الكتاب: كتاب الصلاة
المؤلف: تقرير بحث النائيني ، للكاظمي
الجزء: ١
الوفاة: ١٣٥٥
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤١١
المطبعة:
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
ردمك:
ملاحظات: من إفادات الميرزا محمد حسين الغروي النائيني (وفاة ١٣٥٥)

كتاب الصلاة
من إفادات قدوة الفقهاء والمجتهدين آية الله في الأرضين
الميرزا محمد حسين الغروي النائيني
1355 ه‍. ق
تأليف
الفقيه المحقق الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني
1365 ه‍. ق
الجزء الأول
مؤسسة النشر الاسلامي
التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
1

كتاب الصلاة
(ج 1)
تقرير: درس آية الله العظمى الميرزا محمد حسين النائيني
المقرر: آية الله المحقق الشيخ محمد علي الكاظمي
الموضوع: فقه
تحقيق ونشر: مؤسسة النشر الاسلامي
عدد الأجزاء: جزءان
عدد الصفحات: 461
الطبعة: الأولى
المطبوع: 1000 نسخة
التاريخ: 1411 ه‍. ق
مؤسسة النشر الاسلامي
التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
2

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله باعث الرسل رحمة للعالمين، والصلاة التامة على خاتمهم
وأشرفهم محمد المصطفى وآله الطيبين الطاهرين، واللعنة على أعدائهم أجمعين.
وبعد، لا يخفى على أصحاب الفضيلة من طلاب الحوزات العلمية الكرام إلى أن
هذا الكتاب الذي بين يديك هو من جملة تقريرات المحقق المدقق آية الله العظمى
الشيخ محمد علي الكاظمي في " الصلاة " من إفادات شيخ المجتهدين وقدوة المحققين
الميرزا النائيني قدس سره الذي فضله أشهر من أن يذكر. والذي لا يكاد يستغنى
عن تحقيقاته كل من تأخر عنه من الفقهاء وأصحاب النظر المجتهدين أعلى الله
كلمتهم في شتى المجالات، وقد جاء به على أحسن ما يرام.
ففي الوقت الذي حافظ في تقريره على جزالة التعبير وفصاحة البيان وسهولة
الألفاظ لم يتنكب جادة التعمق الدقيق وطريقة أصحاب النظر والتحقيق، فصارت
تقريراته موشحة بالتحقيقات والنكات العلمية اللطيفة. ولكن من المؤسف في المقام
أن بعض أبحاثه جاءت ناقصة، ففي الوقت الذي يذكر في بعض أبحاثه ويقول: إن
هنا مسائل.. نجده لا يشير إلا إلى مسألة واحدة.
3

وشئ آخر أن هناك بعض الحذف وقع في المخطوطة التي اعتمدنا عليها وإن كان
شيئا يسيرا لكن لا بأس من التنبيه عليه.
ويحق لمؤسسة النشر الاسلامي أن تفتخر بطبع ونشر هذا السفر بعد تحقيق متونه
وتقويم نصوصه واستخراج منابع أحاديثه وأقواله وتنظيم فهارسه، راجين بذلك
انتفاع أوساطنا العلمية المباركة، ومن الله نستمد العون والتوفيق.
مؤسسة النشر الاسلامي
التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
4

آية الله الكاظمي
رائد العلم والاجتهاد
عاش هذا الرائد الفذ، وهو يتسنم هذه المكانة المرموقة في حاضرة النجف
الأشرف عاصمة العلم والدين، ومعقل الجهاد والاجتهاد.
وظلت تثقل هذه الحاضرة الاسلامية ميزتان لم تتميز بها حاضرة علمية أخرى
في العالم الاسلامي كله.
إحداهما: إنها مدفن الإمام علي عليه السلام ومزاره، وعتبته المقدسة، وسدته
العالية.
وأخراهما: إنها موطن العلم، ومعقل الدين، ومطمح أنظار المسلمين.
أما الميزة الأولى: فلأنها مهبط الخير والبركة، والأمان والايمان، والبقعة التي
يستلهم منها المسلمون نهج الهداية والحق، والسبيل الأقوم إلى الدين.
وأما الميزة الأخرى: فلأنها كعبة الرواد والمتعطشين، ممن قيض الله فيهم روح
الاجتهاد في العلم، ونزعة التفقه في الدين، ليكونوا مصابيح للهداية، ونذرا للحق،
حتى يرجع المسلمون إليهم في معالم دينهم، وهم حفظة التراث، وحملة الشريعة،
وخزان العلم، والأمناء على القيادة الاسلامية.
حاضرة النجف الأشرف:
وقد اختار السلف الصالح من العلماء هذه المدينة المقدسة عاصمة للعلم،
ومعقلا للجهاد والاجتهاد، إذ كان الراقد فيها باب مدينة علم الرسول صلى الله
عليه وآله وقائد جهاده، وإمام أمته، قد سدت الأبواب إلا بابه، ذلك الذي يؤتى
منه الوحي والرسالة، والعلم والحكمة.
5

وعلى هذا الصعيد الطيب بزر علماء أفذاذ، انتهت إليهم المرجعية والقيادة
الاسلامية العامة، تحولت بجهدهم علوم الشريعة، حتى بلغت ذروة الكمال
والابداع، والحركة المفتوحة الدائية، التي ظلت تواكب الحياة وتسايرها، وتعالج
مشاكلها، وتستجيب إلى متطلباتها، كما ظلت طريقها الأمثل إلى الهداية والايمان.
وكان هذا الاجتهاد المتجدد في الشريعة من شأنه أن يصلح حياة المسلمين
بالمعايير الشرعية، ويقم شؤونها على معرفة ما أحل الله وما حرم، وعلى ما يجب
الاجتناب منه، وما يلزم الأخذ به، وهو ينير معالم الطريق، ويرشد المسلمين إلى
صوابهم، ويجنبهم متاهات الضلالة، لئلا يسلكوها، كما سلكها غيرهم من الأمم
والشعوب، وحتى لا يفقدوا شخصيتهم وقدسيتهم، وحياتهم الحرة الكريمة التي
خططها لهم الاسلام، ولئلا ينحرفوا عن مسيرتهم إلى السعادة الأبدية، وإلى الزلفى
من الله.
ميزة الدراسة الحرة:
ولضمان هذه المسيرة الاسلامية، ذات القيادة الرائدة: عهد إلى الحوزة العلمية
أن تقوم برسالة التفقه في الدين، والاجتهاد في الشريعة.
ومن هذا المنطلق تميزت أروقة هذه الحوزة بطلب العلم للعلم، والتفقه في
الدين للدين، كما تميزت بالدراسة الحرة ذات العمق والأصالة، والتجرد عن
الأغراض، حتى درج طلابها على أن يؤثروا الفقر على الغنى، والهجرة عن الأوطان،
تفرغا للتحصيل وطلبا للعلم في سبيل إعلاء كلمة الاسلام.
وكانت واقعته هذه الدراسة الحرة أن امتاز أسلوبها بالجدل والنقاش، وتقضي
الحقائق والوجوه المختلفة التي تحتملها المسائل العلمية المطروحة، ثم اختيار ما هو
الأحرى بالدليل، والألجن بالحجة، والأصلح بالأخذ والاعتبار.
وهكذا يمضي الطالب في تحصيل العلم، تنمو مواهبه، وتتفتح آفاقه، لا يغفل
عن قول أو احتمال، يستعرض الحقائق العلمية بجهد متواصل، يسير غورها،
6

ويسكنه دقائقها، الأمر الذي كان يدفع بالحوزة العلمية دائما إلى الجدة والتحول،
والابداع في فهم الشريعة جديدا بجديد، وفق تطور الحياة، ومستلزماتها الزمنية.
تقييم الفقه الاسلامي:
وواضح من أن الفقه الاسلامي هو القانون الإلهي، الذي يستوعب جميع
مدارج الحياة، على مستوى التعامل مع الله عبادة وطاعة، والتعامل مع المجتمع
تعايشا ومسالمة وعلى هذا الأساس فإن الاهتمام في تحري الحقائق الفقهية دقة
وإحاطة مما تدفع إليه الضرورة القصوى في متابعة العمل بها من جانب المسلمين.
إذ لا يمكن لفقيه عادل أن يفتي من جراب النورة، أو أن يستحسن حكما من دون
حجة شرعية، أو مبرر فقهي، حتى يكون ذلك منجزا في حق المكلفين، ومعذرا
للمفتين، إن أصاب فله أجران: أجر الإصابة وأجر الاجتهاد، وإن أخطأ فله
أجر واحد هو أجر الاجتهاد. يتحرى المجتهد هذه المحاولة في رعاية الحجج والذرائع،
تلك الشئ أجاز الشارع ممارستها في الوصول إلى حكم الله تعالى.
ومما تجدر الإشارة إليه، أنه ليس معنى الاجتهاد إصابة واقع معين محفوظ في
اللوح المحفوظ، وإلا للزم أن يتحد المجتهدون في إصابة حكم الله الواقعي وهم
يختلفون في الفتيا والقول بالتصويب أيضا يستلزم أن تكون الأحكام الإلهية تابعة
لآراء المجتهدين وظنونهم. ووظيفة المجتهدان يلتمس الطرق والأمارات، ويتبنى
الأصول العامة الموضوعة من قبل الشارع. فإذا ما حكم ذلك فيما توصل إليه من
حكم فهو حكم الله تعالى في حق المكلفين من عباده.
مقومات هذه الشخصية العملاقة:
وفي هذه الحاضرة المتميزة لمع آية الله العظمى الكاظمي، ونبغ في الفقه
والأصول، حتى أصبح رائدا للعلم والاجتهاد، وأسوة للكمال والفضيلة.
وكان حقا أحد العلماء المتفكرين، والقادة الهداة المبدعين، بما استطاع أن يقدم
7

لرواد العلم من مقومات الاجتهاد، وقد خلف وراءه آثارا فريدة، من مبان للعلم،
وحملة للفقه.
قال المحقق آغا بزرگ الطهراني قدس سره: هو الشيخ محمد علي بن الشيخ
حسن بن الشيخ محمد الجمالي القابچي الخراساني الكاظمي عالم كبير ومدرس
جليل.
كان جده الشيخ محمد ممن له شرف الخدمة في مرقد الإمامين الكاظمين ومن
أسرة تعرف ب‍ " آل الجمالي " ظهر فيها بعض أهل الفضل والعلم منهم الشيخ عباس
الذي كان مشتغلا في سامراء برهة وفي الكاظمية والنجف أيضا، وكان من قدماء
أصدقائنا، وهو والد الدكتور محمد فاضل الجمالي الذي هو من رجال التربية ثم
السياسة المعروفين في العراق. كان الشيخ حسن من أجلاء علماء عصره وقد تقدم
ذكره في ص 435 وكان له ثلاثة أولاد الميرزا مهدي وهو كبيرهم، والمترجم له وهو
الأوسط، والحاج محمد جواد وهو الأصغر. وكلهم من العلوية الجليلة حفيدة العلامة
السيد صادق الطباطبائي المعروف بالسنكلجي صاحب المقبرة المشهورة في مشهد
عبد العظيم الحسني عليه السلام بالري، كما حدثني به المرحوم المترجم له.
ولد كما أخبرني به نقلا عن خط والده في سامراء في سنة 1309 ه‍. ونشأ على
أبيه الجليل فمال إلى طلب العلم دون أخويه، فلازم خدمة والده سفرا وحضرا،
واقتبس من معارفه كثيرا، وأكمل الأوليات في مشهد الرضا عليه السلام، ثم حضر
في سطوح الفقه والأصول على السيد آغا حسين القمي والميرزا محمد ابن شيخنا
الكاظم الخراساني، وبعثه والده بعد ذلك إلى النجف الأشرف للتكميل فوصل
كربلاء في أوائل سنة 1338 وبقي فيها شهرين لازم فيهما بحث الشيخ محمد تقي
الشيرازي، ثم هبط النجف فحضر حلقة درس كل واحد من مشاهير علمائها أياما
للاختبار، فلم يرق له منها إلا ما كان رجحه له والده وأشار به عليه، وهو درس
الحجة الميرزا محمد حسين النائيني، فلازم تمام دروسه في مباحث الأصول والفقه
ليلا ونهارا، وكان يكتب تقريرات دروسه كلها، وتقدم في الفضل وسطع نجمه،
8

وكثر فضله ونما علمه، وأشير إليه بين تلامذة النائيني، ولم يكن فيهم غير أفاضل
المشتغلين وأجلاء المحصلين إلا عددا يسيرا، وكان الغالب فيهم والظاهر عليهم التأثر
بأستاذهم الأجل المقدس من الجمع بين العلم والعمل، في تلك المدرسة المثلى نشأ
المترجم له، وعلى ذلك العالم الفحل تخرج، وبين أولئك الأعلام نبغ وتفوق،
وتفتحت مواهبه وقابلياته، وعرف بالتحقيق وعمق الفكر ودقة النظر، وحلاوة
المنطق، وحسن البيان والتحرير، فأخذ يقرر تقريرات أستاذه لغيره من تلامذة
الشيخ ومن دونهم في الفضل، وصار مدرسا مشهورا على عهد أستاذه، وعالما مبرزا له
في الأوساط العلمية مكانه الرفيع واحترامه اللائق.
وانتقل إلى رحمة الله ورضوانه ذلك العبد الصالح والحبر البحر، وفجع به
الاسلام وخسر به العلم والدين دعامة من أكبر وأرسخ دعائمه، فبرز المترجم له
واتجهت أنظار الطلاب والمحصلين المجدين إليه فاستقل بالتدريس وانصرف إليه
بكله، وتهافت عليه المشتغلون تهافت الفراش على النور لميزاته التي أشرنا إليها سابقا،
ولما كانوا يرونه من رعاية أستاذه له وعنايته به واعتماده عليه، وكان مجلس درسه
من أكبر مجالس الدرس في النجف وأميزها كمية وكيفية، واشتغل بالتدريس ليلا
ونهارا، وكان دائم المذاكرة والمحاورة أينما حل، فما استقر به المجلس في مكان ما إلا
وسارع إلى تحرير مسألة ودخل مع العلماء في النقاش، وكان مواظبا على الحضور في
مقبرة أستاذه النائيني في الليالي مع جمع آخر من أفاضل تلامذة الشيخ ويطرحون فيما
بينهم بعض الفروع المهمة ويستمرون على الخوض والكلام في أطراف الموضوع إلى
أن يحين وقت غلق أبواب الصحن فيتفرقون.
قضى المترجم له بعد وفاة أستاذه عشر سنين على هذا المنوال من خدمة العلم
والتضحية بالنفس في سبيله مواصلا العمل دون ملل أو كلل، ودون انقطاع
واستراحة حتى ابتلي بالسكتة القلبية من كثرة الاجهاد وأخذت النوبات تعاوده
وقضت عليه في المرة الثالثة عصر يوم الخميس الحادي عشر من ربيع الأول سنة
1365 ه‍، فكانت خسارة العلم به جسيمة والمصاب كبيرا، وغسله تلميذه ووصيه
9

الفاضل السيد جعفر بن محمد المرعشي ودفن في مقبرة أستاذه النائيني، وأرخ وفاته
السيد محمد حسن آل الطالقاني بقوله:
شريعة الحق أصيبت والهدى * أركانه الراسخة اليوم هوت
قضى علي فالعلوم بعده * راياتها حزنا عليه نسكت
(فرد) به الكل أصيب فالورى * بفقده أرخته قد خسرت
وفي قوله " فرد.. الخ " إشارة إلى إضافة إلى مجموع أرقام التاريخ.
وآثاره قيمة فقد كتب من تقريرات أستاذه تمام دورة الأصول، وطبع منها في
حياته وعلى عهد أستاذه في سنة 1349 مجلدان باسم " الفوائد الأصولية " أحدهما في
القطع والظن، والثاني في الأصول العملية كما ذكرناه في (الذريعة) ج 4 ص 380
وعليه تقريظ أستاذه وثناؤه عليه، وطبع بعد ذلك الجزء الثالث في مباحث الألفاظ
وبه تمت دورة الأصول (1). وأعيد طبع بعضها، ونشرت له ترجمة في مقدمته بقلمي (2)
ما قيل حول الكتاب:
قال المحقق الآغا بزرگ الطهراني رحمه الله:
" قد كتب في الفقه تمام تقريرات أستاذه في (كتاب الصلاة) فقد هذبه
ونقحه وعزم على طبعه ولم يمهله الأجل، وكتب من تقريراته أيضا كثيرا من كتاب
التجارة لكنه لم يتمه وله " رسالة في الصلاة المشكوك فيه " مستقلة غير
ما هو تقرير أستاذه، وغير ذلك (3).
أولاده:
وقد أعقب آية الله الكاظمي أولادا عديدين نخص بالذكر منهم حجة الاسلام
والمسلمين الشيخ عباس الجمالي، وهو اليوم يقوم بالتدريس في السطوح العالية
وإقامة الجماعة في طهران.

(1) وقد وفقنا لطبع الدورة الكاملة للأصول مباحث الألفاظ والأصول العملية في 3 مجلدات وهي منقحة
(2) نقباء البشر: ج 4 ص 1386 1390.
(3) المصدر السابق: ص 1390.
10

بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
كتاب الصلاة
[وفيه أربعة مقاصد:]
[المقصد الأول]
[في أقسام الصلاة]
وقبل الدخول في المقصد و ينبغي تمهيد مقال يشتمل على مقدمتين:
الأولى
أنه وإن قد أطالوا الأعلام في البحث في شرح لفظة الصلاة وبيان معانيها
اللغوية والعرفية إلا أن الظاهر أنه لا ثمرة مهمة في ذلك بعد معلومية المراد منها،
وأنه صلى الله عليه وآله استعملها في أول زمان البعثة في هذه العبادة الموظفة
المخترعة الإلهية التي هي رأس كل عبادة وميزان كل عمل. فكلما وردت هذه
اللفظة في الكتاب والسنة فالمراد منها هذا المعنى الذي نتعبد به صباحا ومساء إلا
أن تقوم قرينة على أن المراد منها ليس هذا المعنى، ولا حاجة إلى إتعاب النفس
وإثبات أن هذه العبادة كانت في الشرائع السابقة بزيادة ونقصان وأنها كانت
11

تسمى بهذه اللفظة حتى تكون حقيقة لغوية إذ مع أن إثبات ذلك لا يهمنا
لا طريق لنا إلى إثباته، إذ تسمية تلك العبادة التي كانت في تلك الشرائع بلفظ
الصلاة غير معلوم، وعلى تقدير العلم بذلك لم يعلم أن إطلاق لفظ الصلاة على
ما كانوا يتعبدون به في الشرائع السباقة بأي عناية كان، إذ من المحتمل أن يكون
إطلاق الصلاة عليه بعناية معناها اللغوي وهو الدعاء لا من باب كونها وظيفة
خاصة إلهية وعبادة مخترعة شرعية كما هو كذلك في شرعنا، فإن ما وظف في
الشرائع السابقة لم يعلم ما هو، فلعله كان سنخ من الدعاء، فإطلاق الصلاة عليه
من باب المعنى اللغوي، وهذا بخلاف الاطلاق في شرعنا، فإنه ليس من ذلك
الباب قطعا، وإنما لفظ أطلق على موضوع خاص ومعنى مخصوص مغاير للمعنى
اللغوي.
وكيف كان فقد عرفت أن إطلاق لفظ الصلاة على هذه العبادة الخاصة
كان من أول الأمر وأول البعثة كما يظهر ذلك من بعض التواريخ والأخبار،
فلا بد من حمل لفظة الصلاة على هذا المعنى كلما وردت في الكتاب والسنة،
ولكن بعد اشتهارها في ذلك في لسانه صلى الله عليه وآله ولسان تابعيه إلا أن
يقوم دليل على خلافه.
المقدمة الثانية
قد اختلفت كلمات الأصحاب في أعداد الصلوات المفروضة، فربما أنهاها
بعض إلى تسعة وآخر إلى سبعة وغير ذلك مما يظهر للمتتبع، هذا ولكن لا بد أن
يكون التقسيم باعتبار اختلاف القيود والخصوصيات المأخوذة فيها الموجبة
لاختلافها في نوعها بحسب الجعل الشرعي.
12

وأما الخصوصية الموجبة للاختلاف في الصنف والفرد فلا يكون ميزانا
للتقسيم وإلا لزادت الأقسام إلى ما لا يمكن إحصاؤها.
فيحنئذ نقول: هكذا ينبغي تقسيمها بأن يقال: هذه العبادة المخترعة الشرعية
التي تسمى صلاة إما أن تكون مفروضة وإما أن تكون مسنونة، ثم المفروضة إما
أن تكون مفروضة بحسب الجعل الأولي وإما أن يعرض لها وصف الفرض.
فالمفروضة بحسب الأصل والجعل الأولي على أنواع أربع:
الأول، الصلاة اليومية: ومنها الجمعة فإنها بدل عن الظهر في يومها وليست
هي مباينة لليومية في نوعها حتى تعد قسما آخر في قبالها كما عن بعض، بل هي
داخلة في اليومية حقيقة، ولا فرق في اليومية بين الأداء والقضاء من الولي وغيره،
فإن القضاء هي الصلاة اليومية، غايته أنه في خارج الوقت وليس خصوصية
الوقتية منوعة بحيث تكون صلاة الظهر في وقتها مباينة لها في خارج الوقت في
نوعها كما لا يخفى.
النوع الثاني، صلاة العيدين: فإنها باعتبار اشتمالها، على خصوصيات وقيود
تحفها من الكيفية والوقت تكون مباينة في نوعها لسائر الصلوات.
النوع الثالث، صلاة الآيات: أعم من الخسوف والكسوف والزلزلة وكل آية،
فإنها بجميع أقسامها نوع واحد مباين لسائر أنواع الصلاة، غاية الأمر يكون
الاختلاف في سبب الوجوب فإنه تارة يكون الخسوف وأخرى يكون غيره.
النوع الرابع، صلاة الطواف: فإنها وإن كانت بحسب الصورة كصلاة
الصبح إلا أنه باعتبار أخذ زمان ومكان خاص فيها تكون مباينة في نوعها لباقي
الصلوات.
فهذه الأنواع الأربع مفروضة بحسب الأصل.
وأما المفروضة بالعارض فكالمستأجر عليها والمنذورة وما شابهها، ولكن
13

ينبغي أن يعلم أنه ليست المفروضة بالعارض مباينة بالنوع للمفروضة بالأصل أو
المسنونة بل هي متحدة بالنوع لسائر الصلاة، وإنما الاختلاف نشأ من سبب
الوجوب كما تقدم، فلو نذر صلاة الظهر أو صلاة الليل أو استؤجر عليها لم يخرج
المنذور عن حقيقته قبل النذر بل هو باق على ما كان عليه من النوع، غاية الأمر
أنه عرض له وصف الوجوب بعد ما كان فاقدا له، ويلحقه بعض أحكام الصلاة
الواجبة من وجوب الاستقبال والاستقرار، وغير ذلك على ما يأتي تفصيله فيما بعد
إن شاء الله.
فعلم أن أنواع الصلاة المفروضة منحصرة في هذه الأربع، وصلاة الأموات
لا ينبغي عدها من هذه العبادة الخاصة والوظيفة المخصوصة بل هي أشبه شئ
بالصلاة بمعناها اللغوي. وينبغي حينئذ أن ترتب كتاب الصلاة على فصول
أربع، يبحث في كل فصل عن نوع من هذه الأنواع الأربع مع ما يلحقه من
الأحكام واللواحق.
14

الفصل الأول
في الصلوات اليومية
وفيه أركان، وينبغي أولا تعداد ركعاتها ونوافلها، فنقول:
لا إشكال ولا خلاف في أن عدد ركعاتها سبعة عشر في الحضر وإحدى عشر في
السفر بإسقاط الركعتين الأخيرتين من الرباعيات الثلاث، بل ربما كاد أن يكون
ذلك من ضروريات الدين.
وأما النوافل فالمشهور المعروف بين الأعلام أنها أربعة وثلاثون ركعة، ولكن
قد وردت طوائف من الأخبار أنها ثلاثة وثلاثون بإسقاط الوتيرة (1)، أو تسعة
وعشرون (2) بإسقاط أربع من نافلة العصر أيضا أو سبعة وعشرون بإسقاط ركعتين
من نافلة المغرب أيضا (3) هذا ولكن حيث كانت هذه الطوائف مما أعرض عنها
الأصحاب وإن كان يوجد بينها من الصحاح فلا بد إما من طرحها أو تأويلها بما
لا ينافي ما عليه المشهور بل كاد أن يكون من المجمع عليه بل هو كذلك في هذه

(1) الوسائل: ج 3 ص 32 باب 13 من أبواب أعداد الفرائص ح 5
(2) الوسائل: ج 3 ص 42 باب 14 من أبواب أعداد الفرائض، ح 2.
(3) الوسائل: ج 3 ص 42 باب 14 من أبواب أعداد الفرائض، ح 1.
15

الأعصار ويمكن حملها على زيادة مزية وتأكد استحباب في سبعة وعشرين بحيث
لم تكن تلك المزية في الساقط، لا أن الساقط لم يكن من النوافل المرتبة ولعله يشعر
إلى ذلك بعض الأخبار كقوله عليه السلام لا تصل أقل من أربع وأربعين
ركعة (1).. إلخ.
بقي الكلام في صلاة الغفيلة والوصية اللتين بين المغرب والعشاء وصلاة أربع
ركعات بعد العشاء فهل هي من الرواتب الموظفة في هذه الأوقات أو ليست
كذلك، بل ربما احتمل بعض عدم مشروعيتها، ولكن الانصاف أن صلاة
الغفيلة في غاية الاعتبار، لأن الشيخ رحمه الله ذكرها في مصباحه (2) الذي هو
متأخر عن التهذيب والاستبصار وكان عليه العمل، فهو في غاية القوة، ولا يصغى
إلى مناقشة بعض في مشروعيتها أو عدها من نافلة المغرب.
وأما الوصية فإنها وإن لم تكن بتلك المثابة من الاعتبار على ما ذكره شيخنا
الأستاذ مد ظله في بحثه إلا أنه ليس كذلك، فإنها قد ذكرها الشيخ رحمه الله
أيضا في مصباحه (3) فهي في الاعتبار الغفيلة.
وأما أربع ركعات بعد العشاء فقد وردت رواية (4) أن الصادق عليه السلام
كان يصليها بعد العشاء، ونقل عن بعض الأعلام العمل بها ومداومتها سفرا
وحضرا، ولا بأس به بعد جبر ضعف الرواية لو أن بعمل بعض الأصحاب وبعد
التسامح في أدلة السنن. نعم جعلها من الرواتب الموظفة الليلية مشكل، والأمر في
ذلك سهل.
ثم إنه لا إشكال في سقوط نافلة الظهر والعصر في السفر في غير مواطن التخيير

(1) الوسائل: ج 3 ص 43 باب 14 من أبواب أعداد الفرائض، ح 4.
(2) مصباح المتهجد: ص 94.
(4) الوسائل: ج 3 ص 43 باب 14 من أبواب أعداد الفرائض، ح 4.
(3) مصباح المتهجد: ص 94.
16

وعدم سقوط نافلة المغرب والصبح، إنما الكلام في سقوط نافلة العشاء فيه وسقوط
نافلة الظهر والعصر في مواطن التخيير وسقوط أربع ركعات التي تزاد في نافلة
الظهر يوم الجمعة في السفر.
أما سقوط نافلة العشاء في السفر فالمشهور على سقوطها بل ادعي الاجماع
عليه، للأخبار المستفيضة الدالة على أن كل صلاة مقصورة في السفر تسقط نافلتها
وفي بعضها أن الصلاة في السفر ركعتان ليس قبلهما ولا بعدهما شئ إلا
المغرب (1) ولاشعار خبر أبي يحيى الحناط قال: سألت الصادق عليه السلام عن
صلاة النافلة بالنهار في السفر، فقال: يا بني لو صلحت النافلة بالنهار في السفر
تمت الفريضة (2). فإنه يشعر بأن التمامية علة لثبوت النافلة، ومنه يعلم إشعاره بأن
القصرية علة للسقوط، فيدور الثبوت والسقوط مدار التمامية والقصرية.
وعن بعض الأعلام عدم سقوطها لرواية فضل بن شاذان عن الرضا
عليه السلام: إنما صارت العشاء مقصورة وليس تترك ركعتاها لأنها زيادة في
الخمسين تطوعا ليتم بها بدل كل ركعة من الفريضة ركعتان من التطوع (3). وفي
خبر ابن الضحاك أنه كان الرضا عليه السلام يصلي الوتيرة في السفر (4) وبهذين
الخبرين لأخصيتهما واشتمال الأول على التعليل خصوصا مع التسامح في أدلة
السنن لو كان فيهما ضعف يقوى في النظر عدم السقوط وإن ذهب شيخنا الأستاذ
مد ظله إلى السقوط عملا بتلك المطلقات.
وأما سقوط نافلة الجمعة في السفر فالأقوى سقوطها، للأخبار المستفيضة من

(1) الوسائل: ج 3 ص 60 باب 21 من أبواب أعداد الفرائض، ح 3 و 4 وفيهما اختلاف يسير.
(2) الوسائل: ج 3 ص 60 باب 21 من أبواب أعداد الفرائض، ح 3 و 4 وفيهما اختلاف يسير.
(3) الوسائل: ج 3 ص 70 باب 29 من أبواب أعداد الفرائض، ح 3.
(4) الوسائل: ج 3 ص 61 باب 21 من أبواب أعداد الفرائض، ح 8 نقلا بالمعنى.
17

سقوط النافلة النهارية، وهي منها. ومن هنا يعلم أنه لو قلنا بأن النوافل إنما هي
للوقت لا للفريضة على أضعف الاحتمالين كان الأقوى أيضا السقوط، لأن
الأخبار مصرحة في سقوط النوافل النهارية في السفر، سواء كانت للوقت أو
للفريضة. وأما سقوط النوافل في مواضع التخيير كالحرمين فهل تسقط مطلقا سواء
أتم أو قصر أو أنها لا تسقط مطلقا أو يفصل بين الاتمام فلا تسقط وبين التقصير
فتسقط؟ وجوه بل أقوال.
أما وجه السقوط مطلقا فلأن الصلاة في السفر بحسب الجعل الأولي مقصورة،
وأن الاتمام في المواطن الأربعة رخصة، فإذا كانت بحسب الجعل مقصورة فلا بد
من أن تسقط نافلتها، لما عرفت من الأخبار من أن كل صلاة مقصورة تسقط
نافلتها.
وبعبارة أخرى: أنه لا إشكال في أن الصلاة في الحضر قد أخذت بالنسبة
إلى الركعتين الآخرتين بشرط الانضمام، وفي السفر في غير المواطن الأربعة بشرط
لا، وفي المواطن الأربعة لا بشرط، ومعنى كونها لا بشرط أنه للمكلف إيقاعها
تماما، وحينئذ يقع الكلام في أن الأخبار الدالة على الملازمة بين القصر في
الفريضة وسقوط نافلتها هل تدل على الملازمة فيما يجب التقصير ويتحتم أو الأعم
من ذلك ومما يجوز التقصير؟
فإن قلنا بالأول فلا تكون دالة على سقوط النافلة في مواطن التخيير لعدم
تحتم القصر فيها، فلا بد من الرجوع إلى عمومات مشروعية النافلة. وإن قلنا
بالثاني فلا بد من سقوط لجواز التقصير في المواطن الأربعة، ولا يبعد استفادة هذا
المعنى من الأخبار.
وحاصله: أن النافلة تدور مدار تمامية الصلاة، بحيث كلما
وجبت الصلاة تماما فالنافلة تشرع. وربما قيل بأن النافلة تدور مدار فعل الصلاة
تماما، فإذا أتم في المواطن الأربعة فلا تسقط النافلة، وإن قصر فتسقط. وربما
18

يشعر إلى ذلك خبر أبي يحيى الحناط (1) المتقدم، فتأمل.
وعلى أي حال، الركن الأول من الفصل الأول في مقدمات الصلاة التي
يجب أو يستحب تحصيلها قبل فعل الصلاة، وفيه أبحاث:

(1) الوسائل: ج 3 ص 60 باب 21 من أبواب أعداد الفرائض، ح 4.
19

البحث الأول
في المواقيت
وفيه مقامات:
المقام الأول
في تعيين المواقيت من الوقت الاشتراكي والاختصاصي للظهر والعصر
فاعلم أنه لا إشكال في أن أول وقت الظهر هو الزوال بل الاجماع منعقد
عليه، وما ورد من الأخبار من القدمين (1) والمثل (2) وأمثال ذلك محمول على وقت
الفضيلة للمتنفل، وربما يأتي الإشارة إليه، وكذلك لا إشكال ولا خلاف في صحة
فعل العر عقيب فعل الظهر خلافا للعامة، وكذا في العشاءين يدخل وقت
المغرب بأول ذهاب الحمرة المشرقية، ويصح فعل العشاء عقيبها وإن لم يذهب
الشفق نعم نقل عن بعض الأعلام لزوم تأخير العشاء إلى ذهاب الشفق كما هو
كذلك عند العامة أيضا، ولكن قد تواتر الأخبار بصحتها قبل ذلك فلا ينبغي
الشك فيه، وكذلك لا إشكال في امتداد وقت الظهر إلى مقدار أداء العصر قبل

(1) الوسائل: ج 3 ص 102 باب 8 من أبواب المواقيت، ح 1 و 2.
(2) الوسائل: ج 3 ص 109 باب 8 من أبواب المواقيت، ح 33.
20

الغروب، وصحة فعل المغرب إلى مقدار أداء العشاء قبل الانتصاف أو قبل
الفجر، على تفصيل يأتي في محله. إنما الخلاف والاشكال في أن ما بين الزوال
والغروب وقت لمجموع الظهرين، وكذلك ما بين المغرب وانتصاف الليل وقت
لمجموع العشاءين، أو أنه يختص من أول الوقت بمقدار أداء الظهر كما أنه يختص
من آخر الوقت بمقدار أداء العصر، وكذلك في طرف العشاءين.
والأقوال في المسألة ثلاثة على ما يظهر من الكلمات:
قول بأن ما بين الزوال والغروب وقت لمجموع الفريضتين، غاية الأمر أنه يجب
فعل الظهر قبل العصر، ولازم هذا القول أنه لو نسي الترتيب وصلى العصر في
أول الزوال صحت صلاته بمقتضى حديث " لا تعاد " (1)
وقول بأنه يختص من أول الوقت بمقدار أداء الظهر كما يختص من آخره
بمقدار أداء العصر، بحيث لا تصح الشريكة فيه بحال من الأحوال، حتى أنه لو
فرض أنه صلى الظهر قبل الزوال على وجه صحيح، كما إذا دخل الوقت وهو بعد
لم يفرغ منها على ما يأتي تفصيله إن شاء الله لا تصح فعل العصر قبل مضي مقدار
أربع ركعات من الزوال، وكذلك لو صلى العصر قبل فعل الظهر على وجه يصح
على ما يأتي أيضا لا يصح فعل الظهر في الوقت الاختصاصي لها، وهذا القول هو
الاختصاص المطلق.
وقول ولعل أن يكون عليه المعظم هو الاختصاص في الجملة، بمعنى أنه لو لم
يصل الظهر على وجه صحيح لا تصح فعل العصر مطلقا ولو نسيانا في الوقت
الاختصاصي للظهر، وكذلك في آخر الوقت لو لم يصل العصر على وجه صحيح
لا يصح فعل الظهر في الوقت الاختصاصي للعصر. وأما لو فرض أنه قد صلى

(1) الوسائل: ج 4 ص 770 باب 29 من أبواب القراءة في الصلاة، ح 5.
21

الظهر على وجه صحيح قبل الزوال، وكذا صلى العصر على وجه صحيح قبل فعل
الظهر تصح فعل العصر عقيبها وإن وقعت المختص للظهر، وكذلك تصح
الظهر في الفرض الثاني وإن وقعت في الوقت الاختصاصي للعصر، وهذا القول
هو المعتمد وعليه تنطبق الأخبار بعد تقييد مطلقاتها وتحكيم نصوصها، فلا بد أولا
من ذكر الأخبار الواردة في المقام حتى يتضح حقيقة الحال، وهي على طوائف
أربع:
منها: ما دل على أن بمجرد الزوال يدخل وقت الظهرين، كرواية محمد بن علي
ابن الحسين بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: إذا زالت الشمس
دخل الوقتان الظهر والعصر، فإذا غابت الشمس دخل الوقتان المغرب والعشاء
الآخرة (1) وقد ورد بهذا المضمون عدة روايات بأسانيد مختلفة.
ومنها: ما دل على هذا المعنى بزيادة قوله عليه السلام " إلا أن هذه قبل هذه "
كرواية محمد بن يعقوب عن علي بن محمد ومحمد بن الحسن جميعا عن سهل بن
زياد عن إسماعيل بن مهران قال: كتبت إلى الرضا عليه السلام: ذكر أصحابنا
أنه إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر والعصر، وإذا غربت دخل وقت
المغرب والعشاء الآخرة، إلا أن هذه قبل هذه في السفر والحضر، وأن وقت
المغرب إلى ربيع الليل، فكتب عليه السلام: كذلك الوقت غير أن وقت المغرب
ضيق (2)، الحديث.
ومنها: ذلك أيضا بزيادة قوله عليه السلام " ثم أنت في وقت منهما جميعا حتى
تغيب الشمس " كرواية عبيد بن زرارة قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن

(1) الوسائل: ج 3 ص 91 باب 4 من أبواب المواقيت، ح 1.
(2) الوسائل: ج 3 ص 95 باب 4 من أبواب المواقيت، ح 20.
22

وقت الظهر والعصر فقال: إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر والعصر
جميعا، إلا أن هذه قبل هذه، ثم أنت في وقت منهما جميعا حتى تغيب الشمس (1).
ومنها: ما دل على اختصاص أول الوقت بالظهر وآخر الوقت بالعصر وكذا
العشاءان، كرواية داود بن فرقد عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام
قال: إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر حتى يمضي مقدار ما يصلي
المصلي أربع ركعات، فإذا مضى ذلك فقد دخل وقت الظهر والعصر، حتى يبقى
من الشمس مقدار ما يصلي المصلي أربع ركعات، فإذا بقي مقدار ذلك فقد خرج
وقت الظهر وبقي وقت العصر حتى تغيب الشمس (2) وبهذا التفصيل ذكر وقت
العشاءين في تتمة هذا الحديث.
فهذه جملة الأخبار الواردة في المقام، فينبغي أن يعلم ما يتحصل من مجموعها
وما يستفاد منها فنقول:
أما الطائفة الأولى فهي كالصريحة في أن بمجرد الزوال يدخل الوقتان، بحيث
يصلح هذا الزمان لوقوع أي من الصلاتين فيه، فتدل على صحة العصر في أول
الزوال، سواء كان قد صلى الظهر أو لم يصلها، فدلالتها على صحة العصر في أول
الوقت في الجملة بالصراحة، وإن كان بالنسبة إلى فعل الظهر وعدمه يكون
بالاطلاق والظهور، إذ لو لم تصح العصر في أول الوقت بوجه من الوجوه وحال من
الأحوال لم يبق مورد لقوله عليه السلام " إذا زال الزوال دخل الوقتان " وذلك
واضح.
وأما الطائفة الثانية وهي المشتملة على قوله عليه السلام " إلا أن هذه قبل

(1) الوسائل: ج 3 ص 92 باب 4 من أبواب المواقيت، ح 5.
(2) الوسائل: ج 3 ص 92 باب 4 من أبواب المواقيت، 7.
23

هذه " فلا إشكال في أنها ليست في مقام شرطية الترتيب من دون تصرف في
الوقت، فإنه لا وجه لذكر خصوص الترتيب من بين الشرائط، فينبغي حينئذ أن
يعد سائر الشرائط أيضا كالقبلة والطهور وأمثال ذلك، مع أنه يلزم بناء على
هذا أن يكون الاستثناء منقطعا، إذ لو كان في مقام بيان شرطية الترتيب فقط من
دون تعرض للوقت لا تكون جملة قوله عليه السلام " إلا أن هذه قبل هذه " مرتبطة
بما قبلها وهو قوله عليه السلام " إذا زال الزوال دخل الوقتان " فإن عقد المستثنى
منه إنما سيق لبيان الوقت المضروب للصلاة، والمفروض أن عقد المستثنى بناء على
هذا يكون لبيان شرطية الترتيب، وشرطية الترتيب لا دخل لها بالوقت المضروب
للفعل، فيكون الاستثناء منقطعا، وهو خلاف الأصل كما بين في محله، فلا بد من
أن يكون قوله عليه السلام " إلا أن هذه قبل هذه " في بيان جعل مقدار من الوقت
للأولى ويرتبط حينئذ بما قبله، فكأنه أراد عليه السلام بهذه الجملة تقييد ما أطلقه
أولا من قوله عليه السلام " إذا زال الزوال دخل الوقتان " وبيان أن أول الوقت
إنما هو للصلاة الأولى، ولذا عقبه عليه السلام بما في الطائفة الثالثة وهو قوله " ثم
أنت في وقت منهما جميعا حتى تغيب الشمس ".
فالطائفة الثالثة أقوى دليل على أن المراد من قوله عليه السلام " إلا أن هذه
قبل هذه " لبيان تخصيص أول بالأولى، وإلا لم يكن معنى لقوله عليه السلام " ثم
أنت في وقت منهما " إذا لو لم تكن الجملة لبيان تعيين الوقت وتخصيصه، بل لبيان
شرطية الترتيب فقط، فالمكلف من أول الوقت في وقت منهما جميعا والترتيب
شرط في تمام الوقت، فلا معنى لقوله عليه السلام حينئذ " ثم أنت في وقت منهما
جميعا " لأن التعقيب بكلمة " ثم " بعد بيان شرطية الترتيب لا موقع له إلا
لإفادة سقوط التريب وهو كما ترى ضروري البطلان، فالتعقيب ب‍ " ثم " إنما
يصلح إذا كان ما قبلها وهو قوله عليه السلام " إلا أن هذه قبل هذه " لبيان
24

تخصيص الوقت وجعله أوله للأولى، فينطبق على ما في الطائفة الرابعة، وهي
رواية داود بن فرقد وأمثالها مما دل على اختصاص أول الوقت بالظهر.
وظهر ضعف القول الأول وهو أن ما بين الزوال والغروب وقت لمجموع
الصلاتين، بحيث لو نسي الظهر وصلى العصر في أول الزوال تقع صحيحة
بمقتضى حديث " لا تعاد " (1) لأن قوله عليه السلام " إلا أن هذه قبل هذه "
لا تدل على أزيد من اشتراط الترتيب، وهو كسائر الشرائط عند النسيان يسقط،
ورواية داود بن فرقد الدالة على الاختصاص ضعيف السند، لا يقاوم ما دل من
المطلقات من أنه إذا زال الزوال دخل الوقتان (2). وجه الضعف: ما تقدم من أن
قوله عليه السلام " إلا أن هذه قبل هذه " يدل على الاختصاص بالبيان المتقدم،
وأما رواية داود بن فرقد فهي مع كونها معتبرة في نفسها كما يظهر بالمراجعة
يكفي في جبرها عمل المعظم بها.
بقي الكلام فيما استفاده المعظم من أن الاختصاص إنما هو فيما إذا لم يصل
صاحبة الوقت، وأما إذا كان قد صلاها بوجه صحيح تصح الشريكة في الوقت
الاختصاصي، في مقابل من يقول بالاختصاص المطلق بحيث لم تصح الشريكة
في الوقت المختص بحال من الأحوال وإن كان قد صلى صاحب الوقت قبله بوجه
صحيح، والحق أنهم قد أجادوا فيما استفادوه من الأخبار، ولا محيص عن
استفادة ذلك منها.
بيانه: أن رواية داود بن فرقد إنما تدل على الاختصاص المطلق بالاطلاق،
فإن قوله عليه السلام فيها " فإذا مضى ذلك فقد دخل وقت الظهر والعصر حتى

(1) الوسائل: ج 4 ص 770 باب 29 من أبواب القراءة في الصلاة، ح 5.
(2) الوسائل: ج 3 ص 91 باب 4 من أبواب المواقيت، نقلا بالمضمون.
25

يبقى.. إلخ " إنما يدل على عدم دخول وقت العصر حتى يمضي مقدار أربع
ركعات من أول الوقت، سواء قد صلى الظهر قبل ذلك على وجه صحيح أو لم
يصلها، فدلالتها على عدم دخول وقت العصر عند فعل الظهر قبل الزوال على وجه
صحيح، كما إذا ظن بدخول الوقت فشرع في الصلاة ودخل عليه الوقت وهو بعد في
الصلاة ولو قبل التسليم بناء على اعتبار الظن في باب الوقت إنما يكون
بالاطلاق، مع أن دلالة قوله عليه السلام " إذا زال الزوال فقد دخل الوقتان " بعد
تقييده بقوله " إلا أن هذه قبل هذه " على صلاحية فعل العصر في أول الوقت في
الجملة إنما يكون بالنصوصية، إذ لو لم تصح العصر في وقت الظهر بحال من
الأحوال لم يبق مورد لقوله " دخل الوقتان " فحينئذ لا بد من تقييد إطلاق رواية
داود بن فرقد بما إذا لم يصل الظهر على وجه صحيح قبل دخول الوقت، ويبقى
الصورة الأخرى وهي ما إذا صلى الظهر قبل ذلك داخلة في قوله عليه السلام
" إذا زال الزوال دخل الوقتان " وهذا بخلاف ما إذا أخدنا بإطلاق رواية داود،
فإنه لم يبق مورد حينئذ لقوله " دخل الوقتان " فمن باب تحكيم النص على المطلق
يستفاد من أفاده المعظم من أن الاختصاص إنما هو فيما إذا لم يؤد صاحبة الوقت.
وبعبارة أوضح: أن النسبة بين قوله عليه السلام " إذا زال الزوال دخل
الوقتان " وبين ما في رواية داود بن فرقد وإن كان هو التباين، لأن إطلاق قوله
" إذا زال الزوال دخل الوقتان " يشمل فيما إذا لم يصل الظهر، فهو بإطلاقه دال
على دخول وقت العصر وإن لم يكن قد صلى الظهر، وكذا إطلاق رواية داود بن
فرقد الدالة على الاختصاص يدل على عدم دخول وقت العصر قبل مضي مقدار
أربع ركعات من أول الزوال مطلقا سواء صلى الظهر أو لم يصلها، فالروايتان
متعارضتان باطلاقهما.
ولكن بعد تقييد عليه السلام " إذا زال الزوال دخل الوقتان " بقوله
26

عليه السلام عقيب ذلك كما في بعض الروايات " إلا أن هذه قبل هذه " فيخرج
صوره عدم فعل الظهر عن إطلاقه، ويبقى صورة فعل الظهر قبل الزوال على وجه
صحيح مشمولا لقوله " إذا زال الزوال دخل الوقتان " لعدم دخول هذه الصورة
تحت المقيد، وهو قوله " إلا أن هذه قبل هذه " لأن هذه الجملة إنما تصح فيما إذا
كان الفرضان بعد باقيين في ذمة المكلف، إذ لو لم يبق في ذمة المكلف إلا فرض
واحد لم يكن معنى لقوله " هذه قبل هذه " فالمقيد إنما يخرج صورة عن تحت
الاطلاق وهي ما إذا لم يفعل الظهر، وتبقى الصورة الأخرى وهي ما إذا فعل الظهر
على الوجه الصحيح مشمولة لقوله عليه السلام " إذا زال الزوال دخل الوقتان ".
وحينئذ تنقلب النسبة بين قوله " إذا زال الزوال دخل الوقتان " وبين ما في
رواية داود بالأعم والأخص المطلق بعد ما كانت بالتباين، فإن قوله عليه السلام
" إذا زال الزوال دخل الوقتان " يختص بعد التقييد بصورة واحدة، وهي دخول
وقت العصر في أول الزوال فيما إذا صلى الظهر بوجه صحيح قبل الزوال، ورواية
داود أعم من هذه، فإن مفادها أنه سواء صلى الظهر أو لم يصلها وقت العصر
لا يدخل، فيقيد إطلاقها بقوله " إذا زال الزوال دخل الوقتان " الذي هو يكون
بعد التقييد كالنص في دخول وقت العصر على تقدير صلاة الظهر، فتأمل جيدا،
هذا كله في أول الوقت.
وأما آخر الوقت فرواية داود بن فرقد وإن كانت قد دلت على اختصاص
مقدار أربع ركعات من الغروب للعصر خاصة، سواء كان قد صلى الظهر قبل
ذلك أو لم يصلها، ولازم ذلك عدم صحة الظهر في هذا الوقت لو كان قد صلى
العصر قبل ذلك على وجه صحيح، كما إذا خاف الضيق فصلى العصر بظن أنه
لم يبق من الوقت إلا مقدار أدائها فتبين خلافه وأن الوقت بعد باق، فإطلاق
رواية داود بن فرقد يدل على خروج وقت الظهر حينئذ فلا يصح إيقاعها أداء،
27

إلا أنه مع العلم بعدم الفرق بين أول الوقت وآخره وعدم القول به يقيد ذلك
الاطلاق بما في رواية الحلبي، قال: سألته عن رجل نسي الأولى والعصر جميعا ثم
ذكر ذلك عند غروب الشمس، فقال: إن كان في وقت لا يخاف فوت أحدهما
فليصل الظهر ثم يصلي العصر، وإن هو خاف أن تفوته فليبدأ بالعصر ولا يؤخرها
فتفوته فيكون قد فاتتاه جميعا، ولكن يصلي العصر فيما قد بقي من وقتها ثم ليصل
الأولى على أثرها (1).
فهذه الرواية صدرها وإن كان من أدلة الاختصاص إلا أن قوله عليه السلام
في ذيلها " ثم ليصل الأولى على أثرها " بإطلاقه يشمل ما إذا تبين بقاء الوقت، إذ
لم يفرض الإمام عليه السلام زائدا على خوف الضيق وهو ممكن التخلف، فالرواية
تدل بإطلاقها على صحة فعل الظهر في وقت العصر، وبعد تقييدها بما دل على
التوسعة في القضاء تكون مختصة بما إذا انكشف بقاء الوقت بمقدار فعل الظهر،
فتكون أخص مطلقا من رواية داود بن فرقد ويرتفع المحذور، فتدبر.
بقي الكلام في تحديد مقدار الوقت الاختصاصي للفريضة، مع اختلافها سفرا
وحضرا وخوفا، وكذلك اختلافها باعتبار اشتمالها على المستحبات وعدمه،
واختلاف المصلي باعتبار واجديته للمقدمات من الطهارة والستر وغير ذلك،
وباعتبار خفة لسانه وبطئه وغير ذلك من الاختلاف، والمسألة لم تكن محررة في
كلمات الأصحاب حق التحرير، وقد اختلفت كلماتهم في التعبير عن الوقت
الاختصاصي، فبعضهم عبر عن ذلك ب‍ " مقدار مضي أربع ركعات " كما عبر به
في رواية داود بن فرقد، وبعضهم عبر عنه ب‍ " بعد الفراغ عن صلاة الظهر " كما
عبر به أيضا في رواية الفضل عن العلل (2) أو " بعد أن صليت الظهر " كما في

(1) الوسائل: ج 3 ص 94 باب 4 من أبواب المواقيت، ح 8 وفيه اختلاف يسير.
(2) علل الشرائع: ج 1 ص 263 باب 182 علل الشرائع وأصول الاسلام قطعة من ح 9.
28

رواية أخرى نقل عن المستند (1)، فالمهم إنما هو بيان ما يستفاد من الأخبار فنقول:
ربما يتوهم أن قوله عليه السلام " بعد الفراغ عن صلاة الظهر " أو " بعد أن
صليتها " ظاهر في الفراغ الفعلي بما لها من المقدمات فتكون المقدمات داخلة فيها
تبعا، ويعتبر حينئذ في دخول وقت العصر مضي زمان من أول الوقت بحيث يفي
بصلاة الظهر مع ما لها من المقدمات، فلو صلى العصر قبل ذلك تقع في الوقت
الاختصاصي للظهر، بل ربما يدعى أظهرية هذه الأخبار عما في رواية داود بن
فرقد (2) من اعتبار مضي خصوص مقدار أربع ركعات الظاهرة في عدم دخول
المقدمات فيها، فيكون قوله عليه السلام " عند الفراغ من الصلاة التي قبلها " في
تحديد وقت العصر كما في رواية العلل (3) قرينة على أن المراد من " مضي
مقدار أربع ركعات " كما في رواية داود مضي الأربع بما لها من المقدمات، هذا.
ولكن الانصاف أن هذه الدعوى لا تستقيم.
أما أولا: فلمنع أظهرية قوله عليه السلام " عند الفراغ " في دخول المقدمات
تبعا عن قوله عليه السلام " مقدار مضي أربع ركعات " الظاهر في أن المدار على
مضي هذا المقدار من الزمان خاصة بلا دخل للمقدمات فيها، بل ربما يقال
بأظهرية ما في رواية داود الظاهر في التحديد بالزمان عن قوله " عند الفراغ "
الظاهر في التحديد بالفعل كما لا يخفى على المتأمل، فدعوى الأظهرية ممنوعة جدا.
وأما ثانيا: فلأن ليس كل أظهرية توجب التصرف في الظاهر، بل لا بد في
الأظهرية من أن تكون على وجه لو ألقي الأظهر والظاهر إلى العرف واتصلا في
الكلام، يفهم منه المراد بلا تأويل ومن غير أن يقع المخاطب في حيرة، بل بمجرد

(1) مستند الشيعة: كتاب الصلاة ج 1 ص 236.
(2) الوسائل. ج 3 ص 92 باب 4 من أبواب المواقيت، ح 7.
(3) علل الشرائع: ج 1 ص 263 باب 182 علل الشرائع وأصول الاسلام قطعة من ح 9.
29

صدورهما عن المتكلم يحمل الظاهر على الأظهر ويستفاد منه المراد كما إذا لم يكن
هناك إلا كلام واحد ظاهر في معنى واحد، فلو كانت الأظهرية بهذه المثابة تكون
حينئذ قرينة على التصرف في الظاهر وحمله على ما لا ينافي الأظهر، وأما لو كانت
هناك مجرد أظهرية من غير أن تصل إلى هذه المرتبة فلا تكون قرينة على التصرف
والحمل ولا يخرجه عن كونه تبرعيا، ففي المقام نقول:
إن مجرد أظهرية قوله " عند الفراغ " في دخول المقدمات تبعا على تقدير
تسليمها ليس بتلك المثابة من الأظهرية بحيث يوجب التصرف في قوله " حتى
يمضي مقدار أربع ركعات " وحمله على ما لا ينافي دخول المقدمات، والشاهد على
ذلك أنه لو جمع الفقرتين في كلام واحد، كأن يقال: لا يدخل وقت العصر حتى
يمضي مقدار أربع ركعات من أول الزوال فإذا فرغت من الصلاة يدخل وقت
العصر، لا يفهم العرف أن المراد من المضي إنما هو المضي بما للركعات من
المقدمات ويحكم أظهرية " إذا فرغت " على ذلك.
وأما ثالثا: فلأن ما استدل به من الأخبار على دخول المقدمات، كقوله
" عند الفراغ من الصلاة التي قبلها " (1) وأمثال ذلك أجنبية عن المقام، فلأنها
ليست بصدد بيان تحديد الوقت الاختصاصي وأن مقدار فعل الظهر والفراغ عنها
يختص بها وليس للشريكة فيه حظ ونصيب، بل تلك الأخبار إنما هي بصدد
إفادة أمر آخر، وهو الرد على العامة حيث يوجبون تأخير العصر إلى ما يزيد على
المثلين، فقوله عليه السلام " عند الفراغ من الصلاة الأولى " إنما هو للرد عليهم وأنه
ليس الأمر كما زعموا، بل يجوز فعل العصر عند الفراغ من الظهر ولا يجب تأخيرها
إلى المثل كما في بعض الروايات، أو المثلين (2) كما في بعضها الآخر المحمولة على

(1) الوسائل: ج 3 ص 117 باب 10 من أبواب المواقيت، ح 11.
(2) الوسائل: ج 3 ص 105 باب 8 من أبواب المواقيت، ح 13.
30

إرادة بيان الفضل للمتنفل وأنه المثل أو المثلان على ما سيأتي تفصيله وكذا
لا يجب تأخيرها بما يزيد على ذلك كما يفعله العامة.
فالروايات إنما هي بصدد بيان جواز فعل العصر عقيب الفراغ من الظهر، من
دون انتظار المثل أو المثلين أو أزيد، كما يشعر إليه قوله عليه السلام في رواية
العلل " ولم يكن للعصر وقت معلوم مشهور مثل هذه الأوقات الأربعة، فجعل
وقتها عند الفراغ من الصلاة التي قبلها " (1) الحديث، فهذه الأخبار أجنبية عما
نحن فيه من تحديد الوقت الاختصاصي.
فتحصل: أن هذه الأخبار لا تقاوم ظهور رواية داود (2) في أن مقدار الوقت
الاختصاصي إنما هو مقدار مضي أربع ركعات خاصة من غير دخول المقدمات
من جهات. فالأقوى أن وقت العصر يدخل بمجرد مضي ذلك المقدار مطلقا سواء
كان المكلف واجدا للمقدمات أو فاقدا لها، هذا بالنسبة إلى دخول المقدمات
وخروجها عن تحديد الوقت الاختصاصي.
وأما بالنسبة إلى خفة لسان المكلف وبطء حركاته، واشتماله الفريضة على
المستحبات وعدمه، فلا يبعد ملاحظة ما هو الوسط عند نوع المصلين، فلا يقتصر
على أقل الواجب ولا على اشتمال الفريضة بأكثر المستحبات، وكذا بالنسبة إلى
الخفة والبطء بل يلاحظ في ذلك ما هو الوسط، فلو من أول الزوال مقدار
أربع ركعات متوسطات في اشتمالها على المستحبات وعدمه وفي الخفة والبطء فقد
دخل وقت المشترك، كما هو الشأن في غالب التقديرات الشرعية، حيث إنها
محمولة على ما هو المعتاد والمتعارف عند الأواسط.

