إليه (صلوات
الله عليه).

(1) الوسائل، ج 5، ص 521، الباب 4 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 4 التهذيب، ج 1،
ص 222 باب حكم المسافر والمريض في الصيام، الحديث 24.
(2) الوسائل، ج 5، ص 496، الباب 2 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 7.
(3) فقه الرضا، ص 161.
27

الأمر الرابع
كما لا فرق في المسافة بين الامتداد والتلفيق كذلك لا فرق فيها بين الاستقامة
والاستدارة لاطلاق الأدلة.
نعم ينبغي التكلم في أمرين: أحدهما: تحقيق مناط البعد، هل هو خلط السير
أو قطر الدايرة؟ وثانيهما: تحقيق الذهاب والإياب في الحركة المستديرة وإنهما يتبعان
الوصول إلى المقصد والخروج عنه أو الوصول إلى النقطة المسامتة لمبدء الحركة وهو
رأس القطر والتجاوز عنه.
وقد ذكر شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره) في كتاب الصلاة (1) صورا
ثلاثة:
إحداها: ما إذا لم يقصد المسافر إلا طي المسافة المستديرة، فحكم بأن مناط
البعد هو قطر الدائرة دون خط الحركة على محيط الدائرة وإن الحركة على أحد
القوسين ذهابية وعلى الآخر إيابية.
وثانيتها: ما إذا كان له مقصد على رأس القطر، أو على نصف القوس، فحكم
بأن مناط البعد هو خط الحركة دون قطر الدائرة، وإن الحركة إلى المقصد ذهابية،
وإن الحركة بعد الخروج إيابية سواء كان في قوس الحركة الذهابية أو في القوس
الآخر.
وثالثتها: ما إذا كان له مقاصد متعددة فجعل خط الحركة مناط البعد دون
القطر واستظهر أن الحركة إلى آخر المقاصد كلها ذهابية وإن كان قريبا من مبدء
الحركة.
وتحقيق المقام: أما في الصورة الأولى فنظر الشيخ (قدس سره) في جعل قطر
الدائرة مناطا للبعد ليس توهم أن الحركة المستديرة يقتضي جعل قطرها مناطا،
كيف وقد حكم بخلافه في الصورتين الأخيرتين، ولم يتوهم ولا يتوهم أحد أن أقصر

(1) في صلاة المسافر صفحة 412.
28

الخطوط هو مناط بين البلد والمقصد وهو هنا قطر الدائرة، كيف والكل ذهبوا إلى
حصول المسافة بسلوك الطريق الأبعد إذا كان طريقان للبلد، بل نظره (قدس
سره) إلى أن الشخص ليس له في هذه الصورة مقصد يلاحظ بعده عن البلد،
ولا منتهى الحركة مقصده لأنه عين مبدء الحركة، فلا يعقل أن تكون حركته لا جل
الكون في مبدء الحركة لحصوله قبل الحركة، بل نفس الحركة على وجه الاستدارة
مقصودة، ففرضه المرور على قطر الدائرة وهو بعدها على وجه الاستدارة، فمروره
الأول على القطر ذهاب، ومروره الثاني على ما يحاذي الأول إياب.
ويندفع بأن لزوم المقصد من قرية أو ضيعة ونحوهما بلا ملزم، بل المسافرة
يتحقق بالحركة بمقدار ثمانية فراسخ وطبع الحركة يقتضي ما منه الحركة وما إليه
الحركة، غاية الأمر إن ما إليه الحركة في الحركة المستقيمة غير ما منه الحركة، وفي
الحركة المستديرة متحد مع ما منه الحركة.
نعم الفرض تارة يتعلق بالوصول إلى ما إليه الحركة كما في الحركة المستقيمة
غالبا، وأخرى يتعلق بنفس الحركة المستديرة، كما إذا أراد مساحة الأرض بنحو
الاستدارة ليحدث فيها بستانا أو قرية محيطها كذا وكذا فرسخا وتفاوت الأغراض
لا يوجب تفاوتا في ناحية الحركة المستقيمة والمستديرة، ولا فيما إذا كان على أحد
قوسي المستديرة مقصد أولا.
ومما ذكرنا يتبين إن مقدار الحركة المعتبرة شرعا يلاحظ دائما بالنسبة إلى نفس
خط السير، مستقيما كان أو مستديرا، لا إلى قطر الدائرة فيما إذا لم يقصد محلا
مخصوصا على أطراف الخط المستدير.
ويتفرع على سقوط قطر الدائرة عن كونه مناطا للبعد المعتبر في المسافة شرعا: إن
الحركة في هذه الصورة كلها ذهابية إذ لم يقصد النقطة المسامتة لنقطة المبدء حتى
يكون التجاوز عنها إيابا ورجوعا، بل قصد السير المنتهي إلى مبدء الحركة لفرض
قصد الحركة إليه بنحو الاستدارة، فالحركة بين المبدء والمنتهى المقصودة بالذات
ذهاب لا إياب له. وعليه فإذا كان مجموع محيط الدائرة تسعة فراسخ كانت المسافة
المعتبرة متحققة بلا تلفيق حتى يعتبر فيها الرجوع ليومه على القول بله، وإن كان قطر
29

الدائرة ثلاثة فراسخ وهو ثلث المحيط.
وأما الصورة الثانية: وهي ما إذا كان له مقصد على رأس قطر الدائرة فلا
إشكال في أن خط السير هو مناط البعد من البلد إلى المقصد كما لا اشكال في أن
التجاوز عن رأس القطر رجوع وإياب. ففي المثال المتقدم يبتني على التلفيق
والرجوع ليومه. إنما الاشكال في أن المقصد إذا كان في نصف القوس فهل يتمم
بالباقي من القوس، حتى تكون الحركة على القوس كله حركة ذهابية فتتحقق
المسافة المعتبرة بنحو التلفيق المسلم، أو تكون الحركة الذهابية مقصورة على الحركة
إلى المقصد وهي أقل من أربعة فراسخ، فلا يتحقق التلفيق من أربعة ذهابية وأربعة
إيابية؟.
ومبنى المسألة على أن الاياب لا يتحقق إلا بالمرور على ما يحاذي خط الذهاب
ليكون مرورا ثانيا، أو يتحقق بمجرد التجاوز عن المقصد بأي وجه اتفق، وأما أن
صورة السير بعد المقصد صورة الذهاب، ولذا يتوهم أن الوصول إلى رأس الدائرة
والنقطة المسامتة لنقطة المبدأ مقصد ثان، فلا يجدي شيئا بعد سقوط قطر الدائرة عن
كونه ملاكا للبعد من البلد، وبعد كون جميع أجزاء الحركة مقصودة، وجميع
الوصولات إلى حدود المسافة مقصودة، إلا أنه أجنبي عن المقصد في قبال بلد
الحركة وعن البعد الملحوظ بين المبدأ والمقصد.
والتحقيق في المبنى هو الثاني، وهو أن الخروج عن المقصد بقصد السير إلى
البلد رجوع إلى بلده، ولذا لو سار بخط مستقيم من بلده إلى مقصده ثم عاد من
مقصده إلى بلده بنحو التربيع فإن السير في الخط الفوقاني والتحتاني ليس مرورا على
ما يحاذي خط الذهاب فلا بد من أن لا يكون إيابا، والالتزام به في الخط الفوقاني
بجعله ذهابا إن أمكن. لكنه لا يمكن في الخط التحتاني فإنه ذهاب محض إلى بلده،
والذهاب إلى البلد بعد الذهاب منه رجوع وإياب جزما.
وبالجملة الظاهر كما يحكم به العرف على ما أفاده الشيخ الأجل (1) (قدس

(1) كتاب الصلاة للشيخ الأنصاري ص 413.
30

سره) إن الحركة من المقصد إلى المنزل رجوع إليه.
ومنه يتبين حال الصورة الثالثة وأن الحركة من المنزل إلى مقاصد متعددة
حركة ذهابية، وإن كان بعض المقاصد واقعا على طرف القوس التالي من قوسي
الدائرة، وكون صورته الرجوع إلى المنزل لا اعتبار به بعد سقوط قطر الدائرة عن
الاعتبار، فلا عبرة بصورة الذهاب في الفرض المتقدم، كما لا عبرة بصورة الرجوع في
هذا الفرض.
لا يقال: إذا كان الذهاب والإياب قصديا أمكن دعوى أن السير إلى النقطة
المسامتة لنقطة المبدأ بقصد الرجوع وبعنوانه وإن كان أمرا واقعيا، فلا مجال لجعله
رجوعا مع كونه كسابقه من التوجه إلى النقطة المسامتة، وكذا الأمر في التجاوز عن
النقطة المسامتة فإنه إنما يكون ذهابا إذا قصد عنوانه، وإلا فهو توجه إلى مبدأ
الحركة وهو الرجوع.
لأنا نقول: ليس المناط في ما اخترناه قصدية الذهاب والإياب، بل ملاكه أن
البعد المعتبر شرعا قد اعتبر بين المنزل والمقصد. فالحركة نحو المقصد ذهاب واقعا وإن
لم يقصد عنوانه، والحركة منه والتوجه إلى المنزل تربيعا أو استدارة رجوع و إياب عن
المقصد، وقد عرفت أنه لا فرق في المقصد بين أن يكون في طرف القوس الأول أو
القوس الثاني.
الأمر الخامس
إذا كان للبلد طريقان أحدهما أبعد يبلغ المسافة والآخر أقرب لا يبلغ المسافة،
فلا إشكال على المشهور في جواز سلوك الأبعد خلافا للقاضي (1) (رحمه الله) " فلم
يجوزه نظرا إلى أنه كاللاهي بسفره " (2).
وتوضيح المقام: إن اللهو تارة في قبال ما ليس فيه غرض عقلائي، وأخرى يراد

(1) المهذب: ج 1، ص 107 وظاهر عبارته في الجواهر التقصير مطلقا. جواهر الفقه المطبوع في ضمن
الجوامع الفقهية ص 414.
(2) كما نسبه إليه المدارك في ص 277.
31

به الباطل في قبال الحق، فإن أريد به الأول فلا واسطة بين الفرض العقلائي
وغيره، فلا محالة ما كان فيه غرض عقلائي ليس بلهو، وما لم يكن فيه غرض عقلائي
بل غرض شخصي فهو لهو، وإلا فالفعل الاختياري لا يصدر عن غير داع وغرض،
وعليه فإذا فرض أن الأغراض العقلائية مترتبة على الرخصة في التقصير فلا محالة
يرد محذور أخذ الرخصة في موضوع نفسها، فيرد إما الدور كما هو المشهور في نظائره،
وإما محذور الخلف من تأخر المتقدمة بالطبع وتقدم المتأخر بالطبع كما هو التحقيق.
فما أفاده بعض الأعلام (قدس سره): " من أن قد يتعلق غرض صحيح
عقلائي بنفس الرخصة في قصر الصلاة وترك الصيام، كما ربما يتفق ذلك في شهر
رمضان لمن يشق عليه الصيام أو يخاف من ضرره، أو يقصد التخلص من صوم يوم
يظن كونه عيدا " فغير وجيه على هذا الوجه، إذ لا يندفع عنه المشقة والضرر وصوم
العيد إلا إذا كان مرخصا في سفره. فكيف يعقل أن يناط بها الرخصة في سفره؟
وبالجملة السفر بهذه الأغراض وإن لم يكن لهوا إلا أن السفر بها لا يعقل أن
يكون محكوما بالرخصة. وإن أريد به الثاني، فالسفر المحكوم بالاتمام الموصوف
بكونه باطلا كالسفر للتنزه بالاصطياد في قبال التكسب به فالسفر الخالي عن مثله
محكوم بالقصر ويترتب عليه تلك الأغراض الصحيحة وليس المراد بالحق أن
يترتب عليه عنوان راجح، بل مجرد عدم كونه باطلا، فالسفر لمجرد الفرار عن الصوم
ولولا بتلك العناوين المزبورة سفر غير لهوي، ويترتب عليه التقصير.
والظاهر أن المراد باللهو كما يساعده الأخبار الآتية في محلها هو الباطل
المقابل للحق، لا الخالي عن الغرض العقلائي. كيف وجملة من الأغراض المتداولة
كالتصيد للتنزه من الأغراض العقلائية إلا أن المؤمن في شغل من ذلك كما في
الخبر (1).

(1) مستدرك الوسائل ج 1، ص 502، الباب 7 إن من خرج إلى الصيد.. الحديث 1.
32

الأمر السادس
تثبت المسافة التي تكلمنا فيها بالعلم وبالبينة، على ما هو المعروف بل المجمع
عليه، وإن كان يناقش في النص على حجيتها عموما في غير مورد النزاع، وحكم
الحاكم مطلقا كما حكي عن ذخيرة المحقق السبزواري (1) (قدس سره) وقد صدقه
صاحب الحدائق (2) (رحمه الله) في دعوى عدم ورود النص على الكلية، إلا أن
رواية مسعدة بن صدقة المعروفة الواردة في الكافي والتهذيب، في ذيلها: " والأشياء
كلها على هذا حتى يستبين أو تقوم به البينة " (3) مضافا إلى ورود الدليل على
اعتبارها في موارد خاصة بحيث يستفاد منها المفروغية عن حجيتها في نفسها كما في
ما ورد في الجبن الذي يحتمل فيه الميتة حيث قال (عليه السلام): " حتى يجيئك
شاهدان يشهدان إن فيه الميتة " (4)، فإن مورد السؤال وإن كان وهو الجبن إلا أن
قوله (عليه السلام) في الجواب: " كل شئ لك حلال حتى يجيئك شاهدان
يشهدان بأن فيه ميتة " (5)، يراد منه يشهدان بحرمته موضوعا وإلا فلا يمكن أن
يكون المراد من قوله (عليه السلام): " كل شئ لك حلال " (6) كل جبن لك
حلال. وكذا ما ورد في باب العدالة بقوله (عليه السلام): " من لم تره بعينك
يرتكب معصية ولم يشهد عليه شاهدان، فهو من أهل الستر والعدالة " (7) فإن
ظاهره المفروغية عن اعتبار شهادة الشاهدين لا أن الفسق ذا خصوصية مقتضية

(1) ذخيرة المعاد ص 407.
(2) الحدائق، ج 11، ص 309.
(3) الوسائل: ج 12، ص 60، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4. فروع الكافي، ج 5، ص 313،
كتاب الباب النوادر، الحديث 40، التهذيب ج 7، ص 226 كتاب التجارة، باب من الزيادات، الحديث 9.
وفيها: " يستبين لك غير ذلك أو.. ".
(4) الوسائل، ج 17، ص 91، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 2.
(5) نفس المصدر السابق.
(6) نفس المصدر السابق.
(7) الوسائل، ج 18، ص 292، الباب 41 من أبواب الشهادات الحديث 13 مع اختلاف يسير.
33

لاعتبار البينة عليه، وكذا ما ورد في باب ثبوت الهلال ولو في غير مورد حكم الحاكم
كقوله (عليه السلام): " إذا رأيتم الهلال فافطروا أو تشهد عليه بينة عدل من
المسلمين " (1) وفي آخر: " فإن شهد عندكم شاهدان مرضيان بأنهما رأياه الخ " (2)
نعم مثل قوله (عليه السلام): " لا أجيز في الهلال إلا شهادة رجلين عدلين " (3)
بحمل إرادة حكمه (عليه السلام) بالهلال بشهادة العدلين. إلى غير ذلك من الموارد
التي يقف عليها المتتبع بحيث تطمئن النفس بالغاء خصوصيات الموارد هذا.
وأما ثبوتها بإخبار عدل واحد، أو اخبار الثقة فمورد التأمل والاشكال لعموم آية
النبأ (4) الواردة في الموضوع، ولسيرة العقلاء التي هي العمدة في حجية خبر الثقة.
ومن الواضح أن العقلاء بحسب بنائهم العملي لا يفرقون بين الحكم والموضوع،
ويؤكده اعتبار خبر الثقة في الموضوعات في موارد.
منها: ما ورد في الأخبار بعزل الوكيل كقوله (عليه السلام): " والوكالة ثابتة
حتى يبلغه العزل عن الوكالة بثقة يبلغه " (5) الخبر.
ومنها ما ورد في الأخبار بالوصية حيث قال الراوي: " فأتاني رجل مسلم
صادق فقال... " (6) إلى آخر الخبر المروي في الوسائل في آخر كتاب الوصية.
ومنها: ما ورد في باب استبراء الأمة عن أبي عبد الله (عليه السلام)، " في
الرجل يشتري الأمة من رجل فيقول: إني لم أطأها فقال (عليه السلام): إن وثق
به فلا بأس أن يأتيها " (7) وفي آخر: " إن كان عندك أمينا فمسها " (8). ومن
تقييد القبول بالوثاقة والأمانة يعلم أنه بما هو خبر الثقة حجة، لا بما هو إخبار ذي

(1) الوسائل: ج 7، ص 191، الباب 5 من أبواب أحكام شهر رمضان الحديث 11.
(2) الوسائل: ج 7، ص 183، الباب 3 من أبواب أحكام شهر رمضان، الحديث 7.
(3) الوسائل: ج 7، ص 207، الباب 11 من أبواب أحكام شهر رمضان، الحديث 1.
(4) الحجرات: 6.
(5) الوسائل: ج 13، ص 286، الباب 2 من أبواب أحكام الوكالة، الحديث 1.
(6) الوسائل: ج 13، ص 482، الباب 97 من أبواب أحكام الوصايا، الحديث 1.
(7) الوسائل: ج 13، ص 38 الباب 11 من أبواب بيع الحيوان، الحديث 2.
(8) الوسائل: ج 13، ص 39 الباب 11 من أبواب بيع الحيوان، الحديث 3.
34

اليد، وإلا لما كان وجه للتقييد في الجواب.
ومنها: ما ورد في باب الوقت باعتبار أذان الثقة (1) ولعل المتتبع يقف على غير
هذه الموارد المسطورة أيضا هذا.
وللمانع عن اعتباره في الموضوعات حصر الطريق في البينة في رواية الجبن
ورواية مسعدة بن صدقة فيكون ردعا عن بناء العقلاء في الموضوعات وتقييد
الاطلاق إنه البناء من حيث التعدد فيها.
وربما يجاب عن الروايتين بأن الحصر في البينة لخصوصية المورد من حيث فرض
اليد فيها، فلا يرفع اليد عنها إلا بالبينة لا بمطلق الحجة وهو في خبر الجبن لاستيلاء
بايعه عليه، وفي رواية مسعدة بالإضافة إلى الثوب المشترى والمملوك المشترى،
لاستيلاء بايعهما عليه وجيه، بخلاف الزوجة فإنه لا استيلاء لأحد عليها بحيث
يكون استيلاء ملكيا. وملك الانتفاع لو كان كافيا فهو للزوج والكلام في صحة
الشراء وصحة التزويج مع الشك في كونها أخته من الرضاعة مثلا.
لا يقال: كما أن ملك المشتري للثوب والمملوك مستند إلى اشترائه لا إلى يده،
كذلك ملك البايع غير مفروض الاستناد إلى يده فلا مانع من الأخذ بالكلية.
لأنا نقول: لا بد من كون ملك البايع مستندا إلى يده فإنه لولا اليد لكان ملكه،
إما بعلم المشتري والمفروض احتمال السرقة مثلا وإما بقيام البينة عند المشتري
ومثلها لا يرفع اليد عنها بمجرد قيام البينة على خلافها، فيعلم من الأخذ بالبينة بمجرد
قيامها على أنه سرقة، أن الملك مستند إلى اليد، فإنها التي لا تقاوم البينة.
وبالجملة فرفع اليد عن ذيل رواية مسعدة الحاصرة في العلم والبينة مشكل جدا
إلا باستفادة الكلية من موارد اعتبار خبر الثقة المتقدمة ليكون مخصصا لتلك الكلية
الحاصرة في العلم والبينة. وأما إدراج خبر الثقة في الاستبانة بجعلها أعم من العلم والعمي مع
مقابلتها بالبينة التي هي طريق علمي فأشكل، فالاحتياط في المقام بالجمع لا يترك.
وأما ثبوت المسافة بالشياع الظني بإخبار جماعة يفيد الظن بالمسافة، فعن الشيخ

(1) الوسائل: ج 4، ص 618، الباب 3 باب جواز التعويل في دخول الوقت على أذان الثقة.
35

الأجل (قدس سره) في كتاب الصلاة: " إن الأظهر اعتبار الشياع هنا وإن احتمل
منعه بناء على الأصل " (1) انتهى.
وربما يقال بأن الظن الحاصل منه أقوى مما تفيده البينة، إلا أن الدليل على
اعتبار الشياع مقصور على غير ما نحن فيه وهو قوله (عليه السلام): " خمسة أشياء
يجب الأخذ فيها بظاهر الحكم، أو ظاهر الحال: الولايات والمناكح والذبايح
والمواريث والشهادات " (2) الخبر، ولم يعلم أن حجية البينة شرعا لإفادتها الظن
حتى يتمسك بالأولوية، وقوله (قدس سره): " اعتبار الشياع هنا "، يشعر بخصوصية
للمقام ولعله بملاحظة أن المسافات والأماكن يكفي فيها الشياع، كما ورد في باب
المواقيت في الحج حيث قال (عليه السلام): " يجزيك إذا لم تعرف العقيق أن تسأل
الناس والأعراب عن ذلك " (3) وكما ورد في السعي في وادي محسر حيث قال
(عليه السلام): في جواب ابنه " لا أعرفه سل الناس " (4).
والانصاف: إن الشياع المفيد للوثوق في أمثال هذه المقامات هو الطريق
المتعارف لمعرفتها والاحتياط لا يترك.
الأمر السابع
هل الشاك في المسافة يجب عليه الفحص حتى يتمكن من إجراء الأصل الذي
يقتضيه المقام؟ أو لا يجب عليه الفحص لكون الشبهة موضوعية؟
والمعروف فيها، جواز إجراء الأصل قبل الفحص، أو فرق بين الشبهة الموضوعية
الوجوبية والتحريمية، كما يظهر من الشيخ الأجل (قدس سره) في كتاب
الصلاة (5) بالفحص في الأولى دون الثانية. والعمدة في وجه المنع عن إجراء إلزامه

(1) كتاب الصلاة للشيخ الأنصاري: ص 390.
(2) الوسائل: ج 18، ص 290، الباب 41 من أبواب الشهادات، الحديث 3 مع اختلاف يسير.
(3) الوسائل: ج 8، ص 228، الباب 5 من أبواب المواقيت حديث 1.
(4) الوسائل: ج 10، ص 47، الباب 14 من أبواب الوقوف بالمشعر، الحديث 1.
(5) كتاب الصلاة للشيخ الأنصاري: ص 390.
36

عقلا ونقلا قبل الفحص، الخدشة في الدليل العقلي. ودعوى الانصراف في الدليل
النقلي.
أما الأول: فبملاحظة أن وجود الحجة واقعا إذا كان بحيث يصل إذا تفحص
عنه كاف في تمامية الحجة وقطع عذر العبد. فموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان
غير محرز قبل الفحص لاحتمال البيان المصحح للعقوبة، والوجه في صلوحه لقطع
العذر، إن الوصول الذي معه يكون مخالفة التكليف ظلما على المولى، فيستحق به
العقوبة، هو وصوله العادي، وهو قهرا متقوم بمقدار من الفحص عادة، إذ ما كان له
طريق متعارف لا يصل قهرا إلا بمقدار متعارف من الفحص
وأما الثاني: فلما قيل من انصراف لفظ الشك وعدم العلم عن مورد يمكن فيه
تحصيل العلم بالفحص العادي، بل إذا أريد من العلم الحجة القاطعة للعذر، كان
حال الدليل النقلي حال العقلي.
والتحقيق: إن التكليف حقيقيا كان أو طريقيا متقوم بالوصول، وكونه بحيث
إذا تفحص عنه لوصل، لا يحقق إلا إمكان الوصول، لا فعلية الوصول. فالتكليف
الواقعي الذي عليه طريق واقعي لا يقبل الباعثية فعلا، وإنما يمكن باعثية التكليف
بإمكان الفحص عن طريقه. وكذا التكليف الطريقي الذي لا أثر له إلا إيصال
الواقع أو تنجيزه، فإنه مع عدم وصوله فعلا كيف يكون ايصالا للواقع بالفرض أو
منجزا له.
نعم ربما يكون الطريق بحد يعد واصلا، نظير المرتكزات في النفس، فإنها وإن
لم تكن معلومة تفصيلا بالفعل، بل إنما يتفصل بالتوجه والتأمل في ما في خزانة
النفس لكنه لا يعد مثله جاهلا بالمسألة، بل غافلا عن علمه بها. فكذا من كانت
عنده بينة يمكنه السؤال عنها فإن مثله لا يعد فاقدا للطريق، وهكذا في نظائره من
الطرق المعلومة بأدنى توجه وفحص. وأما في غير ذلك مما يحتاج حقيقة إلى الفحص
والبحث حتى يظفر بالطريق لو كان، فلا ملزم به مع عدم وصول الواقع بوصول
طريقه حقيقة. ومنه يتضح أن إطلاق الأدلة النقلية إنما ينصرف عن مثله لاعن
ما يحتاج إلى فحص وبحث بالغ حقيقة وبقية الكلام في الأصول.
37

وأما الاستناد إلى العلم الاجمالي بأحد الأمرين من القصر والاتمام في وجوب
الفحص والمنع عن إجراء الأصل قبل الفحص، فغير معقول لتوقف تأثير العلم
الاجمالي في التنجيز على عدم انحلاله بأصل غير معارض فلا يعقل أن يمنع عن
جريانه، فإن هذا المعنى متساوي النسبة إلى ما قبل الفحص وبعده لولا دليل آخر
على عدم جريان الأصل قبل الفحص. كما أن الاستناد إلى أدلة الحرج فيما إذا كان
الفحص حرجيا إنما يصح إذا كان وجوب الفحص شرعيا لا ما إذا كان عقليا،
أو لقصور في دليل البراءة عقلا أو نقلا، فتدبر.
الأمر الثامن
هل الشاك في المسافة مع عدم الطريق تكليفه الجمع بين القصر والاتمام
للعلم الاجمالي؟ أو هناك أصل يقتضي تعين الاتمام فينحل العلم الاجمالي؟
لا شبهة في أن المسافة المشكوكة لا أصل فيها بحيث يعين بلوغها الثمانية أو عدم
بلوغها كما أنه لا أصل يعين أن قصدها قصد المسافة الشرعية أولا، إلا أنه لا
حاجة إلى شئ منها في نفي القصر وإثبات الاتمام حتى بعنوان الشك في رافعية
القصد الموجود، وأنه مجرى الأصل كالشك في وجود الرافع، مع أن رفع الرافعية
بالأصل لا يكون إلا بنحو العدم المحمولي وبنحو السالبة بانتفاء الموضوع الذي هو
محل الكلام، ومورد النقض والابرام.
بل التحقيق أن يقال: إن عمومات التكليف بالاتمام المخصصة بما عدا المسافر
لا تخلو عن أحد وجوه ثلاثة: إما أن يكون التخصيص موجبا لاخراج عنوان المسافر
منها من دون أن يوجب تعنون العام بعنوان وجودي أو عدمي كما عليه شيخنا
الأستاذ (1) (قدس سره) ومجرد تردد المشكوك بين الداخل تحت العام الخارج
عنه هو المانع عن الاستدلال به. وإما أن يكون التخصيص موجبا لتعنونه بعنوان

(1) في كتاب الصلاة من مصباح الفقيه ص 725 تحت عنوان الثالث يشترط في التقصير العلم
بالمسافة.
38

عدمي، وهو من لم يكن مسافرا. وإما أن يكون موجبا لتعنونه بعنوان وجودي، وهو
كونه حاضرا، الذي هو ضد عنوان المسافر وعلى أي حال فمقتضى الأصل هو
الاتمام لليقين بعدم كونه مسافرا قبل قصد هذا المسافة المشكوكة والآن كما كان،
ولليقين بكونه حاضرا قبل هذا القصد والآن كما كان، فيتعبد بحكمه وهو الاتمام.
نعم بين العنوان العدمي والوجودي فرق، وهو إن التعبد بعدم كونه مسافرا،
كما إنه تعبد بعدم موضوع القصر كذلك تعبد بما هو عنوان للعام، فكما ينفي به
وجوب القصر كذلك يثبت به وجوب الاتمام تعبدا، بخلاف ما إذا كان العام
معنونا بعنوان وجودي، فإن نفي موضوع القصر لا يوجب إثبات موضوع الاتمام إلا
بناء على الأصل المثبت، فلا بد من إثبات موضوع التمام بإجراء الأصل فيه. وأما نفي
وجوب القصر بعد إجراء الأصل في موضوع الاتمام فلا حاجة فيه إلى إجراء الأصل
الموضوعي، لأن نفس وجوب الاتمام تعبدا يمنع عن فعلية ضده، فوجوب القصر
فعلا محال بعد فرض المضادة شرعا بين وجوب الاتمام ووجوب القصر على
مكلف واحد في وقت واحد. فلا حاجة إلى التعبد بنفيه، ولو بنفي موضوعه. وهذا
المعنى غير جار في طرف التعبد بعدم وجوب القصر ليكون لازمه وجوب الاتمام
فعلا، لأن لازم كونهما متضادين عدم اجتماعهما لا عدم ارتفاعهما، والاجماع على
الملازمة إنما هو بالإضافة إلى الواقع، وإنه لا يخلو الواقع عن أحد أمرين: وجوب
القصر، أو وجوب الاتمام، ولا في مقام التعبد مع عدم وجوب ملاكه، ومع وجود
ملاكه لا حاجة فيه إلى الاجماع على الملازمة، بل يجري الأصل الموضوعي في كليهما.
فتدبره جيدا. ومن جميع ما ذكرنا تبين جريان الأصل على أي حال، فينحل العلم
الاجمالي المقتضي للجمع. هذا تمام الكلام في بيان المسافة، وما يختص بها من
الأحكام.
[في أحكام قصد المسافة]
وأما قصدها المتأخر عنها طبعا ولذا أخرنا البحث عنه. فتحقيق الحال فيما يتعلق
به ببيان أمور:
39

الأمر الأول
في أصل اعتبار القصد، في قبال مجرد سير ثمانية فراسخ من دون تعلق القصد
الكلي بها أولا وإن صدرت جزئيات السير بالإرادة وما يدل عليه صريحا مرسلة
صفوان المنجبرة بعمل المشهور " قال: سألت الرضا (عليه السلام) عن رجل خرج
من بغداد يريد أن يلحق رجلا على رأس ميل فلم يزل يتبعه حتى يبلغ النهروان،
وهي أربعة فراسخ، أيفطر إذا أريد الرجوع ويقصر؟ قال (عليه السلام): لا يقصر
ولا يفطر لأنه خرج من منزله، وليس يريد السفر ثمانية فراسخ، إنما خرج يريد أن
يلحق صاحبه في بعض الطريق، فتمادى به السير إلى الموضع الذي بلغه، ولو أنه
خرج من منزله يريد النهروان ذاهبا وجائيا الخبر " (1) وهو صريح في دخل قصد
المسافة، وأنه مع عدمه لا تقصير وأنه حيث لم يقصد لا يقصر لا أنه حيث إنه لم يقطع المسافة
لا يقصر لفرض قطع المسافة تلفيقا. ويمكن استفادة اعتبار من موثقتي عمار المتقدمتين (2)
في مسألة الرجوع ليومه كما قربناه هناك فراجع.
وأما ما استند إليه العلامة الأنصاري (قدس سره) في كتاب الصلاة (3) من
رواية منتظر الرفقة (4) وصحيحة أبي ولاد (5) فمبني على استفادة اعتبار القصد
الذي هو شرط آخر فيدل بالملازمة على اعتبار حدوثه. وسيجئ إن شاء الله تعالى
الكلام فيهما.
وأما ما عن العلامة (قدس سره) في التذكرة " من أن للمسافة التي هي شرط
تأثيرا في العبادات فيعتبر فيها النية كما في العبادات " (6) فهو وجه اعتباري لا

(1) الوسائل: ج 5، ص 503، الباب 4 من أبواب صلاة المسافر. الحديث 1. مع اختلاف يسير.
(2) صفحة 50 و 52 من الاستنساخ.
(3) صفحة 392.
(4) الوسائل: ج 5، ص 501، الباب 3 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 10.
(5) الوسائل: ج 5، ص 504، الباب 5 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1.
(6) تذكرة الفقهاء: ج 1، ص 188 في ذيل مسألة انتفاء القصد.
40

اعتبار به، لأن شرائط الواجب لا يجب أن تكون عن قصد، كما في التستر في
الصلاة والاستقبال فيها فضلا عن شرائط التكليف فتدبر.
الأمر الثاني
هل المراد بقصد المسافة هو العزم والإرادة الكلية التي تنبعث منها الإرادات
الجزئية، المحركة للعضلات نحو قطع المسافة، أو الأعم منه ومن الجزم بحصول قطع
المسافة كالأسير الذي يعرف المقصد ولا قصد له؟ وظاهر شيخنا العلامة
الأنصاري (1) (قدس سره): عموم الفتوى باعتبار القصد، وإن إطلاق الحكم
بالقصر على المكره محمول على غير مسلوب القصد. وظاهر بعض أعلام العصر
(قدس سره) في مصباحه: " دعوى التسالم على القصر في الأسير الذي عرف
المقصد، وعلم أنهم يسيرون به لا محالة، مع أنه لا قصد له على السير ولا على متابعتهم.
ودعوى أنه قصد المسافة كقصد الإقامة، فإنه ليس المراد منه القصد الحقيقي " (2).
وظاهر الفاضل النراقي (3) (قدس سره): الاجماع على القصر في الأسير المسلوب منه
القصد مع معرفة المقصد والظاهر أن الحق في فتوى الجماعة مع الشيخ الأجل
(قدس سره) فهذا العلامة (قدس سره) في التذكرة (4) صرح بعدم التقصير وإن
عرف المقصد. قال (قدس سره): " الأسير في أيدي المشركين إن عرف المقصد وقصده
ترخص وإن عزم على الحرب متى قدر على التخلص، لم يترخص ولو لم يعرف
المقصد لم يترخص في الحال لعدم علمه بالمسافة، وإن ساروا به المسافة لم يقصر إلا
في الرجوع ". انتهى.
فإنه (قدس سره) لم يكتف بمجرد معرفة المقصد، وأما كفاية اليقين بالإقامة من
دون قصدها فسيأتي الكلام فيها إن شاء الله تعالى.

(1) كتاب الصلاة: ص 391.
(2) كتاب الصلاة من مصباح الفقيه: ص 733.
(3) مستند الشيعة: ج 1، ص 563.
(4) تذكرة الفقهاء: ج 1، ص 188 في ذيل مسألة انتفاء القصد.
41

وربما يستدل باطلاقات أدلة المسافة من أن التقصير " في بريدين أو بياض
يوم " (1)، خرج منها ما إذا لم يكن جزم وعزم فإنه المتقين وبقي الباقي تحتها،
وكذلك ربما يستدل باطلاق قوله (عليه السلام): " الفريضة في السفر
ركعتان " (2).
ويندفع بانصرافها إلى ما هو المتعارف من قطع المسافة من قصد
وعزم، مع أن الأولى غير مسوقة إلا لبيان تحديد المسافة المعتبرة، مع أن الاطلاقات
غير متقيدة بمقيد لبي، أو مجمل دائر بين الأكثر والأقل ليؤخذ في تقييدها بالمتيقن،
بل مقيدة بمثل " لا يريد " في مرسلة صفوان (3) الظاهر في الإرادة التي هي غير العلم
والجزم مفهوما مصداقا. فلا مجال للتمسك بالاطلاقات، ولا أظن كما قيل
بالاجماع على وجوب القصر. فالمسألة من حيث ملاحظة أدلتها واضحة، إلا أنها من
حيث دعوى التسالم والاجماع على طرفي النقيض مشكلة، والاحتياط بالجمع
لا ينبغي تركه.
ولا يخفى عليك أن موضوع المسألة هو الأسير الذي لا يتمكن من الهرب من
أيدي المشركين مثلا كما قيده به بعض الأعلام (قدس سره) لأن من يتمكن
من الهرب منهم، ومن ترك المسير معهم فالمسير معهم بترك الهرب المقدور مقدور،
فلا يمكن صدور أحدهما منه إلا بالاختيار. فالمسير إلى المقصد المعلوم لا محالة عن
قصد، وإن لم يكن عن طيب طبعي كما في المكره. وحيث إن موضوع البحث هو
مسلوب القصد الذي لا يكون قابلا للقصد، فيمكن المناقشة في إطلاق الفتاوى
باعتبار القصد، فإنه لا معنى لاعتبار القصد إلا فيمن يتمكن منه ولم يقصد طي
المسافة بتمامها، بل قصد السير شيئا فشيئا كما في طالب الآبق والغريم، فالاطلاق
مسوق لاعتبار القصد الكلي في قبال قصد المسافة شيئا فشيئا. ومنه تنقدح الخدشة
في الدليل المقيد، بتقريب أن عدم الإرادة لوحظ في قبال الإرادة بنحو العدم

(1) الوسائل: ج 5، ص 49، الباب 1 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 7.
(2) الوسائل: ج 5، ص 529، الباب 16 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1 مع اختلاف يسير.
(3) الوسائل: ج 5، ص 503، الباب 4 من أبواب صلاة المسافر الحديث 1.
42

والملكة، لا بنحو السلب والايجاب. فعدم إرادة ثمانية فراسخ ممن له القابلية للإرادة
في قبال ما فرضه السائل من إرادة طي المسافة شيئا فشيئا للحوق بصاحبه في
الطريق.
وعليه فكما أن إطلاقات الفتاوى مخدوشة كذلك دلالة المقيد على التقييد بقول
مطلق. وقد عرفت حال إطلاقات القصر أيضا. فمقتضى الأصل هو الاتمام، كما
أن الأحوط الجمع كما عرفت.
الأمر الثالث
لا فرق في القصد الذي هو ملاك القصر بين كونه بالاستقلال وكونه بالتبع
بأنحاء التبعية الاختيارية والاكراهية والواجبة وغيرها، إذا المفروض تحقق القصد
من التابع، كما يتحقق من المتبوع، وإنما الفرق بينهما في الغاية الموجبة للقصد، فما
يوهم من كفاية قصد المتبوع عن قصد التابع في بعض الكلمات لا بد من تأويله، إذ
كل منهما مكلف بالقصر المشروط بالقصد. والتبعية ليست ملاكا شرعيا آخر
للقصر، بل لا يعقل انفكاك قصد المتابعة على أي تقدير عن قصد قطع المسافة كما
سيجئ إن شاء الله تعالى.
ثم إن التابع إذا علم قصد المتبوع للمسافة أو علم مقصده كفى كل منهما في
قصده للمسافة الواقعية المحكوم على قاصدها بالقصر. وإن لم يعلم أحدهما وجهل
القصد والمقصد فالمعروف أنه محكوم بالاتمام واقعا، معللين له بفقد الشرط وهو
قصد المسافة الواقعية، أعني ما هو مسافة بالحمل الشايع.
ويمكن أن يقال: إن معرفة القصد أو المقصد لا تخلو إما أن يكون لتعلق القصد
بثمانية فراسخ بعنوانها، وإما أن يكون لتعلق القصد إجمالا بالثمانية بالحمل الشايع،
فإن كان الفرض هو الأول فاللازم عدم كفاية معرفة المقصد حتى في المتبوع فإنها
بمجردها لا تحقق قصد الثمانية بعنوانها مع أن الظاهر منهم كفاية قصدها الاجمالي، مع
أنه لا موجب لجعل قطع المسافة من العناوين القصدية كعنوان التعظيم ونحوه، وإن
كان الفرض هو الثاني فمعرفة المقصد لا موضوعية له، بل لتحقيق تعلق القصد
43

بالمسافة الواقعية.
وعليه فحيث إن المفروض في التابع إناطة قصده بقصد متبوعه واقعا فإذا
كانت المسافة مقصودة للمتبوع تفصيلا أو اجمالا كانت مقصودة للتابع إجمالا،
والمفروض كفاية قصد المسافة الواقعية إجمالا في المتبوع فليكن كذلك في التابع
لتعين الواقع وتعلق القصد به. وربما ينتقض بطالب الغريم وطالب الآبق كما في
الجواهر (1).
وتقريبه: إن طالب الغريم يقصد اللحوق به في محله. فإذا فرض أن الغريم في
رأس ثمانية فراسخ مثلا واقعا فقد تعلق قصده بقطع ثمانية فراسخ واقعا مع أنه
لا قصر نصا وفتوى. فيعلم منه عدم كفاية قصد المسافة الواقعية إجمالا بهذا النحو.
ويندفع بأن الفارق بين ما نحن فيه وطالب الغريم هو أن الطالب للغريم ليس له
قصد المسافة الواقعية منجزا وعلى أي تقدير بل من عزمه بطبعه أنه متى وجده
رجع. ولذا لو عين مكانه تفصيلا لكنه عزم على الرجوع إذا صادفه في طريقه لم يكن
عزمه على قطع المسافة منجزا. فكيف إذا تعين المقصد واقعا بخلاف ما نحن فيه فإنه
قاصد عين ما قصده متبوعه منجزا من دون تعليق وتقدير، غاية الأمر أنه لم يعلم بما
قصده وبمقصده فيكون كما إذا عين المقصد ولم يعلم أنه مسافة شرعية أم لا.
فإن قلت: أليس من المحتملات في حق المتبوع العزم على الرجوع في الأثناء
منجزا أو معلقا، فلا محالة يكون التابع قاصدا للرجوع إذا رجع متبوعه، أو قصد
رجوعه فيكون عزم التابع تقديريا، ولا يخرج العزم التقديري عن التقديرية بعدم
حصول المعلق عليه واقعا، فحال قصد التابع حال قصد طالب الغريم والآبق؟
قلت: حيث إن المفروض تمحض قصد التابع في التبعية فلا يعقل استقلاله
وتفرده بقصد أمر لم يقصده المتبوع. وعليه فمقتضى قصد التبعية إنه إذا كان المتبوع
قاصدا للمسافة منجزا، كان التابع كذلك فيجب عليهما القصر واقعا. وإذا كان
قاصدا لما دون المسافة أو للمسافة معلقا كان التابع كذلك، فلا يجب عليهما القصر

(1) الجواهر: ج 14، ص 239.
44

واقعا. فتفرد التابع بعزم تقديري أو تنجيزي خلف فتدبره جيدا. إلا أن ظاهر
المشهور خلافه كما مر، ولم أظفر بمفت صريحا بكفاية القصد الاجمالي للتابع في
القصر، وإن كان الظاهر من بعض الفروع من بعض أعلام السادة (قدس
سره) (1) ذلك.
ثم إنه يتفرع على ما ذكرنا من الكفاية وعدمها على المشهور أمور:
منها: إنه بناء على عدم الكفاية، حكم التابع واقعا هو وجوب الاتمام واقعا
لفقد شرط القصر واقعا، فلا موجب للاستخبار من المتبوع، فإنه إنما يجب من حيث
توقف إجراء الأصل على الفحص وحيث لا استناد إلى الأصل فلا معنى للفحص
بالاستخبار من المتبوع بخلاف ما إذا قلنا بالكفاية، فإن احتمال وجوب القصر
واقعا باحتمال وجود شرطه واقعا قائم، فيجب الفحص حتى يتمكن من إجراء
أصالة الاتمام ظاهرا. وعليه فما ذكره في الجواهر (1) وغيره في غيره من جريان
الوجهين في الفحص عن الشبهة الموضوعية كما في مسألة الشك في مقدار المسافة
المقصودة في غير محله، بعد اختياره صريحا لعدم كفاية القصد الاجمالي، وتصريحه
بفقد شرط التقصير واقعا.
[و] منها: إنه إذا لم يعلم التابع بقصد المتبوع وتبين في أثناء السير أنه قاصد
للمسافة، فعلى الكفاية يحتسب مبدأ المسافة من مبدأ السير، وعلى عدمها يحتسب
من حين معرفة القصد.
ومنها: ما إذا اعتقد التابع أن المتبوع قاصد لما دون المسافة فقصده كذلك ثم
تبين في الأثناء أنه قاصد للمسافة. فمقتضى الكفاية إنه من باب الخطأ في التطبيق
لتعلق قصده واقعا من حيث تمحضه في التبعية بعين ما قصده واقعا ومقتضى عدمها
إن الاعتبار بقصد المسافة من حين تبين الخطأ.
والعجب من بعض أعلام السادة (3) (قدس سره) مع حكمه باعتبار العلم

(1) الظاهر هو السيد في العروة في مسألة 20 من فضل صلاة المسافر.
(2) الجواهر: ج 14، ص 239.
(3) ربما يكون صاحب العروة في مسألة 17 و 20 من مسائل فصل صلاة المسافر.
45

بقصد المتبوع واقعا، حكم هنا بكفاية القصد الاجمالي في وجوب القصر واقعا.
الأمر الرابع
هل العلم بمفارقة المتبوع أو الظن بها أو احتمالها يمنع عن قصد التابع لقطع
المسافة بتمامها؟ وهذا العنوان الذي تفرد به بعض أعلام السادة (1) (قدس سره)
في قبال الأمر الآتي وهو العزم على المفارقة معلقا على أمر معلوم الحصول أو مظنونه أو
مشكوكه المعنون في كلمات القوم يحتمل أحد أمرين:
الأول: العلم بمفارقته للمتبوع اختيارا لموجب أقوى من موجب قطع المسافة
بتمامها بناء على أن العلم ينفك عن العزم على المفارقة فعلا كما يظهر من صاحب
الجواهر (2) في بعض كلماته في المقام.
والثاني: العلم بمفارقة المتبوع قهرا.
أما الأول: فمع العلم بالمفارقة عن عزم لموجب أقوى من موجب العزم على قطع
المسافة بتمامها لا يعقل انقداح العزم على قطع المسافة، لأنه من المعلول بلا علة،
لا من باب كون العزم اللاحق مناقضا للعزم السابق حتى يتخيل أنه من العلم
بالناقض في المستقبل، أو يتخيل أنه مناقض لاستمرار القصد لا لأصله، بل العزم
بالفعل لا بد من تعلقه بقطع المسافة بتمامها، لا إلى حال حصول موجب المفارقة،
ومع فرض أقوائية موجب المفارقة لا موجب بالفعل لمثل هذا الموضوع.
ومنه يظهر حال الظن بالمفارقة واحتمالها، فإن الموجب للمفارقة على الفرض
أقوى، فمع احتماله لا يؤثر احتمال الموجب الأضعف للتأثير فضلا عما إذا كان
الموجب للمفارقة مظنونا، فإنه لو فرض هناك فعلان متضادان في عرض واحد
وكان مصلحة أحدهما أقوى من مصلحة الآخر فلا محالة يؤثر احتمال ما فيه مصلحة
أقوى دون ما فيه احتمال مصلحة أضعف، فضلا عما إذا كان الأقوى مظنونا

(1) الظاهر صاحب العروة حيث ذكر حكم المفارقة والتعليق في مسألة 19 من
مسائل صلاة المسافر
(2) الجواهر: ج 14، ص 237.
46