(1) الوسائل: ج 3 ص 117 باب 10 من أبواب المواقيت، ح 11.
(2) علل الشرائع: ج 1 ص 263 باب 182 علل الشرائع وأصول الأحكام قطعة من ح 9.
31

بقي الكلام في تحديد الوقت الاختصاصي بالنسبة إلى الحاضر والمسافر،
وأمثال ذلك من صلاة الخوف والمطاردة، فقد يقال: إن قوله عليه السلام في
رواية داود بن فرقد " حتى يمضي مقدار أربع ركعات " (1) محمول على المثال
ولا خصوصية للأربع، بل هو كناية عن مضي مقدار الفريضة على اختلافها
بالنسبة إلى أشخاص المكلفين وغير ذلك، فيدخل وقت الاشتراكي بالنسبة
إلى الحاضر مقدار مضي أربع ركعات من أول الزوال، وبالنسبة إلى المسافر مقدار
مضي ركعتين، وهكذا بالنسبة إلى الخائف مقدار صلاته.
ولكن الانصاف أن الحمل على ذلك مما لا شاهد [له] وإن كان ليس
ببعيد، إذ من المحتمل قريبا أن يكون لمضي مقدار أربع ركعات خصوصية، بحيث
لا يدخل وقت المشترك إلا بعد مضي ذلك المقدار من الوقت ولو كان الشخص
مسافرا أو خائفا، فالحمل على المثالية تحتاج إلى دليل، وعلى تقدير الشك في ذلك
فهل الأصل يقتضي الرجوع إلى المطلقات من قوله عليه السلام إذا زال الزوال
دخل الوقتان " (2) أو إلى استصحاب عدم دخول وقت العصر؟ وجهان، لا يخلو
الأول من قوة بعد ما كان الشك في المختص راجعا إلى الأقل والأكثر،
فتأمل.
ثم إن الثمرة بين ما اخترناه من عدم دخول المقدمات في الوقت
الاختصاصي، وبين ما اختاره بعض الأعلام من دخولها في ذلك، إنما تظهير فيما
إذا لم يؤد صاحبة الوقت، وأما إذا أداها فوقت العصر يدخل مطلقا بناء على كلا
القولين، لما تقدم من أن أدلة الاختصاص مختصة بما إذا لم يؤد صاحبة الوقت

(1) الوسائل: ج 3 ص 92 باب 4 من أبوب المواقيت، ح 7.
(2) الوسائل: ج 3 ص 91 باب 4 من أبواب المواقيت، نقلا بالمضمون.
32

كما تقدم تفصيله، وحينئذ نقول:
تظهر الثمرة بين القولين فيما إذا صلى العصر نسيانا قبل الظهر بعد مضي مقدار
أربع ركعات من الوقت أو أكثر، بحيث كان من أول الوقت مشغولا بتحصيل
المقدمات إلى مضي ذلك المقدار، وبعد تحصيلها نسي عن فعل الظهر وصلى
العصر، فبناء على ما اخترناه تصح العصر، لأنها وقعت في الوقت المشترك،
وحديث " لا تعاد " (1) يرفع الترتيب عند النسيان، وأما بناء على القول الآخر
فينبغي الحكم ببطلانها، لأنها وقعت في الوقت الاختصاصي، فإن الوقت
الاختصاصي بناء على هذا القول إنما هو مقدار تحصيل المقدمات مع فعل
الفريصة، والمفروض أن العصر وقعت قبل ذلك فتبطل.
وإنما قيدنا بما إذا كان المكلف مشغولا بتحصيل المقدمات من أول الزوال إلى
مضي ذلك المقدار فلأنه لو كانت المقدمات حاصلة له قبل الزوال، أو كانت
متعذرة عليه مطلقا، فلا ثمرة أيضا بين القولين، فإن من يقول بدخول المقدمات
فإنما يقول به إذا كان المكلف فاقدا لها ومكلفا بها، وأما لو كان واجدا لها أو غير
مكلف بها إما لتعذرها وإما لنسيانها فوقت الاختصاصي حينئذ يكون بمقدار
مضي أربع ركعات فقط.
نعم لو فرض أن نسيانه المقدمات إنما كان بتبع نسيان الظهر، بحيث لو لم
يكن ناسيا للظهر لما كان ناسيا للمقدمات وإن بعد الفرض لكان اللازم على
هذا القول هو الالتزام ببطلان صلاة العصر أيضا، لو وقعت قبل مضي مقدار من
الوقت بحيث لو كان متذكرا لكان يمكنه فعل الفريضة مع المقدمات، فإن نسيان
المقدمات حيث كان بتبع نسيان الظهر فالتكليف لا يسقط عنها لعدم سقوطه عن

(1) الوسائل: ج 4 ص 770 باب 29 من أبواب القراءة في الصلاة، ح 5.
33

الظهر، فيلزم وقوع العصر في الوقت الاختصاصي، فتأمل (1).
والحاصل: أن الظاهر من كلمات من يقول بدخول المقدمات في الوقت
الاختصاصي، إنما هو في المقدمات التي يجب تحصيلها، بحيث يكون المكلف
فاقدا لها وكان مما يمكنه تحصيلها بعد دخول الوقت، لا أنه يدعي بدخول
المقدمات في الوقت الاختصاصي مع كون المكلف واجدا لها، أو غير مكلف بها
للتعذر أو النسيان أو غير ذلك من أسباب العذر، حتى يلزمه القول ببطلان العصر
لمن أتى بها ناسيا للظهر بعد مضي مقدار أربع ركعات فقط مطلقا سواء كان
المكلف واجدا لها أو فاقدا، فإن ذلك بعيد من كلماتهم بل المصرح به خلاف
ذلك.
فتحصل: أن الثمرة بين القولين إنما تحصل فيما إذا مضى مقدار من الوقت
لا يفي بتحصيل المقدمات مع فعل الفريصة وصلى العصر ناسيا للظهر، فإنه بناء
على ما اخترناه تصح، وبناء على القول الآخر لا تصح، هذا كله فيما إذا مضى
مقدار أربع ركعات من الزوال وصلى العصر ناسيا للظهر.

(1) وجهه هو أن الأقوى أن نسيان المقدمات سواء كان بتبع نسيان الفريضة أو لم يكن بل كان نسيانها
مستقلا لا يوجب سقوطها، لأن العمدة في سقوط المقدمات المنسية إنما هو " لا تعاد الصلاة " وحديث " لا تعاد " *
إنما يستفاد منه عدم إعادة الصلاة عند نسيان مقدماتها أو أجزائها غير الخمسة، فمع عدم الصلاة رأسا كما فيما نحن فيه
حيث نسي الظهر فلا وجه لسقوط مقدماتها عند نسيانها ولو لم يكن نسيانها بتبع نسيان الفريضة.
نعم المقدمات المنسية إلى صلاة العصر على تقدير صحتها تكون ساقطة لجريان حديث " لا تعاد " بالنسبة
إليها. وأما صلاة الظهر فحيث إنها منسية من رأسها لا تكون مشمولة لحديث " لا تعاد " فلا تكون مقدماتها المنسية
ساقطة، ويلزم على هذا وقوع العصر في الوقت الاختصاصي للظهر بناء على دخول المقدمات فيه، فتبطل من جهة
وقوعها في غير وقتها، فتأمل. " منه ".
* - الوسائل: ج 4 ص 770 باب 29 من أبواب القراء في الصلاة، ح 5.
34

وأما إذا لم يمض مقدار ذلك، فإن وقعت العصر بتمام أجزائها في الوقت
الاختصاصي للظهر، لحيث لم يدخل الوقت المشترك قبل الفراغ منها فلا إشكال
في بطلانها على كلا القولين، نعم لو لم نقل بالوقت الاختصاصي، وقلنا: إن قوله
عليه السلام " إلا أن هذه قبل هذه " (1) لبيان إفادة مجرد شرطية الترتيب،
وأعرضنا عن رواية داود بن فرقد (2)، لكانت الصلاة صحيحة، لاغتفار الترتيب
عند النسيان كسائر الشرائط، وأما لو لم نقل بهذه المقالة كما هو المختار وعليه
المعظم فاللازم بطلان صلاة العصر لو وقعت في الوقت الاختصاصي، ولا تحسب
لا عصرا ولا ظهرا.
أما عدم احتسابها عصرا فواضح، لأنه من ثمرات القول بالاختصاص، وأما
عدم احتسابها ظهرا فلأن الشئ لا ينقلب عما وقع عليه، فإذا لم تصح عصرا مع
أنها هي المنوي فكيف تقع ظهرا؟
نعم وردت هنا رواية صحيحة عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام مشتملة
على جملة من الأحكام، ومنها أنه قال عليه السلام: إذا نسيت الظهر حتى صليت
العصر فذكرتها وأنت في الصلاة أو بعد فراغك فانوها الأولى ثم صل العصر، فإنما
هي أربع مكان أربع، وإن ذكرت أنك لم تصل الأولى وأنت في صلاة العصر وقد
صليت منها ركعتين فانوها الأولى، ثم صل الركعتين الباقيتين وقم فصل العصر (3)
الحديث.
وقد علم بهذه الصحيحة بعض المتأخرين وأفتى بإطلاقها، وقال: إنه لو
صلى العصر ناسيا للظهر في الوقت الاختصاصي، بحيث لم يدخل الوقت

(1) الوسائل: ج 3 باب 4 من أبوب المواقيت، ح 5.
(2) الوسائل: ج 3 ص 92 باب 4 من أبواب المواقيت، ح 7.
(3) الوسائل: ج 3 ص 211 من أبواب المواقيت، ح 1.
35

المشترك وهو فيها بل وقعت بتمام أجزائها في الوقت الاختصاصي صحت
الصلاة ووقعت ظهرا، وبعد ذلك يصلي العصر على اختلاف في تعبيراتهم من
وقوعها ظهرا قهرا عليه وإن لم ينو ذلك، أو أنه يعتبر احتسابها ظهرا بأن يجعلها في
نيته ظهرا ويحتسبها كذلك بعد الفراغ عند التذكر، هذا.
ولكن الانصاف أن العمل بهذه الرواية والفتوى على طبقها في غاية الوهن
والسقوط.
أما أولا: فلأن الرواية وإن كانت في الدرجة العليا من الصحة، وقد أفتى
المشهور بما اشتملت عليه من الأحكام وعمل بها، إلا في خصوص هذا الجزء، وهو
صحتها عند التذكر بعد الفراغ واحتساب العصر ظهرا، فإن المشهور قد أعرض
عنه وأفتى ببطلان الصلاة لو وقعت بتمام أجزائها في الوقت الاختصاصي،
ولا تحسب لا ظهرا ولا عصرا، ولو وقعت في الوقت المشترك ولو جزء منها تصح
عصرا، فإعراض المشهور عن خصوص هذا الجزء مع الأخذ بسائر ما اشتملت عليه
من الأحكام أقوى شاهد على وهن هذا الجزء ووقوع الخلل فيه.
وأما ثانيا: فلعدم الاطلاق في الرواية بحيث تشمل ما إذا وقعت العصر بتمام
أجزائها في الوقت الاختصاصي: إما لندرة نسيان الظهر في أول وقتها بحيث يشرع
في أول وقت الظهر في العصر ناسيا لها كما في الجواهر (1)، وإما لظهور قوله
عليه السلام في الرواية: " إذا نسيت الظهر حتى صليت العصر " في امتداد
النسيان ولو في الجملة، فإنه لو شرع في العصر في أول وقت الظهر لا يقال: إنه
نسي الظهر حتى شرع في العصر، بل يقال: نسي الظهر وصلى العصر، فكلمة
" حتى " تدل على امتداد النسيان ولو في الجملة، فتقع العصر ولو جزء منها في

(1) جواهر الكلام: ج 7 ص 86.
36

الوقت المشترك، ولا يمكن أن يقال: إن كلمة " حتى " إنما هي لبيان امتداد
النسيان إلى الفراغ من العصر، لمنافاته لقوله عليه السلام عقيب ذلك " فذكرتها
وأنت في الصلاة " أو " بعد فراغ: " فالانصاف أن الرواية لا إطلاق فيها بحيث
تشمل ما نحن فيه.
وأما ثالثا: فلأنه على فرض إطلاق الرواية لا بد من تقييدها بأدلة
الاختصاص الدالة على عدم صحة العصر في الوقت المختص وعدم صلاحيته
لذلك، فلأنه بعد تقييد أدلة الاختصاص بما إذا لم يؤد صاحبة الوقت على ما تقدم
بيانه، فتكون حينئذ نصا في عدم صلاحية الوقت لوقوع العصر فيه عند عدم فعل
الظهر، ولا مورد لها سوى هذه الصورة، فلو أخذنا بإطلاق تلك الرواية وقلنا: إنه
متى ما صليت العصر قبل الظهر ناسيا لها تقع ظهرا فلا يبقى للاختصاص مورد
حينئذ.
لا يقال: إن أدلة الاختصاص إنما هي لبيان عدم صحة الصلاة عصرا في
الوقت المختص، وأما عدم وقوعها ظهرا فلا يستفاد من أدلة الاختصاص.
فإنه يقال: بعد فرض الأخذ بإطلاق الرواية، وقلنا: إن الصلاة متى ما وقعت
فإنما هي تقع ظهرا سواء كان ذلك في الوقت الاختصاصي أو في الوقت
المشترك، فأي فائدة في جعل وقتين وقت اختصاصي ووقت اشتراكي؟ وهلل
ثمرة ذلك إلا عدم صحة العصر في الأول لو وقعت نسيانا الدالة عليه أدلة
الاختصاص بالنصوصية وصحتها في الثاني؟ فلا بد من تقييد إطلاق الرواية بما إذا
وقعت العصر ولو جزء منها في الوقت المشترك بناء على العمل بها.
وأما ربعا: فلأن قوله عليه السلام في الرواية " فانوها الأولى " كالصريح في
عدم وقوعها ظهر قهرا، بل يحتاج إلى نية العدول واحتسابها ظهرا، فلو أن أحدا
صلى العصر نسيانا في أول وقت الظهر، ولم يتذكر إلى أن مات فتقع العصر
37

باطلة، ولا بد من قضاء الولي عنه الظهر والعصر، ولا يمكن للولي أن ينوي ما وقع
من الميت ظهرا، فالأقوى أن هذا الجزء من الرواية ساقط من أصله ولا يمكن
الفتوى به (1)، هذا كله إذا لم يتذكر حتى فرغ من العصر.
وأما لو تذكر في الأثناء، فإن كان تذكره بعد دخول وقت المشترك فلا بد
من نية العدول وإتمامها ظهرا، ويدل عليه أخبار العدول (2)، وأما لو تذكر وهو

(1) هذا إذا وقعت العصر بتمام أجزائها في الوقت المختص بالظهر، وأما إذا وقع جزء منها في الوقت المشترك،
ولم يتذكر حتى فرغ منها فالأقوى صحتها عصرا كما نسب إلى المشهور، لاطلاق رواية إسماعيل بن رياح عن أبي
عبد الله قال: إذا صليت وأنت ترى أنك في وقت ولم يدخل الوقت فدخل الوقت وأنت في الصلاة فقد أجزأت
عنك *. الشامل لدخول الوقت المشترك في أثناء صلاة العصر ولو قبل التسليم.
لا يقال: إن مورد الرواية إنما هو إذا راعى الوقت وظن دخوله واتفق مخالفة ظنه للواقع وأن الوقت بعد لم يدخل
ولكن دخل عليه في الأثناء، وأما لو فرض أنه لم يراع الوقت ودخل في صلاة الظهر غير ملتفت إلى الوقت أصلا
واتفق دخوله في أثناء الصلاة فلا إشكال في بطلانها، بل ربما ادعي الاجماع عليه، وما نحن فيه من هذا القبيل، لأنه
لا يمكن فعل العصر قبل الظهر إلا عند غفلته من صلاة الظهر ونسيانه، وما كان هذا شأنه لا يمكنه مراعاة دخول الوقت
المشترك، إذ مراعاة ذلك لا يكون إلا مع تذكره بأنه ما صلى الظهر فيخرج الفرض عما نحن فيه، فلا يمكن التمسك
بإطلاق رواية إسماعيل لما نحن فيه.
فإنه يقال: إن في الرواية لم يكن لفظة المراعاة، وإنما قلنا ببطلان صلاة من لم يراع الوقت وصلى غافلا ودخل
عليه في الأثناء فلأجل أن المفروض في الرواية " إذا صليت وأنت ترى أنك في الوقت " والشخص لا يرى نفسه في
الوقت إلا عند المراعاة كما لا يخفى، هذا بالنسبة إلى صلاة الظهر الواقعة قبل الزوال.
وأما فيما نحن فيه فلا يتحقق موضوع قوله عليه السلام " وأنت ترى أنك في الوقت " بعد الالتفات بوجوب الظهر
ووجوب الترتيب إلا إذا نسي عن فعل الظهر بتخيل أنه قد أتى بها، فإن في مثل هذا يرى الشخص نفسه أنه في
وقت العصر ويكون مشمولا للرواية ولولا دخول ما نحن فيه في إطلاق الرواية لما كان لصحة العصر الواقعة بعضها في
الوقت المشترك وجه، وأولوية ما نحن فيه عما إذا وقعت بعض صلاة الظهر في الوقت ممنوعة جدا بعدما كان الصحة
فيها لأجل المراعاة المفقود فيما نحن فيه، فتأمل جيدا. " منه ".
(2) الوسائل: ج 3 ص 211 باب 63 من أبواب المواقيت.
* - الوسائل: ج 3 ص 150 باب 25 من أبواب المواقيت، ح 1.
38

بعد في الوقت الاختصاصي فالذي يظهر من بعض الأعلام، كالبيان (1) والمقاصد
العلية (2) وجامع المقاصد (3) والمدارك (4) وغيرها على ما نقل أنه يعدل ويتممها
ظهرا.
ولكن يشكل ذلك بأن أخبار العدول لا يستفاد منها ذلك، فإنها في مقام
إحراز الترتيب بعد الفراغ عن أن ما وقع منه أولا كان جامعا لشرائط الصحة
سوى فوات الترتيب وبالعدول يحرز الترتيب، وأما لو فرض أن ما وقع منه أولا
كان باطلا من أصله فبأخبار العدول لا يمكن تصحيحه، إذ ليست في مقام
تصحيح الباطل، وحينئذ نقول: إنه لو تذكر وقد دخل عليه الوقت المشترك،
فحيث إن دخول الوقت المشترك مصحح لما وقع منه أولا في غير الوقت لكان
مقتضى القاعدة المستفادة من الأخبار مع قطع النظر عن أخبار العدول تتميمها
عصرا واغتفار فوات الترتيب كما لو يتذكر إلى الفراغ، وبعد ملاحظة أخبار
العدول يجب العدول وتتميمها ظهرا، وأما لو تذكر وهو بعد في الوقت
الاختصاصي، فحث إن ما وقع من الصلاة كان في غير وقتها وبعد لم يدخل عليه
الوقت المشترك فلا بد من وقوعه باطلا، وقد عرفت أن أخبار العدول ليست
بصدد تصحيح ما وقع باطلا، فتأمل.
فروع
الأول: لو صلى العصر ناسيا للظهر وتذكر بعد الفراغ منها، ولكن شك في

(1) البيان: باب أوقات الصلاة ص 50 س 5.
(2) لا يوجد لدينا هذا الكتاب.
(ظ) جامع المقاصد: ج 2 ص 33 أوقات الصلاة.
(4) المدارك: ص 49 الرابع: الفرائض اليومية..
39

أنه هل دخل عليه الوقت المشترك قبل فراغه منها حتى تصح عصرا، أو أنه لم
يدخل ووقعت بجميع أجزائها في الوقت الاختصاصي فلا إشكال في عدم جواز
التمسك بإطلاق قوله عليه السلام " إذا زال الزوال دخل الوقتان " (1) لتصحيحها،
لأن المفروض أنه قد قيد هذا الاطلاق بمقدار مضي أربع ركعات، والشبهة في المقام
مصداقية لا يجوز التمسك فيها بالعام، وهذا مما لا شبهة فيه.
إنما الاشكال في أن قاعدة الفراغ تجري أو لا؟ والأقوى أنه لا موقع لقاعدة
الفراغ في المقام، بل استصحاب عدم دخول الوقت المشترك محكم، فتكون
الصلاة واقعة في غير وقتها.
بيان ذلك: أنه يسمر عليك إن شاء الله في بعض المباحث الآتية أن مورد
قاعدة الفراغ إنما هو الشك في فقدان شرط أو جزء كان مراعاته بيد المكلف وبعد
الفراغ شك في مراعاته، إما على النحو الشك الساري بحيث يشك الآن بأنه هل
راعى الشرط أو الجزء في موطنه، أو أنه غفل عن مراعاته على أحد الاحتمالين في
قاعدة الفراغ، وإما على نحو لا يرجع الشك إلى الشك الساري، كما إذا شك بعد
الفراغ في اتيان الجزء أو الشرط بعد العلم بأنه كان ملتفتا إليه في موطنه، كما هو
أقوى الاحتمالين في قاعدة الفراغ.
ولكن على كلا الاحتمالين يعتبر أن يكون الشئ المشكوك مما بيد
المكلف مراعاته، وأما لو لم يكن من هذا القبيل، بأن كان من الأمور الخارجة
عن قدرة المكلف، بحيث لو كان الشئ المشكوك واقعا في الخارج لكان وقوعه
من باب المصادفة الاتفاقية بلا دخل لمراعاته فلا مورد لقاعدة الفراغ فيه. ففيما
نحن فيه الشك إنما هو في دخول الوقت المشترك في أثناء الصلاة، وهذا

(1) الوسائل: ج 3 ص 91 باب 4 من أبواب المواقيت. نقلا بالمضمون.
40

كما ترى لا دخل لمراعاة المكلف فيه، فإن دخول الوقت وعدم دخوله من
المصادفات الاتفاقية الخارجة عن قدرة المكلف ومراعاته.
نعم ما هو بيد المكلف إنما هو مراعاة أن صلاته هذه كانت قبل الظهر أو
بعدها، وهذا مما يقطع بعدم مراعاته، لأن المفروض القطع بوقوع العصر قبل
الظهر، فما هو بيد المكلف مراعاته يقطع بعدم المراعاة، ولا مجرى لقاعدة الفراغ
بالنسبة إليه، وما هو ليس بيد المكلف مراعاته كدخول الوقت وعدم دخوله
أجنبي عن قاعدة الفراغ، فلا محيص عن استصحاب عدم دخول الوقت والحكم
ببطلان الصلاة.
لا يقال: لو شك بعد الفراغ من صلاة الظهر وبعد دخول الوقت (1).
أن الظهر هل وقعت بتمام أجزائها قل الوقت أو بعده ولو جزء منها،
فلا إشكال في جريان قاعدة الفراغ والحكم بصحتها، مع أن المشكوك هو دخول
الوقت وعدم دخوله، وهو خارج عن قدرة المكلف ومراعاته، فما الفرق بين هذا
وبين ما نحن فيه؟ والحاصل: أنه لا نجد فرقا بين الشك بعد الفراغ في دخول
الزوال أثناء صلاة الظهر، حيث تسالموا على الحكم بصحتها لا أجل قاعدة
الفراغ، وبين الشك بعد الفراغ في دخول الوقت المشترك في أثناء صلاة العصر،
حيث قلتم بعدم جريان قاعدة الفراغ.

(1) وإنما قيدنا ببعد دخول الوقت فإنه لو كان بعد الفراغ شاكا في دخول الوقت أيضا لما كان محل لقاعدة الفراغ،
فإنها من القواعد الممهدة لمرحلة الامتثال والخروج عن عهدة التكليف، وذلك فرع ثبوت التكليف واشتغال الذمة
به، فلو كان بعد الفراغ عالما بدخول الوقت الآن وإن شك في وقوع الظهر خارجه، فحيث إنه الآن عالم باشتغال ذمته
بالظهر وتوجه التكليف عليه كان موردا لقاعدة الفراغ. وأما لو كان بعد الفراغ الآن أيضا شاكا في دخول الوقت فهو
الآن بعد شاك في اشتغال ذمته بصلاة الظهر وتوجه التكليف إليه، فكيف تجري القاعدة مع كونها من الأصول
المجعولة في مقام الخروج عن عهدة ما اشتغلت الذمة به وامتثاله؟ فتأمل جيدا " منه ".
41

فإنه يقال: الفرق واضح، فإنه في مسألة صلاة الظهر وإن كان دخول الوقت
وعدم الدخول ليس بيد المكلف، إلا أنه قبل فعل الظهر كان يمكنه مراعاة الوقت
وأن الزوال تحقق أو لم يتحقق، فباعتبار أن مراعاة الوقت قبل فعل الظهر كان
بيد المكلف، فلو شك بعد فعل الظهر أنه هل راعى الوقت أو لم يراع، على وجه
لا يرجع إلى الشك الساري أو يرجع على الاحتمالين، فقاعدة الفراغ لا مانع منها،
فجريان قاعدة الفراغ ليس لأجل الشك في دخول الوقت وعدمه في الأثناء،
حتى يقال: إنه خارج عن قدرة المكلف ومراعاته، بل جريانها إنما لأجل الشك
في مراعاته الوقت قبل فعل الظهر أو عدم مراعاته.
ولذا لو قطع بعدم المراعاة وعلم أنه دخل في الصلاة غافلا، ولكن شك بعد
الفراغ في دخول الوقت في الأثناء قهرا لما كان موردا لقاعدة الفراغ، وهذا
بخلاف ما نحن فيه، فإن الشك فيه متمحض في دخول الوقت المشترك عليه قهرا
في الأثناء وعدم دخوله، وليست هناك جهة أخرى للشك كانت بيد المكلف
مراعاتها وشك في مراعاتها حتى تجري قاعدة الفراغ بالنسبة إليها.
نعم لو أمكن رجوع الشك في المقام إلى الشك في مراعاته قبل فعل العصر أن
الوقت المشترك دخل أو لم يدخل لكان لتوهم جريان القاعدة وجه، إلا أنه
لا يمكن رجوع الشك في المقام إلى ذلك، لأن هذا المراعاة قبل فعل العصر لا يكون
إلا مع التفاته إلى عدم فعل الظهر، وإلا لا يمكن منه تحقق هذا المراعاة، ومع
التفاته إلى ذلك يخرج الفرض عما نحن فيه، لأن كلامنا إنما فيما إذا نسي فعل
الظهر وصلى العصر وبعد الفراغ تذكر وشك في دخول الوقت المشترك في
الأثناء، فجهة الشك في المقام متمحضة إلى ما ليس بيد المكلف مراعاته، وقد
عرفت أنه لا يكون حينئذ موردا لقاعدة الفراغ، فتأمل جيدا. هذا كله إذا كان
تذكره وشكه في دخول الوقت المشترك بعد الفراغ من الصلاة.
42

وأما لو تذكر في أثناء الصلاة عدم فعل الظهر، وشك في دخول الوقت
المشترك حتى يكون له العدول بناء على ما اخترناه من أن العدول مختص بما إذا
تذكر في الوقت المشترك فعدم جريان قاعدة الفراغ حينئذ في غاية الوضوح،
ولا بد من استصحاب عدم دخول الوقت المشترك، ويرتفع به موضوع العدول.
الفرع الثاني (1):
لو خاف ضيق الوقت إلا عن صلاة العصر فلا إشكال في وجوب تقديمها
وتأخير الظهر، كما صرحت به رواية الحلبي (2) المتقدمة.
ثم إنه لو تبين مطابقة ة خوفه للواقع، وأنه لم يبق من الوقت بعد فعل العصر
شئ فلا إشكال في خروج وقت الظهر وصيرورتها قضاء، وأما لو تبين بقاء
الوقت بحيث يمكن فعل الظهر فيه ففي المقام وجوه بل أقوال، قول ببطلان العصر
ويجب فعلها ثانيا، وهذا القول مبني على أن قبل الوقت الاختصاصي للعصر
بمقدار فعل الظهر يختص بالظهر أيضا كما في أول الوقت، وحينئذ تكون العصر

(1) فائدة: قد ذكر الأصحاب قاعدتين ربما يتوهم المنافاة بينهما، الأولى: أنه لو خالف الضيق صلى العصر
مقدما على الظهر. الثانية: أنه لو شك في بقاء الوقت استصحب الوقت وصلى الظهر مقدما على العصر. ولعله يتوهم
أنه لا يمكن الجمع بين القاعدتين.
ولكن يمكن الجمع بينهما أن مورد الخوف إنما هو ما إذا علم مقدار الوقت كربع ساعة، ولكن شك في سعته لفعل
الظهر والعصر، فهنا يقدم العصر لأنه لا استصحاب بالنسبة إلى الوقت بعد العلم به، وبالنسبة إلى سعته لفعل
الصلاتين ليس له حالة سابقة حتى تستصحب.
ومورد الاستصحاب إنما هو فيما إذا لم يعلم المقدار الباقي من الوقت، وأنه هل هو نصف ساعة حتى يسع
للصلاتين أو ربع ساعة حتى لا يسع، فهنا يستصحب بقاء الوقت ويرتفع به موضوع الخوف بعد حكيم الشارع بأن
الوقت باق، وأنه يسع للصلاتين بمقتضى التعبد بالاستصحاب، فتأمل " منه ".
(2) الوسائل: ج 3 ص 94 باب 4 من أبواب المواقيت، ح 18.
43

واقعة في الوقت المختص للظهر فتبطل. وقول بصحتها ظهرا ووجوب فعل العصر
بعدها، لقوله عليه السلام " إنما هي أربع مكان أربع " (1) وقول بصحتها عصرا وعدم
جواز فعل الظهر فيما بقي من الوقت لا أداء ولا قضاء، لأن الوقت المختص بالعصر
غير صالح لوقوع الشريكة فيه مطلقا، كعدم صلاحية وقوع غير صوم رمضان في
رمضان. وربما قيل: عدم صحة الظهر فيما بقي من الوقت أداء وأما قضاء فلا مانع
منه، لأنه لا ينقص عما بعد الغروب. وقول بصحتها ووجوب فعل الظهر فيه أداء،
وهذا هو المختار وعليه المشهور.
أما صحة ما فعله أولا عصرا فلدلالة رواية الحلبي (2) عليه من قوله " وإن هو
خاف أن تفوته فليبدأ بالعصر ولا يؤخرها " ولا يمكن أن يقال: إن الخوف أخذ فيها
طريقا وبعد انكشاف الخلاف لا وجه للاجزاء وصحتها عصرا، بل مقتضى
القاعدة البطلان وعدم الاجزاء كسائر موارد تخلف الطرق، فإنه لا معنى لأخذ
الخوف طريقا، إذ ليس له جهة كاشفية وطريقية حتى يمكن اعتباره من جهة
الطريقية، بل إنما هو حالة نفسانية للمكلف كالشك إذا وجد لا يعقل انكشاف
الخلاف فيه، فلا بد من أخذه موضوعا، ولازم ذلك الاجزاء كما في جميع الموارد
التي أخذ الخوف موضوعا للحكم، كخوف الضرر في باب الصوم والوضوء وأمثال
ذلك، فإن في جميع هذه الموارد مقتضى القاعدة الاجزاء.
وأما وجوب فعل الظهر فيما بقي من الوقت أداء فلما تقدم من أن الاختصاص
إنما هو فيما إذا لم يؤد صاحبة الوقت على وجه صحيح، وأما إذا أداها فالوقت
صالح لوقوع الشريكة فيه، خصوصا بعد قوله عليه السلام " ثم أنت في وقت منهما
إلى غروب الشمس " (3) ومما يدل على صحة فعل الظهر في الوقت الاختصاصي

(1) الوسائل: ج 3 ص 211 باب 63 من أبواب القراءة في الصلاة، ح 1.
(2) الوسائل: ج 3 ص 94 باب 4 من أبواب المواقيت، ح 18.
(3) في الوسائل هكذا: متى تغيب الشمس.
44

للعصر خصوصا قوله عليه السلام في آخر رواية الحلبي " ثم صلى الظهر على
أثرها " (1) فإنه وإن كان مطلقا بالنسبة إلى بقاء الوقت وخروجه، إلا أنه بعد
تقييده بما دل على التوسعة في القضاء يكون نصا فيما إذا بقي من الوقت مقدار فعل
الظهر، وبه يخصص حينئذ إطلاق رواية داود بن فرقد (2)، الدالة بإطلاقها على
اختصاص مقدار أربع ركعات من الغروب للعصر خاصة، سواء صلاها قبل ذلك
على وجه صحيح أولا، وقد تقدم تفصيل ذلك فراجع.
فتحصل: أن مقتضى القواعد والجمع بين الأدلة هو صحة فعل الظهر فيما بقي
من الوقت أداء على تقدير فعل العصر قبل ذلك على وجه صحيح.
وبذلك يظهر ضعف سائر الأقوال، أما القول الأول فلأن دعوى اختصاص
الظهر من آخر الوقت كأوله بمقدار أدائها خالية عن الشاهد.
ولعله توهم ذلك من وجوب الترتيب. وفيه مع أن الترتيب لا يختص بآخر
الوقت، بل هو واجب من أوله إلى مقدار أربع ركعات إلى الغروب، فلازم ذلك
الحكم ببطلان صلاة العصر لو خاف الضيق، أو نسي الظهر لو وقعت عقيب
الزوال بنصف ساعة مع أنه لم يقل به أحد أن مسألة شرطية الترتيب أجنبية عن
مسألة الاختصاص، ولا يمكن استفادة الاختصاص منها.
وربما يوجه هذا القول بأن بطلان العصر ليس من جهة وقوعها في الوقت
المختص بالظهر بل لأجل فوات الترتيب، والمتيقن من سقوطه إنما هو ما لو نسي
عن الظهر، وأما لو كان ملتفتا إلى عدم فعله الظهر ولكن خاف الضيق كما هو
مفروض المسألة فلا وجه لسقوطه، وينبغي حينئذ بطلان العصر.

(1) في الوسائل هكذا: ليصلي الأولى بعد ذلك.
(2) الوسائل: ج 3 ص 92 باب 4 من أبواب المواقيت، ح 7.
45

وفيه ما لا يخفى، بعد ورود النص (1) بأنه عند خوف الضيق يقدم العصر ويؤخر
الظهر الدال على الاجزاء كما تقدم.
وأما القول الثاني فلما تقدم من عدم عمل المشهور بقوله عليه السلام " إنما هي
أربع مكان أربع " (2).
وأما القول الثالث مع ما يتلوه من القول، فلأنه مبني على الاختصاص
المطلق والأخذ بإطلاق رواية داود بن فرقد (3)، وقد تقدم فساده وأنه مناف
لمقتضى الجمع بين الأدلة. فالأقوى عن انكشاف الخلاف لزوم فعل الظهر أداء،
كما هو ظاهر المشهور.
الفرع الثالث: لو بقي من الوقت مقدار خمس ركعات فلا ينبغي الاشكال في
لزوم فعل الظهر ثم العصر، لأنه قد أدرك من الوقت مقدار ركعة فيجب فعل
الظهر، لما ورد من أن " من أدرك ركعة من الوقت فقد أدرك الوقت جميعا " (4). فمن
أدرك ركعة من الظهر في الوقت المشترك يجب عليه فعلها وإن وقع الباقي منها في
الوقت المختص بالعصر، لأن قاعدة " من أدرك " توسع دائرة الوقت وتجعل ما وقع
من الظهر في وقت المختص بالعصر وقتا للظهر، وتكون حاكمة على أدلة
الاختصاص.
لا يقال: إن الظاهر من قاعدة " من أدرك " إنما هو التوسعة في الوقت، بمعنى
أنها تجعل ما ليس بوقت مضروب شرعا بعنوانه الأولي وقتا، فلسانها إنما هو تنزيل

(1) الوسائل: ج 3 ص 94 باب 4 من أبواب المواقيت، ح 18.
(2) الوسائل: ج 3 ص 211 باب 63 من أبواب المواقيت، ح
(3) الوسائل: ج 3 ص 92 باب 4 من أبواب المواقيت، ح 7.
(4) الوسائل: ج 3 ص 157 باب 30 من أبواب المواقيت، مع تفاوت في اللفظ.
46

خارج الوقت منزلة الوقت، كما إذا أدرك من صلاة العصر ركعة، بحيث يقع
الباقي منها في وقت المغرب الذي لم يضرب بعنوانه الأولي وقتا للعصر، بل إنما هو
ضرب وقتا للمغرب، وبالعنوان الثانوي ببركة قاعدة " من أدرك " يصير وقتا
للعصر، وما نحن فيه ليس من هذا القبيل، فإن الوقت الاختصاصي للعصر
بالنسبة إلى صلاة الظهر ليس من قبيل خارج الوقت كالمغرب بالنسبة إلى
العصر، بل هو وقت للظهر أيضا، بمعنى صلاحيته بحسب الضرب والتشريع لوقوع
الظهر فيه، كما يدل عليه قوله عليه السلام " ثم أنت في وقت منهما إلى
الغروب " (1) فليس ما وقع من صلاة الظهر في الوقت المختص بالعصر من قبيل
ما وقع من صلاة العصر في وقت المغرب، فإن في الثاني لم يكن الوقت صالحا لها
بحسب التشريع بخلاف الأول، وقد عرفت أن قاعدة " من أدرك " إنما هي
لتنزيل خارج الوقت منزلة الوقت، فلا تشمل القاعدة ما نحن فيه، وتبقى أدلة
الاختصاص على حالها من عدم صحة الشريكة فيه إذا لم يكن مؤدى صاحبة
الوقت، ولازم ذلك عدم صحة فعل الظهر في مفروض المسألة.
فإنه يقال: مع إمكان دعوى الأولوية القطعية للصحة فيما نحن فيه عما إذا
وقعت بقية صلاة العصر في وقت المغرب كما لا يخفى. إنه لا فرق في شمول القاعدة
بين المقامين، فإن القاعدة في مقام تنزيل خارج الوقت منزلة الوقت، سواء كان
خروجه من جهة عدم المقتضي، كمقدار من وقت الغروب بالنسبة إلى صلاة
العصر، أو كان ذلك لأجل المانع مع كون الوقت بحسب الاقتضاء صالحا،
كمقدار من وقت العصر بالنسبة إلى صلاة الظهر.
والحاصل: أن القاعدة كما تنزل ما ليس فيه اقتضاء الوقتية منزلة الوقت،

(1) الوسائل: ج 3 ص 92 باب 4 من أبواب المواقيت، ح 5، وفيه اختلاف يسير.
47

كذلك تنزل ما كان له مانعا عن الوقتية من جهة ابتلائه بصاحبته مع وجود
المتقضي فيه منزلة الوقت.
وبعبارة واضحة: أن القاعدة كما توجد المقتضي لخارج الوقت وتجعله وقتا،
كذلك ترفع المانع عنه. فالأقوى أن من أدرك من الظهر مقدار ركعة يجب عليه،
وإن وقع الباقي منها في الوقت المختص بالعصر، لعموم قاعدة " من أدرك " الحاكم
على أدلة الاختصاص. هذا تمام الكلام في وقت الظهرين من المختص
والمشترك، وما يتفرع عليهما من الفروع.
نعم بقي الكلام في معرفة الزوال، الذي هو أول وقت الظهرين. وطريق
معرفة ذلك إنما هو زيادة الظل بعد نقصانه، فيما كان عرض البلد مخالفا لميل
الشمس في المقدار إلى جهة الشمال، أو حدوث الظل بعد انعدامه فيما كان موافقا
للميل الأعظم، أو أنقص منه إلى جهة الجنوب.
وتوضيح ذلك، على وجه الاجمال: هو أنه لا إشكال في حركة الشمس
بالنسبة إلى الفصول الأربعة تختلف، من حيث كونها في الشتاء والخريف تكون
في البروج الجنوبية، وفي الصيف والربيع تكون في البروج الشمالية، والبعد بين
تمام ميلها إلى البروج الجنوبية الذي هو أول الجدي، وبين منتهى ميلها إلى
البروج الشمالية الذي هو في أول السرطان مقدار أربع وعشرين درجة، فالبلاد
الواقعة بين هذين الميلين لا محالة الظل ينعدم فيها في كل سنة يومين، في حال
صعودها إلى البرج الشمالي، وفي حال نزولها إلى البرج الجنوبي، فإنه في مثل هذه
البلاد تسامت الشمس في كل سنة يومين على رؤوس أهل البلد، ويختلف ذلك
اليومان باعتبار اختلاف البلاد في قربها إلى الميل الأعظم وبعدها، فرب بلد
ينعدم الظل فيه يومين، يوم قبل السرطان ويوم بعد السرطان، لقربه عن الميل
الأعظم، ورب بلد يكون الانعدام فيه بعشرة أيام أو عشرين يوما قبل ذلك،
48

كما قيل: إنه ينعدم الظل في مكة قبل السرطان بستة وعشرين يوما، ثم يحدث
بعد ذلك ظل إلى أن ينتهي الميل الأعظم للشمس، وتأخذ في النزول، فإذا مضى
من السرطان أيضا ستة وعشرون يوما ينعدم الظل فيها أيضا يوما واحدا.
والحاصل: أن اليومين يختلفان باعتبار قرب البلد وبعده عن خط الاستواء
الذي يكون تحت الميل الأعظم، وأما البلاد الواقعة تحت خط الاستواء المساوي
للميل الأعظم كمدينة الرسول على ما قيل فيعدم الظل فيه يوما واحدا في كل
سنة، وهو اليوم [الذي] ينتهي ميل الشمس إلى البرج الشمالي وهو أول
السرطان، لأن في ذلك اليوم تكون الشمس مسامتة لرؤوس أهل البلد الموافق في
العرض للميل الأعظم، وبعد ذلك اليوم لا محالة يحدث ظل، لخروج الشمس عن
المسامتة، ففي هذين الطائفتين من البلاد الظل ينعدم لا محالة إما يوما أو يومين.
وأما إذا لم يكن البلد بين الميلين ولا كان مساويا للميل الأعظم، بل كان
خارجا عنه إلى جهة الشمال كالعراق، فالظل لا ينعدم فيه أصلا، لعدم اتفاق
مسامتة الشمس لرؤوس أهل البلد في طول السنة، نعم يختلف الظل الباقي عند
الزوال زيادة ونقصانا بحسب اختلاف بعد البلد إلى جهة الشمال عن الميل
الأعظم كما هو واضح، وأما الأراضي الواقعة في منتهى ميل الشمس إلى جهة
الجنوب، فحيث لم تكن مسكونة لا يهمنا التعرض عنها.
إذا عرفت ذلك فنقول: إن علامة الزوال إنما هي حدوث ظل الشاخص
المنصوب على سطح الأرض نصبا مستقيما بعد انعدامه، في البلاد التي ينعدم فيها
الظل يوما أو يومين، وزيادة الظل بعد نقصانه في غير تلك البلاد، أو فيها في غير
اليوم واليومين، ولكن هذه العلامة إنما تظهر للحس بعد مضي مقدار من الزوال
مما يزيد على نصف ساعة، فلم تكن علامة لمعرفة أول الزوال حقيقة، فإن أردت
أن تعرف أوله الحقيقي فلا بد من إعمال الدائرة الهندية المجعولة لذلك.
49

وطريق معرفتها هو أن تدير على أرض مسطحة دائرة، وتنصب على مركزها
مقياسا محدد الرأس مخروطي الشكل يكون طوله قد ربع الدائرة، ولا بد من أن
يكون ذلك النصب نصبا مستقيما، ثم إن الشمس لا محالة إذا طلعت يحدث
للمقياس ظل مستطيل إلى جهة المغرب، ولا يزال ينقص كلما ارتفعت الشمس
حتى يصل الظل إلى رأس الدائرة، فإذا وصل إلى ذلك اجعل له علامة، ثم
لا يزال الظل أيضا ينقص حتى ينتهي نقصانه أو ينعدم على اختلاف البلاد،
وبعد ذلك يأخذ في الزيادة وينقلب الظل إلى جهة المشرق، وكذلك يزيد إلى أن
يتجاوز عن الدائرة، فإذا وصل رأس الظل إلى منتهى الدائرة وأراد الخروج عنها
اجعل له أيضا علامة، ثم تصل ما بين العلامتين بخط مستقيم وتنصف ذلك
الخط، ثم تصل ما بين مركز الدائرة ومنتصف ذلك الخط بخط، وذلك خط
نصف النهار، فإذا أردت معرفة الزوال في غير يوم العمل تنظر إلى ظل المقياس،
فمتى وصل إلى هذا الخط كانت الشمس في وسط السماء، فإذا ابتدأ رأس الظل
يخرج عنه فقد زالت.
ويعرف الزوال أيضا بميل الشمس إلى الحاجب الأيمن مما يلي الأنف لمن
يستقبل نقطة الجنوب، سواء كانت قبلة له كالموصل ومن والاها أو لم تكن قبلة
له، ضرورة عدم التفاوت في ذلك، بل المدار على استقبال نقطة الجنوب، فإن
الشمس عند الزوال تحاذي نقطة الجنوب، وتكون الشمس بين الحاجبين لمن
استقبل النقطة، فإذا مالت إلى الحاجب الأيمن يعرف تحقق الزوال، فحصر هذه
العلامة بمن كانت نقطة الجنوب قبلة له كما في بعض المتون مما لا وجه له. نعم
هذه العلامة أيضا لا تظهر للحس إلا بعد مضي مدة من الزوال.
50

المقام الثاني
في بيان وقت المغرب والعشاء
اعلم أنه قد اتفق الأصحاب على أن أول وقت صلاة المغرب هو غروب
الشمس، ولكن وقع الخلاف في تعيين الغروب، وأنه هل هو استتار القرص عن
أفق المصلي، أو أنه ذهاب الحمرة المشرقية وتجاوزها عن قمة الرأس. ومنشأ
الاختلاف في ذلك هو اختلاف الأخبار، وقبل ذكرها ينبغي تقديم أمور:
الأول: أن الجمع بين الدليلين بالاطلاق والتقييد لا ينحصر فيما إذا كان المقيد
من أفراد المطلق، كقوله (أعتق رقبة) و (أعتق رقبة مؤمنة) إذ ليس كل مطلق
يوجب التوسعة، حتى يكون المقيد موجبا للتضييق وخروج بعض ما لولاه لكان
داخلا في المطلق، فإنه رب إطلاق يوجب التضييق، والتقييد يوجب التوسعة،
كما يقال: إطلاق العقد يوجب التعجيل أو نقد البلد وغير ذلك، وكما يقال:
إطلاق الأمر يوجب النفسية والعينية والتعيينية، فإن مثل هذا الاطلاق يوجب
التضييق، بداهة تخصيص العقد بنقد البلد أو التعجيل، وكذا تخصيص الأمر
التعييني يوجب الضيق، بخلاف ما لو قيد هذا الاطلاق بعدم لزوم نقد البلد أو
التعجيل، أو قيد الواجب بعدم التعيينية، فإن هذا التقييد يوجب التوسعة.
فمن هنا يعلم أنه ليس التقييد منحصرا بما كان المقيد من أفراد المطلق، بداهة
أن غير نقد البلد أو الواجب التخييري لم يكن من أفراد نقد البلد أو الواجب
التعييني الذي اقتضياهما الاطلاقان، ففي المثالين لو قام الدليل على إرادة الأعم
من نقد البلد أو غير الواجب التعييني، لم يعامل ما بينه وبين ما دل على خصوص
نقد البلد أو الواجب التعييني بالاطلاق معاملة المتعارضين بالتباين، بل يكون
51

هذا الدليل مقيدا لذلك الاطلاق وبمنزلة القرينة له، ويعامل معهما معاملة المطلق
والمقيد، وإن لم يكن المقيد من أفراد المطلق، وذلك واضح.
الثاني: أنه ربما يكون الدليل بحسب ظهوره الاطلاقي لا يعم غير شخص ما تعلق
به، ولكن يرد دليل آخر على دخول التوابع والملحقات بما تعلق به ذلك الدليل
الذي لم يعم بحسب ظهوره الاطلاقي تلك التوابع والملحقات، وحينئذ لا يعامل مع
الدليلين معاملة المتعارضين بالتباين، بل يقدم ما دل على دخول التوابع ويقيد به
ذلك الاطلاق، وإن لم تكن تلك التوابع داخلة في المطلق، لما عرفت في الأمر
الأول من أنه لا يعتبر في المقيد من أن يكون من أفراد المطلق وداخلا فيه لولا
التقييد.
مثلا لو قال (جاء زيد) فهذا القول بحسب ظهوره يدل على أن الجائي شخص
زيد، من غير شمول زيد لمواليه وتوابعه، ولو قال بعد ذلك أن مرادي من (جاء
زيد) ليس شخص زيد فقط بل هو مع توابعه، لم يكن هذا القول معارضا للقول
الأول، بل يكون حاكما عليه، ومقدما على ذلك الظهور، ومقيدا لذلك
الاطلاق، من غير استلزام المجازية، كما لا يخفى.
الثالث: أن التحديدات الشرعية الواردة في بيان تحديد الموضوعات العرفية
الظاهرة في خلاف ما حدده الشارع لا يعامل معها معاملة التعارض، مثلا لو ورد
أن المسافر حكمه كذا، والمقيم حكمه كذا، وماء الكثير حكمه كذا، فلو لم يرد من
الشارع تحديد كان ما يفهمه العرف من هذه الموضوعات هو المتبع، فربما لا يرى
العرف صدق الماء الكثير على الكر، وكذا لا يرى صدق السفر والإقامة على ثمانية
فراسخ أو إقامة عشرة أيام.
ولكن بعد تحديد الشارع الماء الكثير بالكر، والسفر بثمانية فراسخ، والإقامة
بعشرة أيام، لا يعامل مع هذا التحديد معاملة المعارض، لما أخد نفس الماء الكثير
52