والأضعف موهوما.
نعم ربما أمكن أن يقال: إن الموجب لقطع المسافة إن كان مظنونا وموجب
المفارقة موهوما تتعارض قوة مقام الثبوت مع قوة مقام الاثبات، فلا يمكن الحكم بتا
بترجيح أحد الأمرين. وفي مثله فالأحوط الجمع بين القصر والاتمام.
وأما الثاني: وهو العلم بالمفارقة قهرا، أو الظن بها، أو احتمالها، ففي صورة
العلم بوجود المانع القهري عن قطع المسافة لا موجب للعزم على المسافرة بالتبع، لأن
موجبه إما التصديق العلمي أو الظني أو الاحتمالي، ومع عدمه بمراتبه لا يعقل
انقداح العزم والقصد، وفي صورة الظن بوجود المانع ليس إلا التصديق الاحتمالي
وهو كاف في الدعوة، فإنه لا يجب أن يكون الداعي والباعث على العزم خصوص
التصديق العلمي، بل الظن والاحتمال، بل الوهم كاف للدعوة، كما يظهر
بمراجعة اقدامات العقلاء فإن احتمال الفائدة يدعوهم أحيانا كالعلم والظن بها،
بل الفائدة الموهومة إذا كانت لها أهمية كافية في الباعثية. والفرق بين الصورتين من
العلم بالمفارقة إن مقتضيات العزم على قطع المسافة بتمامها في هذه الصورة محفوظة،
والتصديق بها بمراتبه كاف في الدعوة بخلاف الصورة المتقدمة، فإن مقتضى العزم
على طي المسافة على أي حال مغلوب لمقتضى العزم على المفارقة، فلا يجدي كفاية
احتمال الفائدة في الدعوة مع احتمال فائدة أقوى في ضده.
الأمر الخامس
هل العزم على المفارقة معلقا على أمر معلوم الحصول، أو مظنونه أو محتمله، أو
موهومه يمنع عن تحقق العزم على المتابعة وقطع المسافة المعتبرة شرعا أم لا؟
وتحقيقه إن العزم التعليقي إن كان بمعنى حصول العزم بعد تحقق المعلق عليه
المعلوم أو المظنون أو المحتمل فلا عزم أصلا على المفارقة فعلا في قبال العزم على
المتابعة وقطع المسافة، فيدخل تحت العنوان المتقدم من العلم أو الظن بالمفارقة
لفرض العلم أو الظن بحصول موجبها. وقد مر الكلام فيه. وإن كان بمعنى تعلق
العزم الفعلي بالمفارقة عند العتق أو الطلاق فحينئذ لا فرق بين كون ذلك الأمر
47

المعلق عليه معلوما أو مظنونا أو محتملا أو موهوما، لأن العزم التعليقي بهذا المعنى لا
يجامع العزم المنجز بالمتابعة وقطع المسافة بتمامها فيوجب تعليقية العزم على قطع
المسافة جزما، والمفروض عدم كفاية العزم الغير المنجز في وجوب القصر وإلا
لوجب على طالب الغريم الذي هو عازم على اللحوق بغريمه ولو بقطع مسافة أو
مسافات. فالتفصيل بين مراتب المعلق عليه من حيث العلم بحصوله أو الظن به، أو
احتماله لا يلائم التعليقية بهذا المعنى. وحيث إن الصحيح هي التعليقية بالمعنى
الثاني ففي جميع الصور لا يجب القصر. نعم إذا قطع بعدم حصول المعلق عليه فلا
معنى للعزم على المفارقة تعليقا من عاقل شاعر حتى ينافي العزم على المتابعة وقطع
المسافة بتمامها.
الأمر السادس
إذا سار لا بقصد المسافة المعتبرة، لا امتدادية ولا تلفيقية حتى بلغ ثمانية فراسخ
فقصد المسافة، فهل يكفي ضم مقدار من الذهاب إلى الإياب؟ بل إذا حصل قصد
المسافة قبل حصول الثمانية فهل له ضم ما بقي من الذهاب إلى الاياب، بحيث يكون
مجموعهما ثمانية فراسخ أم لا؟
لا ريب في كونه من جزئيات مسألة التلفيق المطلق، ولو لم يكن الذهاب
أربعة وقد تقدم قوته إلا أنه خلاف المشهور، بل ربما أدعى عليه، الاجماع، إلا أنه ربما
يفصل بين ما إذا كان الرجوع بنفسه مسافة فله ضم مقدار من الذهاب، وما إذا لم
يكن بنفسه مسافة فلا يضم، كما حكي عن المحدث الكاشاني (1) (رحمه الله)،
ومال إليه في الحدائق (2). وما استند إليه المحدث المذكور: موثقتا عمار (3) مدعيا
إن إحداهما مبينة للأخرى. أما الموثقة المبينة فهي هكذا: " قال عمار سألت أبا
عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يخرج في حاجة وهو لا يريد السفر فيمضي في

(1) الوافي: ج 2، ص 27، باب حد المسير الذي يقصر فيه.
(2) الحدائق: ج 11، ص 331.
(3) الوسائل: ج 5، ص 503، الباب 4 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 2 و 3.
48

ذلك فيتمادى به المضي حتى يمضي ثمانية فراسخ كيف يصنع في صلاته؟ قال:
يقصر ولا يتم الصلاة حتى يرجع إلى منزله " وظاهرها إن تكليفه بعد بلوغ الثمانية
القصر من حينه إلى أن يرجع. لا من حين رجوعه، لعدم مناسبته لجعل الرجوع غاية،
ولازمه القصر في ذلك الموضوع وفي ذهابه وفي إيابه.
وأما الموثقة الأخرى فهي هكذا: " قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن
الرجل يخرج في حاجة فيسير خمسة فراسخ فيأتي قرية فينزل فيها ثم يخرج منها فيسير
خمسة فراسخ أو ستة فراسخ لا يجوز ذلك، ثم ينزل في ذلك الموضع، قال: (عليه
السلام) لا يكون مسافرا حتى يسير من منزله أو قريته ثمانية فراسخ فليتم
الصلاة " (1). والرواية وإن تضمنت حكم سير الأول والثاني باتمام الصلاة فيها
كما اعترف به المحدث، إلا أن من حيث تعليق كونه مسافرا على قطع ثمانية فراسخ
يدعي أنه بقطعه هذه المسافة صار مسافرا بملاحظة ما في الموثقة المتقدمة الآمرة
بالتقصير من حينه لا من حين الرجوع.
والجواب عن الموثقة الأولى إن قطع المسافة التي تمادى به السير ليس بنفسه من
موجبات القصر، بل من حيث إنه قاصد للرجوع، والمسافة ثمانية. وظاهر السؤال
إنه تمادى به السير وانتهى إلى ذلك المحل، فما بعده مسافة الرجوع وهو سفر شرعي
ابتدائي، يعتبر فيه كل ما يعتبر في المسافرة شرعا من الخروج عن حد الترخص، ومن
عدم التلفيق بذهاب أقل من أربعة فراسخ فلا مجال للاطلاق أو جعل مبدأ التقصير
حال بلوغ الثمانية، بل مبدأه الرجوع والأخذ فيه إلى أن يصل إلى منزله، فليس المراد
من قوله: " حتى يرجع "، حتى يأخذ في الرجوع، حتى ينافيه جعله غاية، لوضوح أن
الحكم ينتهي بحصول الغاية، بل المراد من الرجوع الوصول إلى المنزل، فلا يأبى عن
كون مبدأ الأخذ في العود.
ومنه تبين حال الموثقة الثانية فإن السؤال فيها حيث كان عن حال ما صدر من
السير الأول والثاني، لا من تكليفه فعلا كما هو كذلك في الموثقة الأولى فلا محالة

(1) الوسائل: ج 5، ص 504، الباب 4 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 3.
49

يراد من الجواب أن ما صدر منه من السير مجموعا وإن كان أزيد من الثمانية، إلا أنه
لا يجدي إلا مع قصدها من الأول المفقود في مفروض السؤال. فتعليق المسافة
الشرعية على قطع الثمانية يراد منه ذلك، لا أن قطع الثمانية خارجا يوجب صيرورته
مسافرا فيما بعدها قهرا لقصد العود، فإذا صار مسافرا من حين قصده للعود قهرا
لا مانع من ضم مقدار من الذهاب، فإنه مسافر شرعا وتكليفه القصر.
وفي كتاب الصلاة للشيخ الأجل (1) (قدس سره) حمل الأمر بالاتمام على
تكليفه الفعلي، غاية الأمر أن إطلاقه مقيد بما إذا رجع إلى منزله، ولذا جعل الموثقة
الأولى الآمرة بالتقصير فعلا معارضة للموثقة الثانية. وعليه فيبطل مبنى الاستدلال
للتفصيل، لكنه خلاف الظاهر، وخلاف ما فهمه الأصحاب.
[في اعتبار استمرار القصر]
المسألة الثانية
في الشرط الثاني من شرائط وجوب القصر
وهو استمرار القصد على قطع المسافة المعتبرة. وتمام الكلام فيه برسم أمور:
الأمر الأول
في الدليل على اعتباره، وقد تفرد الشيخ الأجل (قدس سره) في كتاب
الصلاة (2) بالاستدلال بأمرين:
أحدهما: ما لفظه: " لأن الظاهر من أدلة تحديد المسافة وإن التقصير في بريدين
أو ثمانية فراسخ وجوب التقصير في سفر مقدار سيره بريدان فيدل على التلبس بسفر
مسافته بريدان، فكلما يتحقق وصف التلبس بالسفر الكذائي تحقق موضوع التقصير،

(1) كتاب الصلاة للشيخ الأنصاري: ص 391.
(2) كتاب الصلاة للشيخ الأنصاري: 414.
50

والمفروض إنه مع زوال القصد ونية الرجوع أو التردد لا يصدق عليه أنه يتلبس
بالسفر المقدر بالمقدار المذكور " انتهت عبارته (قدس سره).
وتقريبه إن قاطع المسافة متلبس في كل حين بذلك المقدار من السير لا بسير
ثمانية فراسخ إلا باعتبار قصده في كل حين لثمانية فراسخ فإذا لزم تلبسه في
وجوب القصر من أول سفره إلى آخره لزم قصد الثمانية من أوله إلى آخره.
ويندفع أولا: بأنه لا دلالة له على اعتبار أصل القصد فضلا عن استمراره، لأن
موضوع الحكم إذا كان سير ثمانية فراسخ فقط كانت الكمية المزبورة كما متصلا
للمجموع، فليس له إلا تلبس واحد خارجا. ووجوب القصر على قاطع هذه المسافة
في كل حين مراعى بحصول هذه الكمية خارجا من دون اعتبار قصد أصلا، ولزوم
التلبس في كل حين أول الكلام حتى يستنتج منه لزوم القصد في كل حين.
وثانيا: بعد فرض الفراغ عن أن السير المتكمم بالكمية المزبورة لا أثر له كما في
طالب الغريم، وإن تلبسه بالسفر يدور مدار القصد، إلا أن المتيقن أن السير الخاص
لا بد أن يكون مقصودا من أول الأمر، فالتلبس القصدي شرط في مبدئه لا في جميع
أجزائه.
ثانيهما: ما أفاده في موضع آخر وهو ما ذكره (عليه السلام) في ذيل رواية عمار:
" لا يكون الرجل مسافرا حتى يسير من منزله أو قريته ثمانية فراسخ " (1) والمعنى
بقرينة السؤال حتى يسير مع القصد (2) ومن البين أن السؤال لم يكن إلا عن سير
خمسة فراسخ بلا قصد الرجوع، وإلا لكانت الثمانية التلفيقية مقصودة والجواب
لا يفيد أزيد من اعتبار قصد الثمانية من الأول في قبال عدمه من الأول كما في
السؤال. فالجواب إذا حمل على أن السير لا بد من أن يكون مقصودا بكمية خاصة
لا يقتضي معية القصد للسير حتى يستفاد منه استمرار القصد.
واستدل غير واحد من الأصحاب بالتعليل الوارد في ذيل رواية إسحاق بن عمار

(1) الوسائل: ج 5، ص 504، الباب 4 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 3.
(2) كتاب الصلاة للشيخ الأنصاري: ص 392.
51

المروية في العلل والمحاسن وهو هكذا قال (عليه السلام): " أو تدري لم صار هكذا؟ قلت
لا قال (عليه السلام): لأن التقصير لا يكون إلا في بريدين، ولا يكون في أقل من
ذلك، فلما كانوا ساروا بريدا وأرادوا أن ينصرفوا بريدا، كانوا قد ساروا سفر
التقصير، وإن كانوا قد ساروا أقل من ذلك لم يكن لهم إلا إتمام الصلاة " (1)
الخبر.
وهذا بمجرده لا يدل على اعتبار الاستمرار إذ كما أن القصد شرط كذلك سير
أربعة فراسخ حتى يكون بالرجوع ثمانية. فمن الممكن أن يكون الفارق أن ما قطعه
البالغ أربعة عن قصد ابتداء حيث كان يرجع أربعة فقد حصلت المسافة المعتبرة،
وإلا فلا، كما هو ظاهر قوله (عليه السلام): " لأن التقصير لا يكون إلا في بريدين "
ومجرد ذكر الإرادة في قوله (عليه السلام): " وأرادوا أن ينصرفوا " لا يدل على دخل
الإرادة المذكورة في وجوب القصر، فإنه من المتعارف في التعبير عن الأفعال
الاختيارية. نعم في فقرة أخرى بعد التعليل وهي " قلت: أليس قد بلغوا الخ " شهادة
على اعتبار الاستمرار كما سيجئ إن شاء الله تعالى بيانه عن قريب.
ومما ذكرنا يتبين الاشكال في التعليل الوارد في صحيحة أبي ولاد، هو:
" لأنك كنت مسافرا إلى أن تصير إلى منزلك " الخبر. أي برجوعك لا بقصد
الرجوع، فما نسب إلى المحقق السبزواري (2) (قدس سره) في الذخيرة " من أن
الحجة على اعتبار الاستمرار غير واضحة عندي ". وكذا ما نسب (3) إلى صاحب
المدارك من أن الأصحاب لم يوردوا عليه دليلا، ليس منهما من باب الغفلة عن
الخبرين أو عن دلالتهما وإن كان الحكم مشهورا بل ادعي عليه الاجماع.

(1) العلل: ج 2، ص 367، الباب 89، الحديث 1، المحاسن، ج 2، ص 312، الحديث 29.
الوسائل ج 5، ص 510، الباب 3 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 11.
(2) ذخيرة المعاد: ص 407.
(3) الناسب هو صاحب الحدائق: بقوله في ج 11، ص 334: والعجب من جملة من الأصحاب
ومنهم صاحب المدارك، حيث أنهم ذكروا هذا الشرط ولم يوردوا عليه دليلا حتى قال الفاضل الخراساني
في الذخيرة بعد نقل ذلك عن الأصحاب. وحجتهم عندي غير واضحة.
52

الأمر الثاني
هل الاعتبار بالاستمرار على قصد المسافة الشخصية أو يعم النوعية؟ كالعدول من
فرد إلى فرد، أو من نوع إلى نوع، ومجموع صوره أربعة:
العدول من فرد من الامتدادي إلى فرد آخر منه، والعدول من فرد من التلفيقي إلى
فرد آخر منه، والعدول من الامتدادي إلى التلفيقي، والعدول من التلفيقي إلى
الامتدادي. وإطلاقات أدلة القصر في بريدين الظاهرة في خصوص الامتدادي
تقتضي العدول من فرد منه إلى فرد آخر منه فقط. وإطلاقات أدلة التلفيق أيضا
تقتضي العدول من فرد منه إلى فرد آخر منه فقط. ورواية إسحاق بن عمار (1)
وصحيحة أبي ولاد (2) تقتضيان العدول من الامتدادي إلى التلفيقي فقط، فيبقى
العدول من التلفيقي إلى الامتدادي بلا دليل. نعم في التعليل المسوغ للتلفيق دلالة
عليه بقوله (عليه السلام): " وإنما فعل ذلك لأنه إذا رجع كان سفره بريدين ثمانية
فراسخ " (3) فإنه كما مر من باب إدراج المورد تحت كبرى كلية، وهي إنه: كل
من كان سفره ثمانية فراسخ بما هي ثمانية فراسخ يجب عليه القصر. فتعم جميع
أنحاء العدول، وكذا التعليل المسوغ للعدول في رواية إسحاق بن عمار فإن الظاهر
منه إن العبرة في سفر التقصير بسير بريدين بما هو كذلك، فيعم جميع أنحاء العدول.
ونسب إلى الروض " اختصاص استمرار القصد بالمسافة الشخصية فلا يسوغ
العدول من فرد إلى فرد، فضلا عن العدول من نوع إلى نوع " (4).
وتقريبه: أنه إذا قصد فردا من المسافة فالجامع يكون مقصودا أيضا بالعرض،
لوجود الكلي بوجود فرده، إلا أن الفرد واسطة في العروض، بل الجامع الماهوي، أي
الواحد الجنسي، أو الواحد النوعي لا وجود له أصلا لا بالذات ولا بالعرض، بل

(1) الوسائل: ج 5، ص 510، الباب 3 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 11.
(2) الوسائل: ج 5، ص 504، الباب 5 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1.
(3) الوسائل: ج 5، ص 498، الباب 2 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 15.
(4) روض الجنان: ص 385.
53

الموجود بالعرض حصة من الجامع موجودة بوجود فرده، ولذا قيل: إن إنسانية زيد
مغايرة وجودا لإنسانية عمرو.
ومنه يتبين الخدشة في الاطلاقات المقيدة بالإرادة الظاهرة في ما هو بالحمل
الشايع إرادة، ولا تكون كذلك إلا إذا كانت موجودة بالذات وأما الموجود
بالعرض فليس موجودا بالحقيقة بل بالعرض والعناية.
ثم يستثنى مما ذكرنا ما إذا قصد الجامع ابتداء فإنه موجود بالذات، كما إذا
قصد قطع ثمانية فراسخ من دون تعيين بالفعل، وتعينه فيما بعد من باب تشخص
ما قصده بالعناية. وينحصر حينئذ تعميم القصد إلى الموجود بالذات، والموجود
بالعرض في الأدلة المسوغة للعدول. والتعميم من حيث الحصة والجامع أيضا في
ما ورد فيها من التعليل، فمن يناقش في تلك الأدلة سندا أو دلالة، ويناقش في
التعليل من أنه حكمة لا علة، فله الاقتصار على قصد المسافة الشخصية واستمراره،
لكنك قد عرفت صحة الاستدلال بالتعليل. وعليه فليس معنى الاستمرار بقاء
القصد الموجود فإنه فرع الوحدة، بل مجرد كون السير مقصودا ثانيا على حد كونه
مقصودا أولا.
الأمر الثالث
إذا تردد في الأثناء قبل بلوغ أربعة فراسخ، ثم عاد إلى الجزم على الذهاب قبل
قطع المسافة في حال التردد، ففيه وجهان: والأوجه القصر، سواء
كان ما بعد التردد بنفسه مسافة أم بضم ما قطعه قبل التردد وذلك لما سيجئ
إن شاء الله تعالى من أن السفر العرفي لا يتعدد إلا بتخلل القاطع، وهو أحد الأمور
الآتية: من المرور إلى الوطن، أو الإقامة، أو التردد ثلاثين على المعروف، نظرا إلى
أن الحضور في الوطن وما نزل منزلته ضد السفر وهو البروز إلى خارج الوطن
المستلزم للبعد عن الوطن والتغرب والغيبوبة عنه. فما لم يحصل ما هو ضد السفر فهو
على وحدته. غاية الأمر أن الشارع اعتبر في مقام إيجاب القصر على المسافر عرفا
أمورا: ككون المسافة ثمانية فراسخ، وقصدها من أول الأمر، واستمراره. فمتى
54

تحققت هذه الشرائط حدث وجوب القصر وبقي على حاله، ومتى لم تتحقق فإن لم
يتحقق ما هو شرط حدوثه كقصد الثمانية لم يحدث الوجوب، وإن لم يبق بحصول
العزم على الرجوع، أو التردد في ذهابه وإيابه ارتفع وجوب القصر، فيجب الاتمام
حال العزم على الرجوع، وحال التردد مع انحفاظ وحدة السفر كما مر، وإذا عاد
العزم على الذهاب تحقق شرط بقاء الحكم بالقصر لما مر سابقا من أن استمرار
القصد المشروط به بقاء الحكم بالقصر ليس استمرارا حقيقيا، بل المقصود أن يكون
قاصدا لما قصده أولا، وإلا فليس القصد في كل زمان شرطا لبقاء الحكم في زمان
آخر حتى يكون وجوب القصر فيما بعد التردد فاقدا لشرطه، بل وجوب القصر في كل
زمان مشروط بقصد الثمانية المقصودة أولا في ذلك الزمان لا قبله ولا بعده.
والمفروض أنه بعد زوال التردد قاصد لقطع تلك الثمانية كما فيما لم يحصل له التردد
وما ذكرنا ليس من باب شرطية قصد الثمانية في حال السير وعدم شرطيته في جميع
أكوان المسافر، بل نقول لسانه شرط في جميع أكوان المسافر، إلا أنه شرط لبقاء
الحكم في ذلك الزمان، ولذا يجب القصر على المسافر في حال سكونه إذا كان
قاصدا لقطع ثمانية فراسخ، دون من لم يكن قاصدا بل مترددا، وشرطية العزم في
الكون السابق للقصر في اللاحق لا دليل عليه أصلا. وعليه فلا مانع من ضم ما بعد
التردد إلى ما قبله.
وتوهم: أن وجوب الاتمام على المتردد إذا كان باقيا على سفره كان تخصيصا
لدليل القصر على المسافر، وبأصالة عدم التخصيص يستكشف عدم كونه مسافرا.
مدفوع: أولا: بأن كونه مسافرا عرفا مما لا شك فيه، وعدم كونه واجدا لشرط
القصر أيضا لا شك فيه، ولا عموم ولا إطلاق بعد التقييد بالشرائط المعتبرة في
وجوب القصر على المسافر عرفا بحيث يشمل حال التردد، حتى يكون إيجاب
الاتمام على المتردد تخصيصا في دليل وجوب القصر.
وثانيا: قد حقق في محله بأن أصالة عدم التخصيص لا يشخص إن زيدا الذي
نهي عن إكرامه هو زيد الجاهل دون زيد العالم، فراجع باب العام والخاص من
الأصول.
55

ومما ذكرنا تبين أن إطلاق قوله (عليه السلام): " فإذا مضوا قصروا (1) " في
رواية منتظر الرفقة موافق للقاعدة فلا مانع من الأخذ به. كما أنه اتضح حال فرض
آخر من فروض المسألة، وهو ما إذا قطع مقدارا من المسافة مترددا فإن ضم ما بعد
زوال التردد إلى ما قبله إذا كان المجموع مسافة باسقاط ما تخلل بينهما لا مانع منه.
نعم ضم ما في حال التردد غير صحيح إلا إذا كان يسيرا بحيث يعد عرفا أن قطع
ثمانية فراسخ عن قصدها.
الأمر الرابع
هل يجزي ما صلاه قصرا قبل التردد، وقبل بلوغ أربعة فراسخ أم يجب
تداركها؟.
المشهور هو الأول، ومرجع الأمر إلى أن بقاء القصد إلى بلوغ أربعة فراسخ، أو
نفس بلوغ أربعة فراسخ شرط متأخر لوجوب القصر من أول الأمر أم لا. وما يمكن
الاستناد إليه لما هو المشهور من الأجزاء أمران:
أحدهما ما في ذيل رواية منتظر الرفقة بعد حكمه (عليه السلام) بالاتمام حال
التردد قبل بلوغ أربعة فراسخ وهو هكذا: " قلت: أليس قد بلغوا الموضع الذي لا
يسمعون فيه أذان مصرهم الذي خرجوا منه؟ قال (عليه السلام): بلى إنما قصروا في
ذلك الموضع لأنهم لم يشكوا في مسيرهم وإن السير سيجد (2) بهم فلما جاءت العلة
في مقامهم دون البريد صاروا هكذا ". (3)
وتقريبه: إن السائل فهم التنافي بين وجوب الاتمام حال التردد ووجوب
القصر واقعا قبله، لاشتراك الصورتين في كون السير أقل من بريد، وأفاد وجوب
القصر ببيان ملزومه وهو البلوغ إلى حد الترخص، فقوله: " أليس قد بلغوا.. الخ "
مقتضاه أليس بلغوا الموضع الذي يجوز فيه القصر مع أنه أقل من بريد، فكيف يجب

(1) الوسائل: ج 5، ص 501، الباب 3 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 10 مع اختلاف يسير.
(2) والجد بالسير: الاسراع فيه والاهتمام بشأنه، يقال جد يسيره إذا اجتهد فيه. مجمع البحرين.
(3) الوسائل: ج 5، ص 501، الباب 3 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 11.
56

عليه الاتمام في مثله عند التردد؟ فأجاب " بقوله (عليه السلام):
بلى " تقرير ما فهمه من لازم بلوغ حد الترخص وهو جواز القصر، إلا أنه بين
الفارق بوجدان شرط القصر في ما قبل التردد، وهو العزم على المسير وعدم التردد في
مسيره ثمانية فراسخ، بخلاف صورة التردد الذي هو ضد العزم، فما هو شرط بقاء
القصر مفقود. وأما حمل السؤال على منافاة وجوب الاتمام لفعل القصر من
المسافرين، وحمل الجواب على أنهم معذرون لاعتقادهم الأمر به ولا أمر واقعا
بملاحظة قوله (عليه السلام): " إنما قصروا الخ " - ففي غاية البعد، فإنه بلوغ حد
الترخص الذي اقتصر عليه السائل ملزوم لجواز القصر لا لفعل القصر، وأي ارتباط
لفعل المسافر بحكم الإمام (عليه السلام) حتى يتوهم التنافي بينهما، بخلاف جواز
القصر ووجوب الاتمام. وما معنى قوله (عليه السلام): بلى الصريح في تقرير
لازم بلوغهم لحد الترخص، لا أنه نعم قصروا خارجا، أي مناسبة لكون المعتقد
للأمر ولا أمر معذورا بالإمام (عليه السلام) المعد لتبليغ الأحكام.
وبالجملة فهذه الفقرة سؤالا وجوابا ظاهرة فيما ذكرنا، وهي موافقة لقاعدة
الأصل في شرطية شئ لشئ، من كونه شرطا مقارنا لا شرطا متأخرا.
ولا بد للقائل بعدم وجوب القصر واقعا على من يحصل منه التردد فيما بعد وهو
في أقل من بريد من الالتزام بالشرط المتأخر الذي هو معركة للآراء إما بجعل
العزم في الآن اللاحق شرطا لوجوب القصر في السابق، وإما بجعل بلوغ أربعة
فراسخ خارجا شرطا لوجوبه من أول الأمر.
وأما ما عن الشيخ الأعظم (قدس سره) في كتاب الصلاة بقوله: " لأن المتبادر
من الأدلة المفيدة لإناطة الحكم بهذا الموضوع الواقعي إناطة الحكم بتحقق الموضوع
في اعتقاد المكلف المسبب عن عزمه " (1). إنتهى كلامه (قدس سره).
فغرضه (قدس سره)، إن الشرط حيث إنه قصد الثمانية لا نفس الثمانية
فوجودها في أفق القصد والوجدان لازم لا وجودها خارجا، لا أن العلم جزء الموضوع

(1) ص 415 بتغيير يسير وهو: بدل (لأن)، (إلا أن).
57

ليقال ما الفرق بين هذا الموضوع وسائر الموضوعات؟ حيث إن ظاهرها إنها بما هي
موضوعات لا بما هي معلومات.
ثانيهما: صحيحة زرارة " قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يخرج
مع القوم في السفر يريده فدخل عليه الوقت وقد خرج من القرية على فرسخين
فصلوا، وانصرف بعضهم في حاجة فلم يقض له الخروج، ما يصنع بالصلاة التي
كان صلاها ركعتين؟ قال (عليه السلام): تمت صلاته ولا يعيد " (1)
وتقريبها: أن المسؤول عن حاله غير من انصرف في حاجة، وإلا لم يقل:
" وانصرف بعضهم " وقوله: " فلم يقض له الخروج " أي لم يقدر له. وفي
الحدائق (2) فلم يطق الخروج بيان الحال الرجل المسؤول عن حكم صلاته لا أنه
تفريع على قوله انصرف بعضهم في حاجة فإنه لا مجال للتفريع بعد صراحة
الانصراف في رجوعه فتكون الصحيحة نظير رواية منتظر الرفقة (3)، فإنه حيث إن
بعضهم انصرف إلى بلده، صار انصرافه موجبا لتوقف رفقائه، ولم يتمكنوا من
الخروج إلى سفرهم الذي قصدوه فحكم (عليه السلام) على الرجل الذي توقف
عن عزمه بصحة صلاته التي صلاها قبل هذه الحالة. وربما يجعل هذه الفقرة متمما
لقوله: " انصرف بعضهم " وإن السؤال عن حال صلاة الرجل من حيث احتمال
كون صلاته بجماعة مع الإمام بفرض كونه المنصرف، أو بفرض كونه واسطة في
الاتصال بالإمام الغير المنصرف، وصحة صلاته جماعة مع من كانت صلاته فاسدة
واقعا، أجنبية عما نحن فيه، إلا أنه هذا الاحتمال في غاية البعد. فالصحيحة كما
فهمه كل من تعرض له من الأصحاب وهم أرباب الأفهام المستقيمة والأذواق
السليمة من أدلة الباب، والله أعلم بالصواب.
وأما مستند القول بفساد الصلاة واقعا ووجوب تداركها فروايتان:
إحداهما: رواية المروزي وهي هكذا " التقصير في الصلاة بريدان أو بريد

(1) الوسائل: ج 5، ص 541، الباب 23 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1.
(2) لم نعثر عليه في الحدائق.
(3) الوسائل: ج 5، ص 501، الباب 3 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 11.
58

ذاهبا وبريد جائيا، والبريد ستة أميال، وهو فرسخان، فالتقصير في أربعة فراسخ،
فإذا خرج الرجل من منزله يريد اثني عشر ميلا وذلك أربعة فراسخ ثم بلغ فرسخين
وبنيته الرجوع، أو فرسخين آخرين قصر، وإن رجع عما نوى عند بلوغ فرسخين
وأراد المقام فعليه التمام، وإن كان قصر ثم رجع عن نيته أعاد الصلاة " (1).
وموضع الاستدلال هي الفقرة الأخيرة. لكن لا يخفى عليك أن الفراسخ
والأميال المذكورة فيها هي الخراسانية، وهي ضعف الفرسخ والميل الشرعيتين،
فالرجوع عن النية مفروض بعد بلوغ أربعة فراسخ شرعية، فلا بد من حمل الرجوع
عن النية على نية الإقامة دون التردد في الرجوع والذهاب، فإن قصد الثمانية محفوظ
فيه وحكمه القصر كما صرح به قبلا في هذه الرواية.
وعليه فإن كان التقصير بعد بلوغ الأربعة وقبل نية الإقامة خرج مورد الرواية
عن مسألتنا هذه المبنية على شرطية استمرار القصد إلى آخر المسافة لما سيأتي إن
شاء الله تعالى إن الإقامة قاطعة للسفر، والاستمرار يلاحظ في السفر الواحد لا
الاثنين فعدم استمرار القصد هنا سالبة بانتفاء الموضوع، فمورد الرواية مناسب
للشرط الآتي وهو عدم قطع السفر بنية الإقامة، أو المرور إلى الوطن. نعم يشتركان
في أمر آخر وهو عدم قطع المسافة المعتبرة واقعا هنا وهناك والمعروف في ألسنة
الأصحاب إن قصد الثمانية شرط لا قطعها. فعدم صحة الصلاة هناك وهنا مبني
على اشتراط قطع الثمانية خارجا بنحو الشرط المتأخر، ولا أظن أن يلتزم به القائل
ببطلان القصر في الموردين.
ثانيهما صحيحة أبي ولاد وموضع الاستشهاد هكذا: " وإن كنت لم تسر في
يومك الذي خرجت فيه بريدا فإن عليك أن تقضي كل صلاة صليتها في يومك
ذلك بالتقصير بتمام من قبل أن تريم أي تبرح من مكانك ذلك لأنك لم تبلغ
الموضع الذي يجوز فيه التقصير حتى رجعت فوجب عليك قضاء ما قصرت " (2)

(1) الوسائل: ج 5، ص 465، الباب 2 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 4.
(2) الوسائل: ج 5، ص 504، الباب 5 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1.
59

الخبر. والرواية ظاهرة الدلالة في وجوب القضاء بل في فوريته وقوله (عليه السلام)
" عليك " وقوله (عليه السلام) " وجب " وإن كانا ظاهرين في الوجوب، وقوله
(عليه السلام) " تمت صلاته ولا يعيد " (1) في صحيحة زرارة نصا في عدمه،
واللازم حمل الظاهر في الوجوب على الاستحباب، إلا أنه فرق بين مثل هذه
ورواية المروزي (2)، فإن قوله في الثانية " أعاد الصلاة " لا مانع من حمله على
الاستحباب، بخلاف هذه الصحيحة فإنها معللة بعدم بلوغه الموضع الذي يجوز فيه
القصر، أي عدم قطع البريد الذهابي، لا عدم بلوغ حد الترخص، فإنه من البعيد
عادة أن يسير يوما في الماء (3) ولا يجوز حد الترخص، فتكون الصحيحة بملاحظة تعليلها
معارضا صريحا لصحيحة زرارة، بل للتعليل الوارد في رواية منتظر الرفقة (4)، بل
لاطلاق أدلة اعتبار حد الترخص كقولهم (عليهم السلام) " إذا خفي الأذان
فقصر " (5) من دون تقيد بقطع المسافة تماما أو استمرار القصد إلى انتهاء المسافة
نعم يمكن الجمع بين هذه الصحيحة المعللة وروايات اعتبار حد الترخص بجعله
مبدءا لوجوب القصر إذا كان واقعا يقطع المسافة تماما أو ينتهي قصدها إليها، في
قبال وجوب القصر من أول الأمر مراعى بأحد الأمرين فلا يلغوا الاشتراط
بالتجاوز عن حد الترخص مع اعتبار قطع المسافة تماما وإنما ينافيه إذا كان قطع
المسافة تماما مثلا - شرطا مقارنا، لا شرطا متأخرا.
وأما التعليل الوارد في الصحيحة وتعليل رواية منتظر الرفقة فهما متنافيان لأن
مقتضى الأول عدم مشروعية القصر مع عدم قطع المسافة المعتبرة تماما واقعا
ومقتضى الثاني مشروعيته مع عدم بلوغ المسافة بتمامها، ومع تعارض الصحيحتين

(1) الوسائل: ج 5، ص 541، الباب 23 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1.
(2) الوسائل: ج 5، ص 495، الباب 2 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 4.
(3) ليس في خ ل.
(4) الوسائل: ج 5، ص 501، الباب 3 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 10.
(5) الوسائل: ج 5، ص 506، الباب 6 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 3 شرطية مفهومها ما ذكره
في المتن.
60

تبقى إطلاقات أدلة اعتبار حد الترخص وجواز القصر على حالها من حيث إطلاقها
سليمة. فإن ما يمكن أن يكون مقيدا لها مبتلى بمعارض صريح، وطريق الاحتياط
واضح.
المسألة الثالثة
[في اعتبار عدم المرور بالوطن وما نزل منزلته]
في الشرط الثالث وهو أن لا يقصد المرور بالوطن أو الإقامة قبل بلوغ الثمانية.
وهذا أمر آخر غير اعتبار استمرار قصد الثمانية إلى آخر المسافة وذلك لأن مبنى هذا
الشرط على أن المرور بالوطن قاطع للسفر وموجب لكون ما بعده سفرا آخر،
واستمرار قصد الثمانية شرط في كل سفر، فمرجع هذه الشرط إلى اعتبار وحدة السفر
وإن قصد الثمانية في السفر الواحد شرط، فلا يجدي قصد الثمانية في سفرين بحلول
القاطع الموجب للاثنينية، فعدم استمرار القصد في السفرين من باب السالبة
بانتفاء الموضوع.
توضيحه: إن السفر كما أشرنا إليه سابقا هو عرفا البروز عن المنزل إلى المقصد
ولازمه البعد عن المنزل والتغرب عنه فالمرور إليه والحضور فيه ضد السفر عرفا ولا
محالة يكون قطع المسافة بعده سفرا آخر وقصد الثمانية يعتبر في كل سفر كسائر
شرائط وجوب القصر و بهذه الملاحظة يكون المرور إلى الوطن قاطعا وبملاحظة شرطية
وحدة السفر يكون عدمه شرطا لوجوب القصر فالقاصد للمرور إلى الوطن غير قاصد
للمسافة المعتبرة في سفره وهذا المعنى في المرور إلى الوطن حقيقي وفي المرور إلى محل
الإقامة تنزيلي.
بيانه: أن جميع الأخبار الواردة في باب إقامة العشرة ووجوب الاتمام في تلك
المدة غير مجدية لاعتبار قاطعية الإقامة بل حالها حال العزم على الرجوع أو التردد في
الأثناء من حيث فقدان شرط بقاء القصد فيكون المرور إلى محل الإقامة من
جزئيات عدم استمرار القصد في قطع تمام الثمانية فلا بد من دليل يدل على اعتبار
قاطعيتها وكون السفر سفرين.
61

والذي يمكن الاستدلال به على أنها قاطعة موضوعا اعتبارا وتنزيلا صحيحة
زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال (عليه السلام): " من قدم مكة قبل التروية
بعشرة أيام وجب عليه إتمام الصلاة وهو بمنزلة أهل مكة، فإذا خرج إلى منى وجب
عليه التقصير، فإذا زار البيت أتم الصلاة وعليه إتمام الصلاة، إذا رجع إلى منى
حتى ينفر " (1). فإن مقتضى تفريع التقصير على الخروج من مكة كونه سفرا
جديدا لا متمم السفر الأول الممتد من منزله إلى مكة ومن مكة إلى عرفات وإلا لم
يكن معنى التنزيل المقيم منزلة أهل مكة لعدم دخل للإقامة في وجوب التقصير عند
خروج المقيم إلى عرفات ولم يكن تعريضا بمن لا يرى الخروج من مكة بنفسه سفرا
موجبا للقصر مع كونه بريدين ذهابا وإيابا.
ومما ذكرنا يتضح فساد ما حكي عن الفاضل النراقي (2) (قدس سره) حيث
أشكل على المرور بالوطن بأن العرف لا يفرق بين المرور بالوطن وعدمه سيما إذا
كان مارا من حواليه، وأشكل على المرور بحمل الإقامة بأن العرف لا يفرق بين
الإقامة عشرة أيام والإقامة تسعة أيام ونصف في كون السفر واحدا غير متعدد في
الأولى كالثانية.
وجه وضوح الفساد أما في الأول: فهو أن السفر عن الوطن إذا كان ضد
الحضور فيه فلا يعقل أن يكون مسافرا عرفا وبعيدا عن وطنه ومع ذلك يكون
حاضرا فيه غير غائب ولا بعيد عنه. وأما في الثاني: فإنه لولا التنزيل لم يكن بينهما
فرق في وحدة السفر عرفا وإن افترقا في الاتمام تارة وعدمه أخرى، إلا أن الفارق
بينهما تنزيل المقيم منزلة المتوطن في كون سيره من محل إقامته سفرا جديدا كما عرفت
استفادته من الصحيحة.
ثم إنه حيث إن المقام مقام بيان الشرائط الموجبة للقصر فالمراد أن يكون
المكلف قاصدا لثمانية فراسخ في سفر واحد لا في سفرين فقاصد المرور إلى الوطن

(1) الوسائل: ج 5، ص 499، الباب 3 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 3.
(2) في المستند ج 7 صفحة 564.
62

وقاصد الإقامة غير قاصد لثمانية فراسخ في سفر واحد.
ومنه تبين أن وجه الاقتصار على خصوص المرور إلى الوطن والإقامة في الأثناء
مع أن التردد ثلاثين يوما عندهم من القواطع. حيث إنه لا يعقل قصد البقاء مترددا
ثلاثين يوما فلا مجال لاستكشاف عدم قاطعيته بعدم ذكره هنا.
نعم في إقامة الدليل على تنزيل المتردد منزلة المتوطن إشكال، لما عرفت في
نظيره من أن أدلة وجوب الاتمام على المتردد كوجوبه على المقيم لا دلالة لها على
قاطعية التردد للسفر موضوعا وإنما غايتها ارتفاع حكم القصر عنه وهو لازم أعم
فلا بد من دليل يدل على التنزيل كما ورد في باب الإقامة وإن المقيم بمنزلة أهل مكة
وربما يستدل لهذا الأمر برواية إسحاق بن عمار (1) " قال: سألت أبا الحسن (عليه
السلام) عن أهل مكة إذا زاروا عليهم إتمام الصلاة؟ قال (عليه السلام): نعم
والمقيم إلى شهر بمنزلتهم ". نظرا إلى أن أهل مكة حيث سافروا سفر التقصير فلذا
سأل الراوي أنه عند زيارتهم للبيت هل ينقطع سفر هم فيجب عليهم الاتمام أم
هم على سفر هم. والمقيم المتردد إلى شهر إذا كان بمنزلتهم كان ينقطع سفره بإقامة
شهر مترددا.
والجواب إن فرض التردد إلى شهر في المقيم بمكة إما أن يكون قبل الخروج إلى
منى وعرفات، أو بعد الخروج. لا مجال لفرضه قبل الخروج إذ لا تردد لمن ورد مكة
لأعمال الحج سواء أكان بشهر أو أقل. ففرض نية الخروج عن مكة قبل انقضاء
الحج بعيد في الغاية. وفرض تردده بعد الخروج إلى عرفات شهرا لا يلائم فرض زيارة
البيت بعد شهر إذ العادة على الزيارة في أيام العيد والتشريق أو بعد النفر من منى،
بل لا يجوز تأخيرها عن آخر ذي الحجة لجميع أصناف الحاج.
وأما فرض إقامته جزما قبل الخروج في التروية ليوافق ما ورد في باب المقيم
عشرا من أنه إذا زار البيت أتم الصلاة فهو مع أن تحديده إلى شهر بلا موجب، يخرج
عن مورد البحث وهي: " الإقامة مترددا ثلاثين يوما ".