والسفر والإقامة موضوعا، وإن كان ظاهر ما يترأى من الموضوع منافيا لهذا
التحديد، فإن هذا الظهور إنما يكون متبعا إذا لم يرد تحديد للشارع لبيانه، وبعد
ورود التحديد يؤخذ به ويطرح ذلك الظهور، فإنه يكون نظير التخطئة في المصداق،
وذلك أيضا واضح.
الرابع: أنه لو لم يكن بين المتعارضين جمع دلالي، كالاطلاق والتقييد والنص
والظاهر، تصل النوبة حينئذ إلى المرجحات السندية، وتكون مقدمة على موافقة
العامة ومخالفتهم كما بين في محله، لكن هذا إذا لم يكن في أحد الدليلين ما يوجب
الظهور في صدوره تقية، أو كان مضمون أحد الدليلين مما تفردت به العامة،
بحيث صار شعارا لهم وكانوا يعرفون بذلك، كمعرفة الخاصة بما تضمنه الدليل
الآخر. والحاصل: أن ملاحظة المرجحات السندية إنما يكون بعد جريان الأصول
الجهتية، من أصالة الصدور لبيان الحكم الواقعي، وأصالة عدم صدوره تقية،
وأما مع عدم جريان الأصول الجهتية، إما لاحتفاف أحد الدليلين بما يوجب
القطع أو الظن العقلائي على كونه صادرا تقية، وإما لكون ما تضمنه أحد الدليلين
من المعنى كان يعد في زمان الصدور من شعار العامة وكانوا يعرفون به، عكس
ما تضمنه الدليل الآخر من كونه كان شعارا للخاصة ويعرفون به، فلا تصل
النوبة إلى المرجحات السندية.
إذا عرفت هذه الأمور فلنشرع في ذكر الأخبار، وهي وإن كانت من
الجانبين كثيرة إلا أنا نقتصر بما هو صريح أو ظاهر الدلالة، ثم نعقبه بما يقتضيه
النظر الصحيح في الجمع بينها، فنقول: أما ما دل على أن الغروب إنما هو بذهاب
الحمرة المشرقية عن قمة الرأس ولا يكفي استتار القرص فهي على طوائف أربع:
منها: ما تدل على أن وقت استتار القرص وغيبوبة الشمس إنما هو ذهاب
الحمرة المشرقية، وفي بعضها تقييد الذهاب بتجاوزها عن قمة الرأس.
53

ففي مرسلة ابن أبي عمير عن الصادق عليه السلام: وقت سقوط القرص
ووقت الافطار من الصيام أن تقوم بحذاء القبلة وتتفقد الحمرة التي ترتفع من
المشرق، فإذا جازت قمة الرأس إلى ناحية المغرب فقد وجب الافطار وسقط
القرص (1).
وما رواه الكليني عن الباقر عليه السلام قال: إذا غابت الحمرة من هذا
الجانب يعني من ناحية المشرق فقد غابت الشمس من شرق الأرض وغربها (2).
وفي المحكي عن فقه الرضا عليه السلام: أن وقت المغرب سقوط القرص إلى
أن قال: والدليل على غروب الشمس ذهاب الحمرة من جانب المشرق (3)..
إلخ.
وفي رواية أخرى عن ابن أبي عمير عن القاسم بن عروة عن بريد بن معاوية
العجلي قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: إذا غابت الشمس من هذا
الجانب يعني ناحية المشرق فقد غابت الشمس في شرق الأرض وغربها (4).
ومعلوم أن المراد من غيبوبة الشمس من ناحية المشرق غيبوبتها بتوابعها
وملحقاتها من الشعاع والحمرة، لا أن المراد خصوص غيبوبة جرم الشمس، إذ
لا يكون حينئذ معنى لقوله عليه السلام " من ناحية المشرق " فإن جرم الشمس إذا
غاب يغيب من المشرق والمغرب لا خصوص المشرق، فيعلم من ذلك أن المراد منه
غيبوبتها بتوابعها ولوازمها، وقد عرفت في الأمر الثاني صحة إطلاق اللفظ وإرادة
الأعم منه ومن توابعه وملحقاته إذا كانت هناك قرينة متصلة أو منفصلة تدل

(1) الوسائل: ج 3 ص 127 باب 16 من أبواب المواقيت، ح 4.
(2) الوسائل: ج 3 ص 126 باب 16 من أبواب المواقيت، ح 1.
(3) المستدرك: ج 1 ص 190 باب 13 من أبواب المواقيت، ح 3.
(4) الوسائل: ج 3 ص 126 من أبواب المواقيت، ح 1، وفيه اختلاف يسير.
54

على إرادة الأعم، وإن كان اللفظ مع تجرده عن تلك القرينة يكون ظاهرا في
شخص ما وضع له ولا يعم التوابع.
وفي معناها روايات أخر ظاهرة الدلالة من أن مغيب الشمس واستتار
القرص إنما يكون بذهاب الحمرة المشرقية.
ومنها: ما تدل على أن وقت المغرب إنما هو ذهاب الحمرة المشرقية، أو
ما يقرب من هذا التعبير، مثل رؤية الكوكب وأمثال ذلك، من غير بيان أن
استتار القرص أو غيبوبة الشمس يتحقق بذلك.
ففي مرسلة ابن أشيم عن الصادق عليه السلام قال: سمعته يقول: وقت
المغرب إذا ذهبت الحمرة من المشرق (1)، الحديث.
وما رواه محمد بن علي بن الحسين بإسناده عن بكر بن محمد عن أبي عبد الله
عليه السلام أنه سأله سائل عن وقت المغرب، فقال: إن الله يقول في كتابه
لإبراهيم: فلما جن عليه الليل رأى كوكبا فقال هذا ربي (2)، وهذا أول الوقت،
وآخر ذلك غيبوبة الشفق (3).. إلخ.
ومعلوم أن ذهاب الحمرة ملازمة لرؤية الكوكب لغالب الناس المتعارفة في
البصر، فلا عبرة بمن يراه قبل ذلك. وفي معناها أيضا عدة روايات أخر لا تخفى على
المتتبع.
ومنها: ما تدل على ثبوت الفصل بين مغيب الشمس وصلاة المغرب.
ففي رواية أبان بن تغلب قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: أي ساعة كان
رسول الله صلى الله عليه وآله يوتر؟ فقال: على مثل مغيب الشمس إلى صلاة

(1) الوسائل: ج 3 ص 126 باب 16 من أبواب المواقيت، ح 3.
(2) الأنعام: 76.
(3) الوسائل: 3 ص 127 باب 16 من أبواب المواقيت، ح 6.
55

المغرب (1). بداهة ظهوره في ثبوت الفصل في الجملة بينهما، ومعلوم أن الفصل في
الجملة يلازم ذهاب الحمرة المشرقية هذا، مع عدم القول بالفصل.
ومنها: ما تدل على الأمر بالمساء بصلاة المغرب، وأن فعلهم عليهم السلام لهاه
عند استتار القرص، إنما كان لأجل التقية.
ففي رواية جارود قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: يا جارود ينصحون
فلا يقبلون، وإذا سمعوا بشئ نادوا به، أو حدثوا بشئ أذاعوه، قلت لهم: مسوا
بالمغرب قليلا فتركوها حتى اشتبكت النجوم، فأنا الآن أصليها إذا سقط
القرص (2).
ولا يخفى ظهور قوله عليه السلام أخيرا " فأنا الآن أصليها إذا سقط القرص "
في التقية لأن لا يعرف بما أذاعوه ونادوا به كما يدل على ذلك صدرها، فحينئذ
يكون قوله عليه السلام " مسوا بالمغرب قليلا " بمعنى التأخير عن استتار القرص في
الجملة، حتى لا ينافي ظهور فعله عليه السلام (3) لها عند الاستتار إنما كان لأجل
التقية، لكن التأخير لا على وجه يوجب اشتباك النجوم كما صنعه أبو الخطاب
وأصحابه، وقد عرفت أن التأخير عن الاستتار في الجملة يلازم القول بذهاب
الحمرة.
هذا ما أردنا ذكره من الأخبار الدالة على أن وقت المغرب إنما هو ذهاب
الحمرة المشرقية، وفي معناها أخبار أخر كثيرة ظاهرة الدلالة في ذلك، ولكن
أسقطناها للاستغناء بما ذكرناه.

(1) الوسائل: ج 3 ص 127 من أبواب المواقيت، ح 5.
(2) الوسائل: ج 3 ص 129 باب 16 من أبواب المواقيت، ح 15.
(3) إذ لو كان المساء بمعنى فعلها عند الاستتار لما كان فعله عليه السلام لها في ذلك الوقت لأجل التقية وهذا
مناف لظاهره فتأمل جيدا " منه ".
56

فلنذكر الآن الأخبار الدالة على أن وقت المغرب إنما هو استتار القرص،
ونقتصر أيضا على ما هو ظاهر الدلالة في ذلك، وهي أيضا طوائف:
منها: ما دل على أن وقت المغرب إنما هو غيبوبة الشمس أو استتار القرص،
من غير ذكر شئ آخر فيها.
ففي رواية محمد بن علي بن الحسين قال: قال أبو جعفر عليه السلام: وقت
المغرب إذا غاب القرص (1). قال: وقال الصادق عليه السلام: إذا غابت
الشمس فقد حل الافطار ووجبت الصلاة (2).
وفي رواية جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وآله إذا غاب القرص أفطر الصائم ودخل وقت الصلاة (3).
وفي رواية داود بن أبي يزيد قال: قال الصادق عليه السلام: إذا غابت
الشمس فقد دخل وقت المغرب (4).
وغير ذلك مما علق دخول وقت المغرب بمجرد غيبوبة الشمس واستتار
القرص، وهي كثيرة.
ومنها: ما دل على منع الإمام عليه السلام أن يمسي بالمغرب، وأنه كان
يصلي عليه السلام إذا غربت الشمس.
ففي رواية عبيد الله بن زرارة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول:
صحبني رجل كان يمسي بالمغرب ويغلس بالفجر، وكنت أنا أصلي المغرب إذا
غربت الشمس، وأصلي الفجر إذا استبان، فقال الرجل: ما يمنعك أن تصنع مثل
ما أصنع؟ فإن الشمس تطلع على قوم قبلنا وتغرب عنا وهي طالعة على قوم

(1) الوسائل: ج 3 ص 130 باب 16 من أبواب المواقيت، ح 18 و 19 و 20.
(2) الوسائل: ج 3 ص 130 باب 16 من أبواب المواقيت، ح 18 و 19 و 20.
(3) الوسائل: ج 3 ص 130 باب 16 من أبواب المواقيت، ح 18 و 19 و 20.
(4) الوسائل: ج 3 ص 131 باب 16 من أبواب المواقيت، ح 21.
57

آخرين بعد، فقلت له: إنما علينا أن نصلي إذا غربت الشمس عنا وإذا طلع
الفجر عندنا (1)، الحديث.
ومنها: ما دل على فعل الصادق عليه السلام صلاة المغرب عند غيبوبة
الشمس، مع التصريح فيه بأن شعاع الشمس بعد موجود في الأفق.
ففي رواية أبان بن تغلب وأبان بن أرقم وغيرهم، قالوا: أقبلنا من مكة حتى
إذا كنا بوادي الأخضر إذا نحن برجل يصلي، ونحن ننظر إلى شعاع الشمس،
فوجدنا في أنفسنا فجعل يصلي ونحن ندعو عليه ونقول هو شباب من شباب أهل
المدينة، فلما أتيناه إذا هو أبو عبد الله جعفر بن محمد عليه السلام، فنزلنا فصلينا
معه وقد فاتتنا ركعة، فلما قضينا الصلاة قمنا إليه، فقلنا له: جعلنا فداك هذه
الساعة تصلي؟ فقال: إذا غابت الشمس فقد دخل الوقت (2).
ومنها: ما دل على أن وقت المغرب إنما هو بغيبوبة القرص، مع زيادة تحديده
بأنه إذا نظرت إليه لم تره، كما في رواية علي بن الحكم عن أحدهما أنه سئل عن
وقت المغرب، فقال: إذا غاب كرسيها، قلت: وما كرسيها؟ قال: قرصها،
فقلت: متى يغيب قرصها؟ قال: إذا نظرت إليه فلم تره (3).
ومنها: ما دل على امتداد وقت المغرب من حين غيبوبة الشمس إلى أن
تشتبك النجوم أو سقوط الشفق.
فعن أبي عبد الله عليه السلام قال: وقت المغرب من حين غيبوبة الشمس إلى
أن تشتبك النجوم (4).

(1) الوسائل: ج 3 ص 131 باب 16 من أبواب المواقيت، ح 22 وفيه اختلاف يسير.
(2) الوسائل: ج 3 ص 131 باب 16 من أبواب المواقيت، ح 23 وفيه اختلاف يسير.
(3) الوسائل: ج 3 ص 132 باب 16 من أبواب المواقيت، ح 25.
(4) الوسائل: ج 3 ص 132 باب 16 من أبواب المواقيت، ح 26.
58

وفي رواية أخرى عنه أيضا عليه السلام قال بعد سؤاله عن وقت المغرب:
رقت المغرب ما بين غروب الشمس إلى سقوط الشفق (1).
هذا ما أردنا ذكره أيضا من الأخبار الدالة على أن وقت المغرب إنما هو
غيبوبة الشمس.
والذي يقتضيه النظر الصحيح في الجمع بينها هو الأخذ بما دل على اعتبار
ذهاب الحمرة المشرقية، فإن ما دل على خلافها من كون العبرة بغيبوبة الشمس
والقرص لا يقاومه من جهات.
أما الطائفة الأولى الدالة على دخول الوقت بغيبوبة الشمس واستتار
القرص بقول مطلق من غير ضميمة فهي محكومة بالطائفة الأولى من تلك الأخبار، التي حددت استتار القرص وغيبوبة الشمس بذهاب الحمرة المشرقية.
وقد تقدم في الأمر الثالث أنه لا يعامل في ما ورد من التحديدات الشرعية
للموضوعات العرفية معاملة المعارض، بل تكون حاكمة على الظاهر الأولي من
الموضوع، ومقيدة لاطلاقه، ومبينة للمراد منه.
وكيف يعامل معاملة التعارض بين ما دل على دخول الوقت بغيبوبة
الشمس بقول مطلق، وبين ما دل على أن غيبوبة الشمس إنما يتحقق بذهاب
الحمرة المشرقية؟ وهل يتوقف أحد في كون الثاني مفسرا للأول ومبينا له؟ ولأبعد
في إرادة ذهاب الحمرة أيضا من استتار القرص، ولم يكن الكلام خارجا عن
المتعارف لأن الحمرة من توابع القرص وملحقاته، وقد عرفت في الأمر الثاني من
أن إرادة التوابع أيضا من لفظ المتبوع لا يستلزم المجازية، فضلا عن خروج الكلام
عما هو المتعارف، فالطائفة أولى من هذه الأخبار محكومة طرا بالطائفة الأولى

(1) الوسائل: ج 3 ص 133 باب 16 من أبواب المواقيت، ح 29.
59

من تلك الأخبار.
وأما الطائفة الثانية من هذه الأخبار المشتملة على فعله عليه السلام صلاة
المغرب عند غيبوبة الشمس مع منعه من أن يمسي بالمغرب فبعد ما عرفت من أن
غيبوبة الشمس قد فسرت بذهاب الحمرة بمقتضى الطائفة الأولى من تلك
الأخبار فلا دلالة فيها على كون فعله عليه السلام إنما كان عند غياب الشمس
مع عدم ذهاب الحمرة، بل مقتضى التفسير أن فعله كان بعد ذهاب الحمرة، ولا
ينافيه المنع من أن يمسي بالمغرب، إذ لعل المراد ب‍ " يمسي " هو فعلها بعد سقوط
الشفق.
ولعل المصاحب كان من أصحاب أبي الخطاب، واحتمال ذلك يكفي في
سقوط الاستدلال بها، ولا ينافي أيضا ما ذكرنا من أن المراد بقوله عليه السلام
" إنما علينا أن نصلي إذا غربت الشمس " في غروبها مع ذهاب الحمرة، ما في ذيل
الرواية " وعلى أولئك أن يصلوا إذا غربت الشمس عنهم " (1) بداهة أنه ربما
تذهب الحمرة عن مكان، بل يسقط الشفق أيضا، مع عدم غيبوبة الشمس في
مكان آخر، فهذه الطائفة أيضا غير معارضة لما دل من اعتبار ذهاب الحمرة.
وأما الطائفة الثالثة الدالة على فعل الصادق عليه السلام لها مع بقاء شعاع
الشمس فلا بد من حملها على التقية، لأن في نفس الرواية دلالة على أن فعل
الصلاة في ذلك الوقت كان من شعار العامة بحيث كانوا يعرفون به، حتى أن
القوم قبل معرفة الإمام عليه السلام كانوا يدعون عليه، ويتخيلون أنه شاب من
شباب المدينة، فما هذا شأنه كيف يمكن الاستدلال به؟ فلا بد من حمل جميع
ما ورد بالتحديد بغيبوبة الشمس على التقية.

(1) الوسائل: ج 3 131 باب 16 من أبواب المواقيت، ح 22.
60

ويؤيد ذلك الطائفة الرابعة حيث عبر فيها باستتار الكرسي تارة
وباستتار القرص أخرى، فإنه يعلم منه أن الإمام عليه السلام كان بصدد الطفرة
عن الجواب حتى أن السائل كرر سؤاله، فالتجأ الإمام عليه السلام بتحديد
استتار القرص بأنه إذا نظرت إليه لم تره، مع احتمال أن يكون ضمير " إليه "
راجعا إلى القرص بتوابعه من الحمرة، وإن كان خلاف الظاهر.
وأما الطائفة الخامسة فلا دلالة فيها أيضا، لأن قوله عليه السلام " وقت
المغرب ما بين غروب الشمس إلى سقوط الشفق " (1) أو " اشتباك النجوم " (2) بعد
تحديد غيبوبة الشمس في تلك الأخبار بذهاب الحمرة، لا يكون له ظهور في كون
غروب الشمس غروب نفس الجرم، ولو كان له هذا الظهور مع قطع النظر عن
ذلك التحديد. نعم لو لم يكن بين ذهاب الحمرة وسقوط الشفق أو اشتباك
النجوم فصل لما أمكن حمل الغروب على ذهاب الحمرة، إلا أن الأمر ليس
كذلك.
فتحصل مما ذكرنا: أنه لا معارضة بين الأخبار حتى تصل النوبة إلى
المرجحات السندية، لأن ما دل على التحديد بغروب الشمس أو استتار القرص،
إما محكومة بما دل على أن الغيبوبة إنما تحصل بذهاب الحمرة وهي أكثرها، وإما
محمولة على التقية، لاشتمالها على قرينة تدل على ذلك، وقد تقدم في الأمر الرابع
أن ملاحظة المرجحات إنما هو بعد الفراغ عن جريان الأصول الجهتية.
ولو أغمضنا عن ذلك كله وقلنا بالمعارضة فلا إشكال أيضا في أن الترجيح
على ما دل على اعتبار ذهاب الحمرة، لا من جهة الأكثرية والأشهرية، بل من جهة

(1) الوسائل: ج 3 ص 133 باب 16 من أبواب المواقيت، ح 29.
(2) الوسائل: ج 3 ص 132 باب 16 من أبواب المواقيت، ح 26.
61

مخالفتها للعامة، بخلاف ما دل على أن العبرة باستتار القرص، فإنها موافقة للعامة
ويجب طرحها.
وما ذكرنا من أن رتبة الموافقة والمخالفة للعامة متأخرة عن المرجحات السندية
صحيح إلا أنه ليس في المقام من المرجحات شئ، لأن في كلتا الطائفتين من
الصحاح ما لا يخفى، والعدالة والوثاقة ة متحققة في كليهما، ولا أشهرية في البين لأن
كلتا الطائفتين مشهورتان عند الرواة والشهرة العملية ما لم تصل إلى حد الاعراض
عن الأخرى لا اعتبار بها، مع أن الشهرة العملية في تلك الطائفة، لأنه لم ينسب
القول باستتار القرص من الطبقة الأولى التي هي العبرة في كون عملهم جابرة
وكاسرة، إلا عن الكاتب والصدوق والمرتضى والشيخ وسلار والقاضي (1)، مع
أن عبارات بعضهم على ما نقل غير صريحة في ذلك، بل نقل عن بعضهم
خلاف ما نسب إليه، فلا إشكال في أن الشهرة أو الأشهرية في تلك الطائفة.
فليس في ما دل على اعتبار استتار القرص من المرجحات لو لم تكن في
مقابلها، ولا محالة تصل النوبة إلى موافقة العامة ومخالفتهم، ولا إشكال في موافقة
ذلك للعامة بحيث كانوا يعرفون به كما سمعت، ولا أظن بعدما ذكرنا التوقف في
الحكم ممن له أدنى روية في الجمع بين الأخبار.
فالأقوى أن أول وقت المغرب إنما هو ذهاب الحمرة المشرقية عن قمة الرأس،
كما صرحت به بعض الروايات المتقدمة، وبه يقيد ما دل على اعتبار الحمرة من
غير تقييد بتجاوزها عن ذلك الحد.
وأما آخره فالمشهور أنه يمتد إلى مقدار أربع ركعات من نصف الليل مطلقا
ولو للمختار. وقيل إلى ثلثه. وقيل: إلى سقوط الشفق، وما بعد ذلك إلى انتصاف

(1) جواهر الكلام: ج 7 ص 107.
62

الليل يكون وقتا للمضطر. وقيل: إن وقت الاضطراري يمتد إلى الطلوع. وربما
تكون في المسألة أقوال أخر، هذا بالنسبة إلى المغرب.
وأما العشاء فالمشهور أيضا أن أول وقتها إنما هو بعد فعل المغرب، وآخر وقتها
للمختار إلى انتصاف الليل. وقيل: إن وقتها إنما هو غيبوبة الشفق، وآخر وقتها
للمختار ثلث الليل، وما بعد ذلك إلى نصف الليل وقت لمضطر. وربما تكون في
المسألة أيضا أقوال أخر.
وليس هذا الاختلاف مختصا بالعشاءين، بل في الظهرين أيضا اختلفت
كلمات الأصحاب، فالمشهور على أنه يمتد وقت الظهرين إلى الغروب اختيارا،
كما أن المشهور هو دخول وقت العصر بمجرد فعل الظهر، بل مجمع عليه، وإن كان
يظهر من بعض العبائر وقوع الخلاف فيه. وقيل: إن آخر وقت الظهر هو القدمان،
وآخر وقت العصر هو أربعة أقدام للمختار، وبعد ذلك وقت للمضطر إلى
الغروب. وقيل: إن آخر وقت الظهر هو المثل، وآخر وقت العصر المثلان
للمختار. وقيل غير ذلك أيضا.
وبالجملة: اختلفت كلمات الأصحاب بالنسبة إلى آخر وقت الظهر
والعصر، بعد اتفاقهم ظاهرا على أول وقت الظهرين، وكذا اختلفت كلماتهم
بالنسبة إلى آخر وقت العشاءين وأول وقت العشاء، بعد اتفاقهم على أول وقت
المغرب وهو الغروب، وإن وقع الخلاف في ما يتحقق به الغروب، وأنه هل هو
الاستتار أو ذهاب الحمرة على ما تقدم بيانه، وكذلك اختلفت كلماتهم في آخر
وقت صلاة الفجر، بعد اتفاقهم أيضا على الظاهر في أوله وأنه هو الفجر
الصادق.
ولكن المشهور بين الأعلام هو امتداد وقت الظهرين إلى الغروب مطلقا ولو
للمختار، وامتداد وقت العشاءين إلى نصف الليل مطلقا، ودخول وقت العشاء
63

بمجرد فعل المغرب، وامتداد وقت الصبح إلى طلوع الشمس أيضا مطلقا ولو
للمختار، هذا هو المشهور، وفي مقابله أقوال أخر لا تخفى على المتتبع، ولعلها تمر
عليك في طي الاستدلال لما ذهب إليه المشهور.
فينبغي التكلم في مقامات ثلاث: الأول: في امتداد وقت الظهرين للمختار
إلى الغروب. المقام الثاني: امتداد وقت العشاءين إلى نصف الليل حتى
للمختار، وندرج فيه دخول وقت العشاء بمجرد فعل المغرب. المقام الثالث:
امتداد وقت صلاة الفجر إلى طلوع الشمس للمختار أيضا.
أما المقام الأول:
فقد علمت أنه المشهور، وهو الأقوى في النظر، وبيان ذلك يتوقف على ذكر
ما ورد من الأخبار في وقت الظهرين، وهي على طوائف:
منها: المطلقات الدالة على امتداد وقت الظهرين إلى الغروب.
كقوله عليه السلام " ثم أنت في وقت منهما إلى غروب الشمس " (1) وهي
كثيرة جدا، وقد تقدم شطر منها في أول بحث المواقيت.
ومنها: ما دل على امتداد وقت الظهر إلى أربعة أقدام.
كخبر الكرخي قال: سألت أبا الحسن عليه السلام متى يدخل وقت الظهر
قال: إذا زالت الشمس، فقلت: متى يخرج وقتها؟ فقال: من بعد ما يمضي من
زوالها أربعة أقدام، وإن وقت الظهر ضيق ليس كغيره (2).. إلخ.
وفي معناه رواية أخرى وردت في باب طهر الحائض بعد أربعة أقدام من
الزوال، حيث قال عليه السلام: إنها تصلي العصر فإن وقت الظهر قد خرج (3).

(1) الوسائل: ج 3 ص 92 باب 4 من أبواب المواقيت، ح 5 وفيه اختلاف يسير.
(2) الوسائل: ج 3 ص 109 باب 8 من أبواب المواقيت، ح 32.
(3) الوسائل: ج 2 ص 598 باب 49 من أبواب الحيض، ح 2 من كتاب الطهارة نقلا بالمضمون.
64

وقد أفتى بعض بمضمون هذا الخبر مع زيادة امتداد وقت العصر إلى ثمانية
أقدام مع أنه ليس في الخبر ذلك، بل فيه امتداد وقت العصر إلى غروب الشمس،
حيث قال: قلت: فمتى يدخل وقت العصر؟ فقال: إن آخر وقت الظهر هو أول
وقت العصر، فقلت: متى يخرج وقت العصر؟ فقال: وقت العصر إلى أن تغرب
الشمس (1).
ومنها: ما دل على امتداد وقت الظهر إلى المثل والعصر إلى المثلين.
ففي خبر محمد بن حكيم قال: سمعت العبد الصالح وهو يقول: إن أول وقت
الظهر زوال الشمس وآخر وقتها قامة من الزوال، وأول وقت العصر قامة وآخر
وقتها قامتان (2).
وفي معناه روايات أخر.
وقد أفتى بمضمونها بعض لكن بعد تقييده بالمختار، لما دل من امتداد الوقت
لصاحب العذر إلى الغروب.
ومنها: ما دل على أن وقت الظهر هو القدمان (3) أو القدم (4) أو الذراع (5)،
ووقت العصر أربعة أقدام (6) أو ذراعان (7) من غير تعرض أن ذلك آخر وقت
الفرضين، بل في بعضها دلالة على أن ذلك أول وقتها، ومع ذلك ذهب بعض إلى
أن ذلك آخر وقت الفرضين للمختار، ولعله توهم أن تلك الأخبار في مقام تحديد

(1) الوسائل: ج 3 ص 109 باب 8 من أبواب المواقيت، ح 32.
(2) الوسائل: ج 3 ص 108 من أبواب المواقيت، ح 29.
(3) الوسائل: ج 3 ص 102 باب 8 من أبواب المواقيت، ح 1 و 2.
(4) الوسائل: ج 3 ص 110 باب 8 من أبواب المواقيت، ح 34.
(5) الوسائل: ج 3 ص 43 باب 14 من أبواب أعداد الفرائض، ح 6.
(6) الوسائل: ج 3 ص 102 و 111 باب 8 و 9 من أبواب المواقيت، ح 1 و 2.
(7) الوسائل: ج 3 ص 102 و 111 باب 8 و 9 من أبواب المواقيت، ح 1 و 2.
65

آخر الوقت، مع أن ظاهر الأخبار يأباه، وأن ذلك أول الوقت لخصوص المتنفل،
فراجع.
ومنها: ما دل على امتداد وقت العصر للمختار حتى يصير الظل ستة
أقدام.
كما في خبر سليمان بن خالد: العصر على ذراعين، فمن تركها حتى تصير على
ستة أقدام فذلك المضيع (1).
وفي معناه رواية أخرى (2)، وقد أفتى بمضمونه بعض.
وفي المسألة أيضا أقوال خالية عن الشاهد، إذ الأخبار الواردة في الباب هي
ما ذكرناها، وقد عرفت أن هذه الأخبار المفصلة بين المثل والمثلين والأقدام وغير
ذلك كلها مقيدة بصورة الاختيار، لما ورد من أن وقت المضطر ممتد إلى الغروب أو
إلى اصفرار الشمس على اختلاف في ذلك أيضا، والأخبار المقيدة أيضا كثيرة
لا تخفى على المراجع، كما في صحيح ابن سنان عن الصادق عليه السلام في
حديث: لكل صلاة وقتان، وأول الوقت أفضلهما، ولا ينبغي تأخير ذلك عمدا،
ولكنه وقت من شغل أو نسي أو نام، وليس لأحد أن يجعل آخر الوقتين وقتا، إلا
من عذ أو علة (3).
إذا عرفت ذلك فيقع الكلام حينئذ في موضعين: الموضع الأول: في الجمع
بين هذه الأخبار المفصلة الدالة على عدم امتداد الوقت إلى الغروب للمختار
بمقتضى الأخبار المقيدة، وبين المطلقات الدالة بإطلاقها على امتداد الوقت مطلقا
حتى للمختار إلى الغروب. الموضع الثاني: في الجمع بين نفس هذه الأخبار.

(1) الوسائل: ج 3 ص 111 باب 9 من أبواب المواقيت، ح 2.
(2) الوسائل: ج 3 ص 111 باب 9 من أبواب المواقيت، ح 4.
(3) الوسائل: ج 3 ص 87 باب 3 من أبواب المواقيت، ح 4، وفيه اختلاف يسير.
66

المفصلة، حيث إنها بنفسها متعارضة من حيث اعتبار المثل والمثلين وأربعة أقدام
والذارعين وغير ذلك مما تقدم.
أما الكلام في الموضع الأول فالمشهور على حمل الأخبار المفصلة على بيان مراتب
وقت الفضيلة، وحمل المطلقات على بيان وقت الاجزاء، من غير فرق بين المضطر
والمختار، وفي مقابله الأقوال الأخر، حيث حملوا المطلقات على الوقت
الاضطراري، والأخبار المفصلة على الوقت الاختياري، هذا.
ومقتضى القواعد الأصولية مع قطع النظر عن القرائن الخارجية هو حمل
المطلقات على الوقت الاضطراري، وتقييدها بما دل على عدم امتداد الوقت
للمختار إلى الغروب، فإن المطلقات بإطلاقها تشمل المختار والمضطر في امتداد
الوقت إلى الغروب، وأخبار القدم والقدمين والمثل والمثلين الظاهرة في خروج
الوقت بذلك بعد تقييدها بالمختار تكون مقيدة لتلك المطلقات. فيكون الغروب
وقتا للمضطر.
وهذا الجمع بحسب القواعد مقدم من حمل الأخبار المفصلة على الاستحباب
والفضيلة كما صنعه المشهور، لما تبين في باب المطلق والمقيد من أن ما دل على
التقييد يكون حاكما ومبينا للمراد من المطلق، فالأصول اللفظية الجارية في المقيد
من ظهور أمره في الوجوب تكون حاكمة على الأصول الجارية في المطلق من ظهوره
في الاطلاق، وإن كان ظهور الأمر في الوجوب في المقيد يكون أضعف بمراتب من
ظهور المطلق في الاطلاق، لأن الشك في إطلاق المطلق يكون مسببا عن الشك في
كون الأمر في المقيد للوجوب، وبعد جريان أصالة ظهور الأمر فيه في الوجوب
يرتفع موضوع الشك في المطلق، ومن المعلوم أن الأصل الجاري في السبب يكون
مقدما على الأصل الجاري في المسبب، ولا يلاحظ أقوائية الظهور كما سنعه بعض
الأعلام، فظهور أمر (أعتق رقبة مؤمنة) حاكم على ظهور المطلق في الاطلاق وإن
67

كان ذلك من أضعف الظهورات وهذا من أقواها.
والسر في ذلك ما عرفت من أن الشك في المطلق مسبب عن الشك في المقيد،
ولا يمكن العكس بأن يقال: إن الشك في كون الأمر في المقيد للوجوب مسبب
عن الشك في إطلاق المطلق، وبعد الأخذ بأصالة الاطلاق في المطلق يرتفع
موضوع الشك في كون الأمر في المقيد للوجوب، ولا بد حينئذ من حمله على
الاستحباب، وذلك لأن دليل المطلق غير متعرض للمقيد، غاية الأمر أنه لو بقي
على إطلاقه يكون معارضا للمقيد.
وهذا بخلاف دليل المقيد، فإنه بمنزلة القرينة للمطلق ك‍ (يرمي) في قولنا
(أسد يرمي) فإن ظهور يرمي في رمي النبال يكون قرينة على أن المراد من الأسد
هو الرجل الشجاع، ولا يمكن أن يقال: إن ظهور أسد في الحيوان المفترس يكون
قرينة على أن المراد من يرمي هو رمي التراب، وهذا واضح لا سترة فيه، وقد
ذكرناه في باب المطلق والمقيد مفصلا، فراجع.
إذا عرفت ذلك فنقول: إن مقتضى ما عرفت من حكومة الأصول الجارية في
المقيد على الأصول الجارية في المطلق هو لزوم حمل المطلقات الواردة في امتداد
وقت الظهرين إلى الغروب على المقيدات الظاهرة في خروج الوقت بالأقدام
والمثلين للمختار، ولا تصل النوبة إلى حمل أوامر المقيدات على الفضيلة
والاستحباب، كما سنعه المشهور.
ولكن هذا إنما يتم لو لم يكن هناك قرينة على إرادة وقت الفضيلة من
الأوامر المقيدة، وأما مع ثبوت القرينة في ذلك ينهدم ظهور الأمر في الوجوب في
المقيدات، وتبقى المطلقات على حالها من امتداد الوقت للمختار إلى
الغروب.
والانصاف أن ملاحظة مجموع الأخبار الواردة في هذه الباب مما يشرف
68

الفقيه القطع بإرادة وقت الفضيلة من الأقدام والمثلين، ولو لم يكن في أخبار
الباب إلا رواية أحمد بن يحيى لكفى شاهدا في أن تلك الأخبار محمولة على
تحديد وقت الفضل، وفيها قال: كتب بعض أصحابنا إلى أبي الحسن
عليه السلام: روي عن آبائك القدم والقدمين والأربع والقامة والقامتين وظل
مثلك والذراع والذراعين، فكتب عليه السلام: لا القدم ولا القدمين، إذا زالت
الشمس فقد دخل وقت الصلاتين، وبين يديها سبحة وهي ثمان ركعات، فإن
شئت طولت وإن شئت قصرت، ثم صل الظهر، فإذا فرغت كان بين يدي الظهر
والعصر سبحة وهي ثمان ركعات، إن شئت طولت وإن شئت قصرت، ثم صل
العصر (1).
فيظهر من السؤال والجواب أن الراوي تخيل أن تلك الأوقات أوقات
للوجوب فسأل عما هو الواجب، فنفى الإمام عليه السلام الوجوب وأنه ليس
القدم والقدمان والمثل والمثلان وغير ذلك مما ورد عن آبائي عليهم السلام وقتا
للوجوب، بل إذا زال الزوال دخل الوقتان، فالإمام عليه السلام وإن ذكر في
الجواب أو الوقت ولم يتعرض لآخره وأن امتداده إلى متى إلا أن جوابه
عليه السلام كالصريح في أن التحديد بتلك الأوقات المروية عنهم عليهم السلام لم
يكن تحديدا للوقت الواجب بحيث لا يجوز التقديم والتأخير عنه، فهذه الرواية أقوى
شاهد على ما ذهب إليه المشهور من أن التحديد بذلك إنما هو لبيان وقت الفضل
لا الاجزاء.
ومما يدل على ذلك أيضا قوله عليه السلام في صحيحة زرارة: أحب الوقت
إلى الله عز وجل أوله، حين يدخل وقت الصلاة فصل الفريضة، فإن لم تفعل فإنك

(1) الوسائل: ج 3 ص 98 بباب 5 من أبواب المواقيت، ح 13 وفيه اختلاف يسير.
69

في وقت منهما حتى تغيب الشمس (1). ضرورة أنه كالصريح في امتداد الوقت إلى
الغروب، وإن كان أوله أفضل لأنه أحب إلى الله، خصوصا بعد قوله " فإن لم
تفعل " الظاهر في عدم الفعل اختيارا، إذ لا يحسن التعبير ب‍ " إن لم تفعل " فيما إذا
كان معذورا من الفعل، بل حق التعبير حينئذ أن يقال: فإن لم تتمكن، أو لم
نقدر، أو كنت معذورا، وأمثال ذلك مما يدل على الاضطرار.
هذا مضافا إلى أن في نفس هذه الأخبار ما يدل على ذلك، كقوله
عليه السلام في صحيحة ابن سنان في حديث: لكل صلاة وقتان وأول الوقت
أفضلهما، ولا ينبغي تأخير ذلك عمدا، ولكنه وقت من شغل أو نسي (2)،
الحديث. بداهة ظهور " لا ينبغي " في كون آخر الوقت أيضا وقتا للاجزاء وإن
كان التأخير مرجوحا، وقوله عليه السلام " أوله رضوان الله وآخره عفو الله " (3)
وأمثال ذلك من التعبيرات الدالة بنفسها على جواز التأخير اختيارا، وإن كان
أوله أفضل.
هذا كله مع أن بعض الأخبار الدالة على خروج الوقت إذا صار الظل أربعة
أقدام لا بد من حملها على التقية أو طرحها، فإن ما ورد من أن الحائض إذا طهرت
بعد مضى أربعة أقدام من الزوال تصلي العصر لخروج وقت الظهر بذلك (4). مما
لا يمكن الالتزام به، بل هو مجمع على بطلانه، بداهة أن الحيض من أوضح
مصاديق العذر والاضطرار فلا بد من طرحها أو حملها على التقية.
وبالجملة: لا حاجة إلى إطالة الكلام في ذلك، فإن ملاحظة الأخبار تكفي في

(1) الوسائل: ج 3 ص 87 باب 3 من أبواب المواقيت، ح 5.
(2) الوسائل: ج 3 ص 87 باب 3 من أبواب المواقيت، ح 4 وفيه: " أول الوقتين "
(3) الوسائل: ج 3 ص 90، باب 3 من أبواب المواقيت، ح 16.
(4) الوسائل: ج 2 ص 598، باب 49 من أبواب الحيض، ح نقلا بالمضمون.
70

حمل الأخبار المفصلة على الفضيلة، هذا تمام الكلام في الموضع الأول.
بقي الكلام في الموضع الثاني: وهي الجمع بين نفس الأخبار المحددة المفصلة،
فإنه قد عرفت اختلافها في ذلك أيضا، فبعضها تحديد بالمثل للظهر والمثلين
للعصر، وهو منتهى ما ورد من التحديد، وبعضها تحديد الظهر بالقدم والعصر
بالقدمين، وهو أقل التحديدات، وما بينهما من القدمين والأربعة والستة
متوسطات، ولا يبعد حمل هذا الاختلاف على بيان مراتب الفضل وأن أوله بل
أول الزوال كما ورد أن أول الظهر زوال الشمس وآخر وقتها قامة (1)، الحديث
القدم للظهر والقدمان للعصر، وآخره المثل للظهر والمثلان للعصر وأن الأول
أفضل، ولا بأس بالتزام عدم دخول وقت فضيلة العصر قبل القدمين وإن فرغ من
الظهر قبل ذلك.
بل يمكن أن يستشعر من بعض الأخبار أن ما شرع أولا إنما هو التفريق بين
الظهرين وإن الجمع رخصة، كما يظهر ذلك مما ورد في نزول جبرئيل
عليه السلام في اليوم الأول بوقت كذا وفي اليوم الثاني بوقت كذا (2). فراجع.
وحاصل الكلام: أن الأخبار في الباب مضطربة غاية الاضطراب، فإن في
بعضها نفي التحديد رأسا، كقوله عليه السلام بعد السؤال عن اختلاف الأخبار
المروية عن آبائه عليهم السلام " لا المقدم ولا القدمين.. إلخ " (3) وفي بعضها تحديد
الظهر بالقدم والعصر بالقدمين، كما في قوله عليه السلام " والنصف من ذلك
أحب إلي " بعد السؤال عنه عن فعل الظهر بالقدمين والعصر بأربعة أقدام،
وبعضها التحديد بالقدمين للظهر وأربعة للعصر، وفي بعضها التحديد بالمثل

(1) الوسائل: ج 3 ص 108، باب 8 من أبواب المواقيت، ح 29 وفيه اختلاف يسير.
(2) الوسائل: ج 3 ص 114، باب 10 من أبواب المواقيت، ح 5.
(3) الوسائل: ج 3 ص 98، باب 5 من أبواب المواقيت، ح 13.
71

والمثلين على اختلاف بينها في أن ذلك منتهى الوقت كما في أكثر روايات المثل
والمثلين، أو أول الوقت كما في بعضها الآخر، وفي بعضها تحديد العصر بستة أقدام
في طرف الانتهاء وغير ذلك من الاختلافات.
والانصاف أن هذه الاختلافات أقوى شاهد على أن التحديد بذلك ليس
للوقت الاجزائي، بل إنما هو لبيان مراتب الفضل.
ولكن المتحصل من مجموع الأخبار على ما عليها من الاختلاف: هو أن
آخر وقت فضيلة العصر المثلان، وآخر وقت فضيلة الظهر المثل، وما دل على أمر
الإمام عليه السلام لزرارة من فعل الظهر بعد المثل والعصر بعد المثلين (1) فمحمول
على أن ذلك كان لمصلحة اقتضت إلى عدم فعل زرارة الظهر والعصر في وقت
الفضيلة.
وعلى كل حال لا يمكن القول بأن وقت الفضيلة إنما هو بعد المثل والمثلين،
لمخالفته للاجماع وصريح عدة من الروايات بأن ذلك آخر الوقت لا أوله، فما ورد في
بعض الأخبار من أن أول الوقت هو بعد ذلك مطروح أو مؤول.
وأما أو الوقت للمتنفل هو القدم للظهر والقدمان للعصر، فإن ذلك أقل
ما ورد من التحديد، بل يمكن أن يقال: إن أول وقت الفضل هو ذلك لغير المتنفل
أيضا، وإن ما ورد من التعليل بأن التحديد إنما كان من جهة النافلة فمحمول على
أن ذلك إنما هو لبيان حكمة التشريع لا علته، بحيث يكون أول الزوال أول وقت
الفضيلة لغير المتنفل.
ولكن ينافي ذلك ما ورد من أن أول الزوال هو أول الوقت في خصوص يوم

(1) الوسائل: ج 3 ص 105، باب 8 من أبواب المواقيت، ح 13.
72

الجمعة والمسافر (1). فإن ذلك يشعر بأن الفضل لغير المتنفل هو فعله في أول
الوقت، والوجه في تخصيص المسافر ويوم الجمعة إنما هو لمكان سقوط النافلة في
ذلك.
وعلى أي حال، المراد من المثل أو المثلين والقدم والقدمين إنما هو بملاحظة
الظل الحادث بعد انعدامه أو انتهاء نقصانه، وأن المراد ملاحظة مجموع الظل من
الباقي والحادث، بداهة عدم إمكان إرادة ذلك، فإنه ربما يكون الظل الباقي بقدر
المثل باعتبار اختلاف الأمكنة والأزمنة، فيلزم أن لا يكون حينئذ للظهر وقت
فضيلة، فتأمل جيدا. وعليك بملاحظة الأخبار الواردة في الباب، فإن المقام
لا يسع أزيد من ذلك.
المقام الثاني:
في بيان آخر وقت المغرب والعشاء، وأول وقت العشاء، فنقول: أما أول
وقت العشاء فالمشهور أنه بعد الفراغ من المغرب، وإن كان قبل سقوط الشفق
المفسر في الأخبار بذهاب الحمرة المغربية، لا البياض المعترض بالأفق، فإنه يبقى
تقريبا إلى ثلث الليل. وقيل: إن أول وقت العشاء إنما هو بعد سقوط الشفق،
فلا يجوز تقديمها عليه إلا لصاحب العذر، للأخبار الدالة بظاهرها على ذلك،
كما في خبر نزول جبرئيل بصلاة المغرب قبل ذهاب الشفق، وبصلاة العشاء
بعده (2). ومفهوم قوله عليه السلام " لا بأس بأن تعجل العتمة في السفر قبل أن
يغيب الشفق " وغير ذلك مما يظهر منه عدم دخول وقت العشاء للمختار قبل
ذهاب الشفق.

(1) الوسائل: ج 3 ص 105، باب 8 من أبواب المواقيت، ح 11 نقلا بالمعنى.
(2) الوسائل: ج 3 ص 114، باب 10 من أبواب المواقيت، ح 3.
73

والأقوى ما عليه المشهور من دخول وقتها قبل ذلك، وإن كان الأفضل
تأخيرها عن ذلك، وذلك لما ورد في عدة من الروايات من فعله صلى الله عليه
وآله المغرب والعشاء قبل سقوط الشفق من غير علة ولا عذر، كما هو صريح
الروايات (1) به، وعلل في بعضها بأن فعله ذلك ليتسع الوقت على أمته.
ولرواية زرارة قال: سألت أبا جعفر عليه السلام وأبا عبد الله عليه السلام عن
الرجل يصلي العشاء الآخرة قبل سقوط الشفق، فقالا: لا بأس به (2).
وغير ذلك مما دل بالخصوص على دخول وقت العشاء قبل سقوط الشفق،
مضافا إلى العمومات والاطلاقات الواردة في صلاة العشاءين، كقوله عليه السلام
" إذا غربت الشمس دخل وقت الصلاتين، إلا أن هذه قبل هذا " (3).
وحينئذ لا بد من حمل ما ورد على فعل العشاء بعد الشفق على الأفضلية، وأن
الأفضل هو تأخير العشاء عن ذلك إلى ربع الليل أو ثلثه.
وأما آخر وقت العشاءين فالمشهور أنه يمتد إلى النصف مطلقا حتى بالنسبة
إلى المختار. وقيل: إن آخر وقت المغرب هو سقوط الشفق للمختار، وأما المضطر
فيمتد وقته إلى الربع أو الثلث أو النصف أو إلى ما قبل طلوع الفجر بمقدار فعل
العشاء على اختلاف الأقوال في ذلك، وكذا الأقوال في طرف العشاء، فقيل: إن
آخر وقته للمختار الربع أو الثلث على اختلاف القولين في ذلك، ومن الربع إلى
الثلث أو النصف أو الطلوع، وكذا من الثلث إلى النصف أو الطلوع وقت
للمضطر.