(1) الوسائل: ج 5، ص 506، الباب 6 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 6 مع اختلاف يسير.
63

فالانصاف إنه لا دليل يعتمد عليه في قاطعية التردد. نعم المشهور على ذلك بل
قيل لا خلاف معتد به في المسألة. ثم إن ما يتعلق بالوطن من الأقسام والأحكام
وما يتعلق بالإقامة والتردد ثلاثين يوما من الشرائط والأحكام سيجئ إن شاء الله
تعالى في البحث عن قواطع السفر تبعا لغير واحد من الأعلام.
نعم ينبغي التعرض في المقام لأمرين:
أحدهما: أنه لو تردد في أول سفره بين قطع المسافة مستقيما أو مارا إلى وطنه
أو مقيما في الأثناء.
والمراد بالتردد أحد أمرين:
الأول: تردده في الأمرين من حيث وجود المقتضي لأحدهما المساوي
للمقتضي في الآخر، ومن الواضح إن ذلك يوجب عدم انقداح العزم إلى أحد
الأمرين فلا عزم له على قطع المسافة مستقيما كما لا عزم له على المرور إلى الوطن أو
الإقامة في الأثناء فلا ينبغي الاشكال في عدم وجوب القصر لعدم شرطه.
الثاني: أن يكون عازما بحسب غرضه الباعث له على السفر إلى مقصده لكنه
يحتمل المرور إلى وطنه ويحتمل عدمه لاحتمال وجود مقتض فيما بعد للمرور وعدمه
وهنا كما يمكن احتمال المرور إلى الوطن أو احتمال الإقامة كذلك احتمال بقائه
قهرا مترددا بخلاف التردد بالمعنى الأول فإنه يستحيل وجود مقتض فعلا لبقائه
مترددا كما يستحيل عزمه على بقائه مترددا، وقد تقدم في مسألة مفارقة التابع عن
متبوعه الفرق بين المفارقة الاختيارية والقهرية وهنا كذلك لأن الغرض الباعث على
قطع ثمانية فراسخ وإن كان محفوظا سواء مر إلى وطنه أو أقام في الأثناء إلا أن
باعثية على العزم على قطع ثمانية متصلة أي الثمانية في سفر واحد أضعف من
باعثية الغرض المرتب على المرور بوطنه أو على الإقامة في الأثناء ولا يعقل تأثير
الأضعف دون الأقوى فلا يعقل انقداح العزم المنجز على السير الخاص أي ثمانية
فراسخ في سفر واحد بخلاف الإقامة القهرية أو المرور إلى الوطن قهرا فإن مقتضى
العزم غير مزاحم بمقتضى المرور والإقامة من تلقاء شخص المسافر، بل مانع عن
64

ترتب المعزوم عليه على العزم وبقية الكلام في المسألة السابقة فراجع.
ثانيهما: إذا قصد المرور بالوطن أو الإقامة في الأثناء ثم عدل عنهما وقصد المسافة
مستقيما وكان مقدار المسافة المعتبرة ولو تلفيقا، قصر على المباني المتقدمة. وإذا قصد
المسافة مستقيما ثم عدل وعزم على المرور أو الإقامة ثم عدل إلى قصد المسافة
مستقيما، فينضم ما بعد قصد المسافة مستقيما إلى ما قبله سواءا كان العدول بعد
قطع شئ من المسافة أو لا، غاية الأمر باسقاط ما تخلل من قطع المسافة بعزم المرور
أو الإقامة كما تقدم الوجه فيهما في مسألة التردد أو العزم على الرجوع قبل أربعة
فراسخ لأن العزم على القاطع غير قاطع بل مانع عن ترتب حكم القصر لعدم
استمرار قصد ثمانية فراسخ مستقيما فتدبر.
المسألة الرابعة
[في كون السفر سائغا]
في الشرط الرابع لوجوب القصر وهو كون السفر سائغا مباحا فلو كان حراما
أتم. وتنقيح المقام ببسط الكلام في أمور:
الأمر الأول
إن ظاهر العنوان كما في الشرايع (1) وغيره يوهم دوران الأمر قصرا وإتماما
مدار إباحة السفر وحرمته مع أن السفر لغاية محرمة غير محرم، لما تقرر في محله من
الفرق بين مقدمات الواجب ومقدمات الحرام، فإن المطلوب في الواجب وهو
لا يوجد إلا بوجود مقدماته جميعا والمطلوب في الحرام تركه وهو حاصل بترك مقدمته
الأخيرة ولو مع إتيان جميع مقدمات وجوده إلا المقدمة الأخيرة فلا تحرم إلا المقدمة
الأخيرة إلا أن يراد من العنوان أعم مما يكون حراما بنفسه أو حراما بغايته، فيكون

(1) الشرايع: ص 39.
65

الوصف (1) في الثاني بلحاظ متعلقه لا بلحاظ نفسه. ولا بد من ذلك لأن السفر لغاية
محرمة منصوص سواءا كان السفر من قبل غايته حراما أم لا، بل ربما لا يكون غايته
أيضا حراما كما في الصيد لهوا لا للقوت فإنه كما سيأتي إن شاء الله تعالى لا دليل على
حرمة مطلق اللهو. نعم " المؤمن في شغل عن ذلك " (2)، كما في الخبر، بل سيجئ
إن شاء الله تعالى أن مطلق مقدمية السفر للحرام لا يوجب القصر، بل فيما إذا
كان غاية لسفره كما هو ظاهر النصوص. فلو سافر للزيارة مثلا مع القطع بأنه
ينال مالا حراما من ظالم بحيث لو لم يذهب لا يناله لكنه سافر للزيارة لا لهذه الغاية
كان سفره موجبا للقصر وإن كان واقعا مقدمة للحرام.
الأمر الثاني
إن السفر المبحوث عنه على أقسام، منها: أن يكون معنونا بعنوان محرم، وهو
المراد من كونه محرما بنفسه، وإلا فالسفر بذاته وبطبعه لا حرمة له. ومنها: أن يكون
مقدمة لغاية محرمة. ومنها: أن يكون ملازما للحرام. ومنها: أن يقع فيه الحرام اتفاقا
ومن باب المقارنة. لا شبهة في سببية الأولين للتقصير، كما لا شبهة في عدم سببية
الأخير. وإنما الكلام في موردين:
أحدهما: في إقامة الدليل على سببية السفر المحرم بنفسه للقصر بتوهم أن
النصوص المستفيضة في المقام موردها السفر لغاية محرمة وإنه لا دليل على سببية
غيره كما نسب إلى بعض الأجلة (قدس سرهما).
ثانيهما: في سببية السفر المستلزم للحرام وعدمها فيقصر.
أما الأول: فربما يستدل له بالفحوى وهو إنما يصح إذا كان السفر لغاية محرمة،
محرما بالتبع حتى يتوهم أنه إذا كان المحرم بالتبع موجبا للقصر فالمحرم بالأصالة أولى
بذلك، وأما إذا لم يكن كذلك كما مر الوجه فيه فلا فحوى فإنه ليس ملاك سببية

(1) " الموضوع خ ل ".
(2) مستدرك الوسائل: ج 1، ص 502، الباب 7 إن من خرج إلى الصيد.. الحديث 1.
66

السفر لغاية محرمة حرمته حتى يكون المحرم بنفسه أولى، بل الملاك كونه ذا غاية
محرمة. وما نحن فيه لا يساويه فضلا عن كونه أقوى ليكون أولى.
نعم يمكن الاستدلال له برواية عمار بن مروان " قال: سمعته (عليه السلام)
يقول: من سافر قصر وأفطر إلا أن يكون رجلا سفره إلى صيد أو في معصية الله، أو
رسولا لمن يعصي الله أو في طلب عدو أو بشحناء أو سعاية أو ضرر على قوم من
المسلمين " (1).
بتقريب أنه ربما يقال المعصية في السفر وربما يقال السفر في المعصية. فالسفر
على الأول مشتمل على المعصية وعلى الثاني المعصية مشتملة على السفر، ولا يكون
إلا بانطباق عنوان محرم على السفر، فكأن السفر منطو في المعصية كما هو مقتضى
ظرفية المعصية. وأما السفر لغاية محرمة فهو سفر للمعصية أو إلى معصية، وعلى فرض
التوسع في الظرفية فالسفر المحرم أظهر أفراده. وأما عطف قوله (عليه السلام) " أو
رسولا الخ "، فالعطف بما هو غير مناف لإرادة السفر إلى المعصية من قوله (عليه
السلام " أو في معصية الله " فإن عطف الخاص على العام أمر متعارف والعطف
بأو الظاهر في المقابلة وإن كان مقتضيا لذلك، إذ لا تقابل بين الجامع وأفراده، إلا
أنه يمكن أن تكون المقابلة باعتبار السفر إلى معصية الله بما هو حق لله تعالى،
والسفر لما له مساس بحقوق المؤمنين والمسلمين واستدل له أيضا بقوله (عليه السلام)
في موثقة سماعة " إلا أن يكون مشيعا لسلطان جائر " (2) حيث إن التشييع عنوان
للسير عقيب المسافر لا غاية مترتبة عليه، وليس التشييع فعلا توليديا من السير
ليكون للسير نحو من المقدمية، فإن كون شئ عقيب شئ وهو ملاك المشايعة
والتشييع وإن كان لا يوصف به الأفعال فإن الأفعال بما هي حركات متقدرة
بالزمان وإن كانت قابلة للسبق واللحوق الزمانيين لكنها غير قابلة للسبق واللحوق
المكانيين فإنهما من خواص الأجسام فإنها التي يعرضها مقولة الكون الأيني فيوصف

(1) الوسائل: ج 5، ص 509، الباب 8 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 3.
(2) الوسائل: ج 5، ص 510، الباب 8 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 4.
67

بالسبق الرتبي الوضعي، إلا أن الأفعال القائمة بالكائن في المكان توصف بكونها
فيه بالعرض، فيوصف بالسبق الرتبي الوضعي بالعرض، فيوصف الفعل وهو السير
ممن هو عقيب شخص آخر بكونه عقيب سيره وهو التشييع، وإلا فالسير ليس شرطا
لوقوع شخص عقيب شخص، بل الأمر بالعكس لانتهاء كل ما بالعرض إلى
ما بالذات.
وأما الاستدلال بما ورد من التعليل لوجوب الاتمام في صيد اللهو بأن ذلك
" سير باطل "، أو " مسير باطل " (1)، نظرا إلى أن السفر المحرم بذاته مسير باطل
كالسفر لغاية محرمة، فيمكن منعه بأنه ليس كل فعل محرم يوصف بأنه باطل، بل
الفعل لغاية غير مرضية هو الموصوف بأنه باطل كالسفر لغاية التنزه بالتصيد. فالفعل
الباطل ما لا يترتب عليه الأثر المرغوب منه.
وأما الثاني: وهو السفر المستلزم للحرام كالسفر المستلزم لترك أداء الدين
الواجب، وسببية مثله للاتمام مبني على أحد أمرين: إما مقدمية فعل الضد لترك
الضد. وإما شمول بعض العناوين للأعم مما كان بذاته حراما أو بغايته، أو
مستلزما للحرام.
أما مسألة المقدمية فيورد عليها:
أولا: بمنع المقدمية خصوصا مقدمية فعل الضد لترك الضد فإن كون ترك
شئ مقدمة شرطية لفعل شئ، وإن كان معقولا، إلا أن مقدمية فعل شئ ترك
ضده فهي غير معقولة، لأن الترك لا ينبعث عن الفعل ليكون الفعل مقدمة سببية،
والترك لا يحتاج إلى فاعل وقابل ليعقل له مصحح فاعلية الفاعل ومتمم قابلية
القابل وهو معنى الشرطية.
وثانيا: بمنع الحرمة لما مر من أن مقدمات الحرام ليست بمحرمة بل المقدمة
الأخيرة منها.
وثالثا: بمنع تأثير الحرمة التبعية، إذ لا عصيان في المقدمة، فلا يندرج تحت عنوان

(1) الوسائل: ج 5، ص 512، الباب 9 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 7.
68

السفر في معصية الله، ولكن العمدة نفي المقدمية رأسا. وإلا فقد عرفت أن صيرورة
المقدمة محرمة غير لازمة لأن موضوع الاتمام هو السفر لغاية محرمة، سواء اتصف
السفر بأصل الحرمة أم لا.
لا يقال: منع مقدمية خصوص الفعل لترك الضد غير مجد هنا، إذ لنا أن نقول
إن نفس السفر ضد للحضور الذي هو شرط أداء الدين على الفرض، فأداء الدين
واجب، وترك السفر الذي هو ضد له بالعرض مقدمة له فهو واجب، وبابه حينئذ
باب مقدمية ترك الضد لفعل ضده، لا مقدمية فعل الضد لترك ضده.
لأنا نقول: لا يوجب ذلك كون السفر لغاية محرمة إلا باعتبار أن فعل السفر
مقدمة لترك أداء الدين المحرم حتى يندرج تحت عنوان السفر لغاية محرمة، وإلا
فمجرد حرمة السفر عرضا لوجوب ترك لا ينتج كون السفر لغاية محرمة.
نعم هذا التقريب يجدي في دفع الايراد الثاني فتدبر. مع أنك قد عرفت سابقا
إن مجرد المقدمية للحرام لا يوجب الاتمام، بل كما هو ظاهر النصوص إذا كان
السفر لغاية محرمة فمجرد كون السفر مستلزما لترك الواجب لا بقصد ترك الواجب،
بل بقصد الزيادة لا يوجب الاتمام.
نعم ربما يستثنى من موارد الاستلزام مع عدم البناء على مقدمية الضد ما إذا
كان السفر فرارا من أداء الدين فإنه حينئذ يكون السفر مقدمة لترك الواجب،
حيث لا يتمكن من ترك الواجب إلا بسفره.
ويندفع بأن ذلك لا يوجب انقلاب ما ليس بمقدمة مقدمة، غاية الأمر إنه
لا يمكن من ترك أداء الدين في الحضر حيث يجبر عليه ويستوفي منه الدين بخلاف
ما إذا سافر فإنه لا يمكن إجباره على الواجب الذي يكون تركه ملازما لسفره.
وأما مجرد الفرار عن التكليف فالحكم بقبحه بلا وجه، إذ ليس الفرار عن
الامتثال إلا ترك الواجب، كما أن عنوان التوصل بشئ إلى الحرام مع عدم
المقدمية ليس من العناوين المحرمة نفسا حتى يوجب الاتمام من حيث حرمة نفس
السفر. هذا كله في نفي المقدمية.
وأما مسألة شمول بعض عناوين الأدلة لمورد الاستلزام كعنوان " السفر
69

الباطل " و " المسير الباطل ". فمدفوعة بأن قيام الباطل بشئ حلولا أو صدورا
يوجب اتصاف ذلك الشئ بالباطل. وأما مع عدم القيام بنحو فالسفر ملازم
للباطل لا أنه باطل. وأوضح منه عدم صدق السفر في المعصية فإن ملازمة السفر
للمعصية كمقارنته للمعصية فالمعصية في أثناء السفر لا أن السفر منطو في المعصية،
ولذا لا أظن أن يقول أحد بكون السفر المقارن لمعصية في أثنائه موجبا للاتمام.
الأمر الثالث
فيما وقع فيه النزاع في كونه حراما بنفسه أو بغايته أو لا؟.
منها: الركوب على الدابة المغصوبة حتى قال في الجواهر (1): " بحرمة السفر ولو
كان نعل الدابة مغصوبا " نظرا إلى أن هذا السير الشخصي حرام.
والتحقيق إن هنا أمورا ثلاثة:
أحدها: الأكوان النسبية القائمة بالمسافر وتلك الأكوان المتعاقبة هي المقومة
للسفر وقطع المسافة.
ثانيها: الأكوان النسبية القائمة بالدابة.
وثالثها: ركوب الدابة والأولان من مقولة الأين، والأخير من مقولة الجدة،
وهي هيئة إحاطة الراكب بالمركوب، والمقولات متبائنات وجودا وماهية. وببرهان
اتحاد الايجاد والوجود بالذات مع اختلافهما بالاعتبار نقول: إنه لا يمكن أن يكون
إيجاد الكون النسبي المتعاقب متحدا مع إيجاد الهيئة، ولا إيجاد فرد من مقولة مع فرد
آخر منها. نعم ركوبه على الدابة المغصوبة مقدمة لسيره، فإنه بركوبه يسير لا أنه بسيره
يركب فالسير الخاص لا بنفسه معنون بعنوان الغصب، ولا هو مقدمة للغصب، بل
الغصب مقدمة للسير. وما لا يجوز فيه القصر ما كان حراما بذاته أو بغايته، لا ما
كان له مقدمة محرمة.
ومنها: ما إذا نقل المغصوب من مكان إلى مكان بحمله في سفره، وقد عرفت أن

(1) الجواهر: ص 260.
70

لكل من الناقل والمنقول كونا نسبيا على التعاقب، فلا يعقل أن يكون نقله عين
سيره للبرهان على اتحاد الايجاد والوجود بالذات فكون نقله تصرفا في المغصوب غير
ضائر لأن النقل والسير فعلان متقارنان، لا النقل مقدمة للسير، ولا السير مقدمة
للنقل، وكل منهما مستقل بالإرادة.
ومنها: ما إذا مشى في أرض مغصوبة فتارة تكون الأرض مغصوبة فقط دون
الفضاء. وأخرى يكون الفضاء مغصوبا.
أما الأول: فلا يوجب حرمة السفر لا لأن السفر لا بد من أن يكون بعنوانه
حراما لا بعنوان آخر ينطبق عليه فإنه بلا وجه، فإن السفر بما هو مباح بذاته وإنما
يحرم من حيث انطباق عنوان محرم عليه كعنوان الإباق، أو عنوان الفرار من
الزحف، أو عنوان تشييع السلطان، ومنه عنوان الغصب، بل لأن المشي على أرض
مغصوبة وإن كان تصرفا في الغصب إلا أنه مقدمة للسفر لا عنوان له، لأن السفر
كما مر متقوم بالأكوان النسبية المتعاقبة والمشي على الأرض كالركوب في السفينة
في الماء، والركوب في الطيارة في الهواء مقدمة لحصول السير وهي الأكوان النسبية
المضافة إلى المكان وهو البعد المجرد، وتلك الأكوان النسبية لا اتحاد لها مع المشي
المحرم ولا متقومة به.
وأما الثاني فهو موجب لحرمة السفر، لأن تلك الأكوان النسبية متقومة بالنسبة
إلى المكان بالمعنى المتقدمة، فالكون النسبي الواحد سفر في نفسه ومحرم، لكونه عين
الكون في المكان المغصوب، فعدم الاتمام في المشي على الأرض لا بد من أن يحمل
على مغصوبية الأرض فقط.
ومنها: ما إذا كان لابسا للمغصوب في سفره أو حاملا له، فالأقوى أيضا القصر
لأن الكون النسبي المتعاقب القائم باللابس والحامل غير الكون النسبي القائم
باللباس والمحمول، ويستحيل اتحاد فرد من مقولة مع فرد آخر، وليس الكون القائم
باللابس والحامل مقدمة للكون النسبي القائم باللباس والمحمول حتى يكون السفر
مقدمة للحرام، بل هما متقارنان. وإرادة السير الموجبة لتحققه توجب تحقق مقارنة
الذي هو معه فالسفر مقارن للغصب لا معنون به، ولا مقدمة له.
71

والتحقيق: أن الأكوان النسبية المتعاقبة القائمة بالشخص هي حركاته الأينية
التي لازمها البعد عن المنزل والقرب من المقصد وهي حقيقة السفر المتقومة بتلك
الحركات في الأين. وحركات اللباس والمحمول تابعة لحركات اللابس والحامل.
وليست التبعية إلا للمقدمية ولذا جعلت حركة اليد علة تامة لحركة المفتاح، فنفي
المقدمية بلا وجه.
نعم ليست حرمة المقدمة مناطا لوجوب القصر كما هي مناط عدم صحة
الصلاة في اللباس المغصوب، لعدم اجتماع الحرمة والوجوب مطلقا بل الملاك كون
السفر لغاية محرمة ومن الواضح إن سفر اللابس للمغصوب ليس إلا لأجل تجارة أو
زيارة لا لأجل تحريك المغصوب كي يكون السفر لغاية محرمة. فتدبره فإنه حقيق به.
الأمر الرابع
التابع للجائر يتصور على أقسام:
منها: أن يكون سفره بقصد الإعانة له على جوره، كما في سفره إلى الحكومة في بلد.
وهذا سفر لغاية محرمة يجب فيه الاتمام.
ومنها: أن لا يكون سفر الحاكم إلى معصية، بل إلى زيارة، لكن التابع يتبعه
بعنوان أنه من جنده وأعوانه وممتثلا لأمره، فإنه وإن كان تقلد هذا المنصب حراما
كحرمة تقلد الحاكم والسلطان لهذا المنصب الذي لا يليق به، لكنه بمجرده
لا يوجب حرمة سفره إلا باعتبار أن نفس الحركة بعنوان تقوية شوكته حرام، فإنه
ليس بأقل من تشييع السلطان، ولا من قصد السلطان إعظاما له وإن لم يقصد نيل
المظالم منه كما ورد كلا الأمرين في الخبر. فالسفر حينئذ بنفسه حرام، لانطباق محرم
عليه لا لكونه لغاية محرمة، وبه يفترق عن مجرد المعية لأحد في الطريق للحاكم،
وعمن امتثل أمره بالسفر معه للزيارة لا من حيث كونه من جنده المقوين لشوكته.
ومنها: ما إذا تبعه لكونه أجيرا له على الطبخ له أو سائر الأعمال المتعلقة
بالحاكم بما هو إنسان بشري يحتاج إلى تلك الأعمال فإن إجارته صحيحة والعمل
72

له جائز فالسفر معه لا لغاية محرمة، ولا هو محرم بانطباق عنوان محرم عليه.
الأمر الخامس
الراجع من سفر المعصية إذا لم يتصف بعنوان محرم، أو لم يكن لغاية أخرى
محرمة لا موجب للاتمام فيه. وهو من القضايا التي قياساتها معها ومجرد إطلاق سفر
المعصية على الذهاب والإياب من باب المسامحة العرفية بعد وضوح أن مسوغ
الاتمام منحصر في أحد الأمرين لا اعتبار به.
والتفصيل بين التوبة فيقصر وعدمها فيتم كما عليه غير واحد أيضا بلا وجه.
فإن التوبة لا يوجب كون السابق ملحقا باللاحق ليكون المجموع سفرا مباحا،
لاستحالة انقلاب الشئ عما وقع عليه، وإنما التوبة ترفع أثر المعصية وهي
العقوبة، كما أن ترك التوبة لا يوجب الحاق اللاحق بالسابق ليكون المجموع سفرا
محرما، لأن ترك التوبة وإن كان معصية بناءا على وجوبها شرعا لا عقلا، لكنه
ليس عنوانا منطبقا على السفر، ولا غاية مقصودة من السفر، بل معصية مقارنة
للسفر المباح، ولا يجري هنا حديث استلزام السفر لترك الواجب لعدم المضادة بين
السفر والتوبة، كما كان بين السفر وترك أداء الدين.
لكنه هذا كله إن كان الرجوع مسافة تامة، وإلا فالاتمام مستند إلى عدم
قصد الثمانية لا إلى كون السفر معصية، كما أنه لا أثر للتوبة حتى تتحقق مسافة
ملفقة.
الأمر السادس
فيما إذا أنشأ سفرا مباحا ثم عدل إلى قصد المعصية أو أنشأ سفر المعصية ثم عدل
إلى قصد الطاعة أو عدل عن الطاعة إلى المعصية ثم عدل إلى الطاعة، وبالعكس.
وتنقيح المقام يتم برسم بمباحث:
الأول: إذا أنشأ سفرا لمباح ثم قصد غاية محرمة مثلا. والكلام فيه تارة: في
بقائه على التقصير أو يتم حال قصد المعصية. وأخرى: في أن إتمامه منوط بالتلبس
73

بالسير لغاية محرمة، أو يكفي مجرد قصد المعصية في الاتمام ولو قبل التلبس بالسير؟.
أما الكلام في الأول: فغاية ما يمكن أن يقال في وجه بقائه على القصر: إن
شرائط القصر قد وجدت بتمامها من دون نقص، وإن الاتمام لا شرط له حتى
يتوهم أنه كما وجد شرط وجوب القصر وجد شرط وجوب الاتمام، وهو حرمة
السفر، بل وجوب الاتمام في موارده لانتفاء شرط وجوب القصر، فالعدول عن
المعصية شأنه إنه لا يحسب سفرا مسوغا للقصر ولا متمما لما يجب فيه القصر،
والمفروض عدم الحاجة إلى كليهما، لأن مسوغ القصر موجود وهو استجماع السفر
المباح لجميع شرائط القصر فلا حاجة إلى مسوغ آخر في هذا الجزء، ولأن المفروض
بلوغ المسافة المباحة لحدها الشرعي وهي ثمانية فراسخ فلا حاجة إلى التتميم،
واشتراط الإباحة في الثمانية لا بشرط الزيادة لا يوجب اشتراطها في الزيادة، فإن
معنى اللا بشرطية عدم دخل الزيادة وجودا وعدما فيما ثبت للثمانية، لا أن
مقتضاها ثبوته للزيادة. فإن معنى الاطلاق اللا بشرطي القسمي رفض القيود، لا
الجمع بين القيود.
والجواب عنه: إن اشتراط الإباحة وعدم قصد غاية محرمة، إن كان في المسافة
الخاصة التي قصدها شرط، بحيث يكون شرطا في شرط وجوب القصر فالأمر كما
أفاده المتوهم، وإن كان هو كسائر الشرائط شرطا في السفر العرفي من المنزل إلى
المقصد بحيث كانت الشرائط كلها متساوية النسبة إلى الموضوع المترتب عليه
وجوب القصر، فاللازم إباحة السفر العرفي بتمامه لا خصوص مقدار المسافة الخاصة
المعتبرة شرعا، كما هو مقتضى الأدلة، لأن مقتضى إطلاق دليل القصر في السفر
قبل ملاحظة تقييده بما اعتبره الشارع شرطا لترتب القصر هو موضوعية السفر
العرفي، وكما أن الشارع اعتبر فيه أن يكون ثمانية فراسخ، وأن يكون مقصودة من
أول الأمر، وأن يستمر على قصده، وأن يتجاوز عن حد الترخص، كذلك اعتبر فيه
أن يكون لا لغاية محرمة مثلا، فإذا انتفى شرط من هذه الشرائط، فإن كان شرطا
للحدوث كقصد المسافة التي لا تنقص عن ثمانية فراسخ، وكالتجاوز عن حد
الترخص، لم يحدث وجوب القصر، وإن كان شرطا للبقاء فقط، كاستمرار
74

القصد، أو شرطا للحدوث والبقاء معا فلا محالة ينتفي المشروط بانتفائه. وما ذكرنا
هي العمدة في دفع الإشكال، وإلا فمجرد خروج السفر الغير السائغ وتقييد أدلة
وجوب القصر غير واف بدفع الاشكال.
فإن قلت: مجرد كون الشرط قيدا لسفره العرفي لا يجدي، لامكان كونه حيثية
تعليلية لحدوث القصر، لا حيثية تقييدية لموضوعه حتى يدور بقاء الحكم مدار بقائه.
وظاهر الأدلة اعتباره في إنشاء السفر فلا يعم ما إذا كان في أثنائه.
قلت: بعد تسليم أن الشرائط مأخوذة ومعتبرة في السفر العرفي، فظاهر دليل
إباحة السفر العرفي إباحة السفر بما هو، لا بجزء من السفر العرفي، فالسفر في معصية
الله ما اتصف بكونه في المعصية ما دام كونه سفرا. وظهور الأدلة في إنشاء السفر
لا ينافي كون الإباحة شرطا لحدوثه وبقائه فلا ندعي أنه شرط لبقاء الحكم وحده
حتى يقال إنه خلاف الظاهر، بل نقول شرط لحدوثه وبقائه. ولازم شرطية الإباحة
لبقاء الحكم أنه إذا تبدلت المعصية إلى غيرها، أو من غير المعصية إليها لزم لكل
منهما حكمه. هذا كله في عدم بقاء المسافر على القصر بعد تبدل الإباحة بالحرمة.
وأما الثاني: وهو اعتبار التلبس بالسير بعد العدول إلى المعصية وعدم اعتباره.
فمبني المسألة على أن السفر متقوم بخصوص السير حتى لا يكون مجرد قصد المعصية
محققا للتلبس بالسفر الحرام، أو أن السفر حالة مستمرة من المنزل إلى المقصد سواء
كانت الحالة حالة السير أو حالة السكون. ومقتضى اعتبار قاطعية القواطع الثلاثة
للسفر واقتضائها تعدد السفر بحصولها في الأثناء، هو اعتبار هيئة الاتصال
والاستمرار في السفر، وإلا فتعدد السير بتخلل السكون مما لا شك فيه، حصل أحد
القواطع أم لا.
والتحقيق: أنه كذلك إذ السفر هو البروز من المنزل إلى المقصد والبعد عنه
والتغرب عنه وهي حالة مستمرة إلى أن يحصل ما يجعله بروزا آخر من المنزل.
وما نزل منزلته، فإذا اتصف بروزه في حال من الأحوال بعنوان حرام أو بقصد غاية
محرمة كان في هذه الحالة متلبسا بالسفر المحرم، فيجب عليه الاتمام قبل التلبس
بالسير. مضافا إلى أن وجوب القصر في حال السكون كما أن الغالب فعل الصلاة في
75

تلك الحال مع وضوح أن القصر حكم المسافر يشهد بأنه في تلك الحال مسافر، وإلا
لكان مقتضاه علية سيره المتقدم لوجوب القصر فيما بعده لا شرطية السفر بنحو
الشرط المقارن، لوجوب القصر كما هو الأصل في الشرطية.
ودعوى أن مجموع السير المتخلل بينه السكون هو الموجب للقصر، وإلا فحقيقة
السفر متقومة بالسير، غير ضائرة بما نحن فيه، لأن الفرض صدق السفر والمسافر عرفا
أو حقيقة في حال السكون. وأما استفادة اعتبار التلبس بالسير مما ورد بعنوان أنه
" سير باطل "، أو " مسير باطل " كما في أخبار سفر الصيد
فمدفوعة بأنه نظير ما ورد أصل التقصير في السفر بأنه " مسيرة يوم " أو
" بريدين "، فإن نفس السير لا شرطية له بل المراد أن يكون المقصود مسيرة يوم أو
مسيرا غير باطل، فإذا قصد ثمانية فراسخ تحقق الشرط، كما أنه إذا تحقق قصد مسير
باطل تحقق ما اعتبر عدمه في وجوب التقصير، ومن البين أن قاصد السير الباطل
يجب عليه الاتمام، لا السائر سيرا باطلا. مضافا إلى ما عرفت من أن وجوب
الاتمام غير مشروط بشئ وإنما الشرائط لوجوب القصر، ومع انتفاء أحدها ينتفي
وجوب القصر، ويجب الاتمام. وعليه فمع انتفاء قصد السير المباح لتبدله بقصد
السير المحرم أو لغاية محرمة، ينتفي وجوب القصر في تلك الحالة فالاستدلال بقوله
(عليه السلام): " إلا أن يكون رجلا سفره في صيد أو في معصية الله الخبر " (1)
وبأشباهه بدعوى أنه لم يتحقق منه سفر في معصية الله، مدفوع بأنه لا حاجة إلى
حدوث سفر في معصية الله في وجوب الاتمام، بل إلى عدمه في وجوب القصر.
فتدبر جيدا والله أعلم.
المبحث الثاني: إذا أنشأ سفرا محرما أو لغاية محرمة ثم عدل إلى الطاعة، والثاني
بمقدار المسافة ولو لمنفعة، وجب القصر لوجود جميع الشرائط الموجبة للقصر،
ولا يجري فيه بعض ما توهم في عكسه إلا توهم ظهور الأدلة في إنشاء السفر
وإحداثه مباحا أو حراما في اقتضاء القصر والاتمام وقد تقدم دفعه.

(1) الوسائل: ج 5، ص 509، الباب 8 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 3.
76

نعم بناء على انتهاء سفر المعصية بزوال قصد المعصية وحدوث موجب القصر
بمجرد قصد الطاعة، يبقى الكلام في اعتبار حد الترخص هنا ومع اعتباره يلغو
حديث كفاية قصد الطاعة أو لزوم التلبس بالسفر، إذ مع اعتبار حد الترخص
يكون التلبس لازما لا لاعتباره في تحقق السفر، بل في تحقق وجوب القصر
وسيجئ إن شاء الله تعالى أن حد الترخص في السفر من المنزل وما نزل منزلته
من الإقامة والتردد ثلاثين يوما لا في كل مبدأ لما يجب فيه القصر. وإطلاق قوله
(عليه السلام) " فإذا مضوا قصروا " في خبر منتظر الرفقة (1) بعد حصول التردد
الموجب للاتمام شاهد على عدم اعتبار حد الترخص في نظير المقام ما هو مبدأ
وجوب التقصير. وبقية الكلام فيما بعد إن شاء الله تعالى.
المبحث الثالث: فيما إذا أنشأ سفرا مباحا ثم قصد عنوانا محرما أو غاية محرمة ثم
عدل إلى ما قصده أولا من الغاية المباحة مثلا ففي لزوم كون الباقي مسافة شرعية، أو
كفاية كون السابق واللاحق المباحين باسقاط المتخلل في البين مسافة، أو كفاية
كون المجموع مما سار بقصد الطاعة والمعصية مسافة وجوه، بل أقوال.
وجه الأول: ما تقدم من توهم اعتبار استمرار القصد حقيقة بضميمة اعتبار
إباحة المقصود المعتبر فيه الاستمرار.
ووجه الثاني: ما تقدم من عدم الدليل على اعتبار استمرار القصد حقيقة، بل
اللازم كون ثمانية فراسخ مقصودة، وقطعها عن قصدها إلى الآخر لبقاء السفر على
وحدته بعدم تخلل أحد القواطع الثلاثة فراجع ما تقدم.
ووجه الثالث: أن المجموع مسافة مقصودة، والإباحة والحرمة يوجبان تبعض
المسافة في أحكامها من القصر والاتمام فما دامت هذه المسافة مباحة يحب القصر،
وإذا حرمت وجب الاتمام وإذا كانت مباحة أيضا وجب القصر وقواه الفاضل
النراقي (قدس سره) (2) ومال إليه بعض أجلة العصر (رحمه الله) (3) لولا مخافة

(1) الوسائل: ج 5، ص 501، الباب 3 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 11.
(2) مستند الشيعة: ج 1، ص 575.
(3) الظاهر مصباح الفقيه ص 743.
77

الاجماع فراجع.
وأوسط الأقوال هو الأوسط. واندفاع الوجه الأول واضح مما مر. ويندفع الوجه
الأخير بأن اجتماع الشرائط في موجب القصر لازم ولا يكفي وجودها متفرقة فلا
يجدي قصد الثمانية في كل جزء والإباحة في بعض الأجزاء، ومعنى شرطية الإباحة
بقاء بحيث يدور وجوب القصر مدارها هو شرطيتها في كل ما يتقوم به المسافة
المعتبرة في التقصير لا أنه شرط في بعض المسافة المحكومة بالقصر. وأما كفاية مجرد
العدول ثانيا إلى قصد غاية مباحة أو مع التلبس بمقدار من السير المباح فحال ما نحن
فيه حال مسألة العدول من قصد غاية مباحة إلى غاية محرمة كما تقدم الوجه فيه نفيا
وإثباتا. وعن الشيخ الأجل (قدس سره) في كتاب الصلاة (1) " اعتبار التلبس
هنا بجزء من السير المباح دون ما تقدم لتحقيق صدق أنه متلبس بالسفر المباح " وهو
منه غريب بعد اختياره " إن جميع أكوان المسافر حالات سفرية وإن الوحدة محفوظة
بعدم تخلل القاطع " (2) فإن مقتضاه إنه بمجرد عدوله إلى غاية مباحة يصدق عليه
إنه فعلا في حالة سفر مباح.
نعم لو كان (قدس سره) ملتزما بعدم اعتبار التلبس بالسير في خصوص ما إذا
عدل من الطاعة إلى المعصية دون عكسه لأمكن إصلاح كلامه بوجه آخر وهو
ما قدمنا من أن وجوب الاتمام غير مشروط بشئ إلا انتفاء موجب القصر. فالسفر
المباح إذا انقضى بانقضاء السير المباح فقد لزم الاتمام بخلاف ما إذا عدل من
المعصية إلى الطاعة (3) فإن مجرد قصده لا يجعله مسافرا بسفر مباح فيتضح ما أفاده هنا
من لزوم التلبس بالسير المباح لكنه مبنى آخر غير مبناه من كون جميع أكوان المسافر
من سيره وسكونه حالات سفرية فراجع.
ثم إنه بناء على ما تقدم من وحدة السفر وعدم تعدده إلا بتخلل أحد القواطع
الثلاثة لا فرق في العدول بين تبدل الغاية المباحة وعكسها وبين بقاء تلك الغاية

(1) ص 433.
(2) في صفحة 432.
(3) " إلى الطاعة من المعصية خ ل ".
78

المباحة على حالها وحدوث غاية أخرى محرمة في أثناء السفر بقصد الغاية المباحة
المحفوظة فإن توهم أنه إنشاء سفر جديد، فلا بد فيه من التلبس بمقدار من السير المغير
لعنوان السفر المباح أيضا كما عن الشيخ الأجل (قدس سره) خلاف مبناه وخلف
لما بنينا عليه وإن كان (قدس سره) حكم بضعف الوجه الذي ذكره من عدم
صدق التلبس بسفر المعصية إلا بعد التلبس بمقدار من السير في المعصية فراجع (1).
ورواية السياري (2) الواردة في باب الصيد غير منافية لما ذكرنا كما سيأتي إن شاء
الله تعالى.
الأمر السابع
إذا كان للسفر غاية مباحة وغاية محرمة، فإن كانت إحدى الغايتين مستقلة في
الدعوة والأخرى تبعا محضا، كما إذا كانت الغاية الباعثة هي التجارة لكن من
عزمه أن يرتكب بعض المعاصي هناك، أو كانت الغاية الباعثة هي السعاية على
مؤمن لكن من عزمه أن يتجر بشئ هناك فالحكم للغاية الباعثة. وأما التابع
الذي لا دعوة له أصلا لا مستقلا ولا مشتركا مع الغاية الباعثة فلا تأثير له في القصر
ولا في الاتمام وإنما الكلام فيما إذا كان منهما في حد نفسه مستقلا في الدعوة بحيث لو
كان وحده لأثر في قطع المسافة، ولو لم يكن لم يقطع المسافة أو كان كلاهما
مشتركين في التأثير.
والتحقيق: إن الحكم يدور مدار وجود الغاية المحرمة لما عرفت سابقا أن وجوب
الاتمام غير مشروط بشئ، بل القصر مشروط، وبانتفاء أحد الشرائط يجب
الاتمام والذي هو شرط وجوب القصر ليس كون الغاية مباحة، بل عدم كون
السفر لغاية محرمة كما هو مقتضى تقييد الاطلاقات بأن لا يكون السفر لغاية من
الغايات المحرمة وحيث إن المفروض وجود الغاية المحرمة المؤثرة إما مستقلا أو مشتركا

(1) كتاب الصلاة للشيخ الأنصاري: ص 433.
(2) الوسائل: ج 5، ص 512، الباب 9 من أبواب صلاة المسافر الحديث 6.
79

وعدم تأثير للغاية المباحة في صورة الاستقلال فضلا عن صورة الاشتراك فاللازم
الحكم بالاتمام مطلقا من دون حاجة إلى بعض الاعتبارات والاستحسانات كما
عن بعض أجلة العصر (رحمه الله).
الأمر الثامن
إذا سافر من تنجز عليه وجوب صلاة الجمعة فالمعروف أن سفره حرام لكونه
مفوتا للواجب المنجز، ومقتضى حرمة سفره وجوب الاتمام عليه وإن سفره كلا
سفر ووجوب صلاة الجمعة عليه في مثل هذا السفر، فيلزم من كونه مفوتا للواجب
عدم كونه مفوتا للواجب كما يلزم من حرمته عدم حرمته لعدم الموجب لها إلا
تفويت الواجب والمفروض عدم التفويت.
والكلام تارة في المبنى وهو لزوم التفويت بسفره حتى يحرم لكونه مفوتا،
وأخرى فيما رتب على هذا المبنى من المحذور المحال.
أما الكلام في الأول: فهو إن السفر ضد الحضور الذي هو شرط للواجب فهو
ضد للشرط بالذات وللمشروط بالعرض، ووجود الضد ملازم لعدم الشرط
والمشروط لا مقدمة لهما، وكون هذا اللازم تارة يمكن تداركه كما في ترك أداء الدين
مع المطالبة والمسافرة وأخرى لا يمكن تداركه كما في فعل الجمعة حيث إنه يفوت مع
السفر ولا يمكن تداركه، لا يخرج الاستلزام عن كونه كذلك، ولا يجعل غير المقدمة
مقدمة، ولا يقاس باهراق ماء الوضوء، فإنه إعدام لما يتقوم به الوضوء لا أنه ضد له
وعليه فتفويت الجمعة حرام ملازم للسفر فالسفر مباح ولا يلزم منه محذور.
وأما الكلام في الثاني: فمختصر القول فيه إن السفر الذي لا يجوز فيه فعل
الجمعة هو السفر الذي يجوز فيه التقصير دون مجرد قطع ثمانية فراسخ خارجا، ومثل
هذا السفر هو المفوت للجمعة الواجبة ومثل هذا التفويت هو المحرم. وما يترتب على
شئ يستحيل أن يكون مانعا عنه لأن فرض مانعيته فرع وجوده وفرض وجوده
المترتب عليه وجود شئ فرع وجود ذلك الشئ فيكف يمكن أن يكون مانعا عن
وجوده، فمثل هذه الحرمة المتأخرة عن جواز التقصير المأخوذ في السفر بمرتبتين لا
80

يعقل أن يكون مانعا عن جواز التقصير فيستحيل أن تعمه أدلة وجوب الاتمام في
السفر الحرام وعليه فالسفر حرام وتفويت الجمعة حرام إلا أن مثل هذا السفر المحرم
يجب فيه التقصير ولا يعقل أن يجب فيه الاتمام، فلا يلزم محذور لزوم عدم التفويت
من وجوده، ولا محذور عدم الحرمة من وجودها.
الأمر التاسع
إذا نذر الاتيان بصلاة تامة في يوم معين فله صور:
الأولى: أن ينذر الصلاة التامة على النحو الواجب عليه من كونه مشروطا
بالحضور حدوثا وبقاء فيتأكد وجوبها، وله تبديل الحضور بالمسافرة فلا يلزم منه
حنث لنذره مع سفره، وإنما يحنث إذا كان حاضرا ولم يصل الصلاة التامة.
الثانية: أن ينذر الصلاة التامة حضرا بحيث يكون الخاص منذورا له، فيحل
نذره إلى نذر الاتمام وترك المسافة فيحنث بمجرد تبديل الحضور بالمسافرة وقطع
المسافة الخاصة وتمكنه من إتمام صلاته المفروضة في السفر الحرام لا يجدي لأن
المفروض تقيدها بالنذر بخصوص الحضور المضاد للمسافرة العرفية، فلا يلزم منه
المحذور المحال المتقدم.
والثالثة: أن ينذر الاتمام المشروط بترك السفر الذي يجوز فيه التقصير في نفسه
مع قطع النظر عن النذر، فيحنث بمجرد السفر الشرعي ولا يلزم منه محذور لأن حنث
نذره مستند إلى فوات الشرط بنفس السفر لا إلى حرمة الحنث الناشئة من قبل
النذر.
والرابعة: أن ينذر الاتمام المشروط بالحضور في قبال السفر الذي يجوز فيه القصر
حتى بلحاظ النذر، وشرط مثله محال لعدم التمكن من السفر الذي يجوز فيه القصر
حتى بلحاظ حكم النذور فتركه غير مقدور فلا يصح النذر في نفسه مع أن الحرمة
المترتبة على النذر لا يعقل أن تؤخذ في موضوعه وفي هذه الصورة حيث لا ينعقد النذر
لا يحرم السفر ولا حنث أصلا.
ومما ذكرنا تبين إن المحذور المتقدم في المسألة المتقدمة غير جار في شئ من
81

فروض النذر وإن حرم السفر في الصورة الثانية والثالثة ووجب إتمام ما عدا المنذور
فيه فما عن بعض أجلة العصر (رحمه الله) من إجراء حكم المسألة السابقة من
حيث المحذور المحال في نذر الاتمام في يوم معين بلا وجه في تمام صور النذر كما
عرفت.
الأمر العاشر
هل المدار في حرمة الغاية أو نفس السفر، على الحرمة الواقعية أو على الأعم من
الواقعية والظاهرية أو على الأعم من الواقعية والاعتقادية؟ وجوه، ويمكن أن يقال
إن الحلية والحرمة وإن كانتا واقعيتين ولا اعتبار وبالحرمة الاعتقادية ولا الظاهرية
المخالفة للواقع، إلا أن السفر لغاية محرمة، يكفي في موضعيته لوجوب الاتمام كون
العلة الغائية ما اعتقده حراما.
وتوضيحه: أن ترتب الغاية المحرمة على السفر واقعا ليس مناطا للاتمام ما لم
يكن علة غائية له، فلو سافر للزيارة ونال مالا حراما بحيث لولا سفره لما ناله فإن
السفر محكوم بالقصر قطعا حتى مع الالتفات إذا لم يكن باعثا على سفره. كما أن
عدم ترتب الغاية المحرمة ليس مناطا للقصر كما إذا سافر للسرقة فلم يظفر بالقافلة
ليتمكن من السرقة فإنه وإن لم يصدر منه هذه الغاية المحرمة، إلا أن العلة الغائية
الباعثة على سفره. هذا حيث كان عنوان غاية محرمة يجب عليه الاتمام. والسر فيه
إن الباعثية للغاية لا موطن لها إلا في أفق النفس لا في الخارج فوجودها خارجا
وعدمها على حد سواء فلا وجودها خارجا ملاك باعثيتها، ولا عدمها خارجا مضر
بعليتها في أفق النفس وإذا كان كذلك فأي فرق بين أنحاء تخلف الغاية، فتارة لا
مال ليسرقه، وأخرى المال ماله فلا يتحقق السرقة. وكذا إذا سافر لنيل مال من
ظالم فتارة لا يصادف الظالم لينال منه، وأخرى لم يكن ظالما ليكون نيل المال من
الظالم. وليست الغاية المحرمة بما هي محرمة مناط الحكم. بل نيل المال من الظالم
والسعاية على مؤمن وسرقة مال الغير وأشباهها مناط الحكم. وكل هذه العناوين
مقصودة ولها الباعثية له على السفر. فعدم صدور الحرام للتخلف بأحد الوجوه معنى،
82

وعدم عليته الغائية معنى آخر. والكلام هنا في الثاني كما أن مورد البحث في باب
التجري هو الأول، بل أمر العناوين المحرمة المنطبقة على سفره كذلك، فإن ترتبها
الواقعي وعدمه مناط حرمة السفر واقعا وعدمها، إلا أن مناط وجوب الاتمام قصد
تلك العناوين بسفره، فلو سافر بعنوان تشييع الظالم فقد قصد عنوانا محرما بسفره،
وإن تخلف عنه العنوان إما لعدم اللحوق بالظالم ليكون سيره عقيب سيره، أو لعدم
كونه ظالما. فالمراد من السفر في معصية الله تعالى السفر بقصد أحد عناوين
المعاصي.
وأما ما قيل من صدق المعصية بمخالفة النهي الشرعي الظاهري فلا يتم إلا على
الموضوعية. وأما على الطريقية فلا بد من أن يكون الحكم المماثل المجعول مقصورا
على صورة مصادفة الواقع. وأما ترتب العقاب على مخالفته كترتبه على التجري
لاشتراكهما مع المعصية الحقيقية من حيث الخروج عن زي الرقية ورسم العبودية
فهو أمر آخر غير كون السفر محرما أو معصية. فتدبر.
وعلى هذا يقوي القول بوجوب الاتمام عند تخلف الغاية أو عنوان الحرام.
والاحتياط لا يترك على أي حال.
الأمر الحادي عشر
إذا سافر في شهر رمضان بقصد المعصية ثم عدل إلى قصد الطاعة فإن كان
العدول قبل الزوال وجب الافطار لأنه مسافر قبل الزوال بقصد الطاعة، وإن كان
العدول بعد الزوال ففيه وجهان: كما عن بعض أجلة العصر (رحمه الله) -.
أحدهما: الاتمام نظرا إلى أن سفره قبل العدول كلا سفر فهو من حين عدوله
مسافر لا يمشي في المعصية فيجب عليه الاتمام كم أنشأ السفر المباح بعد الزوال.
ثانيهما: الافطار نظرا إلى أنه مسافر على الفرض قبل الزوال فما دام على المعصية
يصوم وما دام على الطاعة يفطر، وإن أدلة السفر بعد الزوال لا تعمه لظهورها فيمن
سافر بعد الزوال.
والتحقيق ما مر منا مرارا من أن الاتمام غير مشروط بشئ، بل القصر. ومن
83

أن اجتماع الشرائط متفرقة في سفر واحد لا أثر له بل مجتمعة، وعليه فنقول: وجوب
الافطار زيادة على وجوب القصر في الصلاة وجب الافطار ومع انتفاء بعضها
لا يجب، وأما السفر بعد الزوال سواء كان واجدا لشرائط القصر أم لم يكن واجدا
لها، فهو موجب الاتمام لانتفاء شرط الخروج قبل الزوال. فالعدول إذا كان بعد
الزوال لا أثر له، حيث إن ابتداء السفر فيه أيضا لا أثر له. وأما ضم الخروج قبل
الزوال إلى العدول بعد الزوال فهو لا يوجب استجماع السفر لشرائط الافطار، إذ
حال حصول هذا الشرط لم يكن الشرط الآخر موجودا وحال العدول لا خروج قبل
الزوال ليجب الافطار. ومنه تبين الخلل في كلا الوجهين المذكورين.
وإذا سافر في شهر رمضان سفرا سائغا فعدل إلى المعصية، فإن كان قبل الزوال
وقبل الاتيان بمفطر وجب إتمام الصوم لا لأنه كالمسافر الذي حضر قبل الزوال،
لعدم الدليل على مثل هذا التنزيل بل لأن جواز الافطار لمن سافر قبل الزوال
مشروط بأن لا يكون لغاية محرمة حدوثا وبقاء، وانتفاء الشرط قبل الزوال يوجب
انتفاء جواز الافطار. وليس وجوب الصوم في السفر مشروطا بكونه محرما حتى يقال
إن ظاهر أدلته وجوب الصوم في السفر الذي مجموعه محرم لما مر آنفا.
الأمر الثاني عشر
إذا سافر طلبا للصيد فهو على أنحاء ثلاثة: فتارة يطلب الصيد لهوا للتنزه،
وأخرى لقوته وقوت عياله، وثالثة للتجارة وطلب زيادة المال لا للتكسب لقوت
العيال.
أما الأول: وهو طلب الصيد لهوا فهو بهذا العنوان منصوص كما في صحيحة
زرارة (1) وغيرها. والبحث عن أنه داخل في السفر لغاية محرمة أم لا، أجنبي عما
نحن فيه لأنه بعنوان موجب للاتمام سواء كان هذا اللهو أو مطلق اللهو حراما أم
لا. وإن كان ظاهر عنوان الشرايع (2) إدراجه في سفر المعصية حيث مثل له باتباع

(1) الوسائل: ج 5، ص 511، الباب 9 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1.
(2) الشرايع: ص 32.
84

الجائر وصيد اللهو، بل ربما يستشعر ذلك من تعبير هم (عليهم السلام): " بأنه مسير
باطل " (1) و " سفر باطل " (2) و " مبتغى باطل " (3) إلا أن معاملة الخروج إلى
الصيد للسفر في معصية الله كما في صحيحة حماد (4) وتغيير التعبير بقولهم (عليهم
السلام): " مسير باطل " وتعليلهم (عليهم السلام) " بأن المؤمن لفي شغل من ذلك،
شغله طلب الآخرة عن الملاهي " (5). كل ذلك شاهد على عدم الحرمة والله العالم
وبهذه الطائفة من الأخبار تقيد المطلقة الآمرة بالاتمام في سفر الصيد.
وتوهم التفصيل من بعض الأخبار كخبر عبد الله بن سنان عن الرجل يتصيد
فقال (عليه السلام): " إن كان يدور حوله فلا يقصر، وإن كان تجاوز الوقت
فليقصر " (6).
مدفوع بأنه من الأخبار المطلقة من حيث القصر في سفر الصيد لعدم تقيده
باللهو. ومراده (عليه السلام): إن طالب الصيد إن كان يدور حول بلده فعليه
الاتمام لعدم السفر، وإن كان تجاوز حد الترخص وجب عليه القصر لصدق
الوقت والميقات على المحدود بحد زماني أو مكاني ومن الثاني مواقيت الحاج ومنه قوله
تعالى " ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه " (7) فإن الظاهر إرادة جبل الطور المعين
للمكالمة. ومن الأول مواقيت الصلاة ومنه قوله تعالى " فتم ميقات ربه أربعين
ليلة " (8).
نعم يجب تقييد وجوب القصر بما إذا لم يكن للتنزه واللهو، وليس من الأخبار
المشكلة التي يجب ردها إلى أهله كما عن بعض أجلة العصر (قدس سره)

(1) الوسائل: ج 5، ص 512، الباب 9 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 7.
(2) مستدرك الوسائل: ج 1، ص 502، الباب 7 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1.
(3) مستدرك الوسائل: ج 1، ص 502، الباب 7 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1.
(4) الوسائل: ج 5، ص 509، الباب 8 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 2.
(5) مستدرك الوسائل: ج 1، ص 502، الباب 7 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1.
(6) الوسائل: ج 5، ص 511، الباب 9 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 2.
(7) الأعراف: 142.
(8) الأعراف: 143.
85

نعم من الأخبار المشكلة رواية أبي بصير: " ليس على صاحب الصيد تقصير
ثلاثة أيام وإذا جاوز الثلاثة لزمه " (1) وهو محمول على التقية من أولي الشوكة
المتعادين للتنزه بالتصيد عن الثلاثة، وحيث إن غرضهم مجرد التنزه لا جمع الصيد
فلا يتجاوز سفرهم غالبا عن الثلاثة، وحيث إن غرض المتكسب بطلب الصيد جمع الصيد
لئلا يحتاج كل يوم إلى السفر، فلذا يتجاوز سفره لجمع الصيد عن الثلاثة والله أعلم.
ومن الأخبار المنافية بظاهرها للأخبار المطلقة والمقيدة رواية السياري وفيها
" صاحب الصيد يقصر ما دام على الجادة وإذا عدل عن الجادة أتم، وإذا رجع إلى
الجادة قصر " (2) فإنه إن خرج لطلب القوت قصر سواء كان على الجادة أو ذهب
عنها يمينا وشمالا وإن خرج لاهيا أتم سواء كان على الجادة أم لا، ولذا حملت
الجادة على جادة الحق لا جادة الأرض، بمعنى إن كان سفره سفر حق قصر وإذا
عدل عن الحق إلى الباطل بطلب اللهو والتنزه أتم. والأولى حملها على من خرج
لغاية أخرى مباحة وفي أثناء الطريق بدا له الذهاب في طلب الصيد الذي هو عادة
اللهو، لأن المفروض إن سفره لغاية أخرى. وعليه فإذا عدل عن الطريق للصيد
لهوا أتم، وإذا رجع قصر. والمراد من الرجوع إلى الجادة الرجوع من ذهابه في طلب
الصيد لا وصوله إلى الجادة لينافي ما مر من أن الراجع من سفر المعصية يقصر. كما
أن المتعارف ممن يطلب الصيد للتنزه رجوعه مقارنا للعزم عليه لا لاشتراط القصر
بالتلبس بالرجوع لينافي ما قويناه من انقطاع الحكم بالاتمام بمجرد تبدل قصد
المعصية بقصد الطاعة.
وأما الثاني: وهو طلب الصيد لقوته وقوت عياله، فوجوب القصر في سفره
منصوص في صحيح عمران عمران بن محمد بن عمران " قال (عليه السلام): إن خرج
لقوته وقوت عياله فليفطر ويقصر " (3) وكذا في المنقول من كتاب زيد النرسي (4)

(1) الوسائل: ج 5، ص 511، الباب 9، من أبواب صلاة المسافر، الحديث 3.
(2) الوسائل: ج 5، ص 512، الباب 9، من أبواب صلاة المسافر، الحديث 6.
(3) الوسائل: ج 5، ص 512، الباب 9 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 5.
(4) مستدرك الوسائل: ج 1، ص 502، الباب 7 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1.
86

مضافا إلى خروجه عما حكم عليه بالاتمام من طلب الصيد يريد به لهو الدنيا.
وأما الثالث: وهو طلب الصيد للتجارة وزيادة المال فهو محل الخلاف بين
المتقدمين والمتأخرين، فالمتقدمون على التفصيل باتمام الصلاة والافطار،
والمتأخرون على القصر والافطار، كما هو مقتضى الملازمة المتفق عليها نصا وفتوى.
وما يمكن أن يكون مستندا للتفصيل ما أرسله الشيخ في المبسوط من أنه " روى
أصحابنا إنه يتم الصلاة ويفطر الصوم " (1) وقد نص بذلك ابن إدريس الذي
لا يعمل بخبر الواحد بقوله: " روى أصحابنا بأجمعهم: أنه يتم الصلاة ويفطر
الصوم " ثم قال: " وكل سفر، أوجب التقصير في الصوم وجب تقصير الصلاة فيه إلا
هذه المسألة فحسب. للاجماع عليه " (2) وليس للمتأخرين إلا قاعدة الملازمة
الكلية القابلة للتخصيص بمثل هذا المرسل المنجبر بشهرة القدماء مستندين إليه في
مقام الفتوى، ولم يعلم من المتأخرين إعراض عنه بل مستندهم قاعدة الملازمة.
وأما ما في الفقه المنسوب إلى مولانا الرضا (سلام الله عليه) في باب
صلاة السفر (3) من التفصيل بين الصلاة والصوم المذكور فهو معارض بما في باب
الصوم حيث قال: وإن كان صيده للتجارة فعليه التمام في الصلاة والصوم " (4)،
فيبعد أن يكون مستند القدماء في التفصيل هذا الكتاب مع ما فيه من الاضطراب
كما أن صحيح عمران بن محمد بن عمران أيضا مناف للتفصيل وموافق لما في صوم
الفقه الرضوي حيث قال: " قلت له الرجل يخرج إلى الصيد مسيرة يوم أو يومين
يقصر أو يتم قال (عليه السلام) إن خرج لقوته أو قوت عياله فليفطر ويقصر وإن
خرج لطلب الفضول فلا ولا كرامة " (5) أي لا يقصر ولا يفطر بناء على إرادة
فضول المال لمقابلته مع الفوت والحاجة، لكنه بهذا التعميم لم يقل به أحد فيمكن

(1) المبسوط: ج 1، ص 136، كتاب صلاة المسافر.
(2) السرائر: كتاب الصلاة، باب صلاة المسافر، ص 73.
(3) فقه الرضا: ص 162، باب صلاة المسافر.
(4) فقه الرضا: ص 208، باب نوافل شهر رمضان ودخوله.
(5) الوسائل: ج 5، ص 512، الباب 9 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 5.
87

إدراجه في ما أعرض عنه الأصحاب. وأما إذا أريد بالفضول ما لا ينبغي صدوره من
المؤمن فهو مساوق لصيد التنزه كما يناسبه قوله (عليه السلام) " ولا كرامة " وإلا
فصيد التجارة ولو كان موجبا للاتمام ليس من الباطل، فإن طلب زيادة المال
مباح، بل ربما يكون راجحا.
والانصاف أن المسألة غير صافية من الاشكال، وليس القول بالتفصيل ضعيفا
جدا كما أفاده بعض المشايخ (قدس سره) فلا ينبغي ترك الاحتياط في الصلاة،
فتدبر.
المسألة الخامسة
[في اعتبار أن لا يكون بيته معه]
في الشرط الخامس وهو أن لا يكون بيته معه، والظاهر من غير واحد من
أرباب الكتب إدراجه في الشرط الآتي مع أنه بعنوانه منصوص بتعليل هو كالكبرى
الكلية المغايرة لكبري الشرط الآتي، ومقتضى الاعتبار أيضا ذلك، إذ من كان بيته
معه ومنزله معه كما في النصوص فهو غير مسافر لأنه غير بارز عن منزله ولا بعيد،
ولا متغرب عنه كيف ومنزله معه فهو في منزله حال سيره كحال سكونه، فليس هذا
الشرط في الحقيقة شرطا في السفر الموجب للقصر، بل محقق للسفر. فاعتبار عدمه
للتنبيه على أنه بدونه لا يكون مسافرا حقيقة، بخلاف سائر الشرائط فإنها شرائط
لوجوب القصر في السفر المفروغ عن سفريته والأصل في هذا المسمى بالشرط ما في
الصحيح: " الأعراب لا يقصرون وذلك أن منازلهم معهم " (1) وفي آخر: " عن
الملاحين والأعراب، هل عليهم تقصير؟ قال: لا، بيوتهم معهم " (2).
ولا يخفى عليك أن مقتضى هذا العنوان المأخوذ موضوعا للحكم دوران الحكم
مداره. واختلاف الأغراض والغايات للسير، أجنبي عن اختلاف موضوع الحكم.

(1) الوسائل: ج 5، ص 516، الباب 11 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 6.
(2) الوسائل: ج 5، ص 516، الباب 11 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 5.
88

فمن كان بيته معه يتم وإن كان سيره للزيارة أو لغيرها، ومن لم يكن بيته معه
يقصر وإن كان سيره لتحقيق حال المكان الصالح من حيث الماء والكلاء. وما في
بعض الأخبار: " والبدوي الذي يطلب مواضع القطر ومنبت الشجر " (1) فهو ليس
تحديدا للموضوع المحكوم بالاتمام بحيث لولا طلب الماء والكلاء لم يجب عليه
الاتمام، بل لبيان أنه لا منزل له كغيره، بل منزله بيته فيرتحل بمنزله إلى مواضع الماء
والكلاء، ومجرد كونه في أرض كذا لا يجدي في صيرورتها منزلا له، كما لا يكون
سكناه في العراق مثلا مصححا للمنزلية إلا بعد اتخاذ محل مخصوص منزلا ومقرا
لنفسه. وفي بعض الأخبار إلحاق الملاحين بالأعراب (2)، وفي بعضها " أصحاب
السفن يتمون الصلاة في سفنهم " (3) وكلاهما محمول على من لا منزل له إلا سفينته
كما هو المتعارف في أصحاب السفن الكبار التي فيها عيالهم وما يتعيشون به، لا
مطلق من كان ملاحا أو صاحب السفينة إلا باندراجه في الشرط الآتي وكون السفر
عملا له لا من حيث كون السفينة منزلا له، كما نص به في رواية الخصال عن ابن
أبي عمير (4).
المسألة السادسة
[في اعتبار كون السفر عملا له]
في الشرط السادس وهو على ما عن غير واحد أن لا يكون كثير السفر، وعن
المحققين كما هو المستفاد من الأخبار أن لا يكون السفر عملا له، وكونه شرطا
لحدوث القصر أو شرطا لبقائه واستمراره، فيه خلاف، فإن كان بالإضافة إلى
الكثرة من قبيل السلب المقابل للايجاب كان شرطا للحدوث مطلقا، فإن كل

(1) الوسائل: ج 5، ص 516، الباب 11 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 9.
(2) الوسائل: ج 5، ص 516، الباب 11 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 5.
(3) الوسائل: ج 5، ص 516، الباب 11 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 7.
(4) الوسائل: ج 5، ص 517، الباب 11 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 12، وفي الخصال ج 1،
ص 302 باب الخمسة (خمسة يجب عليهم التمام في السفر).
89

مسافر لم يكن معنونا بأحد تلك العناوين الآتية، في سفره يقصر لأنه غير كثير
السفر، وإن كان من قبيل العدم المقابل للملكة فلا يتصور عدم الكثرة إلا فيمن
شأنه كثرة السفر. فالمسافر سفرتين لم يكن معهما إقامة العشرة كثير السفر، والمسافر
الذي تحقق منه السفر لكنه إما لم يتعدد وإما كان بينهما إقامة فهو غير كثير السفر.
وفي مثله ربما يتوهم أن عدم الكثرة شرط لاستمرار القصر، كما نقل عن المقاصد
العلية (1) بتخيل أنه مع السفرة الأولى يجب عليه القصر، وكذا في الثانية، فإذا
أقام بعدهما استمر قصره وإلا انقطع وثبت الاتمام مع أنك قد عرفت سابقا أن
الحدوث والبقاء يلاحظان بالإضافة إلى سفر واحد وذلك الواحد، الذي يترتب منه
القصر هي السفرة الثالثة، فإنه مع اختلال السفرتين بالإقامة يحدث لها القصر وإلا
فيحدث له الاتمام. ومنه تبين أنه لا يعقل أن يكون هذا الشرط شرطا
لاستمرار القصر، إذ مع الإقامة بعد السفرتين يتعدد السفر شرعا فلا استمرار، ومع
عدمها يحدث وجوب الاتمام.
فما عن الشيخ الأجل (2) (قدس سره): من توجيه الاستمرار بإرادة السفر
الشرعي، غير مفيد، فإنه وإن اتحد السفر شرعا بعدم القاطع وتعدد بتعدد المقاصد
إلا أنه لا يعقل معه استمرار القصر لما مر.
نعم من يقول بكفاية اتخاذ أحد العناوين الآتية حرفة في وجوب الاتمام له
أن يتعقل شرطية ذلك حدوثا وبقاء لامكان الاتخاذ حرفة في ابتداء السفر وفي
أثنائه وحينئذ فعدمه ابتداء شرط لحدوث القصر، وعدمه بقاء شرط لبقائه.
وكيف ما كان فتنقيح المرام في هذا الشرط بتوضيح الكلام في أمور:
الأمر الأول
إن كثرة السفر بما هي أو كون سفره أكثر من حضره إنما هو في كلمات

(1) المقاصد العلية: ص 120، في بحث صلاة المسافر.
(2) كتاب الصلاة للشيخ الأنصاري: ص 392.
90

الأصحاب دون أخبار الباب، بل المدار في أخبار الباب على أحد أمرين: إما تحقق
عناوين المكاري والجمال والتاجر الذي يدور في تجارته ونحوها كما هو مفاد جملة
منها، وإما كون السفر عملا له كما هو مقتضى جملة من النصوص منها قوله (عليه
السلام): " أربعة يجب عليهم التمام في سفر كانوا أو حضر: المكاري، والكرى،
والراعي، والاشتقان (1) لأنه عملهم " (2) ولا منافاة بين الطائفتين إذ مجرد الحكم
بالاتمام في الطائفة الأولى لا يأبى عن أن يكون باعتبار نفس تلك العناوين، أو
باعتبار اندراجها تحت جامع كما هو مقتضى الطائفة الثانية، والتعليل فيها بمنزلة
الكبرى الكلية التي ذكرت لادراج تلك العناوين فيها، بل غيرها أيضا ممن
يكون السفر عملا له. وعليه فالمدار في هذا الشرط على أن لا يكون السفر عملا له،
لا على عدم كثرة السفر، ولا على عدم اتصافه بأحد تلك العناوين بما هي.
الأمر الثاني
بعد ما عرفت من أن المدار على الكلية المستفادة من التعليل، فهل المراد منه أن
كل من كان السفر عملا له يتم، أو أن كل من كان تلك المبادئ من المكاراة
والتجارة ونحوها عملا له يتم إذا سافر في عمله ويترتب عليهما ثمرات سننبه عليها إن
شاء الله تعالى.
والذي فهمه الأصحاب هو الأول. والذي قواه بعض أجلة العصر (رحمه
الله) هو الثاني. ولعله لذكر المبادئ في ضمن، مشتقاته المذكورة في الرواية
فيصح رجوع الضمير في قوله (عليه السلام) " لأنه عملهم " إليها دون السفر الذي لم
يذكر فيها والصحيح هو ما فهمه الأصحاب لأن قوله (عليه السلام) " لأنه عملهم "
تعليل بأمر واحد متساوي النسبة إلى جميع الذوات المعنونة بتلك العناوين، وليس
ذلك إلا السفر فإنه عمل الكل. وأما المبادي فكل مبدء عمل الواحد منهم وإرجاع

(1) قيل هو الأمير الذي يبعثه السلطان على حفاظ البيادر، وقيل الاشتقان، البريد، وفي الذكرى:
أمير البيدر، والبيدار الموضع الذي يداس فيه الطعام، مجمع البحرين مادة شقن.
(2) الوسائل: ج 5، ص 515، الباب 11 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 2، مع اختلاف يسير.
91

الضمير إلى عنوان المبدأ بالحمل الأولي مما لا ينبغي التفوه به. وتقوم تلك العناوين
بالسفر مصحح جعل السفر عملا لهم، وإلا فالسفر بما هو ليس عملا لأحد.
الأمر الثالث
بعد ما عرفت من أن المدار في وجوب الاتمام على كون السفر عملا لمن يتم،
يقع الكلام فيما به تتحقق عملية السفر.
وتوضيحه: أن السفر وإن كان عملا من الأعمال إلا أنه لا يراد قطعا من
عملية السفر هذا المعنى وإلا لكان كل مسافر كذلك، بل لا يصدق كون شئ
عملا له وشغلا له إلا باتخاذه حرفة له، واتخاذ عمل حرفة وإن كان قصديا إلا أنه
ليس تمام حقيقة القصد، بل لا بد من التلبس بما اتخذه حرفة له حتى يكون محترفا
خارجا. ولا يخفى أيضا أن اتخاذ عمل حرفة لا يكون إلا بالعزم عليه طول السنة أو
معظمها مثلا فلا معنى لاتخاذ المكاراة في سفر واحد أو اثنين حرفة، فالتكرر مما
يتقوم به الاحتراف واتخاذ عمل حرفة، ومن البين أن كون العمل المكرر حرفة أمر،
واعتبار تكرر العمل المتخذ حرفة مرتين أو ثلاث في وجوب الاتمام أمر آخر، مع
وضوح أنه لو عزم على المكاراة في سفرتين أو ثلاث أو أربع فقط لا يحقق
الاحتراف، ولا يوجب الاتمام. بل لا بد من البناء على العمل المكرر في طول السنة
أو معظمها على ما سيجئ إن شاء الله تعالى. واعتبار التكرر بهذا المعنى خارجا غير
صحيح، لأنه إن كان بنحو الشرط المتقدم أو المقارن لزم عدم الاتمام إلا بعد
مضي السنة أو معظمها، وإن كان بنحو الشرط المتأخر لزم بطلان الاتمام واقعا
مع عدم التكرر خارجا في السنة مثلا، مع أنه من المتفق عليه صحة الاتمام بعد
ثلاث سفرات واقعا وإن أعرض بعده عن المكاراة مثلا. فيعلم من جميع ذلك أن
المسوغ للاتمام اتخاذ العمل المكرر حرفة مع تلبسه بالعمل الذي اتخذه حرفة،
واعتبار أزيد من ذلك يحتاج إلى دليل،
وما يستند إليه في اعتبار التكرر خارجا روايتان:
إحداها: مكاتبة ابن حزك " قال: كتبت إلى أبي الحسن الثالث (عليه
92

السلام) أن لي جمالا ولي قواما عليها وليست أخرج فيها إلا في طريق مكة لرغبتي في
الحج أو في الندرة إلى بعض المواضع، فما يجب علي إذا أنا خرجت معهم أن أعمل؟
أيجب علي التقصير في الصلاة والصيام في السفر أو التمام؟ فوقع (عليه السلام) إذا
كنت لا تلزمها ولا تخرج معها في كل سفر إلا في طريق مكة فعليك القصر
والافطار " (1).
والجواب: أن ظاهرها الملازمة والخروج معها في كل سفر، فإن أريد به الملازمة
والخروج خارجا بحيث يكون شرطا لحدوث وجوب الاتمام فقد عرفت أنه بجميع
أنحاء الشرطية من المقارن والمتقدم والمتأخر غير صحيح لأنه خلاف المتفق عليه بين
الأصحاب، وإن أريد به الملازمة والخروج في مقام اتخاذ المكاراة حرفة في قبال
اتخاذ نفس كري الدواب حرفة من دون الخروج معها فهذا غير مفيد لاعتبار
السفرتين أو الثلاث. وظاهر السؤال يساعد الثاني حيث إنه غير عازم على الخروج
إلا في طريق مكة مثلا - وهذا غير مفيد في اتخاذ السفر شغلا وحرفة، وأما إذا أريد
الملازمة والخروج خارجا بعد اتخاذ العمل المكرر حرفة بحيث تكون الملازمة
والخروج شرطا لحدوث وجوب الاتمام ولبقائه فهو غير ضائر بنا، لأن مقتضاه
أن الخروج في السفرة الأولى شرط للحدوث، والخروج بعدها شرط للبقاء، فلا دلالة له
على اعتبار السفرتين أو الثلاث في حدوث وجوب الاتمام.
ثانيتها: صحيحة هشام وهي: " المكاري والجمال الذي يختلف وليس له
مقام، يتم الصلاة ويصوم شهر رمضان " (2).
وتقريبها: أن الاختلاف هو التردد إلى الشئ بالذهاب والإياب ثم العود
إليه، فتدل على اعتبار السفرتين في حدوث وجوب الاتمام.
والجواب: إن الاختلاف المأخوذ في موضوع الحكم غير مختص بمرة، بل ما دام
مكاريا، فحاله حال الرواية الأولى من حيث كون اختلاف خارجا شرطا مقارنا

(1) الوسائل: ج 5، ص 518، الباب 12 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 4، مع اختلاف يسير.
(2) الوسائل ج 5، ص 515، الباب 11 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1.
93

أو متقدما أو متأخرا، غير صحيح واتخاذ العمل الذي يختلف فيه غير مجد في اعتبار
السفرتين أو الثلاث خارجا.
نعم اعتبار الاختلاف خارجا شرطا للحدوث والبقاء، يجدي في اعتبار
السفرتين، وليس كاعتبار الخروج مع الدواب بحيث يتحقق بالسفرة الأولى إلا أن
اعتبار الاختلاف بقاء كاعتباره حدوثا، يقتضي تحقق سفرتين في البقاء أيضا
زيادة على اعتباره في الحدوث بمعنى الاتمام في السفرة الثالثة، ثم في الخامسة، ثم
في السابعة، وهكذا، ولا يقول به أحد. ولو جعلنا ما يتقوم به الاختلاف في المرتبة
الأولى مقوما في المرتبة الثانية وهكذا، اندفع المحذور ووجب الاتمام، بقاء لتحقق
الاختلاف دائما، إلا أنه لا يقول أحد بلزوم أصل الاختلاف في غير المرتبة الأولى
حتى يكتفي في تحققه في سائر المراتب بجعل المقوم له في كل مرتبة مقوما له في مرتبة
تليها.
فالمظنون قويا أن المراد من الاختلاف هو ما عبر عنه في الرواية الأولى بالملازمة
والخروج مع الدواب في كل سفر، والتعبير بالاختلاف في المكاري لنكتة، وهي أن
الغالب أن المكاري يشتغل بالمكاراة في طريق خاص كالمكاراة من النجف إلى
كربلاء، فتكرر العمل ملازم للاختلاف. واتضح من جميع ما ذكرنا أن المحقق
لعملية السفر اتخاذه شغلا وحرفة والتلبس به فقط فيتم في السفرة الثانية، بل لولا
مخافة مخالفة المشهور كان مقتضى القاعدة الاتمام في السفرة الأولى، لأن الأصل في
الشرط أن يكون شرطا مقارنا، لا شرطا متقدما حتى لا يجب الاتمام إلا بعد
التلبس زمانا إذ لم ينقل القول بالاتمام في السفرة الأولى إلا من ابن فهد في
الموجز (1)، وربما ينسب إلى ابن إدريس (2) أيضا.
نعم من يجعل المدار على كثرة السفر فأول مراتب الكثرة هي السفرات
الثلاث وحينئذ إن كانت الكثرة بنحو الشرط المقارن وجب الاتمام في السفرة

(1) لم نعثر على كتاب الموجز لأنه عزيز الوجود.
(2) كتاب السرائر: 79.
94

الثالثة، وإن كانت بنحو الشرط المتقدم وجب الاتمام بعد تحقق السفرات الثلاث
بعدية زمانية فيتم في السفرة الرابعة. لكنك قد عرفت أن الكثرة بما هي لا دليل على
اعتبارها، وأن المعتبر كون السفر عملا وشغلا وحرفة، وقد مر ما يحققه. فتدبر
جيدا.
وينبغي التنبيه على فروع.
منها: إنه لو احتطب مثلا فيما دون المسافة بحيث صار حرفة وشغلا له ثم سافر
إلى ما يبلغ المسافة للاحتطاب فهل يتم أو يقصر؟ مقتضى ما مر من أن الاعتبار
بعملية السفر وهو المقابل للحضر، عدم الاتمام إلا بعد الاحتطاب إلى ما يبلغ
المسافة، فمجرد اتخاذ الاحتطاب إلى ما دون المسافة حرفة لا يحقق كون السفر عملا
له. وبعبارة أخرى مقتضى المناسبة بين الحكم والموضوع إن السفر الموجب للقصر
إذا صار عملا وشغلا له يجب الاتمام فيه، لا أنه إذا صار شئ آخر حرفة له
يوجب الاتمام في سفره، فلا عبرة بمجرد صدق عناوين المكاري والحطاب في كونه
موجبا للاتمام في سفره، بل إذا صارت هذه العناوين المتقومة بالسفر شغلا له
يوجب الاتمام.
ومما ذكرنا تبين إن ذكر الراعي والتاجر الذي يدور في تجارته لا يدل على عدم
اعتبار المسافة في وجوب الاتمام في سفره نظرا إلى أن الراعي للمواشي لا يحتاج
دائما إلى قطع المسافة، وكذا التاجر الذي يدور في تجارته. ووجه عدم الدلالة إن
المدار كما مر على عملية السفر وإن السفر الذي يوجب القصر إذا كان عملا له
لتقوم رعيه وتجارته ومكاراته وجبايته به يوجب الاتمام. فهذه العناوين إنما توجب
الاتمام بعد تحقق جميع الشرائط المعتبرة في القصر ومنها قصد المسافة.
ومنها: إنه إذا كان الاحتطاب شغلا له فصارت المكاراة شغلا له من دون تخلل
الإقامة، فهل يبقى على التمام أو يقصر إلى أن تصير المكاراة حرفة له ومتلبسا بها فيتم
في السفرة الثانية؟ وحيث إن المدار على عملية السفر، لا على خصوصيات العناوين
المزبورة والمفروض تحقق عملية السفر فله الاتمام في أول سفرة للمكاراة بخلاف ما
إذا جعل المدار على عملية المبادئ وقد بينا فساد مبناه سابقا.
95

ومنها: إن الاعتبار في صيرورة السفر شغلا له، هل على عملية السفر في تمام
السنة أو في معظمها؟ أو يكفي عملية السفر في الصيف أو الشتاء مثلا؟ ولا ريب في
أن صيرورة عمل حرفة له لا يتقوم إلا بتكرر العمل فيما يتعارف فيه ذلك الشغل،
فإن التجارة في الأسواق، أو جباية الأموال، أو حفظ البيادر (1)، أو رعي المواشي
ليست في تمام السنة، بل في أوقات مخصوصة، فلا اعتبار بتمام السنة أو معظمها.
ومنها: أن المقوم لكون العمل حرفة وشغلا هل هو تكرر العمل أو مزاولته (2)
في معظم السنة ولو بامتداده وطوله كما كان من المتعارف من حمل الحجيج من
إيران إلى العراق إلى مكة المكرمة بحيث كان شاغلا لمعظم السنة مع عدم تكرر
العمل
ولا ريب في أن السفر الذي لم يتعدد ولو بتعدد المقاصد، سفر واحد وإن
طالت مدته، ولا يصدق على الباني عليه في سنة واحدة أنه اتخذ المكاراة لحمل
الحجيج حرفة له، وإنما يصدق عليه بملاحظة تكرره في السنين فإن الأعمال تختلف
من حيث التكرر فربما يتكرر في شهر وأخرى، في سنة وثالثة في السنين والحرفة
متقومة بالتكرر لا باشتغال السنة ولو بسفر واحد من جميع الجهات، كما عرفت من
عدم صدق اتخاذه حرفة إذا كان بناؤه على سفر واحد شاغل للسنة.
ومنها: بعد ما عرفت من لزوم التكرر في اتخاذ الشئ حرفة فهل التكرر بتعدد
السفر حقيقة أو يكفي فيه تعدد المقاصد؟ لا ريب في أن التعدد الحقيقي لا يكون إلا
بالرجوع إلى موطنه ومنزله أو بالإقامة عشرة أيام، ولا ريب في أن إقامة العشرة ترفع
حكم الكثرة فكيف يعقل أن ينوط بها الكثرة، كما لا ريب في أن الرجوع إلى
المنزل غير لازم كما في الجابي الذي يدور في جبايته، والأمير الذي يدور في إمارته،
والتاجر الذي يدور في تجارته فإنهم يتمون وإن لم يرجعوا بعد كل جباية أو إمارة أو
تجارة إلى منازلهم. وعليه فالمكاري الذي يكري دوابه إلى كربلاء مثلا إذا كرى

(1) مر معنى البيدر في حاشية رقم (1) من ص 308.
(2) والمزاولة: مثل المحاولة والمعالجة، وتزاولوا، تعالجوا. مجمع البحرين مادة زول.
96

دوابه إلى بغداد ثم إلى سامراء مثلا يكون حكمه على المشهور حكم كثير السفر لتعدد
السفر بتعدد المقاصد لا بتعدده حقيقة.
ومنها: أن المكاري إذا سافر للحج أو للزيارة لا بعنوان المكاراة يجب عليه
التقصير لا لأنه ليس في هذا السفر مكاريا لفرض عدم كري دوابه، وذلك لأن
كري الدواب ليس مناطا للاتمام، ولذا لا شبهة في أن المكاري إذا حمل الغير
ومتاعه مجانا وجب عليه الاتمام، بل لأن الملاك كون الخروج مع الدواب شغلا
وعملا له، وسفره إلى الحج وإلى الزيارة على الفرض ليس بعنوان الملازمة لدوابه
ولذا لو كان قصده الزيارة بتبع خروجه مع دوابه، وجب عليه الاتمام، ومنه تبين
حال ما إذا سافر لحمل عياله أو متاعه فإنه من حيث كون سفره بعنوان الخروج مع
دوابه وملازمته لها يكون سفره سفرا فيما هو شغله وعمله، كما إذا حمل متاع الغير مجانا
كما مر.
ومنها: أن عملية السفر هل هي مقصورة على ما يكون حرفة كالمكاراة والتجارة
والجباية وأشباهها؟ أو مجرد تكرر العمل كاف في عملية السفر؟ فإذا بنى على زيارة
الحسين (عليه السلام) في كل ليلة جمعة فقد بنى على العمل المكرر المتقوم بالسفر
من دون أن يكون حرفة بخلاف ما إذا صار أجيرا للزيارة في كل جمعة مثلا فإن
إعداد نفسه للإجارة اتخاذ لها حرفة، ومقتضى صدق عملية السفر على ما إذا بنى
على العمل المكرر الحكم بالاتمام في مثله، إلا أن الظاهر من كون السفر عملا
وشغلا عرفا كونه معدودا من الأشغال المذكورة في الرواية من المكاراة والجباية
والتجارة ونحوها، فالتعدي إلى مطلق البناء على العمل المكرر في غاية الاشكال،
كما أن مقتضى القصر على كثرة السفر بما هي كما هو ظاهر عبارات الأصحاب
الحكم بالاتمام، لكنك قد عرفت أن الكثرة بما هي لا اعتبار بها.
الأمر الرابع
المعروف بل قيل إنه مقطوع به بين الأصحاب أنه يعتبر في الاتمام على المكاري
وغيره عدم الإقامة عشرة أيام فهي مانعة عن تحقق الكثرة أو رافعة لها بعد تحققها،
97

ويكفي في أصل اعتباره مرسلة يونس (1) المنجبر إرسالها بعمل الأصحاب،
ولا يلتفت إلى ما عن هكذا الأصل بعض المتأخرين من الخدشة في سندها، أو الخدشة في
دلالة بعض الأخبار المستدل به هنا.
إنما الكلام في أمور ينبغي التنبيه عليها:
أحدها: أن الإقامة المذكورة هل هي رافعة لحكم كثرة السفر؟ وهو مقتضى
شرطية عدمها أو أنها رافعة للموضوع اعتبارا وتنزيلا؟ ومقتضاه كون عدمها مقوما
للموضوع اعتبارا شرعا، ويترتب على كون الإقامة رافعة للموضوع كون المسافر بعد
الإقامة كالمبتدئ بالسفر لا بد في إتمامه من سفرتين أو ثلاث على الخلاف. وعلى
كون الإقامة رافعة للحكم بقاء الموضوع على حاله، والمتيقن من شرطية عدم الإقامة
شرطية عدمها لترتب الحكم على لسفرة الأولى دون الثانية والثالثة، فيتمسك
بإطلاق ما دل على وجوب الاتمام على كثير السفر. والظاهر من روايات الباب هو
الأول، إذا لا دلالة لها إلا على أن المقيم يجب عليه القصر في سفره ويرتفع عنه
وجوب الاتمام، فيفيد شرطية عدم الإقامة لوجوب الاتمام على المكاري مثلا.
والثاني يتوقف على تنزيل المكاري مع الإقامة منزلة من لم يكن مكاريا، نظير تنزيل
المقيم في أخبار عرفات منزلة أهل مكة بعنوانه في لسان الأخبار، مضافا إلى أن ظاهر
التعليل بقوله (عليه السلام) " لأنه عملهم " (2)، أن الكبرى الكلية من كان عمله
السفر يتم، ولا يزول هذا العنوان إلا بالاعراض عن الحرفة لا بإقامة العشرة، فمع
انحفاظ العنوان وقصور دليل الشرطية في غير السفرة الأولى يجب العمل بتلك
الكبرى الكلية وأما ما في صدر المرسلة بقوله " سألته عن حد المكاري...
الخ " (3)، فليس سؤالا عن الحد المصطلح المتكفل لبيان حقيقة الشئ وما يتقوم به
حتى يستكشف منه أن للمكاري حقيقة عند الشارع غير ما عند العرف، بل شروط
الشئ ء عرفا من حدوده كما هو واضح، مع أن التعبير بالحد في سؤال الراوي لا في

(1) الوسائل: ج 5، ص 517، الباب 12 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1.
(2) الوسائل: ج 5، ص 517، الباب 11 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 12.
(3) الوسائل: ج 5، ص 517، الباب 12 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1.
98

جواب الإمام (عليه السلام).
وعن شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره) في بعض تحريراته في صلاة المسافر
تقوية الوجه الثاني، أعني رافعية الإقامة للموضوع شرعا، وإنه لا بد بعد الإقامة من
تحقق سفرتين أو ثلاث كالابتداء، بدعوى استفادته من صحيحة هشام المتضمنة
لقوله (عليه السلام) " يختلف وليس له مقام " فإنه علق وجوب التمام على
الاختلاف الغير المقرون بالإقامة فإذا تحققت الإقامة فلا يجوز الاتمام، إلا إذا حدث
اختلاف غير مقرون بالإقامة لأن اختلاف السابق قد قرن بها (2) انتهى كلامه
رفع مقامه. واستظهر (قدس سره) في موضع آخر (إن قوله (عليه السلام): " وليس
له مقام " (3) قيد لقوله (عليه السلام): " يختلف ") (4). وعليه فالموضوع عنده هو
الاختلاف الخاص وقد زال جزما. إلا أنه خلاف الظاهر جدا. فإن الظاهر إن قوله
(عليه السلام) " المكاري الذي يختلف وليس له مقام " إن كونه يختلف، وكونه
ليس له مقام، كلاهما وصف للمكاري، لا أن الثاني لوحظ من شؤون الأول
وقيوده حتى يكون الاختلاف اختلافا خاصا تلبس به المكاري لينتج ما أفاده (رحمه
الله). فزوال أحد الوصفين لا ربط له بزوال الآخر.
ثم اعلم أنه بناء على ما اخترناه من أن اتخاذ العمل حرفة والتلبس به كاف في
وجوب الاتمام، فإن جعلنا التلبس به بنحو الشرط المقارن لوجوب الاتمام كانت
الإقامة دائما رافعة لحكم الكثرة، وإن جعلناه بنحو الشرط المتقدم لوجوب الاتمام
فيما بعد التلبس فهي دافعة تارة ورافعة أخرى، فإذا تحققت بعد التلبس بالسفرة
الأولى كانت مانعة عن وجوب الاتمام في الثانية، وإذا تحققت بعد السفرتين
وأزيد كانت رافعة لحكم الاتمام.
لا يقال إذا بنيت على كفاية اتخاذ العمل حرفة والتلبس به، فما الفرق بين
السفرة الأولى والثانية بعد الإقامة؟ وحينئذ يلغو اعتبار شرطية عدم الإقامة لوجوب

(1) الوسائل: ج 5، ص 515، الباب 11 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1.
(2) كتاب الصلاة: ص 396.
(3) الوسائل: ج 5، ص 515، الباب 11 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1.
(4) الوسائل: ج 5، ص 515، الباب 11 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1.
99

الاتمام في ما بعدها.
لأنا نقول شرطية عدم الإقامة كما هو ظاهر دليلها عدم الإقامة بعد التلبس
بالسفر، والسفرة الأولى خارجة موضوعا، فلا مانع من الحكم بالاتمام في السفرة
الأولى دون الثانية بعد الإقامة، فكان تخلل الإقامة رافع للحكم.
ثانيها: لا شبهة في أن الإقامة في غير منزله كالإقامة في منزله في الجملة لوجهين:
أحدهما: التصريح به في المرسلة (1)، بل وفي بعض الصحاح أيضا.
ثانيهما: ما ذكره شيخنا العلامة الأنصاري (2) (قدس سره) من عموم المنزلة
الثابتة بقوله (عليه السلام) في أخبار عرفات: " من كون المقيم بمكة عشرة أيام بمنزلة
أهل مكة ". وإذا كان المقيم في غير بلده بمنزلة أهل ذلك البلد ترتب عليه جميع
آثاره. ومنها أنه إذا أقام عشرة أيام انقطع عنه حكم كثرة السفر.
وفيه أولا: إن الإقامة الموجبة لانقطاع حكم كثرة السفر مترتبة على كون المقيم
أهلا للبلد وعليه فموجب التنزيل وصيرورة المسافر بمنزلة أهل البلد حيث إنه نية
الإقامة فقط لا الإقامة المنوية أو الإقامة بما هي. فنقول إن نية الإقامة في غير البلد
الحقيقي إن كانت دخيلة في انقطاع حكم كثرة السفر جاء المحذور لأن الواحد وهي
النية لا يعقل أن تكون محققة للأهلية ومقومة لما يترتب على الأهلية وإن لم تكن
دخيلة في انقطاع كثرة السفر، فالدليل أخص من المدعى، لأن الإقامة إن كانت
مع النية كانت كالإقامة من أهل البلد وإلا فلا. مع أن الإقامة في غير البلد بلا نية
رافعة لحكم كثرة السفر على الفرض فكيف يمكن أن يكون مدركه عموم التنزيل.
ولا يخفى عليك أن محذور كون نية الإقامة محققة للأهلية ومقومة للإقامة المنوية
ليس مجرد عدم المعية الطبعية بين الأهلية ونية الإقامة المقومة لها ليقال بأن المقارنة
الزمانية كافية، بل لأن الشئ الواحد لا يعقل أن يوصف بالتقدم الطبعي والتأخر
الطبعي بالنسبة إلى شئ واحد، للزوم اجتماع المتقابلين وما نحن فيه كذلك، فإن

(1) الوسائل: ج 5، ص 517، الباب 12 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1.
(2) كتاب الصلاة ص 396.
100

نية الإقامة متقدمة على الأهلية طبعا لكونها علة لها، وهي متأخرة عن الأهلية
لكونها مقومة للإقامة المنوية، والأهلية متقدمة عليها تقدم الشرط على مشروطه،
ولا يعقل تعدد نية الإقامة لتكون إحداهما متقدمة على الأهلية والأخرى متأخرة
عنها، إذ لا يعقل انبعاث الفعل عن قصدين، فتدبر فإنه حقيق به.
وثانيا: إن دليل التنزيل لا يعقل أن يعم انقطاع السفر، وانقطاع كثرة السفر،
لأن المراد بالمقيم بمكة بمنزلة أهلها إما ناوي الإقامة وإما المقيم عن نية ولا ثالث،
لأن الإقامة المجردة لا يقطع أصل السفر حتى يكون بمنزلة أهل البلد، فإن أريد منه
ناوي الإقامة فهذا الموضوع لا أثر له إلا انقطاع السفر، كما أن مورده كذلك لسوقه
في مقام أن الخروج إلى عرفات سفر جديد وانقطاع السفر، ولا يتوهم كفاية ذلك في
المقام لأن الناوي إذا صار بمنزلة الأهل يترتب عليه حكم من أقام في بلده عشرة
أيام، وذلك لأن ذلك الدليل متكفل للإقامة في البلد الحقيقي. وأما أن الإقامة في
البلد التنزيلي أيضا كذلك فهو موقوف على ترتيب هذا الأثر بنفس دليل التنزيل،
والمفروض أن موضوعه ناوي الإقامة ولا أثر له إلا انقطاع السفر. وإن أريد منه
المقيم خارجا عن نية فهو موضوع لانقطاع كثرة السفر لا لأصل السفر لعدم دخل
الإقامة في انقطاع أصل السفر ولا جامع بين الموضوعين حتى يجمع بين الحكمين.
والتحقيق أن الخدشة في عموم التنزيل من حيث كون سوق الرواية لانقطاع
أصل السفر صحيحة، إلا أن دعوى عدم المعقولية مدفوعة بأن ناوي الإقامة بما هو
وإن كان لا يترتب عليه إلا انقطاع سفره، لكنه له أحكام تعليقية مترتبة على
موضوعاتها كنفس أهل البلد، ومنها إن ناوي الإقامة إذا أقام ينقطع كثرة سفره.
ثالثها: لا شبهة في عدم اعتبار النية في الإقامة في البلد، بل ادعي عليه الاجماع
من غير واحد، وأما الإقامة في غير البلد فهي محل الكلام بين الأعلام من حيث
اعتبار النية فيها وعدمه، وما يمكن الاستناد إليه لكفاية الإقامة المجردة عن النية،
إطلاق المرسلة (1) خصوصا مع تقابل الإقامة في غير البلد مع الإقامة في البلد مع

(1) أي مرسلة يونس، الوسائل: ج 5، ص 517، الباب 12 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1.
101

الجزم بعدم اعتبار النية في الثانية، ولا يمكن الاستناد إلى عموم التنزيل لنفي اعتبار
النية نظرا إلى أن إقامة أهل البلد لا تتوقف على النية في نفي حكم كثرة السفر،
وذلك لأن صيرورته منزلة أهل البلد متوقفة على نية الإقامة فيلزم من ترتيب هذا
الأثر وهي كفاية الإقامة بلا نية ما يشبه استلزام وجود الشئ لعدمه وهو محال،
فترتيب هذا الأثر عليه محال، ولا يعقل مع كون الموضوع ناوي الإقامة إطلاق
الإقامة من حيث وجود النية وعدمها، فلا يعقل اقتضاء التنزيل لكفاية الإقامة
المجردة ثبوتا وإثباتا.
وعن غير واحد منهم شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره) الاستناد في اعتبار
النية إلى دعوى الملازمة بين انقطاع كثرة السفر وانقطاع السفر قائلا: " إن الإقامة
مع عدم النية سفر شرعا وليس إلا كمكث المسافر في أثناء سفره ولا ينقطع به نفس
السفر ولا كثرته " (1)، بل عن بعض أجلة العصر (رحمه الله) " إنه لا يمكن أن
تكون الإقامة الغير المخرجة عن كونه مسافرا مانعة عن تحقق الكثرة ".
والانصاف إن كله جزاف، فإن المكاري إذا أعرض عن عمله في أثناء سفره
ينقطع عنه كثرة السفر، وعملية السفر، ولا ينقطع سفره، وكذا العكس، فإن
الداخل إلى بلده ينقطع سفره ولا ينقطع الكثرة. هذا في دعوى الملازمة بين
الانقطاعين كلية. وأما الملازمة بين الانقطاعين بخصوص الإقامة، فالاقامة في البلد
بنفسها قاطعة للكثرة دون أصل السفر، فإنه بحضوره ينقطع سفره لا بالإقامة.
ودعوى الملازمة بين انقطاع كثرة السفر بالإقامة مع أصل انقطاع السفر،
بتقريب أن المراد من الرواية أنه إن كان مقامه في منزله أو فيما هو بحكم منزله،
مدفوعة بأن الظاهر من الرواية، الإقامة في غير بلده من دون تقييده بكونه بحكم
منزله، فدعوى الملازمة بلا بينة، ومنه يعرف أن التشكيك في إطلاق المرسلة ودعوى
انصرافه إلى الإقامة عن نية لشبهة الاستلزام غير وجيه.
نعم حيث إن المشهور على اعتبار النية في الإقامة في غير البلد ومستند أصل

(1) كتاب الصلاة: ص 428.
102

الحكم هي المرسلة المحتاجة إلى الانجبار بعمل الأصحاب واستنادهم إليها، فلا جابر
لها مع عدم النية، فلا يمكن الركون في نفي اعتبار النية إلى الاطلاق. وعليه فاللازم
الرجوع إلى أدلة عملية السفر حيث لا حجة على تقييدها بالإقامة المجردة. نعم إن
كانت الإقامة قاطعة للموضوع لا رافعة للحكم كانت الشبهة موضوعية واللازم
إجراء أصالة بقاء الموضوع فيتحد مع الأول في الأثر، وطريق الاحتياط واضح.
رابعها: في حكم المتردد ثلاثين يوما في غير بلده من حيث رافعية حكم كثرة
السفر. ولا بد من تمهيد مقدمة هي: أن وجوب الاتمام فقط أمر لا يلازم انقطاع
السفر الموجب لكون السفر الواقع بعده مشروطا ببلوغ المسافة، بخلاف وجوب
الاتمام فقط فإن سفره متمم السفر الأول، ولا مانع من أن يكون السفر الواحد
محكوما تارة بالقصر، وأخرى بالاتمام، كما أن انقطاع السفر بمجرده غير صيرورته
أهلا للمحل ليترتب عليه حكم أهل البلد من انقطاع حكم كثرة سفره بالإقامة.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن في المسألة كما عن شيخنا الأعظم (1) (قدس سره)
" وجوها، بل أقوالا ثلاثة ": القول بكفاية الثلاثين مترددا في انقطاع السفر وكثرته
معا. والقول بلزوم إقامة العشرة بعده. والقول بعدم الكفاية مطلقا.
أما القول بالكفاية مطلقا فهو مبني على عدم اعتبار النية في الإقامة القاطعة
لحكم الكثرة بمقتضى إطلاق المرسلة، فمن حيث تحقق الثلاثين ينقطع أصل السفر،
ومن حيث تحقق العشرة في ضمنها تنقطع كثرة السفر، وإنما لا نقول بانقطاع الكثرة
بمجرد إقامة العشرة بلا نية للملازمة المدعاة بين انقطاع السفر وانقطاع كثرته،
ومحققه تارة نية الإقامة مع تعقبها بها، وأخرى العشرة في ضمن الثلاثين.
وأما القول بلزوم إقامة العشرة بعد الثلاثين مترددا بعد الاستناد إلى المرسلة
بضميمة دعوى الملازمة، فالوجه فيه إنا لا نقول بلزوم انقطاع كثرة السفر بعد
انقطاع أصله إلا أنه لا أقل من المعية بين موجبهما، ومن المعلوم انقطاع السفر بتمام
الثلاثين وكل عشرة تفرض في الثلاثين لا معية لها مع تمام الثلاثين، فلا بد من

(1) كتاب الصلاة: ص 428.
103

الالتزام بانقطاع كثرة السفر قبل انقطاع أصله وهو مناف للملازمة المدعاة هنا.
وأما لزوم النية في هذه العشرة الواقعة بعدها فيختلف من حيث اختلاف المدرك،
فإن استندنا في قاطعية الإقامة في غير المنزل إلى المرسلة مع التحفظ على انجبارها
باستناد الأصحاب، فلا بد من النية، لا لدخلها في قاطعية السفر حتى يكتفى
بقاطعية الثلاثين، بل لدخلها في قاطعية الكثرة في غير المنزل، حيث لا جابر
للمرسلة بدون النية، وإن استندنا إلى عموم المنزلة المدعاة بقولهم (عليهم السلام):
" والمقيم إلى شهر بمنزلتهم " فينقطع سفره بالثلاثين مترددا، وتنقطع كثرته بكونه
أهلا للبلد تنزيلا فيترتب عليه حكمهم وهي قاطعية الإقامة بما هي لكثرة السفر.
ولا يرد عليه شئ من المحاذير الواردة على نية الإقامة لانقطاع السفر بالثلاثين
المتقدمة على الإقامة من دون فرض النية، فلا مانع ثبوتا ولا إثباتا.
نعم إذا قلنا بأن اعتبار النية، عند المشهور، وعدم العمل باطلاق المرسلة،
بسبب ارتكاز الملازمة بين انقطاع السفر وانقطاع كثرته، فلذا اقتصروا في الإقامة
الابتدائية على الإقامة مع النية، فالمرسلة أيضا كدليل المنزلة، لأن المفروض حصول
انقطاع السفر بالثلاثين مترددا، فلا مانع حينئذ من العمل باطلاق المرسلة.
وأما القول بعدم كفاية الثلاثين حتى مع الإقامة عشرا، فالوجه فيه عدم صحة
التمسك بدليل المنزلة هنا لما في الخبر المتكفل لها من وجوه الاشكال كما قدمناه في المباحث
السابقة، وعدم تعرض المرسلة إلا للإقامة الابتدائية لا مطلق الإقامة ولو بعد التردد ثلاثين
يوما، والاشكال الأول في محله دون الثاني خصوصا إذا كان مع النية والله أعلم.
خامسها: هل عدم إقامة العشرة شرط في خصوص المكاري كما هو ظاهر جميع
نصوص الباب؟ أو يعم سائر أصناف كثير السفر؟ أما بناء على أن تلك العناوين
المذكورة في الروايات بما هي موضوعات لوجوب الاتمام، فمن الواضح أن تقييد
بعضها بقيد لا يقتضي تقيد بقية العناوين. وأما إذا قلنا بأنها بما هي من حصص
الجامع المستفاد من قولهم (عليهم السلام) " بأنه عملهم " (1) فنقول: إن الجامع إذا

(1) الوسائل: ج 5، ص 517، الباب 11 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 12.
104

قيد بقيد فلا محالة يسري في جميع حصصه، وأما إذا كان المفروض تقييد حصة من
حصص الجامع فلا موجب لسريانه إلى سائر الحصص.
ودعوى أن المكاري قيد بعدم الإقامة من حيث كونه كثير السفر وعمله السفر
نظير وجوب الاتمام المرتب على تلك العناوين من حيث عملية السفر، مدفوعة بأن
ظاهر كل عنوان جعل موضوعا لحكم، أنه بما هو عنوان موضوع له لا بما هو معرف
لعنوان آخر، وفي ترتيب الحكم على العناوين المذكورة قامت القرينة على المعرفية
للتعليل بعملية السفر، ومثله غير موجود في تقييد المكاري، فالتحفظ على ظاهره
يقتضي عنوانيته لمثل هذا التقييد لا معرفيته.
نعم ربما أمكن استفادة المعرفية والحكم بالسريان بمناسبة الحكم والموضوع،
بتقريب: إن ظاهر التقييد أن يكون المقيد بما هو موضوع الحكم، والموضوع من كان
عمله السفر، والحصة بما هي حصة لا دخل لها في وجوب الاتمام حتى يكون القيد
للحصة بما هي حصة، فيكون القيد للحصة بما هي وجود الجامع فالقيد للجامع
فتدبر.
ثم إنه بعد القول بالاختصاص هل يعم المكاري للملاح والأجير أم لا؟.
فنقول من الواضح أن مادة المكاراة لغة وإن كانت قابلة للإضافة إلى الدابة
وإلى السفينة وإلى النفس، إلا أن المتفاهم من المكاري عرفا من يكري الدواب
دون كل من يكري ما يتقوم بالسفر، ويشهد لذلك قوله (عليه السلام) في
صحيحة زرارة: " المكاري والكري والراعي الخ " (1) مع أن الكري هو الأجير
للسير فالمقابلة بينه وبين المكاري كاشفة عن اختصاص المكاري بكري الدواب
وكذا قوله (عليه السلام) في صحيحة محمد بن مسلم " ليس على الملاحين في
سفينتهم تقصير، ولا على المكاري والجمال " (2) فيستفاد منها أيضا المقابلة بين
الملاح والمكاري.