(1) الوسائل: ج 3 ص 162، باب 32 من أبواب المواقيت، ح 8.
(2) الوسائل: ج 3 ص 148، باب 22 من أبواب المواقيت، ح 5.
(3) الوسائل: ج 3 ص 132، باب 16 من أبواب المواقيت، ح 24.
74

والأقوى ما عليه المشهور من امتداد الوقت مطلقا إلى النصف، ولا بد من حمل
الأخبار الواردة على أن آخر وقت المغرب هو سقوط الشفق أو ربع الليل أو ثلثه،
وكذا ما دل على أن آخر وقت العشاء هو الثلث أو الربع على بيان وقت الفضيلة
ومراتبها لا الاجزائي، لعين ما تقدم في الظهرين.
وحاصله: أنه وإن كان مقتضى القواعد الأصولية هو حمل المطلقات الدالة
على امتداد الوقت إلى النصف على خصوص المضطر، من جهة المقيدات الدالة
على أن آخر وقت المغرب لغير صاحب العذر هو سقوط الشفق أو الربع أو الثلث،
وعلى أن آخر وقت العشاء هو الربع أو الثلث لغير ذلك أيضا، إلا أن في المقام
قرائن تدل على أن المراد من المقيدات المحددة إنما هو الوقت الفضيلي لا الاجزائي،
وأن تلك التحديدات إنما هي مراتب الفضل، وذلك لما ورد في عدة من الروايات
على جواز تأخير المغرب عن الشفق بلا عذر، وكذا تأخير العشاء عن الثلث أو
الربع.
ولنذكر بعض الأخبار الواردة في المقام ليتضح حقيقة الحال، ففي رواية
حريز عن زرارة والفضيل قالا: قال أبو جعفر عليه السلام: إن لكل صلاة وقتين،
غير المغرب فإن وقتها واحد، ووقتها وجوبها، ووقت فوتها سقوط الشفق (1).
وفي معناها عدة روايات ظاهرة الدلالة في أن آخر وقت المغرب هو سقوط
الشفق لكن مع تقييدها بغير علة، كقوله عليه السلام: من أخر المغرب حتى
تشتبك النجوم من غير علة فإنا إلى الله منه برئ (2). وقد أفتى بمضمونها بعض
الأصحاب، وفي رواية عمر بن يزيد قال: قال أبو عبد الله: وقت المغرب في السفر

(1) الوسائل: ج 3 ص 137، باب 18 من أبواب المواقيت، ح 2.
(2) الوسائل: ج 3 ص 138، باب 18 من أبواب المواقيت، ح 8.
75

إلى ثلث الليل (1). وفي روايته أيضا قال: قال أبو عبد الله: وقت المغرب في السفر
إلى ربع الليل (2). وقال الكليني: إنه روي أيضا إلى نصف الليل (3).
فيفهم من هذه الروايات أن آخر وقت المغرب للمضطر بناء على حمل السفر
على المثال وأن المقصود مطلق العذر هو الربع، وبه روايات عديدة، وقد أفتى
بمضمونها بعض، أو النصف كما عن الكليني (4)، وقال به أيضا قوم، هذا في
طرف المغرب.
وأما العشاء ففي رواية عن صاحب الأمر عجل الله فرجه أنه قال: ملعون
ملعون من أخر العشاء إلى أن تشتبك النجوم (5) إلخ. وهذه الرواية بظاهرها
تدل على أن آخر وقت العشاء هو اشتباك النجوم الذي هو قريب من سقوط
الشفق، ولكن الظاهر أنه لم يعمل بها أحد، وفي مضمر معاوية بن عمار: أن وقت
العشاء الآخرة إلى ثلث الليل (6). ويقرب منها رواية الحلبي عن الصادق (7)، وأفتى
بمضمونها بعض، وقد ورد في عدة من الروايات أن رسول الله صلى الله عليه وآله
قال: لولا أني أخاف أن أشق على أمتي لأخرت العشاء إلى ثلث الليل (8). وفي
بعض منها أنه قال صلى الله عليه وآله: وأنت في رخصة منها إلى نصف الليل (9).
وفي رواية أنه قال صلى الله عليه وآله: لولا أن أشق على أمتي لأخرت العشاء

(1) الوسائل:: ج 3 ص 141، الباب 19 من أبواب المواقيت، ح 1 و 2 و 3.
(2) الوسائل:: ج 3 ص 141، الباب 19 من أبواب المواقيت، ح 1 و 2 و 3.
(3) الوسائل:: ج 3 ص 141، الباب 19 من أبواب المواقيت، ح 1 و 2 و 3.
(4) الوسائل: ج 3 ص 141، باب 19 من أبواب المواقيت، ح 3.
(5) الوسائل: ج 3 ص 147، باب 21 من أبواب المواقيت، ح 7.
(6) الوسائل: ج 3 ص 146، باب 21 من أبواب المواقيت، ح 4.
(7) الوسائل: ج 3 ص 135، باب 17 من أبواب المواقيت، ح 9.
(8) الوسائل: ج 3 ص 146 باب 21 من أبواب المواقيت، ح 2.
(9) الوسائل: ج 3 ص 135 باب 17 من أبواب المواقيت، ح 7 وفيه اختلاف يسير.
76

إلى نصف الليل (1). وروى الكليني إلى ربع الليل (2) أيضا.
فهذه جملة الأخبار الواردة في المقام، وأنت إذا نظرت في هذه الأخبار على
اختلافها تعرف أنها ليست بصدد بيان الوقت الاجزائي، بل إنما هي لبيان وقت
الفضل، كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وآله في ذيل قوله " لولا أني أخاف أن
أشق " " وأنت في رخصة منها إلى نصف الليل " فإنه يشعر بأن التأخير إلى الثلث
ليس من جهة أنه أول الوقت، كما يوهمه ظاهر قوله صلى الله عليه وآله " لأخرت
العشاء إلى ثلث الليل " بل لمكان أن آخر الوقت الفضيلي هو الثلث وأنه أفضل
من أوله، كما يشعر إليه أن تقديمها على ذلك الوقت إنما هو لمكان خوف المشقة،
وإلا فالصبر إلى الثلث أفضل، وإن كان الوقت ممتد إلى النصف.
فيتحصل من هذه الرواية أمور ثلاثة: الأول: أن الوقت ممتد إلى النصف
بقرينة قوله صلى الله عليه وآله " وأنت في رخصة.. إلخ ". الثاني: أن وقته ا
يدخل قبل الثلث. الثالث: أن الثلث آخر وقت الفضيلي وأنه أفضل من غيره،
ولا مانع من أن يكون آخر وقت الفضيلي أفضل من أوله، فتكون هذه الرواية
مخصصة لما دل على أن أول الوقت أفضل مطلقا في جميع الفرائض.
فظهر أن هذه الرواية بنفسها تكفي في المطلوب من امتداد وقت العشاء مطلقا
إلى النصف، وأن ما ورد من الثلث والربع محمول على الوقت الفضيلي، هذا
بالنسبة إلى العشاء، وقد عرفت أن قوله صلى الله عليه وآله " وأنت في رخصة منها
إلى نصف الليل " كاد أن يكون صريحا في الامتداد إلى ذلك مطلقا حتى
للمختار، ضرورة أنه لو كان ذلك مخصوصا بالمضطر لما كان معنى لقوله صلى الله
عليه وآله " وأنت في رخصة " لعدم مناسبة الرخصة مع كونه مضطرا في التأخير،

(1) الوسائل: ج 3 ص 146، باب 17 من أبواب المواقيت، ح 5 و 3.
(2) الوسائل: ج 3 ص 146، باب 17 من أبواب المواقيت، ح 5 و 3.
77

فإن الرخصة إنما تستعمل في مقام التوسعة والقدرة على الفعل قبل ذلك.
اللهم إلا أن يقال بتعميم الاضطرار إلى ما لا ينافي ذلك، فتأمل فإن التعميم
يلازم القول بالامتداد إلى النصف اختيارا، هذا كله مضافا إلى المطلقات التي
كادت أن تكون متواترة والشهرة المحققة.
وأما المغرب فامتداد وقته إلى النصف من جهة عدم القول بالفصل بينه
وبين العشاء، فكل من قال بامتداد وقت العشاء إلى النصف اختيارا قال به في
المغرب أيضا، هذا.
مضافا إلى الأدلة الخاصة من جواز تأخير المغرب عن الشفق اختيارا، كما في
رواية عمار عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن صلاة المغرب إذا حضرت
هل يجوز أن تؤخر ساعة؟ قال: لا بأس إن كان صائما أفطر ثم صلى، وإن كانت
له حاجة قضاها ثم صلى (1). فإن إطلاق الحاجة وعدم تقييدها يدل على جواز
التأخير لأي حاجة، وهذا كما ترى يساوق جواز التأخير اختيارا.
وفي رواية داود الصرمي قال: كنت عند أبي الحسن الثالث عليه السلام
يوما، فجلس يحدث حتى غابت الشمس، ثم دعا بشمع وهو جالس يتحدث،
فلما خرجت من البيت نظرت فقد غاب الشفق قبل أن يصلي المغرب (2)،
الحديث.
وفي رواية إسماعيل قال: رأيت الرضا وكنا عنده لم يصل المغرب حتى
ظهرت النجوم، ثم قام فصلى بنا على باب دار ابن أبي محمود (3).
وإذا جاز التأخير عن الشفق اختيارا فلا محالة يكون ممتدا إلى النصف،
لضعف القائل بالتفصيل، فحينئذ يجب حمل الأخبار المحددة في طرف المغرب

(1) الوسائل: ح 3 ص 143، باب 19 من أبواب المواقيت، ح 12 و 10 و 9.
(2) الوسائل: ح 3 ص 143، باب 19 من أبواب المواقيت، ح 12 و 10 و 9.
(3) الوسائل: ح 3 ص 143، باب 19 من أبواب المواقيت، ح 12 و 10 و 9.
78

والعشاء إلى بيان وقت الفضيلة وأن أول وقت الفضل للمغرب هو ذهاب
الحمرة، كما يدل عليه المطلقات من أفضلية أول الوقت، ودونه في الفضل الربع،
ودونه الثلث، وكذا أول وقت فضيلة العشاء سقوط الشفق، وآخره الثلث، لكن
هنا التأخير إلى الثلث أفضل عكس المغرب والظهرين فإن أول أوقاتها يكون
أفضل. هذا كله بالنسبة إلى جواز تأخير العشاءين عن الربع والثلث إلى النصف
اختيارا.
وأما جواز تأخيرها عن النصف إلى الطلوع إما اختيارا كما نسب إلى
بعض، أو اضطرارا كما عن المعتبر (1) والمدارك (2)، فمجمل القول فيه: أنه قد
وردت عدة من الروايات وفيها الصحاح أن وقت العشاءين ممتد إلى الطلوع
لكن في خصوص النائم والناسي والحائض.
ففي الصحيح عن الصادق عليه السلام أنه قال: إن نام الرجل ولم يصل صلاة
المغرب والعشاء أو نسي فإن استيقظ قبل الفجر قدر ما يصلي كلتيهما فليصليهما،
وإن خشي أن تفوته أحدهما فليبدأ بالعشاء الآخرة (3).
وفي خبر عبد الله بن سنان: إذا طهرت المرأة قبل غروب الشمس فلتصل
الظهر والعصر، وإن طهرت من آخر الليل فلتصل المغرب والعشاء (4). وفي طريق
آخر: إن طهرت قبل الفجر (5).
وفي رواية عبيد الله بن زرارة: لا تفوت صلاة النهار حتى تغيب الشمس،

(1) المعتبر في شرح المختصر: ص 138، ص 15 من كتاب الصلاة.
(2) مدارك الأحكام: ص 119، س 25 من كتاب الصلاة.
(3) الوسائل: ج 3 ص 209، باب 62 من أبواب المواقيت، ح 3، وفيه اختلاف يسير.
(4) الوسائل: ج 2 ص 600، باب 49 من أبواب الحيض، ح 10.
(5) الوسائل: ج 2 ص 599 و 600 باب 49 من أبواب الحيض، ح 7 و 12 نقلا بالمضمون.
79

ولا صلاة الليل حتى يطلع الفجر، ولا صلاة الفجر حتى تطلع الشمس (1).
ومقتضى إطلاق الرواية الأخيرة هو امتداد الوقت إلى الفجر مطلقا ولو
اختيارا، خصوصا بعد قوله عليه السلام " لا تفوته صلاة النهار حتى تغيب
الشمس " بل يمكن أن يقال: إن الظاهر من خبر طهر الحائض هو ذلك أيضا،
بقرينة قوله عليه السلام " إذا طهرت المرأة قبل غروب الشمس فلتصل الظهر
والعصر " بداهة جواز تأخير الظهر والعصر إلى الغروب وإن طهرت قبله بكثير،
فينبغي أن يكون العشاءين كذلك، لأنهما جعلا في الرواية على نسق واحد،
فتأمل.
ولعل هذا أوجب القول بامتداد وقت العشاءين مطلقا إلى الغروب، وإن
قال في الجواهر من أنه لم يعرف قائله (2)، والانصاف أنه ينبغي أن لا يعرف قائله،
فإن القول بذلك في غاية السقوط، لتصريح جملة من الأخبار في أن منتهى وقت
العشاءين هو النصف، فلو أخذنا بإطلاق هذه الرواية من امتداد الوقت إلى
الطلوع اختيارا تكون معارضة لتلك الأخبار بالتباين، ولا يريب أحد في ترجيح
تلك الأخبار لكثرتها، بل ربما يدعى تواترها، وشهرتها بين الرواة، وعمل
الأصحاب عليها، مع أنه قد عرفت أنه لم يعلم القائل بامتداد الوقت إلى الطلوع
اختيارا.
فلا إشكال في سقوط هذا القول، وسقوط ما يمكن التمسك به له، أما رواية
عبيد الله بن زرارة فلضعف سندها، على ما في الجواهر (3)، وأما رواية الحائض
فلأن موردها هو الاضطرار، فليس فيها إطلاق بالنسبة إلى غير الاضطرار، ومجرد
ذكر الظهرين قبله لا يكون قرينة على ذلك، مع أنه على فرض صحة السند في

(1) الوسائل: ج 3 ص 116، باب 10 من أبواب المواقيت، ح 9.
(2) جواهر الكلام: ج 7 ص 156 و 158.
(3) جواهر الكلام: ج 7 ص 156 و 158.
80

الأولى وصحة الدلالة في الثانية لا بد من طرحها لموافقتها للعامة لكن في خصوص
العشاء، لأن المغرب لا يمتد عندهم إلى الطلوع بل وقته عندهم ضيق وأن آخره
سقوط الشفق، فتأمل جيدا.
بقي الكلام في ما ينقل عن المعتبر (1) والمدارك (2) بل الشيخ في الخلاف (3) من
امتداد الوقت إلى الطلوع بالنسبة إلى المضطر، ومستندهم ما تقدم من قول الصادق
عليه السلام " إن نام الرجل ولم يصل صلاة العشاء والمغرب (4).. إلخ " وهو وإن
كان مخصوصا بالنوم والنسيان، إلا أنه بعد إلقاء الخصوصية يكون الحكم عاما
لمطلق المضطر، وبه يقيد ما دل على النصف من المطلقات الشاملة بإطلاقها
المضطر والمختار.
ولا يمكن أن يقال بأن غاية ما يدل عليه الصحيح هو فعل العشاءين قبل
الفجر لو استيقظ أو تذكر بعد الانتصاف وهو أعم من الأداء والقضاء، فلعل أن
تكون العشاءين بعد الانتصاف قضاء ولكن يجب قضاؤهما قبل الفجر، غاية
الأمر أنه يكون من الأدلة الدالة على تعجيل القضاء بالنسبة إلى خصوص النائم
والناسي، فتكون المطلقات حينئذ أخص من هذا الصحيح، لأن المطلقات تدل
على خروج الوقت بعد الانتصاف وتكون الصلاة قضاء، وهذه الصحيحة تدل
على وجوب فعل العشاءين قبل الفجر ولا تعرض لها للأدائية والقضائية، فلا بد
من حملها على صورة القضاء كما هو الشأن في صناعة الاطلاق والتقييد، وذلك
لأن قوله عليه السلام في آخر الصحيحة " وإن خشي أن تفوته أحدهما فليبدأ

(1) المعتبر في شرع المختصر: ص 138 س 15 من كتاب الصلاة.
(2) مدارك الأحكام: ص 119 س 25 من كتاب الصلاة.
(3) الخلاف: ج 1 ص 264 مسألة 8 من كتاب الصلاة، طبع مؤسسة النشر الاسلامي قم.
(4) الوسائل: ج 3 ص 209 باب 62 من أبواب المواقيت، ح 3.
81

بالعشاء الآخرة " ينفي هذا المعنى، بداهة أنه لو كانت قضاء لم يكن وجه لسقوط
الترتيب وفعل العشاء قبل المغرب، ودعوى سقوط الترتيب في القضاء في هذا
المورد بعيد جدا.
فالانصاف أن الصحيحة في حد نفسها ظاهرة الدلالة في امتداد الوقت
للناسي والنائم إلى الطلوع، ولا يمكن الحمل على التقية لأن الحمل على التقية فرع
التعارض وعدم الجمع الدلالي، وفي المقام ليس كذلك لأن الجمع الدلالي ممكن،
لما عرفت من أخصية هذه الصحيحة بالنسبة إلى المطلقات، وفي كل مورد كان
أحد الدليلين أخص مطلقا من الآخر يجمع بينهما بحمل المطلق على الخاص
ولا تصل النوبة إلى ملاحظة التقية، اللهم إلا أن يكون الخاص بنفسه مشتملا
على قرائن التقية، وهذا في المقام مفقود أيضا، فلا يمكن الخدشة في دلالة الرواية
على ما ذهب إليه في المعتبر (1) والمدارك (2) والشيخ (3) على احتمال إلا من حيث
تعميم الاضطرار، مع أن في الرواية لم يذكر إلا خصوص النوم والنسيان.
والانصاف أن إلقاء الخصوصية ليس بذلك البعد، بل في رواية زرارة
التصريح بذلك قال: وقال الصادق عليه السلام: لا تفوت الصلاة من أراد الصلاة،
لا تفوت صلاة النهار حتى تغرب الشمس، ولا صلاة الليل حتى يطلع الفجر
وذلك للمضطر والعليل والناسي (4).
نعم هذه الصحيحة لها معارض في خصوص النوم، وهو مرفوعة ابن مسكان
عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من نام قبل أن يصلي العتمة فلم يستيقظ حتى

(1) المعتبر في شرح المختصر: ص 138 س 15 من كتاب الصلاة.
(2) مدارك الأحكام: ص 1119 س 25 من كتاب الصلاة.
(3) الخلاف: ج 1 ص 264 مسألة 8 من كتاب الصلاة.
(4) الوسائل ج 3 ص 91 باب 4 من أبواب المواقيت، ح 3، وفيه اختلاف يسير.
82

يمضي نصف الليل فليقض صلاته وليستغفر الله (1).
ودعوى أعمية القضاء من فعل الشئ في خارج الوقت مما لا شاهد عليها
بعدما كان الظاهر منه هو ذلك، خصوصا بعد قوله " فلم يستيقظ حتى يمضي
نصف الليل " إذ لو كان القضاء بمعنى فعل الشئ ولو في وقته لم يكن وجه لهذا
التقييد كما لا يخفى، فدلالة هذه الرواية على خروج الوقت بعد النصف بالنسبة إلى
النائم في غاية الوضوح، فتكون معارضة مع أحد جزئي تلك الصحيحة، ولا إشكال
في ترجيحها على الصحيحة، لموافقتها للمطلقات ومخالفتها للعامة.
وحينئذ ينهدم ما ذكرناه من استفادة التعميم لمطلق العذر من جهة إلغاء
الخصوصية مع قطع النظر عن رواية زرارة (2)، إذ لم يبق في الصحيحة إلا مورد
واحد وهو النسيان، ومجرد ورود دليل على امتداد الوقت للناسي إلى الطلوع أو هو
والحيض مع قطع النظر عن الاشكال الوارد فيما يدل عليه كما تقدم لا يمكن
استفادة العموم وتسرية الحكم لكل عذر. فالقول بامتداد الوقت إلى ذلك بالنسبة
إل كل مضطر خال عن الدليل، وما في رواية زرارة يحتمل إرادة النافلة منه،
فتأمل فإنه بعيد، هذا.
مع ما قيل من إعراض المشهور عن هذه الأخبار وعدم العمل بها، وموافقتها
للتقية، ولكن مع ذلك لا ينبغي ترك الاحتياط بعدم التعرض لنية الأداء
والقضاء، وإن أخر العشاءين إلى ذلك عمدا، فضلا عن صورة العذر وخصوصا
الناسي، فتأمل جيدا.

(1) الوسائل: ج 3 ص 156 باب 29 من أبواب المواقيت، ح 6.
(2) الوسائل: ج 3 ص 91 باب 4 من أبواب المواقيت، ح 3.
83

تنبيه:
لا يخفى أن ما ذكرنا من امتداد الوقت إلى النصف يراد النصف من الغروب
إلى طلوع الفجر لا النصف باعتبار طلوع الشمس، فإن ما بين الطلوعين لا يعد من
الليل لا في اللغة ولا في الشرع، ولم ينقل القول به أيضا من أحد إلا من الأعمش،
ومخالفته لا تضر بتحقق الاجماع المحكي والمحقق.
وقد ورد في غير مورد من الكتاب والسنة إطلاق النهار واليوم على ما بعد طلوع
الفجر، كإطلاق الليل على ما قبل ذلك، بل نقل عن البحار (1) وجود مائة خبر
يدل على أن ما بين الطلوعين ليس من ساعات الليل، فلا يحتاج إلى ذكر الأدلة
وتفصيلها، فإن المسألة أوضح من ذلك، وإن أردت أن تستحضر عن تفصيلها
فعليك بمراجعة الجواهر في باب المواقيت (2)، فإنه قد أطال الكلام في ذلك، وأتى
بما يغني عن غيره.
المقام الثالث:
في بيان أول وقت صلاة الصبح وآخره أما أوله فالظاهر قيام الاجماع من
الخاصة على أنه هو طلوع الفجر الثاني المعترض على الأفق كالقبطية البيضاء،
وهو المعبر عنه بالفجر الصادق، في مقابل الفجر الكاذب الذي يظهر قبل ذلك
وهو كذنب السرحان، مضافا إلى تواتر الأخبار بذلك من غير أن يوجد لها
معارض، سوى ما ربما يتوهم من خبر إن مهزيار قال: كتب أبو الحسن الحصين

(1) بحار الأنوار: ج 80 ص 74 باب 1 من أبواب النجاسات والمطهرات وأحكامها.
(2) جواهر الكلام: ج 7 ص 71.
84

إلى أبي جعفر الثاني عليه السلام معي: جعلت فداك أختلف مواليك في صلاة
الفجر، فمنهم من يصلي إذا طلع الفجر الأول المستطيل في السماء، ومنهم من
يصلي إذا اعترض في أسفل الأفق واستبان، ولست أعرف أفضل الوقتين فأصلي
فيه، فإن رأيت أن تعلمني أفضل الوقتين وتحده لي، وكيف أصنع مع القمر
والفجر لا يتبين معه حتى يجهر ويصبح، وكيف أصنع مع الغيم، وما حد ذلك في
السفر والحضر، فعلت إن شاء الله. فكتب بخطه وقرأته: الفجر يرحمك الله هو
الخيط الأبيض المعترض، وليس هو الأبيض صعدا، فلا تصل في سفر لا ولا حضر
حتى تبينه (1)، الحديث.
فإن ظاهر السؤال المفروغية عن أن الفجر الأول كان وقتا لصلاة الصبح
وكانت بعض الموالي تصليها فيه، وإنما سأل عن أفضل الوقتين، ولكن هذا
لا يصلح للمعارضة بعد جوابه عليه السلام وتعيينه الفجر بالفجر الصادق، فلعل
صلاة بعض الموالي في الفجر الكاذب كان من أجل التقية، إما من عند أنفسهم،
وإما من حيث أمرهم بذلك، وإن لم يوجد فيما بأيدينا من الأخبار أمر الموالي
بالصلاة في الفجر الكاذب وعلى أي لا إشكال ولا خلاف في أن الميزان هو الفجر
الصادق، بل هو من ضروريات المذهب.
إنما الاشكال في آخره، فالمشهور على أنه يمتد إلى طلوع الشمس اختيارا، وإن
كان الفضل عدم تأخيرها من طلوع الحمرة المشرقية وأن ذلك آخر وقت فضيلتها.
وقيل: إن الامتداد إلى ذلك إنما هو للمضطر، وأما المختار فآخر وقتها هو طلوع
الحمرة المشرقية.
فمما يدل على المشهور قول أبي جعفر عليه السلام: وقت صلاة الغداة ما بين طلوع

(1) الوسائل: ج 3 ص 153 باب 27 من أبواب المواقيت، ح 4، وفيه: حتى يحمر ويصبح.
85

الفجر إلى طلوع الشمس (1). كما في رواية زرارة. وفي حديث عبيد بن زرارة عن
أبي عبد الله عليه السلام قال: لا تفوت صلاة الفجر حتى تطلع الشمس (2).
وهذا وإن كان مطلقا بالنسبة إلى المختار والمضطر إلا أنه ليس في المقام
ما يصلح للتقييد، فإن ما ورد من التحديد بطلوع الحمرة المشرقية لغير صاحب العذر
الذي تمسك به القول الآخر المقابل للمشهور ظاهر في إرادة الوقت الفضيلي لا
الاجزائي، ولا بأس بذكر بعضها ليعلم حقيقة الحال.
ففي رواية أبي بصير المكفوف قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الصائم
متى يحرم عليه الطعام؟ فقال: إذا كان الفجر كالقبطية البيضاء، قلت: فمتى تحل
الصلاة؟ فقال: إذا كان كذلك، فقلت: ألست في وقت من تلك الساعة إلى أن
تطلع الشمس؟ فقال عليه السلام: لا، إنما نعدها صلاة الصبيان، ثم قال: إنه لم
يكن يحمد الرجل أن يصلي في المسجد ثم يرجع فينبه أهله وصبيانه (ظ).
وفي صحيحي ابن سنان (ط) والحلبي (5) عن الصادق عليه السلام: لكل صلاة
وقتان وأول الوقت أفضلهما، ووقت صلاة الفجر حين ينشق الفجر إلى أن يتجلل
الصبح السماء، ولا ينبغي تأخير ذلك عمدا، ولكنه وقت من شغل أو نسي أو
سهى أو نام.
وفي الموثق في الرجل إذا غلبته عينه أو عاقه أمر أن يصلي المكتوبة من الفجر
إلى أن تطلع الشمس (6).

(1) الوسائل: ج 3 ص 52 باب 26 من أبواب المواقيت، ح 6، وفيه: صلاة الغداة.
(2) الوسائل: ج 3، ص 52 باب 26 من أبواب المواقيت، ح 8.
(3) الوسائل: ج 3 ص 55 باب 28 من أبواب المواقيت، ح 2.
(4) الوسائل: ج 3 ص 151 باب 26 من أبواب المواقيت، ح 5، وفيه: وأول الوقتين.
(5) الوسائل: ج 3 ص 151 باب 26 من أبواب المواقيت، ح 1.
(6) الوسائل: ج 3 ص 152 باب 26 من أبواب المواقيت، ح 7، وفيه اختلاف يسير.
86

ولو سلك أحد مسلك الانصاف يقطع بأن هذه الأخبار ليست بصدد بيان
الوقت الاضطراري وأن الوقت الاختياري لا يمتد إلى الطلوع، كما يشعر إليه قوله
عليه السلام " ولأي ينبغي تأخير ذلك عمدا " وقوله عليه السلام " إنما نعده صلاة
الصبيان " وقوله عليه السلام بعد ذلك " وإنه لم يكن يحمد الرجل " فإن الظاهر
من هذه التعبيرات هو مرجوحية التأخير إلى طلوع الشمس وأن الفضل تقديمها
على ذلك، مضافا إلى التصريح بالأفضلية في الصحيحين المتقدمين، نعم ليس في
الأخبار ما يدل على امتداد وقت الفضيلة في الصحيحين المتقدمين، نعم ليس في
الأخبار ما يدل على امتداد وقت الفضيلة إلى طلوع الحمرة المشرقية، بل الموجود
فيها " إلى أن يتجلل الصبح السماء " أو " يسفر " وكأنهم فهموا منه ذلك وأن تجلل
الصبح واسفراره يكون مقارنا لظهور الحمرة (1) في طرف المشرق.
فظهر أن الأقوى امتداد وقت صلاة الصبح إلى طلوع الشمس مطلقا حتى
للمختار، وأن الأخبار المحددة كلها لبيان وقت الفضل، بل الانصاف أن ظهور
الأخبار المحددة في صلاة الصبح في بيان وقت الفضيلة أقوى بمراتب من ظهور
الأخبار المحددة في الظهرين والعشاءين وظهر أيضا أن آخر وقت فضيلة الصبح هو
طلوع الحمرة المشرقية، وإن كان أول الفجر أفضل كما صرحت به الصحيحتان،
ولا عبرة بالحمرة المغربية على تقدير عدم مقارنتها لطلوع الشمس، كما يدل عليه
رواية دعائم الاسلام عن الصادق عليه السلام: إن أول وقت صلاة الفجر
اعتراض الفجر في أفق المشرق، وآخر وقتها أن يحمر أفق المغرب، وذلك قبل أن

(1) بل في بعض الروايات ما يدل على ذلك كما في صحيحة ابن يقطين سألت أبا الحسن عليه السلام الرجل
لا يصلي الغداة حتى يسفر وتظهر الحمرة ولم يركع ركعتي الفجر *، الحديث. فإن الظاهر أن عطف وتظهر الحمرة
على الاسفراء من باب عطف التفسير فتأمل جيدا " منه ".
* - الوسائل: ج 3 ص 193 باب 51 من أبواب المواقيت، ح 1.
87

يبدو قرن الشمس من أفق المشرق بشئ لا ينبغي تأخيرها إلى هذا الوقت لغير
عذر، وأول الوقت أفضل (1). ونحوه المحكي عن فقه الرضا (2) عليه السلام. وهذا
كما ترى يدل على أن آخر وقت الفضل أو آخر وقت الاجزاء هو احمرار أفق
المغرب لغير المضطر.
لكن الظاهر أنه لم يعمل به أحد من الأصحاب، لانعقاد الاجماع على أن آخر
وقت الفضل أو الاجزاء هو احمرار أفق المشرق، هذا مضافا ما عن البحار من أن
اعتبار احمرار المغرب غريب، وقد جربت أنه إذا وصلت الحمرة إلى أفق المغرب
يطلع قرن الشمس (3). مع أن الرواية صريحة بخلافه، وعلى أي حال لا اشكال في
سقوط هذا الجزء من الرواية لعدم العمل بها. هذا تمام الكلام في أوقات
الفرائض اليومية.
المقام الثالث
في أوقات النوافل اليومية
فالمشهور أن وقت نافلة الظهر من الزوال إلى القدمين، ووقت نافلة العصر
إلى أربعة أقدام. وقيل: إن الظهر إلى المثل، والعصر. إلى المثلين الذي هو آخر
وقت فضيلة الفريضتين. وقيل: يمتد وقت النافلة بامتداد وقت الفريضة.
والأقوى ما ذهب إليه المشهور، ويدل عليه عدة روايات، ففي رواية ابن
مسكان عن زرارة قال: قال لي أبو جعفر عليه السلام: أتدري لم جعل الذراع

(1) دعائم الاسلام: ج 1 ص 139، وفيه " ولا ينبغي ".
(2) فقه الرضا: ص 74.
(3) بحار الأنوار: ج 83 ص 74 باب وقت صلاة الفجر ونافلتها.
88

والذراعان؟ قال: قلت: لم؟ قال: لمكان الفريضة، لك أن تتنفل من زوال
الشمس إلى أن يبلغ ذراعا، فإذا بلغ ذراعا بدأت بالفريضة وتركت النافلة (1).
وفي معناها عدة روايات أخر.
وأما امتداد وقت النافلة إلى المثل والمثلين فلم يدل عليه دليل، سوى ما يتوهم
من دلالة الأخبار المفسرة للذراع بالقامة عليه، وهي عدة من الروايات.
ففي رواية زرارة (2) وعبد الله بن سنان (3) عن أبي عبد الله عليه السلام: كان حائط
مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله قامة، فإذا مضى من فيئه ذراع صلى الظهر، وإذا
مضى من فيئه ذراعان صلى العصر.
وهذا بظاهره يدل على أن القامة غير الذراع، بقرينة " من " الظاهرة في
التبعيض، ولكن بعد البناء على أن الحائط بقرينة ما ورد من تفسير القامة
بالذراع كان ذراعا يتم المطلوب، فإنه يصير المعنى حينئذ أن الحائط كان قدر
ذراع، فإذا صار الفئ بذاك المقدار يعني ساوى الظل مقدار ذي الظل كان
صلى الله عليه وآله يصلي الظهر، وإذا صار الظل مقداري ذي الظل صلى
العصر، فيكون العبرة بالمثل والمثلين ولا بد حينئذ من رفع اليد عن ظهور " من " في
التبعيض.
ويجري بهذا المجرى جميع الأخبار الواردة في القامة والقامتين، مع ما ورد عن
تفسيرها بالذراع والذراعين، ويكون الذراع حينئذ كناية عن قامة الشاخص
بقرينة التفسير، فيكون العبرة بصيرورة الظل بمقدار ذي الظل، وهو المراد من المثل
والمثلين.

(1) الوسائل: ج 3 ص 106 باب 8 من أبواب المواقيت، ح 20، وفيه اختلاف يسير.
(2) الوسائل: ج 3 ص 108 باب 8 من أبواب المواقيت، ح 27.
(3) الوسائل: ج 3 ص 104 باب 8 من أبواب المواقيت، ح 7.
89

وفيه: أن مبنى الاستدلال إنما هو على حائط المسجد كان ذراعا، حتى يكون
المراد من قوله عليه السلام " فإذا مضى من فيئه ذراع " هو صيرورة الظل بقدر
ذي الظل، وهذا المعنى لم يثبت بل الثابت خلافه، وأن الحائط كان قدر قامة
الانسان كما هو المحكي عن فقه الرضا (1) عليه السلام، ويدل عليه أيضا نفس
ما في رواية زرارة وعبد الله بن سنان المتقدمتين، فإن الظاهر من كلمة " من " هو
التبعيض، وهو لا يستقيم إلا إذا كان مقدار الحائط أكثر من ذراع، وكذا يظهر من
صدر الروايتين أيضا، فإن الظاهر من لفظ القامة في قوله عليه السلام " كان
حائط مسجد رسول الله قامة " هو قامة الانسان، فإن هذا هو المنساق من
إطلاقها.
والحاصل: أن تمامية الاستدلال موقوف على أن يكون حائط مسجد
رسول الله صلى الله عليه وآله قدر ذراع، وهذا مع أنه لم يثبت في نفسه، ينفيه صدر
الرواية وذيلها، فإن المنساق من إطلاق القامة التي في صدر لرواية هو قامة
الانسان، وظهور لفظة " من " التي في الذيل في التبعيض، فرواية زرارة وعبد الله
ابن سنان أدل على اعتبار القدمين والأربعة من اعتبار المثل والمثلين وما ورد من
تفسير القامة بالذراع لا شهادة فيها على أن الحائط كان قدر ذراع، إذ المستفاد من
مجموع الأخبار أنه كان في ذلك الزمان اصطلاح خاص وهو التعبير عن الذراع
بالقامة، كما يظهر من الصادق عليه السلام: القامة والقامتان الذراع والذراعان
في كتاب علي عليه السلام (2)، وقوله عليه السلام عند سؤال أبي بصير كم القامة؟
فقال: ذراع (3).. إلخ.

(1) فقه الرضا: ص 76.
(2) الوسائل: ج 3 ص 107 باب 8 من أبواب المواقيت الحديث 26 نقلا بالمضمون.
(3) الوسائل: ج 3 ص 106 باب 8 من أبواب المواقيت، ح 16.
90

ولكن هذا لا يدل على أن كلما استعملت القامة في أي مورد يراد منها الذراع
حتى إذا كانت هناك قرينة على الخلاف، فلفظ القامة في رواية زرارة وعبد الله
ابن سنان الواردتين في حائط مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله يراد منها قامة
الانسان بقرينة الذيل وما ورد من استحباب أن يكون حائط (1) قامه أو أكثر على
ما قيل وبقرينة المحكي عن فقه الرضا (2). فمن مجمع هذا يستفاد أن الحائط كان
قدر قامة الانسان، وهذا لا ينافي أن يكون المراد من القامة عند إطلاقها هو
الذراع، كما ورد التفسير بذلك في عدة من الروايات، ويكون حينئذ جميع ما ورد
من تحديد وقت الظهر والعصر بالقامة والقامتين محمول على القدمين وأربعة أقدام
المتساويان للذراع والذراعين.
فإن قلت: لو حملتم لفظ القامة الواردة في الروايات بالذراع، فبم تستدلون على
امتداد وقت فضيلة فريضة الظهر والعصر بالمثل والمثلين؟ ويكون حينئذ القول
بالامتداد إلى ذلك خال عن الدليل.
قلت: بل يستدل على ذلك بما ورد من التحديد بالمثل والمثلين، كما في قول
الصادق عليه السلام لسعيد بن هلال: قل لزرارة إذا كان ظلك مثلك فصل
الظهر، وإذا كان ظلك مثليك فصل العصر (3). وفي معناها رواية أخرى (4)،
ولا ملازمة بين أن يكون المراد من القامة هو الذراع وبين أن يكون المراد من المثل
ذلك أيضا، بل المراد من المثل هو مثل الشاخص (5) كما هو واضح.

(1) هكذا في الأصل، والظاهر سقوط كلمة " المسجد " بعد كلمة " حائط ".
(2) فقه الرضا: ص 76.
(3) فقه الرضا: ص 76.
(4) الوسائل: ج 3 ص 110 باب 8 من أبواب المواقيت، ح 33.
(5) لكن الظاهر من رواية زرارة هو بلوغ الظل الأعم من الباقي والحادث بعد الزوال مقدار المثل، وهذا
لا يستقيم في بعض الأزمنة والأمكنة، فإنه ربما يكون الظل الباقي أكثر من المثل، فيلزم أن يكون وقت الفريضة قبل
الزوال، ولا يمكن حملها على خصوص الظل الحادث، لأن قوله عليه السلام " إذا كان ظلك مثلك.. إلخ " ينافي
ذلك، فإنه لو كان المراد خصوص الظل الحادث لكان حق التعبير أن يقال: إذا صار ظلك مثلك، كما لا يخفى، هذا.
مضافا إلى أن الظاهر من الرواية هو كون المثل والمثلين أول وقت الفريضة لا آخر، مع أنه ما تضمنته رواية زرارة
قضية شخصية لا يمكن التمسك بها.
فالانصاف أنه بناء على كون المراد من القامة الذارع يكون القول بامتداد وقت فضيلة الفريضة إلى المثل والمثلين
خال عن الدليل، فتأمل " منه ".
91

فتحصل: أنه لا يمكن الاستدلال على امتداد وقت نافلة الظهرين إلى المثل
والمثلين بما ورد من أن حائط كان قامة، وكان صلى الله عليه وآله إذا
مضى من فيئه ذراع يصلي الظهر (1). إذ الاستدلال بذلك إنما يتم بعد حمل القامة
على الذراع، وقد عرفت عدم إمكان ذلك، وقد استدلوا عليه أيضا بأمور أخر غير
خالية من المناقشة.
فالأقوى ما عليه المشهور من امتداد وقت النافلة إلى القدمين وأربعة أقدام.
وأما القول بامتداد وقت النافلة إلى آخر وقت الفريضة فلم يظهر القائل به،
وربما نسب إلى الحلي رحمه الله إلا أنه على تقدير صدق النسبة لم يكن قولا آخر
في المسألة، لأن بناء الحلي على ما حكي هو أن آخر وقت الفريضة عنده هو المثل
والمثلان للمختار، ولم ينقل تصريح منه على امتداد وقت النافلة إلى آخر وقت
الاضطراري للفريضة.
وعلى أي حال لا شاهد على هذا القول من الأخبار أصلا، سوى ما يتوهم من
دلالة الأخبار على عدم وقت للنافلة، وأنها بمنزلة الهدية كل وقت صالح لها على ذلك.
وفيه: مع أن هذه الأخبار أعم من المدعي، سيأتي التكلم فيها إن شاء الله.
وبناء على المشهور لو لم يصل من نافلة الزوال شئ إلى أن صار الظل
قدمين وكذا لم يصل من نافلة العصر شئ إلى أن صار الظل أربعة أقدام،

(1) الوسائل: ج 3 ص 108 باب 8 من أبواب المواقيت، ح 27.
92

فلا إشكال في خروج وقت النافلة.
وأما لو تلبس منها ولو بركعة زاحم بها الفريضة، لقاعدة " من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة كلها " كما في النبوي (1) الشاملة للفريضة والنافلة
بتنزيل صلاة النافلة منزلة صلاة واحدة فتأمل ولرواية عمار بن أبي عبد الله
عليه السلام في حديث قال: وقت صلاة الجمعة شراك أو نصف، وقال: للرجل
أن يصلى الزوال ما بين زوال الشمس إلى أن يمضي قدمان، وإن كان قد بقي من
الزوال ركعة واحدة أو قبل أن يمضي قدمان أتم الصلاة حتى يصلي تمام
الركعات، فإن مضى قدمان قبل أن يصلي ركعة إذا زالت الشمس بدأ بالأولى،
ولم يصل الزوال إلا بعد ذلك (2)، الحديث. فإن الرواية وإن كانت لا تخلو عن
إغلاق وإشكال إلا أن دلالتها على المقصود ظاهرة.
ولا فرق فيما ذكرنا بين أن يعلم قبل الشروع في النافلة أنه لم يبق من وقتها إلا
ركعة، أو لا يعلم ذلك بأن دخل في النافلة بظن بقاء وقتها، أو كان غافلا وبعدما
صلى ركعة ظهر خروج وقتها، لاطلاق القاعدة، لكن على أي حال يعتبر أن تقع
ركعة منها قبل القدمين.
ثم لا يخفى أن ما قلنا من امتداد وقت النافلة إلى القدمين هو امتدادها إلى
رأس القدمين لا إلى أن يبقى من القدمين مقدار أداء الفريضة، لأن الظاهر من
الأدلة هو امتداد الوقت إلى نفس القدمين كما هو واضح.
بقي في المقام شئ يجب التنبيه عليه وهو أنه ربما قيل بعدم وقت للنافلة بل
جميع النهار صالح لها، وإن كان إيقاعها من الزوال إلى القدمين للظهر والأربعة

(1) الوسائل: ج 3 ص 158 باب 30 من أبواب المواقيت، ح 30.
(2) الوسائل: ج 3 ص 178 باب 40 من أبواب المواقيت، ح 1، وفيه اختلاف يسير.
93

للعصر أفضل، وقد استدل على ذلك بعدة من الروايات، بعضها ظاهرة الدلالة في
ذلك. وربما قيل أيضا بجواز فعل النافلة قبل الزوال لكن لا مطلقا. بل لمن علم أنه
شغله شاغل من فعلها في وقتها. ويدل عليه أيضا عدة من الروايات.
فمما يدل على الأول ما رواه علي بن الحكم عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله
عليه السلام قال: قال لي: صلاة النهار ست عشرة صلها أي النهار شئت، إن
شئت في أوله، وإن شئت في وسطه، وإن شئت في آخره (1). وعن القاسم بن
وليد الغساني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له: جعلت فداك صلاة
النهار النوافل في كم هي؟ قال: ست عشرة ركعة، في أي ساعات النهار
شئت أن تصليها صليتها، إلا أنك إذا صليتها في مواقيتها أفضل (2). وعن أبي عبد الله
عليه السلام أيضا قال: صلاة التطوع بمنزلة الهدية متى ما أتي بها قبلت، فقدم منها
ما شئت وأخر منها ما شئت (3).
وقد استدل على ذلك أيضا بروايات أخر لا تخلو عن المناقشة، كما أن الرواية
الأخيرة التي ذكرناها لا تخلو عنها أيضا، لأن صلاة التطوع أعم من النوافل اليومية
المرتبة، بل ربما قيل بظهور التطوع في التطوع الابتدائي فلا يشمل النافلة.
فالعمدة هو ما ذكرناه من الروايتين الأولتين، فإن الانصاف كونهما ظاهرتي
الدلالة في ذلك، وآبية عن حملهما على القضاء أو غيره جدا، فلو خلينا وأنفسنا
لكان يلزمنا القول بذلك، ويحمل ما ورد من تحديد النافلة بالقدمين والأربعة على
بيان وقت الفضيلة، وأن فعلها عند ذلك يكون أفضل الأوقات.

(1) الوسائل: ج 3 ص 36 باب 13 من أبواب أعداد الفرائض ونوافلها، ح 17.
(2) الوسائل: ج 3 ص 36 باب 13 من أبواب أعداد الفرائض ونوافلها، ح 18، وفيه اختلاف يسير. وفيه: ابن وليد
الغفاري.
(3) الوسائل: ج 3 ص 170، باب 37 من أبواب المواقيت، ح 8.
94

إلا أن الظاهر أنه لم يعمل بهما على الاطلاق، بل ربما ادعي الاجماع على
خلاف ذلك، فتأمل جيدا.
ومما يدل على الثاني ما رواه في الكافي (1) والتهذيب (2) عن الباقر عليه السلام
من جواز تعجيل نافلة الزوال إذا علم أنه يشتغل عنها. وفي خبر إسماعيل بن
جابر قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إني أشتغل، قال: فاصنع كما
نصنع، صل ست ركعات إذا كانت الشمس في مثل موضعها من صلاة العصر
يعني ارتفاع الضحى الأكبر، واعتد بها من الزوال (3). وقد استدل على ذلك أيضا
بروايات أخر لا تخلو عن المناقشة.
وما ذكرناه ظاهر الدلالة في ذلك، فلو خلينا وأنفسنا أيضا لكان ينبغي
العمل بهذه الروايات مع عدم العمل بالطائفة الأولى، لأن بين هذه الروايات
وبين ما دل على تحديد الوقت بالقدمين وأربعة أقدام أعم أخص مطلقا، لأن هذه
الروايات مخصوصة بمن يشتغل عنها في وقتها، فمقتضى صناعة الاطلاق والتقييد هو
حمل الأخبار المحددة على من لم يشغله عن النافلة في وقتها شئ.
ولكن أيضا قيل بعدم العمل بها، إلا أن الظاهر خلافه، لما نقل عن التهذيب
وجمع آخر من الأساطين العمل بمضمونها. فالانصاف أن القول به لا يخلو عن قوة،
هذا تمام الكلام في وقت نافلة الظهرين.
وأما وقت نافلة العشاءين فأول الوقت لنافلة المغرب هو بعد فعل الفريضة،
ويمتد إلى ذهاب الحمرة المغربية بمقدار أداء الفريضة، هذا هو المشهور، وقد نقل
الاجماع عليه. وربما مال بعض إلى امتداد وقت نافلة المغرب بامتداد وقت

(1) الكافي: ج 3 ص 450 باب تقديم النوافل وتأخيرها
وقضائها وصلاة الضحى، ح 1.
(2) التهذيب: ج 2 ص 268 باب 13 من أبواب المواقيت، ح 104.
(3) الوسائل: ج 3 ص 169 باب 37 من أبواب المواقيت، ح 4، وفيه اختلاف يسير.
95

الفريضة إلى ما قبل انتصاف الليل.
وقد استدل للمشهور بوجوه:
منها: أن المعهود من فعل النبي صلى الله عليه وآله هو ذلك (1).
ومنها: الأخبار الناطقة بأن المفيض إلى عرفات إذا صلى المغرب في المزدلفة
يؤخر النافلة إلى ما بعد العشاء (2).
ومنها: النهي عن التطوع في وقت الفريضة (3).
ولكن الكل لا يخلو عن مناقشة، أما فعل النبي صلى الله عليه وآله فعلى
تقدير ثبوته لا دلالة له على خروج وقتها بعد الحمرة، إذ لعل فعله في ذلك الوقت
كان من باب أنه كان أفضل أوقاتها.
وأما أخبار المفيض من عرفات فهو إنما لمكان استحباب الجمع بين العشاءين
في ذلك المكان كما ذكره الأصحاب.
وأما النهي عن التطوع في وقت الفريضة فإنما هو عند تضيق وقت الفريضة،
لا أن التطوع في وقت فضيلة يكون منهيا عنه.
فلم يقم دليل على ما ذهب إليه المشهور إلا بالتشبث بعدم ثبوت وقت للنافلة
زائدا على ذهاب الحمرة، ولا بد في العبادة من الاقتصار على القدر المتيقن من
التوظيف الواصل، فتأمل.
ويمكن الاستيناس للمشهور بامتداد وقت نافلة الظهرين إلى آخر وقت
فضيلتهما بمقدار أدائهما، وبامتداد وقت نافلة الصبح إلى آخر وقت فضلها بمقدار
أدائها، فيستأنس من ذلك أن آخر نافلة المغرب هو آخر وقت فضيلتها الذي هو

(1) الوسائل: ج 10 ص 40 باب 6 من أبواب الوقوف بالمشعر، ح 3.
(2) الوسائل: ج 10 ص 40 باب 6 من أبواب الوقوف بالمشعر، ح 2.
(3) الوسائل: ج 10 ص 40 باب 6 من أبواب الوقوف بالمشعر، ح 3.
96

ذهاب الحمرة المغربية.
ثم إن الكلام في مزاحمة نافلة المغرب لفريضة العشاء هو الكلام في مزاحمة
نافلة الظهر لفرضها ونافلة العصر لفرضها، وإن كان بينهما فرق من جهة أن
المزاحمة في الظهرين إنما كان بين النافلة وذيها، والمزاحمة في المغرب إنما يكون بين
نافلة المغرب وفريضة العشاء.
والأقوال في مسألة مزاحمة نافلة المغرب للعشاء ثلاثة، قيل بعدم المزاحمة ولو
فرض أنه صلى منها ثلاث ركعات، فلو دخل وقت صلاة العشاء وهو في الركعة
الرابعة من النافلة يهدمها. وقيل بالمزاحمة لو صلى منها ركعة بل أقل. وقيل
بالمزاحمة في خصوص الصلاة التي بيده بمعنى أنه لو دخل عليه الوقت وهو في
الركعتين الأولتين أتمها خاصة وليس له بعد ذلك الشروع في الركعتين
الأخيريتين، وإن كان في الأخيرتين أتمها أيضا.
ومنشأ الاختلاف إنما هو من حيث عدم النص في المسألة، ومقتضى القاعدة
الأولية هو عدم المزاحمة مطلقا، ولكن لا بأس بالتمسك لها بقاعدة " من أدرك " (1)
بناء على شمولها للنافلة وكون الأربعة ركعات بمنزلة صلاة واحدة.
وأما وقت نافلة العشاء فهو ممتد بامتداد وقت الفريضة إلى الثلث أو النصف
أو الطلوع على الأقوال فيها.
وأما وقت صلاة الليل فهو بعد انتصافه، وإن كان تأخيرها إلى السحر وهو
الثلث الأخير أو السدس على الاحتمالين فيه أفضل، للأخبار المستفيضة (2) على
أن أول وقتها هو النصف وآخر وقتها هو طلوع الفجر الثاني، ولا يجوز تقديمها على

(1) الوسائل: ج 3 ص 157 باب 30 من أبواب المواقيت.
(2) الوسائل: ج 3 ص 181 باب 44 من أبواب المواقيت.
97

الانتصاف إلا لعذر، ولو تلبس منها بأربع زاحم بها فريضة الصبح، كل ذلك
للأخبار وعليه المشهور، فلا حاجة إلى إطالة الكلام في ذلك.
وقت نافلة الصبح هو طلوع الفجر الأول إلى طلوع الحمرة المشرقية بمقدار أداء
الفريضة على المشهور، وقد دل عليه الأخبار (1).
المقام الرابع
في الأحكام المتعلقة بالمواقيت
وفيه مسائل:
الأولى في جواز التطوع في وقت الفريضة. فاعلم أن هنا مقامين للتكلم الأول
في التطوع في وقت الفريضة. الثاني التطوع لمن عليه فريضة، وإن خلط بعض
الأعلام بين المقامين وجعلهما من واد واحد، إلا أن الحق أنه لا ربط لأحدهما
بالآخر.
أما التكلم في المقام الأول فمجمله أنه قد وردت عدة من الروايات ظاهرها
المنع عن التطوع في وقت الفريضة، وقد أفتى بمضمونها جمع من الأعلام، ووردت
أيضا عدة أخرى مما ظاهرها الجواز ما لم يتضيق وقت الفريضة، لا بد أولا من
ذكر الأخبار الواردة من الطرفين، ثم نجمع بينهما على ما يقتضيه النظر الصحيح
فنقول:
أما ما دل على المنع فمنها: الأخبار الواردة في تحديد الذراع والذراعين لنافلة

(1) إلا أن الانصاف عدم قيام دليل معتد به في امتداد وقت النافلة إلى طلوع الحمرة وإن ذهب المشهور إليه،
فراجع. " منه ".
98

الظهرين، معللا في بعضها أن التحديد بذلك لأجل عدم وقوع التطوع في وقت
الفريضة، كقول الباقر عليه السلام: أتدري لم جعل الذراع والذراعان؟ قلت: لم؟
قال: لمكان الفريضة لئلا يؤخذ من وقت هذه ويدخل في وقت هذه (1). وفي معناه
روايات أخر.
ومنها: ما ورد في ركعتي الفجر من صحيح زرارة عن أبي جعفر قال: سألته عن
ركعتي الفجر قبل الفجر أو بعد الفجر؟ فقال: قبل الفجر، إنهما من صلاة الليل
ثلاث عشرة ركعة صلاة الليل، أتريد أن تقايس لو كان عليك من شهر رمضان
أكنت تتطوع إذا دخل عليك وقت الفريضة فابدأ بالفريضة (2). وقد ورد النهي
عن ركعتي الفجر بعد الفجر أو بعد قول المؤذن قد قامت الصلاة في روايات أخر
أيضا.
ومنها: ما رواه زرارة أيضا على ما حكي من حبل المتين قال: قلت لأبي
جعفر: أصلي نافلة وعلي فريضة أو في وقت فريضة؟ قال: لا، إنه لا يصلي نافلة
في وقت فريضة، أرأيت لو كان عليك من شهر رمضان كان لك أن تتطوع حتى
تقضيه؟ قال: قلت: لا، قال: فكذلك الصلاة، قال: فقايسني وما كان
يقايسني (3).
وربما احتمل أن هذه الرواية هي التي وردت في ركعتي الفجر التي ذكرناها
قبيل هذه وإنما نقلها حبل المتين أو غيره بالمعنى، ويؤيده أنه لم تكن في الكتب
الأربعة المعتبرة على ما حكي.

(1) الوسائل: ج 3 ص 107 باب 8 من أبواب المواقيت، ح 21.
(2) الوسائل: ج 3 ص 192، باب 50 من أبواب المواقيت، ح 3. وفيه " ثلاثة عشرة "
(3) الحبل المتين: الفصل السابع من المقصد الثالث فيما يتعلق بأوقات القضاء وحكم التنفل في وقت الفريضة ص 150
س 13.
99

ومنها: موثق ابن مسلم عن أبي جعفر قال: قال لي رجل من أهل المدينة:
يا أبا جعفر ما لي لا أراك تطوع بين الأذان والإقامة كما يصنع الناس؟ قال: قلت:
إنا إذا أردنا أن نتطوع كان تطوعنا في غير وقت فريضة، فإذا دخل الفريضة
فلا تطوع (1).
ومنها: خبر أبي بكير عن جعفر بن محمد عليه السلام: إذا دخل وقت صلاة
مفروضة فلا تطوع (2).
وفي خبر أديم: لا يتنفل الرجل إذا دخل وقت فريضة إلى أن قال: إذا دخل
وقت فريضة فابدأ بها (3).
وغير ذلك من الأخبار الناهية أو النافية عن الدخول في النافلة قبل المكتوبة،
أو الآمرة بالبدأة بالفريضة قبل النافلة مما ظاهره الوجوب.
وأما ما دل على الجواز فمنها: الموثقة المروية في الكتب الثلاثة على ما حكي
عن الرجل يأتي المسجد وقد صلى أهله، أيبتدأ بالمكتوبة أو يتطوع؟ فقال: إذا
كان في وقت حسن فلا بأس بالتطوع قبل الفريضة، وإن كان خاف الفوت من
أجل ما مضى من الوقت فليبدأ وهو حق الله، ثم ليتطوع بما شاء، الأمر
موسع أن يصلي الانسان في أول وقت دخول وقت الفريضة النوافل، إلا أن
يخاف فوت الفريضة والفضل إذا صلى الانسان وحده أن يبدأ بالفريضة إذا
دخل وقتها ليكون فضل أول الوقت للفرية، وليس بمحظور عليه أن يصلي
النوافل من أول الوقت إلى قريب من آخر الوقت (4).

(1) الوسائل: ج 3 ص 165 باب 35 من أبواب المواقيت، ح 3، وفيه اختلاف يسير.
(2) الوسائل: ج 3 ص 166 باب 35 من أبواب المواقيت، ح 7، وفي سنده " عن أبي بكر " وفيه اختلاف يسير.
(3) الوسائل: ج 3، ص 165 باب 35 من أبواب المواقيت، ح 6.
(4) الكافي: ج 3 ص 288 باب التطوع في وقت الفريضة، ح 3 من كتاب الصلاة، وفيه اختلاف يسير.
100

ومنها: رواية ابن مسلم قال قلت للصادق عليه السلام: إذا دخل وقت الفريضة
أتنفل أو أبدأ بالفريضة؟ قال: إن الفضل أن تبدأ بالفريضة (1)، الحديث.
ومنها: رواية عمار: إذا أردت أن تقضي شيئا من الصلاة مكتوبة أو غيرها
فلا تصل شيئا حتى تبدأ فتصلي قبل الفريضة التي حضرت ركعتين نافلة، ثم
اقض ما شئت (2).
ومنها: خبر يزيد سأل الصادق عن الرواية التي يروون أنه لا ينبغي أن يتطوع
في وقت فريضة، ما حد هذا الوقت؟ قال: إذا أخذ المقيم في الإقامة، فقال له: إن
الناس يختلفون في الإقامة، قال: المقيم الذي تصلي معه (3). وفي نسخة الوسائل
التي عندي لفظة " لا ينبغي " لم تكن، وقد أثبتها في الجواهر، ولعل نسخة الوسائل
التي عندي غلط، أو كانت الرواية متعددة.
ومنها: خبر إسحاق بن عمار قلت: أصلي في وقت فريضة نافلة؟ قال: نعم في
أول الوقت إذا كنت مع إمام يقتدى به، فإذا كنت وحدك فابدأ بالمكتوبة (4).
ومنها: رواية أبي بصير عن الصادق عليه السلام: إن فاتك شئ من تطوع
النهار والليل فاقضه عند زوال الشمس، وبعد الظهر عند العصر، وبعد المغرب،
وبعد العمة، ومن آخر السحر (5). وغير ذلك مما يظهر منه الجواز.
ولا يصغى إلى المناقشة في أسانيد كلتا الطائفتين، فإن في كل منهما صحاح
وموثقات ومعمول به.

(1) الوسائل: ج 3 ص 167 باب 36 من أبواب المواقيت، ح 2.
(2) الوسائل: ج 3 ص 207 باب 61 من أبواب المواقيت ح 5، وفيه اختلاف يسير.
(3) الوسائل: ج 3 ص 166 باب 35 من أبواب المواقيت، ح 9، وفيه اختلاف يسير.
(4) الوسائل: ج 3 ص 165، باب 35 من أبواب المواقيت، ح 2.
(5) الوسائل: ج 3، ص 201 باب 57 من أبواب المواقيت، ح 10. وفيه " من تطوع الليل والنهار ".
101

وكذا لا يصغى إلى ما عن الرياض (1) من حمل الأخبار المجوزة على التقية، فإن
فيه مضافا إلى أن ذلك فرع عدم إمكان الجمع الدلالي بين الأخبار وسيأتي
إمكان ذلك إن شاء الله أن في بعض الأخبار المانعة ما يشعر منه عدم كون الأئمة
عليهم السلام استعملوا التقية في هذه المسألة، كما يظهر بالتأمل في رواية
زرارة (2) الواردة في ركعتي الفجر المشتملة على المقايسة ورواية ابن مسلم (3)
المتقدمتين، فإن الظاهر من قوله عليه السلام " أتريد أن تقايس لو كان عليك من
شهر رمضان.. إلخ " هو تعليم زرارة طريق المحاجة والمخاصمة مع من يرى جواز
التطوع في وقت الفريضة، وليس المراد من قوله عليه السلام " أتريد أن
تقايس " بيان القياس في حكم الإمام عليه السلام بعدم جواز ركعتي الفجر بعد
الفجر، وأن الإمام عليه السلام هو بنفسه قاس عدم جواز ذلك على عدم جواز
التطوع بالصوم لمن عليه قضاء رمضان، حتى يصير المعنى أنه يا زرارة كما لا يجوز
التطوع بالصوم كذلك لا يجوز التطوع بالنافلة في وقت الفريضة، فإن ذلك بعد
معلومية عدم جواز القياس في الشريعة واستبعاد حكم الإمام عليه السلام
بالقياس خلاف الظاهر، بل الظاهر من الرواية (4)

(1) رياض المسائل: ج 1 ص 111 س 29 من كتاب الصلاة.
(2) المستدرك: ج 1 ص 195، باب 46 من أبواب المواقيت، ح 3.
(3) الوسائل: ج 1، ص 315، باب 35 من أبواب المواقيت، ح 3.
(4) وما يظهر من رواية حبل المتين * من أن الإمام عليه السلام بنفسه قاس المقام بذلك المقام فقد عرفت احتمال
وحدة الرواية، مع أنه على تقدير التعدد فلا بد من حملها، لأنه ليس من شأنه القياس فيما يقوله من الأحكام، مع أنه هو
بنفسه يمنع عنه ويحث في عدمه، فلا بد من حملها ما لا ينافي ذلك " منه ".
* - المستدرك: ج 1 ص 195 باب 46 من أبواب المواقيت، ح 3، من دون الاسناد إلى حبل المتين.
102

هو تعليم زرارة طريق إلزام الخصم القائل بالقياس، فكأنه عليه السلام قال
لزرارة قل لهم كيف جوزتم أنتم النافلة في وقت الفريضة مع عدم تجويزكم التطوع
بالصوم لمن عليه قضاء رمضان مع أن مذهبكم القياس، وهذا كما ترى يظهر
منه أن الإمام حكم في هذه المسألة بمر الحق وكان بصدد عدم استعمال التقية،
ومع هذا كيف يمكن حمل أخبار الجواز على التقية.
وكذا يظهر ذلك من رواية ابن مسلم (1)، فإن الظاهر من قوله عليه السلام " إنا
إذا أردنا أن نتطوع كان تطوعنا في غير وقت الفريضة " مداومة الأئمة عليهم السلام
على عدم فعل التطوع في وقت الفريضة، فيظهر منه أنه لم يكن بناء الأئمة
عليهم السلام في هذه المسألة على التقية، هذا كله مع أن الحمل على التقية إنما
يكون عند الضرورة، كما اعترف هو قدس سره بذلك، ولا ضرورة في المقام،
لامكان حمل أخبار المنع على الكراهة والأقلية في الثواب بعد تخصيصها بغير الموارد
الخاصة التي ورد فيها استحباب بعض النوافل في أوقات الفرائض، كالغفيلة
والوصية الواردتان بين المغرب والعشاء، وكالنافلة في ليلة الجمعة وليال شهر
رمضان، وغير ذلك مما لا يحصى كثرة.
ومما يدل على أن المراد من النهي أو النفي هو أقلية الثواب والمرجوحية في
رواية سماعة المتقدمة " والفضل إذا صلى الانسان وحده أن يبدأ بالفريضة وهو
حق الله " (2) وقوله عليه السلام في ابن مسلم " إن الفضل أن تبدأ
بالفريضة " (3) فإن ذلك كالصريح في مفضولية التطوع في وقت الفريضة وأن
الأرجح تركها، بل يظهر من رواية سماعة أن المرجوحية مختصة بما إذا صلى

(1) الوسائل: ج 1 ص 165 باب 35 من أبواب المواقيت، ح 3.
(2) الوسائل: ج 3 ص 164 باب 35 من أبواب المواقيت، ح 1.
(3) الوسائل: ج 3 ص 167 باب 36 من أبواب المواقيت، ح 2.
103

الانسان وحده، وأما لو صلى جماعة فلا مرجوحية أيضا في أن يتطوع إلى أن تنعقد
الجماعة.
واحتمال كون قوله " والفضل.. إلخ.. ليس من قول الإمام عليه السلام بل
من الكليني بعيد غايته وإن لم يذكره في التهذيب.
ويظهر هذا المعنى أيضا أي كون المرجوحية مختصة بالمنفرد من روايات
أخر، مثل صحيحة ابن يزيد المتقدمة " سأل الصادق عليه السلام عن الرواية التي
يروون أنه لا ينبغي أن يتطوع في وقت فريضة (1).. إلخ " فإن الإمام عليه السلام
خصص الرواية التي يروونها بما إذا أخذ المقيم في الإقامة في الجماعة، فإنه يدل
على عدم البأس في التطوع قبل انعقاد الجماعة ولو فرض أن الجماعة انعقدت بعد
دخول وقت الفريضة بمدة، فيظهر منه عدم مرجوحية التطوع في وقت الفريضة لمن
كان منتظرا فضل الجماعة، ويكون الحكم بالمرجوحية مختص بالمنفرد أو بعد
انعقاد الجماعة، هذا.
ولكن الظاهر أن الرواية غير متعرضة لحكم المنفرد وأنه بالنسبة إليه مرجوح
أو غير مرجوح، بل الرواية تكون مختصة بمسألة الجماعة، وأن ما روي من أنه
لا ينبغي التطوع في وقت الفريضة إنما هو مخصوص بما إذا أخذ المقيم الذي تريد أن
تصلي معه في الإقامة، وأما التطوع قبل ذلك لمثل هذا الشخص فلا مرجوحية
فيه.
وعلى كل حال، التأمل في الروايات يعطي عدم كون النهي فيها للحرمة، بل
يستفاد من مجموعها أن الانسان لو لم ينتظر ما يوجب الفضل في التأخير كالجماعة
كان الأرجح أن لا يتطوع بل يبدأ بالمكتوبة، بخلاف ما إذا كان منتظرا لذلك.

(1) الوسائل: ج 3 باب 166 باب 35 من أبواب المواقيت، ح 9، وفيه اختلاف يسير.
104

وربما يشعر إلى ذلك قوله عليه السلام " لا قربة في النوافل إذا أضرت
بالفرائض " (1) بناء على أن يكون المراد من الاضرار بالفريضة هو الاضرار بوقت
فضيلتها لا الاضرار بوقتها الاجزائي، فيصير حاصل المعنى: أن النافلة إذا أضرت
بفضيلة الوقت فلا قربة فيها، ويستفاد منها أنه لو زاحم بفضيلة الوقت ما هو أقوى
منها كانتظار الجماعة وأمثال ذلك فلا مانع من النافلة فتأمل. هذا كله في التطوع
في وقت الفريضة.
وأما التطوع لمن عليه فريضة فمجمل القول فيه: أنه وإن ذهب إلى التلازم
بينهما بعض كما نسب إلى الرياض (2) حيث حكي عنه عدم الفرق بين المسألتين
إلا أن الظاهر أنه لا ربط لأحد المسألتين بالأخرى دليلا وقولا.
أما قولا فلاعترافه بأن بعض من قال بعدم الجواز في المسألة الأولى وهي
التطوع في وقت الفريضة قال بالجواز في هذه المسألة، نعم من قال بالمضايقة في
القضاء يلزمه أن لا يفرق بين المسألتين، فتأمل.
وأما دليلا فلأن ما استدل به على عدم جواز التطوع لمن عليه فريضة في غاية
الضعف، إذ ليس هو إلا المرسل: لا صلاة لمن عليه صلاة (3). وإلا رواية زرارة
عن أبي جعفر عليه السلام أنه سئل عن رجل صلى بغير طهور أو نسي صلوات لم
يصلها أو نام عنها، فقال: يقضيها إذا ذكرها في أي ساعة ذكرها إلى أن قال:
ولا يتطوع بركعة حتى يقضي الفريضة (4). وإلا خبر يعقوب بن شعيب (5)،

(1) الوسائل: ج 3 ص 208 باب 61 من أبواب المواقيت، ح 7.
(2) رياض المسائل: ج 1 ص 112 س 3 من كتاب الصلاة.
(3) المستدرك: ج 1 ص 195 باب 46 من أبواب المواقيت، ح 2.
(4) الكافي: ج 3 ص 292 باب من نام عن الصلاة أو سها عنها، ح 3، وفيه اختلاف يسير.
(5) الوسائل: ج 3 ص 206 باب 61 من أبواب المواقيت، ح 4.
105

المتضمن للأمر بالبدء بالفريضة المقضية قبل قضاء النوافل.
والاستدلال بمثل هذا لما نحن فيه في غاية الضعف، أما الرسل فمضافا إلى
كونه مرسلا، ولم يثبته الأصحاب في الكتب المعتبرة، وإنما ذكره الشيخ رحمه الله
في كتابي المبسوط (1) والخلاف (2) ولم يذكره في التهذيب والاستبصار الذي عليهما
المعول لم يوجد أحد أفتى بعمومه، فإن لازمه عدم جواز التطوع لمن نذر أن يصلي
ركعتين في مدة سنة، أو آخر نفسه لذلك، وهذا كما ترى لم يقل به أحد
ولا يمكن القول به.
وأما رواية زرارة (3) فمع معارضتها بعدة من الرويات الدالة على استحباب
التطوع بركعتين قبل قضاء الفريضة يمكن حمل النهي فيها على المرجوحية أو نفي
الكمال، كما يمكن حمل الأمر الوارد في خبر يعقوب بن شعيب (4) بالبدأة بالفريضة
على الأفضلية، لما دل من الروايات الصحيحة الصريحة في جواز التطوع لمن عليه
فريضة خصوصا وعموما، كما ورد في تقدم قضاء ركعتي الفجر على قضاء صلاة
الصبح، وتقديم صلاة الليل لمن كان عليه دين من صلاة، وغير ذلك من
الأخبار.
ومن هنا قيل: لا مرجوحية في فعل النافلة لمن عليه فريضة، وإن قلنا
بالمرجوحية في وقت الفريضة، فتأمل فإنه ليس بعيدا، لقوة أدلة الجواز.
بل يظهر من بعضها أن ما ورد في حكم التطوع كراهة مقصور بما إذا كان في
وقت الفريضة، وأما مسألة التطوع لمن كان عليه فريضة فهو خارج عن ذلك، ففي

(1) المبسوط: ج 1 ص 127 من كتاب الصلاة.
(2) الخلاف: ج 1 ص 386 من كتاب الصلاة.
(3) الكافي: ج 3 ص 292 باب من نام عن الصلاة أو سها عنها، ح 3.
(4) الوسائل: ج 3 ص 206 باب 61 من أبواب المواقيت، ح 4.
106

الرواية المشتملة على قصته مع الحكم بن عتيبة وأصحابه، حيث أخبره في العام
السابق عن قول أبي جعفر عليه السلام: إذا دخل وقت صلاة مكتوبة فلا صلاة
نافلة حتى تبدأ بالمكتوبة، وأخبره في العام الآخر قضية نوم النبي صلى الله عليه
وآله عن صلاة الصبح فقضاها حين استيقظ بعد قضاء نافلتها، فقال له الحكم:
قد نقضت حديثك عام أول، فحكى زرارة ذلك لأبي جعفر عليه السلام، فقال
عليه السلام له: ألا أخبرتهم أنه قد فاته الوقتان جميعا، وأن ذلك كان قضاء عن
رسول الله صلى الله عليه وآله (1). بداهة أنه بعد حمل النهي في قوله عليه السلام
" إذا دخل وقت صلاة مكتوبة فلا صلاة نافلة " على الكراهة كما تقدم الشواهد
على ذلك فيكون الظاهر من قوله عليه السلام " ألا أخبرتهم إلى آخره " أن ما قلت
لك في العام السابق من كراهة التطوع، فإنما هو في وقت الفريضة، لا ما إذا كان
عليه فريضة، ومسألة قضاء النبي صلى الله عليه وآله إنما تكون من قبيل الثاني
لا الأول، فتأمل في الأخبار، فإن الأخبار المجوزة في غاية الصراحة، فلا يمكن رفع
اليد عنها بما تقدم من أخبار المنع، فالأقوى أنه لا مانع من التطوع في وقت الفريضة
ولمن عليه فريضة، وإن كان الأرجح تأخير التطوع عن أداء الفريضة.
فرع:
لو نذر التطوع فهل يصح إيقاعه في وقت الفريضة بناء على خروجه بالنذر عن
موضوع التطوع، أو لا يصح لأنه يعتبر في متعلق النذر أن يكون راجحا مع قطع
النظر عن تعلق النذر به، والمفروض أن التطوع في وقت الفريضة لا رجحان فيها،
بناء على الحرمة فلا بد من خروج هذا الفرد من التطوع عن متعلق النذر لو كان

(1) الوسائل: ج 3 ص 207 باب 61 من أبواب المواقيت، ح 6، نقلا بالمضمون.
107

نذره مطلقا، أو بطلانه من أصله لو قيده بذلك الوقت؟
الأقوى هو الأول، وبيان وجهه يستدعي بسطا من الكلام، فنقول: إنه
لا إشكال في أنه يتعبر في متعلق النذر من الرجحان، كما أنه يعتبر في متعلق العهد
واليمين عدم المرجوحية، فيكون الرجحان من قبيل القيود المعتبرة في المتعلق،
ولا إشكال أيضا في اعتبار تقدم المتعلق بجميع ماله من القيود على الحكم، بحيث
يؤخذ المتعلق بماله من الشرائط مفروض التحقق حتى يرد الحكم عليه، فكل قيد
لا يتأتى إلا من قبل الحكم لا يعقل أخذه في متعلقه، كمسألة القربة والعلم
والجهل وأمثال ذلك مما هو مسطور في الأصول، وحيث كان الرجحان مأخوذا
في متعلق النذر فلا بد وأن يكون سابقا على النذر، حتى يرد النذر على المتعلق
الراجح، ولا يكفي الرجحان الجائي من قبل النذر كما يوهمه بعض العبائر، لتوقف
صحة النذر على كونه راجحا، فلو توقف الرجحان على النذر يلزم الدور.
وما ورد (1) من صحة نذر بعض المحرمات، كالاحرام قبل الميقات، وكالصوم
في السفر، فليس ذلك من باب الاكتفاء بالرجحان الجائي من قبل النذر، ولا
من باب تخصيص ما دل على اعتبار الرجحان في متعلق النذر بغير هذا المورد، بل
ورود الدليل بصحة مثل هذا النذر يكشف عن تقييد الحرام الواقعي من الصوم
في السفر والاحرام قبل الميقات بما إذا لم يتعلق النذر به.
والحاصل: أن النذر من العناوين الطارئة القابلة لتغير الواقع عما هو عليه
من المصلحة والمفسدة، كالضرر والاضطرار وأمثال ذلك، فإذا ورد دليل
بالخصوص على صحة نذر الحرام فلا محالة يكشف عن تقييد الحرام واقعا بما إذا لم
يقع نذر على خلافه، وهذا كما ترى لا ربط له بما نحن فيه من عدم إمكان

(1) الوسائل: ج 16، ص 203، باب 20 و ص 196 باب 13 من أبواب النذور والعهد.
108

الاكتفاء بالرجحان الجائي من قبل النذر، ومجرد ورود دليل بالخصوص في بعض
الموارد لا يمكن تسريته إلى جميع الموارد، إذ يلزمه القول بصحة نذر جميع المحرمات،
وهذا كما ترى بديهي البطلان، فالنذر كالشرط فكما أنه لا يمكن القول بصحة
الشرط المخالف للكتاب بأدلة وجوب الوفاء بالشرط فكذلك لا يمكن القول بصحة
نذر المرجوح بأدلة وجوب الوفاء بالنذر، فلا بد من ورود النذر على الموضوع
الراجح، ولا أظن أحدا خالف ما ذكرناه.
نعم هنا أمر آخر وقع التكلم فيه من بعض الأعلام، وهو أنه هل يكفي في
صحة النذر الرجحان حال النذر وإن صار مرجوحا حال الفعل، أو لا يكفي بل
يعتبر بقاء الرجحان إلى حال صدور الفعل؟
ومعنى الرجحان حال النذر هو أن يكون الفعل حال تعلق النذر به راجحا،
كما إذا نذر زيارة الحسين عليه السلام في كل ليلة جمعة، ثم طرأ في بعض ليالي
الجمع ما يقتضي المرجوحية، كما إذا حصلت له الاستطاعة للحج، فربما يقال:
إن الفعل حيث كان في زمان صدور النذر راجحا فالنذر انعقد صحيحا لوجود
ما اعتبر فيه من رجحان المتعلق، وبعد انعقاد النذر المرجوحية الطارئة غير موجبة
لانحلاله، ففي المثال المتقدم الاستطاعة العارضة لا تكون موجبة لانحلال النذر،.
لأنه لم تكن الاستطاعة حين انعقاده، فإذا لم تكن موجبة لانحلاله فلا يكون
الشخص مستطيعا للحج، ولم يكن واجبا عليه، لاشتغال ذمته بواجب آخر مقدم
عليه سببا.
ومن هنا نقل عن الشيخ صاحب الجواهر رحمه الله أنه كان عند اشتغاله
بكتابة الجواهر، ينذر زيارة الحسين عليه السلام ليلة العرفة حتى لا يجب عليه
الحج لو حصلت له الاستطاعة في الأثناء، وربما أفتى بذلك بعض المتأخرين، هذا.
ولكن الظاهر أنه يعتبر في صحة النذر وبقائه من ثبوت الرجحان حال صدور
109

الفعل، ولا يكفي الرجحان حال النذر كما لا تكفي القدرة على المتعلق حال
التكليف بل يعتبر القدرة حال العمل، فكما أن كل تكليف مشروط ببقاء القدرة
إلى زمان صدور الفعل فكذلك الرجحان في متعلق النذر لا بد وأن يكون باقيا
حال العمل، وإن كان بينهما فرق من حيث إن اعتبار القدرة عقلي واعتبار
الرجحان شرعي، لكن الغرض مجرد التنظير.
والحاصل: أن الرجحان حال النذر لا أثر له في بقائه، بل لو فرض أنه كان
حال النذر مرجوحا ولكن حال العمل كان راجحا لكان نذره صحيحا
بلا إشكال، ففي المثال المتقدم لا محيص عن القول بانحلال نذره بمجرد طروء
الاستطاعة، ويجب عليه الحج لصيرورة زيارة الحسين عليه السلام حينئذ
مرجوحة، ولا يمكن العكس بأن يقال: الحج يصير مرجوحا بعد تعلق النذر
بالزيارة، فتصير الزيارة واجبة لسبق سببه ويرتفع حينئذ موضوع الاستطاعة،
وذلك لأن الكلام بعد في انعقاد النذر بالنسبة إلى الزيارة التي حصلت
الاستطاعة قبل مجئ زمانها، ومجرد سبق النذر لا يكفي في ذلك بعدما كان بقاؤه
مشروطا ببقاء الرجحان، فالرجحان حال النذر مما لا أثر له.
بل يمكن أن يقال: إن الرجحان حال النذر كلمة لا معنى لها، ولا يعقل في
مثل المثال أن يقال بالرجحان حال النذر، فإنه لا إشكال في أن زيارة عرفة إنما
تكون راجحة عند مجئ وقتها، ولا يعقل أن يقال: إن زيارة عرفة راجحة قل
مجئ وقتها الذي هو وقت النذر، فزيادة عرفة كصلاة الظهر، فكما لا يمكن أن
يقال: إن صلاة الظهر قبل الزوال راجحة فكذلك لا معنى للقول برجحان زيارة
عرفة حين النذر الذي يكون قبل مجئ وقتها، بناء على ما هو الحق من عدم
معقولية الواجب المعلق والشرط المتأخر، فلو نذر أحد قبل أشهر الحرم زيارة
الحسين عليه السلام في يوم عرفة، فانعقاد هذا النذر يكون موقوفا ثبوتا بثبوت
110

رجحان الزيارة في ظرف وقوعها، فإذا استطاع الشخص قبل ذلك فتكون الزيارة
في وقتها مرجوحة لسبق الاستطاعة، فلا يبقى موضوع للنذر، ولا محيص عن انحلاله، فتأمل.
والحاصل: أن النذر كالشرط، فكما لو شرط على المشتري ضيافة زيد في كل
شهر مثلا أو في شهر خاص، واتفق ارتداد زيد وكفره في بعض الشهور أو في
ذلك الشهر الخاص، بحيث حرم ضيافته إما لوجوب قتله وإما لحرمة موادته كان
الشرط ملغى، ولا يجب الوفاء به بعموم المؤمنون عند شروطهم (1).
والسر في ذلك أنه يعتبر في الشرط حدوثا وبقاء عدم مخالفته للكتاب،
فكذلك لو نذر زيارة الحسين عليه السلام في كل شهر أو في شهر خاص، واتفق
حصول الاستطاعة في بعض الشهور أو في ذلك الشهر الخاص، بحيث وجب عليه
المسير للحج، كان النذر ملغى وينحل قهرا، لاعتبار الرجحان في متعلق النذر
حدوثا وبقاء.
فظهر ضعف تعليل بعض الأعلام صحة نذر التطوع في وقت الفريضة بارتفاع
مرجوحيتها بنفس النذر، قال: ولا يرد أن متعلق النذر لا بد أن يكون راجحا، وعلى
القول بالمنع لا رجحان فيه فلا ينعقد نذره، وذلك لأن الصلاة من حيث هي
راجحة، ومرجوحيتها مقيدة بقيد يرتفع بنفس [النذر] (2)، ولا يعتبر في متعلق النذر
الرجحان قبله ومع قطع النذر عنه، حتى يقال بعدم تحققه في المقام، انتهى.
وظاهر هذه العبارة لا تستقيم من أنه لا عبرة بالرجحان الجائي من قبل النذر،
بل لا بد وأن يكون الرجحان متحققا قبله، بل لا يعقل ذلك كما عرفت، فتعليل
صحة نذر التطوع في وقت الفريضة بهذا غير سديد، بل الأقوى في التعليل هو أن

(1) الوسائل: ج 15 ص 30 باب 20 من أبواب المهور، ح 4.
(2) ما بين المعقوفتين لم توجد في النسخة وأثبتناه لاقتضاء السياق.
111

يقال: إن ما هو المحرم التطوع في وقت الفريضة بوصف التطوع، وليست ذات
صلاة جعفر مثلا محرمة، بل المحرم إنما هو التطوع بصلاة جعفر وفعلها بداعي
الاستحباب والتنفل، وصلاة جعفر بهذا الوصف لم يتعلق النذر بها، بل لا يمكن
أن يتعلق بها مقيدة بهذا الوصف، لأنه يعتبر في متعلق النذر القدرة عليه، وصلاة
جعفر بوصف كونها مستحبة غير مقدورة بعد تعلق النذر بها لصيرورتها واجبة، فلو
فرض أن أحدا نذر فعل صلاة جعفر بوصف كونها مستحبة، كان نذره باطلا
ولا ينعقد أصلا، فالنذر دائما يكون متعلقا بذات العمل، وذات صلاة جعفر مع
قطع النظر عن استحبابها لم تكن محرمة في وقت الفريضة، بل المحرم إنما هو التطوع
بها، فإذا لم تكن ذات العمل منهيا عنه فلا مانع من تعلق النذر به، ويصير بذلك
واجبا ويخرج موضوعا عن كونه تطوعا في وقت الفريضة، بل يكون فريضة في
وقت فريضة.
فإن قلت: هب أن ذات العمل لم يكن منهيا عنه، إلا أن مجرد ذلك لا يكفي
في صحة النذر، لما تقدم من اعتبار الرجحان في متعلقه، ولا يكفي مجرد عدم
المرجوحية، وذات العمل في وقت الفريضة حيث لم يتعلق به أمر استحبابي
ولا وجوبي لا يمكن الحكم برجحانه، فإن ذلك يكون رجما بالغيب.
والحاصل: أن رجحان الشئ لا بد وأن يستكشف من تعلق الأمر، إذ
لا طريق لنا إلى معرفته سوى ذلك، وصلاة جعفر في وقت الفريصة بعد ما لم يتعلق
بها أمر استحبابي ولا وجوبي حسب الفرض فمن أين يحكم برجحانها حتى يصح
نذرها، فتكون واجبة وتخرج موضوعا عن كونها تطوعا في وقت الفريضة،
فلا محيص إما عن القول ببطلان النذر وإما عن القول بالاكتفاء بالرجحان الآتي
من قبل النذر، وقد تقدم عدم معقولية الثاني، فلا بد من الأول وهو بطلان النذر.
قلت: يكفي في إثبات الرجحانية نفس العمومات الدالة على مشروعية صلاة
112

جعفر في نوعها، وكذا العمومات الدالة على أن الصلاة قربان كل تقي (1)، ومعراج
المؤمن (2)، وسقوط الأمر بها في وقت الفريضة لا يلازم سقوط الرجحانية المستكشفة
من تلك العمومات.
والحاصل: أن القدر الثابت إنما هو سقوط الأمر بالنوافل في وقت الفريضة،
وأما سقوط الرجحان فلم يقم عليه دليل.
مضافا إلى معلومية أن الصلاة المشتملة على الذكر والدعاء لم تكن مرجوحة
في حد نفسها بل تكون راجحة، فحينئذ يصح تعلق النذر بها، وبسببه تخرج عن
كونها تطوعا في وقت الفريضة.
ولا يقاس ذلك بما إذا نذر أن يصلي خمس ركعات متصلة، حيث يكون نذره
باطلا بالاجماع مع اشتمالها على الدعاء والذكر، وذلك لأن الصلاة المشتملة
على خمس ركعات لم تكن مشروعة في نوعها، وهذا بخلاف صلاة جعفر وغيرها
من النوافل لمشروعيتها في نوعها، وإن سقط أمرها من جهة مزاحمتها لوقت الفريضة
فتحصل: أن الرجحان المعتبر في متعلق النذر حاصل في المقام سابقا على
النذر ومع قطع النظر عن تعلق النذر به، فلا حاجة إلى الالتزام بتلك المقالة
الفاسدة من كفاية الرجحان الجائي من قبل الندر، فتأمل فيما ذكرناه فإنه بعد
للنظر فيه مجال، إذ لمانع أن يمنع ثبوت الرجحان بعد تخصيص تلك العمومات
الدالة على مشروعية الصلاة بغير وقت الفريضة.
نعم لو كان سقوط الأمر بالنوافل في وقت الفريضة من باب المزاحمة
لا التخصيص لكان القول بثبوت الرجحان في محله، إلا أن إثبات ذلك مشكل،

(1) الكافي: ج 3 ص 265 باب فضل الصلاة، ح 6.
(2) الظاهر أن هذا مستفاد من الخبر لا أنه بنفسه خبر مستقل، راجع بحار الأنوار: ج 82 ص 248.
113

ولا يسعنا التكلم في ذلك بأزيد مما ذكرناه، فعليك بالتأمل.
فإن قلت: سلمنا جميع ما ذكرته من تعلق النذر بذات الصلاة لا بوصف
التطوع، ومن ثبوت الرجحان لها مع قطع النظر عن تعلق النذر بها، إلا أنه
لا إشكال في أن الأمر بالوفاء بالنذر توصلي لا يعتبر في سقوطه قصد التقرب
وامتثال الأمر، والمفروض أن ذات الصلاة في وقت الفريضة لم تكن مأمورا بها
بأمر عبادي، فمن أين تقولون يعتبر في صحة مثل هذه الصلاة المنذورة من قصد
التقرب والأمر، بحيث لو لم يأت بها بهذا القصد كانت الصلاة باطلة، ولم يبرأ من
نذره، مع أنه لم يكن في البين أمر عبادي يقصد؟
والحاصل: أن الأمر النذري لو اتحد مع الأمر العبادي في المتعلق، بأن تعلق
الأمر النذري بعين ما تعلق به الأمر العبادي، لاكتسب الأمر النذري التعبدية من
الأمر التعبدي لاتحادهما.
وذلك كما لو نذر صلاة الليل، فحيث إن النذر إنما يتعلق بذات صلاة الليل
لا بوصف كونها مستحبة، وإلا لكان النذر باطلا لعدم القدرة عليه من حيث
صيرورة صلاة الليل بعد النذر واجبة، فلا يمكن إتيانها بوصف كونها مستحبة،
فالنذر لا محالة يتعلق بذات صلاة الليل، والمفروض أنه قد تعلق بذات الصلاة
أمر استحبابي عبادي، فيتحد متعلق النذر مع متعلق الأمر الاستحبابي، وحيث
لا يمكن اجتماع الوجوب والاستحباب في متعلق الواحد فلا محالة يكتسب الأمر
النذري التعبدية من الأمر الاستحبابي وينخلع عما كان عليه من التوصلية، كما
أن الأمر الاستحبابي يكتسب من الأمر النذري الوجوب وينخلع عما كان عليه
من الاستحباب، فيتحد الأمران ويحصل من ذلك أمر وجوبي عبادي، لكن هذا
إنما يكون بعد تعلق الأمر العبادي بصلاة الليل.
وأما فيما نحن فيه فالمفروض أنه لم يتعلق بذات صلاة جعفر في وقت الفريضة
114

أمر عبادي، والأمر النذري لا يكون إلا توصليا، فمن أين يكتسب التعبدية حتى
يكفي قصده في وقوع الصلاة عبادة مقربة؟
قلت: قد علم من مذاق الشارع أن الصلاة وظيفة شرعت لأن يتعبد بها، فلو
تعلق بها أمر لكان لأمر لا محالة عبادي يعتبر في سقوطه من قصد الامتثال،
وحيث إن النذر تعلق بصلاة النافلة بذاتها، والمفروض اجتماع هذا النذر لشرائط
الصحة من الرجحان وغيره، فلا محالة يتعلق الأمر النذري بذات الصلاة، وإذا
تعلق بها أمر وإن كان من قبل النذر فلا بد وأن يكون عباديا.
وبالجملة: الأمر النذري يختلف باختلاف ما تعلق به، فلو تعلق بأمر عبادي
بمعنى أنه لو تعلق به أمر لكان أمره عباديا، لكان الأمر النذري عباديا لا يسقط إلا
بقصد الامتثال، ولو تعلق بأمر غير عبادي يكون توصليا لا يعتبر في سقوطه ذلك،
فتأمل فإن للنظر في ذلك أيضا مجال.
هذا كله بناء على حرمة التطوع في وقت الفريضة، وقد عرفت أن الأقوى
صحة النذر مطلقا، وجواز فعل المنذور في وقت الفريضة، لصيرورته واجبا سواء
كان نذره مطلقا أو قيده بخصوص وقت الفريضة، وإن كان الصحة في المطلق
أوضح كما لا يخفى وجهه.
وأما لو قلنا بالكراهة من باب أقل الثواب كما هو الشأن في كراهة
العبادات فلا ينبغي الاشكال في صحة النذر، لأن الكراهة في العبادات تجتمع
مع الرجحان والأمر كليهما، ويكون جميع أركان النذر متحققا بلا أن يدخله
ريب، فتأمل جيدا.
ولو آخر نفسه لصلاة الزيارة مثلا في وقت الفريضة فالأقوى أيضا هو الصحة،
لصيرورتها بالإجارة واجبة وتخرج عن موضوع التطوع، بل الصحة في الإجارة
أوضح منها في النذر، لامكان الاشكال في النذر من حيث الرجحان المعتبر في
115

متعلقه، ويتوهم أن ذات الصلاة التي هي متعلقة للنذر مع كونها غير مأمور بها
لا رجحان فيها، وهذا بخلاف الإجارة فإن متعلقها هي الصلاة المأمور بها بالأمر
المتوجه على المنوب عنه، فهذا الوصف داخل في متعلق الإجارة.
نعم هنا صورة إشكال، وهو أنه يعتبر في متعلق الإجارة أن يكون العمل
المستأجر عليه مما يباح على الأجير فعله بحيث لا يكون العمل محرما عليه، ووجه
اعتبار ذلك واضح، وفي المقام لو كان متعلق الإجارة هو الصلاة بوصف كونها
مأمورا بها بالأمر الاستحبابي فالأجير لا يمكنه فعلها بهذا الوصف، لأن المفروض
حرمة التطوع في وقت الفريضة، فإذا لم يمكن للأجير فعلها فكيف يصير أجيرا على
فعلها؟
هذا مضافا إلى أنه يعتبر في متعلق الإجارة أيضا أن يكون المستأجر قادرا على
العمل، بحيث يكون المستأجر مما يمكنه الفعل إذا أراد المباشرة به، فإذا كان
الفعل محرما عليه شرعا لما جاز الإجارة عليه، لأن فعل الأجير فعل المستأجر
ويكون في الحقيقة هو العامل ببدنه التنزيلي، وفي المقام لو وقعت الإجارة في وقت
فريضة المستأجر لكان مقتضى القاعدة بطلان الإجارة.
والحاصل: أنه لو وقعت الإجارة في وقت فريضة الأجير لزم الاشكال الأول،
ولو وقعت في وقت فريضة المستأجر لزم الاشكال الثاني، ولو وقعت في وقت
فريضة كل منهما لزم الاشكالان جميعا، هذا.
ولكن يدفع الأول بأن ما يحرم على الأجير إنما هو فعل التطوع لنفسه في وقت
فريضة، لا فعل ما هو مستحب على الغير في وقت فريضة نفسه بالإجارة، فإن ذلك
لا مانع عنه في حد نفسه ولا دليل على حرمته، نعم التبرع عن الغير فيما يستحب عليه
لا يخلو عن إشكال، لصدق التطوع في وقت الفريضة على مثل هذا، مع أن ذلك
أيضا لا يخلو عن نظر، فإن التبرع إنما هو في جهة النيابة لا في نفس الفعل، فالمتبرع
116

إنما يفعل ما هو مستحب على الغير نيابة عنه بقصد المجانية والقربة، فيثاب على
هذا المعنى أي على فعله نيابة لا على أصل الفعل، ففعل الصلاة نيابة عن الغير
لا يدخل في عنوان حرمة التطوع في وقت الفريضة، سواء كان بالتبرع أو
بالإجارة، وإن كان بالإجارة أوضح وأبعد عن الاشكال، وأما التبرع فبعد يحتاج
إلى مزيد تأمل.
ويدفع الثاني بأن ما هو حرام على المستأجر إنما هو المباشرة بالتطوع، وأما لو
كان ذلك بالنيابة فلا، ولا ملازمة بين حرمة المباشرة وحرمة النيابة، كما يظهر
ذلك من جواز إجارة الحائض الغير للطواف مع حرمة الطواف عليها مباشرة، وكذا
إجارة الجنب الغير لدخول المسجد، وغير ذلك من الموارد كما يظهر للمتتبع،
فلا إشكال من هذه الجهة أيضا، ولكن مع ذلك بعد في النفس من صحة الإجارة
شئ، فتأمل.
المسألة الثانية: لو حصل للمكلف أحد الأعذار المانعة عن التكليف،
كالحيض والجنون وأمثال ذلك، فإن مضى من الوقت مقدار فعل الصلاة التامة
الأجزاء والشرائط، من الطهارة المائية وتحصيل الساتر وغير ذلك من الشرائط التي
كان فاقدا لها قبل الوقت ثم طرأ عليه العذر، فلا إشكال ولا خلاف في وجوب
القضاء عليه، كما لا اشكال ولا خلاف فيما إذا طرأ عليه العذر في أول الوقت في سقوط
القضاء، إنما الاشكال والخلاف فيما إذا مضى من الوقت أقل من ذلك المقدار،
فهل يجب عليه القضاء أو لا؟ وكذا الكلام بالنسبة إلى آخر الوقت لو زال العذر
قبل آخره بمقدار لا يتمكن من فعل الفريضة مجتمعة للشرائط والأجزاء، مع تمكنه
منها فاقدة للشرائط مع الطهارة المائية، أو بدونها أيضا بحيث لم يكن متمكنا إلا
من الصلاة مع الطهارة الترابية فقط دون سائر الشرائط ودون الطهارة المائية،
فهل يجب عليه فعلها ولو خالف كان عليه القضاء، أو لا يجب إلا إذا زال العذر
117

قبل آخره بمقدار فعل الفريضة مجتمعة لجميع الشرائط؟
ولنقدم الكلام في أول الوقت ثم نعقبه بآخره إذ ربما يكون بينهما تفاوتا
بحسب الدليل، فنقول.
مقتضى القاعدة أنه لو طرأ عليه أحد الأعذار المسقطة للتكليف قبل مضي
مقدار من الوقت يمكنه فعل الفريضة تامة للأجزاء والشرائط هو عدم وجوب
القضاء عليه ولا الأداء، إذا علم في أول الوقت بطرو العذر بعد ذلك.
أما عدم وجوب الأداء فلأن المفروض عدم تمكنه من فعل الصلاة التامة،
ولا دليل على سقوط الشرائط بالنسبة إلى مثل هذا الشخص، فإن ما دل على
سقوط الشرائط في حال الاضطرار إنما هو مختص بما إذا كان الشخص غير متمكن
في حد نفسه من فعل الشرط، لا ما إذا كان في حد نفسه متمكنا من فعل الشرط
ولكن طرأ عليه ما يوجب سقوط التكليف، كما فيما نحن فيه.
والحاصل: أن العذر عن فعل الشرط في زمان لا يكفي في سقوط التكليف عنه
ما لم يتعذر في جميع الوقت كما هو التحقيق في ذوي الأعذار، بل يحتاج في سقوط
التكليف عن الشرط هو ثبوت العذر في تمام الوقت، ولذا لا يجوز لذوي الأعذار
البدار إلى فعل الصلاة الفاقدة للشرائط ما لم يعلم بعدم زوال العذر، إلا أن يقوم
دليل شرعي على تنزيل العذر في زمان منزلة العذر في تمام الوقت، كما لا يبعد
ثبوت ذلك بالنسبة إلى خصوص الطهارة المائية، حيث يجوز عليه البدار مع
الطهارة الترابية وإن لم يعلم باستيعاب العذر لتمام الوقت، على ما يأتي بيانه
إن شاء الله، وأما ما عدا الطهارة من سائر الشرائط فيحتاج في سقوط التكليف
عنها بحسب القاعدة إلى استيعاب العذر لتمام الوقت، ولا يكفي العذر في بعض
إنما طرأ عليه ما يوجب سقوط التكليف من الحيض والجنون وغير ذلك.
118

فإن قلت: أما قلتم إن العذر إذا استوعب تمام الوقت كان التكليف
بالنسبة إلى الشرط المعذور فيه ساقطا وكان يجب عليه الصلاة فاقدة لذاك
الشرط، فما الفرق بين ما نحن فيه وبين ذلك، فإن الوقت بالنسبة إلى من تحيض
عقيب نصف من الزوال هو هذا المقدار من الزمان، والمفروض أن في هذا المقدار
من الزمان غير متمكن من الشرائط، فهو كما إذا استوعب عذره تمام الوقت؟
قلت: ليس الأمر كذلك، فإن طروء الحيض لا يوجب تضييق في الوقت
المضروب للصلاة، بل الوقت المضروب إنما هو باق على حاله، غاية الأمر أن
الشخص غير متمكن من فعل الصلاة في وقتها من جهة عروض المسقط.
والحاصل: أنه فرق بين أن يستوعب العذر تمام الوقت المضروب للصلاة من
الزوال إلى الغروب وبين أن يعرض المسقط في أثناء الوقت، فإن عروض المسقط
لا يجعله آخر الوقت، فلا بد في القول بوجوب الأداء على مثل هذا الشخص من
قيام دليل بالخصوص على تنزيل العذر في بعض الوقت بمنزلة العذر في تمام
الوقت.
والقول بأن وقت هذا الشخص هذا المقدار من الزمان حتى يدخل في موضوع
من استوعب عذره تمام الوقت خال عن الدليل، بل هو قياس محض، فتأمل
فإنه بعد للتأمل فيه مجال.
ثم لا أقل من الشك في كون هذا المقدار من العذر المتعقب بالمسقط موجبا
لسقوط التكليف عن الشرط فقط حتى يجب عليه الصلاة الفاقدة، كما إذا
استوعب العذر إلى تمام الوقت، فأصالة البراءة محكمة، لأن انعدام المشروط عند
انعدام شرطه مما لا يدخله ريب، والمفروض الشك في شمول تلك الأدلة الدالة
على سقوط خصوص الشرائط بالنسبة إلى مثل من يعرض المسقط، إذ لا أقل من كون
المتيقن منها هو ما إذا لم يكن الشخص في حد نفسه قادرا على الشرط في مجموع
119

الوقت، فبالنسبة إلى مثل هذا شاك في توجه التكليف إليه والأصل البراءة،
فالأقوى هو عدم وجوب الأداء على من علم بطرو المسقط قبل تمكنه من فعل
الصلاة تامة الأجزاء والشرائط، فتأمل.
ثم على تقدير وجوب الأداء عليه لا وجه لوجوب القضاء عليه لو عصى
وخالف، وذلك لأن تبعية وجوب القضاء على الأداء إنما هو فيما إذا لم يقم دليل
على سقوط القضاء، وفيما نحن فيه قام الدليل على سقوط القضاء، فإن ما دل على
أن ما فوته الحيض والجنون لا قضاء عليه شامل لما نحن فيه، فإن الصلاة التامة
الأجزاء والشرائط قد فوته الحيض فلا قضاء لها، والقول بقضاء الصلاة الفاقدة
بديهي الفساد بعد تمكن المكلف من الصلاة التامة.
والحاصل: أن الصلاة التامة للشرائط لا قضاء لها من جهة أنها فاتت بسبب
الحيض، والأدلة ناطقة بعدم وجوب قضاء ما فات بالحيض، وقضاء الصلاة
الناقصة ضروري الفساد ولم يدعه أحد، ولا يقاس ما نحن فيه بما إذا كان مكلفا
بالصلاة الناقصة ففوتها عصيانا حيث يجب عليه قضاء الصلاة التامة بلا إشكال،
لأن التمامية والناقصية إنما هي من حالات المكلف كالجهر والاخفات تدور مدار
حال المكلف من التمكن وعدمه، ففي الوقت حيث لم يكن متمكنا إلا من
الناقصة كانت هي الواجبة ليس إلا، وأما في خارج الوقت فحيث إنه متمكن
من التامة كانت هي الواجبة أيضا ليس إلا، وذلك لأن كون التمامية والناقصية
من حالات المكلف مسلم، إلا أن العصيان لم يكن مسقطا للقضاء كما كان
الحيض مسقطا له.
والحاصل: أن الفرق بين العصيان والحيض هو قيام الدليل على عدم قضاء
ما فات بالحيض. فالأقوى أنه وإن قلنا بوجوب الأداء على من علم بطرو المسقط
لا يجب عليه القضاء، فتأمل. هذا كله بالنسبة إلى أول الوقت.
120

وأما آخر الوقت فيمتاز عن أوله أنه إذا أدرك مقدار خمس ركعات مع سائر
الشرائط كان يجب عليه الأداء قطعا لقاعدة " من أدرك " وإن خالف كان عليه
القضاء أيضا قطعا، وهذا بخلاف أول الوقت، فإنه لا بد في وجوب الأداء
والقضاء من إدراك ثمان ركعات من سائر الشرائط، لعدم جريان قاعدة " من
أدرك " بالنسبة إلى أول الوقت، لاختصاص أدلتها بآخره كما لا يخفى.
وأما لو أدرك من آخر الوقت دون ذلك فالكلام فيه الكلام في أوله أداء
وقضاء، أما عدم وجوب القضاء عليه لو خالف فلجريان عين ما ذكرناه في أول
الوقت فيه أيضا بلا تفاوت، وأما عدم وجوب الأداء عليه، فلأنه وإن لم تجر
العلة التي ذكرناها في أول الوقت فيه، لأن من أفاق في آخر الوقت بمقدار لا يمكنه
فعل الصلاة مجتمعة للشرائط أو طهرت الحائض كذلك فقد استوعب عذره تمام
الوقت، فيكون مشمولا لتلك الأدلة الدالة على سقوط الشرائط عند عدم التمكن
منها في مجموع الوقت، وإن كان يمكن أن يدعى أن تلك الأدلة مقصورة بما إذا
كان الشخص غير متمكن من فعل الشرط في حد نفسه في مجموع، لا ما إذا كان
متمكنا منه وكان جهة عذره من جهة انتفاء ما هو شرط التكليف من العقل
والخلو عن الحيض، إلا أن الانصاف أن قصر تلك الأدلة بذلك
مشكل.
نعم يمكن أن يقال: إن الشرائط المأخوذة في لسان الأدلة شرط للتكليف،
كالعقل والبلوغ والخلو عن الحيض، لها دخل في الملاك وما هو جهة التكليف من
المصالح والمفاسد، فحينئذ الصلاة التامة للشرائط لا ملاك لها مع استيعاب
الحيض والجنون إلى قريب من آخر الوقت، ولا دليل على ثبوت الملاك في الصلاة
الناقصة، فلا طريق إلى إثبات وجوب الأداء على مثل هذا، فتأمل فإن هذا أيضا
لا يتم إلا بعد القول بعدم شمول تلك الأدلة الدالة على ثبوت التكليف بالناقص
121

مع عدم التمكن من التام، كقوله عليه السلام " الصلاة لا تترك بحال " (1) وأمثال
ذلك لما نحن فيه، وعليه لا حاجة إلى هذا البيان، وأما بعد الاعتراف بشمول تلك
الأدلة له فنفس تلك الأدلة تكفي في ثبوت الملاك والتكليف بالناقص، فتأمل
فتأمل (2) فإن المسألة مشكلة، وعلى أي حال على تقدير القول بوجوب الأداء على
مثل هذا الشخص لا دليل على ثبوت القضاء عليه بالبيان المتقدم في أول الوقت.
ولا فرق فيما ذكرنا بين الطهارة المائية وسائر الشرائط، فكما أنه يعتبر في آخر
الوقت القدرة على الطهارة المائية، كما ورد به النص في باب الحيض واعترف به
الخصم، كذلك يعتبر القدرة على سائر الشرائط.
بل يمكن أن يستدل على اعتبار القدرة على جميع الشرائط في آخر الوقت
بمصححة عبيد بن زرارة: أيما امرأة رأت الطهر وهي قادرة على أن تغتسل في وقت
صلاة معينة ففرطت فيها حتى تدخل وقت صلاة أخرى كان عليها قضاء تلك
الصلاة التي فرطت فيها، وإن رأت الطهر في وقت صلاة فقامت في تهيئة ذلك
فجاز وقت الصلاة ودخل وقت صلاة أخرى فليس عليها قضاء (3). بناء على أن
يكون المراد من قوله " قامت في تهيئة ذلك " هو القيام في تهيئة مقدمات الصلاة
لا خصوص الغسل، وإن كان ربما يأباه صدره، فتأمل.
بل يمكن أن يقال بدلالة رواية محمد بن مسلم على اعتبار التمكن من جميع
الشرائط في أول الوقت أيضا، فإن فيها عن أحدهما عليهما السلام قال قلت:
المرأة ترى الطهر عند الظهر، فتشتغل في شأنها حتى يدخل وقت العصر، قال:
تصلي العصر وحدها، فإن ضيعت فعليها صلاتان (4).