(1) الوسائل: ج 5، ص 515، الباب 11 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 2.
(2) الوسائل: ج 5، ص 516، الباب 11 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 4.
105

سادسها: إذا لم يقم عشرة أيام، بل أقل منها، وإن كان أقل من خمسة أتم على
ما هو المعروف بل لم ينقل القول بخلافه إلا ممن لا يعتني بالمشهور، بل بما ادعي
الاجماع عليه، وإن كان خمسة فما فوقها فالمشهور أيضا إنه يتم مطلقا بل، عن السرائر
دعوى الاجماع عليه (1). وعن الشيخ (قدس سره) وأتباعه كالقاضي وابن حمزة أنه
يقصر نهارا ويتم ليلا، ويصوم شهر رمضان (2). ومن الواضح أن تقصيره نهارا من
لوازم انقطاع كثرة سفره، كما أن إتمامه ليلا وصيام شهر رمضان من لوازم بقائه
على كثرة سفره.
ومستند الشيخ (قدس سره) رواية عبد الله بن سنان المروية بطريقين: أحدهما:
صحيح وهي هكذا " المكاري إذ لم يستقر في منزله إلا خمسة أيام وأقل قصر في
سفره في النهار وأتم بالليل وعليه صوم شهر رمضان " (3) ومقتضى الجمع بينها وبين
رواية يونس (4) بالجمع الدلالي الواضح بتخصيص عمومها أو تقييد إطلاقها، مما
لا ريب فيه لا من حيث الخصوص والعموم، من حيث اختصاصها بالاستقرار في
المنزل، لأن الإقامة في غير بلده منصوص عليها في رواية يونس فالنسبة بينهما من هذه
الجهة التبائن، ولا من حيث كون الخمسة في قبال أقل من عشرة نسبة الخاص إلى
العام لاشتمال الرواية على الأقل من خمسة فجميع مراتب الأقل من عشرة محكومة
بالقصر في قبال رواية يونس القاضية بالاتمام، بل من حيث اختصاصها بالقصر
في النهار في قبال المرسلة القاضية بالاتمام باطلاقها، كما أن نسبتها إلى الأدلة
الحاكمة بالملازمة بين القصر والافطار أيضا بالخصوص والعموم لكن الرواية غير
معمول بها عند المشهور.

(1) السرائر: ص 76.
(2) المبسوط: ج 1، كتاب صلاة المسافر، ص 141.
(3) الوسائل: ج 5، ص 519، الباب 12 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 5، مع اختلاف يسير.
(4) الوسائل: ج 5، ص 517، الباب 12 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1.
106

المسألة السابعة
[في اعتبار حد الترخص في القصر]
في الشرط السابع وهو بلوغ حد الترخص وهو أولى من بعض العبارات الناصة
على شرطية خفاء الجدران وخفاء الأذان فإنهما معرفان، والشرط هو بلوغ البعد
الخاص من محل المسافرة.
وتنقيح الكلام في هذا الشرط برسم أمور:
الأمر الأول
إن روايات الباب جميعا متضمنة لمعرفية عدم سماع الأذان إلا صحيحة
محمد بن مسلم المتضمنة للتواري من البيوت " قال: قلت لأبي عبد الله (عليه
السلام): الرجل يريد السفر فيخرج متى يقصر؟ قال (عليه السلام): إذا توارى
من البيوت " (1).
وحيث لا معنى للتواري عن البيوت نظرا إلى أن التواري عن الشخص اختفائه
عنه بحيث لا يراه، وعدم الرؤية من باب العدم المقابل للملكة فلا يتصور إلا ممن
شأنه الرؤية، وغير الحيوان من الجماد والنبات لا يوصف بها حتى يوصف بعدمها،
ولذا جعلوه من باب القلب، أي توارت البيوت عنه فلا يراها. وبعضهم أبقاه على
حاله بإرادة أهل البيوت، أي بحيث لا يراه أهل البيوت.
أقول: مقتضى كون التواري علامة للمكلف على البعد الخاص، أن اللازم
اعتبار عدم رؤيته كاعتبار عدم سماعه. وتوجيه التواري عن البيوت بالتواري عن
أهلها غير وجيه، إذ لا يعلم المكلف بعدم رؤية أهلها إياه إلا بالتلازم بين عدم
رؤيتهم إياه، وعدم رؤيته إياهم، فجعل العلامة عدم رؤيتهم إياه يشبه الأكل من
القفا، بل كان اللازم جعل تواري البيوت عنه علامة بعدم رؤيته لها أو

(1) الوسائل: ج 5، ص 505، الباب 6 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1.
107

لأهلها.
ويمكن أن يقال بابقاء الرواية على حالها من دون التزام بالقلب ولا بتقدير
الأهل، بتقريب إن السفر هو البروز من البلد إلى المقصد بالغيبة عنه في قبال
حضوره، فما دام لم يتجاوز ذلك البعد الخاص يكون حاضرا غير غائب عن بلده،
فالمراد بتواريه عن البيوت غيبته عنها، ولازمها عدم رؤيته لها، والتواري وإن كان
بين اثنين إلا أن نسبته إلى خصوص المسافر، لأنه المسافر عن بلده في قبال الحاضر
فيه، فيناسب نسبة الغيبة والتواري إليه لا إلى بلده أو أهله، فهذه العلامة كما أنها
معرفة للبعد الذي هو شرط وجوب القصر، منبهة على مناط الحكم أيضا ولا حاجة
إلى ما أفاد شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره): " من أن تخصيص التواري
بالمكلف، بملاحظة أنه السبب لايجاد البعد دون البيوت وأهلها " (1).
ومما ذكرنا يتضح أن ما في كلمات المشهور من أن الشرط عدم رؤية البلد
مثلا ليس مبنيا على القلب ولا على مجرد الملازمة بين تواري الشخص وتواري
البلد. وسيجئ إن شاء الله تعالى ملاك التواري عن البيوت بحيث يجامع عدم
سماع الأذان.
الأمر الثاني
نسب إلى المشهور بين المتقدمين أن أخذ الأمرين من خفاء الجدران وخفاء
الأذان كاف في معرفة بلوغ الخاص. ونسب إلى المشهور بين المتأخرين لزوم
اجتماعهما. وعن بعضهم الاقتصار على خفاء الجدران. وعن آخر الاعتماد على
خفاء الأذان. ومنشأ الاختلاف تفاوت أنظارهم في الجمع بين الأخبار ولا يخفى
أن تعارض الأخبار والجمع بينها بتفاوت الأنظار لا يكاد يوجه إلا بملاحظة انفكاك
كل واحد من الأمرين من الآخر، أو انفكاك أحدهما بالخصوص عن الآخر وإلا
فليس للبحث ثمرة عملية إذ مع فرض الملازمة وعدم الانفكاك خارجا يجب

(1) كتاب الصلاة، ص 435.
108

القصر سواءا كان كل منهما علامة ومعرفا أو كانتا معا معرفا وعليه فنقول: إن جميع
الوجوه المذكورة في باب الجمع بين الأخبار غير مربوطة بما نحن فيه، وذلك لأن
خفاء الجدران وخفاء الأذان ليسا سببين أو شرطين لوجوب القصر، بل كما مر
الشرط هو البعد الخاص عن البلد مثلا، وخفاء الجدران معرف كخفاء الأذان
ومعرفية شئ عن تحقق البعد الخاص لا يكون إلا بملازمة وجوده لوجوده ومع
انفكاك أحد المعرفين عن الآخر يستحيل ملازمة كل بينهما لوجود ذلك البعد
الخاص لا تعيينا ولا تخييرا إذ مع فرض وحدة البعد الخاص كيف يعقل أن يكون
المنفكان في الوجود كلامهما ملازما لوجود البعد الخاص تعيينا، ومع عدم ملازمة
أحدهما واقعا للبعد الخاص كيف يعقل أن يكون عدلا وبدلا عما يلازمه وكذلك
يستحيل أن يكونا معا معرفا واحدا للبعد الخاص لأن الفرض عدم ملازمة كل منهما
للبعد الخاص فكيف يكون اجتماع ما لا يلازم مع مثله محدثا للملازمة بين المجموع
والبعد الخاص فجزئية كل منهما للمعرف غير معقولة، ولا يقاس بباب الحدود حيث
إن المعرف مؤلف من أمرين، وذلك لأن الماهية النوعية متقومة بطبيعي الجنس
والفصل، فلا بد من أن يكون معرفها مبينة لذاتياتها غاية الأمر أن الذاتيات ملحوظة
في طرف المحدود بنحو الجمع والاجمال، وفي طرف الحد بنحو الفرق والتفصيل،
بخلاف ما نحن فيه فإن المعرفية بمعنى كاشفية وجود شئ عن آخر مبائن له ماهية
ووجودا لمجرد الملازمة بينهما في الوجود. هذا إذا انفك كل منهما عن الآخر، وإذا
انفك أحدهما بالخصوص عن الآخر فلا محالة يكون أحدهما ملازما لبعد أزيد مما
يلازمه الآخر، ولا محالة يكون أحد البعدين من الزائد والناقص شرطا، فالحد الملازم
للزائد قد اعتبر فيه أزيد مما يقتضيه الشرط إن كان البعد الناقص شرطا والحد
الملازم للناقص قد أخل فيه الشارع إن كان البعد الزائد شرطا فيستحيل معرفيتهما
معا تعيينا وتخييرا وبنحو الجزئية لمعرف واحد إذ ليس كل منهما معرفا للزائد ولا
للناقص على الفرض، وليس الشرط أحد البعدين حتى يكون المعرف أحد الأمرين
وليس المعرف للزائد والمعرف للناقص معرفا واحدا للزائد ولا للناقص، ولا معنى
لأن يكون الجماع بين المعرفين معرفا للجماع بين البعدين، فالشرط هو الجامع
109

والمعرف هو الجامع وذلك لأنه لا جامع بين الزائد والناقص إلا طبيعي البعد عن
البلد وهو ليس بشرط إجماعا حتى كون الجماع بين الأمرين معرفا.
ومن جميع ما ذكرنا يتضح أنه بناء على عدم الملازمة بين المعرفين لا تصل النوبة
إلى الجمع بين الأخبار بالوجوه المذكورة في الأصول من تقييد مفهوم كل من
القضيتين الشرطيتين بمنطوق الأخرى، أو تقييد إطلاق منطوق كل منهما، بجعلهما
معا شرطا، أو جعل الجامع شرطا، فإن هذه الوجوه كلها مناسبة لمقام السبب
والشرط لا لمقام المعرفية فلا بد على هذا المبنى من تعيين المعرف الملازم للبعد الخاص
الذي هو في الحقيقة شرط وجوب القصر وكثرة أخبار خفاء الأذان واشتهاره في
الصدر الأول كما يظهر من خبر منتظر الرفقة (1) وعدم وضوح دلالة خفاء البيوت،
يوجب الاعتماد على خصوص خفاء الأذان وجودا وعدما بل ربما يقال كما عن
بعض الأساطين (قدس سره) " إن خبر تواري الرجل عن البيوت لمجرد التنبيه على
ملاك الحكم لا أن معرف " لكنه بعيد.
الأمر الثالث
لا ريب في أن انفكاك أحد المعرفين عن الآخر لأحد أمرين:
الأول: تفاوتهما في المرتبة بأن يلاحظ سماع الأذان بما هو صوت عال مع رؤية
البيوت متميزة بخصوصياتها أو سماع الأذان متميزة فصولها مع رؤية البيوت بما
هي بيوت، فضلا عن رؤية أشباحها، ومن البين أن خفاء الأذان ينفك حينئذ عن
خفاء البيوت، لكن هذا أجنبي عن انفكاك أحد المعرفين عن الآخر، لأن كل
مرتبة ملازمة لبعد خاص، وإنما الانفكاك يتصور فيما إذا لوحظا في مرتبة واحدة
ومع ذلك ينفك أحدهما عن الآخر، وعليه فأما لا ملازمة بينهما، ولا ملازمة أصلا
لأحدهما بالخصوص مع البعد الخاص، وأما لا انفكاك.
الثاني: تفاوتهما بلحاظ العوارض، كما إذا كان الهواء مخالفا يمنع عن سماع

(1) الوسائل: ج 5، ص 501، الباب 3 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 11.
110

الأذان، أو الهواء مظلما يمنع عن رؤية الجدران فالملازمة بينهما مع اتحاد المرتبة
محفوظة إلا أن فعلية أحدهما دون الآخر لعارض وقد اتفقت الكلمة على أنه لا عبرة
بالعوارض، بل يقدر الهواء معتدلا وقوة السامعة والباصرة على حد التوسط.
ومما ذكرنا يتضح أنه لا بد من ملاحظة المعرفين في مرتبة واحدة كسماع الأذان
متميزة الفصول مع رؤية البيوت متميزة الخصوصيات، أو سماع الأذن بما هو
صوت عال ورؤية البيوت بما هي بيوت لا بخصوصياتها وهكذا في باقي المراتب كما
أن اللازم ملاحظة المتساويين في المرتبة بنفسهما مع قطع النظر عن العوارض الغير
المنافية لتلازمها المبني على التقدير. فتبين أن دعوى أن أمارية كل منهما غالبية أو
الملازمة بين الأمارتين غالبية، غفلة واضحة فإنه إما لا ملازمة أو هي دائمية، كما أن
دعوى الاعتبار بكل منهما مع عدم العلم بتخلف الآخر، وأنه مع العلم لا بد من
اجتماعهما أيضا، بلا وجه، إذا لا يعقل مع التساوي في المرتبة وعدم ملاحظة
العوارض، علم بالمخالفة أو شك فيها.
نعم حيث إن كل مرتبة ملازمة لبعد خاص. يقع الكلام في أن أية مرتبة من
المراتب جعلت معرفة للبعد اللازم شرعا؟ فإن استظهرنا مرتبة خاصة من الأخبار
فهو، كما لا يبعد أن يكون المراد من سماع الأذان سماعه بما هو صوت عال، وأن
يكون المراد من رؤية البيوت رؤيتها بما هي بيوت لا بما هي أشباح، ولا بما هي
متميزة الخصوصيات، وهاتان المرتبتان متحاذيتان، وإن منع الاستظهار المزبور
فمرجع الشك دائما إلى الشك في أنه أي مرتبة من البعد شرطا، واقعا، فالأقل منه
متيقن والباقي مشكوك. فإن كان هناك إطلاق كقوله تعالى: " وإذا ضربتم في
الأرض " (1) وقوله تعالى: " وإن كان على سفر " (2) أو ما في الروايات، صح
التمسك باطلاقها لدفع الشك في التقييد الزائد، وإن منع الاطلاق كان المرجع
استصحاب بقائه على ما كان من الحضور وعدم السفر إن كان الموضوع مشكوكا

(1) النساء: 101.
(2) البقرة: 185، والآية هكذا: "... ومن كان مريضا أو على ستر... ".
111

وإلا فاستصحاب وجوب الاتمام، إن كان الموضوع هو المسافر عرفا مع صدقه عليه
حقيقة.
الأمر الرابع
هل بلوغ حد الترخص شرط في كل من يجب عليه القصر حتى يعم المسافر من
منزله، ومن محل إقامته، ومن محل تردده ثلاثين يوما والقائم الذي قصد المسافة،
والمتردد الذي زال تردده وعزم على قطع المسافة، والقاصد للحرام بعد تبدل قصده إلى
قصد المباح، لاشتراك الكل في حدوث وجوب القصر في حقهم؟ أو شرط في حق
من أنشأ السفر فيختص بالمسافر من منزله، ومن محل إقامته، ومن محل تردده،
لاشتراك الكل في إحداث السفر لفرض كون المرور بالوطن، ومحل الإقامة والتردد
ثلاثين يوما من قواطع السفر موضوعا لو شرعا لا مجرد تبدل وجوب الاتمام
بوجوب القصر؟ أو هو شرط في خصوص من أنشأ السفر من منزله فإنه لا منافاة بين
كون سفر المقيم والمتردد سفرا جديدا، وعدم اعتبار حد الترخص في سفرهما؟ ولا
ريب في أنه لا إطلاق يقتضي اعتباره في كل من حدث في حقه وجوب القصر.
نعم ربما يدعى الاطلاق في من أنشأ السفر مثل صحيحة محمد بن مسلم " قال
قلت: الرجل يريد السفر متى يقصر؟ قال (عليه السلام): إذا توارى عن
البيوت " (1) فإنه يعم كل من أراد إنشاء السفر سواء كان من منزله، أو من محل
إقامته، أو من محل تردده ثلاثين يوما، ولا يعم من كان مسافرا قبلا، ولم يجب عليه
القصر لفقد شرط.
وأما صحيحة عبد الله بن سنان فلا إطلاق لها، بل مورد السؤال هو من سافر من
بلده كما يظهر من ذيلها حيث قال (عليه السلام): " وإذا قدمت من سفرك فمثل
ذلك " (2) فإنه لا قدوم من السفر إلا إلى بلده فيعلم منه أن صدرها متكفل لاعتبار

(1) الوسائل: ج 5، ص 505، الباب 6 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1 مع اختلاف يسير.
(2) الوسائل: ج 5، ص 506، الباب 6 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 3.
112

حد الترخص في السفر من المنزل وذيلها لاعتباره في العود إليه. وأما ما عدا صحيحة
ابن مسلم من الأخبار فجميعها مقيدة بالخروج من المنزل فيدور الأمر بين ورود
الاطلاق مورد الغالب، أو القيد مورد الغالب. المعروف الالتزام بالتقييد وحمل
الاطلاق على الغالب وإن كان التحقيق أن الغلبة لا تجدي في التقييد فلا تمنع
عن انعقاد الاطلاق، كما أن غلبة القيد لا يمنع التقييد لظهور القيد في نفسه، في
دخله في موضوع الحكم إلا أن نتيجة إثبات الاطلاق للمطلق والتقييد لذي القيد
فيعامل معهما معاملة المطلق والمقيد، وعليه فلا موجب لاعتبار حد الترخص في غير
المسافر من منزله.
وأما الخدشة في أصل الاطلاق بظهور " يريد السفر " (1) في البدأة به فلا يعم
من يريد تجديد السفر، فمدفوعة بأنه بناء على ذلك لا يعم من سافر من وطنه فمر
بوطن آخر له، فإن السفر من الثاني ليس من الابتداء بالسفر، كما أن دعوى تبادر
السفر من منزله من قوله: " يريد السفر " لم يعلم له موجب.
نعم يمكن أن يقال إن الدليل وإن كان مقصورا على السفر من المنزل، إلا أن
عموم التنزيل في خصوص المقيم يقتضي اعتباره في حقه إلا أن يقال: إن ظاهر قوله
(عليه السلام): " وهو منزلة أهل مكة " (2) كونه مسافرا جديدا لا أن سفره متمم
سفره من بلده فلا نظر له إلا إلى أن الخروج إلى عرفات سفر موجب للتقصير. والذي
يهون الخطب أن حد الترخص لم يقيد في شئ من أخباره بالمنزل حتى يكون مقيدا
لاطلاق المجرد عنه وإنما ومورد ومفروض في بعضها، فهي قاصرة عن اعتباره في
غيره وحينئذ يجدي الاطلاق في اعتباره في محل الإقامة ومحل التردد فالعمدة إثبات
الاطلاق ونفيه، ودعوى الاطلاق لا يخلو عن إشكال، لا لبعض ما قدمناه، بل لأن
الظاهر من قوله: " يريد السفر " إرادة إنشاء السفر، والمقيم بمنزلة أهل البلد شرعا
لا عرفا. فمن سافر من محل الإقامة مسافر بسفر جديد شرعا وهو على سفره الذي

(1) الوسائل: ج 5، ص 505، الباب 6 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1.
(2) الوسائل: ج 5، ص 506، الباب 6 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 6.
113

أنشأه من وطنه عرفا فلا معنى لتنزيل قوله يريد السفر على إرادة إنشاء السفر الأعم
من كونه سفرا إنشائيا حقيقة وسفرا إنشائيا تنزيلا وشرعا ومنه تبين حال قوله
(عليه السلام): " إذا سمع الأذان أتم المسافر " (1) فإنه لا شك في أن المراد من أنشأ
السفر لا أن المسافر ولو بقاء إذا سمع الأذان يتم إلا أن المنسوب إلى الأكثر حيث
إنه الحاق محل الإقامة ومحل التردد بالمنزل فالاحتياط لا ينبغي تركه.
وعن بعض أجلة العصر تسليم الاطلاق، لكنه ادعى عدم مقاومته لاطلاق
أدلة وجوب القصر على المسافر مع كون الأول أخص من الثاني نظرا إلى أن ظهور
هذا المطلق في شمول المقيم أضعف من ظهور (2) إطلاق أدلة القصر في شمول للمقيم.
والميزان في التقديم أقوائية أحد الظهورين لا العموم والخصوص. ثم ادعى حكومة
أدلة اعتبار حد الترخص على أدلة القصر فلا تلاحظ الأقوائية. ونظره (رحمه الله) في
الحكومة كما صرح به إن قوله: " متى يقصر " (3) وقوله: " سألته عن التقصير " (4)
ناظر إلى أدلة وجوب التقصير على المسافر.
أقول: أما دعوى أضعفية ظهور أدلة حد الترخص في الشمول للمقيم من ظهور
أدلة القصر في شمولها له فلا موجب له أصلا، إذ كما أن قوله: " يريد السفر " (5)
ظهوره في السفر من منزله، أقوى من ظهوره فيما يعم محل إقامته، كذلك ظهور قوله
" المسافر يقصر " (6) الشامل لمن بلغ حد الترخص ومن لم يبلغه وللمسافر من منزله
أو محل إقامته، فإن ظهوره في المسافر البالغ حد الترخص عن منزله أو محل إقامته
أقوى من ظهوره في الأعم من البالغ وغيره، وإنما لا يتفاوت ظهوره في من خروج عن
وطنه أو عن محل إقامته في أصل القصر لا من حيث بلوغهما لحد الترخص وعدمه

(1) الوسائل: ج 5، ص 506، الباب 6 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 7.
(2) يحذف ظهور خ ل ".
(3) الوسائل: ج 5، ص 505، الباب 6 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1.
(4) الوسائل: ج 5، ص 496، الباب 2 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 9.
(5) الوسائل: ج 5، ص 505، الباب 6 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1.
(6) الوسائل: ج 5، ص 506، الباب 6 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 8.
114

وأما دعوى الحكومة فما أفاده (قدس سره) من النظر، محل النظر، فإن قوله
" متى يقصر " (1) و " سألته عن التقصير " (2) ناظران إلى وجوب القصر ثبوتا لا إلى
وجوبه إثباتا حتى يكون ناظرا إلى أدلة وجوب القصر. وأما عدم الحكومة بالمعنى
الآخر وهي إثبات الموضوع أو نفيه تنزيلا وعنوانا فهو واضح لعدم تكفل أدلة
اعتبار حد الترخص لذلك إلا على الوجه الذي أشرنا إليه سابقا من أن قوله (عليه
السلام): " إذا توارى عن البيوت " (3) بيان للمية الحكم وإنه ما لم يبعد عن
البيوت فهو كأنه حاضر غير غائب عن وطنه فتدبر جيدا.
الأمر الخامس
هل يعتبر بلوغ حد الترخص في العود إلى المنزل في البقاء على القصر، أو لا يعتبر
فيبقى على القصر إلى أن يرد منزله؟ وليس للقول باعتباره إلا ما في ذيل صحيحة
عبد الله بن سنان حيث قال (عليه السلام): " وإذا قدمت من سفرك فمثل
ذلك " (4).
وفي قباله أخبار، وفيها الصحيح إنه يبقى على حكمه إلى أن يرد منزله كقوله
(عليه السلام) في رواية العيص: " ولا يزال يقصر حتى يدخل بيته " (5) ومما رواه
الصدوق: " إذا خرجت من منزلك فقصر إلى أن تعود إليه " (6) وفي رواية حماد:
" المسافر يقصر حتى يدخل المصر " (7) فيجاب عنها بتقييدها بما إذا لم يسمع
الأذان، كما أن روايات القصر بمجرد الخروج من المنزل مقيدة بذلك.
ولا يخفى أن كيفية التصرف في الأخبار المسوغة للقصر بالخروج من المنزل

(1) الوسائل: ج 5، ص 505، الباب 6 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1.
(2) الوسائل: ج 5، ص 505، الباب 6 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1.
(3) الوسائل: ج 5، ص 496، الباب 2 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 9.
(4) الوسائل: ج 5، ص 506، الباب 6 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 3.
(5) الوسائل: ج 5، ص 508، الباب 7 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 4.
(6) الوسائل: ج 5، ص 508، الباب 7 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 5.
(7) الوسائل: ج 5، ص 506، الباب 6 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 8.
115

مختلفة فتارة يقال إن الخروج من المنزل مطلق من حيث سماع الأذان وعدمه فيقيد
بعدمه، وأخرى أن الخروج من المنزل بلحاظ البعد عنه، له مراتب والشارع بمقتضى
أخبار الحد جعل مرتبة من الخروج مسوغة للقصر، ولا يجري شئ منهما في طرف
الدخول في المنزل، إذ لا يعقل إطلاق فيه من حيث سماع الأذان وعدمه، وليس
الدخول في المنزل كالخروج منه ذا مراتب حتى يحمل على مرتبة من الدخول بحيث
يساوق الحدين، وثالثة يتصرف في الخروج من المنزل بالتوسعة في المنزل كما أشرنا
إليه أن من لم يكن متواريا من البيوت فهو كالحاضر فيها وغير غائب عنها، وحينئذ
يجري هذا التصرف في طرف الدخول أيضا فإن الداخل في حد الترخص كأنه
دخل في منزله وغير غائب عنه فيمكن الجمع بين أخبار التحديد وهذه الأخبار
المغياة بالدخول في المنزل فقط، وأما سائر الأخبار فغير قابلة هذا التوجيه.
منها: صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال (عليه
السلام): " إن أهل مكة إذا زاروا البيت ودخلوا منازلهم أتموا وإذا لم يدخلوا
منازلهم قصروا " (1) فإن الشرطية الثانية في حد ذاتها وإن كانت مطلقة من حيث
سماع الأذان فيمكن تقييدها بما إذا لم يسمعوا الأذان، لكن بملاحظة مقابلتها
للشرطية الأولى المفروضة في صورة زيارة البيت التي هي كالمقسم للشرطيتين، لا
إطلاق لها حتى يعقل التقييد. وحينئذ لا يعقل التوجيه المتقدم والتوسعة في المنزل،
كيف والمفروض دخول مكة وزيارة البيت.
ومنها: رواية علي بن رئاب عن أبي عبد الله (عليه السلام): " عن الرجل يكون
بالبصرة وهو من أهل الكوفة وله بالكوفة دار وعيال فيخرج فيمر بالكوفة وهو يريد
مكة ليتجهز منها وليس من رأيه أن يقيم أكثر من يوم أو يومين قال (عليه السلام):
يقيم في جانب الكوفة ويقصر حتى يفرغ من جهازه، وإن هو دخل منزله فليتم
الصلاة " (2) وبمضمونها موثقة ابن بكير (3).

(1) الوسائل: ج 5، ص 500، الباب 3 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 4.
(2) الوسائل: ج 5، ص 508، الباب 7 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 6.
(3) الوسائل: ج 5، ص 507، الباب 7 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1.
116

ومنها: موثقة إسحاق بن عمار عن أبي إبراهيم (عليه السلام) " قال: سألته عن
الرجل يكون مسافرا ثم يقدم فيدخل بيوت الكوفة أيتم الصلاة أم يكون مقصرا حتى
يدخل أهله؟ قال (عليه السلام): بل كون مقصرا حتى يدخل أهله " (1).
هذا ومن الواضح أن هذه الروايات غير قابلة للتصرف في الدخول في المنزل
والأهل، وحملها على التقية بلا موجب، إذ المنقول من الأئمة الأربعة عدم كفاية
الخروج من المنزل حدوثا، وعدم لزوم الدخول فيه بقاء، بل لا بد عندهم من
الخروج من البلد، وعدم الدخول فيه وإن لم يقولوا بالتحديد بخفاء الأذان
والجدران، كما أن الاعراض عن الروايات بعد عمل جملة من القدماء وغير واحد من
المتأخرين غير معلوم، فليس في المسألة إلا موافقة صحيحه ابن سنان (2) للمشهور
ومخالفته هذه الروايات التي هي بين صحيح وموثق، للمشهور.
والانصاف أن المسألة مورد الاحتياط.
ويمكن أن يقال بعدم المعارضة بين الأخبار، وذلك لأن صحيحة عبد الله بن
سنان لم يتكفل ذيلها إلا للقدوم العودي والرجوعي من السفر دون مطلق المرور إلى
الوطن والدخول فيه، موثقة ابن بكير، ورواية علي بن رئاب، بل ورواية معاوية بن
عمار موردها المرور إلى الوطن مجتازا منه فالروايات غير واردة على مورد واحد، إلا
أنها بضميمة عدم القول بالفصل متعارضة مضافا إلى أن موثقة إسحاق بن عمار غير
مقصورة على الاجتياز والمرور فهي كافية للمعارضة.
الأمر السادس
هل ناوي الإقامة في بلد قبل دخوله في البلد وبلوغه حد الترخص يكون
كالمتوطن في انقطاع سفره، أو لا بد من الدخول في البلد في انقطاع السفر؟ والعمدة
في الحاقه بالمتوطن أمران:

(1) الوسائل: ج 5، ص 508، الباب 7 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 3 مع اختلاف يسير.
(2) الوسائل: ج 5، ص 525، الباب 15 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 6.
117

أحدهما: ذيل صحيحة ابن سنان (1) المتكفل لحكم الدخول في البلد بعد بيان
حكم الخروج منه، والتسوية بين الخروج والدخول في اعتبار حد الترخص.
وثانيهما: عموم المنزلة المستفادة من قوله (عليه السلام): " من قدم مكة بعشرة
أيام قبل التروية فهو منزلة أهلها " (2)، فكما أن أهلها إذا دخلوا حد الترخص يجب
عليهم الاتمام كذلك ناوي الإقامة بها.
والظاهر عدم تمامية الدليلين، أما الأول فإن المراد من قوله (عليه السلام):
" وإذا قدمت من سفرك فمثل ذلك " (3) هو القدوم العودي لا مطلق القدوم حتى
يعم القدوم البدئي ولذا قلنا سابقا إنه لا إطلاق لصدر الصحيحة فإن القدوم
العودي يختص بأهل البلد، فصدرها متكفل لحكم المسافر من بلده لا الأعم منه
ومن المسافر من محل إقامته.
والعجب من بعض أجلة العصر (رحمه الله) حيث استدل باطلاق صدرها
للمقيم الخارج واستظهر عدم إطلاق ذيلها.
وأما الثاني فالجواب عنه يتوقف على مقدمة هي أن حدود البلد على قسمين:
حد عرفي وهو ما كان من توابع البلد عرفا بحيث يعد الدخول فيه دخولا في البلد
عرفا، والخروج عنه خروجا عن البلد عرفا. وحد شرعي وهو حد الترخص بحيث
يكون الدخول فيه حضورا في البلد شرعا والخروج عنه غيبة عن البلد ومساوقا للسفر
شرعا. ومن البين أن أدلة اعتبار حد الترخص قسم منها لا دلالة له إلا على شرطية
التجاوز عن الحد لوجوب القصر فقط كقوله (عليه السلام): " وإذا لم يسمع الأذان
قصر " (4) من دون دلالة على التنزيل المزبور. وقسم منها يمكن استفادة التنزيل منه
كقوله (عليه السلام): " إذا توارى عن البيوت " (5) بناء على إرادة الغيبة عن البلد

(1) الوسائل: ج 5، ص 506، الباب 6 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 3.
(2) الوسائل: ج 5، ص 526، الباب 15 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 10.
(3) الوسائل: ج 5، ص 506، الباب 6 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 3.
(4) الوسائل: ج 5، ص 506، الباب 6 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 3.
(5) الوسائل: ج 5، ص 505، الباب 6 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1.
118

في قبال الحضور فيه فيدل، بالالتزام على أن هذا الحد حد الحضور الداخل فيه،
ولغيبة المتجاوز عنه شرعا. ومن الواضح أن مريد السفر عن بلده هو الحاضر في بلده
تارة والغائب عنه أخرى، وكون حضور الأهل وغيبتهم دائرا مدار البلوغ لهذا الحد
وعدمه لا يجدي للمقيم إلا بتنزيل المقيم منزلة أهل البلد حتى يكون حضوره
كحضورهم، وغيبته كغيبتهم، ولا تنزيل إلا بلسان قوله (عليه السلام): " ومن قدم
مكة.. " إلى قوله " فهو منزلة أهلها " (1) فالمقيم في البلد لتحقق موضوعه يعمه
التنزيل فيكون خروجه عن الحد غيبة له كالأهل، وبقاؤه فيه حضورا له كالأهل.
وأما ناوي الإقامة قبل دخول البلد فليس دخوله في حد الترخص دخولا في البلد
حقيقة، لأن المفروض أنه ليس حدا عرفيا له، وليس دخولا فيه تنزيلا، لأن
التنزيل مع فرض شمول الدليل له المتوقف على تحقق موضوعه فكيف يعقل تحقق
موضوعه به فهذا هو الفارق بين خروج المقيم من البلد، ودخول ناوي الإقامة في حد
الترخص. فتدبر فإنه حقيق به.

(1) الوسائل: ج 5، ص 499، الباب 3 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 3.
119

المقام الثاني
في قواطع السفر وأحكامه
فهنا مطلبان:
المطلب الأول
في قواطع السفر
وهي ثلاثة:
القاطع] الأول: الوطن
وهو وإن كان لغة مجرد الإقامة في محل لأمر ما، كما عن فقه اللغة للثعالبي (1)
قال: كل مقام قامه الإنسان لأمر ما موطن، كقولك: إذا أتيت مكة فوقفت في تلك
المواطن فادع الله لي، ويقال: الموطن، المشهد من مشاهد الحرب، ومنه قول طرفة:
على موطن يخشى الفتى عنده الردى * متى تعترك فيه الفرائص ترعد
أقول: ومنه قوله تعالى " نصركم الله في مواطن كثيرة " (2) إلا أنه مع ذلك
فالوطن في العرف هو المقر الدائمي للإنسان، وهو قسمان:
أحدهما: الوطن الأصلي الذي هو مسقط رأسه وما نشأ فيه أبا عن جد.
ثانيهما: الوطن الاتخاذي، وهو المحل الذي يتخذه الغريب وطنا ومسكنا دائميا
له، ولا كلام في شئ منهما، ولا في عدم اعتبار الملك فيهما، وعدم ذكر الأول في
الأخبار لكمال وضوحه. إنما الكلام في الوطن الشعري الذي هو ثالث الأقسام عند
المشهور.

(1) فقه اللغة: ص 4.
(2) التوبة: 25.
120

وتنقيح الكلام فيه وفيهما برسم أمور:
منها: إن أخبار الباب طوائف أربعة:
إحديها: الأخبار الآمرة بالاتمام عند مرور المسافر إلى ضيعته وقريته كصحيحة
إسماعيل بن الفضل " قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل سافر من
أرض إلى أرض وإنما ينزل قراه وضيعته، قال (عليه السلام): إن نزلت قراك
وضيعتك فأتم الصلاة، وإن كنت في غير أرضك فقصر " (1) وبمضمونها روايات
أخر كرواية البزنطي (2) وموثقة عمار (3).
ثانيتها: الأخبار النافية للاتمام في عين ذلك الموضوع كرواية موسى بن حمزة بن
بزيع قال " قلت لأبي الحسن (عليه السلام): جعلت فداك إن لي ضيعة دون بغداد
فأخرج من الكوفة أريد بغداد فأقيم في تلك الضيعة أقصر أم أتم؟ فقال (عليه
السلام) إن لم تنو المقام عشرة أيام فقصر " (4) وبمضمونها رواية عبد الله بن
سنان (5).
ثالثتها: الأخبار الدالة على عدم كفاية المرور بالضيعة، ولزوم الاستيطان في
الاتمام كصحيحة علي بن يقطين قال " قلت لأبي الحسن (عليه السلام): الرجل يتخذ
المنزل فيمر به أيتم أم يقصر؟ فقال: كل منزل لا تستوطنه فليس لك بمنزل، وليس
لك أن تتم فيه " (6) وبمضمونها صحاح أخر لعلي بن بقطين وغيره، وظاهرها لزوم
الاستيطان العرفي وهو اتخاذ المحل والمنزل مقرا دائميا له.
رابعتها: خصوص صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع عن أبي الحسن الرضا
(عليه السلام) " قال: سألته عن الرجل يقصر في ضيعته، قال (عليه السلام):

(1) الوسائل: ج 5، ص 520، الباب 14 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 2 مع اختلاف يسير.
(2) الوسائل: ج 5، ص 523، الباب 14 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 17.
(3) الوسائل: ج 5، ص 521، الباب 14 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 5.
(4) الوسائل: ج 5، ص 526، الباب 15 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 7.
(5) الوسائل: ج 5، ص 525، الباب 15 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 6.
(6) الوسائل: ج 5، ص 521، الباب 14 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 6.
121

لا بأس ما لم ينو مقام عشرة أيام إلا أن يكون له فيها منزل يستوطنه، فقلت:
ما الاستيطان؟ فقال (عليه السلام): أن يكون له فيها منزل يقيم فيه ستة أشهر،
فإذا كان كذلك يتم متى دخلها " (1) وهذه الصحيحة هي مدرك الوطن
الشرعي. والجمع بين الطوائف الثلاث المتقدمة واضح بتقييد إطلاق النفي
والاثبات في الأولى والثانية، بالاستيطان العرفي وعدمه. ويبقى الكلام في الجمع
بين هذه الصحيحة (2) والطائفة الثالثة الظاهرة في لزوم الاستيطان العرفي وهو
يتوقف على بيان مفاد الصحيحة. فنقول: محتملاتها ثلاثة أحدها: ما فهمه المشهور
من حصول الاستيطان شرعا بإقامة ستة أشهر في المنزل المملوك. ثانيها: حصوله
بإقامة ستة أشهر دائما، أي في كل سنة فيساوق الاستيطان العرفي. ثالثها أن يكون
قيد ستة أشهر قيدا للنية والاتخاذ لا للمنوي والمتخذ، بمعنى أنه ينوي الإقامة الأبدية
ويبقى على نيته ستة أشهر فيساوق الوطن العرفي في وجه، ويفارقه في وجه آخر.
وحيث إن الظهر من قوله (عليه السلام): " أن يقيم ستة أشهر " (3) هي الإقامة
الخارجية الفعلية دون نية الإقامة، فلا يصح إلا الاحتمال الأول لأن الإقامة
الخارجية ستة أشهر في كل سنة دائما، أما أن يكون شرطا بنحو الشرط المتقدم، أو
الشرط المقارن، أو الشرط المتأخر، لا سبيل إلى الأول وإلا لم يجب الاتمام إلا عند
انقضاء العمر، ولا سبيل للثاني إذ لا مقارنة إلا للإقامة في حال الاتمام، ولا سبيل
إلى الثالث لعدم معقولية الشرط المتأخر في نفسه، وعدم إمكان الالتزام به هنا، إذ
لو أعرض عنه بعد إقامته مدة مديدة، كشف عن بطلان ما أتمه من الصلوات من
أول الأمر، كما هو مقتضى الشرط المتأخر، ولا يمكن الالتزام بشرطية الإقامة ستة
أشهر في السنة الأولى بنحو الشرط المتقدم، وفي البقية بنحو الشرط المتأخر لوحدة
الدليل ووحدة الجعل، وعليه فالجمع بين هذه الصحيحة والطائفة المتكفلة

(1) الوسائل: ج 5، ص 522، الباب 14 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 11.
(2) وهي صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع.
(3) الوسائل: ج 5، ص 522، الباب 14 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 11.
122

للاستيطان العرفي (1) بأحد وجهين: من شارحية الصحيحة لها، ومن تقييد
إطلاقها لها. والشارحية على قسمين:
أحدهما: كون الصحيحة مفسرة للاستيطان المذكور في تلك الأخبار كما هو
المعروف، فيورد عليه بأنه خلاف ظواهرها المستقرة في الوطن العرفي، ولا طريق إلى
معروفية الوطن الشرعي حتى يستكشف بهذه الصحيحة أن الاستيطان هناك هو
المعنى المعروف عندهم.
ثانيهما: الشارحية بمعنى التنزيل الموضوعي، فلا ينافي ظهور تلك الأخبار في
الاستيطان العرفي بإقامة ستة أشهر فرد آخر من الاستيطان تنزيلا، كما يقال: الظن
علم مع بقاء العلم المغيى به الحكم على حاله من الظهور في العلم الوجداني، فإنه
بعد السؤال بقوله: ما الاستيطان؟ يكون قوله (عليه السلام): " أن يكون له فيها
منزل يقيم فيه ستة أشهر " (2) إثباتا لفرد من الاستيطان المعروف معناه تنزيلا،
وأما تقييد تلك المطلقات فهو أيضا على وجهين:
أحدهما تقييد إطلاقها من حيث ضم ضميمة إلى الاستيطان العرفي، ومقتضاه
تضييق دائرة الاستيطان العرفي بإقامة ستة أشهر كما هو مذهب جماعة على
ما سيجئ إن شاء الله تعالى، وهو خلاف ظاهر الصحيحة، فإن ظاهرها أن الإقامة
المذكورة بقيودها هي بنفسها استيطان لا أنها قيد للاستيطان العرفي.
ثانيهما: تقييد إطلاقها من حيث تعينه وعدم عدل وبدل له. هذه الصحيحة
مثبتة لما هو عدل وبدل للاستيطان العرفي، فكل من الطائفتين متكفل لصنف من
الاستيطان الذي يغيى عن الصنف الآخر، وهذا النحو من التقييد لا محذور فيه
أصلا. وبما ذكرنا يتوجه قول المشهور بالوطن الشرعي في قبال الأصلي والاتخاذي.
وقد عرفت عدم صحة شرطية الإقامة المزبورة في كل سنة، فلا مجال حينئذ
لاستظهار التجدد من الفعل المضارع كما هو المعروف، بعدم عدم إمكان الشرط

(1) وهي الطائفة الثالثة.
(2) نفس المصدر السابق من الوسائل.
123

المتأخر في نفسه فيما نحن فيه
هذا كله إذا أريد من قوله " يقيم " (1) الإقامة الخارجية وأما إذا أريد منه نية
الإقامة فهو قابل لأن يراد منه نية إقامة ستة أشهر مرة، أو في كل سنة، ولا موقع
لاستظهار التجدد من المضارع أيضا. إذا الإقامة تجددية دون النية، فالتجدد في
المنوي لا في النية، بل لا يكفي نية إقامة ستة أشهر في هذه السنة، ثم يتعقبها في السنة
الآتية نية أخرى، وهكذا فإن مثلها لا يحقق الوطن العرفي. ومنه تعرف أن استفادة
الوطن الاتخاذي العرفي من هذه الصحيحة مخالفة لظاهر " يقيم " من حيث صرفه إلى
نية الإقامة، ولظاهر إطلاق " ستة أشهر " من حيث حمله على ستة أشهر في كل
سنة، ومن حيث عدم اعتبار هذا العدد في الاستيطان العرفي بل مجرد اتخاذه مقرا
دائميا ولو بأن يكون شهرين فيه، والثاني في وطنه الأصلي كاف في الاستيطان،
وكونه من باب المثال أو من باب الغلبة خلاف الظاهر.
والانصاف أن الصحيحة أوفق بمقالة المشهور من حملها على الاستيطان العرفي
ومنها: اعتبار الملك في الوطن الشرعي، والبحث فيه في موردين:
أحدهما: في اعتباره في المنزل الذي يقيم فيه ستة أشهر في قبال القول بكفاية
الإقامة فيما اتخذه منزلا لنفسه في طريق مروره.
ثانيهما: في اعتباره مع الإقامة ستة أشهر ولو لم يكن الملك قابلا للسكنى. فلو
قلنا به كان فردا آخر من الوطن الشرعي، فإن أحد فرديه الإقامة فيما اتخذه منزلا،
كان مملوكا له أم لا، والآخر الإقامة في محل له ملك كان قابلا للسكنى أم لا،
ومستند اعتبار ملكية المنزل الذي يقيم فيه صحيحة ابن بزيع (2) لا من حيث دلالة
اللام في قوله (عليه السلام): " له منزل " على الملكية حتى يقال إن الكلام لمطلق
الاختصاص، بل لقوله (عليه السلام): " له فيها منزل يستوطنه " (3) وقوله (عليه
السلام) ثانيا: " له فيها منزل يقيم فيه " (4) فقد اعتبر الإقامة في منزله في ضيعة لا

(1) نفس المصدر السابق.
(2) تقدمت ص 277.
(3) نفس المصدر السابق.
(4) نفس المصدر السابق.
124

في مطلق المنزل. فتكرار قوله فيها مرتين يدل على خصوصية ملكية المنزل والعادة
قاضية بكون منزله في ضيعته مملوكا له كضيعته، لا أن غيره بنى منزلا في ضيعته،
وعليه فمجرد الإقامة فيما اتخذه منزلا من دون كونه مملوكا له لا أثر لها.
ومستند كفاية الملك مع الإقامة في غيره موثقة عمار حيث قال: " ولو لم يكن
له إلا نخلة واحدة " (1) بعد تقييدها بإقامة ستة أشهر بما دل عليها إذا لا قائل منا
بكفاية مجرد علاقة الملكية في الوطنية من دون إقامة، وإنما ينسب ذلك إلى مالك،
ولذا حملت الموثقة كغيرها من المطلقات على التقية، إلا أن قول هذه الموثقة للتقييد
بعيد، إذ المقيد لها إن كان أخبار الاستيطان العرفي فلا قائل باعتبار الملك فيه،
وإن كان صحيحة ابن بزيع فظاهرها كما عرفت الإقامة في الملك، لا الإقامة في
بلد له فيه ملك، إلا أن يقال إن الاستيطان عرفا لا ينسب إلى الدار والمنزل، بل إلى
البلد والمحل وإنما ينسب إلى المنزل بالعرض فأخبار استيطان المنازل يراد بها
استيطان ذلك البلد أو المحل، فكذا الصحيحة فإن قوله (عليه السلام): (له فيها
منزل يقيم فيه " تفسير لقوله (عليه السلام): " له فيها منزل يستوطنه " فلا يراد إلا
الإقامة في محله الملك لا في المملوك. فالاحتياط في مثله لا يترك خصوصا مع
ذهاب المشهور إليه.
وأما سائر ما قيل في إقامة (الستة أشهر) من كفاية كونها متفرقة للاطلاق،
ومن لزوم كون الإقامة المزبورة بنحو توجب التمام فلا وجه له.
أما الأول: فلأن المنصرف منه في أمثال المقام كثلاثة الحيض، وثلاثة الخيار،
وعشرة الإقامة، في موردها هو التوالي.
وأما الثاني، فلأنه لا موجب له إلا ظهور " يقيم " في إقامة العشر في ذلك، مع
أن الكلام هناك مسوق لايجاب التمام بها دون ما نحن فيه فإنه موجب للاتمام بعد
تحققها في سفره إلى هذا المحل، والتعبير بكونها قاطعة للسفر ليس بلحاظ هذا السفر
الذي يقيم عنه، بل بلحاظ أسفاره فيما سيأتي، وهكذا والله العالم.