(1) الوسائل: ج 3 ص 175 باب 39 من أبواب المواقيت، ح 4.
(2) هكذا في الأصل والظاهر أن الثانية زائدة.
(3) الوسائل: ج 2 ص 598 باب 49 من أبواب الحيض، ح 1، وفيه اختلاف يسير.
(4) تهذيب الأحكام: ج 1 ص 89 باب 19 من أبواب الحيض والاستحاضة والنفاس، ح 23.
122

بتقريب أن يقال: إن المراد من دخول وقت العصر هو دخول الوقت
الاختصاصي لها، فيصير المعنى حينئذ أن المرأة إذا طهرت من حيضها في أول
الزوال فقامت تشتغل في شأنها من الغسل وتهيئة سائر الشرائط، فلم يسع وقت
صلاة الظهر لجميع ذلك حتى دخل وقت صلاة العصر، فقال عليه السلام: لا يجب
عليها إلا صلاة العصر وحدها، فيستفاد منه أنه يعتبر في تكليفها بصلاة الظهر أن
يسع الوقت لتهيئة جميع الشرائط التي كانت فاقدة لها، فلو لم يسع الوقت لذلك لم
تكن مكلفة بالصلاة.
والاستدلال بهذا أيضا مبني على أن يكون المراد من الاشتغال بشأنها هو
الاشتغال بالغسل وسائر الشرائط، لا خصوص الغسل أو هو مع طهارة بدنها من
لوث الحيض، وأن يكون المراد من دخول وقت صلاة العصر هو الوقت
الاختصاصي لها لا الوقت الفضلي كما هو الظاهر منه، إذ يبعد أن يطول زمان
الاشتغال بشأنها إلى الوقت الاختصاصي للعصر مع أنها رأت الطهر في أول
الوقت، كما هو الظاهر من قول السائل " رأت الطهر عن الظهر " وعليه يسقط
الاستدلال بالرواية بالكلية لعدم العمل بها، بداهة أنه مجرد دخول وقت الفضلي
للعصر لا يوجب عدم تكليفها بالظهر إلا بناء على القول بأن آخر وقت الاجزائي
للظهر هو المثل، فالرواية تنطبق على هذا المذهب، فتأمل فإن الاستدلال بالرواية
لما نحن فيه لا يخلو عن شئ.
إلا أنه لا حاجة إلى هذه الروايات، فإنا في غنى عنها بعد ما ذكرنا من أن
عدم وجوب الأداء والقضاء عليها إنما هو مقتضى القاعدة، فللخصم من إقامة
الدليل على الوجوب وهو مفقود، وإن كان ربما يستدل له بإطلاق بعض الأخبار،
كخبر ابن الحجاج عن امرأة طمثت بعدما تزول الشمس ولم تصل الظهر، هل
123

عليها قضاء تلك الصلاة؟ قال: نعم (1). فإن إطلاق السؤال يعم ما إذا لم يمض
من الوقت بمقدار فعل الصلاة التامة، ولكن الانصاف انصرافه إلى مضي ذلك
المقدار، فتأمل.
ثم إنه لا فرق فيما ذكرنا بين الحيض والبلوغ والجنون وغير ذلك من شرائط
التكليف.
نعم هنا كلام آخر في خصوص البلوغ ينبغي التنبيه عليه، وهو أنه لو بلغ في
أثناء الصلاة أو بعدها في سعة الوقت وقلنا بشرعية عبادة الصبي، فهل يجب عليه
الاتمام في الأولى بلا إعادة والاجتزاء في الثانية، أو لا يجزي بل يجب عليه إعادة
الصلاة فيما إذا بلغ بعد الصلاة واستئنافها فيما إذا بلغ في أثنائها؟ وهنا احتمال
آخر وهو إمام الصلاة التي بيده وجوبا أو ندبا ثم إعادتها.
وتنقيح البحث هو أن الكلام في المقام إنما هو بعد الفراغ عن شرعية عبادة
الصبي واستحبابه، إذ لا موضوع لهذا البحث بناء على التمرينية، فإنه لا إشكال في
عدم الاجتزاء بها، سواء بلغ في الأثناء أو بعد الفراغ، وليس له إتمامها إذا بلغ
في الأثناء وإن احتمله بعض لفوات موضوع التمرين بالبلوغ، وينقلب موضوع
التمرين إلى الوجوب وتصير الصلاة واجبة عليه، فلا سبيل إلى القول بإتمامها
تمرينا.
ثم إنه اختلفت كلمات الأصحاب في الحج وفي باب الصلاة والصيام، ففي
باب الحج ذهب المشهور إلى أنه لو بلغ الصبي بعد تلبسه بالحج قبل الوقوف
بالمشعر أجزأه عن حجة الاسلام، ولا يحتاج إلى إعادة الأفعال السابقة، وأما في
باب الصلاة فقد ذهب المشهور إلى خلاف ذلك، وقالوا: إنه لو بلغ الصبي في

(1) الوسائل: ج 2 ص 597 باب 48 من أبواب الحيض، ح 5 وفيه اختلاف يسير.
124

الأثناء فلا يعتد بالأفعال السابقة ويجب عليه استئنافها.
فقد يتخيل أنه لا وجه لهذا التفصيل مع كون البابين من واد واحد، إلا أن
الانصاف أنه ليس كذلك، ويختلف باب الحج عن باب الصلاة، فإن في باب
الحج بعد ما لوحظ كل فعل فيه على جهة الاستقلالية، ولذا يحتاج إلى تجديد النية
عند كل فعل، وبعد كون حجة الاسلام ليست من الأمور القصدية كالظهرية
والعصرية، بل هي تدور مدار اجتماع شرائط حجه الاسلام على المكلف، فلو
كان واجدا لها يكون حجه حجة الاسلام، وإن كان فاقدا لها لا تكون حجة
الاسلام، وبعد ورود النص في أن العبد إذا أعتق قبل الوقوف بالمشعر أجزأه عن
حجه الاسلام (1)، وفهم وحدة المناط بين اشتراط الحرية واشتراط البلوغ وليس ذلك
من باب القياس، يكون الاجتزاء بالحج الذي بلغ في أثنائه عن حجة الاسلام
على القاعدة، بخلاف باب الصلاة فإن تطبيقه على القاعدة يحتاج إلى مؤنة أخرى
سيأتي التعرض لها.
والحاصل: أنه فرق بين باب الحج وبين باب الصلاة، فإن في باب الحج بعد
ورود النص الصحيح بأن العبد إذا أعتق قبل الوقوف أجزأ حجه عن
حجة الاسلام، وبعد اتحاد المناط في العبد والصبي كما فهمه الأصحاب يكون
الحكم كما ذكره المشهور، فإن ما أوقعه الصبي قبل بلوغه ولو كان على جهة
الندبية إلا أنه ندبية البعض لا ينافي وجوب الآخر وهو سائر أفعال الحج التي تقع
منه بعد البلوغ، لعدم ارتباطية الأفعال بعضها مع بعض من هذه الجهة، فمجرد
وقوع الاحرام مثلا ندبا لا ينافي وقوع الوقوف مثلا وجوبا، وكذا وقوع الاحرام
لا عن حجة الاسلام لا ينافي وقوع الاحرام عنه بعد ما لم تكن حجة الاسلام من

(1) الوسائل: ج 8 ص 35 باب 17 من أبواب وجوب الحج، ح 1 و 4 من كتاب الحج.
125

العناوين القصدية، وحينئذ لو قام الدليل على عدم لزوم اجتماع شرائط الوجوب
عند أول فعل من أفعال الحج بل يكفي اجتماعها عند الوقوف، كان اللازم هو
القول بالصحة والاكتفاء به عن حجة الاسلام كما قاله المشهور.
وهذا بخلاف باب الصلاة، لأن المفروض ارتباطية أفعالها بعضها مع بعض،
وفقدان النص على كفاية تحقق شرائط الوجوب في بعضها، كان مقتضى القاعدة
هو البطلان وعدم الاجتزاء بها إلا بعناية أخرى، وهي أن يقال: إن ما هو الملاك
في تكليف البالغ بالصلاة وإلزامه بها هو الموجب لتكليف الغير البالغ بالصلاة
استحبابا من دون أن يكون تفاوت بينهما في ذلك، فالمصلحة القائمة بصلاة الظهر
لا تختلف بحسب الكمية، سوى أنها في غير البالغ تقتضي الاستحباب وفي البالغ
تقتضي الوجوب والالزام.
وحينئذ يمكن أن يقال بأنه لو بلغ الصبي في أثناء الصلاة بما لا يوجب نقض
الطهارة لكان اللازم عليه تتميم الصلاة بلا حاجة إلى الاستئناف والإعادة، وكذا
لو بلغ بعد الصلاة، أما إذا كان بلوغه بعد الصلاة فواضح، فإن تمام ما هو
المصلحة القائمة في صلاة الظهر قد استوفاها، فلا يبقى حينئذ موضوع للأمر الوجوبي
بالصلاة ثانيا، فلو قيل مع ذلك بوجوب الصلاة عليه ثانيا لكان مساوقا للقول
بالتكليف بشئ بلا أن يكون هناك ما يوجب التكليف به، وأما إذا بلغ في
الأثناء فكذلك أيضا، لأن المفروض أنه لم يتبدل حقيقة المأمور به بالبلوغ
ولا حقيقة الأمر، بل إنما تبدل صفة الأمر، لا سقوط أمر عن ملاك وثبوت أمر آخر
عن ملاك آخر، فحينئذ الركعتان اللتان أتى بهما إلى الآن بوصف الاستحباب
تكون تامة في المصلحة كما إذا كانت واجبة من أول الأمر، وعند انضمام
الركعتين الأخيرتين إليهما يسقط الأمر.
والحاصل: أن مبنى القولين في المسألة من إتمام الصلاة التي بيده إذا بلغ في
126

أثنائها والاكتفاء بها وعدم إعادة الصلاة التي بلغ بعدها، ومن عدم وجوب
الاتمام ولزوم الاستئناف إذا بلغ في الأثناء وإعادة الصلاة إذا بلغ بعدها، إنما
هو كون الملاك الذي أمر لأجله بالصلاة هل هو متحد في البالغ والصبي، ويلزمه
وحدة الأمر والمأمور به وأن التفاوت إنما هو في صفة الأمر من الوجوب
والاستحباب، أو تغاير الملاك فيهما وأن المصلحة التي اقتضت أمر الصبي بالصلاة
استحبابا مغايرة للمصلحة التي اقتضت أمر البالغ بالصلاة وجوبا، ويلزمه سقوط
الأمر الاستحبابي عند البلوغ لسقوط ملاكه وثبوت أمر آخر وجوبيا عنده لثبوت
ملاكه؟
فلو قلنا بوحدة الملاك وأن التغاير إنما هو في الصفة فقط كان اللازم هو القول
بعدم إعادة الصلاة لو بلغ بعدها وإتمام الصلاة إذا بلغ في أثنائها، لاستيفاء
الغرض والمصلحة فلا يكون هناك ما يوجب تجدد الأمر الوجوبي بالإعادة
والاستئناف، ولو قلنا بتغاير الملاك كان اللازم هو إعادة الصلاة واستئنافها،
لسقوط ما هو الموجب للاستحباب وثبوت ما هو الموجب للوجوب، ولا يمكن القول
حينئذ بالاجتزاء بالركعتين اللتين صلاهما استحبابا، لأن ملاك الاستحباب
لا يمكن أن يكون مسقطا لما هو ملاك الوجوب، والأمر الوجوبي الذي يتوجه عليه
في أثناء الصلاة إنما هو الأمر بتمام الصلاة من التكبيرة إلى التسليمة، إذ ليس
هناك أمر سوى قوله تعالى: أقيموا الصلاة (1) وأمثال ذلك، والصلاة اسم لمجموع
الأفعال لا خصوص الركعتين اللتين بلغ عندهما كما هو واضح، هذا.
ولكن الانصاف أنه وإن قلنا بوحدة الملاك كما هو ليس بكل البعيد
لا يلزمنا القول بسقوط الإعادة لو بلغ بعدها ولزوم إتمام الصلاة التي بلغ في

(1) الروم: الآية 31.
127

أثنائها، وذلك لأنه لا إشكال في امتياز صلاة البالغ مع غيره ولو باعتبار تبدل
صفة الأمر وتأكد الطلب بالنسبة إلى البالغ، وحينئذ فمن المحتمل أن يكون لهذه
الصفة دخل في استئناف الصلاة التي بلغ في أثنائها وإعادة الصلاة التي بلغ
بعدها.
وبعبارة أخرى: لا ريب في نقصان صلاة الصبي عن غيره وإن اشتملت على
الملاك واتحدت مع غيره في ذلك، إلا أن المراد من اتحاد الملاك هو عدم تباين
الملاكين بحيث لم يكن بينهما جهة جامعة أصلا، لا أن يكون المراد منه هو اشتمال
عبادة الصبي بتمام ما اشتملت عليه عبادة البالغ بحيث تكون وافية بتمام
الغرض، فإنه لا إشكال في أن للبلوغ دخلا ولو في تبدل صفة الأمر وحينئذ فمن
المحتمل في عالم الثبوت أن يكون المقدار الباقي من المصلحة التي تشتمل عليه
عبادة البالغ باعتبار عروض صفة الوجوب لازمة التحصيل أيضا، بحيث يمكن
استيفاؤها مع فعل الصبي الصلاة الناقصة ويمكن أن لا يكون قابلا للاستيفاء،
وهذا البحث سيال في جميع الناقص مع الكامل، كالصلاة بالطهارة الترابية،
والصلاة بالطهارة المائية، وغير ذلك من أفراد الناقص والكامل.
وحينئذ فإن كان في مقام الاثبات ما يعين أحدهما فهو، وإلا كان المتبع هو
إطلاقات الأدلة، إذ لا إشكال في شمول قوله تعالى: أقيموا الصلاة لعموم
البالغين سواء فعلوا ما هو وظيفتهم في حال الصباوة من الصلاة أو لم يفعلوا،
فحينئذ يلزم على الصبي البالغ أن يمتثل هذا الأمر وإن امتثل الأمر الاستحبابي
قبل ذلك، ولازم ذلك هو استئناف الصلاة لو بلغ في أثنائها وإعادتها لو بلغ
بعدها، فتأمل. فإن التمسك بالاطلاقات بعد الاعتراف باتحاد حقيقة المأمور به
وأن صلاة الصبي بناء على الشرعية متحدة بالهوية مع صلاة البالغ، وكذا اتحاد
الأمر وأن التبدل إنما هو في الصفة فقط، لا يخلو عن إشكال فإنه لا موضوع حينئذ
128

لتلك المطلقات، فتأمل فإن المسألة بعد لا تخلو عن إشكال، هذا كله في الصلاة.
وأما الصيام فلا إشكال في عدم وجوب الاتمام لو بلغ بعد الفجر ولو
بلحظة، لاعتبار اجتماع شرائط التكليف من أول الوقت، ولم يقم دليل على
الاجتزاء لو حصلت في بعض الوقت كما ورد في باب الحج.
بقي الكلام في الطهارة وأنه لو تطهر الصبي ثم بلغ فهل له الصلاة بتلك
الطهارة أو يجب إعادتها؟ الظاهر أنه لا ينبغي الاشكال أيضا في عدم لزوم
الإعادة، لأن المفروض أنه تكفي الطهارة المستحبة لأجل الغايات المستحبة في
فعل الصلاة الواجبة بها ولا يحتاج إلى إعادتها، لأن الطهارة المستحبة كالطهارة
الواجبة رافعة للحدث، ولا يشترط في الصلاة أزيد من رفع الحدث، وطهارة الصبي
بناء على الشرعية تكون كسائر الطهارات المستحبة في رافعيتها للحدث، والبلوغ لم يكن من الأحداث الرافع للطهارة فلا يحتاج إلى إعادتها بعد البلوغ، إذ الطهارة
حينئذ تكون كسائر الشرائط الحاصلة له قبل البلوغ من الساتر وغيره، فتأمل
جيدا.
المسألة الثالثة: لا إشكال في أن مقتضى القاعدة الأولية هو لزوم تحصيل
العلم بالوقت مع إمكانه، ولا يكتفي بالظن لأصالة حرمة العمل به إلا أن يقوم
دليل على اعتباره إما مطلقا أو في الجملة، وحيث إن العلم بدخول الوقت ممكن
ولو بالصبر إلى أن يعلم أنه قد زال الزوال أو صار المغرب، وليس الوقت كسائر
الموضوعات الأخر التي يمكن تعذر العلم بها، كالقبلة مثلا فإن الشخص يمكن أن
لا يحصل له العلم بالقبلة أبدا، وهذا بخلاف الوقت فإنه يبعد أن لا يحصل العلم
به إلى أن يخرج الوقت، فتحصيل العلم بالوقت ممكن لعامة الناس ولو بالصبر،
فمقتضى القاعدة هو لزوم الصبر إلى أن يحصل العلم بدخول الوقت وعدم الاعتماد
على الظن، خصوصا إذا أمكنه تحصيل العلم به في أول الوقت بلا حاجة إلى
129

الصبر، فإن الظاهر قيام الاجماع على عدم جواز التعويل بالظن المطلق من أي
سبب كان.
وإن كان ربما نسب الخلاف إلى بعض الأعلام على ما في الجواهر (1) إلا أن
عبارات من نسب إليه الخلاف لا تدل على جواز العمل بالظن مطلقا حتى مع
إمكان تحصيل العلم به في أوله، فراجع الجواهر.
نعم قد تردد في الذخيرة على ما نقل في المسألة، لخبر ابن رياح عن الصادق
عليه السلام قال: إذا صليت وأنت ترى أنك في وقت، ولم يدخل الوقت فدخل
وأنت في الصلاة، فقد أجزأت عنك، بدعوى إرادة الظن من لفظ " ترى "
لكونه معناه (2).
وأنت خبير بفساده، لأن ترى مأخوذ من الرؤية، وهو أقريب إلى العلم من
الظن، بل ربما يدعى ظهوره في العلم، وعلى تقدير عدم ظهوره في ذلك فلا أقل
من صلاحيته لذلك، فلا يمكن دعوى ظهوره في الظن.
وبالجملة: بعد لم يقم دليل على اعتبار مطلق الظن في معرفة الوقت مع التمكن
من تحصيل العلم من غير صبر، ولم يعلم به قائل أيضا.
نعم ذهب بعض الأعلام على اعتبار خصوص أذان الثقة العارف بالوقت،
لجملة من الأخبار الظاهرة أو الصريحة في جواز التعويل بأذان الثقة التي بإطلاقها
تشمل صورة التمكن من تحصيل العلم، فمنها: قول الصادق عليه السلام في
الصحيح: صل الجمعة بأذان هؤلاء، فإنهم أشد شئ مواظبة على الوقت (3)
ومنها: خبر محمد بن خالد القسري قال له أيضا: أخاف أن أصلي الجمعة قبل أن

(1) جواهر الكلام: ج 7 ص 265 س 13 من كتاب الصلاة.
(2) ذخيرة المعاد: ص 208 س 30 من كتاب الصلاة.
(3) الوسائل: ج 4 ص 618 باب 3 من أبواب الأذان والإقامة، ح 1.
130

تزول الشمس، فقال: إنما ذلك على المؤذنين (1). ومنها: قولهم عليهم السلام:
المؤذن مؤتمن (2)، والمؤذنون أمناء (3). وأمثال هذه التعبيرات الظاهرة في اعتبار
أذانه، كاعتبار أقوال سائر الأمناء في سائر المقامات.
وإطلاق هذه الأخبار مع جملة أخرى لم نذكرها تدل على جواز الاعتماد بقول
المؤذن في باب الوقت، حتى مع التمكن من تحصيل العلم من دون صبر، وحتى
مع عدم حصول العلم من أذان المؤذن.
بل في بعضها يقرب من التصريح باعتبار الأذان مع عدم حصول العلم به،
كالرواية المتقدمة قال له: أخاف أن أصلي الجمعة قبل أن تزول الشمس، فقال
عليه السلام: إنما ذلك على المؤذنين. فإن ظاهره اعتبار الأذان حتى مع الخوف
والشك، فحمل هذه الأخبار على صورة حصول العلم بالوقت بأذان المؤذن بعيد
في الغاية. مع أنه بناء على هذا لا يكون خصوصية في الأذان بل هو كسائر
الأسباب المفيدة للعلم، فتخصيص الأذان بالسؤال والجواب يكون بلا وجه،
وهذا مبعد آخر على الحمل المذكور.
فالانصاف أن دلالة هذه الأخبار على اعتبار أذان المؤذن في غاية القوة.
نعم في خبر علي بن جعفر عن أخيه عليه السلام ما يدل على عدم العبرة بأذان
المؤذن حتى يحصل له العلم، فإن فيه في الرجل يسمع الأذان، فيصلي الفجر
ولا يدري أطلع الفجر أم لا، غير أنه يظن لمكان الأذان أنه طلع، قال عليه السلام:
لا يجزيه حتى يعلم أنه طلع (4). فهذا الخبر بظاهره يعارض تلك المطلقات بالأعم

(1) الوسائل: ج 4 ص 618 باب 3 من أبواب الأذان والإقامة، ح 3، وفيه اختلاف يسير.
(2) الوسائل: ج 4 ص 618 باب 3 من أبواب الأذان والإقامة، ح 2.
(3) الوسائل: ج 4 ص 619 باب 4 من أبواب الأذان والإقامة، ح 6، وفيه اختلاف يسير.
(4) الوسائل: ج 3 ص 203 باب 58 من أبواب المواقيت، ح. 4 وفيه اختلاف يسير.
131

المطلق، بل يعارض مع بعضها بالتباين.
وحمل الخبر على ما إذا لم يكن المؤذن بمؤتمن وغير عارف بالوقت مما لا شاهد
له، كما أنه يبعد تقييد تلك المطلقات بمثل هذا الخبر لقوة تلك المطلقات في
الغاية، مع أنه قد عرفت أن في بعضها ما يأبى عن التقييد، فيدور الأمر بين طرح
تلك المطلقات والأخذ بهذا الخبر والفتوى بمضمونه من أنه لا بد من تحصيل العلم
مع التمكن كما نسب إلى المشهور، بل ربما ادعى عليه الاجماع على ما نقل، أو طرح
هذا الخبر والأخذ بتلك المطلقات والفتوى بمضمونها من اعتبار أذان المؤذن مطلقا
حتى مع التمكن من تحصيل العلم كما قال به بعض الأعلام، ولم يعلم حال
الطبقة الأولى من العلماء الذي يكون عملهم هو الجابر والكاسر، وأنهم هل أفتوا
بمضمون المطلقات وطرحوا الخبر أو بالعكس، ومن هنا استشكل شيخنا الأستاذ
مد ظله في هذه المسألة ولم يرجح أحد الطرفين، ولكن الانصاف أن العمل
بالمطلقات لا يخلو عن قوة.
ثم إن هذه الأخبار إنما دلت على اعتبار أذان المؤذن فقط، وأما قول المؤذن
وإخباره بدخول الوقت من دون أذان فلا يبعد إلحاقه بالأذان، ودعوى القطع بعدم
خصوصية في الأذان ليست بتلك المثابة من البعد، وإن استشكل في ذلك أيضا
شيخنا الأستاذ مد ظله هذا كله في الأذان.
وأما البينة فلا ينبغي الاشكال في اعتبارها وأنها في عرض العلم، لعموم قوله
عليه السلام: والأشياء كلها على ذلك حتى تستبين أو تقوم به البينة (1).
ودعوى أن المشار إليه في ذلك إنما هو خصوص الحلية والحرمة، فلا يعم
ما نحن فيه وما شابهه من الشرائط والأجزاء وغير ذلك من الموضوعات، ضعيفة

(1) الوسائل: ج 12 ص 60 باب 4 من أبواب ما يكتسب به، ح 4 وفيه اختلاف يسير.
132

جدا، فإن المراد من المشار إليه في ذلك ليس خصوص الحلية والحرمة النفسيان،
بل المراد منه هو الأصل الجاري في الشئ لولا العلم وقيام البينة على الخلاف،
فيصير المعنى أن الأشياء كلها على ما يقتضيه الأصل فيها إلا مع العلم على
الخلاف أو قيام البينة عليه.
ومجرد كون الأمثلة المذكورة في صدر الرواية من موارد الحلية والحرمة
النفسيان لا يقتضي اسم الإشارة بذلك، فتأمل جيدا.
فالأقوى حجية البينة لو قامت على أي موضوع من الموضوعات التي يتعلق به
حكم شرعي، سواء في ذلك الوقت وغيره.
وأما العدل الواحد فالأقوى عدم حجيته في الموضوعات مطلقا، إلا أن يقوم
دليل خاص في مورد بالخصوص على اعتباره، فإن ما دل على اعتبار خبر العدل
مخصوص بالأحكام ولا يشمل الموضوعات، سوى مفهوم آية النبأ (1)، وفي دلالة آية
النبأ على اعتبار خبر العدل محل تأمل كما ذكر في محله، وعلى فرض دلالتها
وعمومها للموضوعات تكون مخصصة كغيرها من الأدلة على تقدير عمومها أيضا
بما دل على اعتبار التعدد في الموضوعات، كقوله عليه السلام " والأشياء كلها على
ذلك حتى.. إلخ " فإنه حصر طريق إثبات الموضوعات بالعلم أو البينة، فلا
عبرة بخبر الواحد فيها.
فتحصل من جميع ما ذكرناه: أنه مع التمكن من تحصيل العلم بالوقت من غير
صبر لا بد من تحصيل العلم، ولا يقوم شئ من الظنون مقامه سوى البينة وسوى
أذان المؤذن على إشكال في الأخير تقدم وجهه.
وأما مع عدم التمكن من تحصيل العلم إلا بالصبر، فتارة يكون عدم التمكن من

(1) الحجرات: الآية 6.
133

جهة وجود العذر العام كالغيم، وأخرى من جهة العذر الخاص كالعمى والحبس،
فلو كان العذر عاما فربما قيل بالاكتفاء بمطلق الظن ولا يلزمه الصبر إلى أن يعلم،
بل ربما نسب ذلك إلى المشهور، بل ربما ادعى الاجماع عليه.
وقد استدل عليه بما ورد من اعتبار صياح الديك في يوم لا يرى فيه الشمس
والقمر أو في يوم غيم، كما ورد التعبير بذلك في الأخبار، ففي حسن الفراء
كالصحيح قال: قال رجل من أصحابنا للصادق عليه السلام: إنه ربما اشتبه
علينا الوقت في يوم غيم، فقال عليه السلام: تعرف هذه الطيور التي تكون عندكم
بالعراق يقال لها الديوك؟ فقال: نعم، قال: إذا ارتفعت أصواتها وتجاوبت فقد
زالت الشمس، أو قال: فصل (1). وفي معناه خبران آخران.
ومن المعلوم أن أقصى ما يفيده صياح الديك هو الظن، وبعد إلغاء
الخصوصية من الظن المستفاد من صياح الديك، وإلغاء خصوصية الغيم وأن
ذكره إنما كان من جهة كونه عذرا لا يمكن معه تحصيل العلم، يتم ما أفاده المشهور
من جواز الاعتماد على مطلق الظن مع عدم التمكن من العلم، سواء كان ذلك
من جهة الغيم أو العمى أو الحبس أو غير ذلك من الأعذار.
وأنت خبير بما في دعوى القطع بعدم الخصوصية في صياح الديك وتسرية
الحكم إلى كل ظن من المجازفة. وكذا في دعوى القطع بعدم الخصوصية في الغيم
وتسرية الحكم إلى كل عذر ولو لم يكن عاما كالعمى والحبس.
فالأقوى على ما اختاره شيخنا الأستاذ مد ظله من الاقتصار على اعتبار
خصوص صياح الديك في خصوص العام، وأما فيما عداه فيلزمه الصبر حتى
يحصل له العلم بدخول الوقت، فتأمل فإن ما ذهب إليه المشهور لا يخلو عن قوة.

(1) الوسائل: ج 3 ص 125 باب 14 من أبواب المواقيت، ح. 5 وفيه اختلاف يسير.
134

وربما يستدل للمشهور بأمور أخر لا تخلو عن ضعف وإن صلحت للتأييد،
فراجع الكتب المبسوطة وتأمل فيها.
ثم إنه لو تبين فساد ظنه فيما جاز التعويل عليه أو تبين خطأ قطعه فمقتضى
القاعدة الأولية هو فساد الصلاة ولزوم الإعادة ولو وقعت تكبيرة الاحرام في
خارج الوقت، فضلا عن وقوع تمام الصلاة أو معظم الأجزاء في خارجه.
وهذا بناء على ما اخترناه في الأصول من عدم اقتضاء الأمر الظاهري للاجزاء
في غاية الوضوح، فإن أقصى ما دل على اعتبار الظن أو القطع من النص والعقل
هو جواز الصلاة، وأما الاجزاء وعدم لزوم الإعادة لو وقع جزء منها في خارج
الوقت فلا دلالة فيه على ذلك، فلا بد في القول بالاجزاء من التماس دليل يدل
على ذلك.
نعم من قال باقتضاء الأمر الظاهري للاجزاء يلزمه القول بالصحة وعدم لزوم
الإعادة لو وقعت تمام الصلاة في خارج الوقت، فضلا عن وقوع بعض منها فيه،
ولا بد له من التماس دليلا يدل على عدم الاجزاء على عكس ما اخترناه.
إلا أن هذا إنما يتم في خصوص ما إذا اعتمد في الوقت على الحجة الشرعية
من البينة وأذان المؤذن وصياح الديك وأمثال ذلك، وأما لو اعتمد على قطعه
فمقتضى القاعدة حتى بناء على اقتضاء الأمر الظاهري للاجزاء هو فساد الصلاة
ولزوم الإعادة عند تبين الخطأ ووقوع بعض الصلاة في خارج الوقت، فضلا عن
وقوع تمامها فيه، إذ لا أمر ظاهري في صورة القطع حتى يقتضي الاجزاء
كما لا يخفى.
والحاصل: أنه بناء على عدم اقتضاء الأمر الظاهري للاجزاء لا يفرق الحال بين
ما إذا كان اعتماده على القطع أو الظن المعتبر، وأن في الجميع القاعدة تقتضي
الإعادة لو وقعت الصلاة في خارج الوقت أو بعض منها ولو التكبيرة، ولا بد من
135

قيام دليل يدل على الاجزاء إما مطلقا أو في بعض الفروض، وأما بناء على
اقتضاء الأمر الظاهري للاجزاء ففي صورة الاعتماد على الظن مقتضى القاعدة هو
الاجزاء لو وقعت الصلاة في خارج الوقت بتمامها أو بعض منها، ولا بد من قيام
دليل حينئذ على عدم الاجزاء إما مطلقا أو في بعض الفروض، وأما في صورة
الاعتماد على القطع فمقتضى القاعدة أيضا عدم الاجزاء مطلقا، هذا ما يقتضيه
القاعدة الأولية.
ولكن ما عليه العمل وفتوى المشهور هو الإعادة والقضاء لو وقعت تمام
الصلاة في خارج الوقت، وأما لو وقع جزء منها في الوقت ولو التسليم بناء على
كونه جزء فلا إعادة ولا قضاء، من غير فرق بين أن يكون قد اعتمد على الظن
المعتبر أو القطع في كلا الفرضين.
وربما يظهر من بعض التفصيل بين الظن والقطع، وأن في صورة الاعتماد
على الظن تصح الصلاة لو وقع جزء منها في الوقت دون ما إذا وقع تمامها في
خارجه، وأما في صورة الاعتماد على القطع فالصلاة فاسدة مطلقا ولو وقع جزء منها
في الوقت.
وليس في المسألة نص سوى خبر ابن رياح المتقدم عن الصادق عليه السلام
قال: إذا صليت وأنت ترى أنك في وقت، ولم يدخل الوقت فدخل وأنت في
الصلاة فقد أجزأت عنك (1). وهذا إنما يدل على الاجزاء في خصوص ما إذا دخل
الوقت في أثناء الصلاة ولو قبل التسليم، وأما إذا لم يدخل الوقت حتى فرغ من
الصلاة فهذا الخبر بنفسه يدل على عدم الاجزاء فضلا عن اقتضاء القاعدة ذلك،
بداهة أن تخصيصه عليه السلام الاجزاء بصورة دخول الوقت في الأثناء يدل على

(1) الوسائل: ج 3 ص 150 باب 25 من أبواب المواقيت، ح 1، وفيه اختلاف يسير.
136

عدم الاجزاء عند عدم الدخول، فللقائل باقتضاء الأمر الظاهري للاجزاء أن
يستدل بهذا الخبر أيضا على عدم الاجزاء لو لم يدخل الوقت في أثناء الصلاة.
وأما لو دخل في الأثناء فلو قلنا إن قوله عليه السلام " ترى " ظاهر في
خصوص الظن كما تقدم عن بعض فيكون دليلا على القول الأخير من التفصيل
بين القطع والظن، وأن في صورة الاعتماد على القطع يلزم الإعادة ولو وقع جزء
منها في خارج الوقت، بخلاف ما إذا اعتمد على الظن.
وأما بناء على ما قويناه سابقا من أن لفظة " ترى " مأخوذة من الرؤية فهي
مقصورة بصورة العلم، أو الاعتقاد الراجح الشامل للعلم والظن، فيكون الخبر
دليلا على ما ذهب إليه المشهور، فإن دخول صورة القطع في الخبر بناء على
ما اخترناه ظاهر.
وأما الظن فربما يتوهم خروجه لعدم صدق " ترى " عليه، إلا أن الانصاف
أنه لو كان الظن من الظنون المعتبرة كما هو مفروض الكلام فلفظة " ترى "
شاملة له أيضا، لصدق " ترى " عند الاعتماد على البينة مثلا، فالأقوى ما ذهب
إليه المشهور، والمناقشة في سند الرواية مما لا وجه له بعد عمل المشهور بها.
هذا كله لو دخل في الصلاة قاطعا لدخول الوقت أو ظانا له بالظن المعتبر.
أما لو دخل في الصلاة عامدا عالما بعدم دخول الوقت، أو جاهلا بشرطية
الوقت، أو ناسيا لها أو للوقت، فمقتضى القاعدة البطلان لو وقع جزء منها في
خارج الوقت، وأما لو وقعت تمام الصلاة في الوقت فالأقوى الصحة في الجميع
إن تمشى منه قصد القربة، وإن كان حصول ذلك في صورة التعمد مشكل،
وذلك لأن الوقت ليس من الخصوصيات القصدية التي يعتبر قصدها في الصلاة،
بل ما هو المعتبر في تحقق قصد المأمور به إنما هو قصد الصلاة في هذا الوقت والزمان،
وأما مطابقة الزمان للزوال فهو أمر خارج عن تحت قدرته وإرادته بل هو يدور
137

مدار واقعه، وفي المقام أبحاث مهمة قد فاتني كتابتها لبعض عوائق الزمان، فنسأل
أن يوفقنا لكتابتها بعد ذلك.
مسألة: لا اشكال في لزوم الترتيب بين الفرائض ووجوب فعل الظهر قبل
العصر والمغرب قبل العشاء، إلا أن هذا الترتيب ليس شرطا واقعيا تبطل الصلاة
بفواتها سهوا بل إنما هو شرط ذكري، فلوسها وقدم العصر على الظهر وكان ذلك
في الوقت الاشتراكي أو دخل وهو فيها صحت صلاته ووقعت عصرا لا ظهرا،
وأما لو وقعت في الوقت الاختصاصي فالأقوى البطلان ولا تحتسب لا ظهرا
ولا عصرا، وقد تقدم الوجه في ذلك.
وحكم العشاءين كالظهرين، نعم بينهما فرق وهو أنه لو شرع في العشاء في
أول وقت المغرب نسيانا ولم يتذكر حتى فرغ منها فلا محالة يقع ركعة منها في
الوقت الاشتراكي فتصح، هذا كله إذا لم يتذكر حتى فرغ من الصلاة.
وأما إذا تذكر في الأثناء عدل بينته إلى السابقة إن كان محل العدول باقيا،
وهو في الظهرين إلى ما قبل التسليم، وأما في العشاءين فإلى قبل الدخول في ركوع
الركعة الرابعة على الأظهر، ولا يضر زيادة القيام في العدول لأنه من قبيل الزيادة
السهوية، كما لا يخفى وجهه على المتأمل.
وأما إذا دخل في الركوع فقد أفتى بعض بالبطلان، لعدم إمكان العدول
حينئذ وعدم سقوط الترتيب في الأجزاء اللاحقة لتذكره، فلا يمكنه تتميم هذه
الصلاة عشاء فتبطل، هذا.
ولكن الأقوى أيضا الصحة وتتميمها عشاء، وذلك لأن الترتيب المعتبر بين
الصلاتين هو الترتيب بين مجموع الصلاتين من حيث المجموع، بحيث يقع مجموع
إحدى الصلاتين قبل الأخرى، وهذا المعنى بمجرد الشروع في الصلاة اللاحقة
نسيانا قبل الأولى يسقط، فشرطية الترتيب تكون حينئذ مقصورة بما إذا كان
138

متذكرا له قبل الصلاة، وأما لو شرع في الصلاة نسيانا ثم تذكر في الأثناء ولو في
الركعة الأولى فالترتيب يسقط بالنسبة إلى الأجزاء اللاحقة، لأن الترتيب في
الأجزاء السابقة سقط بمقتضى النسيان وحديث " لا تعاد " (1) والمفروض أن
الترتيب إنما اعتبر بين مجموع الصلاتين، وهذا المعنى مما يستحيل حصوله بعد
وقوع بعض الأجزاء على خلاف الترتيب، لفوات المجموع بفوات بعض الأجزاء،
فمقتضى القاعدة لولا أخبار العدول هو أنه لو شرع في الصلاة اللاحقة نسيانا
وتذكر في الأثناء صحت صلاته وأتمها على ما افتتحت، غايته أن أخبار العدول
دلت على لزوم العدول فيما أمكن، والمفروض فيما نحن فيه عدم إمكان العدول
فلا بد من تتميمها عشاء، فتأمل جيدا.
مع أنه لو فرض أن الترتيب اعتبر في كل جزء جزء من اللاحقة والسابقة على
نحو العام الأصولي، فيمكن أن يقال أيضا بالصحة بالملازمة بين الصحة في
الأجزاء السابقة بمقتضى حديث " لا تعاد " والصحة في الأجزاء اللاحقة، وذلك
لأن المفروض أن الأجزاء السابقة على التذكر مشمولة لحديث " لا تعاد " لأن
المفروض وقوعها قبل السابقة نسيانا، فالترتيب ساقط بالنسبة إليها ويشملها
حديث " لا تعاد " وإذا لم يجب إعادة الأجزاء السابقة فبالملازمة تدل على صحة
الأجزاء اللاحقة، وإلا لزم لغوية شمول " لا تعاد " للأجزاء السابقة، فتأمل
جيدا فإنه لا يخلو عن دقة.
هذا تمام الكلام في المواقيت، وقد وقع الفراغ منها في الليلة الرابعة والعشرين
من شهر محرم الحرام سنة 1343.

(1) الوسائل: ج 3 ص 227 باب 9 من أبواب القبلة، ح 1.
139

[البحث الثاني]
الكلام في القبلة
وفيه أبحاث:
المبحث الأول
فيما يجب استقباله في حال الصلاة والدفن وغير ذلك. وقد اختلفت كلمات
الأصحاب في ذلك، فقيل: القبلة عبارة عن نفس الكعبة والبناء لمن كان في
المسجد، والمسجد قبلة لمن كان في الحرم، والحرم قبلة لمن كان في خارجه من أهل
الدنيا. وقد استدل على ذلك بعدة من الأخبار.
وقيل: القبلة للقريب هو نفس الكعبة، وللبعيد الجهة بمعنى السمت
والطرف.
وقيل: إن القبلة هي عبارة عن نفس الكعبة للقريب والبعيد والمشاهد وغير
المشاهد، لكن مع تعميم الكعبة من تخوم الأرض إلى عنان السماء، وإن اختلفت
كيفية المحاذاة والاستقبال، فإن القريب المشاهد إنما يحاذي نفس البناء والبيت،
والبعيد الغير المشاهد إنما يحاذي الفضاء والخط الخارج من البيت إلى عنان السماء.
وهذا هو الحق الذي ينبغي المصير إليه، وذلك للأخبار المستفيضة التي ادعى في
الجواهر (1) تواترها، الدالة على أن القبلة هي الكعبة. وهي وإن كانت ظاهرة في

(1) جواهر الكلام: ج 7 ص 322.
140

نفس البيت والبناء إلا أنه قد ورد عنهم صلوات الله عليهم أجمعين (1) أن الكعبة
إنما هي ممتدة إلى عنان السماء، مع وضوح أنه لا يمكن استقبال نفس البناء للبعيد
مع كروية الأرض، بداهة أنه على ذلك إما أن يكون البعيد فوق الكعبة والبيت
أو تحتها، فالتكليف باستقبال نفس البناء محال كما هو واضح، فالعبرة في
استقبال البعيد إنما هو استقبال الخط الخارج من البيت الممتد إلى عنان السماء،
بحيث لو أخرج خط من جبهة المصلي لكان يمر على ذلك الخط الخارج من البيت لا محالة.
والقول بأن قبلة البعيد إنما هو الجهة والسمت وإن لم يصل خط من المصلي
إلى الفضاء المحيط بالبيت خال عن الدليل والشاهد، وكيف يمكن القول بذلك
مع تضافر الأخبار بأن القبلة هي الكعبة والبيت؟
والحاصل: أنه يعتبر في كل مصل أن يستقبل نفس الكعبة والبناء أو الخط
الخارج منها إلى عنان السماء، ولا يكفي فيه استقبال السمت والجهة من دون
ذلك، كما أنه لا يعتبر استقبال نفس البناء بل ذلك كما عرفت محال من جهة
كروية الأرض، كما أنه لا يكفي استقبال المسجد أو الحرم لمن كان خارجا عنهما
مع عدم اتصال خط من جبهة المصلي إلى الكعبة أو الخط الخارج منها، كما إذا
وقف على أحد أضلاع المسجد بحيث يعلم عدم اتصال خط منه إلى الكعبة، بل لم
يعلم من صاحب هذا القول الاكتفاء بذلك.

(1) ففي موثقة ابن سنان: صليت فوق أبي قبيس العصر، فهل يجزي ذلك والكعبة تحتي؟ قال: نعم، إنما هي
قبلة من موضعها إلى السماء (* 1) وفي رواية أخرى: أساس البيت من الأرض السابعة إلى السماء العليا (* 2).
" منه ".
(* 1) الوسائل: ج 3 ص 247 باب 18 من أبواب القبلة، ح 1.
(* 2) الوسائل: ج 3 ص 248 باب 18 من أبواب القبلة، ح 3 وفيه اختلاف.
141

ومن هنا احتمل بعض أن يكون النزاع لفظيا، بمعنى أنه من قال بأن المسجد
قبلة لمن كان في الحرم لا يريد أن المسجد قبلة لذلك ولو مع عدم مواجهة البيت
بوجه من الوجوه بحيث لم يتصل خط من المصلي إليه، بل المراد أنه لو استقبل
المسجد يكفي من جهة استلزامه غالبا لاتصال خط منه إلى البيت أو الفضاء
المتصل به، وهو كذلك بناء على ما سيأتي من معنى استلزام زيادة البعد لزيادة المحاذاة.
وبذلك يمكن ارجاع ما دل من الأخبار على أن المسجد قبلة لأهل الحرم،
والحرم قبلة لأهل الدنيا (1)، إلى ذلك، بمعنى أن مستقبل المسجد لمن كان في الحرم
ومستقبل الحرم لمن كان خارجا منه يكون مستقبلا للكعبة أيضا ولو للخط
الخارج منها إلى عنان السماء، كما أنه يمكن إرجاع ممن قال بالسمت والطرف إلى
ذلك أيضا، وإن أبت بعض عباراتهم عن ذلك.
والحاصل: أنه يمكن أن يكون مراد الجميع من الأقوال والأخبار أن البعيد
إذا توجه نحو الطرف الذي تكون القبلة فيه أو نحو المسجد والحرم فلا محالة يتصل
منه خط إلى الخط الخارج من البيت غالبا، وهذا لا ينافي بطلان صلاة من علم
بعدم ذلك كالمصلي نحو أحد أضلاع المسجد.
فالحري إنما هو بيان اتصال الخطين، فإنه ربما يتوهم أن ذلك محال من جهة
صغر جرم البيت، فالمصلي لو فرض أنه صلى في أماكن متعددة بحيث يعلم
بزيادة سعة الأمكنة التي صلى فيها عن جرم البيت، فكيف يمكن اتصال خط
من المصلي من جميع هذه الأمكنة إلى البيت، أو إلى الخط الخارج منه إلى عنان السماء؟
وكذا الاشكال في الصف المستطيل، فيلزم بناء على اعتبار اتصال الخطين هو
بطلان صلاة بعض الصف، أو بطلان بعض الصلوات بالنسبة إلى الشخص

(1) الوسائل: ج 3 ص 220 باب 3 من أبواب القبلة ح 1 و 2 و 3 و 4.
142

الواحد المصلي في الأمكنة المتعددة، وهذا كما ترى مما لا يقول به أحد
وبالجملة: القول بأن القبلة نفس الكعبة بناء وفضاء يلازم القول ببطلان
صلاة الصف المستطيل، هذا
ولكن لا يخفى عليك فساد التوهم، وتوضيح ذلك يحتاج إلى بيان مقدمة، وهي
أن سعة دائرة رأس الانسان مما يقرب ثلاثين إصبعا وهذه الدائرة بهذا الضيق
يكون كل جزء منها محاذيا لجزء من الدائرة المحيطة بالعالم، بحيث لو أخرجت
خطوط من الدائرة المحيطة إلى دائرة رأس الانسان فلا محالة جميع تلك الخطوط
تتصل (*) إلى دائرة رأس الانسان، كما يشاهد أن الدائرة الصغيرة المرسوم فيما
يقرب من قطب الرحى يكون كل جزء منها محاذيا لجزء من الدائرة الوسيعة
المرسومة في مبتدأ الرحى.
إن القدر المعتبر في الاستقبال ومواجهة شخص لشخص إنما هو مقدار ثمن
دائرة الرأس تقريبا، وهو مقدار أربعة أصابع من مقدم الرأس الذي يكون بين
الحاجبين، ولا يعتبر في صدق الاستقبال المواجهة بكل ما بين الحاجبين، بل يكفي
في صدق الاستقبال عرفا أن يكون مواجها بجزء مما بين الحاجبين، بحيث لو
أخرج خط من المستقبل بالكسر من أي جزء من أجزاء جبهته لكان ذلك الخط
متصلا إلى المستقبل إليه، ولا يحتاج أن تكون جميع الخطوط الخارجة من الجبهة
متصلة بالمستقبل إليه، كما لا يخفى.
وحينئذ نقول: إنه لا إشكال في كون مقدار ما بين الحاجبين قوسيا، ويكون
143

محاذيا لقطعة قوسية من دائرة محيط العالم، وإن كان سعة تلك القطعة من دائرة
المحيط تزداد عن سعة الجبهة بأضعاف مضاعف، لما عرفت من أن الدائرة الصغيرة
تحاذي الدائرة الكبيرة بتمام أجزائها، فقوس الجبهة تحاذي مقدارا من قوس دائرة
المحيط مع كثرة سعته بالنسبة إلى قوس الجبهة، بحيث لو أخرج خطوطا من قوس
الدائرة لاتصلت الخطوط بأجمعها بقوس الجبهة (*) فالجبهة مع صغر سعتها تحاذي
أضعاف مضاعف منها بآلاف ألوف، وذلك ليس إلا من جهة بعد موقف
الانسان عن دائرة المحيط، وإذا كان الشخص مواجها لقطعة من قوس دائرة
المحيط فلا مجالة يكون مواجها لكل ما كان بينه وبين قوس الدائرة من البلدان
والجبال والأنهار وغير ذلك.
وهذه المواجهة ليست تظهر للحس من دون أن يكون لها واقع بل مواجهة
حقيقية واقعية، والشاهد على ذلك أنه لو أخرج خطوطا من قوس الجبهة مستقيمة
معتدلة لكانت الخطوط مارة بجميع ما كان بينه وبين قوس المحيط، بداهة اتصال
خطوط الجبهة بالقوس يستلزم مرورها على ما كان متوسطا بينها وبين القوس، فظهر
معنى ما يقال من أن زيادة البعد توجب زيادة المحاذاة، وأن الانسان مع صغر
حجمه يكون مواجها بقوس الجبهة لكل ما كان بينه وبين محيط العالم من الأودية
والأبنية ومنها الكعبة المعظمة لو توجه نحوها.
إذا عرفت ذلك فنقول: إن الصف المستطيل كيفما فرضت استطالته
لا محالة يكون مواجها للكعبة مع بعده عنها ومع اتحاد جهة أهل الصف بحسب
144

القبلة، بحيث لو فرض خروج خط من جبهة كل واحد من المصلين لكان مارا
على الخط الخارج من الكعبة الممتد إلى عنان السماء، نعم لو اعتبرنا في الاستقبال
أن يكون الخط خارجا من بين العينين، ولا يكفي خروجه من أحد جانبيها لامتنع
اتصال خطوط الصف المستطيل إلى الخط الخارج من الكعبة، إلا أنه قد تقدم
عدم اعتبار ذلك في صدق الاستقبال، بل يكفي الاستقبال بأحد طرفي الجبهة.
والحاصل: أن الدوائر المرتسمة بين موقف الشخص وبين محيط العالم على
كثرتها يكون الشخص مواجها لقوس منها بقوس جبهته، وكلما فرض بعد الدائرة
عن دائرة الموقف يكون القوس المواجه إليه منها أوسع من القوس المواجه إليه من
الدائرة التي دونها التي تكون أقرب إلى موقف الشخص منها.
فالشخص يكون مواجها لمقدار شبر من الدائرة التي ترتسم بقرب منه، ويكون
مواجها لمقدار شبرين من الدائرة التي ترسم فوق تلك الدائرة، وهكذا يزداد
المحاذاة والمواجهة بمقدار بعد الدائرة إلى أن تصل إلى الدائرة المحيطة بالعالم، فتتسع
المحاذاة بمقدار اتساع ما يحاذيه من قوس الدائرة، وعليه يكون الانسان محاذيا
ومواجها لكل ما كان بينه وبين المحيط.
فإذا توجه الانسان نحو القوس الذي تكون الكعبة فيه فلا محالة يكون مواجها
للكعبة ولو لفضائها الممتد إلى السماء، وهذه المواجهة تزداد كلما ازداد الانسان
بعدا عنها، فربما يكون الشخص مواجها لجزء يسير من الكعبة إذا كان قريبا منها،
وربما يكون مواجها لتمامها لتمامها إذا بعد عنها، وهكذا يزداد المواجهة حتى تصلى
المواجهة إلى مرتبة يكون الشخص مواجها لتمام الحرم وما زاد، حتى أنه لو فرض أن
الشخص وقف فيما يقرب القطب الجنوبي أو الشمالي يكون مواجها لثمن الدنيا
بحسب نسبة الجبهة إلى دائرة الرأس، وقد عرفت أن هذه المواجهة ليس مواجهة
وهمية بل مواجهة واقعية حقيقية.
145

وحينئذ الصف الذي يكون متحد الجهة في القبلة كلما فرض بعده عن مكة
يمكن زيادة استطالته، ويكون كل من أهل الصف محاذيا لنفس الكعبة أو
الخط الخارج ولو بجزء من الجبهة. مثلا لو فرض أن الصف انعقد في مسجد الحرام
فغاية ما يمكن من استطالته بحيث يكون مواجها للكعبة هو أن يكون بمقدار سعة
المسجد بل أقل، وأما لو فرض انعقاده في الحرم يمكن زيادة استطالته على وجه
يكون الجميع مواجها لها، وهكذا كلما فرضت بعد مكان الصف عن الكعبة
يزدادا في استطالته، حتى قيل: إن في العراق يمكن فرض استطالة الصف على
وجه يزيد عن عشرين فرسخا، ويكون الجميع مواجها للخط الخارج من الكعبة
إلى عنان السماء، بحيث لو فرض خروج خطوط مستقيمة من مواقف الصف
فلا محالة من كل شخص يمر خط من جبهته إلى الخط الخارج من الكعبة، ولا يعتبر
في الخطوط الخارجة من المواقف أن تكون متوازية بحيث يتساوى بعد ما بين الخطين
من مخرجهما إلى منتهاهما، بداهة أنه لو اعتبرت الخطوط هكذا لامتنع اتصال
الخطوط من الصف إلى الخط الخارج من الكعبة، لصغر حجم الكعبة بالنسبة إلى الصف
ولعل منشأ النقض بالصف المستطيل على من قال باعتبار مواجهة الكعبة
سواء في ذلك القريب والبعيد هو هذا، أي تخيل اعتبار أن تكون الخطوط
متوازية، ولما رأى استحالة ذلك في الصف المستطيل نقض على صاحب هذا
القول بأنه يلزمه القول ببطلان صلاة بعض الصف.
وأنت خبير بأنه لا نحتاج في المواجهة أن تكون الخطوط متوازية، بل المدار على
صدق المواجهة والاستقبال، وذلك يتحقق باستقامة الخطوط الخارجة من دون
حاجة إلى توازيها، فتأمل جيدا في كلمات الأعلام حتى تعرف حقيقة الحال،
وأن المراد من الجهة في كلماتهم هو هذا المعنى، لا الجهة بمعنى السمت والطرف
مع عدم اتصال خط من المصلي إلى الخط الخارج عن الكعبة، فإن ذلك
146

ضروري البطلان، وكيف يمكن الالتزام بذلك مع تواتر الأخبار على وجوب
استقبال الكعبة؟ فلا محالة يعتبر في صحة الصلاة من اتصال خط من أحد أجزاء
جبهته إلى الخط الخارج من الكعبة الممتد إلى عنان السماء، فإن الذي يمكن في
حق البعيد هو هذا، وهذا المعنى بمكان من الامكان، ولو فرض أنه صلى في
أمكنة متعددة بحيث تزداد سعة الأمكنة عن الكعبة فإن من كل مكان يتصل
خط إليها بعد معرفة السمت التي تكون الكعبة فيه بالأمارات المنصوبة لذلك على ما سيأتي
ثم لا يخفى عليك أن الدائرة المرسومة عند مسجد المصلي المحيطة بالمكان الذي
يشغله في حال الصلاة تكون أوسع من دائرة رأس المصلي، فإن دائرة الرأس
تقرب ثلاثين إصبعا كما تقدم، ودائرة المسجد تقرب ذلك المقدار شبرا، فالقوس
المواجه لجبهة المصلي من دائرة المسجد يزيد على شبرين، وعليه لو كان الخط
الخارج من الكعبة محاذيا لأحد الجانبين من الجبهة كما إذا كان في طرف اليمين
مثلا يجوز الانحراف عمدا إلى أن يقع ذلك الخط في طرف الشمال، وذلك يكون
بمقدار شبر، فيجوز الانحراف عن القبلة لو كانت في مسجد المصلي عمدا يمينا
وشمالا إلى حد يقع خطه القبلة في أحد جانبي الجبهة، لما عرفت سابقا من صدق
الاستقبال من أي جزء من أجزاء الجبهة، فتأمل جيدا.
ثم إن الظاهر من الاستقبال هو الاستقبال بالوجه مع مقاديم البدن،
فلا يكفي المواجهة بالوجه مع اعوجاج مقاديم البدن كلا أو بعضا، إلا أن يكون
البعض مما لا يضر بالصدق العرفي كاعوجاج أصابع الرجلين مثلا، ولا فرق في
اعتبار ذلك بين القريب والبعيد.
نعم يختص القريب بأمر آخر، وهو أنه هل يكفي مواجهة بعض البدن
كالنصف مثلا للبيت، أو أنه يعتبر مواجهته بجميع البدن، فلا يكفي الوقوف
مواجها لأحد أضلاع البيت، بحيث يكون نصف البدن مواجها للبناء ونصفه
147

الآخر خارجا عنه؟ الظاهر هو الثاني لعدم صدق الاستقبال كذلك، فتأمل.
وإنما قلنا: إن ذلك يختص بالقريب لأن البعيد لا يتصور فيه ذلك بعد ما كان
قبلته الجهة بالمعنى المتقدم، فإن المعتبر في مواجهته أن يكون خطا خارجا من أحد
أجزاء جبهته واصلا إلى الخط الخارج من الكعبة الممتد إلى عنان السماء، بحيث
يحدث منهما زوايا قوائم، وهذه المواجهة إما أن تكون وإما أن لا تكون، ولا يمكن
التبعيض والمواجهة بنصف البدن كما لا يخفى.
فرع:
الظاهر أن حجر إسماعيل خارج عن البيت وإن وجب إدخاله في الطواف،
فلا يكفي استقباله كما ورد به النص الصريح، وهو ما رواه معاوية بن عمار أنه
سأل الصادق عليه السلام عن الحجر أمن البيت هو؟ فقال: لا، ولا قلامة ظفر،
ولكن إسماعيل عليه السلام دفن أمه فيه، فكره أن يوطأ فجعل عليه حجرا، وفيه
قبور أنبياء (1). وبمضمونه أخبار أخر (2).
وإدخاله في الطواف لا يكون قرينه على كونه من البيت مع تعليل الإمام
عليه السلام ذلك بأن إسماعيل دفن أمه في ذلك المكان، فوجب إدخاله في
الطواف لئلا يوطأ، وأين هذا من جواز استقباله في الصلاة؟ فقياس بعض
الاعلام الصلاة بالطواف في غير محله.
تنبيه:
قد ظهر مما ذكرنا أن القبلة هي محل البناء والفضاء لأنفس الأبنية

(1) الوسائل: ج 9 ص 429 باب 30 من أبواب الطواف، ح 1 نقلا بالمعنى.
(2) الوسائل: ج 9 ص 429 باب 30 من أبواب الطواف.
148

والجدران، وعليه يجوز الصلاة في جوف الكعبة ولو إلى بابها المفتوحة، وكذا على
سطح الكعبة اختيارا وإن لم يكن هناك ضرورة، وتقييد بعض بها في غير محله،
نعم يشترط أن يبرز بين يديه شيئا من السطح حتى لا يكون سجوده على منتهى
السطح ليكون مستقبل القبلة في جميع أحوال الصلاة، وكذا يجوز الصلاة على جبل
أبي قبيس أو جبل آخر أو في سرداب منخفضا عن الكعبة، لما تقدم من أن الكعبة
من تخوم الأرض إلى عنان السماء.
المبحث الثاني
في بيان ما يعرف به قبلة كل إقليم من العلامات المذكورة في الكتب
المبسوطة. فاعلم أن معرفة قبلة كل البلاد يتوقف على معرفة طول البلاد وعرضها،
ونسبة طول كل بلد وعرضه إلى طول وعرض مكة حتى يعرف قبلة كل بلد.
وكان القدماء من علماء الهيئة يجعلون مبدأ طول البلاد من جزائر خالدات
وعرضها من خط الاستواء الذي هو مار بنقطتي المشرق والمغرب تحت دائرة
المعدل، ولكن المتجددين نم علماء الهيئة في هذا الزمان يجعلون مبدأ الطول من
قرية قريبة بدار سلطنة الإنجليز لندن، بل أهل كل مملكة يجعل مبدأ طول
البلاد دار سلطنة تلك المملكة، كطهران في إيران وباريس في فرنسا وكذا سائر
الممالك، وعلى أي حال لا يختلف الحال في ذلك، فإن من أي مكان جعل مبدأ
الطول لا بد من ملاحظة نسبة طول البلد وعرضه إلى طول مكة وعرضها.
والأقسام المتصورة في المقام ثمانية، فإن الاختلاف إما أن يكون في الطول
والعرض معا وإما أن يكون في أحدهما، ولا يعقل اتفاق بلد مع مكة في الطول
والعرض معا كما لا يخفى، ثم إن الاختلاف في الطول تارة يكون البلد في غربي
مكة وأخرى يكون في شرقيها، وكذا الاختلاف في العرض تارة يكون البلد في
149

جنوب مكة وأخرى يكون في شمالها، فهذه أقسام أربعة فيما إذا كان الاختلاف
في الطول فقط أو في العرض فقط، وأربعة أقسام أخر حاصلة من الاختلاف في
كليهما، وهي ما إذا كان البلد في غربي مكة وعرضه في جنوبها أو في شمالها فهذا
قسمان، والقسمان الآخران هو ما إذا كان البلد في شرقي مكة وعرضه في جنوبها
أو شمالها، فهذه أقسام ثمانية تختلف قبلة البلاد حسب هذا الاختلاف، وليس
المقام مقام التعرض لطول البلاد وعرضها والنسبة بينها، فإن ذلك موكول إلى محله
ومطلوب من أهله من علماء الهيئة.
ولعل استخراجات أهل هذا العصر من أهل الفن يكون أضبط وأتقن من
استخراجات القدماء، ولذلك (1) لسهولة أسباب الاستخراج في هذا الزمان،
حتى أنه يمكن معرفة قبلة عامة البلاد بتوسط القوة البرقية من التلغراف، وذلك
لأن الشمس في كل سنة تسامت رؤوس أهل مكة بيومين، وهما اليوم الثامن من
الجوزاء والثاني والعشرين من السرطان على ما نقل فالشمس في هذين اليومين
هي فوق الكعبة، ولذا يعدم الظل فيها في هذين اليومين كما تقدم في باب
المواقيت، فلو عرف أول الزوال في مكة وهو أن انعدام الظل فيها يكون الظل
الشاخص في كل بلد من البلاد في ذلك الآن مواجها للكعبة لا محالة، بحيث
لو أخرج من ذلك الظل خطا مستقيما لا تصل بالكعبة.
فالمعيار في قبلة كل بلد هو المواجهة إلى ظل ذلك البلد في آن زوال مكة في
يوم يعدم فيها الظل، ومعرفة آن زوال مكة في كل بلد بمكان من الامكان بتوسط
القوة البرقية من التلغراف، وهذا المعنى أضبط شئ في معرفة القبلة في جميع
الأقاليم والبلدان.

(1) هكذا في الأصل، والصحيح " وذلك ".
150

وفي المقام طريق آخر لا يحتاج إلى القوة البرقية إذا علم مقدار تفاوت البلد مع
مكة في الطول، كما استخرجه المحقق الطوسي قدس سره على ما نقل، وحاصله:
أن اليوم الذي يعدم الظل فيه في مكة تكون الشمس في أول الزوال في دائرة
نصف النهار، والتفاوت بين نصف النهار في كل بلد ونصف نهار مكة بقدر
الفصل بين طوليهما، لأن كل بلد كان طوله أقل من مكة يتأخر الظهر فيه عن
مكة، وكل بلد كان طوله أكثر من مكة يتقدم الزوال فيه عن مكة، لأنه يكون
حينئذ أبعد عن المغرب وأقرب إلى المشرق، فإذا علم مقدار طول البلد ومقدار
طول مكة فالتفاوت بينهما بكل درجة مقابل لمقدار أربع دقائق، لأنه لو قسم
ثلاثمائة وستين درجة على أربع وعشرين ساعة فلكل خمس عشرة درجة ساعة
ولكل درجة أربع دقائق.
وعلى هذا فلو كان طول مكة عشرين درجة وطول البلد خمسة وعشرين فيصير
زوال البلد عشرين دقيقة قبل زوال مكة، فبعد مضي عشرين دقيقة من زوال
البلد إذا جعل المصلي ظل الشاخص بين قدميه وتوجه إليه يكون متوجها إلى
القبلة لا محالة، لأن الشمس في هذا الآن أي عند مضي عشرين دقيقة من زوال
البلد تكون مسامتة لرؤوس أهل مكة وفوق الكعبة، فالمتوجه إلى الظل يكون
متوجها إلى الكعبة.
ولو انعكس الفرض بأن كان طول البلد عشرين وطول مكة خمس وعشرين،
فيصير زوال البلد بعد زوال مكة بعشرين دقيقة، فالعبرة حينئذ بمواجهة الظل في
ذلك الحال، فتأمل تعرف.
وعلى كل تقدير العبرة إنما هو بمعرفة القبلة بأي طريق ممكن، ومعرفة ذلك لها
طرق متعددة.
منها: محراب صلى فيه معصوم عليه السلام كأحد المحاريب للمساجد الأربعة،
151

ولكن بشرط العلم ببقاء المحراب على هيئته التي جعلها المعصوم عليه السلام من
دون أن يتغير، وهذا الشرط مفقود في هذا الزمان لكثرة التغيرات، خصوصا في
محراب مسجد الكوفة على ما نقل.
ومنها: قبر المعصوم عليه السلام بالشرط المذكور.
ومنها: العلائم المنصوبة لذلك من مهرة أهل الفن، كوضع الجدي كذا ووضع
سهيل كذا، وأمثال ذلك مما هو مذكور في الكتب المبسوطة، فإن الانصاف أن
هذه العلائم علائم متقنة استخرجها مهرة أهل الفن، فهي إن لم تكن مفيدة للعلم
فلا أقل من إفادتها الاطمئنان الملحق بالعلم المعبر عنه بالعلم العادي في بعض الكلمات.
ثم لا يخفي عليك أنه ليس في الأخبار علامة تعبدية لمعرفة القبلة، وإنما ورد
بعض الأخبار في خصوص الجدي، كقوله عليه السلام في بعضها: إجعله على
يمينك، وإذا كنت في طريق مكة فاجعله بين كتفيك (1). وقوله عليه السلام في
آخر: ضع الجدي في قفاك وصل (2).
ولكن من المعلوم أنه لا يمكن الأخذ بإطلاق هذه الأخبار، فإن جعل الجدي
على القفاء لا يكون مطردا في جميع البلدان، بل هو مقصور بما إذا كان قبلة البلد
نقطة الجنوب وكذا قوله عليه السلام " وإذا كنت في طريق الحج فاجعله بين
كتفيك ".
وبالجملة: ليس فيما بأيدينا من الأخبار ما يدل على جعل الشارع شيئا خاصا
علامة للقبلة تكون مطردة في جميع البلدان، فلا بد حينئذ من الرجوع إلى
العلامات المستخرجة من الهيئة، وقد عرفت أنها أمور مضبوطة من شأنها أن تفيد

(1) الوسائل: ج 3 ص 222 باب 5 من أبواب القبلة، ح 2، وفيه اختلاف يسير.
(2) الوسائل: ج 3 ص 222 باب 5 من أبواب القبلة، ح 1، وفيه اختلاف يسير.
152

العلم، وعلى تقدير عدم إفادتها للعلم فلا أقل من إفادتها الظن، وسيأتي أنه حجة
عند تعذر العلم.
لا يقال: كيف يمكن التعويل على العلامات المذكورة في كتب القوم مع أنها
بنفسها مختلفة لا يمكن الجمع بينها؟ والاختلاف في ذلك يكون أقوى شاهدا على
اشتباههم، وكيف يتصور الجمع بين جعل الجدي خلف المنكب الأيمن مع جعل
المغرب والمشرق الاعتداليان على اليمين والشمال؟ فإن جعل المشرق والمغرب
كذلك يقتضي مقابلة نقطة الجنوب، وجعل الجدي كذلك يقتضي الانحراف
عنه إلى المغرب بما يقرب من اثني عشرة درجة.
فإنه يقال: إن هذا الاختلاف إنما هو لأجل ما ذهبوا إليه من التوسعة في جهة
القبلة بحيث لا يضر هذا المقدار من الزيادة والنقيصة في الانحراف، والشاهد على
ذلك أنه جمع بين هذين العلامتين من هو أستاذ الفن الذي لا يمكن في حقه
الاشتباه كالعلامة على ما حكي عنه فيعلم من هذا أن ذلك لا يكون إلا من
جهة التوسعة في جهة القبلة عندهم، وهذا المقدار من التفاوت لا يوجب الخروج
عن الجهة بالمعنى الذي ذكرناه، ولا يكون شاهدا على أن المراد من الجهة هو
السمت والطرف مع عدم اتصال خط من المصلي إلى الكعبة، فتأمل جيدا.
وعلى أي حال لا بد من الرجوع إلى العلائم التي ذكرها أهل الهيئة لمعرفة
القبلة، فإن هذا هو المتيسر للبعيد، نعم حيث كان قدماء أهل الهيئة مختلفين مع
المتجددين في تشخيص طول البلاد وعرضها ومقدار الانحراف، حتى نقل أن
القدماء ذهبوا إلى انحراف قبلة النجف الأشرف من الجنوب إلى المغرب بمقدار
اثني عشرة درجة، والمتجددون ذهبوا إلى أن الانحراف بمقدار ثمانية درجات، فلا بد
حينئذ من الأخذ بالاحتياط والمتوسط بين القولين.
وقد عرفت سابقا أن العلامات المنصوصة في الأخبار لا يمكن الأخذ بإطلاقها
153

وحملها على التعبد طابقت الكعبة أو لم تطابق، وما ورد في صحيح زرارة عن الباقر
عليه السلام لا صلاة إلا إلى القبلة قال: قلت: أنى حد القبلة؟ قال: ما بين
المغرب والمشرق قبلة كله (1). لا يكون صريحا في جواز التوجه إلى أي نقطة مما بين
المغرب والمشرق اختيارا، لاحتمال أن يكون السؤال عن حد القبلة هو الحد الذي
إذا صلى الانسان فيه تكون صلاته صحيحة ولو في الجملة وفي بعض الأوقات،
كما إذا تبين له الخطأ بعد الجهد وأن صلاته لم تكن على جهة القبلة، فإن في هذا
الحال تصح الصلاة إذا كانت بين المشرق والمغرب ولم يكن مستدبرا للقبلة،
كما هو رأي المعظم.
والحاصل: أنه يمكن أن يكون السؤال عند حد القبلة هو الحد الذي يجوز إيقاع
الصلاة فيه اختيارا، ويمكن أن يختص ببعض الأحوال.
ومما يبعد المعنى الأول هو أنه من المستبعد جدا أن يختفي لمثل زرارة حد
القبلة مع وروده في الكتاب العزيزي بقوله تعالى: فول وجهك شطر المسجد
الحرام (2). فمن المحتمل أن يكون جهة السؤال هو المعنى الثاني، فتأمل. كما أنه
يمكن أن يكون المعنى أن ما بين المغرب والمشرق قبلة كله لكن لا لكل أحد بل
تختلف الأشخاص في ذلك، فرب شخص تكون قبلته منحرفة عن المغرب
بقليل، ورب شخص يكون انحرافه أزيد وكذا إلى أن يصل إلى حد يكون قبلة
الشخص مما تقرب المشرق، وهذا الاختلاف إنما ينشأ من اختلاف البلدان في
الطول والعرض، فما بين المغرب والمشرق كله قبلة على حسب اختلاف البلاد، فتأمل
وعلى كل تقدير لا يمكن الأخذ بإطلاق الصحيحة والقول بجواز استقبال أي
نقطة مما بين المغرب والمشرق، هذا مع أنه يمكن أن يدعى الاجماع على خلافه،

(1) الوسائل: ج 3 ص 228 باب 10 من أبواب القبلة، ح 2.
(2) البقرة: الآية 143.
154

وإن نسب الخلاف إلى من لا يضر بالاجماع.
ثم إن العلامة قدس سره جعل من جملة العلامات لأهل العراق جعل القمر
ليلة السابع عند الغروب على العين اليمنى، وجعله كذلك عند انتصاف الليل في
الليلة الرابع عشر، وجعله كذلك أيضا عند الفجر في الليلة الإحدى والعشرين (1)
ولكن قال شيخنا الأستاذ مد ظله: إني جربت ذلك في الليلة السابعة فرأيت في
ذلك اختلافا بحسب اختلاف الشهور بالنقص والتمام، فلاحظ.
وكيف كان لا بد من معرفة القبلة والعلم بها مع التمكن كما هو الشأن في
جميع الشرائط، ولا يعتبر في العلم حصوله من سبب خاص بل من أي سبب
حصل، ومع عدم التمكن من العلم لا بد إلى التنزل إلى الظن.
ولكن يقع الكلام في أنه مع التعذر من تحصيل العلم هل يجوز التعويل على
مطلق الظن، أو أن مرتبة الأخذ بالعلامات المنصوبة المستخرجة من الهيئة مقدمة
رتبة على الظن المطلق على تقدير عدم إفادتها للعلم؟
فربما يقال: إن العلامات مع عدم إفادتها للعلم تكون في عرض الظن المطلق
ولا وجه لتقدمها عليه. ولكن الانصاف أنه ليس كذلك، فإن العلامات على
فرض تسليم عدم إفادتها للعلم ليست في رتبة الظن المطلق، إذ لا إشكال في كونها
منضبطة في نوعها مستخرجة من أسا مستحكم مفيدة للاطمئنان غالبا، فهي
مقدمة على الظن المطلق كتقدم البينة عليه أيضا، لما عرفت من عموم حجية البينة
في باب المواقيت، وأنها لا تختص بباب الترافع وما كان الشك فيه من جهة الحلية
والحرمة الذاتيان، كما ربما يتوهم من قوله عليه السلام: والأشياء كلها على ذلك حتى
يستبين أو تقوم به البينة (2). إلا أنه قد تقدم أن ورودها في ذلك لا يوجب الاختصاص

(1) منتهى المطلب: ص 219 في القبلة.
(2) الوسائل: ج 12 ص 60 باب 4 من أبواب ما يكتسب به، ح 4، وفيه اختلاف يسير.
155

فالأقوى أن البينة في عرض العلم مقدمة في الرتبة على الظن المطلق، لأن
الظن متأخر عن العلم، والمفروض أن البينة في عرض العلم لعدم تقييد في دليل
حجيتها، فيكون الظن متأخرا عن البينة أيضا، ولا يعقل أن يكون ما في طول
الشئ في عرضه.
وبعبارة أخرى: أن من قامت عنده البينة يكون عارفا بالقبلة بالتعبد،
فيخرج عن موضوع " من لا يعلم " الذي أخذ موضوعا لحجية الظن.
نعم في خصوص المقام إشكال وهو أن حجية البينة في الموضوعات كحجية
الخبر الواحد في الأحكام مقصورة بما إذا كان الأخبار عن حس وشهود لا الحدس
والاجتهاد، وهذا المعنى في باب الأخبار عن القبلة منسد، لأن مستند الشهود إما
الاجتهاد وهو حدسي، وإما العلامات المنصوبة المأخوذة من الهيئة وهي أيضا
حدسية، فلا يجوز التعويل على البينة في أمثال المقام (1)، هذا.
ولكن لا يخفى عليك ضعف الاشكال، فإن العلامات المستخرجة من الهيئة
ليست حدسية، لأن الضابط في الأمور الحدسية هو أن يكون ذلك بإعمال نظر
واجتهاد، واستعمال المقدمات النظرية والأقيسة الاجتهادية لاستنتاج المطالب،
كاستنتاج الفقيه الحكم الشرعي من الأدلة بحسب ما يفهمه منها، ومن المعلوم أن
علم الهيئة ليس من هذا القبيل، بل هو كعلم الحساب مأخوذ من مبادئ حسية
ومقدمات مشهورة، بداهة أن معرفة طول البلاد وعرضها من الأمور الحسية التي
يعرفها كل من كان أهلا لها، ومجرد عدم معرفة كل أحد لها لا يخرجها عن
الحسية، فهو من قبيل معرفة الصائغ مقدار الغش في الذهب ومعرفة المقوم مقدار

(1) ويمكن أن يقال: إن اعتبار البينة في أمثال المقام إنما هو من باب اعتبار قول أهل الخبرة، لا من باب الشهادة
حتى يقال: إنه يعتبر أن تكون عن حس والحس مفقود في مثل المقام فتأمل فإنه لو كان اعتبار ذلك من باب أهل الخبر
لم يكن وجه لاعتبار التعدد، فتأمل. " منه ".
156

قيمة الدار، وهل يمكن أن يدعي أحد أن معرفة الصائغ مقدار الغش يكون حدسيا
والحاصل: أن الضابط في الحسيات أن تكون مأخوذة من مباد حسية وإن
احتاجت إلى إعمال نظر في استخراجات المحسوسات، إذ ليس كل محسوس
مشاهدا بالبصر، بداهة أن معرفة هذا الحامض وأنه من ماء النارنج أو الحصرم
يحتاج إلى إعمال نظر مع أنه من المحسوسات، فالقول بأن علم الهيئة مبني على
الحدسيات في غاية الوهن والسخافة.
وعليه لا إشكال في حجية البينة إذا كان مستندها العلائم المنصوبة
المستخرجة من الهيئة، نعم لو كان مستندها أمورا أخر اجتهادية تكون حينئذ في
عرض الظن المطلق إذا أفاد من قولها الظن، ولا وجه حينئذ لتقدمها عن الظن
الحاصل باجتهاد نفس المكلف كما لا يخفى.
فتحصل من جميع ما ذكرنا: أن العلم والعلائم والبينة تكون في عرض واحد
ومقدمة على الظن المطلق، كما أنها مقدمة على الامتثال الاجمالي من الصلاة إلى أربع
جهات، بناء على أن الامتثال التفصيلي مقدم على الامتثال الاجمالي كما بين في
محله، وكما أن البينة تكون مقدمة على الامتثال الاجمالي كذلك الظن الحاصل
بالاجتهاد في مورد اعتباره يكون مقدما على الامتثال الاجمالي، لأن الظن يكون
حينئذ حجة شرعية، والامتثال به يكون امتثالا تفصيلا فيقدم على الامتثال الاجمالي
وما يظهر من خبر خراش (1) من نفي اعتبار الاجتهاد وأن الحكم عند تعذر

(1) وهو أنه قال للصادق عليه السلام: جعلت فداك إن هؤلاء المخالفين علينا يقولون إذا أطبقت السماء علينا أو
أظلمت فلم نعرف مما كنا وأنتم سواء في الاجتهاد، فقال عليه السلام: ليس كما يقولون، إذا كان ذلك فليصلي إلى
أربع وجوه *. " منه ".
* - الوسائل: ج 3 ص 226 من أبواب القبلة، ح 5 وفيه اختلاف يسير.
157

العلم هو الصلاة إلى أربع جهات فمأول أو مطروح، لما سيمر عليك إن شاء الله من
صراحة الأخبار في أن الحكم عند تعذر العلم هو التحري والاجتهاد والعمل بما
أدى إليه اجتهاده، وهذه الأخبار مع صراحتها وصحتها وعمل المشهور عليها،
لا يمكن طرحها لأجل خبر يحتاج العمل به إلى جابر مفقود في المقام.
مع أنه ليس بصريح في نفي الاجتهاد والأخذ بالظن عند تعذر العلم، بل
لا ظهور فيه لاحتمال أن يكون المراد من قوله عليه السلام " ليس كما يقولون إذا
كان ذلك فليصل إلى أربع وجوه " هو أنه ليس كما يزعمون من أنه لوغمت عليه
الأمارات ولم يمكن الاجتهاد والتحري صلى إي أي جهة شاء، بل يعتبر أن يصلي
حينئذ إلى أربع جهات، ويحتمل أن يكون المراد من الاجتهاد في كلام السائل هو
العمل بالرأي والاستحسان من دون أن يكون ذلك بتحري واستناد إلى أمارة
مفيدة للظن، وهذا المعنى من الاجتهاد ليس بمعتبر عندنا، ولا يجوز التعويل عليه
عند فقد العلم، بل لا بد حينئذ من الصلاة إلى أربع جهات.
والحاصل: أنه لا بد إما من طرح الخبر وإما من تأويله، لعدم مقاومته لما دل
من أن الحكم عند تعذر العلم هو التحري والاجتهاد، وأن ذلك مقدم على الصلاة
إلى أربع جهات، كقوله عليه السلام في صحيح زرارة: يجزي التحري أبدا إذ لم
يعلم أين وجه القبلة (1). وكموثق سماعة سألته عن الصلاة بالليل والنار إذا لم ير
الشمس والقمر ولا النجوم، فقال عليه السلام: اجتهد رأيك وتعمد القبلة
جهدك (2). وغير ذلك من النصوص الدالة على اعتبار الاجتهاد.
ثم إنه لا يخفى عليك أنه لا فرق فيما ذكرناه من وجوب التحري والاجتهاد عند

(1) الوسائل: ج 3 ص 223 باب 6 من أبواب القبلة، ح 1.
(2) الوسائل: ج 3 ص 224 باب 6 من أبواب القبلة، ح 3 وفيه اختلاف يسير.
158

فقد العلم بين الأعمى وغيره، وما في بعض الكلمات من أن الأعمى يقلد ليس
المراد منه التقليد الاصطلاحي الذي هو عبارة عن الأخذ بقول الغير تعبدا
وبلا دليل، بل المراد منه هو أن الأعمى إذا لم يتمكن من تحصيل العلم وكان
المورد مورد الاجتهاد والتحري يسأل عن الغير ويأخذ بقوله، لكن لا مطلقا بل إذ
حصل له الظن من قوله، لأن هذا هو التحري الممكن في حق الأعمى غالبا، فإنه
لا دليل على اعتبار التقليد في الموضوعات.
وما ورد (1) في بعض الروايات من أن الأعمى إذا لم يعرف القبلة يرى من
يسدده إليها ويوجهه نحوها ليس المراد من التقليد، بل المراد منه أنه يرى من يعرفه
القبلة حتى يصلي نحوها، فهذه الروايات تدل على وجوب تحصيل العلم على
الأعمى إذا كانت القبلة معلومة مشخصة عند الناس، وهذا مما لا كلام فيه،
فإنه لو كانت القبلة معلومة كما إذا كان في مسجد الحرام يجب على الأعمى
تحصيل العلم بها ولو بالسؤال، وليس في مثل هذا موقع للاجتهاد والتحري، لأن
الظاهر من أخبار التحري إنما هو فيما إذا لم تكن القبلة معلومة مشخصة كيوم غيم
وأمثال ذلك، وأما إذا كانت القبلة معلومة غاية الأمر أن الأعمى لخصوص عماه
لم يعرف القبلة فليس هذا مورد التحري والاجتهاد، بل يجب عليه أولا السؤال
حتى يحصل له العلم، ومع فرض عدم حصوله يصلي إلى أربع جهات ولا عبرة
بالظن حينئذ، بل غير الأعمى أيضا كذلك.
والحاصل: أن في المقام دعويين: (الأولى) أن الحكم عند فقد العلم هو
الاجتهاد والتحري، سواء في ذلك الأعمى وغيره، ولا عبرة بالتقليد ولا دليل عليه
(الثانية) أن مورد الاجتهاد والتحري إنما هو فيما إذا لم تكن القبلة معلومة، كما إذا

(1) الوسائل: ج 3 ص 225 باب 7 من أبواب القبلة، ح 1 و 2 و 3.
159

كان يوم غيم بحيث لم ير الشمس والقمر كما هو مورد الأخبار (1)، وأما إذا كانت
القبلة معلومة ولم يكن مانع من ملاحظة العلامات المنصوبة لمعرفتها فليس هذا
مورد الاجتهاد والتحري، بل اللازم في مثل هذا العلم، ومع التعذر لمانع
شخصي كالعمى فالصلاة إلى أربع جهات، ولا فرق في ذلك أيضا بين الأعمى
وغيره.
فتحصل من جميع ما ذكرناه: أن لمعرفة القبلة مرتبتين (الأولى) العلم
وما يلحق به من الأمارات والبينة (الثانية) التحري والاجتهاد والأخذ بالأحرى.
ولو فقد المرتبتان جميعا فاللازم هو الصلاة إلى أربع جهات كما عليه المعظم،
ويدل عليه مضافا على الاجماع المحكي في عدة من كتب الأصحاب مرسل
خداش (2) المتقدم، وهو إن اشتمل على ما لا يقول به المشهور من نفي الاجتهاد إلا
أنه قد عرفت الجواب عن ذلك، مع أن المشهور أخذوا به فيما نحن فيه، إذ الظاهر
أنه ليس لهم مستند في الصلاة إلى أربع جهات سواه، وإن حكي عن الكافي
والفقيه أنهما قالا: روي أن المتحير يصلي إلى أربع جوانب كما عن الأول (3)،
وأنه قد روي فيمن لا يهتدي إلى القبلة في مفازة أن يصلي إلى أربع جوانب كما
عن الثاني (4)، وقد استفاد بعض الأعلام أن هاتين الروايتين غير مرسل خداش
وليس بكل البعيد، وعلى أي حال يكفي دليلا لما نحن فيه مرسل خداش بعد جبره
بعمل المشهور.
وبذلك يكون مقدما على ما دل من أن الحكم عند التحير هو الصلاة إلى جهة

(1) الوسائل: ج 3 ص 223 باب 6 من أبواب القبلة.
(2) الوسائل: ج 3 ص 226 باب 8 من أبواب القبلة، ح 5.
(3) الكافي: ج 3 ص 286 ح 10 من كتاب الصلاة.
(4) الفقيه: ج 1 ص 278 باب القبلة ذيل ح 854.
160

من الجهات حيث شاء، كما في مرسل ابن أبي عمير عن زرارة: سألت أبا جعفر
عن قبلة المتحير، فقال: يصلي حيث يشاء (1). وفي صحيحة زرارة: يجزي المتحير
أبدا أينما يتوجه (2).
وقد أطنب في الجواهر (3) في مقام الجواب عن هذه الروايات وضعفها وأنها
مجعولة أو محرفة، ولكن الانصاف أنه لا حاجة إلى هذا التطويل، فإن نسبة هذه
الروايات مع مرسل خداش (4) بالأعم والأخص المطلق، فإن الموضوع في خبر
خداش هو المتمكن من الصلاة إلى أربع جهات، وهذه الأخبار أعم من ذلك،
فيجب حملها على من لا يتمكن من الصلاة إلى أربع جهات على قواعد باب
التعارض بالأعم المطلق، فتأمل.
بقي في المقام أمور ينبغي التنبيه
عليها.
الأول: أنه يعتبر أن تكون الصلوات الأربع إلى جهات أربع متساوية النسبة
تقريبا، ولا يكفي صلاتها إلى جهة واحدة أو جهتين، لأن المتبادر من قوله
عليه السلام في خبر خداش " فليصل إلى أربع وجوه " هو ذلك كما لا يخفى، مضافا
إلى أن الصلاة إلى أربعة وجوه متساوية النسبة إما محصلة للقبلة وإما أن لا يبلغ
الانحراف عنها إلى اليمين والشمال، وهو مجز أيضا في الجملة وفي بعض الأحوال،
وهذا بخلاف ما إذا صلى الأربع إلى جهة واحدة أو جهتين، فإنه ربما يكون
الانحراف إلى ما وراء اليمين والشمال، وهو لا يجزي في حال من الأحوال.
وما يقال من أنه بناء على هذا يمكن الاكتفاء بثلاث صلوات على ثلاث
جهات متساوية، لأن الانحراف على تقديره أيضا لا يبلغ اليمين والشمال، فلا وجه

(1) الوسائل: ج 3 ص 226 باب 8 من أبواب القبلة، ح 3.
(2) الوسائل: ج 3 ص 26 باب 8 من أبواب القبلة، ح 2.
(3) جواهر الكلام: ج 7 ص 412.
(4) الوسائل: ج 3 ص 226 باب 8 من أبواب القبلة، ح 5.
161

للالتزام بأربع صلوات. ففساده غني عن البيان بعد ورود النص بأربع صلوات،
مضافا إلى أنه لو خلينا وأنفسنا لكان اللازم هو الصلاة بمقدار يعلم بوقوع أحدها
إلى القبلة، كما هو الشأن في جميع الموارد التي يحكم فيها بلزوم الاتيان بالمقدمات
العلمية، غاية الأمر أنه بالنص أسقطنا الزائد على أربع صلوات، وتبقى الأربع على
حالها من لزوم الاتيان بها من باب المقدمة العلمية، فلا وجه للاكتفاء بثلاث
صلوات.
وما يتوهم من أنه بعد سقوط الزائد على الأربع لا تكون الأربع حينئذ مقدمة
علمية حتى يلزم الاتيان بها لذلك، لعدم كونها محصلة للعلم بالصلاة إلى القبلة.
فليس بشئ فإنه مضافا إلى أن سقوط بعض مقدمات العلمية لا يوجب سقوط
بعضها الآخر كما بين في الأصول، وعليه بنينا بوجوب (1) بما أمكن من المحتملات
في الشبهة الوجوبية الغير المحصورة يمكن أن يقال: إنه من ورود النص بأربع
صلوات يستكشف أن الشارع وسع القبلة في هذا الحال إلى ربع الفلك، وجعل
المواجهة إلى ربع الدائرة التي تكون الكعبة فها مجز في هذا الحال، وعليه يكون
الصلوات إلى أربع جهات من باب المقدمة العلمية لاحراز المواجه إلى ربع الدائرة
التي تكون القبلة فيها، فتأمل جيدا.
الأمر الثاني: هل يعتبر أن يستوفي أولا محتملات الظهر ثم يعقبه بمحتملات
العصر، أولا يعتبر ذلك بل له أن يصلي الظهر والعصر معا إلى جهة وهكذا إلى أن
يستوفي محتملاتهما معا، نعم ليس له أن يستوفي محتملات العصر قبل استيفاء
محتملات الظهر، وكذا ليس له أن يصلي العصر إلى جهة مغايرة لصلاة الظهر،
بل لا بد أن يصلي العصر إلى الجهة التي صلى الظهر إليها؟

(1) سقط من هنا كلمة " الاتيان ".
162

أقول: هذه المسألة مبنية على أن الامتثال الاجمالي هل هو في عرض الامتثال
التفصيلي أو في طوله، فلو قلنا بالأول فلا يعتبر أن تقع محتملات العصر عقيب جميع
محتملات الظهر، ولو قلنا بالثاني فيعتبر ذلك.
وتفصيل ذلك هو أنه لا إشكال في اشتراط الترتيب بين الظهر والعصر، ولا بد
من إحراز وقوع العصر عقيب الظهر كسائر الشرائط التي لا بد من إحرازها في
مقام الامتثال، وهذا مما لا كلام، إنما الكلام في أنه يعتبر في حسن الامتثال من
إحراز الترتيب حين فعل العصر بحيث يكون حين اشتغاله بالعصر محرزا لوقوع
الظهر حتى يكون محرزا للترتيب في ذلك الحال، أو أنه يكفي في تحقق الامتثال
وحسنه إحراز الترتيب ولو بعد فعل العصر؟ فلو قلنا بكفاية الاحراز البعدي فله
فعل الظهر والعصر معا إلى جهة واحدة، لأن حين فعل العصر وإن لم يعلم
بالترتيب ووقع العصر عقيب الظهر لاحتمال أن لا تكون القبلة في تلك الجهة
إلا أنه بعد استيفاء جميع المحتملات يعلم بالترتيب ووقوع العصر بعد الظهر، ولو
قلنا بلزوم العلم بالترتيب حين فعل العصر فاللازم تأخير محتملات العصر عن
محتملات الظهر، لأنه يعلم حينئذ بفراغ ذمته عن الظهر حين اشتغاله بمحتملات
العصر.
فإن قلت: حين فعل كل واحد من محتملات العصر لا يعلم أيضا بوقوع
العصر عقيب الظهر، لاحتمال أن لا تكون القبلة في تلك الجهة فلا تكون هذه
الصلاة عصرا واقعيا، والمعتبر من الترتيب هو وقوع العصر الواقعي عقيب الظهر
الواقعي لا مطلقا، ولا يمكن العلم بهذا حين فعل كل واحد من محتملات العصر،
فبالآخرة ينتهي الأمر إلى حصول العلم بالترتيب بعد استيفاء جميع المحتملات،
ويرتفع الفارق بين القولين.
قلت: الفرق بينهما في غاية الوضوح، فإنه لو صلى العصر عقيب جميع
163

محتملات الظهر يعلم إجمالا حين فعل كل واحد من محتملات العصر أن هذه
الصلاة التي بيده واقعة عقيب الظهر الواقعي، فهو من جهة تكليفه الظهري فارغ
الذمة، وإن كان لا يعلم بأن هذه الصلاة التي بيده عصرا واقعيا لاحتمال أن
لا تكون إلى القبلة، إلا أن هذا الجهل، لأجل الجهل بالقبلة لا الجهل بالترتيب،
وهذا بخلاف ما إذا صلى الظهر والعصر معا إلى جهة واحدة، فإنه كما يكون
جاهلا بأن صلاته العصري واقعة إلى القبة كذلك يكون جاهلا بفراغ ذمته عن
الظهر، ففي الفرض يكون جاهلا بكل من القبلة والترتيب معا، وبناء على أن
يكون الامتثال التفصيلي مقدما على الامتثال الاجمالي يجب عليه رفع جهله
بالنسبة إلى الترتيب، لأنه يتمكن من ذلك بتأخير محتملات العصر عن محتملات
الظهر مع الامكان، وإن لم يتمكن رفع جهله بالنسبة إلى القبلة ولا ملازمة بينهما،
فما نحن فيه نظير ما إذا كانت القبلة اللباس كلاهما مشتبهين، ويمكنه رفع
اشتباهه بالنسبة إلى اللباس وامتياز الطاهر منه عن النجس، ولا يمكنه رفع
اشتباهه بالنسبة إلى القبلة، فهل يمكن أن يتوهم أحد بناء على تقدم الامتثال
التفصيلي على الاجمالي أنه لا يلزم عليه رفع اشتباهه بالنسبة إلى اللباس لكونه
مشتبه القبلة ويصلي في كل واحد من الثوبين إلى أربع جهات؟
فإن قلت: فرق بين ما نحن فيه والمثال، فإن في المثال عند عدم رفع اشتباهه
عن اللباس يلزم زيادة في المحتملات ولزوم تعدد الصلاة في كل واحد من الثوبين
إلى كل واحدة من الجهات الأربع، وهذا بخلاف ما نحن فيه، فإنه سواء صلى
الظهر والعصر معا إلى جهة أو عقب محتملات العصر عن محتملات الظهر
لا يلزم زيادة في المحتملات، ولا يلزمه أكثر من صلاة الظهر أربع إلى أربع جهات
وكذلك العصر، ومن المعلوم أن تقدم الامتثال التفصيلي على الاجمالي على القول
به إنما هو فيما إذا استلزم من الامتثال الاجمالي التكرار، وعند استلزام التكرار
164

يكون الامتثال التفصيلي في عرض الامتثال الاجمالي كما ثبت في محله.
قلت: ليس التكرار بنفسه محذورا، بل إنما منع من التكرار لأنه امتثال اجمالي
وهو متأخر رتبة عن الامتثال التفصيلي، وهذا المحذور بعينه يأتي فيما نحن فيه وإن
لم يلزم منه زيادة في المحتملات، والحاصل: أن تأخر رتبة الامتثال الاجمالي عن
التفصيلي أوجب لمنع التكرار، لا أن لمنع التكرار أوجب تأخر رتبة الامتثال
الاجمالي عن التفصيلي.
إذا عرفت ما ذكرنا من ابتناء المسألة على تلك المسألة فاعلم أن شيخنا الأستاذ
مد ظله حيث اختار في تلك المسألة تأخر رتبة الامتثال الاجمالي عن التفصيلي
كما ذكرنا وجه ذلك في حجية القطع مفصلا فذهب في هذه المسألة إلى لزوم
تأخر محتملات العصر عن محتملات الظهر، وكذا الكلام فيما كان من هذا القبيل
كموارد الجمع بين القصر والاتمام وأمثال ذلك، فتأمل جيدا.
الأمر الثالث: لو ضاق الوقت عن استيفاء جميع محتملات الظهر والعصر كما
إذا لم يسع الوقت إلا لسبع صلوات، فهل يدخل النقص على الظهر أو على العصر
أو يتخير؟ وجوه:
أما الوجه الأول فهو تخيل شمول أدلة الاختصاص لما نحن فيه، بدعوى أن
مقدار أربع صلوات من آخر الوقت مختص بالعصر، لأن مقدمات العلمية
كمقدمات الصحة مشمولة لأدلة الاختصاص. ولكن قد تقدم سابقا أن مقدمات
الصحة غير داخلة في أدلة الاختصاص فكيف بالمقدمات العلمية، فالوجه الأول
ضعيف جدا.
وأما أوجه التخيير فهو تخيل أن ما نحن فيه إنما يكون من باب التزاحم، فإن
التكليف بالظهر والعصر معا فعلي وإنما المتأخر هو زمان الامتثال، وحيث لم
يكن في البين أهم ومهم فاللازم هو التخيير على قواعد باب التزاحم. وهذا
165

التخيل أيضا فاسد، فإن ما نحن فيه وإن كان من باب التزاحم إلا أن حيث
كان فعل العصر مشروطا شرعا بفعل الظهر لأدلة الترتيب فاللازم هو استيفاء
محتملات الظهر، لأن فعل الظهر غير مشروطة بشرط
فما نحن فيه نظير ما إذا عجز عن القيام في ركعة من ركعات الصلاة، ودار
الأمر بين ترك القيام في الركعة الأولى أو في الركعة الثانية، لأنه كما يجب القيام
في الركعة الأولى لقدرته فعلا عليه والقعود في الركعة الثانية لعجزه عنه، ولا يمكنه
العكس إذ لا موجب للقعود في الركعة الأولى مع كونه قادرا على القيام فيها،
فكذلك فيما نحن فيه يجب فعل الظهر إلى أربع جهات لقدرته على تحصيل القبلة
فيها، ويدخل النقص على العصر لعجزه عنها عند فعلها.
بل ما نحن فيه أولى من المثال، لأن ترتب الركعة الثانية على الأولى ليس
بشرعي بل هو أمر تكويني، وهذا بخلاف ترتب العصر على الظهر فإنه أمر
شرعي، وصحة العصر مشروطة شرعا بفعل الظهر.
وحاصل الكلام: أنه قد تحرر في باب التزاحم أنه كل أمرين مترتبين إذا وقع
التزاحم بينهما يجب صرف القدرة على الأول منهما، لعدم اشتراط الأول بشرط غير
القدرة وهي حاصلة بالفرض، بخلاف الثاني فإنه مشروط بكونه عقيب الأول
سواء كان شرط الوجوب أو شرط الواجب، فلا بد من ملاحظة القدرة حين تحقق
شرطه والمفروض أنه لا قدرة له في ذلك الحين.
نعم لو كان المتأخر في نظر الشارع، كالقيام الركني في المثال المتقدم
لكان اللازم صرف قدرته إلى المتأخر، لأن الأهمية موجبة لتولد خطاب إحفظ
قدرتك إلى الأهم، فتأمل فإن المقام لا يسع أكثر من ذلك وتفصيله موكول إلى
محله.
فظهر أن الأقوى من الوجوه هو الوسط.
166

الأمر الرابع: لو ضاق الوقت إلا عن ثلاث أو اثنتان، فهل يجب فعلها أو
يقتصر على واحدة منها إلى أي جهة شاء؟ ربما يتوهم أنه لا يجب عليه فعل
ما تمكن من الجهات بعد عدم إمكان الأربع، لأن المفروض عدم التمكن من
الصلاة إلى القبلة أو ما بحكمها من استقبال ربع الفلك، فتخرج الجهات الباقية
عن كونها مقدمة علمية، نعم لما كانت الصلاة لا تسقط بحال يجب عليه صلاه واحدة
إلى أي جهة شاء، هذا.
ولكن لا يخفى عليك ضعفه، لأن سقوط بعض المقدمات العلمية لا يوجب
سقوط الباقي، فهو كما إذا اضطر إلى بعض أطراف الشبهة المحصورة، فكما أن
الاضطرار إلى بعض الأطراف لا يوجب جواز فعل الباقي في الشبهة التحريمية وترك
الباقي في الشبهة الوجوبية كما بين في محله فكذلك فيما نحن فيه.
فإن قلت: نعم الأمر وإن كان كذلك وأن مقتضى القاعدة عند سقوط
بعض المقدمة العقلية عدم سقوط الباقي، إلا أن في المقام حيث ورد الدليل على
أن المتحير يكفيه الصلاة إلى أي جهة شاء، غاية الأمر أنه رفعنا اليد عنه في صورة
التمكن من الأربع لرواية (1) خداش، فيبقى باقي الصور داخل تحت ذلك الدليل،
فلا وجه حينئذ لايجاب الثلاث أو الاثنان عليه.
قلت: لا وجه لهذا الاشكال بعد ملاحظة الأدلة الواردة في المقام وملاحظة
الجمع بينهما، وتفصيل ذلك هو أنه ببعد ورود اعتبار كون الصلاة إلى القبلة وأنه
أينما كنتم فولوا وجوهكم شطر المسجد الحرام، وبعد ورود أن ما بين المشرق
والمغرب قبلة (2)، وبعد ورود (3) أن غير المتمكن يصلي إلى أربع جهات، لا بد من

(1) الوسائل: ج 3 ص 226 باب 8 من أبواب القبلة، ح 5.
(2) الوسائل: ج 3 ص 287 باب 2 من أبواب القبلة، ح 9.
(3) الوسائل: ج 3 ص 225 باب 8 من أبواب القبلة.
167

ملاحظة ما يتحصل منها، فنقول:
إن مقتضى القاعدة الأولية هو أنه عند التمكن من معرفة القبلة يجب
الصلاة إليها، بمقتضى قوله تعالى: فولوا وجوهكم (1)، وقوله عليه السلام في موثق
عمار بعد السؤال عن رجل صلى على غير القبلة فيعلم وهو في الصلاة قبل
أن يفرغ من صلاته قال عليه السلام: إن كان متوجها فيما بين المغرب والمشرق
فليحول وجهه إلى القبلة ساعة يعلم (2)، الخبر. فإن الظاهر منه أنه لو علم جهة
القبلة فاللازم عليه هو الصلاة نحوها ولا يكفيه غيرها.
ثم إنه قد ورد أيضا أن ما بين المغرب والمشرق قبلة كما في رواية زرارة عن
أبي جعفر عليه السلام قال: لا صلاة إلا إلى القبلة، قال: قلت: أين حد القبلة؟
قال ما بين المشرق والمغرب قبلة كله (3). وهذه الرواية وإن حملناها سابقا على
ما إذا تبين له بعد الصلاة كما في عدة من روايات أخر إلا أنه لا داعي إلى هذا
الحمل بعد عموم اللفظ وشموله إلى ما قبل الصلاة.
وطريق الجمع بين هذه الرواية وما دل من وجوب استقبال عين الكعبة هو أن
استقبال العين إنما هو للمتمكن من معرفتها، بداهة أن التكليف بالتوجه نحوها
إنما هو فرغ الامكان فهو مخصوص قهرا بالمتمكن، وأما قوله عليه السلام " ما بين
المشرق والمغرب قبلة كله " فلا بد من حمله بما إذا يتمكن من معرفة القبلة، كما
ربما يشعر به قوله في السؤال " أين حد القبلة " أي أين حد القبلة التي يجزي الصلاة
إليها في الجملة أي في صورة عدم التمكن من استقبال العين، فقال عليه السلام
" ما بين المشرق والمغرب قبلة " أي مع عدم معرفة القبلة يجزيه الصلاة إلى ما بين

(1) البقرة: 144.
(2) الوسائل: ج 3 ص 229 باب 10 من أبواب القبلة، ح 4.
(3) الوسائل: ج 3 ص 217 باب 2 من أبواب القبلة، ح 9، وفيه اختلاف يسير.
168

المشرق والمغرب، فلو علم جهة المشرق والمغرب فهو، وإن لم يعلم جهتيهما فلا بد من
إحراز كون صلاته واقعة بينهما، وذلك إنما يكون بالصلاة إلى ثلاث جهات على
نحو التثليث، فإنه حينئذ يجوز كون صلاته واقعة بينهما ولا يكفيه الصلاة إلى ثلاث
جهات على نحو التربيع، لعدم إحراز البينونية حينئذ كما لا يخفى.
ثم إنه لو خلينا وأنفسنا لكان اللازم عند التحير وعدم معرفة القبلة هو
الاكتفاء بثلاث صلاة على جهة التثليث، ولكن بعد ورود الدليل على أنه يصلي
إلى أربع جهات فلا بد مع التمكن من الأربع من الصلاة إلى أربع، ويبقى صورة
عدم التمكن من الأربع والتمكن من الثلاث تحت إطلاق قوله " ما بين المشرق
والمغرب قبلة " فلا بد من الصلاة إلى ثلاث جهات على جهة التثليث لاحراز
البينونية، ولا يجوز الاكتفاء بواحدة.
نعم يبقى في المقام صورة ما إذا لم يتمكن إلا من صلاتين، فإنه خارج عن
تحت دليل الأربع وخارج عن " ما بين المغرب والمشرق " فيمكن أن يقال حينئذ
بالاكتفاء بصلاة واحدة، لاطلاق قوله عليه السلام " صلى إلى أي جهة شاء " (1)
ولكن مع ذلك يمكن أن يقال: إنه بعد خروجه المتمكن من الأربع والثلاث من
ذلك الاطلاق فيصير إطلاقه موهونا ويكون المتيقن منه هو ما إذا لم يتمكن إلا
من جهة واحدة، ويبقى المتمكن من الاثنين باقيا على حكمه الأصلي من وجوب
الاتيان بالمقدمات العلمية مهما أمكن.
هذا حاصل ما أفاده شيخنا الأستاذ مد ظله في هذا المقام، ولكن بعد للنظر
فيه مجال، فتأمل.
الأمر الخامس: أنه لا إشكال في عدم الإعادة والقضاء على من صلى أربع ثم

(1) تهذيب الأحكام، ج 2 ص 45 باب 5 من أبواب القبلة، ح 143 نقلا بالمضمون.
169

تبين الخلاف وأن القبلة لم تكن على نفس الجهة التي صلى نحوها بل كانت
بيمينها ويسارها، لأنه مضافا إلى أن الحكم بالصلاة إلى الأربع وسقوط الزائد لم
يكن من قبيل الحكم الظاهري الذي يمكن انكشاف الخلاف فيه، بل هو حكم
واقعي جعل للمتحير، فقبلة المتحير في الحقيقة في هذا الحال هي ربع الفلك، أن
صلاته تكون حينئذ فيما بين المغرب والمشرق، وقد ورد النص على أن الصلاة لو
وقعت بينهما لا إعادة وقضاء (1).
ومنه يعلم أيضا الحكم فيما إذا لو صلى إلى ثلاث جهات فيما إذا كان تكليفه
ذلك وأنه لا إعادة عليه ولا قضاء، لأن ما بين المغرب والمشرق قبلة له في هذا
الحال حقيقة.
وأما لو صلى إلى جهة واحدة فيما كان تكليفه ذلك فربما يتوهم وجوب
الإعادة والقضاء لو كان مستدبرا، ووجوب الإعادة فقط لو كان إلى جهة المشرق
والمغرب، وعدم وجوب شئ لو كان بينهما إلى جهة القبلة، لما سيمر عليك
من الأخبار الدالة على ذلك. ولكن يدفعه أن تلك الأخبار مقصورة بمن أحرز جهة
القبلة فتبين الخطأ، لا من لم يحرز القبلة لعدم معرفتها وكان تكليفه الواقعي الصلاة
إلي أي جهة شاء كما فيما نحن فيه. فالأقوى عدم الإعادة والقضاء عليه أيضا، وإن
أشكل شيخنا الأستاذ بالنسبة إلى الإعادة.
نعم يبقى صورة واحدة وهو ما إذا صلى إلى جهتين فيما كان تكليفه ذلك،
فإنه خارج عما بين المغرب والمشرق وخارج عن إطلاق الصلاة إلى أي جهة
شاء، فمقتضى القاعدة في صورة انكشاف الخلاف أن يكون عليه الإعادة
والقضاء، وإن كان بعيدا من المذاق حيث إنه من صلى إلى جهة واحدة لا يكون

(1) الوسائل: ج 3 ص 229 باب 10 من أبواب القبلة، ح 5 نقلا بالمضمون.
170

عليه إعادة ولا قضاء ومن صلى إلى جهتين يكون عليه الإعادة والقضاء، فتأمل.
الأمر السادس: لا فرق في عدم التمكن فيما ذكر له من الأحكام بين أن يكون
ذلك لضيق الوقت أو لأمر آخر، لاطلاق الدليل.
الأمر السابع: لو حصل له الظن إلى أن القبلة في أحد هاتين الجهتين فهل
يلحق هذا الظن بالظن إلى القبلة في الاعتبار بحيث لا يجب عليه الصلاة إلى
أربع، أو لا يلحق بذلك بل يجب عليه الصلاة إلى أربع؟
ربما يتوهم ابتناء المسألة على أن اعتبار الظن بالقبلة هل يلازم اعتبار الظن
بالنفي وأن القبلة لم تكن في هذه الجهة أو لا يلازم، فإن قلنا بالملازمة فلا يجب عليه
الصلاة إلى أربع، لأن الظن بكون القبلة في أحد هاتين الجهتين يلازم الظن بعدم
القبلة في الجهتين الباقيتين، والمفروض اعتبار الظن بالنفي كالاثبات، فلا تجب الصلاة
إليهما. وإن لم نقل بالملازمة فتجب، لأن الظن بعدم القبلة في الجهتين وجوده كعدمه، هذا
ولكن لا يخفى عليك عدم ابتناء المسألة على ذلك، فإنه وإن قلنا بالملازمة بين
اعتبار الظن بالاثبات وبين اعتباره بالنفي لكن هذه الملازمة إنما هي فيما إذا كان
الظن بالاثبات معتبرا، والظن في كون القلبة في أحد هاتين الجهتين لم يقم دليل
على اعتباره، لخروجه عن موضوع الأخبار التي [دلت] (1) على اعتبار الظن
بالقبلة، فإنها ظاهرة في الظن في جهة خاصة لا مردد بين جهتين، كما هو الظاهر
من قوله عليه السلام " فتحرى وتعمد القبلة جهدك " (2) فإذا لم يكن مثل هذا
الظن معتبرا فكيف يقال باعتبار الظن بالنفي؟ فلا بد له حينئذ من الصلاة إلى
أربع مع الامكان، فتأمل، جيدا.