(1) الوسائل: ج 5، ص 521، الباب 14 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 5.
125

ومنها: إن الوطن الأصلي هو ما نشأ فيه الإنسان وأبوه وجده مثلا ولم يعتبر فيه
الملك بلا خلاف، إنما الكلام فيما إذا أعرض عنه وكان له ملك فيه فهل يسقط
عن الوطنية بمجرد الاعراض أم لا يسقط إلا بزوال الملك أيضا؟ ولا يخفى أن مثله
إذا كان معتبرا فيه اتخاذه وطنا ولو ارتكازا ولو بالتبعية، فيتصور فيه الاعراض الذي
حقيقته رفع اليد عن اتخاذه وغاية الأمران الاتخاذ تفصيلي تارة، وارتكازي أخرى،
وأما إذا كان مثله وطنا قهريا ولو لم يخطر بباله اتخاذه مقرا دائميا فلا معنى لحقيقة
الاعراض عنه، والاكتفاء فيه بمجرد هجره وتركه مشكل، وإلا لكان مهاجرة النبي
إعراضا فيختل به أخبار حج النبي (صلى الله عليه وآله) وسفره إلى عرفات
فإنه مع إعراضه (صلى الله عليه وآله) وعدم الملك لما حكي عنه (صلى الله عليه
وآله وسلم) ومن أنه قال (صلى الله عليه وآله): " وهل ترك لنا عقيل دارا " (1)
يكون سفره إلى عرفات تتمة سفره من المدينة لا سفرا جديدا بانقطاع سفره الأول
بوصوله إلى مكة وعدم الإقامة فيها.
نعم يمكن أن يقال إن حقيقة الاعراض وإن كانت في قبال الاتخاذ إلا أن
هجره الدائمي بمعنى تركه إلى الآخر لا تركه لضرورة الوقت كما كان من النبي
(صلى الله عليه وآله) يسقطه عن الوطنية شرعا.
وأما بقاء حكم الوطن مع بقاء الملك ولو مع الهجر والاعراض فقد استند
الشيخ الأجل (2) (قدس سره) في صلاته إلى وجهين:
أحدهما ما حكاه الشهيد (قدس سره) في الذكرى (3) " من أن الصحابة لما
دخلوا مكة قصروا لخروج أملاكهم " فيدل على أنه لو بقيت أملاكهم لم يقصروا
ثانيهما: دعوى الفحوى فإن الاستيطان الشرعي وهي إقامة ستة أشهر مع بقاء
الملك إذا كان موجبا لبقاء حكم الوطنية فالوطن الأصلي مع بقاء الملك حكمه

(1) السيرة الحلبية.
(2) كتاب الصلاة: ص 419.
(3) الذكرى، في بحث الشرط الثاني من شرائط التقصير، وليس لصفحات الكتاب أرقام. (الطبعة
الحجرية).
126

كذلك بالأولوية القطعية
أما فعل الصحابة فلا حجية له، وأما الأولوية فمدفوعة بأن الوطن الشرعي كان
متقوما حدوثا بالملك والإقامة فيه ستة أشهر، والإقامة تنقضي بانقضاء مدتها وأثر
الوطنية بعد انقضائها، فبقاء الوطنية منوط ببقاء موجبها وليس هو إلا الملك فإنه
القابل للبقاء بخلاف الوطن الأصلي فإن تقومه لم يكن عند تحققه بالملك، فليس
بقائه إلا بعدم الهجر والاعراض، فمع الهجر لا أثر لبقاء الملك، كما لم يكن أثر
لحدوثه، فكونه علة مبقية للوطنية يحتاج إلى دليل، فلا مساواة فضلا عن الأولوية
القطعية، والمسألة إن لم تكن إجماعية لا بد فيها من الاحتياط.
ومنها: إن الوطن المستجد والاتخاذي، لا شبهة في أن حكم الوطن الأصلي في
وجوب الاتمام، وفي انقطاع السفر بالوصول إليه، إما لشمول أخبار الاستيطان
الظاهر في اتخاذ محل مقرا دائما له، وإما لشمول أخبار من خرج من منزله وبلده و
أهله بأنه كما يكون كذلك أصليا كذلك يكون اتخاذيا، ومورد أخبار الاستيطان
وإن كان أثناء المسافرة من محله إلا أنه مورد لا مقوم للاستيطان فدعوى أن هذه الأخبار
أجنبية عن اتخاذ محل دارا لإقامته غير مسموعة.
نعم إن فسرت هذه الأخبار بالاستيطان الشرعي سقطت عن الدلالة على
حكم الاستيطان العرفي.
وأما اعتبار الملك فيه، واعتبار إقامة ستة أشهر في محل الاتخاذ، فتوضيح القول
فيها: أما اعتبار الملك فليس له موجب شرعا، كما لا موجب له عرفا حيث إن
مفهوم الاستيطان غير متقوم بملكية ما يتخذه مقرا دائميا، خصوصا مع أن المتعارف
اتخاذ البلد مقرا دائميا له وأخبار الاستيطان وإن كان موردها غالبا للملك، إلا أنه لم
يعلم منها أن الملك مقوم له شرعا بل ظاهر قوله (عليه السلام): " كل منزل لا
تستوطنه فليس لك بمنزل " (1) إن العبرة بكون المحل منزلا له وهو متقوم
بالاستيطان واتخاذ المنزل مقرا دائميا حتى يكون منزلا له ليكون حضوره فيه حضور

(1) الوسائل: ج 5 ص 521، الباب 14 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 6.
127

المسافر منزله فالعبرة به لا بكون ما اتخذه مقرا ملكا له.
وأما اعتبار إقامة ستة أشهر فيه فما قيل أو يمكن أن يقال في وجه اعتبارها أمور:
أحدها: إن الوطن العرفي ما لم يكن وطنا شرعيا لا أثر له وهو مغالطة، فإن
اللازم أن يكون ما يراه العرف ملكا أو مالا أو وطنا ممضى شرعا، وأخبار
الاستيطان والمنزل ونحوها دليل الامضاء، وعدم كونه وطنا شرعيا بالمعنى المقابل
للوطن العرفي غير ضائر.
ثانيها: ما في المدارك (1) من دعوى الأولوية نظرا إلى أن إقامة ستة أشهر إذا
كانت لازمة مع وجود الملك فمع عدمه بالأولوية، وهو بظاهره بلا جامع حتى
يتحقق بلحاظه الأولوية ولعل المراد أن المحل الذي كان ملكا إذا اعتبر فيه الإقامة
المزبورة فالمحل الذي ليس بملك أولى باعتبار الإقامة فيه، وهو لا يجدي إلا بلحاظ
ذات المحل لا بلحاظ الذي اتخذه مقرا دائميا فإنه لا مساواة فضلا عن الأولوية.
ثالثها: تقييد إطلاق أخبار الاستيطان العرفي بصحيحة ابن بزيع (2)، والظاهر أنه ليس نسبة الصحيحة إلى تلك الأخبار نسبة المقيد إلى المطلق حتى يحمل المطلق
على المقيد، فإن الصحيحة متكفلة لنفس الإقامة، لا للاستيطان العرفي المتقيد
بالإقامة حتى تكون نسبتها نسبة المقيد إلى تلك الأخبار. ومنه تعرف أن نسبة تلك
الأخبار أيضا ليست نسبة المقيد إلى الصحيحة المطلقة من حيث اتخاذ المنزل مقرا
دائميا حتى يقال لا عبرة بالإقامة المزبورة ما لم يتخذ المنزل مقرا دائميا.
فإن قلت: وإن لم تكن نسبة الأخبار إلى الصحيحة ولا نسبة الصحيحة إلى
الأخبار، نسبة المقيد إلى المطلق إلا أن قوله (عليه السلام): في صحيحة علي بن
يقطين " كل منزل لا تستوطنه فليس لك بمنزل " يعم باطلاقه ما إذا أقام في
المنزل ستة أشهر، وقوله (عليه السلام) في صحيحة ابن بزيع " أن يكون له منزل

(1) المدارك: ص 278 تحت عنوان توضيح الشرط الثالث من شرائط التقصير.
(2) الوسائل: ج 5 ص 522، الباب 14 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 11.
(3) الوسائل: ج 5، ص 521، الباب 14 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 6.
128

يقيم فيه ستة أشهر " (1) يعم باطلاقه ما إذا اتخذه مقرا دائميا أم لا، فالاطلاقان
متعارضان ولا بد من علاجهما وإلا سقط كل منهما ولم يثبت بهما لا وطن عرفي ولا
وطن شرعي بنحو الاستقلال.
قلت: حيث إن ظاهر الصحيحة جعل الإقامة المزبورة استيطانا حيث قال
السائل: " ما الاستيطان فقال (عليه السلام): أن يكون له منزل يقيم فيه ستة
أشهر " (2) فالاقامة المزبورة يترتب عليها الحكم بعنوان أنه استيطان فيكون وطنا
تنزيلا، والصحيحة بمنزلة الحاكم على تلك الأخبار، فكأنه قال: كل منزل لا
تستوطنه حقيقة أو تنزيلا فهو ليس لك بمنزل، ولا تعارض بين الحاكم والمحكوم فتدبر
جيدا.
ومنها: أن ظاهر غير واحد أن المدار في الاتمام على أحد الأمور المزبورة من
الوطن الأصلي والاتخاذي والشرعي، فالمقيم في بلد بلا قصد التوطن خارج عن
الأقسام وإن بقي فيه مدة متمادية، ويمكن أن يقال كما قيل إن المدار في الاتمام
وفي انقطاع السفر بالوصول إليه مجرد كون البلد بلده، كما يستفاد من أخبار باب
صلاة المسافر من التعبير بوصوله إلى أهله، أو خروجه من منزله وعوده إليه، وأشباه
ذلك، ولا ريب في أن من كان بيته معه لا وطن له بأحد الوجوه ومع ذلك له
الحضور والسفر، وقد ورد في باب حج التمتع (3): إنه فريضة من لم يكن أهله حاضر
المسجد الحرام وإن من أقام به سنتين كان داخلا في الحاضر. فمنه ومن أشباهه يعلم
أن ملاك الاتمام كون الشخص مضافا إلى بلد مثلا وأنه محله وبيته ومنزله لا إلى
عنوان الوطنية والله أعلم.
[القاطع الثاني: الإقامة]
الثاني من قوطع السفر نية إقامة عشرة إيام.

(1) الوسائل، ج 5، ص 522، الباب 14 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 11.
(2) الوسائل، ج 5، ص 522، الباب 14 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 11.
(3) الوسائل، ج 8 ص 191، الباب 9 من أبواب أقسام الحج.
129

وفيه مباحث:
[المبحث] الأول
في موضوع هذا القاطع وفيه أمور:
أحدها: إن المقوم له أعم من النية المساوقة للعزم ومن اليقين العادي المساوق
للجزم وإن لم يكن من مبادئ الإرادة كما يتضح بمراجعة رويات الباب، ففي
بعضها: " إذا دخلت أرضا فأيقنت أن لك بها مقام عشرة أيام الخ " (1)، وفي
بعضها " إن حدث نفسه بإقامة عشرة أيام الخ " وفي بعضها " فأزمعت
المقام " (3) وفي آخر " تريد المقام " (4) وفي آخر " إذا أجمع على مقام عشرة
أيام " (5)
ومن الواضح أن إجماع الرأي والإرادة أخص من اليقين العادي لشموله لما إذا
أيقن مقامه قهرا لكونه أسيرا وهو أوسع من الجزم الذي هو من مبادئ الإرادة.
ومن الواضح أيضا أنه ليس هناك موجبان للاتمام: نية الإقامة، واليقين لها،
بل هناك موجب واحد وهو ثبوت المقتضي لبقائه إما من تلقاء نفسه وإما من
الخارج فلا ينافي احتمال حصول المانع من تأثير المقتضي بأحد المعنيين، وأما
حديث تعليق العزم على شئ وما يشبهه من القصد التفصيلي والاجمالي فحاله حال
قصد المسافة وقد فصلنا القول فيه سابقا فراجع.
ثانيها: إن أخبار هذه المسألة كلها متكفلة لوجوب الاتمام فقط من دون دلالة
على القاطعية للسفر موضوعا تنزيلا، والدليل منحصر في رواية " من قدم مكة قبل
التروية بعشرة أيام فهو بمنزلة أهلها " (6) فالاستدلال لعنوان القاطعية بهذه الأخبار

(1) الوسائل: ج 5، ص 526، الباب 15 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 9.
(2) الوسائل: ج 5 ص 527، الباب 15 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 16.
(3) الوسائل: ج 5 ص 530، الباب 17 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 3.
(4) الوسائل: ج 5 ص 527، الباب 15 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 16.
(5) الوسائل: ج 5 ص 524، الباب 15 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1.
(6) الوسائل: ج 5 ص 526، الباب 15 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 10 مع اختلاف يسير.
130

وتوهم أن التنزيل في هذه الرواية لا عموم له فلا يفيد إلا وجوب الاتمام،
مدفوع بأن نفس هذه الرواية المتكفلة للتنزيل، متكفلة لحكمين: من وجوب
الاتمام ومن وجوب القصر للخروج إلى عرفات بعنوان التفريع على كونه كأهل
مكة، ولو لم يكن كذلك لما كانت له الدلالة على أن الخروج إلى عرفات سفر جديد
موجب للقصر لاحتمال أن القصر لكونه متمما لسفره من بلده إلى مكة.
ثالثها: يعتبر في الإقامة وحدة المحل فلا أثر للإقامة في محلين بحيث يعدان
كذلك عرفا، وهل هو لاقتضاء الإقامة عرفا؟ أو لأن مورد الروايات هو البلد؟ حتى
قوله (عليه السلام): " إذا دخلت أرضا " (1) فإن المراد موضوع مخصوص منها وإلا
فلا معنى لقوله فيما بعد: " وإن لم تدر ما مقامك بها تقول غدا أخرج أو بعد غد " فإن
ظاهره الخروج من محل خاص منها، لا الخروج من الأرض مع أن مورد السؤال
" أرأيت من قدم بلدة؟ ". وبالجملة لا شبهة في أن مورد الأخبار هي الإقامة في محل
خاص. وأما بالنظر إلى اقتضاء الإقامة فهي منسوبة بالذات إلى الدار التي هي
مسكنه ومقره، وبالعرض إلى المحلة وإلى البلد وإلى القطر العراقي وإلى جزيرة العرب
وإلى آسيا وهكذا. إلا أن الإقامة هنا كالإقامة في الوطن لا يراد منها إلا الإقامة في
البلد إذ لا فرق بين جعل البلد مقرا دائميا لنفسه أو مقرا في ستة أشهر أو عشرة
أيام. فلا خصوصية في نظر العرف للدار والمحلة في باب جعل محل محط رحله وموضع
قراره واستقراره. وأما الأمر في البلدان الكبار جدا فمشكل إذا لم يكن محلاته
منفصلة كالقرى المتقاربة والاحتياط في مثله لا يترك، لعدم إمكان الجزم بأحد
الطرفين.
رابعها: إن كفاية التلفيق وكفاية عشرة أيام بلياليها والمتوسطة دون الأولى
والأخيرة لا منشأ لهما إلا الصدق العرفي، وإلا فما أفاده في المدارك: " من أن نصفي
اليومين لا يسمى يوما " (2) صحيح، ولقد أجاد الشيخ الأجل (قدس سره) في رده

(1) الوسائل: ج 5 ص 526، الباب 15 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 9.
(2) المدارك: ص 283 تحت عنوان ولو نوى الإقامة.
131

حيث قال: " إنه تصديق للحقيقة وتكذيب للعرف " (1) كما أن اليوم إذا كان
عبارة عن مجموع الليل والنهار فلا بد من إدخال الليلة الأولى أو الأخيرة، وإن كان
عبارة عن خصوص النهار فالليالي كلها خارجة، ولا مدفع له إلا أن مقتضى نسبة
الإقامة إلى عشرة أيام عرفا ما ذكرنا وهو أن مبدأه أول نهار اليوم الأول ومنتهاه آخر
نهار اليوم العاشر وإذا كان في مورد التلفيق فمبدؤه مثلا زوال اليوم الأول،
ومنتهاه زوال اليوم الحادي عشر فتكون الليالي المتوسطة عشرا. ومنه تعرف أنه ليس
المدار على مقدار عشرة أيام بلياليها المتوسطة كما هو واضح.
خامسها: المشهور اعتبار التوالي المفسر بعدم نية الخروج عن حد الترخص في
مرحلة نية الإقامة، فالنية المقرونة الخروج لا تؤثر في وجوب الاتمام بل يبقى
على القصر، وجملة ما استندوا إليه في ذلك أمور:
منها: تبادر النية المحضة من النص، من لزوم النقص في العشرة المنوية، كما
ليس له أن ينوي تسعة أيام ونصف مثلا.
ومنها: ما عن الشيخ الأجل (قدس سره) في تحريراته في الصلاة حيث قال
(قدس سره): " كل مكان يجوز قصد إقامة شئ من العشرة فيه لا يقدح قصد
الخروج إليه في الأثناء وإلا فلا.. الخ " (2) وحاصله دعوى الملازمة بين قصد
الإقامة فيهما وقصد الإقامة في أحدهما والخروج إلى الآخر.
ومنها: إن التجاوز عن حد الترخص من المقيم مبطل للإقامة، فنية التجاوز في
ضمن نية الإقامة تبطلها.
والجواب عن كل هذه الوجوه مبني على مقدمة هي: إن الإقامة تارة بمعنى
اللبث في محل، فالخروج عن المحل وعن ما هو محسوب منه ضد اللبث فيه، وقصدهما
قصد المتنافيين، وأخرى بمعنى جعل محل مقرا ومستقرا لنفسه ومحطا لرحله كالإقامة
فيما يتخذه دارا لا قامته دائما، إذ لا فرق بين الإقامتين إلا بالدوام وعدمه، وضد
الإقامة بهذا المعنى، الارتحال عنه وتركه، ولا يكون ذلك إلا بانشاء سفر جديد وبه

(1) كتاب الصلاة للشيخ الأنصاري: ص 400.
(2) كتاب الصلاة للشيخ الأنصاري: ص 400.
132

تنحل جميع تلك الوجوه إذ ليس للإقامة حقيقة شرعية ليدعى أنها خصوص اللبث
المضاد للخروج، بل معناها العرفي ما ذكرناه، ولا يقاس قصد جعل محل واحد مقر
ومستقرا والخروج إلى ما دون المسافة لحاجة، بقصد جعل المحلين مقرا لنفسه و مستقرا
له، كما أن جعل محل مقرا له لا يقتضي دوام اللبث فيه فلا ينافيه الخروج عنه نهارا
والقرار فيه ليلا مثلا فلا يلزم نقص العشرة.
نعم لو خرج ليلا ونهارا لزم النقص في العشرة حيث لم يتصف يوم منها
بالقرار والاستقرار فيه.
وأما ناقضية التجاوز عن حد الترخص للإقامة، فمدفوعة بأن التجاوز حد لمن
سافر من بلده أو محل إقامته، ولا يدور هذا المعنى مدار قاطعية الإقامة لموضوع السفر
ورافعيتها حكمه، فإن البناء على كونها رافعة لوجوب القصر فقط، وبقائه على كونه
مسافرا أيضا على نحوين: فتارة يخرج عن محل الإقامة مرتحلا عنه ومتمما لسفره
الأول عودا على بدء فهذا هو الذي يجب عليه القصر عند تجاوزه عن حد الترخص.
وأما من لم يرتحل عنه وهو باق على بنائه على أن المحل مقره ومستقره، فلا موجب
لتحديد خروجه بعدم بلوغ حد الترخص حيث لا سفر منه ولو بعنوان العود على
سفره.
فالتحقيق: إن نية الخروج إلى ما دون المسافة لا ينافي نية الإقامة بالمعنى الذي
ذكرنا التي هي الإقامة العرفية في البلد في قبال الرحلة عنه فتدبر جيدا.
سادسها: بعد البناء على عدم مانعية نية الخروج إلى ما دون المسافة لنية الإقامة
هل يعتبر توالي العشرة واتصالها أم يكفي كونها متفرقة بحيث إذا خرج ولم يرجع
إلى اليوم الآخر كفى إكمال العشرة بيوم آخر؟ مقتضى ما تقدم من المشهور في مسألة
الإقامة ستة أشهر متوالية كانت أم متفرقة، للاطلاق، فلا بد من القول به هنا إلا
أن الظاهر اعتبار التوالي وعدم الانفصال كما في غير هذا المورد من الموارد التي أخذ
في موضوع الحكم عدد خاص من الأيام أو الشهور والله العالم.
133

المبحث الثاني
إذا نوى الإقامة ثم عدل عنها بطلت الإقامة إلا إذا صلى فريضة واحدة تامة.
وتنقيح الكلام برسم أمور في المقام:
أحدها: بيان أنحاء ما يتصور من شرطية نية الإقامة في المقام وتأثير العدول
ودخل فريضة تامة في بقاء الأحكام فنقول: إن نية الإقامة تارة رافعة لأحكام
السفر، وأخرى قاطعة لموضوعه، أما إذا قلنا بأنها رافعة للأحكام فنية الإقامة تارة
شرط حدوثا وبقاء وأخرى حدوثها شرط لثبوت الأحكام حدوثا وبقاء فإن
كانت شرطا وبقاء فليس للعدول شأن إلا ارتفاع نية الإقامة، وبزوال الشرط
يزول المشروط وهو وجوب الاتمام مثلا وحينئذ ففعل صلاة تامة المقارنة لشرطها
وهي نية الإقامة حالها، شرط بدلا عن نية الإقامة عند ارتفاعها فالعدول بعد
الصلاة لا أثر لها، فبقاء الأحكام تارة مستند إلى نية بحدوثها شرطا لثبوت الأحكام
حدوثا وبقاء، فبقاء النية لا أثر له حتى يكون العدول بعنوان ارتفاعها وبعنوان
زوال الشرط، فإن النية الحادثة يستحيل ارتفاعها وانقلابها عما هي عليه، والباقية
إلى زمان العدول لا شرطية ولا أثر لها شرعا، بل يكون بعنوان نفسه رافعا لأثر تلك
النية من حين تحققه لا من حين تحققها، فإنه من قبيل الشرط المتأخر المستحيل
بطبعه. وفعل صلاة تامة قبل العدول مانع متقدم عن تأثير العدول، وأما كون نية
الإقامة شرطا حدوثا وإناطتها في بقاء الأحكام بفعل الاتمام، فهو محال لأن وجوب
الاتمام لا يعقل أن يكون مشروطا بنفس الاتمام، لأن ذلك طلب الحاصل من
وجه، وعلية الشئ ء لنفسه من وجه آخر كما أن كون النية المستمرة شرطا لحدوث
الأحكام وبقائها أيضا محال، لكون بقاء النية شرطا متأخرا لحدوث الأحكام من
الأول. فالفرض الصحيح بحسب مقام الثبوت ما فرضناه أولا وثانيا.
وأما إذا قلنا بأن نية الإقامة قاطعة لموضوع المسافر كما هو المعروف، فربما ينسبق
إلى الذهن إنه لا معنى لشرطية نية الإقامة حدوثا وبقاء لأن انقطاع السفر ليس
134

تدريجيا حتى تكون نية الإقامة في كل آن قاطعة للسفر في ذلك الآن. وعليه فلا
معنى للعدول لأنه لا يحقق السفر بعد ارتفاعه ولا معنى لا بقاء انقطاع السفر بفعل
صلاة تامة.
وأما إناطة تأثير حدوث الإقامة في انقطاع السفر بفعل صلاة تامة فهو في حكم
إناطة وجوب الاتمام بفعل الاتمام، كما أن إناطة تأثير نية الإقامة في انقطاع
السفر، بعدم العدول بعدها حتى لا يرد محذور كون العدول محققا لسفر فهو التزام
بالشرط المتأخر، ولازمه بطلان الأعمال السابقة على العدول إلا الصلاة التامة
المانعة عن تأثير العدول، إلا أن كل ذلك مبني على كون نية الإقامة قاطعة للسفر
حقيقة كالورود إلى الوطن.
وأما إذا كان قاطعا تنزيلا بمعنى أن ناوي الإقامة بمنزلة الحاضر شرعا في جميع
أحكامه حتى في اعتبار المسافة عند ارتحاله، وبه يمتاز عن كونها رافعة لأحكام
السفر. وعليه فالحضور له الحدوث والبقاء فهو ما دام ناويا للإقامة باق على حضوره،
وإذا ارتفعت النية أرتفع الحضور إلا إذا صلى تماما فإنه بها يبقى على حضوره وإن
زال سببه الأول.
ومنه يعرف أنه يتصور على هذا الشق أيضا صورة أخرى وهي: تأثير النية
بحدوثها فقط في الحضور تنزيلا إلى أن يرتحل ويكون العدول رافعا لأثرها من حينه
لا من حينها وتكون الصلاة التامة مانعة عن تأثير العدول، بل لعل هذه الصورة أبعد
من المحذور من الصورة الأولى لأن مقتضى صحيحة أبي ولاد (1) هو وجوب الاتمام
بعد فعل صلاة تامة لا كونها مبقية لحضوره كما كانت النية مقتضية له بخبر من قدم
مكة قبل التروية إلى قوله: " فهو بمنزلة أهلها " (2) وإذا لم يكن تنزيل في الصحيحة
للفريضة التامة منزلة النية في اقتضائها لحضور التنزيلي لم يكن سفره بعد العدول
سفر الحاضر حتى يعتبر فيه المسافة، بل حاله حال الشق الأول من كون النية رافعة

(1) الوسائل: ج 5 ص 532، الباب 18 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1.
(2) الوسائل: ج 5 ص 499، الباب 3 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 3.
135

للأحكام، بخلاف الصورة الثانية من الشق الثاني فإن الحضور التنزيلي إلى الآخر
بمقتضى نفس النية وشأن الصلاة التامة المانعية عن تأثير العدول في رفع الحضور،
فسفره بعد العدول الواقع بعد فريضة تامة سفر عن حضور من دون حاجة إلى تنزيل
آخر فافهم وتدبر.
ثانيها: هل مقتضى الأخبار شرطية نية الإقامة حدوثا وبقاء لحدوث أحكام
الحاضر وبقائها؟ أو شرطية حدوث نية الإقامة فقط لحدوث الأحكام وبقائها؟
فعلى الأول يكون ارتفاع الأحكام بالعدول على القاعدة دون الثاني.
فنقول: ظاهر ما عدا صحيحة أبي ولاد هو الثاني، وهي شرط نية الإقامة
حدوثا، فإن ظاهر قوله (عليه السلام) " إذا دخلت أرضا فأيقنت أن لك بها مقام
عشرة أيام الخ " (1)، هو حدوث اليقين لاستمراره، وكذا ظاهر قوله (عليه
السلام): " إن حدث نفسه بإقامة عشرة أيام " (2) فإن الظاهر حدوث حديث
النفس بالإقامة لا استمرار حديث النفس، وكذا ظاهر قوله (عليه السلام)
" فأزمعت المقام وأردت " (3) و " أجمع على مقام عشرة أيام " (4) فإن ظاهرها جميعا
هو حدوث هذه الصفات دون استمرارها.
نعم لو كان الموضوع ناوي الإقامة، صح أن يقال إن ظاهره دوران الحكم مدار
التلبس بالعنوان.
وأما صحيحة أبي ولاد فظاهرها اعتبار الاستمرار، فإنها نظير صحيحته الأخرى
الواردة في اعتبار استمرار قصد المسافة، فإن استمرار النية إلى زمان البداء،
مفروض فيها، وإنما سأل عن اعتبار بقائها لكونه شرطا في بقاء أحكام الإقامة أو
يكفي حدوثها فأجاب (عليه السلام): بأن الحكم يزول بالبداء إلا مع فعل فريضة
تامة، فيعلم منه بالالتزام اعتبار بقاء النية في بقاء أحكام الإقامة إلا مع فعل

(1) الوسائل: ج 5 ص 526، الباب 15 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 9.
(2) الوسائل: ج 5 ص 527، الباب 15 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 12.
(3) الوسائل: ج 5 ص 530، الباب 17 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 3.
(4) الوسائل: ج 5 ص 524، الباب 15 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1.
136

فريضة تامة.
ويتفرع على ما ذكرنا أن مجرد زوال نية الإقامة كاف في ارتفاع الأحكام سواء
جزم بعدم الإقامة أو تردد، بخلاف ما إذا كان حدوث النية شرطا والعدول مانعا،
فإنه ربما يتأمل في التعدي عن الجزم بعدم الإقامة لظهور الصحيحة سؤالا وجوابا في
الجزم بالعدم، لقول السائل " فبدا لي أن لا أقيم " (1) وقول الإمام (عليه السلام)
" حتى بدا لك أن لا تقيم " (2) مع أنه على هذا المبني أيضا يصح التعميم لقوله
(عليه السلام): بعد فرض البداء في آخر الصحيحة " وإن لم تنو المقام عشرا فقصر
ما بينك وبين شهر " (3) الخبر.
ثالثها: ظاهر صحيحة أبي ولاد (4) أن بقاء النية إلى تمامية صلاة فريضة
تامة، شرط في بقاء أحكام الحاضر، وإن فعل صلاة فريضة تامة هو الموجب لبقاء
أحكام الحاضر، فالعدول في أثناء الفريضة التامة باق على تأثيره في ارتفاع أحكام
الحاضر لفرض عدم بقاء الشرط إلى تمامية الصلاة، والشرطية الثانية في الصحيحة
حيث قال (عليه السلام): " وإن كنت حين دخلتها على نية التمام ولم تصل فيها
صلاة فريضة واحدة بتمام حتى بدا لك أن لا تقيم " (5) الخبر، وإن كانت موهمة
لقصر تأثير العدول على العدول قبل فعل الصلاة رأسا فيبقى العدول في الأثناء
مسكوتا عنه، فلا العدول قبل الصلاة حتى يؤثر ولا العدول بعدها حتى لا يؤثر،
لكن الشرطية الثانية تصريح بمقتضى الشرطية الأولى، وهو أن مناط التأثير وعدمه
وقوع العدول بعد فعل صلاة تامة وعدمه، مضافا إلى إطلاق قوله (عليه السلام)
" ولم يصل " (6) أي لم يصل تماما بحيث يصدق على ما أتى به أنه صلاة تامة وإن
أتى بما ليس مصداقا للصلاة التامة لفرض كون العدول في الأثناء وسيجئ إن
شاء الله تعالى إن وجوب هذه الصلاة لما ذكروه من الوجوه الضعيفة، لا دخل له
بتأثير العدول في ارتفاع أحكام الحاضر وعدمه، بخلاف العكس وهو ما إذا قلنا إن

(1) الوسائل: ج 5 ص 532، الباب 18 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1.
(2) الوسائل: ج 5 ص 532، الباب 18 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1.
(3) نفس المصدر السابق.
(4) نفس المصدر السابق.
(5) نفس المصدر السابق.
(6) نفس المصدر السابق.
137

العدول في الأثناء كالعدول بعد الصلاة لا أثر له فإنه بنفسه مقتض لوجوب
الاتمام إذ المفروض أن المشروع في الصلاة كالاتيان بها تماما فهو في هذه الحال
مأمور بالتمام.
رابعها: ظاهر صحيحة أبي ولاد دوران تأثير العدول وعدمه مدار فعل فريضة
تامة وعدمه فلا أثر لغيرها من الفرائض اليومية، ولا لسائر الواجبات المنوطة
بالإقامة كالصوم والنوافل النهارية.
وربما يبرهن على كونها كالفريضة التامة وبتقريب أن فعل النافلة قبل العدول
حيث إنها مقارنة لشرطها وهي نية الإقامة والحضور فهي صحيحة لا باطلة، وإذا
صحت كشفت عن كون المتنفل حاضرا غير مسافر لعدم مشروعية النافلة من
المسافر، وإذا كان غير مسافر فالعدول ليس من موجبات السفر.
وجوابه ما مر من أن نية الإقامة شرط حدوثا وبقاء فمع ارتفاعها ليس بحاضر
لانتفاء ما به الحضور والمفروض عدم الاتيان بما جعله الشارع بدلا عن نية الإقامة
وهي الصلاة ومع انتفاء الحضور حقيقة وتنزيلا يجب القصر كما هو مقتضى
ذيل الصحيحة فراجعها.
خامسها: المستفاد من الصحيحة (1) أن نية الإقامة لا تمنع عن العدول إلا إذا
صارت عمليا بخصوص الفريضة التامة فلا بد من ارتباط الفريضة التامة بالإقامة
ويترتب عليه فروع:
منها: ما إذا صلى صلاة تامة في أماكن التخيير لشرف البقعة فإنه وإن كان
ناويا للإقامة واقعا، وتصدق طبيعة الفريضة التامة حيث إن الاتمام واقعا مأمور
به، إلا أنه غير مربوط بنية الإقامة وليس الاتمام عملا بنية الإقامة.
ومنها: ما إذا قضى فائتة تامة فإنه من مصاديق الفريضة التامة إلا أنه أجنبي
عن نية الإقامة فإنه يجب عليه قضاء ما فات كما فات، نوى الإقامة أم لا. ومنه
يظهر سريان الاشكال إلى قضاء رباعية فائته بعد نية الإقامة فإن التمامية مستندة

(1) أي صحيحة أبي ولاد التي مر عنوانها قريبا.
138

إلى اقتضاء التدارك لا إلى اقتضاء الإقامة حتى يكون القضاء عملا بما نوى، إلا أن
يفرق بأنه عمل بنية الإقامة بواسطة إذ لو لم ينو الإقامة لما وجب عليه الاتمام أداء
وقضاء.
ومنها: ما إذا صلى تماما غافلا عن نية الإقامة جريا على عادته في بلده، فإن وجوب فريضة تامة وصدقها على ما أتى به واضح، لكنه أجنبي عن التلبس بما يترتب
على الإقامة حتى تكون نية الإقامة عمليا إلا أنه يمكن أن يقال إنه تلبس بما هو عمل
الحاضر ولحضوره أتم، وإن عمل عن وجه حضوره فتدبر.
سادسها: ظاهر الصحيحة (1) إناطة تأثير البداء وعدمه باتيان الفريضة التامة
وعدمها لا بمجرد استقرارها في الذمة، فدعوى عدم تأثير العدول إذا ترك الفرض
عمدا أو نسيانا استنادا إلى مجرد الاستقرار في الذمة، لا شاهد لها.
والعجب الالتزام به من جامع المقاصد (2) مع اعترافه بمخالفته لظاهر النص.
وأما دعواه أنه موافق للقواعد فقاعدة شرطية النية حدوثا فقط المستفادة من الأخبار
وإن كانت مقتضية لعدم تأثير العدول، إلا أن الصحيحة صريحة في إناطة البقاء
على الاتمام بفعل صلاة تامة وأن العدول لا أثر له بعدها لا بعد استقرارها في
الذمة فتدبر.
نعم المناقشة في عدم شمول قوله (عليه السلام): " لم يصل "، لترك الصلاة
عمدا أو نسيانا غير بعيدة نظرا إلى أن سوق هاتين الشرطيتين في الصحيحة بلحاظ
فعل الصلاة طبعا، وعدم فعلها طبعا لسعة الوقت لا لتعمد الترك، أو عروض
النسيان، وعليه فالعدول بعد الاستقرار والترك العمدي أو النسيان غير مشمول
للصحيحة، فنية الإقامة مؤثرة في وجوب الاتمام، والمقيد لها الترك الطبعي دون
غيره فتأمل.
سابعها: إذا صام ناوي الإقامة قبل فريضة تامة صح صومه لما مر من أن نية

(1) أي صحيحة أبي ولاد.
(2) جامع المقاصد: ص 148، في بحث صلاة المسافر.
139

الإقامة غير مشروطة بفعل صلاة تامة وأما إذا صام وعدل في أثناء الصوم فالكلام
فيه تارة من حيث تأثير العدول في ارتفاع أحكام الحاضر وعدمه، وقد مر أنه يؤثر
حيث إنه قبل فريضة تامة، وأخرى من حيث صحة نفس الصوم وفيه وجوه بل
أقوال: قول بصحته مطلقا، وقول ببطلانه مطلقا، وقول بالتفصيل بين العدول قبل
الزوال، فلا يصح وبعد الزوال فيصح.
أما وجه الصحة مطلقا فهو إن نية الإقامة غير مشروطة بفعل صلاة تامة، ولا
بعدم العدول فيما بعد. وعليه فينعقد الصوم صحيحا وحيث إن الصوم لا يتبعض
صحة وفسادا فلا بد من صحته إلى الآخر وليس مثل الصلاة فإنه مع عدم التجاوز
عن الركعتين يجب عليه إتمامها قصرا، ومع التجاوز لا يمكن إتمامها قصرا لفرض
التجاوز، ولا تماما لتبدل حضوره بسبب العدول ولا تعم الصحيحة للصوم لأن
موردها تأثير العدول في القصر والاتمام، ولا تعم أخبار السفر قبل الزوال لأن
ظاهرها إنشاء السفر قبل الزوال لا مجرد زوال حضوره.
وأما وجه البطلان مطلقا: فلأن الحضور التنزيلي ليس بأقوى من الحضور
الحقيقي فكما أنه إذا سافر قبل الزوال ينكشف بطلان صومه من الأول فكذا مع
زوال نية الإقامة قبل الزوال، فلا موجب للالتزام بانعقاده صحيحا حتى يرد محذور
التبعض، فحيث إنه يكون العدول هادما للأثر من حينه والصوم لا يتبعض، نقول
بأنه يجب الالتزام بعدم انعقاده حيث إنه غير قابل لاتمامه مع زوال نية الإقامة قبل
الزوال. والصحيحة وإن كانت في مورد الصلاة إلا أنه بالملازمة بين القصر
والافطار، والاتمام والصيام، يكون حال الصوم حال الصلاة. وأما عدم صحة
إتمامه بعد الزوال فلقصور أدلة الاتمام بعد الزوال لظهوره في إنشاء السفر بعده لا
تبدل حضوره بعد الزوال.
وأما وجه التفصيل بين العدول قبل الزوال والعدول بعده فنقول: مقتضى
الصحيحة بضميمة الملازمة بين القصر والافطار، ثبوت الافطار بالعدول قبل
فريضة تامة، ولم يقيد هذه الملازمة إلا بالسفر بعد الزوال، فالعدول قبل الزوال مؤثر
في بطلان الصوم لمكان الملازمة، لا لأخبار السفر قبل الزوال حتى يناقش في
140

شمولها لتبدل الحضور بالعدول. وأما صحته مع العدول بعد الزوال مع المناقشة في
شمول أخبار السفر بعد الزوال فلما مر منا سابقا من أن الاتمام والصيام غير
مشروط بشئ في هذه الأبواب، بل كل مكلف مستجمع للشرائط يجب عليه
الاتمام والصيام إلا إذا سافر، ومن البين أن صحة الصوم غير مشروط بالسفر بعد
الزوال، فإن الصائم يجب عليه إتمام صومه إذا لم يسافر قبل الزوال سواءا سافر بعد
الزوال أو لم يسافر فلا حاجة إلى تكلف تعميم السفر بعد الزوال لزوال الحضور
التنزيلي بالعدول بعد الزوال.
وأما ما عن شيخنا الأعظم (قدس سره) في كتاب الصلاة من الاستدلال
للاتمام فيما نحن فيه بفحوى ما دل على وجوب إتمام الصوم إذا خرج بعد
الزوال (1) فمبني على ما ذكرنا فإن إنشاء السفر إذا لم يكن مانعا عن إتمام الصوم،
فزوال الحضور أولى بعدم كونه مانعا.
نعم لو كان إنشاء السفر بعد الزوال شرطا في صحة الصوم تماما لم يكن تبدل
الحضور مساويا له فضلا عن كونه أولى.
ثامنها: إذا صلى بنية القصر ثم بدا له في أثنائه الإقامة أتمها لصحيحة علي بن
يقطين حيث قال (عليه السلام) " يتم إذا بدت له الإقامة " (2) ولا يكشف عن
اتحاد القصر والاتمام بالنوع لامكان كون القصرية والتمامية كالظهرية والعصرية
فإنهما متباينان نوعا ولذا يجب قصد عنوان الظهرية والعصرية إما تفصيلا أو إجمالا
ومع ذلك إذا صلى بعنوان العصرية ثم تذكر عدم الاتيان بالظهر ينوي الظهر ويبني
على كونها ظهرا فيتمها ظهرا فيعلم أن عنوان الظهرية ينطبق على المأتي به سواءا
نواها تفصيلا أو إجمالا أو في الأثناء إذا نسي قصدها من الأول، فكذا التمامية
والقصرية فتدبر.
وأما إذا نوى الإقامة وصلى بتلك النية ثم عدل في أثنائها فقد تقدم أن هذا

(1) كتاب الصلاة: ص 401.
(2) الوسائل: ج 5، ص 534، الباب 20 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1.
141

العدول مؤثر في رفع أثر نية الإقامة، إذا العدول الذي لا أثر له، ما كان بعد فريضة
تامة إلا أن الكلام في صحة هذه الصلاة لا في تأثير العدول وعدمه.
والمعروف أنه إذا عدل قبل الدخول في الركعة الثالثة يجب عليه إتمامه قصرا
لأنه مسافر مكلف بالقصر ومتمكن من القصر على الفرض بعد استفادة إمكان
ذلك، إما باتحادهما بالنوع أو تبدل أحد العنوانين بالآخر ما دام للتبدل سبيل. وأما
إذا دخل في الركعة الثالثة فلا يتمكن من إتمامها قصرا لمكان الزيادة، ولا يتمكن
من إتمامها تماما لأنه مسافر لفرض العدول قبل فريضة تامة ولا دخل لاتحادهما
نوعا بما نحن فيه إذ بعد فرض كون المكلف المسافر مكلفا بالقصر يجب مطابقة المأتي
به للمأمور به وإن لم يجب قصد عنوانه، أو كفى البناء في الأثناء على غير العنوان
المنوي أولا.
نعم ربما يناقش في شمول أدلة السفر والقصر فيه لمثله بدعوى أنه مقصور على
من لم يصل رأسا، وأما من صلى تماما في بيته أو وصل إلى حد بحيث لا يمكنه
التقصير فهو كمن صلى وأدى الوظيفة، فلا قصر حيث لا صلاة قابلة للتقصير فيها.
وربما يستند في ذلك إلى إطلاق أخبار نية الإقامة الظاهرة في أنه مجرد حدوث النية
يجب عليه الاتمام ولم يقيد في صحيحة أبي ولاد إلا بالعدول قبل الصلاة وهو لا يعم
العدول في الأثناء، وحيث لا تقييد فيؤخذ باطلاق تلك الأخبار ويحكم بوجوب
الاتمام وهذه عمدة ما اعتمده الشيخ الأعظم (قدس سره) في بعض تحريراته في
صلاه المسافر.
إلا أنك عرفت سابقا وجه النظر فيه وحيث إن وجوب الاتمام مذهب غير
واحد من الأعلام خصوصا من مثل الشيخ الأجل (قدس سره) فرعاية الاحتياط
قوية جدا والله أعلم.
المبحث الثالث
في حكم من نوى الإقامة وخرج إلى ما دون المسافة.
واعلم أنه ربما يعنون المسألة بأنه نوى إقامة العشرة وتمت العشرة فخرج إلى
142

ما دون المسافة، وربما يعنون المسألة بأنه عزم على إقامة العشرة فيخرج إلى ما دون
المسافة كما هو الغالب في متون الكتب الفقهية.
أما العنوان الأول فلا حاجة فيه إلى التقييد بفعل صلاه تامة لا ن التقيد (1) به
بمقتضى الصحيحة إنما هو في مورد العدول عن النية، وبعد تمامية العشرة المنوية لا
مورد للعدول عن النية، والعزم على العود وعدمه لا ربط له بالعدول كما يتضح إن
شاء الله تعالى.
وأما العنوان الثاني فيجب التقييد فيه، إذ مع عدم فعل الصلاة يجب عليه
القصر بمجرد عدوله وإن لم يخرج إلى ما دون المسافة فلا يجري فيه البحث عن القصر
والاتمام بما لهما من الأقسام، ومع عدم العدول إلى زمان الخروج وإن وجب عليه
الاتمام لما مر من استحالة إناطة تأثير نية الإقامة بعدم العدول أو بفعل صلاة تامة،
لكن سفره إذا كان بعنوان عدم العود فهو عدول يجب عليه القصر من حين ذهابه
على أي تقدير ولا يجري فيه هذا البحث الذي لا شبهة عند المشهور في عدم القصر في
الذهاب والمقصد.
وبالجملة إنما يجري هذا البحث إذا تساوى الخروج في الأثناء مع الخروج بعد
العشرة في أقوال المسألة وأقسامها إذا تساويا في استقرار وجوب التمام بحيث لم يكن
فيه مجال للعدول، إما بمضي العشرة، وإما بفعل صلاة تامة.
ثم إن تنقيح الكلام في هذا المقام الذي اضطربت فيه كلمات الأعلام
واعترف غير واحد بأنه من مهمات المسائل وأمهات المعاضل برسم أمور:
أحدها: إن نية الإقامة كما مر الكلام فيها قاطعة لموضوع السفر اعتبارا وتنزيلا بمقتضى
خبر " من قدم مكة " (2) إلى قوله عليه السلام " فهو بمنزلة أهلها " (3) وعليه يبتني
هذا البحث، وإلا فهو مسافر حقيقة وإنما ارتفع حكمه في برهة من الزمان، فإذا
خرج من محل الإقامة كان خروجه خروج المسافر بسفره الأول وهذا متمم سفره

(1) " التقييد خ ل ".
(2) الوسائل: ج 5، ص 526، الباب 15 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 10.
(3) الوسائل: ج 5، ص 526، الباب 15 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 10.
143

فيجب عليه القصر بمجرد خروجه ذهابا وإيابا إلى أن يصل إلى وطنه ويرافقه الظهور
البدوي من صحيحة أبي ولاد حيث جعل غاية وجوب الاتمام مجرد الخروج من
محل الإقامة. ولعل من ينسب إليه القصر مطلقا يذهب هذا المذهب.
ثانيها: إنه قد تقدم في مسألة التلفيق إن ضم الذهاب إلى الاياب مشروط بأن
لا يكون الذهاب والإياب أقل من أربعة، بل قد تقدم أن الاياب وإن كان وحده
بالغا للمسافة الشرعية لا يضم إليه الذهاب إذا كان أقل من أربعة، وأن مبدأ
القصر حين الأخذ في الاياب. وكلا الحكمين مما عليه المشهور، بل ربما يدعى عليه
الاجماع. فالقول بالقصر في الذهاب بعد الاعتراف بقاطعية النية للسفر موضوعا،
لا يصح إلا مع القول بالتلفيق مطلقا كما قربناه سابقا ولم نذهب إليه لدعوى
الاجماع من غير واحد على خلافه.
نعم من يذهب إلى التلفيق فيما إذا كان الاياب وحده مسافة كالمحقق
الكاشاني (1) (رحمه الله)، له أن يقول بالقصر هنا في مثل هذا الفرض برجوعه إلى
محل الإقامة من طريق أبعد يبلغ المسافة.
ثالثها: أن الإقامة كما قدمنا ليست مجرد المكث في مكان، بل اتخاذ محل مقرا
ومستقرا ومحطا لرحله، ويقابله الارتحال عنه لا مجرد الخروج عن ذلك المحل، وكما أن
الخروج عنه بمجرده لا ينافي بقاء الإقامة كذلك مجرد العود إليه بعد الارتحال عنه
ليس عودا إلى مقره ومستقره بل عود إلى ممره إلى وطنه. وعليه إذا خرج من محل
إقامته لا بقصد الارتحال الذي هو ضد الإقامة ليس مسافرا بسفر جديد، وكذا إيابه
ليس سفرا إلى محل إقامته حتى يحتسب جزءا من المسافة بضمه إلى المسافة من محل
إقامته إلى وطنه بخلاف ما إذا ارتحل عن محل إقامته فإنه مسافر بسفر جديد من محل
إقامته إلى مقصده ومنه إلى بلده مارا إلى محل إقامته.
ومما ذكرنا يتضح ما في بعض كلمات الشيخ الأعظم (قدس سره) " من
أن الاياب إلى محل الإقامة ومنه إلى وطنه سفر واحد، وليس السفر الفلاني عنوانا

(1) الوافي: ج 2، ص 27، باب حد السير الذي يقصر فيه.
144

حتى يقال إنه مسافر إلى محل الإقامة، ومنه إلى وطنه، والمفروض أن كلا منهما لا
يبلغ المسافة " (1). هذا وقد عرفت إنا لا ندعي أن السفر يعتبر فيه قصد الوجه والعنوان،
بل خروجه إذا لم يكن ارتحالا من محله ومقره ليس انشاءا لسفر جديد، وليس إيابه
أيضا إنشاء لسفر جديد، بل إنشاء السفر إنما هو من محل إقامته إلى وطنه، فإنه عين
الارتحال من محل الإقامة، فإذا لم يبلغ المسافة بين محل الإقامة والوطن ثمانية فراسخ
لا يقصر.
رابعها: أن الارتحال تارة حقيقي كما إذا خرج معرضا عن مقره ومستقره،
وأخرى حكمي كما إذا خرج من دون إعراض عنه لكنه عاد إليه من طريق أبعد
يبلغ المسافة فإنه قهرا تنقطع الإقامة على ما هو المشهور بين الأصحاب من كون السفر
الشرعي قاطعا للإقامة، وهو أيضا مقتضى الاعتبار لأن السفر ضد الحضور، كما أن
الارتحال ضد الإقامة، ومع تخلل السفر المضاد للحضور المتحقق بنية الإقامة لا يعقل
بقاء الحضور، والمفروض عدم حضور آخر بنية الإقامة الجديدة، ولا يقاس بالسفر
من الوطن والعود إليه، فإن العود إلى الوطن حضور آخر لا بقاء الحضور الأول، إلا
أن يقوم دليل على أن ناوي الإقامة في محل كلما حضر فيه كان حكمه الاتمام، كما
ربما يستفاد من خبر المنزلة حيث قال (عليه السلام): " من قدم مكة قبل يوم
التروية بعشرة أيام وجب عليه إتمام الصلاة وهو بمنزلة أهل مكة فإذا خرج إلى منى
وجب عليه التقصير، فإذا زار البيت أتم الصلاة، وعليه إتمام الصلاة إذا رجع إلى
منى حتى ينفر " (2) فإن ظاهره أن تخلل السفر الموجب للقصر لا يقطع الإقامة، وإلا
فلا موجب غير الإقامة السابقة للاتمام فيعلم منه أن كل حضور في محل الإقامة
موجب للاتمام كالحضور في الوطن فهو تنزيل للمقيم منزلة أهل البلد بقوله مطلق
في جميع الآثار إلا أن هذه الفقرة من الرواية غير معمول بها، ولذا أولوها بتأويلات
تقرب من سبعة أوجه كما ذكرها بعض الأساطين (قدس سره) في رسالته

(1) كتاب الصلاة: ص 440 تحت عنوان اختلفوا فيما إذا خرج المسافر..
(2) الوسائل: ج 5، ص 499، الباب 3 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 3.
145

المعمولة في الرجوع ليومه.
خامسها: هل الملاك في الارتحال الموجب للقصر بشرائطه، وهو عنوانه المساوق
للاعراض المتقوم بالعزم على عدم العود إليه بما هو مقره وإن عاد إليه من حيث إنه
ممره؟ فلا أثر لتردده في العود أو ذهوله عنه، أو الملاك عدم البناء على الإقامة الذي
هو نقيض ما يتقوم به الموجب للتمام وهو البناء على كونه مقرا له؟ فذاك المعنى
الذي كان حدوثا موجبا للاتمام يكون بقاؤه موجبا لبقائه. وبعبارة أخرى هل
ملاك القصر ضد نية الإقامة أو نقيضها؟ فعلى الأول لا يضر التردد وعلى الثاني
يضره إذ لا بناء مع التردد والذهول ولا ريب في أن ملاك القصر إثناء سفر جديد
لأن المفروض إما مضي العشرة أو فعل صلاة تامة، فلا معنى للعدول عن النية أو لا
أثر له، فلا يقاس بقاء موجب الاتمام بحدوثه، ومن البين أنه مع التردد في العود
وعدمه لا جزم بانشاء سفر جديد وهو أيضا ظاهر صحيحة أبي ولاد حيث جعلت فيها
غاية وجوب الاتمام الخروج الظاهر في الارتحال ورفع اليد عن المقر والمستقر،
ولا يكون ذلك إلا مع إنشاء سفر جديد.
والتحقيق إن العود إلى محل الإقامة بما هو عود لا أثر له فلا أثر للتردد فيه، بل
الأثر للعود إلى محل الإقامة بما هو مقره ومستقره في قبال العود إليه بما هو ممره واحد
منازله إلى بلده. والعود بهذا العنوان متقوم بالعزم على كون المحل مقرا له بقاء كما
كان حدوثا والعود المتقوم بالعزم المزبور غير قابل للتردد، فما هو قابل للتردد لا أثر له
وما له أثر غير قابل للتردد. وأما العود بما هو ممر له فهو ليس شرطا للقصر، بل إذا
عاد لا بعنوان أنه عود إلى مقره كان قاصدا لثمانية فراسخ من مقصده إلى بلده من
دون ما يوجب انقطاع مسافة المقصد إلى مل الإقامة عن المسافة منه إلى بلده سواءا
مر إلى محل إقامته أم لا. وعليه فالمتردد حيث لا عزم له على العود إلى محل الإقامة بما
هو مقره ومستقره فهو قاصد للمسافة الشرعية من حين إيابه إلى بلده فيجب عليه
القصر.
وأما الصحيحة الحاكمة بوجوب الاتمام بعد صلاة تامة سواءا عدل أم لم يعدل
فهي متكفلة لحكم المكلف قبل خروجه وإنشاء السفر، وأما أن إنشاء السفر
146

بماذا فهو أجنبي عن مدلول الصحيحة فتدبر جيدا.
إذا عرفت ما رسمناه من الأمور تعرف حكم المسألة بجميع شؤونها وأن المقيم
يجب عليه الاتمام في ذهابه على أي تقدير لعدم ضم الذهاب إلى الاياب وأنه يتم
في مقصده لكونه تابعا له، وأنه يجب عليه الاتمام في إيابه إلى محل إقامته إذا كان
عازما على العود إليه بما هو مقره، وكذا في محل الإقامة لعدم الارتحال الحقيقي
والحكمي، وأنه يتعين عليه القصر في إيابه إلى بلده إذا كان بالغا للمسافة، وإلا
لكان حكمه الاتمام، كما أنه إذا خرج عن محل الإقامة مرتحلا عنه أو رجع عن
المقصد من طريق أبعد بحيث يبلغ المسافة فحكمه في الصورتين القصر من حين
الأخذ في الاياب، وهذا ما يقتضيه القواعد المسلمة أو الموافقة للتحقيق. ولا عبرة
بدعوى الاجماع وغيره في المقام، كما يتضح حاله بالتدبر في كلمات الأعلام.
فروع
[الفرع] الأول:
إذا وجب على المسافر صوم يوم معين باستيجار أو نذر هل تجب الإقامة عليه
ليؤدي الواجب أم لا؟
أما الإجارة فحيث إنها لا تتعلق بعمل في يوم معين على تقدير الحضور لأن
العمل على تقدير لا يملك إلا على تقدير، والتعليق في عقود المعاملات باطل، فلا
محالة يكون العمل في هذا اليوم مملوكا لا على تقدير، فيجب الوفاء بعقد الإجارة فتجب
الإقامة تحصيلا للوفاء وأداءا لما يملكه المستأجر عليه
وأما النذر فله صور:
الأولى: أن يكون المنذور صوم هذا اليوم سفرا أو حضرا حيث يصح النذر مع
الاطلاق فلا تجب إقامة لامكان تأدية الواجب بالصوم في السفر.
الثانية: أن ينذر صوم يوم معين على الوجه المشروع في ذاته فيتبدل استحبابه
المشروط بالحضور بالوجوب، فيجب عليه صوم ذلك اليوم على تقدير الحضور، ولا
يجب تحصيل شرط الوجوب لاستحالته.
147

الثالثة: أن ينذر صوم ذلك اليوم عن حضور، فالمنذور أمر خاص متقيد بالحضور
فيجب تحصيل القيد وهو الحضور بنية الإقامة فتدبر.
[الفرع] الثاني
من كان عليه الظهران وهو مسافر لم يبق من الوقت إلا مقدار أربع ركعات
فهل له الإقامة حتى يتمحض الوقت للعصر ويقضي الظهر بعد الوقت أم لا؟ ولا
شبهة في أن الحضور شرط لوجوب الاتمام، والسفر لوجوب القصر وتبديل الموضوع
في حد ذاته جائز، إلا أن تحصيل شرط الوجوب غير واجب، لكن تفويت شرط
التكليف بعد حصوله إذا كان مفوتا للتكليف غير جائز، فمن كان حاضرا وعليه
الظهران ولم يبق من الوقت إلا مقدار أربع ركعات لا يجب عليه المسافرة تحصيلا
لشرط الوجوب، بخلاف ما لو كان مسافرا في الفرض فإن شرط وجوب الصلاتين
قصرا محقق، وتبديله يوجب تفويت الظهر المستقر وجوبها التي لا بدل لها بتفويت
شرطه.
إلا أن يقال: إذا كان الشرط شرطا حدوثا وبقاء ولأجله يجوز له تبديل
الموضوع، لا لدليل آخر حتى يستظهر منه ما إذا لم يستلزم تفويت التكليف فلا مانع من
تفويت شرط القصر وتبديله بشرط الاتمام لفرض إناطة بقاء وجوب القصر ببقاء
السفر ولا يعقل اقتضاء وجوب القصر إبقاء شرطه.
ونظيره ما إذا كان المسافر عند رجوعه إلى وطنه قريبا من حد الترخص وعليه
الظهران ولم يبق من الوقت إلا مقدار أربع ركعات فإنه لا يجوز له التجاوز المفوت للظهر
على القول بحرمة التفويت.
ويمكن أن يقال إن الحضور والسفر شرط لوجوب الاتمام والقصر وليس شي ء
منهما شرطا لأصل التكليف بالصلاة، والتبديل جائز حيث يتبدل الاتمام بالقصر
أو القصر بالاتمام لا حيث يفوت أصل التكليف بالظهر مثلا ولذا يحرم عليه السفر
إذا كان مفوتا لأصل الصلاة رأسا، وكذا الحضور والإقامة إذا فرض تفويت أصل
التكليف بهما وهذا هو الأقوى.
148

[الفرع] الثالث:
إذا عدل وشك في أنه هل صلى قبله حتى لا يؤثر، أو لم يصل حتى يؤثر؟
مقتضى ما قدمنا من أن نية الإقامة شرط حدوثا وبقاء، وإن فعل صلاة تامة
موجب لبقاء الحضور عند زوال نية الإقامة، وهو البناء على عدم فعل الصلاة فلا
موجب لبقاء الحضور لارتفاع النية جزما وعدم ما يوجب بقاءه شرعا تعبدا بالأصل،
وكذا إذا قلنا بأن النية شرط حدوثا لبقاء التكليف بالاتمام وأن العدول رافع
لأثرها ما لم يمنع عنه مانع وهو فعل صلاة تامة، فإنه مع عدم المانع عن تأثيره شرعا
بالأصل يؤثر العدول أثره.
[الفرع] الرابع:
إذا أيقن بالعدول وبفعل صلاة تامة وشك في المتقدم منهما فهل يرجع إلى
القصر أو يبقى على التمام؟ واستصحاب عدم العدول إلى ما بعد فعل الصلاة
واستصحاب عدم فعل الصلاة إلى ما بعد العدول متعارضان، بل كل منهما في حد
ذاته من الأصل المثبت، فإن موضوع الحكم بالاتمام بقاء فعل صلاة تامة مقترنة
بنية الإقامة، وعدم العدول إلى ما بعد الصلاة لا يثبت اقترانها بالنية لا وجدانا ولا
تعبدا ولا يقاس بما إذا شك في العدول فبني على عدم العدول وصلى، فإن اقتران
الصلاة بالنية الباقية تعبدا وجداني، بخلاف ما نحن فيه وموضوع الحكم بالقصر هو
العدول قبل صلاة تامة، واستصحاب عدم الصلاة إلى ما بعد العدول لا يثبت كون
العدول قبل فعل صلاة تامة، فكون العدول قبل الصلاة لا وجداني ولا تعبدي،
ويندفع الثاني بأن مضمون الصحيحة أنه: " إذا لم تصل صلاة فريضة واحدة
بتمام حتى بدا لك أن لا تقيم " (1) ومن البين أن استصحاب عدم الصلاة إلى حال
البداء كاف في تحقق هذا الموضوع كما يمكن دفع الأول بأنه لا يستفاد من

(1) أي صحيحة أبي ولاد: الوسائل: ج 5، ص 532، الباب 18 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1.
149

الصحيحة تقيد فعل الفريضة بنية الإقامة، بل مجرد معيتهما في الزمان كاف وعدم
العدول تعبدا، وفعل الصلاة في ذلك الزمان المتعبد فيه ببقاء النية كاف في تحقق
الموضوع، فلا إشكال إلا من حيث معارضة الأصلين، وإما استصحاب بقاء
الحضور أو استصحاب وجوب الاتمام فيمكن دفعه بأن بقاء الحضور
كبقاء وجوب الاتمام مشروط شرعا بفعل صلاة تامة قبل العدول
أو مع نية الإقامة وهذا المعنى متيقن العدم بعد نية الإقامة، ومع التعبد بعدم الشرط
لا معنى لاستصحاب المشروط وإن لم يعلم به حال هذه الصلاة المأتي بها من حيث
الاقتران بالنية أو بالعدول، ولا يعارض بأصالة عدم العدول قبل الصلاة فإن
موضوع الحكم بالقصر كما عرفت عدم فعل الصلاة إلى أن يتحقق العدول وهو
مطابق للأصل فتدبر جيدا.
ومما ذكرنا تبين أن الأقوى هو الحكم بالقصر وأما حكم نفس الصلاة المأتي بها
من حيث الصحة والفساد فلا مانع من إجراء قاعدة الفراغ الحاكمة على الأصل
المتقضي لعدم حصول شرط التمام.
[الفرغ] الخامس:
إذا صلى ثم عدل فشك في صحة صلاته وبطلانها ولو من جهة الشك في
الركعات فقاعدة الفراغ تقضي بصحة صلاته، والعدول بعد الصلاة الصحيحة
شرعا مشمول للصحيحة، إذ من الواضح أن قوله (عليه السلام): " إذا صليت
صلاة فريضة واحدة بتمام " (1) أعم مما كانت صحيحة وجدانا أو تعبدا، إذ قلما
يتفق عدم الحاجة إلى إجراء أصل أو أصول في الحكم بصحة الصلاة، فالعدول بعد
الصلاة الصحيحة وجداني لا بقاعدة الفراغ تعبدا حتى يبني على أماريتها، بل
أماريتها أجنبية عن العدول الأجنبي عن الصلاة، فإن ارتكاز الإرادات المنبعثة عن
الإرادة التفصيلية في أول العمل لا يقتضي إلا إتيان الأجزاء والشرائط في مواقعها

(1) الوسائل: ج 5، ص 532، الباب 18 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1 مع اختلاف يسير.
150

دون العدول بعد الصلاة الأجنبي عن كونه جزء أو شرطا لها.
نعم في شمول الصحيحة لما إذا حكم الشارع بوجود الصلاة كما في الشك بعد
الوقت فضلا عن اقتضاء قاعدة الشك بعد الوقت لوقوع العدول بعد الصلاة
إشكال، إذ ظاهر الصحيحة فعل الصلاة خارجا لا بناء من الشارع على وجودها.
وقد عرفت أن أمارية هذه القاعدة الفراغ أجنبية عن مثل العدول.
السادس: إذا شك بين الأقل والأكثر وبنى على الأكثر وسلم، فعدل قبل صلاة
الاحتياط، أو نسي جزءا يجب تداركه بعد الصلاة فعدل قبل التدارك فهل يؤثر
عدوله أو لا؟ الظاهر ابتناؤه على أن صلاة الاحتياط أو الجزء المنسي واجب مستقل
يتدارك به الصلاة التي فرغ عنها بالتسليم، ولا يضر فعل المنافي على هذا المبنى،
فالعدول بعد الفراغ عن الصلاة، أو حقيقة متممة الصلاة على تقدير الحاجة إليه،
فالعدول في الأثناء. والمبنى الأول وإن كان مختار المحققين إلا أن المسألة غير
صافية عن الاشكال فيجب رعاية الاحتياط في المقام بالجمع بين القصر والاتمام.
[القاطع الثالث: مضي الثلاثين مترددا]
الثالث: من القواطع للسفر على المعروف مضي ثلاثين يوما مترددا، والكلام
فيه في موارد.
أحدها: يعتبر وحدة المحل في مضي ثلاثين يوما مترددا، لأن الظاهر أن مورد
الإقامة عشرة أيام هو مورد التردد ثلاثين يوما، وقد مر اعتبار وحدة المحل في الأولى.
وأما الخروج إلى ما دون المسافة في أثناء الثلاثين فحاله حال نية الخروج في نية
الإقامة، لا بد من أن يكون بمقدار لا ينافي بقاءه مترددا ثلاثين يوما في محل بحيث لا
ينقص عن ثلاثين يوما عرفا، لقلة زمان الخروج كما مر في نية الإقامة كما أن
تتميم الناقص بما يزيد على الثلاثين كنية التتميم في نية الإقامة لاعتبار الاتصال
والتوالي في قبال التفرق في كلا الموردين، فلا يجدي تتميم الناقص، ولا يعقل إجراء
ما ذكرنا في أثناء الإقامة عن الخروج إلى ما دون المسافة، فإن نية الإقامة قاطعة
للسفر فيتصور كون خروجه تارة بانشاء سفر جديد والارتحال، وأخرى بعنوان العود
151

إلى محل الإقامة فإن المتردد في أثناء الثلاثين مسافر حقيقة، ومع عدم تخلل العدم
لا يعقل إنشاء سفر جديد، كما إنه حيث لا إقامة، ولا ما بحكمها، فلا يعقل
الارتحال، فلا يعقل الخروج لا بعنوان إنشاء سفر جديد، ولا بعنوان الارتحال، فإن
عدمهما بنحو العدم بالنسبة إلى الملكة، لا السلب المقابل للايجاب.
ثانيها: ظاهر جملة من الروايات، اعتبار مضي شهر مترددا، وظاهر بعضها
اعتبار مضي ثلاثين يوما. ومن الواضح أن الشهر هو ما بين الهلالين، ولا جامع بينه
وبين ثلاثين يوما بالنسبة إلى ما بين الهلالين. وأما بالنسبة إلى العدد فلا جامع بين
مراتب العدد، فلا جامع بين ثلاثين وتسعة وعشرين. فلا مناص من كون الشهر
حقيقة في خصوص ما بين الهلالين مجازا في خصوص الثلاثين، أو مشتركا لفظيا
بينهما ومن الواضح أن رواية الثلاثين صالحة لأن تكون قرينة على التجوز، أو على
التعيين، خصوصا بملاحظة قوله (عليه السلام): " فليعد ثلاثين يوما " (1) فإنه لا عد
إلا في العدد، ولا عد فيما بين الهلالين بما هو بين الطلوعين، فلا يمكن دعوى إرادة
الشهر منه بلحاظ أن الغالب كونه ثلاثين مع أنه لا غلبة، وعلى فرضه فلا غلبة في
مرحلة الاستعمال. مضافا إلى دعوى الاتفاق على أن الشهر في مقام التلفيق
والكسر يعتبر ثلاثين يوما، وإن محل الخلاف ما إذا كان مبدء تردده أول الشهر،
ولا يمكن تنزيل إطلاقات الشهر على هذا الفرد النادر، كما لا يمكن التحفظ على
إرادة ما بين الهلالين مطلقا فتدبر.
ثالثها: ظاهر الكلمات جريان تمام ما ذكر في الإقامة في مسألة الخروج إلى
ما دون المسافة فيما بعد مضي ثلاثين يوما وانقطاع السفر به، فمع إنشاء السفر الجديد
يقصر بشرائطه، مع عدمه والعزم على العود في محل تردده لا يقصر على التفصيل
المتقدم، إلا أن الكلام في قاطعية مضي الثلاثين للسفر موضوعا لما مر في أخبار
الإقامة، أن مجرد الأمر بالاتمام المشترك هناك وهنا لا يدل إلا على ارتفاع
القصر، وهو حكم السفر وأن قاطعية موضوع السفر تحتاج إلى تنزيل مضي

(1) الوسائل: ج 5، ص 527، الباب 15 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 12.
152

الثلاثين منزلة التوطن والأهلية في البلد، كما دل عليه خبر " من قدم مكة الخ " على
تنزيل المقيم منزلة أهل مكة، ولا دليل على التنزيل هنا إلا صحيحة صفوان " قال:
سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن أهل مكة إذا زاروا البيت، عليهم إتمام
الصلاة؟ قال (عليه السلام): نعم والمقيم إلى شهر بمنزلتهم " (1) ويرد على
الاستدلال بها أن المراد بالمقيم إن كان المقيم عن نية فهو أجنبي عن المقام، مع أنه
لا موجب للتحديد بالشهر بعد كفاية العشرة، وإن كان المقيم إلى شهر مترددا فإن
أريد الإقامة شهرا قبل الخروج إلى عرفات فهو سفر قاطع للإقامة، فكيف يرتب
عليها إتمام الصلاة عند زيارة البيت؟ وإن أريد الإقامة شهرا بعد العود من عرفات
فلا أثر لإقامته مترددا إلا بعد مضي ثلاثين، فكيف يمكن الاتمام في زيارة البيت
مع أنه لا يجوز تأخير الزيارة عن شهر ذي الحجة في جميع أقسام الحج. فهذا التنزيل
بلحاظ هذا الحكم المذكور الذي هو المتيقن من آثار التنزيل لا يمكن القول به
والمصير إليه، فلا بد من تأويل الرواية أورد علمها إلى أهله (سلام الله عليهم). وأما
استفادة القاطعية من اقتران مضي الثلاثين بالإقامة في الأخبار لوحدة السياق فإنما
تصح إذا استفيدت قاطعية الإقامة من نفس الأمر بالاتمام لا من دليل خارج
مختص بها.
نعم الظاهر عدم الخلاف في قاطعية التردد المزبور والله العالم.
المطلب الثاني
في أحكام المسافر
وفيها مباحث:
الأول: لا شبهة في القصر في الرباعيات من اليومية، ولا في سقوط نوافل الظهرين. إنما
الكلام في سقوط نافلة العشاء مع كونها مقصورة. ومقتضى ما ورد من " أن الصلاة
في السفر ركعتان ليس قبلهما ولا بعدهما شئ إلا المغرب " (2) سقوط نافلة

(1) الوسائل: ج 5، ص 527، الباب 15 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 11.
(2) الوسائل: ج 5، ص 529، الباب 16 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 2.
153

العشاء وكذا ما ورد بعد السؤال عن صلاة النافلة بالنهار في السفر: " يا بني لو
صلحت النافلة لتمت الفريضة " (1) فيستفاد منه أنه إذا لم تتم الفريضة لا تصلح
النافلة. وفي قبال هذه الروايات ما هو بمنزلة الحاكم عليها رواية الفضل بن شاذان
عن الرضا (عليه السلام) " قال: وإنما صارت العتمة مقصورة وليس تترك ركعتاها
لأن الركعتين ليستا من الخمسين وإنما هي زيادة في الخمسين تطوعا ليتم بهما بدل كل
ركعة من الفريضة ركعتين من التطوع " (2). فهذه الرواية نص في عدم سقوط
الوتيرة. مع بيان عدم المنافاة لما دل على سقوط نوافل الرباعيات بعدم كونها من
النوافل المرتبة بل هي مكملة للعدد. فلا ينبغي الاشكال في عدم السقوط، والمناقشة
في سند الرواية مدفوعة: بأن عبد الواحد وعلي بن محمد القتيبي الواقعين في السند من
مشايخ الإجازة المعتمدين عليهم.
نعم المشهور على السقوط، بل ادعى ابن إدريس الاجماع عليه (3)، فعدم
السقوط هو الأقوى وإن كان الأحوط إتيانهما رجاء والله أعلم بأحكامه.
الثاني: هل يجوز الاتيان بالنوافل في الأماكن الأربعة التي يجوز فيها الاتمام
للمسافر أم لا؟ أم يدور مدار اختيار الاتمام وعدمه؟ مقتضى عمومات أدلة سقوطها
واطلاقاتها سقوطها في هذه الأماكن كغيرها، كما أن مقتضى الملازمة بين تمامية
الفريضة وصلاحية النافلة ثبوتها ولا يخلو كلا الأمرين من الاشكال، فإن ظاهر قوله
(عليه السلام): " الصلاة في السفر ركعتان ليس قبلهما ولا بعدهما شئ إلا المغرب
فإن بعدها أربع ركعات " (4) إرادة حكم السفر بما هو، لا بلحاظ العوارض
كشرف البقعة، وكذا ظاهر قوله (عليه السلام): " يا بني لو صلحت النافلة في السفر
لتمت الفريضة " (5) المستفاد منها لو تمت الفريضة لصلحت النافلة، فإن الملازمة

(1) الوسائل: ج 1، ص 60، الباب 21 من أبواب عداد الفرائض الحديث 4. باختلاف يسير.
(2) الوسائل: ج 3، ص 70، الباب 29 من أبواب أعداد الفرائض الحديث 3.
(3) السرائر: ص 39، باب أعداد الصلاة وعدد ركعاتها.
(4) الوسائل: ج 5، ص 529، الباب 16 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 2 مع اختلاف يسير.
(5) الوسائل: ج 3، ص 60، الباب 21 من أبواب أعداد الفرائض الحديث 4.
154

أيضا بلحاظ طبع السفر، وأن السفر بما هو كما يقتضي قصر الفريضة يقتضي
سقوط نافلتها. فالكلام في قوة أنه لكنه لا تتم الفريضة فلا تصلح النافلة إلا أنه متى
تمت الفريضة صلحت النافلة، فالعبارة كما لا تدل على سقوط النافلة بلحاظ جهة
غير السفر كذلك لا يدل على سقوط النافلة بلحاظ جهة
غير السفر كذلك لا يدل على ثبوتها بثبوت الفريضة تامة لغير جهة السفر كشرف
البقعة. وأما الباب الذي عقده في الوسائل لحكم التطوع في الأماكن الأربعة فأقوى
ما فيه ما نصه: " وسألته عن الصلاة بالنهار عند قبر الحسين (عليه السلام) ومشاهد
النبي (صلى الله عليه وآله) والحرمين تطوعا ونحن نقصر قال: نعم ما قدرت
عليه " (1) ومضمونه عدة روايات بتقريب أن وجه السؤال ارتكاز سقوط النوافل
المرتبة النهارية بتبع (2) قصر الرباعيات في ذهنه، وكما أن شرف البقعة قد اقتضى جواز
الاتمام، فهل يقتضي مشروعية النافلة أو أنه حكم مخصوص بالفريضة ولا مقتضى
لارتكاز سقوط مطلق التطوع بالنهار حتى يسأل عن ثبوته لشرف البقعة، إلا أنه
ينافيه ضم مشاهد النبي (صلى الله عليه وآله) إلى الحرمين في غير واحد من
الروايات، مع أنه لا يجوز إتمام الفريضة في تلك المشاهد، فيعلم منه توهم سقوط
مطلق التطوع النهاري وارتكازه في ذهنه. ويندفع بأن الضم لتوهم تمامية الفريضة
في تلك المشاهد لا توهم سقوط مطلق التطوع النهاري وإلا لم يكن لذكر هذه
الأماكن وجه في سؤاله.
وبالجملة إطلاق السؤال والجواب لمطلق التطوع مرتبا كان أولا مما لا ينبغي
الريب، وقصره على غير الرواتب خصوصا مع قيد النهار المخصوص بالرواتب خلاف
الانصاف، وأما الرواية الدالة على أنه لا تقصير ولا نافلة في الحائر فهي من أدلة
القول بالتقصير في قبال القول بالتخيير ولا بد من علاجه وعليه فالأوجه هو
الثبوت، والأحوط إتيانها رجاءا.
الثالث: إذا دخل عليه الوقت وهو حاضر فسافر بعد زوال الشمس فلا ريب

(1) الوسائل، ج 5، ص 552، الباب 26 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1.
(2) " يتبع خ ل ".
155

في جواز قضاء النافلة في السفر للأدلة الدالة على استحباب قضائها في السفر عموما
وخصوصا، هل له مع بقاء وقتها أن يصليها في السفر أم لا؟ مقتضى العمومات بل
مقتضى الملازمة عدمه فإنه حيث لا يجوز إتمام الفريضة لا يصلح نافلتها، ولو
صلحت النافلة لتمت الفريضة، إلا أنه ربما يستدل لجواز أدائها سفرا بموثقة عمار
عن أبي عبد الله (عليه السلام) " قال: سئل عن الرجل إذا زالت الشمس وهو في
منزله ثم خرج في سفره. قال: يبدأ بالزوال فيصليها ثم يصلي الأولى بتقصير ركعتين
لأنه خرج من منزله قبل أن تحضره الأولى، وسئل فإن حضرت الأولى؟ قال: يصلي الأول بتقصير ركعتين
لأنه خرج من منزله قبل أن تحضره الأولى، وسئل فإن حضرت الأولى؟ قال: يصلي
أربع ثم يصلي بعد النوافل ثمان ركعات لأنه خرج من منزله بعد ما حضرت
الأولى.. الخبر " (1) إلا أن هذه الرواية بمضمونها غير معمول به، لأنه جعل مدار (2)
العصر والاتمام على وقت الفضيلة دون وقت الوجوب أو الأداء، إلا أن يؤخذ
بصدر الرواية الظاهرة في فعل النافلة أداء ويترك ذيلها، والاحتياط لا ينبغي
تركه.
الرابع: إذا دخل عليه الوقت وهو مسافر فهل له فعل النافلة إذا كان بانيا على
إتيان فريضتها تماما في وطنه أو محل إقامته؟ لا (3) موجب له إلا بتخيل أنه " متى
تمت الفريضة صلحت النافلة " وقد عرفت أن مورد السؤال حيث كان عن فعل
النافلة النهارية في السفر أجاب (عليه السلام) " بأنه لو صلحت النافلة في
السفر " (4) أي حيث لا تتم الفريضة في السفر فلا تصلح النافلة في السفر لا في مقام
بيان فعل النافلة مع إتمام الفريضة، ولو فرض الملازمة الكلية أيضا كان مقتضاها
الملازمة بين التنفل والاتمام في السفر والسقوط والقصر في السفر لا التنفل في
السفر والاتمام في الحضر، ولا تقاس هذه المسألة بما تقدم مع كونه منصوصا لأن
من يقول بأن الاعتبار بحال تعلق التكليف وجوبيا أو ندبيا، له أن يقول بما تقدم

(1) الوسائل، ج 3، ص 62، الباب 23 من أبواب أعداد الفرائض، الحديث 1.
(2) " مبدأ خ ل "
(3) " أو خ ل "
(4) الوسائل، ج 3، ص 60، الباب 21 من أبواب أعداد الفرائض، الحديث 4.
156

وليس له القول بفعل النافلة هنا، وإذ لا تكليف بها في السفر فلا موهم لمشروعية
فعلها إلا بتبعية النافلة لاتمام الفريضة وقد عرفت ما فيه.
نعم من كان حاضرا وصلى العشاء تماما أمكن توهم جواز فعل نافلتها في
السفر بدعوى أن الاعتبار بحال تعلق التكليف كما يستفاد من الموثقة المتقدمة.
الخامس: في حكم الاتمام في موضع القصر وتمام الكلام برسم أمور:
منها: في حكم الاتمام في موضع القصر عالما عامدا ولا خلاف فتوى ونصا في
بطلانه، ولا يتصور التعمد إلى الاتمام مع العلم بوجوب القصر إلا بالتشريع بأحد
نحوين: إنما بالتشريع في أصل الأمر بالاتمام، فلا تنعقد صحيحة لعدم الأمر
حقيقة، وأما بالتشريع في تطبيق المأتي به على المأمور به فلا تقع صحيحة لمخالفة
المأتي به للمأمور به. ومنه يعرف أن الاستناد إلى الوجه الثاني في بطلان الصلاة
يناسب الوجه الثاني من التشريع، وعليه ينطبق أيضا ما في خبر الخصال " ومن لم
يقصر في السفر لم تجز صلاته لأنه قد زاد في فرض الله عز وجل " (1) فإن الاستناد في
البطلان إلى إضافة الركعتين وزيادتهما على فرض الله عز وجل يناسب التشريع في
التطبيق وإتيان الأخيرتين بعنوان كونهما من الصلاة المفروضة حتى تتحقق الزيادة
في فرض الله عز وجل.
ومنها: ما إذا أتم جاهلا بالحكم ولو عن تقصير والظاهر كما هو المعروف بين
الأصحاب صحة الصلاة وعدم لزوم الإعادة مع إلتزامهم باستحقاق العقاب على
ترك القصر، ويدل على الصحة وعدم الإعادة صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم قالا:
قلنا لأبي جعفر (عليه السلام) " رجل صلى في السفر أربعا أيعيد أم لا؟ قال (عليه
السلام): إن كان قرئت عليه آية التقصير وفسرت له فصلى أربعا أعاد، وإن لم
يكن قرئت عليه ولم يعلمها فلا إعادة عليه " (2) وليس في قبالها إلا خبر الخصال

(1) الخصال: باب الواحد إلى المأة، (خصال من الشرايع) ص 604 كما في الوسائل، ج 5،
ص 532 الباب 17 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 8.
(2) الوسائل: ج 5، ص 531، الباب 17 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 4.
157

وصحيحة العيص (1). أما بالنسبة إلى خبر الخصال فهي أخص منه مطلقا فتقدم
عليه بالأخصية والنصوصية. وأما بالنسبة إلى صحيحة العيص فهي أخص من
وجه، لعموم صحيحة العيص من حيث العلم والجهل وعموم صحيحة زرارة المتكفلة
لنفي الإعادة في الجاهل من حيث الوقت وخارجه فيتعارضان في مادة الاجتماع
وهي الإعادة في الوقت
وتوضح الجواب يتوقف على مقدمة هي. أن لزوم الإعادة ليس إلا لبقاء الأمر
وعدم سقوط بالمأتي به، كما أن عدمه لسقوط الأمر قطعا، وأما عدم الإعادة في
خارج الوقت فهو تارة لموافقة المأتي به للمأمور به فلا خلل فيه حتى يتدارك
بالقضاء، وأخرى لتقيد مصلحة المأمور به بمصلحة الوقت، فمع خروج الوقت لا يمكن
التدارك ومن الواضح أن عدم الإعادة في خارج الوقت مع لزوم الإعادة في الوقت
كما هو مقتضى صحيحة العيص كاشف عن أن عدم الإعادة في خارج الوقت
لعدم إمكان التدارك لا لعدم الحاجة إلى التدارك، فهي بهذه الملاحظة ظاهرة في
بطلان الاتمام في موضع القصر. وأما صحيحة زرارة (2) المفصلة بين قراءة آية
التقصير وتفسيرها وعدمها المستفاد منها التفصيل بين العالم والجاهل فهي نص في
معذورية الجاهل وضعا، وعدم معذورية العالم وضعا المعبر عنهما بالإعادة وعدمها،
وعدم الإعادة في خارج الوقت لا يلازم المعذورية حتى كون بين العالم والجاهل
تقابل كما هو نص الصحيحة، فلا إشكال حينئذ في تقدم صحيحة في تقدم صحيحة زرارة على
صحيحة العيص فتدبر جيدا.
نعم في صحة الاتمام من الجاهل، وعدم الإعادة قصرا مع استحقاق العقوبة
إذا قام مقصرا إشكال، لأن مقتضى صحة الاتمام موافقته للمأمور به، ومقتضى
استحقاق العقوبة مخالفته له وتفويته إياه وكيف لا تجب الإعادة تداركا لما فات منه
دفعا للعقوبة، فلا بد من الوجه المصحح للاتمام، ومن الوجه المانع عن وجوب

(1) الوسائل: ج 5، ص 530، الباب 17 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1.
(2) الوسائل: ج 5، ص 531، الباب 17 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 4.
158

الإعادة (1) الوجه المصلح لاستحقاق العقوبة وما وقفت عليه من وجه الحل
أربعة:
أحدها: ما عن شيخنا الأستاذ (2) (قدس سره) " من أن القصر مشتمل على
مصلحة قوية شديدة لزومية بحيث يكون أصلها لزوميا أيضا " أي مصحح للايجاب،
وإنما لم يؤمر بتحصيله لاندكاكه في المصلحة القوية، وقد استكشفنا من الحكم
بعدم الإعادة ومن قوله (عليه السلام) " تمت صلاته " (3) في باب الجهر
والاخفات المشترك مع المقام في الاشكال وحله، أن الاتمام في حال الجهل
مشتمل على أصل المصلحة، ولأجله حكم بصحته لاستيفاء المصلحة اللزومية وإنما
لا يجب الإعادة لأن شدة المصلحة وقوتها غير قابلة للاستيفاء بعد استيفاء أصلها،
وإنما يستحق العقوبة لأنه فوت على نفسه المصلحة القوية الملزمة بحدها، وحيث إن
تلك المصلحة القوية مصلحة واحدة قائمة بخصوص القصر فلا يلزم أن يكون من باب
الواجب في الواجب، ليرد عليه بعض المحاذير الآتية ولا يرد على هذا الوجه إلا ما يتخيل من
أن مبناه في علية المأتي به للغرض منه أنها مراعاة بالاقتصار عليه وإلا فله التبديل
فيستقر الامتثال على الفرد الثاني، فتارة يستحب التبديل حتى يستقر الامتثال على
الفرد الأفضل وأخرى يجب حتى يستوفي المصلحة القوية دفعا للعاقب عن نفسه.
ويندفع باستكشاف العلية التامة وعدم صحة التبديل في خصوص المقام من الدليل
الدال على عدم لزوم الإعادة.
ثانيها: ما عن بعض أعلام العصر (قدس سره) في مصباحه (4) في باب الجهر
والاخفات من أن الطبيعة الجامعة بين القصر والاتمام لها مصلحة وخصوص القصر
لها مصلحة أخرى فيتأكد طلب القصر لانبعاثه عن مصلحتين فإذا أتى بالقصر فقد
امتثل الواجبين وأحرز المصلحتين، وإذا أتى بالاتمام فقد أتى بالجامع الذي له مصلحة
لزومية ولا تجب الإعادة قصرا لأن مصلحة القصر إنما تستوفى إذا أتى بالقصر امتثالا

(1) (من خل ل)
(2) كتاب الصلاة من مصباح الفقيه ص 761 تحت عنوان فيما لو أتم المسافر جاهلا.
(3) الوسائل: ج 4، ص 766، الباب 26 من أبواب القراءة الحديث 1.
(4) كتاب الصلاة من مصباح الفقيه: ص 316 تحت عنوان المسألة الرابعة.
159

للأمر بالجامع والمفروض سقوط الأمر بالجامع فيصح الاتمام لفرض كونه ذا
مصلحة ملزمة، ولا تجب الإعادة لعدم بقاء المحل ويستحق العقوبة لتفويت المصلحة
اللزومية، وفي هذا التقريب محذوران: (الأول) أن القصر
إذا أتى بها بداعي أمرها لكفى في الامتثال وفي استيفاء ما فيها
من المصلحة الأزمة للتقريب، ولو لم يلتفت إلى الجامع بين القصر والاتمام فضلا
من أن يكون بصدد امتثال الأمر بالجامع. والثاني أن لازمه استيفاء مصلحة الجامع
بفعل الاتمام عمدا مع أنه لا شبهة في بطلانه عمدا.
ثالثها: ما عن بعض أجلة العصر (رحمه الله) وهو عين الوجه الثاني بإضافة
كون مصلحة الجماع مقصورة على الجهل بالحكم الواقعي فرارا من المحذور الثاني
المتقدم آنفا، وحيث لا مصلحة للجامع إلا في حال الجهل، فالعالم ليس له الاتمام
متعمدا، وعدم إمكان الإعادة عنده (رحمه الله) أيضا مستند إلى أن مصلحة القصر
مقيدة بما إذا أتى بالجامع المطلوب بالكيفية الخاصة، ولا جامع مطلوب بعد إتيان
الجامع، إلا أنه فيه محذور آخر وهوان مصلحة القصر وإن كانت قابلة للتقيد
بمصلحة الجامع لكنها لا يعقل أن تكون متقيدة بمصلحة الجامع حال الجهل بحكم
القصر، فكما لا يعقل أن تكون المصلحة الموجبة لوجوب القصر متقيدة بالجهل
بوجوب القصر كذلك لا يعقل أن تكون متقيدة بمصلحة أخرى متقيدة بالجهل بنفس
هذا الحكم المنبعث عن تلك المصلحة.
رابعها: ما عن بعض أعاظم العصر (قدس سره) على ما حكي عنه وهو أن
الجهر والاخفات من باب الواجب في القراءة الواجبة لا شرط لها، وكذلك التسليم
على الركعتين واجب في طبيعة الصلاة مع الاعتراف بأن الكل من باب الشرط
بالإضافة إلى الحكم الواقعي وإن كان لها بجهة نفسية أيضا إلا أنها مندكة في
شرطيتها، وعليه ففي حال الجهل إذا أتى بالاتمام فقد أتى بالواجب وترك ما هو
واجب في الواجب، والواجب في الواجب المأتي به لا تدارك له. ومن البين أن هذا
بمجرده لا يوجب فوات القصر بقول مطلق، إذ كما أن في التسليم جهة نفسية كذلك
له جهة التقيدية، وعدم تداركه من الجهة الأولى لا يوجب عدم التدارك من الجهة
160

الثانية فلا بد له من الالتزام باختصاص جهة التقييد بخصوص العالم بحكم القصر
مع أن مبنى الاشكال ووجوه الحل على الاعتراف بالحكم المشترك وعدم تقيد
الحكم بوجه بالعالم، والله العالم.
ثم إنه هل المراد من الجاهل هنا خصوص الغافل المعتقد أن حكمه الاتمام؟ أو
يعم الشاك المتردد؟ ظاهر بعض أجلة العصر (رحمه الله) خصوص الأول.
وظاهر إطلاق الكلمات من دون تعرض للتفصيل هو الأعم.
ولا يخفى أن الجهل وإن كان يقابل العلم، تقابل العدم للملكة، لا تقابل
السلب مع الايجاب إلا أن الحكم هنا غير معلق على عنوان الجهل في النصوص،
والتعليق هنا على عدم العلم المقابل للعلم تقابل السلب مع الايجاب وإن كان
يقتضي العموم، إلا أنه ربما يدعى انصرافه إلى خصوص الغافل المعتقد للخلاف،
لكن صحيحه زرارة (1) المفصلة بين قراءة آية التقصير وتفسيرها، وعدم القراءة
وعدم العلم بها، ظاهرة في العموم فإن الإمام (عليه السلام) لم يكتف بمجرد القراءة
الموجبة إلى الالتفات بل ضم إليها تفسيرها الموجب للعلم بإرادة وجوب القصر من
قوله تعالى " لا جناح عليكم " (2) الظاهر في مجرد الترخيص. فالأظهر في خصوص
باب القصر والاتمام تعميم الجهل للشك، والتردد في أصل وجوب القصر.
ثم إن هذا كله في الجهل بأصل الحكم وأما الجهل بخصوصيات الحكم فلا
مدرك لالحاقه بالجاهل بأصله إلا أمران:
أحدهما: ما في بعض أخبار الصوم وهو " من صام في السفر بجهالة لم
يقضه " (3) وفي آخر " إذا سافر الرجل في شهر رمضان أفطر وإن صامه بجهالة لم
يقضه " (4) بناء على إطلاق الجهالة والملازمة بين الصوم والصلاة. والظاهر أن
الرواية الأولى كالثانية الظاهرة في الجهل بالافطار في السفر في شهر رمضان لا

(1) الوسائل: ج 5، ص 531، الباب 17 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 4.
(2) النساء: 101، والآية هكذا: " فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة.. ".
(3) الوسائل: ج 7، ص 128، الباب 2 من أبواب من يصح منه الصوم الحديث 5.
(4) الوسائل: ج 7، ص 128، الباب 2 من أبواب من يصح منه الصوم الحديث 6.
161

الجهل بالخصوصيات مع أن كلية الملازمة غير معلومة.
وبالجملة مساق هذه الأخبار مساق غيرها حيث قال (عليه السلام): " إن
كان بلغه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهى عن ذلك فعليه القضاء
وإن لم يبلغه فلا شئ عليه " (1).
ثانيهما: ما عن شيخنا الأعظم (قدس سره) في كتاب الصلاة " من دعوى
فحوى معذورية الجاهل بالخصوصية بالنسبة إلى الجاهل بأصله " (2) وهو كذلك إن
كان الملاك للمعذورية هو الجهل إلا أن ظاهر صحيحة زرارة خصوصية للجهل
بأصله، فإن ظاهر آية التقصير هو الرخصة في القصر فهو المحتاج إلى التفسير، والجهل
به يوجب العذر لا مطلق الجهل بالحكم أو الجهل بخصوصياته، وعليه فمقتضى
القاعدة الأولية وجوب الإعادة والقضاء
ومنها: الجهل بموضوع السفر مع العلم بحكمه. ومدرك إلحاقه بالجهل بالحكم
أيضا أولوية الجاهل بالموضع بالمعذورية من الجاهل بالحكم، إلا أنك عرفت
خصوصية الجهل بالحكم هنا مع أن الأولوية إنما هو في المعذورية تكليفا لا
المعذورية وضعا، ونحن لا ندعي أن الجهل المقصر بالحكم ممن يعذر تكليفا، وأن
الجاهل بالموضوع لا يعذر فيه من حيث الإثم، وعليه فهل يجب الإعادة في الوقت؟
والقضاء في خارجه؟ كما هو مقتضى القاعدة الأولية، أو لا يجب القضاء؟ كما في
صورة نسيان الموضوع؟ وما يمكن الاستناد إليه صحيحة العيص عن أبي عبد الله
(عليه السلام) قال: " سألته عن رجل صلى وهو مسافر فأتم الصلاة قال: إن كان
في وقت فليعد وإن كان الوقت قد مضى فلا " (3) نظرا إلى إطلاق صدرها من
حيث الشمول للجاهل والناسي خرج الجاهل بأصل الحكم بصحيحة زرارة (4)
المتقدمة وبقي الباقي ومنه الجاهل بالموضوع ومنه يعرف حال الجاهل بخصوصيات

(1) الوسائل: ج 7، ص 127، الباب 2 من أبواب من يصح منه الصوم الحديث 2.
(2) كتاب الصلاة: ص 403.
(3) الوسائل: ج 5 ص 530، الباب 17 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1.
(4) الوسائل: ج 5 ص 531، الباب 17 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 4.
162

الحكم لاندراجه في إطلاق الصحيحة، ولا تنافيها صحيحة الحلبي " قال: قلت لأبي
عبد الله (عليه السلام): صليت الظهر أربع ركعات وأنا في سفر قال: أعد " (1)
بناء على شمول الإعادة للتدارك في الوقت وخارجه وجه عدم المنافاة ظهور حال
الحلبي من حيث جلالة شأنه ووفور علمه في أنه لا يتعمد الاتمام ولا يجهل الحكم
أو خصوصياته أو موضوع الحكم ويصلي تماما فلا محمل له إلا النسيان لموضوع
السفر فتدبر.
ومنها: نسيان موضوع السفر وهو الظاهر من رواية أبي بصير (2) المتكفلة لحكم
النسيان بعنوانه فيعيد في الوقت دون خارجه، ومقتضى إطلاق صحيحة العيص
أيضا ذلك، وأما صحيحة الحلبي فلو سلم شمول قوله (عليه السلام) " أعد "
للإعادة في خارج الوقت للزم تقييده بالخبرين المتقدمين ولا أقل من خبر أبي بصير
المتكفل لحكم النسيان بعنوانه، وأما نسيان الحكم فهو وإن كان يصرف عنه قوله
" ينسى فيصلي " في رواية أبي بصير إلا أن إطلاق صحيحة العيص كاف في الحاقه
بناسي الموضوع ولا يرجع إلى القاعدة الأولية الحاكمة بالإعادة والقضاء وأما الحاقه
بالجاهل بالحكم في الصحة نظرا إلى أنه حال النسيان لا يعلم بوجوب القصر عليه
ولو من باب السلب المقابل للايجاب لعدم تعقل العدم المقابل للملكة فيه لعدم
الالتفات. ففيه أنه لا دليل لنا بهذا العنوان حتى يتوهم شموله لناسي الحكم، وإنما
الدليل صحيحة زرارة (3) وهذا على الفرض ممن قرئت عليه آية التقصير وفسرت
له، ولا يمكن إدراجها في الشرطية الثانية بتوهم أنه داخل في قوله (عليه السلام)
" ولم يعلمها " وذلك مضافا إلى تقابل الشرطيتين أن قوله (عليه السلام): " ولم
يعلمها " بعد قوله (عليه السلام): " وإن لم يكن قرئت عليه " عدم علية العلم بمضمون
الآية بعد التفسير ولذا نسبه إلى الآية لا إلى الحكم، ولا يصدق على الناسي أنه لم
يعلم مضمون الآية بعد القراءة والتفسير وإن صدق عليه أنه بالفعل لم يعلم بالحكم.

(1) الوسائل، ج 5 ص 531، الباب 17 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 6.
(2) الوسائل، ج 5 ص 530، الباب 17 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 2.
(3) الوسائل، ج 5 ص 531، الباب 17 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 4.
163

ومما ذكرنا تعرف حكم من أتم في السفر سهوا جريا على العادة في الحضر من
دون الجهل بالحكم وموضوعه ولا نسيان لهما فإنه مندرج تحت إطلاق صحيحة
العيص لو لم نقل أن مثله هو المتعارف دون النسيان الحقيقي والله أعلم.
السادس: في حكم من قصر في مورد الاتمام، ومقتضى القاعدة البطلان،
فيجب الإعادة في الوقت، والقضاء في خارجه من دون فرق بين الجهل بالحكم أو
نسيان الموضوع.
نعم ورد في مصححة منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " إذا
أتيت بلدة فأزمعت المقام بها عشرة أيام فأتم الصلاة، وإن تركه رجل جاهلا فليس
عليه الإعادة " (1) والرواية صحيحة صريحة ولا معارض لها بالخصوص، وندرة
العامل بها لا يسقطها عن الحجية، وليس المراد من ترك الاتمام تركه فقط حتى
يقال إنه لا يصدق تركه إلا بالترك في تمام الوقت جاهلا فلا دلالة للصحيحة إلا
على سقوط القضاء، بل المراد من ترك الاتمام فعل القصر بدلا عن الاتمام فيكون
حالها حال صحيحة زرارة في عكس المسألة، وإلا فلو لم يكن المراد ذلك بل
الترك فقط لزم هذا المدعي أن يلتزم بسقوط القضاء عمن لم يصل أصلا لصدق
ترك الاتمام في تمام الوقت مع أنه لا يقول به أحد.
نعم يجب الاقتصار على مورد الصحيحة وهو القصر للجهل بأصل حكم الإقامة
فقط، واستفادة الكلية من ضم بعض الأخبار الواردة في حكم الجاهل إلى بعضها
الآخر وإلغاء خصوصية المراد، ودعوى أن الجاهل في باب القصر والاتمام معذور
كما نقله صاحب الحدائق (2) (رحمه الله) عن بعض مشايخه المحققين دونه خرط
القتاد.
السابع: الجاهل بحكم القصر كما تصح منه الصلاة الأدائية تماما كذلك تصح
منه في تلك الحال القضائية تماما أم لا؟ ومورد صحيحة زرارة وإن كان أداء

(1) الوسائل: ج 5 ص 530، الباب 17 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 3.
(2) الحدائق: ج 11، ص 436.
164

فريضة الوقت على الظاهر، إلا أن الظاهر من إناطة الصحة والبطلان بقراءة آية
التقصير وتفسيرها وعدمهما هو صحة الاتمام منه مكان القصر الواقعي من دون
خصوصية للأداء، بل منه يستفاد التعميم من وجه آخر وهو أنه لو قضى الفائتة منه
سفرا في الحضر تماما مع بقاء جهله كان كذلك، فإن الكل لجهله بحكم القصر لا
لجهله بحكم القضاء وأن قضاء ما فات كما فات، الفائتة منه واقعا هي القصر.
الثامن: الجاهل بحكم القصر لو لم يصل أصلا وارتفع جهله بعد الوقت فهل
يجب فضاء ما فاته قصرا أم يكفي تماما نظرا إلى أنه الفائت منه ولو تخييرا؟ ولا
ريب في أن الحكم المشترك هو وجوب القصر وأنه الفائت بجميع المباني المتقدمة في
مقام الثبوت، فإنه لم يستوف بالاتمام ما لا يمكن معه استيفاء، ولا استوفى مصلحة
الجامع حتى لا يقبل استيفاء مصلحة القصر، ولا أتى بالواجب حتى لا يبقى محل
للواجب في ذلك الواجب فقد فاته ما فيه المصلحة القوية اللازمة الاستيفاء، أو
ما فيه مصلحتان لزوميتان، والاتمام قضاء، لا يوجب استيفاء تلك المصلحة
القوية، ولا المصلحتين اللزوميتين، بخلاف القصر، فيتعين القصر، مع أنه لا دليل
على استيفاء الاتمام بعد رفع الجهل لمرتبة من المصلحة أو لمصلحة الجامع، بخلاف
القصر فإنه على أي حال يتدارك بها ما فات. ومنها يعرف حكم نسيان الموضوع في
الوقت مع ترك الصلاة رأسا فإنه يقضيها قصرا لعين ما مر.
نعم بناء على ما قدمناه من كاشفية عدم القضاء عن تقيد مصلحة الصلاة
بمصلحة الوقت يرد السؤال عن الفرق بين ترك الصلاة رأسا والصلاة تماما بعد
فرض بطلان الصلاة تماما. ولا بد من أن يجاب بأن أصل مصلحة القصر غير متقيد
بمصلحة الوقت، بل الاتمام يستوفي مقدارا من المصلحة، وبقيتها متقيدة بمصلحة
الوقت، ولذا لا يمكن تداركها بالقضاء؟، وأما إذا لم يستوف المصلحة رأسا فلا مانع
من استيفاء المصلحة التامة في خارج الوقت.
التاسع: إذا أتم الجاهل بالقصر أو الناسي فارتفع جهله أو تذكر في أثناء
الصلاة فإن كان بعد التجاوز عن محل القصر فلا إشكال في عدم إمكان إتمام
الصلاة صحيحة، وإن كان قبل التجاوز فهل يصح إتمامها قصرا أو لا يصح أيضا؟
165

ومبنى المسألة على أن القصرية والتمامية منوعة لطبيعة الصلاة وأن القصر والتمام
نوعان متبائنان فتجب نية القصر والاتمام في محلها، ولا يجوز العدول عن أحدهما
إلى الآخر إلا بدليل، أو هما نوع واحد، فإن سلم على الركعتين وقع قصرا، وإن
سلم على الأربع وقع تماما، ومسألة تخلف الداعي من الثاني دون الأولى، فإنه
أجنبي عنه وعن الخطأ في التطبيق، ومدار تعدد النوع ووحدته ليس على اندراجهما
تحت طبيعي جامع وعدمه، بل على تعددهما بحدودهما الواقعة في حيز الخطاب أو
تعددهما بالعنوان المأمور به وعدم تعددهما من كلتا الجهتين.
بيانه: أن الأمر لا يدعو إلا إلى ما تعلق به والمتعلق تارة معنون بعنوان قصدي
تفصيلي كعنوان التعظيم والسخرية، فإذا أمر المولى بالانحناء لزيد تعظيما، ولعمرو
سخرية، فاشتبه على المأمور أن المأمور بتعظيمه زيد أو عمرو، وكذا المأمور بسخريته
فانحنى على ما أراده المولى منه لا يقع منه تعظيم ولا سخرية. وأخرى معنون بعنوان
يتحقق بالقصد إليه تفصيلا واجمالا كعنوان الظهرية والعصرية فإنهما كما يتحققان
بقصدهما تفصيلا كذلك إذا قصد ما تعلق به الأمر أولا، وما تعلق به الأمر ثانيا، بل
استكشفنا من صحة العدول من العصر إلى الظهر أن عنوان الظهرية كما يتعنون
بها الفعل من الأول كذلك يتعنون بها بالبناء عليها في الأثناء في خصوص
صورة النسيان، وثالثة يتعدد متعلق الأمر بما له من الحد كالصلاة التي يسلم فيها على
الركعتين، والصلاة التي يسلم فيها على الأربع بداهة مبائنة الماهية بشرط لا،
والاقتصار على الركعتين والماهية بشرط شئ وزيادة الركعتين عليهما وليست
القصرية والتمامية إلا كون الصلاة محدودة تارة بحد، وأخرى بحد آخر شرعا، مضافا
إلى اختلاف آثارهما الكاشف عن اختلافهما بنوع من الاعتبار شرعا. وعليه فلا أمر
بالمشترك بين الحدين حتى يدعو الأمر إلى المشترك، وتعينه بإضافة الركعتين تارة،
وعدم الإضافة أخرى. ومع دعوة الأمر بأحد الحدين، لا يمكن إتيان الآخر تتميما لما
أتى به بداعي أمره المحدد لما يدعو إليه الأمر الآخر، عليه ينطبق ما قيل: " إن كل
ما يتعين في العمل، يتعين في النية، وما لا يتعين في العمل، لا يتعين في النية " فإن
التسليم على الركعتين، ويتعين في مقام العمل على طبق الأمر بالقصر فيتعين في مقام
166

النية. ومنه تعرف عدم اعتبار نية الأداء والقضاء، إذ الصلاة بعد دخول الوقت،
يقع في الوقت لا محالة، وفي خارجه كذلك. فمع تعينها لا حاجة إلى التعيين، إلا
لوجه آخر، كما إذا كانت عليه فائتة الظهر ودخل وقت الحاضرة، فإنه لا بد من
التعيين، لا لاعتبار الأدائية والقضائية، فإن اعتبارهما على فرضه، لا يدور مدار
الوحدة والتعدد كالظهر والعصر، فإنه يجب عليه قصدهما، وإن فرض وحدتهما وعدم
الشريكة لهما.
ومما ذكرنا تبين أنه لا مجال لا تمام الصلاة قصرا بعد نية التمام، ولو مع إمكان
التسليم على الركعتين، وأنه أجنبي عن مسألة الخطأ في التطبيق والاشتباه في
المصداق، وعن مسألة تخلف الداعي والتقييد، كما عن بعض أعلام السادة (قدس
سره) (1) في العروة.
ثم إنه يتضح مما ذكرنا، حكم ما ذكره في الشرايع: " من أن المسافر إذا قصر
اتفاقا، لم يصح، وأعاد قصرا " (2)، فإن مبناه، ما ذكرنا، سواءا دخل في الصلاة لا
بنية الاتمام بل قاصدا به الطبيعة المشتركة فسلم على الركعتين غفلة، أو دخل بنية
الاتمام فسلم كذلك، فإن وجه بطلان الصلاة، تارة عدم نية القصر، وأخرى نية
الخلاف، كما أن مبنى الصحة عدم اعتبار نية القصر، فلا يضر عدمها كما لا يضر نية
خلافها. وأما الاستناد في البطلان إلى عدم صدور القصر عن قصد مع الالتزام
بوحدة القصر، والاتمام، نوعا فلا يرجع إلى محصل إذا بعد البناء لم يقع إلا التسليم
سهوا وغفلة. ولا موجب لبطلان الطبيعة المشتركة، بل غايته إعادة السلام عن قصد
والاقتصار على القصر أو تتميمها مع بقاء الجهل والنسيان بإضافة الركعتين وسجدة
السهو للسلام الواقع سهوا.
فرع: قد عرفت أنه لو ارتفع جهله أو تذكر في الوقت تجب الإعادة، لأن
المفروض بطلان صلاته، وكذلك يجب القضاء إذا كان الجهل أو النسيان مستمرا

(1) العروة الوثقى: في ذيل المسألة السابعة من مسائل أحكام صلاة المسافر.
(2) شرايع الإسلام: ص 40، في ذيل الشرط السادس.
167

في الوقت، ولا مجال لقياسه بالمتم ناسيا، لأن الدليل المسقط للقضاء، مختص بصورة
الاتمام ناسيا لا القصر ناسيا. وإن كان في موضع القصر وفرض البطلان، فرض
بقاء المصلحة بتمامها على حالها من دون استيفاء لمقدار منها، فلا ينبغي الريب في
قضاء الفائت قصرا، وإن كان لو أتم جاهلا أو ناسيا سقط عنه القضاء، فلا أثر
للأمر الظاهري الشرعي، فضلا عن الظاهري العقلي، مع بقاء الحكم المشترك في
حال الجهل والنسيان، مع بقاء مصلحته بتمامها على حالها.
العاشر: المشهور تخيير المسافر في الأماكن الأربعة بين القصر والاتمام، وقيل
بتعين القصر، وقيل بتعين الاتمام. وما ورد في هذا المضمار من الأخبار، طوائف
أربع:
الأولى: " إن الاتمام في الحرمين وفي المواطن الأربعة، من مخزون علم الله،
ومن الأمر المذخور " (1) وظاهرها، أن نفس إتمام الصلاة فيها من الأمر المخزون
والمذخور، لا استحباب الإقامة. ثم الاتمام من المذخور، لا من حيث أن الاتمام
حينئذ فيها لا مزية له على غيرها ليكون من الأمر المذخور، لاندفاعه بأن استحباب
الإقامة مقدمة للاتمام مزية لهذه الأماكن على غيرها، فيصح أن ينسب إليها أنها
من المخزون والمذخور، بل لما عرفت من ظهور الاسناد في أن نفس الاتمام كذلك.
الثانية: ما مضمونه " الأمر بالاتمام ولو صلاة واحدة " (2). وفي آخر " ولو
مررت به مارا " (3) الصريح في أن الاتمام ليس من حيث الإقامة، بخلاف سائر
الروايات الظاهرة في الأمر بالاتمام، فإنها قابلة للتقييد بنية الإقامة بمقتضى
الطائفة الرابعة الآتية.
الثالثة: ما اشتملت على ما مضمونه " إن شاء أتم، وإن شاء قصر " (4) وفي

(1) الوسائل: ج 5 ص 543، الباب 25 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1.
(2) نفس المصدر ص 544 الحديث 5. والحديث 17.
(3) نفس المصدر ص 550. الحديث 31.
(4) نفس المصدر ص 545. الحديث 10. والحديث هكذا: (من شاء أتم ومشاء قصر).
168

آخر " إن قصرت فذاك وإن أتممت فهو خير " (1) وهذه الطائفة وإن كانت ظاهرة
في كون الاتمام بما هو عدل وبدل للقصر، إلا أنها قابلة للتقييد بنية الإقامة بملاحظة
ما سيأتي إن شاء الله تعالى.
الرابعة: ما مضمونه " الأمر بالتقصير ما لم ينو إقامة العشرة " (2). وفي آخر
" لا يكون الاتمام إلا أن يجمع على إقامة عشرة أيام " (3). وعليه فالمعارضة حقيقة
بين هذه الطائفة والطائفة الثانية، وإلا فالأمر بالا تمام والتخيير بين القصر
والاتمام، كلاهما قابل للتقييد بنية الإقامة، إذ ليس فيهما إلا ظهور اطلاقي قابل
للتقييد، وليس بين الثانية والرابعة جمع دلالي، وإلا بحمل قوله (عليه السلام):
" لا يكون الاتمام إلا أن يجمع على إقامة عشرة أيام " على أنه لا يتعين الاتمام إلا
بنية الإقامة، والأمر بالتقصير وإن كان ظاهرا في التعيين، إلا أنه كالأمر بالاتمام
في الأخبار المقتصر فيها على الاتمام من حيث الظهور في التعيين، فإنه قابل
للتصرف فيه بحمله على بيان أحد فردي التخيير لأظهرية أخبار التخيير في التخيير،
من أخبار خصوص القصر وخصوص الاتمام في التعيين.
لا يقال ظاهر السؤال عن أنه يقصر أو يتم، وإن كان عن تعين أحد الأمرين،
إلا أن الجواب بقوله (عليه السلام): " قصر ما لم تقوم على مقام عشرة أيام " (4)
يقتضي أنه لا يتعين الاتمام إلا بنية الإقامة ويتعين القصر بدونها، فلا مجال
للتصرف في ظهور " قصر " على الأمر به تخييرا.
لأنا نقول: لا ننكر الظهور في التعيين، إلا أن الجمع بينه وبين أخبار التخيير،
يقضي بالتصرف بإرادة الأمر بالقصر تخييرا، فيكون محصل الخبر، إنه يتخير بين
القصر والاتمام، إلا أن ينوي الإقامة، فيتعين الاتمام.

(1) نفس المصدر ص 545. الحديث 11. وفي الحديث إن قصرت (فلك) بدل (فذاك).
(2) نفس المصدر ص 550. الحديث 32.
(3) نفس المصدر ص 551. الحديث 33.
(4) نفس المصدر ص 550. الحديث 32.
169

وأما حمل الأخبار الآمرة بالقصر، معينا على التقية، أو حمل أخبار التمام بملاحظة
بعض الأخبار على التقية. فتوضيح الكلام ببيان مقدمة هي:
إن مذهب أبي حنيفة هو القصر مطلقا، ومذهب جماعة آخرين، وهو التخيير بين
القصر والاتمام مطلقا، مع أفضلية الاتمام لما فيه من تحمل المشقة، إلا أن الأمر
بالقصر، ليس للتبعية عن أبي حنيفة، كما أن الأمر بالاتمام، ليس لموافقة
الآخرين، بشهادة صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج، " قال: قلت لأبي الحسن (عليه
السلام) إن هشاما روى عنك إنك أمرته بالتمام في الحرمين وذلك من أجل
الناس، قال (عليه السلام): لا، كنت أنا وآبائي إذا وردنا مكة، أتممنا الصلاة
واستترنا من الناس " (1). فيعلم منه أن الاتمام في الحرمين، على خلاف الناس،
ولذا كانوا (عليهم السلام) يستترون منهم. والسر في ذلك والله أعلم أن
اختصاص الحرمين بمزية التخيير وأفضلية الاتمام، لم ترد به آية ولا رواية عن النبي
(صلى الله عليه وآله)، بل لم يكن منه أثر إلى زمان الصادق (عليه السلام)،
ولذا لا تجد في الأخبار مع كثرتها رواية به عن الباقر (عليه السلام) الذي يستند إليه
أدلة الأحكام غالبا، وعمل الأئمة وشيعتهم على القصر في هذه المواطن كغيرها.
فالاتمام في خصوص هذه المواطن، جهارا معرض للتشنيع، فإنه عمل لا دليل عليه
من الكتاب والسنة النبوية عند الجمهور، فلذا كانوا يستترون عن الناس دفعا
للتشنيع، وأمروا شيعتهم واجلاء أصحابهم بالتقصير لهذه الجهة، لا لأجل موافقة أبي
حنيفة، لأجله جعلوا الاتمام من مخزون علم الله، ومن الأمر المذخور، وأمروا به
أحيانا، إظهارا للحق. وربما علموا بعض شيعتهم طريق دفع التشنيع. حيث قال
(عليه السلام) في مكاتبة إبراهيم بن شيبة: " كان رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) يحب إكثار الصلاة في الحرمين، فأكثر فيهما وأتم " (2). فكان الاتمام، نوع
من إكثار الصلاة.

(1) الوسائل، ج 5 ص 544، الباب 25 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 6.
(2) المصدر السابق، ص 547 الحديث 18.
170

وفي آخر " قد علمت يرحمك الله فضل الحرمين " (1). وبالجملة أخبار التمام، لا
يمكن حملها على التقية، وأخبار تعيين القصر، لنكتة دفع التشنيع، لا لموافقة أبي
حنيفة. وأما ما في بعض أخبار التمام، كصحيحة معاوية بن وهب " قال: سألت أبا
عبد الله (عليه السلام) عن التقصير في الحرمين والتمام؟ قال (عليه السلام): لا يتم
حتى يجمع على مقام عشرة أيام. فقلت إن أصحابنا رووا عنك إنك أمرتهم بالتمام!
فقال: إن أصحابك كانوا يدخلوا المسجد فيصلون ويأخذون نعالهم فيخرجون
والناس يستقبلونهم يدخلون المسجد، فأمرتهم بالتمام " (2). فالجواب عنه أن ما ذكر
فيها من التعليل، مختص بمورده، ولا يمكن أن يكون علة للأمر بالتمام في هذه الأخبار
الكثيرة. مع تعليله بفضل الحرمين، وإنه من الأمر المذخور، وإنه زيادة الخير. إلى
غير ذلك من التعبيرات المضادة للتقية. مع أن التعليل المذكور في الصحيحة، تعليل
موجب للتمام معينا، لا الاتمام الذي هو عدل للقصر. كيف والاتمام إذا كان
لدفع الضرر، وجب على التعيين. ولا يبعد أن يكون عذرا صوريا في جواب السائل
الذي أمره بالقصر، معينا لما مر من الوجه فيه. وقد نفى (عليه السلام) كون الأمر
بالاتمام لأجل الناس في صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج، وأن الاتمام على
خلاف ما عليه الناس فتدبر.
وبالجملة أخبار التخيير وأفضلية الاتمام، أكثر عددا وأوضح دلالة، مع موافقتها
للمشهور. فهي مشهورة رواية وعملا، بل لازم تقديم غيرها عليها، طرح بعضها رأسا
من دون تأويل، وإن كانت أخبار التقصير أوفق بالقواعد، والله أعلم بحقائق
أحكامه.
فروع
أحدها: هل التخيير في هذه الأماكن، استمراري، أم لا، بمعنى أنه لو نواها

(1) المصدر السابق: ص 544 الحديث 4.
(2) الوسائل: ج 5 ص 551، الباب 25 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 34.
171

قصرا، صح له العدول إلى الاتمام، وبالعكس، مع عدم التجاوز عن محل
العدول؟.
الظاهر ابتنائه على ما قدمناه، من أن القصر والاتمام نوعان متبائنان باعتبار
حدهما شرعا أم لا، ولكنه مع ذلك، قال باستمرار التخيير هنا من اختار تباينهما
نوعا، وأنه يجب تعيين القصر والاتمام في مقام النية. ولعله لمكان التخيير المسقط
للتعيين. فإذا لم تتعين الزيادة على الركعتين في مقام العمل كما هو المفروض، لم
تتعين في مقام النية. فقد أوكل الشارع أمر إتمامه وعدمه إليه.
ويندفع، بأن التخيير بين خاصيتين، لا يلازم رفع اليد عن الخصوصية، بل
لازمه، رفع اليد عن تعيين (1) إحدى الخصوصيتين. فهو مختار في التعيين، لا مرفوع عنه
التعيين والمراد من تعينه في مقام العمل، اعتباره شرعا في مقام العمل، لا التعين
المقابل للتخيير.
ومنه يعلم حكم من نوى القصر فأتم غفلة، فإنه بناء على ما قدمناه، لا يصح
ما وقع، لعدم قصد التمام فراجع ما قدمناه في نظير المسألة.
نعم، من يرى رجوع التخيير الشرعي إلى التخيير العقلي، وأن الجامع بين القصر
والاتمام هو المطلوب في مثل المقام، له قصد الجامع، وأمر التعيين بيده عملا. وأن
ما نواه أولا، يتعين عليه، ولا ينافي كون القصر والاتمام في موارد تعينهما، نوعين
متبائنين من حيث حدهما.
ثانيها: هل قضاء ما فاته في هذه الأماكن، كالأداء من حيث التخيير مطلقا، أو
في خصوص هذه الأماكن أو يتعين عليه القصر؟.
وينبغي تقديم مقدمة هي: أن أدلة التخيير بين القصر والاتمام هنا، أدلة
تكليف المسافر في هذه الأماكن. ودليل التكليف معينا كان أو مخيرا، إذا كان
موقتا، لا يطلب به إلا الفعل في الوقت، ولا ينحل إلى طلب الفعل بذاته، وأن يكون
في الوقت، حتى يكون دليل التخيير هنا دليلا على التخيير في خارج الوقت في هذه

(1) " تعيين خ ل ".
172

الأماكن. ويشهد له عنوان قضاء ما فات، إذ لا فوت ولا تدارك، إلا باعتبار تقييد
المطلوب بالطلب الأول بالوقت. ودليل القضاء، يكشف عن تعدد المطلوب ملاكا،
لا أنه قرينة على مقام الاثبات. وإن الذي أنشأه أولا، يتعدد فيه الطلب.
إذا عرفت ذلك فاعلم: أن المدار على دليل القضاء، وأن خصوصية المكان،
من شؤون الصلاة، حتى يقتضي تدارك ما فات كما فات إتيان الصلاة تماما في
تلك الأمكنة. أو ليست من شؤون العمل، فلا يدخل في التشبيه بداهة أنه إذا
فاتت الصلاة في المسجد أو في الدار، لا يجب قضائها في أحدهما. ومبنى هذا الأمر،
على أن خصوصية المكان، حيثية تقييدية للمطلوب، أو حيثية تعليلية للطلب.
ولا ينبغي الريب في أنها ليست حيثية تقييدية للمطلوب، وإلا لوجب الدخول
في هذه الأماكن، تحصيلا للصلاة المستحبة، بحيثية وقوعها في هذه الأماكن، بل
حيثية تعليلية قطعا. بمعنى أنه متى فرض الكون في هذه الأماكن، يجب القصر أو
الاتمام.
ومقتضى تعليلية الحيثية للطلب: أنه ليست من شؤون الفعل فيجب القضاء
تخييرا، ولو في غير هذه الأماكن. إلا أن يقال: إن غاية كون الحيثية تعليلية وشرطا
للوجوب عدم لزوم تحصيلها، وكون التقييد بها بعد حصولها جعليا لكونه قهريا، إلا
أن دخل التقيد في فرض الحصول في صيرورة الاتمام ذا مصلحة معقول، بل ربما لا
يشك الإنسان في أن شرافة المكان، أثرت في فضيلة الاتمام. فحصول مصلحة
الاتمام، المساوية لمصلحة القصر، مشكوك بالاتمام في خارج هذه الأماكن. ولا
يعقل تكلف دليل " اقض ما فات كما فات " (1) لما يشك في أنه كما فات.
ومنه يعرف أن الأحوط لو لم يكن أقوى الاقتصار في باب القضاء تماما على
تلك الأماكن.
وأما دعوى الاقتصار على القصر، فمنشؤها، احتمال تقييد مصلحة الاتمام التي
بها صارت عدلا للقصر، بمصلحة الوقت فلا يمكن تداركها في خارجه. وهذا

(1) الوسائل: ج 5 ص 359، الباب 6 من أبواب قضاء الصلاة، الحديث 1 مع تفاوت في اللفظ.
173

الاحتمال في غير ما نحن فيه. وإن كان ملغى بنفس دليل القضاء، لأن مبنى
القضاء على إلغاء ذلك، إلا أن إلغاء هذا الاحتمال هنا، لا يكون إلا باطلاق
دليل القضاء، لما إذا كان للفائتة فردان تخييرا، وربما يناقش في الاطلاق، والأقوى
ثبوته، وإن كان رعاية الاحتياط بالاقتصار على القصر مما لا ينبغي تركه.
ثالثها: إذا بقي من الوقت أربع ركعات، فهل هو على تخييره حتى يصح منه
العصر إتماما ثم يقضي صلاة الظهر، أم يتعين عليه القصر فيهما؟ ولا منشأ للأول
إلا إطلاق أدلة التخيير إلا أن الظاهر، تعين الثاني، إذ دليل التخيير متكفل
للتخيير بين القصر والاتمام صحيحا بشرائطهما، ومن الشرائط: ترتب العصر على
الظهر، ولا يعقل التخيير بين القصر والاتمام في العصر الفاقد لشرطه فيتعين القصر
فيهما، الواجدين للشرائط فتدبر.
الحادي عشر: إذا سافر بعد دخول الوقت هل يجب عليه الاتمام اعتبارا بحال
التعلق، أو يجب عليه القصر اعتبارا بحال الأداء؟ فيه قولان مشهوران ومنشؤهما
اختلاف الأخبار وبعضها من الطرفين وإن كان قابلا للتأويل، إلا أن بعضها
الآخر من الطرفين غير قابل للتأويل.
فمن الأول رواية بشير النبال " قال: خرجت مع أبي عبد الله (عليه السلام) حتى
أتينا الشجرة فقال لي أبو عبد الله (عليه السلام): يا نبال، قلت: لبيك، قال: إنه لم
يجب على أحد من أهل هذا العسكر أن يصلي أربعا غيري وغيرك، وذلك أنه
دخل وقت الصلاة قبال أن نخرج " (1) وهي مضافا إلى ظهوره الغير القابل
للتصرف، معللة بما هو كالضابط. ومنه أيضا موثقة عمار (2) المتقدمة في أوائل
أحكام المسافر في المبحث الثالث (3) فراجع. ومنه ما في صحيحة زرارة " إذا دخل
على الرجل وقت صلاة وهو مقيم ثم سافر صلى تلك الصلاة التي دخل وقتها وهو

(1) الوسائل: ج 5 ص 536، الباب 21 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 10.
(2) الوسائل: ج 3 ص 62، الباب 23 من أبواب أعداد الفرائض الحديث 1.
(3) ص 373.
174

مقيم أربع ركعات في سفره " (1) وهي في غاية الصراحة في أن العبرة بحال تعلق
الوجوب من دون قبول تأويل.
ومن الثاني الدال على أن العبرة بحال الأداء بحيث لا يقبل التأويل صحيحة
إسماعيل بن جابر " قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) يدخل علي وقت الظهر
وأنا في السفر فلا أصلي حتى أدخل أهلي، فقال صلى وأتم الصلاة، قلت: فدخل
علي وقت الصلاة وأنا في أهلي أريد السفر فلا أصلي حتى أخرج فقال: فصل
وقصر، وإن لم تفعل فقد والله خالفت رسول الله (صلى الله عليه وآله " (2).
منه صحيحة محمد بن مسلم " قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) الرجل يريد
السفر فيخرج حين تزول الشمس قال (عليه السلام): إذ أخرجت فصل
ركعتين " (3) ولا يخفى أن حمل ما تقدم من أخبار القول الأول على التقية كما حكي
عن بعضهم، بلا وجه، لأن القول الأول ينسب إلى أحد قولي الشافعي، والباقون
على أنه كسائر المسافرين يجوز له القصر، ومن الواضح تأخر عصر الشافعي عن عصر
الباقر والصادق (عليهما السلام) فلا معنى لحمل الأخبار على التقية، وأما ما في آخر
صحيحة إسماعيل بن جابر من قوله (عليه السلام): " وإن لم تفعل فقد والله
خالفت رسول الله (صلى الله عليه وآله " (4) فلا دلالة له على الخلاف منهم
لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه المسألة وظني والله أعلم أنه إشارة إلى
عدم تعين القصر عندهم، وأنها ليست بعزيمة بل رخصة كما وردت بمثل هذا
المضمون عدة من الروايات. منها: صحيحة زرارة " وفيها سمى رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) قوما صاموا حين أفطر وقصر، عصاة قال: (عليه السلام) وهم

(1) الوسائل: ج 5 ص 537، الباب 21 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 14.
(2) نفس المصدر الحديث 2 كلمة (الظهر) غير موجودة في الوسائل، وكلمة أهلي موجودة بعد
أدخل، وبدل (وإن) فإن.
(3) نفس المصدر الحديث 1 إلا أن في الوسائل (فقال).
(4) نفس المصدر الحديث 2.
175

العصاة إلى يوم القيامة وإنا لنعرف أبنائهم وأبناء أبنائهم إلى يومنا هذا " (1). ومنه
تعرف أن هذه الصحيحة المؤكدة بالقسم نص في المطلوب مع موافقته للكتاب
والسنة، مضافا إلى اختلاف مضامين الأخبار المعارضة لها، حيث إن ظاهر بعضها
أن العبرة بوقت الوجوب، وظاهر بعضها الآخر كموثقة عمار (2) أن العبرة بوقت
الفضيلة، ولا قائل بمضمونها كما حكي.
فالرجحان، دلالة، وسندا واعتضادا بالكتاب والسنة لأخبار القول الثاني.
ولو فرض التكافؤ فالمرجع عمومات القصر وإطلاقاتها، ولا مجال للتخيير
بين القصر والاتمام لصراحة الأخبار في التعيين قصرا أو تماما، وكيف يحمل على
التخيير مع قوله (عليه السلام): وإن لم تفعل فقد والله خالفت رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) (3) كما لا مجال للتخيير بين الخبرين لفرض موافقة الكتاب
والسنة التي هي من مرجحات أحد الطرفين.
نعم ربما يناقش في الاطلاقات بأن المراد منها الحاضر حال وجوب الاتمام،
والمسافر حال وجوب القصر، وأجاب عنه في الجواهر: " بأن الظاهر الحاضر حال
الأداء، والمسافر حال الأداء " (4) وينبغي أن يراد منه أن الحضور شرط لوجوب
الاتمام حدوثا وبقاء، والسفر شرط لوجوب القصر حدوثا وبقاء وإلا فلا معنى
لتقيد شرط الوجوب بالأداء وإلا رجع الأمر إلى طلب الحاصل.
وبالجملة الظاهر من ترتب الحكم على عنوان هو موضوع الحكم، انحفاظ ذلك
العنوان ما دام ذلك الحكم باقيا، لا لأنه إن أريد الحاضر في الزمن السابق والمسافر
سابقا فهو مجاز، بتخيل استعماله في ما انقضى عنه المبدأ، وذلك لأن الاطلاق إن
كان بلحاظ حال التلبس لم يكن مجازا بل التجوز فيما إذا قيل مسافر فعلا بلحاظ
قيام المبدأ به قبلا فتدبر.

(1) الوسائل: ج 5 ص 539، الباب 22 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 5.
(2) الوسائل: ج 3 ص 62، الباب 23 من أبواب أعداد الفرائض، الحديث 1.
(3) الوسائل ج 5 ص 535، الباب 21 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 2.
(4) الجواهر: ج 14، ص 354.
176

ومما ذكرنا تبين حال عكس المسألة وهو ما إذا دخل عليه الوقت وهو مسافر إلا
أن المشهور هنا هو الاتمام إذا دخل أهله بل في السرائر " أنه لا خلاف فيه منا
ولا من مخالفينا " (1)، ولم يعلم للمعرفة وجه مع دلالة بعض الأخبار الدالة على أن
العبرة بحال الوجوب على حكم المسألتين كصحيحة محمد بن مسلم (2) وبقية
الأخبار مختصة بالمسألة الأولى.
نعم في هذه المسألة ما حكم فيها بالاتمام إذا دخل كصحيحة العيص (3) وما
حكم فيها بالتفرقة بين ما إذا خرج الحاضر فيتم، وما إذا حضر المسافر فلا يقصر
كرواية المحاربي " قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) إذا خرج الرجل مسافرا
وقد دخل وقت الصلاة كم يصلي؟ قال: أربعا قال: قلت، وإن دخل وقت
الصلاة وهو في السفر؟ قال: يصلي ركعتين قبل أن يدخل أهله وإن وصل المصر
فليصل أربعا " (4) وعليه فيهون الخطب في هذه المسألة في الجملة، وإلا فمع صحيحة
محمد بن مسلم (5) الدالة على أن حكم التقصير في الحضر لا فائدة في وجوب بعض
ما يختص بتلك المسألة، بعض ما يختص بهذه المسألة، أو ما يظهر منه الفرق بينهما
فتدبر جيدا.
وأما ما ورد في هذه المسألة بالخصوص من التخيير كصحيحة منصور بن
حازم (6)، أو بالفرق بين سعة الوقت فيتم وضيق الوقت فيقصر، فكلاهما محمول
على التخيير بين القصر في الطريق والاتمام في الحضر مع سعة الوقت، وإلا قصر في
الطريق بشهادة صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) " في الرجل يقدم
من الغيبة فيدخل عليه وقت الصلاة، فقال (عليه السلام): إن كان لا يخاف أن

(1) السرائر: ص 74.
(2) الوسائل: ج 5 ص 534، الباب 21 من أبواب صلاة المسافر، الحديث.
(3) الوسائل: ج 5 ص 535، الباب 21 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 4.
(4) مستدرك الوسائل: ج 1، ص 503، الباب 15 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 2.
(5) الوسائل: ج 5 ص 534، الباب 21 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1.
(6) الوسائل: ج 5 ص 536، الباب 21 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 9.
177

يخرج الوقت فليدخل وليتم، وإن كان يخاف أن يخرج الوقت قبل أن يدخل
فليصل وليقصر " (1) والله أعلم.
الثاني عشر: لا شبهة في أنه إذا فاتته الصلاة في السفر بأن تركها في السفر إلى
أن خرج وقتها وهو في السفر، أنه يقضيها قصرا، وكذا إذا فاتته في الحضر في تمام الوقت يقضيها تماما، وكذا لا شبهة في أن العبرة في الأداء إذا كان بحال الوجوب،
فالفائت منه هو ما وجب عليه أدائه، وإنما الكلام فيما إذا كان الاعتبار بحال الأداء
وخرج الوقت بعد حضوره فإنه ربما يقال بالتخيير بين قضائه قصرا وتماما نظرا إلى
أن الملاك في القضاء فوت الواجب في مجموع الوقت لا في جزئه الأخير، إذا لا
تكليف بالفعل في كل جزء جزء من الوقت حتى يقال إن ترك الفعل فيما عدا الجزء
الأخير بترخيص من الشارع فلا قضاء له بل المكلف به هو الفعل في مجموع الوقت
وكما يصدق عليه أنه ترك الاتمام في مجموع الوقت كذلك يصدق عليه أنه ترك
القصر في مجموع الوقت فلا موجب لتخصيص الفوت بخصوص الترك في آخر
الوقت هكذا أفاد بعضه الأعلام (قدس سره).
والجواب: إن الجواب الموسع وإن كان كالكون المتوسط بين المبدأ والمنتهى لا
كالحركة القطعية المبنية على تقطع الزمان فالواجب طبيعي الصلاة بين الحدين من
الزوال إلى الغروب لا أفرادها المحدودة بحدود زمانية بنحو التخيير الشرعي فلذا لا
خصوصية للفوت في الجزء الأخير بل المناط فواتها بين الحدين إلا أنه لا شبهة في
تبدل التكليف بتبديل موضوعه، فالمسافر يجب عليه القصر وجوبا موسعا بين الحدين
ما دام مسافرا، والحاضر يجب عليه الاتمام بين الحدين ما دام حاضرا، ومع تبدل
السفر بالحضور لا تكليف بالقصر ليكون له فوت، وكذلك مع تبدل الحضور بالسفر
لا تكليف بالاتمام ليكون له فوت، إنما كون لهما فوت مع عدم تبدلهما بين
الحدين وإنما يصدق فوات التكليف ببقاء التكليف إلى زمان انقضاء وقته
ومنه يندفع ما قيل من أن الفوت كالأداء فكما أنه إذا صلى القصر في السفر

(1) الوسائل: ج 5 ص 536، الباب 21 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 8.
178

كان أداء كذلك إذا تركه يكون فوتا، وكما أنه إذا صلى التمام في الحضر كان
أداء، كذلك إذا تركه يكون فوتا، وكما لا اختصاص للأداء بآخر الوقت كذلك لا
اختصاص للفوت بآخر الوقت لمكان التقابل بين الأداء والفوت.
وجه الاندفاع: إن فرض الأداء فرض انقطاع التكليف المنافي لفرض التبدل،
ومع فرض التبدل لا أداء للتكليف السابق ولا فوت، فهما متقابلان بلحاظ بقاء
التكليف في تمام الوقت فتدبره فإنه حقيق به. وهذا آخر ما أردنا إيراده فيما يتعلق
بصلاة المسافر. ونسئل الله جل جلاله العفو عن الجرائم والجرائر والحمد الله أولا
وآخرا والصلاة على نبيه وآله باطنا وظاهرا.
20 جمادى الأولى 1359.
179