(1) ما بين المعقوفتين لم توجد في النسخة وأثبتناه لاقتضاء السياق.
(2) الوسائل: ج 3 ص 223 باب 6 من أبواب القبلة.
171

هذا تمام الكلام في أحكام الجاهل بالقبلة والمتحير بها.
المبحث الثالث
لا يجوز صلاة الفريضة على الراحلة اختيارا إلا مع الضرورة، إعلم أن هنا
مسائل ينبغي التعرض لها.
الأولى: الصلاة على الراحلة وما يجري مجراها من الحمل والأرجوحة والقجاوة
وما شابهها. والاشكال فيها من جهتين، من جهة الاستقبال ومن جهة
الاستقرار.
والمعروف الذي عليه المعظم أنه لا يجوز أن يصلي الفريضة على الراحلة إلا
لضرورة، وأما النافلة فيجوز مطلقا ولو اختيارا. وهذا لا إشكال فيه في الجملة،
لدلالته جملة من الأخبار عليه كما سيمر عليك بعضها.
إنما الاشكال فيما إذا طرأ على الفرض النفل كالصلاة المعادة، أو طرأ على
النفل الفرض كما لو نذر النافلة، فهل العبرة على الأصل في كل من الطرفين بأن
يلاحظ في المعادة وما شابهها حكم الفريضة ويلاحظ في المنذورة حكم النافلة، أو
أن العبرة على الوصف الطارئ أيضا في كل من الطرفين، أو يفصل بين نقل
عرض له الفرض فيلحقه أحكام الفرض وبين فرض عرض له النفل كالمعادة
فيلحقه حكم النفل؟
ثم إن هذه الوجوه ليست في خصوص مسألة القبلة والاستقرار، بل هي
جارية في جميع ما يختص به النافلة من الأحكام، كعدم بطلان الشك في الثنائية
منها، وجواز البناء على الأكثر والأقل، وغير ذلك من الأحكام المختصة بالنافلة.
وعلى أي حال قيل: إن العبرة إنما هي حكم الأصل ولا يلتفت إلى العارض،
سواء كان الأصل نفلا طرأ عليه الفرض كالمنذورة أو فرضا طرأ عليه النفل
172

كالمعادة، ففي الأول يجوز صلاتها على الراحلة اختيارا ولا يبطلها الشك، وفي
الثاني لا يجوز صلاتها على الراحلة ويبطلها الشك لو كانت ثنائية أو ثلاثية.
وقد استدل على ذلك بالاستصحاب في كل من الفرضين، ففي الأول
استصحاب حكم النافلة إلى ما بعد النذر، وفي الثاني استصحاب أحكام الفريضة
إلى ما بعد صيرورتها نافلة، هذا.
ولكن الانصاف أنه لا موقع للتمسك بالاستصحاب في كل من الطرفين،
للشك في الموضوع إن لم نقل بتبدله قطعا.
وبيان ذلك: هو أن الوصف العنواني الذي يؤخذ في موضوع دليل الحكم.
تارة: بمناسبة الحكم والموضوع يكون المتفاهم منه عرفا أن للوصف العنواني
دخلا في موضوع الحكم حدوثا وبقاء، كما في قوله: إعط الزكاة الفقير فإن العرف
يرى بمناسبة الحكم والموضوع أن لوصف الفقر دخلا في الحكم بإعطاء الزكاة، فلو
زال الفقر يكون من باب زوال الموضوع، وكذلك قوله: قلد المجتهد العادل وأمثال
ذلك مما يكون للوصف في نظر العرف دخلا في الحكم.
وأخرى لا يرى العرف للوصف العنواني دخلا في الموضوع بحسب مرتكزاته
وما يراه من مناسبة الحكم والموضوع، بل يرى الوصف معرفا ومن قبيل العلة
للحكم لا أنه جزء موضوع له، كقوله: الماء المتغير نجس، فإن العرف يفهم أن
معروض النجاسة إنما هو جسم الماء لا وصف التغير، وإنما أخذ التغير علة
لعروض هذا الحكم على نفس الماء، ومن هنا يرى النجاسة باقية ببقاء الماء وإن
زال التغير، بحيث لو فرض حكم الشارع بالطهارة عند زواله يرى من باب ارتفاع
الحكم عن موضوعه مع بقائه لا ارتفاعه بارتفاعه.
وثالثة يشك في أنه من أي القبيلين هل للوصف العنواني دخل في الموضوع أو
أنه يكون معرفا وعلة، ولاغرو في شك العرف في ذلك وتفصيله موكول إلى محله في
173

باب الاستصحاب.
ثم إنه لا إشكال في عدم جريان الاستصحاب في القسم الأول، للقطع
بارتفاع الموضوع. وكذلك لا إشكال في جريان الاستصحاب في القسم الثاني،
للقطع ببقاء الموضوع، فلو شك أن التغير هل علة الحدوث فقط حتى تبقى
النجاسة عند زواله، أو علة للبقاء أيضا حتى ترتفع بزواله، كان الاستصحاب
هو المحكم. وأما القسم الثالث فلا يجري فيه الاستصحاب أيضا، للشك في
الموضوع مع أنه يعتبر في باب الاستصحاب القطع ببقائه كما بين في محله.
إذا عرفت ذلك فنقول: إن مثل جواز الصلاة على الراحلة مع فوت
الاستقبال والاستقرار، ومثل أن الشك في الثنائية لا يبطل، ومثل جواز البناء على
الأقل والأكثر، وغير ذلك من الأحكام المترتبة على النافلة، حيث إنها كانت
أحكاما تسهيلية وجعلها إنما هو لأجل التوسعة فهي إنما تناسب النافلة لأنه
يتسامح فيها ما لا يتسامح في الفريضة، فمن القريب جدا أن يكون لوصف التنفل
دخل في موضوع هذه الأحكام، لأن مناسبة الحكم والموضوع يقتضي أن تكون
جعل مثل هذه الأحكام المبتنية على التسامح والتسهيل إنما هو لأجل النافلة،
لخلاف ما يقابلها من الأحكام من عدم جواز الصلاة على الراحلة، وبطلان
الشك في الثنائية والثلاثية، ولزوم البناء على الأكثر، وأمثال ذلك من الأحكام
المبتنية على التضيق وعدم المسامحة، فإنها تناسب وصف الفرض، فمن القريب
أيضا جدا أن يكون لوصف الفرض دخل في مثل هذه الأحكام.
والمنذورة حيث عرض لها وصف الفرض فتناسب أن يلحقها أحكام
الفرض، فلو ادعى أحد القطع بأن لوصفي الفرض والنفل دخلا في موضوع هذه
الأحكام لما كان مجازفا وكانت دعواه في محله، فيكون المقام من قبيل القسم الأول
الذي يكون للوصف العنواني دخل في متعلق الحكم مثل إعط الزكاة الفقير، ففي
174

مثل النفل الذي عرض له الفرض مما يقطع بارتفاع الموضوع فلا موقع
للاستصحاب.
وإن أبيت عن ذلك فلا أقل من الشك، فيكون من القسم الثالث الذي
يشك في الموضوع فلا يجري الاستصحاب فيه أيضا، والمنع عن الشك في مدخلية
وفي الفرض والنفل في الأحكام يكون خلاف الانصاف، فالأقوى أنه لا موقع
للاستصحاب في كل من الطرفين.
ثم إنه إن قام دليل بالخصوص على تسرية حكم النقل إلى بعد عروض
الفرض وبالعكس فهو، وإلا كان المتبع إلى الاطلاقات والعمومات الدالة على
اعتبار الشرائط من القبلة والاستقرار، وعموم البناء على الأكثر عند الشك في
الرباعية، وبطلان الشك في الثنائية، والقدر الثابت من التخصيص هو ما كان
نفلا بالفعل، لأن المقام يكون من إجمال المخصص الذي يدور أمره بين الأقل
والأكثر، فلا مانع من الرجوع إلى العمومات، فتأمل جيدا. هذا في النفل الذي
طرأ عليه الفرض.
وأما الفرض الذي طرأ عليه النفل كالمعادة احتياطا وجماعة فالأقوى فيه
أيضا مراعاة حكم الفرض.
أما الصلاة المعادة احتياطا فأصل نفليتها شرعا مشكل، بل إنما هو لأجل
حكم العقل بحسن الاحتياط من جهة احتمال الخلل، وعلى فرض أن يكون
الإعادة مستحبا شرعا فاستحبابه إنما هو لأجل جبر الخلل المحتمل وقوعه في
الصلاة، فلا بد من أن تكون المعادة واجدة لجميع الشرائط حتى تقوم الصلاة
المعادة مقام الأصل على تقدير وقوع الخلل فيها.
وأما الصلاة المعادة جماعة فهي وإن كانت مستحبة شرعا إلا أن قوله
175

عليه السلام " ليختار الله أحبهما إليه " (1) يدل على أنها تكون من باب الامتثال
عقيب الامتثال، فلا بد أن تكون أيضا واجدة لجميع الشرائط حتى يمكن أن
تكون أحبهما إليه.
نعم يبقى الاشكال في صلاة العيدين والجمعة في زمان الغيبة، وأنه هل يجري
عليها أحكام الفرض أو أحكام النقل؟ ولعله يأتي تحقيقه إن شاء الله عند التعرض
لها.
ثم لا يخفى عليك أن ما اخترناه من جريان أحكام الفرض على النافلة المنذورة
إنما هو في غير حكم الجماعة، وأما بالنسبة إلى حكم الجماعة بحيث يجوز له أن
بصلي الصلاة النافلة المنذورة جماعة، كسائر الفرائض التي تشرع فيها الجماعة
دون النوافل، فأمره مشكل. وإن كان يظهر من عبارة الشهيد (2)، رحمه الله
الاجماع على جواز ذلك، حيث حكي عنه: أن جميع أحكام الفريضة تجري على
المنذورة حتى بالنسبة إلى الجماعة عندنا. فإن الظاهر من قوله " عندنا " هو دعوى
الاجماع على ذلك، وإن كان في الظهور ما لا يخفى.
وعلى كل حال فالمتيقن إنما هو تسرية أحكام الفرض على المنذورة سوى
الجماعة إلا أن يقوم دليل على خلافه، هذا ما يقتضيه القاعدة.
ولكن في خصوص المقام وردت رواية على جواز الصلاة المنذورة على
الراحلة، وهي رواية علي بن جعفر: سألته عن رجل جعل لله عليه أن يصلي كذا
وكذا، هل يجزيه أن يصلي ذلك على دابته وهو مسافر؟ قال عليه السلام
نعم (3)

(1) الوسائل: ج 5 ص 457 باب 54 من أبواب صلاة الجماعة، ح 10.
(2) ذكرى الشيعة: ص 265 س 16.
(3) الوسائل: ج 3 ص 238 باب 14 من أبواب القبلة، ح 6.
176

والنسبة بين هذه الرواية وما دل (1) على عدم جواز الفريضة على الراحلة إلا
لضرورة إنما بالعموم من وجه، لأن هذه وإن كانت ظاهرة في خصوص النافلة
كما لا يخفى وجهه إلا أنها أعم من حيث الضرورة وعدمها، وتلك الروايات وإن
كانت في خصوص الفريضة إلا أنها أعم من حيث كونها منذورة أو غيرها،
فلا بد من رفع اليد عن عموم أحدهما، إما بتخصيص الفريضة بغير المنذورة، وإما
بتخصيص المنذورة بصورة الضرورة.
ودعوى أظهرية رواية علي بن جعفر، لانصراف الفريضة في أخبار المنع إلى
الفرائض الأصلية فلا تشمل المنذورة خالية عن الشاهد، لعدم الانصراف على
وجه يوجب صرف اللفظ عن ظاهره، بل إنما هو من الانصرافات البدوية التي
لا عبرة بها، فالانصاف أن الفريضة في أخبار المنع ظاهرة في الأعم من المنذورة
والفرائض الأصلية، كما أن ما دل على جواز فعل المنذورة على الراحلة ظاهر في
الأعم من الضرورة وغيرها.
بل ربما يدعى أن رواية علي بن جعفر أظهر، لأن الظاهر من السؤال أن
المنذورة هل هي كالفرائض لا يجوز أن يصليها على الراحلة أو أنها كالنافلة يجوز،
فكأنه كان المرتكز في ذهن السائل أن حكم النافلة هو جواز صلاتها اختيارا على
الراحلة، وكان جهة السؤال في أن النذر يوجب تغيير الحكم أو لا يوجب، فقوله
عليه السلام " نعم " بمنزلة قوله إن النذر لا يوجب تغيير الحكم وبعد يجوز صلاتها
اختيارا على الراحلة، فتأمل فإن هذا أيضا كدعوى الانصراف في تلك الأخبار
لا يخلو عن مناقشة، فالأظهرية في البين في كل من الطرفين لم يكن، وعليه لا بد
من رفع اليد عن ظهور أحدهما، هذا. ولكن بعد لم يعلم عمل الأصحاب على

(1) الوسائل: ج 3 ص 236 باب 14 من أبواب القبلة.
177

رواية علي بن جعفر عليه السلام، فالقول بأنه لا يجوز صلاة المنذورة على الراحلة
اختيارا لا يخلو عن قوة.
ثم إن هنا مقامين للتكلم (الأول) في جواز الصلاة على الراحلة مع فوات
بعض الشرائط والأفعال من القبلة والركوع والاستقرار وأمثال ذلك. (الثاني)
جواز الصلاة على الراحلة مع عدم فوات شئ من الشرائط والأجزاء.
أما المقام الأول:
فالمعروف بين الأصحاب عدم جواز الفريضة على الراحلة اختيارا وجوازه
عند الضرورة، وأما النافلة فيجوز مطلقا، ويدل عليه عدة من الأخبار، كصحيح
عبد الرحمن عن الصادق عليه السلام: لا يصلي على الدابة الفريضة إلا مريض
يستقبل القبلة، وتجزيه فاتحة الكتاب، ويضع بوجهه في الفريضة على ما أمكنه من
شئ، ويؤمي في النافلة إيماء (1). وفي موثق عبد الله بن سنان قلت: لأبي عبد الله
عليه السلام: أيصلي الرجل شيئا من المفروض راكبا؟ قال: لا، إلا من
ضرورة (2).
وفي بعض الروايات (3) تقييد الضرورة بالشدة، ومعلوم أنه ليس المراد من
الشدة البالغة حد القدرة، بل المراد منها ما يعسر معه النزول والركوب.
وينبغي أن يعلم أنه في مورد جاز الصلاة على الراحلة لا بد من ملاحظة
الشرائط والأفعال مهما أمكن، لأن الضرورات تتقدر بقدرها، فيستقبل القبلة ولو
بالتكبيرة مع عدم التمكن من غيرها، ويراعي سائر الشرائط بقدر القدرة، ولا يعتبر

(1) الوسائل: ج 3 ص 236 باب 14 من أبواب القبلة، ح 1، وفيه اختلاف يسير.
(2) الوسائل: ج 3 ص 237 باب 14 من أبواب القبلة، ح 4.
(3) الوسائل: ج 3 ص 236 باب 14 من أبواب القبلة، ح 5 و 11.
178

أن يصبر إلى ضيق الوقت كما يظهر من الشرائع (1)، بل يجوز له البدار لكن بشرط
اليأس عن زوال العذر، كما هو الشأن في جميع دوي الأعذار، على ما يأتي بيانه
إن شاء الله في محله.
وحكم الصلاة على الراحلة [حكم] (2) الصلاة ماشيا فيجوز عند الضرورة دون
الاختيار، وادعي على ذلك الاجماع، والظاهر أنه لو دار الأمر بين الصلاة راكبا
وبين الصلاة ماشيا فالحكم فيه التخيير، لأن في كل منهما جهة لم تكن في الآخر،
فإن في الركوب تفويتا للقيام مع استقرار المصلي بنفسه وإن كانت دابته
متحركة، وفي المشي تفويت استقرار المصلي مع ثبوت القيام له، ولم يعلم أهمية
أحد الجهتين، فلا محيص عن التخيير كما هو الشأن في كل متزاحمين لم يكن
أحدهما أهم.
وربما يستدل على التخيير بقوله تعالى: وإن خفتم فرجالا أو ركبانا (3). وفي
الاستدلال ما لا يخفي، لأن المراد من رجالا أو ركبانا هو الحال المتلبس به
المكلفين، فيصير المعنى إن خفتم العدو فصلوا سواء كنتم راكبين أو راجلين، وأين
هذا من التخيير؟ هذا.
ولكن يمكن أن يقال بتقديم المشي لأهمية القيام خصوصا الركني منه، فتأمل.
المقام الثاني:
في جواز الصلاة على الراحلة مع عدم فوات شئ من الشرائط والأجزاء، كما
إذا كانت الدابة معقولة وكان في كجاوة أو سرير يمكنه استيفاء الركوع والسجود

(1) شرائع اسلام: ج 1 ص 66 في القبلة.
(2) ما بين المعقوفتين لم توجد في النسخة وأثبتناه لاقتضاء السياق.
(3) البقرة: الآية 239.
179

وغير ذلك من الشرائط والأجزاء. وفي جواز الصلاة كذلك إشكال، فإن الظاهر
من قوله عليه السلام " لا يصلي على الدابة الفريضة إلا المريض.. إلخ " هو عدم
جواز الصلاة على الدابة مطلقا سواء كانت واقفة أو سائرة، فيكون نفس الكون
على الدابة مانعا عن الصلاة عليها كمانعية غير المأكول عن الصلاة فيه.
وكون المنع عن الصلاة على الدابة إنما هو لأجل أن الغالب عدم إمكان
استيفاء جميع الأفعال عليها فيكون الحكم واردا مورد الغالب كما في الجواهر (1)
مما لا يمكن المساعدة عليه، لأن النفي في قوله عليه السلام " لا يصلي.. إلخ " لم
يرد إلا لبيان مانعية الدابة عن الصلاة عليها، وليس له نظر إلى حيثية الأجزاء
والشرائط وأنه مطلق بالنسبة إلى إمكان استيفائها وعدمه، حتى يمنع إطلاقه
بالنسبة إلى ذلك بدعوى أن الغالب عدم إمكان الاستيفاء فالحكم وارد مورد
الغالب، لما عرفت من أن قوله عليه السلام " لا يصلي على الدابة " كقوله
" لا يصلي في الحرير " ظاهر في شرطية عدم الدابة وأنه وارد لمجرد بيان ذلك،
فليس النفي متعرضا لحال الأفعال حتى يبحث عن إطلاقه بالنسبة إلى ذلك
وعدم إطلاقه.
نعم بالنسبة إلى مانعية الدابة يكون مطلقا من حيث كونها واقفة أو سائرة،
غاية الأمر أنا نقطع بأن الدابة من حيث كونها دابة ليس لها خصوصية تمنع عن
الصلاة عليها، وإنما المانع هو عدم القرار الذي نسب إلى المشهور اعتباره في الصلاة
زائدا على الاستقرار، والمراد من القرار هو أن يكون المصلي مستقرا على الأرض
ولو بواسطة أو ما بحكمها كالماء على ما سيأتي من جواز الصلاة في السفينة.
وتنقيح البحث في المقام يستدعي بسطا في الكلام فنقول: إن المصلي تارة

(1) جواهر الكلام: ج 7 ص 420.
180

يكون مستقرا في مكان بحيث لم يكن له حركة عينية خارجية وإن كان له حركة
تبعية عرضية، كجالس السفينة في الأنهار الصغار التي لم يكن لها تموج واضطراب
لسكون الماء.
وأخرى لا يكون مستقرا في مكان بل متحركا بحركة عينية خارجية ولو كان
بتبع حركة الغير، كالراكب على الدابة في حال سيرها، وكالراكب في الشمندفر
وإن كان حركته دون حركة الدابة إلا أنه مع ذلك له حركة حسية خارجية.
وثالثة لا يكون مستقرا في مكان ولم يكن له حركة أيضا، كراكب الدابة
الواقفة سواء كان في محمل أو سرير أو غيره، وهذا أيضا يمكن على نحوين، فإن
الدابة تارة تكون معقولة بحيث يؤمن من حركتها، وأخرى لا تكون معقولة وتكون
في معرض الحركة، وقس على الدابة غيرها مما يكون معلقا في الهواء.
فهذه مجمل أقسام المصلي باعتبار حالاته من حيث المكان والاستقرار.
وأما حكمها فالقسم الأول مما لا شبهة في صحة صلاته، على خلاف في
السفينة يأتي بيانه إن شاء الله وكذا لا شبهة في عدم صحة الصلاة في القسم
الثاني، لفوات القرار والاستقرار معا فيه فهو المتيقن من أخبار المانعة عن جواز
الصلاة على الراحلة.
وأما القسم الثالث فهو بكلا قسميه يمكن أيضا دخوله في الأخبار المانعة،
بناء على ما استظهرناه منها من أن المنع إنما هو لبيان مانعية نفس الراحلة من جهة فوات
القرار، وقد بنى شيخنا الأستاذ على ذلك. ولكن الانصاف أن استظهار ذلك من
الأخبار في غاية الاشكال، لامكان دعوى أن المنع عن الصلاة على الراحلة إنما
هو لأجل فوات الاستقرار وغيره من الشرائط والأجزاء كما هو الغالب.
ودعوى أن الحكم لم يرد لبيان ذلك لا تخلو عن إشكال، وعلى فرض التسليم
وأن المنع إنما يكون واردا لبيان مانعية نفس الدابة فيمكن أن يقال: إن جهة
181

السؤال عن الصلاة على الراحلة إنما هو من جهة حركتها وسيرها، فالحكم إنما
يكون منزلا على حال حركتها وسيرها كما هو الغالب، فلا يشمل ما إذا كانت
معقولة.
وبالجملة: القول ببطلان الصلاة على المحمل والسرير المحمول على الدابة
المعقولة المطمئن من حركتها، أو التخت المعلق في الهواء بحيث لا يتحرك في حال
الصلاة لا يخلو عن تأمل بل منع، للشك في دخوله في أخبار المنع، والأصل فيه
البراءة لرجوع الشك فيه إلى الشك في مانعية الراحلة عن الصلاة فيكون من باب
الأقل والأكثر الارتباطيين، وقد حرر في محله أن الأصل فيه هو البراءة لا الاشتغال
على الأقوى.
نعم يعتبر أن يكون المصلي مطمئنا بعدم حركة الدابة في حال الصلاة حتى
يمكنه الجزم بالنية، إذ مع عدم الاطمئنان يكون حال الصلاة عليها كحال الصلاة
في مواضع الزحام من حيث عدم تحقق الجزم بالنية، وأصالة عدم طرو المانع في
الأثناء لا يوجب حصول الجزم بالنية كما لا يخفى.
ولا ينتقض بصلاة ذات العادة التي تحتمل طرو الحيض في أثنائها. لأن القدر
المتمكن منها هو الصلاة باحتمال عدم طرو الحيض فلا يمكنها الجزم بالنية، فلا بد
لها من الامتثال الاحتمالي، لأن صبرها يوجب تأكد احتمال طرو المناع، وهذا
بخلاف المقام لأن المفروض هو تمكنه من الصلاة على الأرض، فهو متمكن من
الامتثال القطعي وعليه لا يجوز له الصلاة بالامتثال الاحتمالي، وسيأتي مزيد
توضيح لذلك في باب النية إن شاء الله.
بقي الكلام في حكم الصلاة في السفينة في حال سيرها، ولا بد أولا من ذكر
بعض الأخبار الواردة في الباب مما ظاهره التعارض والتنافي.
فمنها: ما رواه الحلبي أنه سأل أبا عبد الله عن الصلاة في السفينة، فقال:
182

يستقبل القبلة ويصف رجليه، فإذا دارت واستطاع أن يتوجه إلى القبلة وإلا
فليصل حيث توجهت به، وإن أمكنه القيام فليصل قائما وإلا فليقعد ثم
يصلي (1).
ومنها: رواية جميل بن دراج أنه قال لأبي عبد الله عليه السلام: تكون السفينة
قريبة من الجدد فأخرج وأصلي؟ قال: صل فيها أما ترضى بصلاة نوح
عليه السلام (2).
وفي رواية يونس بن يعقوب أنه سأل أبا عبد الله عن الصلاة في الفرات وما هو
أصغر منه من الأنهار في السفينة، فقال: إن صليت فحسن وإن خرجت
فحسن (3). قال: وسأله عن الصلاة في السفينة وهي تأخذ شرقا وغربا فقال:
استقبل القبلة ثم كبر ثم دار مع السفينة حيث دارت (4).
ومنها: رواية علي بن إبراهيم قال: سألته عن الصلاة في السفينة، قال:
يصلي وهو جالس إذا لم يمكنه القيام في السفينة، ولا يصلي في السفينة وهو يقدر
على الشط (5).
وفي رواية حماد بن عيسى قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يسأل عن
الصلاة في السفينة، فيقول: إن استطعتم أن تخرجوا إلى الجدد فاخرجوا، فإن لم
تقدروا فصلوا قياما، فإن لم تستطيعوا فصلوا قعودا، وتحروا القبلة (6).
ومنها: ما في تفسير العياشي عن زرارة قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام:
الصلاة في السفر في السفينة والمحمل سواء؟ قال: النافلة كلها سواء، تؤمي إيماء

(1) الوسائل: ج 3 ص 233 باب 13 من أبواب القبلة، ح 1 و 3.
(2) الوسائل: ج 3 ص 233 باب 13 من أبواب القبلة، ح 1 و 3.
(3) الوسائل: ج 3 ص 233 باب 13 من أبواب القبلة، ح 5.
(4) الوسائل: ج 3 ص 234 باب 13 من أبواب القبلة، ح 6 و 8.
(5) الوسائل: ج 3 ص 234 باب 13 من أبواب القبلة، ح 6 و 8.
(6) الوسائل: ج 3 ص 235 باب 13 من أبواب القبلة، ح 14.
183

أينما توجهت دابتك وسفينتك، والفريضة تنزل لها عن المحمل إلى الأرض إلا من
خوف فإن خفت أومأت، وأما السفينة فصل فيها قائما وتوخ القبلة بجهدك، فإن
نوحا قد صلى الفريضة فيها قائما متوجها إلى القبلة وهي مطبقة عليهم، قال:
قلت: وما كان علمه بالقبلة فيتوجهها وهي مطبقة عليهم؟ قال: كان جبرئيل
عليه السلام يقومه نحوها، قال: قلت: فأتوجه نحوها في كل تكبيرة؟ قال: أما في
النافلة فلا، إنما تكبر على غير القبلة الله أكبر، ثم قال: كل ذلك قبلة للمتنفل،
أينما تولوا فثم وجه الله (1).
فهذه جملة من الأخبار التي أردنا ذكرها، وهي كما ترى على طوائف:
منها ما يدل على كيفية الصلاة في السفينة من استقبال القبلة وصف الرجلين
والقيام مع التمكن، من دون أن يكون متعرضا لأصل حكم الصلاة في السفينة
من قوله " سأل عن الصلاة في السفينة " بقرينة الجواب هو أن يكون السؤال عن
أصل الكيفية، فهو من جهة الجواز مطلقا مهمل غير ناظر إليه، فلو فرض أنه ورد
في عدم الجواز اختيارا وإنما الجواز مختص بصورة الاضطرار لا يقع التعارض بينهما
كما لا يخفى.
ومنها: ما دل على جواز الصلاة في السفينة، وهو بإطلاقه يشمل صورتي
الاختيار والاضطرار، بل ظاهر في خصوص الاختيار كالرواية الثانية، فإن
الظاهر من قوله " تكون السفينة قريبة من الجدد " هو عدم المشقة في الخروج منها
وعدم الاضطرار بالصلاة فيها، خصوصا مع قوله " فأخرج وأصلي " فقوله

(1) تفسير العياشي: ج 1 ص 56 ح 81.
(2) الوسائل: ج 3 ص 233 باب 13 من أبواب القبلة، ح 1.
184

عليه السلام في الجواب " صل فيها " في قوة التصريح بجواز الصلاة فيها اختيارا.
ويقرب من ذلك في التصريح بالجواز في صورة الاختيار رواية يونس بن
يعقوب حيث قال عليه السلام: إن خرجت فحسن وإن صليت فحسن إذ في
صورة الاضطرار لا يكون محل لقوله " وإن خرجت فحسن ".
نعم السؤال مختص بالأنهار الصغار فلا يشمل السفينة في البحر المتلاطم، وأما
قوله في تتمة هذه الرواية قال: وسأله عن الصلاة في السفينة تأخذ شرقا وغربا،
فلا يدل على جواز الصلاة في السفينة المضطربة اختيارا، لأن الظاهر منه بقرينة
الجواب هو أن يكون السؤال عن كيفية الصلاة في السفينة المضطربة لا عن أصل
الجواز، فلا ينافي اختصاصه بصورة الاضطرار كما لا يخفى.
وأما رواية علي بن إبراهيم فالظاهر منها أيضا أن يكون السؤال عن كيفية
الصلاة في السفينة بقرينة قوله عليه السلام " يصلي وهو جالس إذا لم يمكنه
القيام " وأما قوله عليه السلام في ذيل هذه الرواية " ولا يصلي في السفينة وهو
يقدر على الشط " فغير معارض لما دل من جواز الصلاة في السفينة اختيارا، لأن
الظاهر من قوله عليه السلام " ولا يصلي في السفينة " هو أن يكون في صورة عدم
التمكن من استيفاء جميع أفعال الصلاة في السفينة، بقرينه قوله عليه السلام في
صدر الرواية " يصلي وهو جالس إذا لم يمكنه القيام " فيختص المنع في هذه
الصورة لا فيما إذا تمكن من استيفاء جميع الأفعال حتى الاستقرار فيما إذا لم تكن
السفينة مضطربة.
نعم ربما يدعى ظهور رواية حماد بن عيسى في المنع عن الصلاة في السفينة
في صورة الاختيار والتمكن من الخروج، لأن الظاهر من قوله " إن استطعتم أن
تخرجوا إلى الجدد فاخرجوا فإن لم تقدروا فصلوا قياما " هو أنه مع التمكن من
الصلاة في السفينة تامة الأجزاء والشرائط يجب عليه الخروج مع القدرة عليه، هذا.
185

ولكن لا ملازمة بين التمكن من القيام والتمكن من استيفاء سائر أفعال
الصلاة، فيمكن أن يكون المنع لأجل فوات الاستقرار كما ربما يدعى أنه الغالب
أو فوات القبلة، فتأمل جيدا.
ومنها: رواية العياشي والانصاف أنها صريحة في جواز الصلاة في السفينة
اختيارا مع التمكن من استيفاء الأفعال وتكون شاهد جمع بين الأخبار، فإن
التفصيل في الفريضة بين الراحلة والسفينة، وأن في الراحلة لا يجوز إلا في صورة
الاضطرار وفي السفينة يجوز مطلقا سواء قدر على الخروج أو لم يقدر يكون نصا في
الجواز، نعم يختص الجواز بصورة التمكن من استيفاء الأفعال بقرينة قوله
عليه السلام " فصل فيها قائما وتوخ القبلة " وكذا يختص بصورة التمكن من
الاستقرار وعدم اضطراب السفينة بقرينة كون السائل زرارة وهو عراقي، والسفن
السارية في أنهار العراق من الفرات والدجلة لا تكون مضطربة غالبا.
فتحصل: أن المستفاد من مجموع الأخبار بعد تحكيم النص والأظهر على
الظاهر هو أنه لو كانت السفينة غير مضطربة، وتمكن المصلي من استيفاء جميع
أفعال الصلاة من القيام والقبلة وغير ذلك فالصلاة فيها اختيارا. تصح مع التمكن
من الخروج، وإن لم يتمكن من استيفاء الأفعال فجواز الصلاة مختص بصورة عدم
التمكن.
وقد انقدح أيضا حال الصلاة على الراحلة، وأنه في الفريضة لا يجوز إلا مع
الاضطرار وعدم التمكن من النزول، وأما في النافلة فيجوز مطلقا ولا يعتبر القبلة ولو
مع التمكن فيها، بل يتوجه حيثما توجهت الدابة، كما صرحت به رواية العياشي
المتقدمة.
فما عساه يظهر من بعض الأخبار من اعتبار الاستقبال في حال الركوع
والسجود والتكبير أو في خصوص حال التكبير، كقول الصادق عليه السلام في
186

حسن معاوية بن عمار: لا بأس أن يصلي الرجل صلاة الليل في السفر وهو
يمشي، ولا بأس إن فاتته صلاة الليل أن يقضيها بالنهار وهو يمشي يتوجه إلى القبلة
ثم يمشي ويقرأ، فإذا أراد أن يركع حول وجهه إلى القبلة وركع وسجد ثم
مشى (1). وكصحيح عبد الرحمن قال فيه: سألت أبا الحسن عليه السلام عن
الصلاة في الليل في السفر في المحمل، فقال عليه السلام: إذا كنت على غير القبلة
فاستقبل القبلة ثم كبر وصل حيث ذهب بك بعيرك (2)، الخبر. لا بد من حمله
على الأفضلية، لعدم مقاومته لجملة من الأخبار المصرحة بعدم اعتبار القبلة في
النافلة إذا صليت على الدابة، أو في حال المشي مطلقا حتى في حال التكبير
المعللة في جملة منها بقوله تعالى: فأينما تولوا فثم وجه الله (3)، وأنها نزلت في النافلة
في السفر.
وحاصل الكلام: أن في صلاة النافلة جهات من البحث:
الأولى: في أصل جوازها اختيارا على الراحلة وفي حال المشي.
الثانية: في عدم اعتبار القبلة فيها مطلقا ولو في حال التكبير.
الثالثة: في أن جواز الصلاة على الراحلة هل هو مختص بالسفر أو يعم الحضر
أيضا؟
الرابعة: في أنه هل يعتبر الركوع والسجود فيها لو صليت ماشيا أو على الراحلة
ولو بأن ينزل لهما، أولا يعتبر ذلك بل يجزي الايماء لهما مع جعل إيماء السجود
أخفض؟
الخامسة: في أنه لو قلنا بعدم اعتبار القبلة فيها، فهل ذلك يختص بما إذا

(1) الوسائل:: ج 3 ص 244 باب 16 من أبواب القبلة، ح 1.
(2) الوسائل: ج 3 ص 241 باب 15 من أبواب القبلة، ح 13.
(3) البقرة: 115.
187

صليت على الراحلة أو في حال المشي دون ما إذا صليت في حال الاستقرار على
الأرض مطمئنا، أو لا يختص بذلك بل يعم حال الاستقرار أيضا؟
أما الجهة الأولى فقد تقدم البحث عنها، وأن أصل الجواز مما لا إشكال فيه
ولا خلاف، وقد تواترت الأخبار (1) على ذلك.
وأما الجهة الثانية فقد تقدم أيضا أنه لا يعتبر الاستقبال في حال من الأحوال،
وأن ما ورد من اعتبار ذلك في بعض الأحوال فمحمول على الأفضلية، وإن خالف
فيه بعض الأعلام على ما هو المحكي.
وأما الجهة الثالثة فالظاهر عدم اختصاص الجواز بالسفر بل يعم الحضر،
لصحيح عبد الرحمن بن الحجاج سأل أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يصلي
النوافل في الأمصار وهو على دابته حيث ما توجهت به، قال: لا بأس (2). وفي
حكم الراكب الماشي، وهو وإن لم يدل عليه بالخصوص دليل إلا أن يكفي
إطلاقات جواز الصلاة ماشيا من غير تفصيل بين السفر والحضر، فما يظهر من
بعض الأعلام من الاشكال في جواز الصلاة على الراحلة حضرا مما لا وجه له.
وأما الجهة الرابعة فالظاهر أن النزول من الدابة للركوع والسجود مما لا يعتبر
في الفريضة في مورد جواز أن يصليها على الدابة فضلا عن النافلة، بل لا يجوز ذلك
لأنه فعل كثير يمحو صورة الصلاة، وإن مال إليه في الجواهر (3) في الفريضة بدعوى
أن الصعود والنزول من مقدمات فعل الركوع والسجود فلا يضر، ولا يخفى ما فيه.
وأما الماشي فالظاهر عدم اعتبار ذلك أيضا، بل يكفي الايماء لهما مع جعل
إيماء السجود أخفض، وما تقدم في رواية معاوية بن عمار من أن الماشي يركع

(1) الوسائل: ج 3 ص 239 و 244 ب 15 و 16 من أبواب القبلة.
(2) الوسائل: ج 3 ص 239 باب 15 من أبواب القبلة، ح 1.
(3) جواهر الكلام: ج 7 ص 427.
188

ويسجد فمحمول على الأفضلية، لصراحة جملة من الأخبار بكفاية الايماء لهما.
وأما الجهة الخامسة فمقتضى الاطلاقات الواردة في الكتاب والسنة هو
اشتراط النافلة بالقبلة، كقوله تعالى: فولوا وجوهكم شطره (1) وكقوله عليه السلام:
لا صلاة إلا إلى القبلة (2). وهذا بنفسه شامل للفريضة والنافلة. والقول بأن قوله
" فولوا " أمر وهو للوجوب والنافلة لا وجوب لها ففساده غني عن البيان، لأن الأمر
في مثل هذا إنما هو لبيان شرطية القبلة كسائر الأوامر الواردة في بيان الأجزاء
والشرائط فيعم النافلة أيضا. وبالجملة: مقتضى الأوامر الواردة في الكتاب
والسنة هو اشتراط النافلة بجميع. شرائط الفريضة إلا ما خرج فالعمدة هو
ملاحظة المخرج.
وما ورد في بعض الأخبار (3) من أن الآية إنما نزلت في الفريضة لا ينافي ذلك
أيضا، لأن مورد النزول لا يوجب التخصيص كما هو الشأن في غالب الآيات
الواردة في الكتاب. نعم لو دل دليل بأن الحكم بتولية الوجه شطر المسجد مختص
بالفريضة لكان اللازم خروج النافلة عنه، إلا أن ظاهر الخبر ليس كذلك، فإن
فيه قال عليه السلام: استقبل القبلة بوجهك ولا تقلب وجهك من القبلة فتفسد
صلاتك، فإن الله عز وجل يقول لنبيه صلى الله عليه وآله في الفريضة: فول
وجهك.. إلخ.
وهذا كما ترى لا يدل على أن الحكم مختص بالفريضة، بل أقصاه أن الآية
نزلت عليه صلى الله عليه وآله وهو في الفريضة، كما ورد (4) التفسير بذلك حيث
كان صلى الله عليه وآله في صلاة العصر وهو مستقبل لبيت المقدس، فنزلت هذه

(1) البقرة: الآية 144 و 150.
(2) الوسائل: ج 3 ص 217 باب 2 من أبواب القبلة، ح 9.
(3) الفقيه: ج 1 ص 278 باب القبلة، ح 856.
(4) مجمع البيان: ج 1 ص 223، البرهان: ج 1 ص 158. وفيهما " قد صلى من الظهر ركعتين ".
189

الآية فحول وجهه صلى الله عليه وآله نحو الكعبة، فمن هذه الجهة لا يمكن الخدشة
في إطلاق الآية، مع أن في إطلاق السنة كفاية، فتأمل.
فلا بد حينئذ من ملاحظة المخرج فنقول: قد ثبت بمقتضى الأدلة السابقة
جواز فعل النافلة إلى غير القبلة في حال الركوب والمشي، وبعد لم يقم دليل على
جواز فعلها إلى غير القبلة في حال الركون والاستقرار على الأرض، وما ورد في عدة
من الروايات (1) من أن قوله تعالى: فأينما تولوا فثم وجه الله نزلت في النافلة.
لا يدل على ذلك أيضا لتقييدها في جميعها أو غالبها بأنها نزلت في النافلة في
السفر، ومعلوم أن المراد من السفر هو حال التلبس به من الركوب والمشي،
فلا يعم حال الاستقرار في منازل السفر، فتأمل.
فالأقوى أن النافلة لو صليت على الأرض مستقرا يعتبر فيها كل ما يعتبر في
الفريضة من الأجزاء والشرائط إلا ما استثني من الترخيص بالقعود فيها وترك
السورة. هذا كله لو صليت على الأرض مستقرا.
وأما لو صليت في السفينة فالظاهر عدم اعتبار القبلة فيها كما لو صليت على
الراحلة، للتصريح بسقوط القبلة فيها في رواية العياشي (2) المتقدمة، مضافا إلى
الأخبار (3) الواردة في أن قوله تعالى: فأينما تولوا.. إلخ نزلت في النافلة في السفر
الذي تعم الصلاة في السفينة أيضا كما لا يخفي.
المبحث الرابع
في الخلل الواقع في القبلة: فاعلم أن الخلل الواقع في الصلاة من جهة القبلة

(1) الوسائل: ج 2 ص 242 243 باب 15 من أبواب القبلة، ح 18 و 19 و 23.
(2) تفسير العياشي: ج 1 ص 56 ص ح 81.
(3) الوسائل: ج 2 ص 242 243 باب 15 من أبواب القبلة، ح 18 و 19 و 23.
190

تارة يكون عن عمد وعلم بالحكم والموضوع، وأخرى يكون عن جهل بالحكم
قصورا أو تقصيرا، وثالثة يكون عن نسيان كما إذا نسي وصلى إلى غير القبلة،
ورابعة يكون عن غفلة، وخامسة يكون عن خطأ في الاجتهاد والتحري فيما كان
تكليفه ذلك.
ثم إن الخلل الواقع تارة يكون منحرفا عن القبلة ولم يبلغ اليمين واليسار،
وأخرى يكون بالغا لهما بأن صلى إلى نفس النقطتين، وثالثة يكون متجاوزا منهما
ولم يبلغ الاستدبار، ورابعة بلغ الاستدبار، فهذه جملة الأقسام المصورة في الخلل
الواقع في القبلة، ولا بد من تنقيح كل منها على وجه الاختصار، فنقول:
لا إشكال في بطلان الصلاة إذا وقع الخلل عن عمد في جميع الأقسام، سواء
كان إلى بين النقطتين أو إلى نفسهما أو تجاوز عنهما بلغ إلى الاستدبار أو لم يبلغ،
والسر في ذلك واضح لأن لازم جعل القبلة شرطا في الصلاة هو ذلك كما لا يخفى.
وأما لو كان الخلل واقعا عن جهل فإن كان عن تقصير فكذلك أيضا، للاجماع
على أن الجاهل المقصر في حكم العامد خطابا وعقابا إلا في القصر والاتمام
والجهر والاخفات، فهو مكلف بالتوجه إلى القبلة الواقعية فلا تعمه الأخبار الآتية
المصححة للصلاة إذا وقعت بين المغرب والمشرق المعللة بأن ما بين الشرق
والمغرب قبلة، لأن توسعة القبلة إلى هذا الحد إنما يكون في مورد سقوط الخطاب
بالقبلة الواقعية، فتكون ما بين المغرب والمشرق قبلة في طول القبلة الواقعية لا في
عرضها، وإلا لصح التوجه إلى ما بينهما عمدا واختيارا، وقد عرفت أن ذلك
خلاف التحقيق، وإن قيل به فمورد هذه الأخبار إنما هو فيما إذا لم يتمكن المكلف
من التوجه إلى القبلة الواقعية بحيث يوجب سقوط خطابها، والخطاب عن الجاهل
المقصر غير ساقط إجماعا.
وبهذا البيان يمكن خروج الجاهل القاصر أيضا عن عموم الأخبار الآتية،
191

لأن الساقط عن الجاهل القاصر ليس إلا العقاب وأما الخطاب فغير ساقط عنه
لتمكنه من التوجه إلى القبلة، والجهل بالحكم لا يوجب سلب قدرته عنه، لعلمه
بموضوع القبلة وكان جاهلا في حكمها، كما إذا كان الجاهل في نفس
مسجد الحرام المشاهد للكعبة، بداهة أنه يمكنه التوجه إلى القبلة، فهو عن عمد
واختيار لم يوقع صلاته نحوها وإن كان ذلك لجهله بالحكم، فحينئذ لا وجه
لسقوط خطاب القبلة عن الجاهل القاصر وإن كان معذورا من حيث العقاب،
فإذا لم يسقط خطاب القبلة عنه فلا تعمه الأخبار الآتية، لأن موردها الغير المتمكن
من التوجه إليها الموجب لسقوط خطابها، هذا ما أفاده شيخنا الأستاذ في هذا
المقام، فتأمل جيدا.
وأما لو كان الخلل الواقع في القبلة من جهة النسيان أو الغفلة أو الخطأ في
الاجتهاد فهو داخل في عموم الأخبار، واختصاص بعضها بصورة الخطأ في
الاجتهاد لا ينافي إطلاق الباقي وعمومها للناسي والغافل. والأولى ذكر جملة من
الأخبار الواردة في المقام وهي على طوائف ثلاث:
منها: ما دل على عدم وجوب الإعادة لا في الوقت ولا في خارجه، كصحيح ابن
عمار عن الصادق عليه السلام قلت له: الرجل يقوم في الصلاة ثم ينظر بعد ما فرغ
فيرى أنه قد انحرف يمينا وشمالا، فقال له: قد مضت صلاته وما بين المغرب
والمشرق قبلة (1).
وكموثق عمار عنه عليه السلام أيضا في رجل صلى على غير القبلة فيعلم وهو
في الصلاة قبل أن يفرغ من صلاته، قال: إن كان متوجها فيما بين المغرب
والمشرق فليحول وجهه إلى القبلة ساعة يعلم، وإن كان متوجها إلى دبر القبلة

(1) تهذيب الأحكام: ج 2 ص 48، ح 25.
192

فليقطع صلاته ثم يحول وجهه إلى القبلة ثم يفتح الصلاة (1).
والمروي عن قرب الإسناد: من صلى إلى غير القبلة وهو يرى أنه على القبلة
ثم عرف بعد ذلك فلا إعادة عليه فيما بين المغرب والمشرق (2).
وفي رواية الراوندي من صلى على غير القبلة فكان إلى غير المشرق والمغرب
فلا يعيد الصلاة (3).
وقول أبي جعفر عليه السلام في صحيح زرارة: لا صلاة إلى إلى القبلة، قال:
قلت: أين حد القبلة؟ قال: ما بين المغرب والمشرق قبلة كله (4)، الخبر.
وفي معناها عدة من الأخبار الأخر.
وهذه الأخبار كما ترى ظاهرة أو صريحة في أنه لو وقعت الصلاة بين
المغرب والمشرق فلا إعادة، وهي وإن كانت مطلقة بالنسبة إلى الوقت وخارجه
بناء على شمول الإعادة لفعل الشئ في خارج الوقت أيضا وكانت النسبة بينها
وبين ما يأتي من الأخبار الظاهرة في وجوب الإعادة في الوقت دون خارجه
بالعموم من وجه، لأن هذه الأخبار أعم من التذكر في الوقت وخارجه وإن كانت
في خصوص ما بين المغرب والمشرق، والأخبار الآتية أعم مما إذا كانت الصلاة
بين المغرب والمشرق وما إذا كانت ما وراء ذلك، لكنها أخص من حيث كونها
مختصة بصورة التذكر في خارج الوقت، فلكل منهما جهة عموم وجهة خصوص.
وكما أنه يمكن حمل الأخبار الآتية على خصوص ما إذا كانت الصلاة واقعة فيما
وراء المغرب والمشرق أو إلى نفس النقطتين، كذلك يمكن حمل هذه الأخبار
المتقدمة على خصوص التذكر في خارج الوقت. وقد حكي عن صاحب

(1) الوسائل: ج 3 ص 229 باب 10 من أبواب القبلة، ح 4 و 5 وفيهما اختلاف يسير.
(2) الوسائل: ج 3 ص 229 باب 10 من أبواب القبلة، ح 4 و 5 وفيهما اختلاف يسير.
(3) بحار الأنوار: ج 84 ص 69 باب القبلة وأحكامها، ح 26، وفيه: فكان إلى المشرق والمغرب.
(4) الوسائل: ج 3 ص 227 باب 9 من أبواب القبلة، ح 2.
193

الحدائق (1) رحمه الله الميل إلى ذلك، والتزم بوجوب الإعادة في الوقت مطلقا.
ولا يرد عليه ما أورده الجواهر (2) رحمه الله من أن معاملة العموم من وجه إنما
هو فيما إذا كان بين موضوعي الحكمين لا بين الموضوع والحكم كما في المقام، حيث
إن أعمية هذه الأخبار بالنسبة إلى عدم وجوب الإعادة في الوقت وفي خارجه
إنما تكون في الحكم لا في الموضوع، وهذا بخلاف الأعمية في الأخبار الآتية لأنها
تكون في الموضوع وهو المصلي ما بين المغرب والمشرق والمصلي إلى ما وراء ذلك.
وبالجملة: أن الموضوع في الأخبار الآتية هو الصلاة إلى غير القبلة الأعم مما
بين المغرب والمشرق وما وراء ذلك، والموضوع في الأخبار المتقدمة هو خصوص
الصلاة ما بين المغرب والمشرق الأعم في الحكم وعدم وجوب الإعادة في الوقت
وفي خارجه، وفي مثل هذا لا يعامل معه معاملة التعارض من وجه، كما لا يعامل
معاملة التعارض من وجه في مثل (اضرب الجهال في الليل لا في النهار)
و (لا تضرب زيدا) وليس ذلك إلا من جهة أن العموم في اضرب الجهال إنما هو
في الموضوع وهو الجهال الشامل لزيد ولغيره، والعموم في لا تضرب زيدا في الحكم
الشامل لليل والنهار الذي يكون ظرف النفي.
وذلك للفرق بين المثال وأخبار الباب، فإن في المثال أعمية لا تضرب زيدا
لا يصلح إلا في طرف الحكم، وهذا بخلاف أخبار الباب فإن الموضوع فيها ليس
إلا المصلي إلى غير القبلة، وهذا الموضوع في الأخبار المتقدمة يكون أعم من
المتذكر في الوقت وفي خارجه، وفي الأخبار الآتية يكون أعم مما بين المغرب
والمشرق وغيره، كما أن الموضوع في الأول يكون خاصا في خصوص المصلي ما بين
المغرب والمشرق، وفي الثاني يكون خاصا في المتذكر في خارج الوقت، فالانصاف

(1) الحدائق الناضرة: ج 6 ص 437 من كتاب الصلاة.
(2) جواهر الكلام: ج 8 ص 26 من كتاب الصلاة.
194

أن النسبة بينهما كما ذكره في الحدائق بالعموم من وجه.
إلا أنه مع ذلك لا بد من القول بعدم الإعادة مطلقا في الوقت وفي خارجه إذا
كانت الصلاة بين المغرب والمشرق، لقوله عليه السلام في عدة من الأخبار (1)
المتقدمة: إن ما بين المغرب والمشرق قبلة. وهذا يكون حاكما على الأخبار الآتية
ومفسرا لموضوعها وأن الصلاة إلى غير القبلة إنما هي الصلاة التي لم تكن بين
المغرب والمشرق لأن ما بينهما يكون قبلة، ومع هذه الحكومة لا مجال لملاحظة النسبة
وأنها تكون بالعموم من وجه.
وبالجملة: أن هذه الأخبار كما تكون حاكمة على قوله عليه السلام: لا تعاد
الصلاة إلا من خمس (2) وعد منها القبلة فإن هذه الأخبار توسع دائرة القبلة،
كذلك تكون حاكمة على قوله عليه السلام في الأخبار الآتية " من صلى إلى غير
القبلة " فلا محيص عن القول بعدم وجوب الإعادة مطلقا إذا كانت الصلاة بين
المشرق والمغرب.
الطائفة الثانية: من الأخبار هي الأخبار المفصلة بين التذكر في الوقت
فالإعادة وخارجه فلا إعادة.
كصحيح عبد الرحمن عن الصادق عليه السلام: إذا صليت وأنت على غير
القبلة واستبان لك أنك صليت وأنت على غير القبلة وأنت في وقت فأعد، وإن
فاتك الوقت فلا تعد (3).
وكخبر يعقوب بن يقطين قال: سألت عبدا صالحا عليه السلام عن رجل
صلى في يوم سحاب على غير القبلة، ثم طلعت الشمس وهو في وقت، أيعيد

(1) الوسائل: ج 3 ص 227 باب 9 من أبواب القبلة، ح 2 و ص 228 باب 10 و 2.
(2) الوسائل: ج 3 ص 227 باب 9 من أبواب القبلة، ج 1.
(3) الوسائل: ج 3 ص 229 باب 11 من أبواب القبلة، ح 1.
195

الصلاة إذا كان قد صلى على غير القبلة؟ وإن كان قد تحرى القبلة بجهده أتجزيه
صلاته؟ فقال: يعيد ما كان في الوقت، فإذا ذهب الوقت فلا إعادة (1).
وفي معناهما عدة من أخبار (2) أخر.
وهذه الأخبار وإن كانت مطلقة بالنسبة إلى ما كانت الصلاة بين المغرب
والمشرق وما وراء ذلك حتى الاستدبار، إلا أنه لا بد من تقييدها بغير ما كانت
بين المغرب والمشرق للأخبار المتقدمة، كما لا بد من تقييدها بغير صورة الاستدبار
لما يأتي من دلالة بعض الأخبار (3) على لزوم الإعادة عند الاستدبار مطلقا في
الوقت وفي خارجه.
الطائفة الثالثة: ما دلت على وجوب الإعادة مطلقا في صورة الاستدبار، ونحن
وإن لم نعثر على خبر يدل بالصراحة على ذلك سوى ما أرسله الشيخ قدس سره في
النهاية (4) من " أنه رويت رواية أن من صلى إلى استدبار القبلة ثم على بعد
خروج الوقت وجب عليه إعادة الصلاة. وهذا هو الأحوط وعليه العمل " وظاهر
قوله أخيرا " وعليه العمل " أن عمل الصحابة كان على ذلك لا عمل نفسه،
خصوصا بعد قوله " وهذا هو الأحوط ". إلا أنه يمكن الاستدلال على ذلك أيضا
بما دل من بطلان الصلاة عن الالتفات إلى ما وراء القبلة.
وبيان ذلك: هو أنه وإن كان بين هذه المسألة التي نحن فيها ومسألة
الالتفات التي تأتي في قواطع الصلاة إن شاء الله فرق، من جهة أن الالتفات إنما
اعتبر قاطعا للصلاة وذلك لا يكون إلا في أثناء الصلاة، وهذا بخلاف القبلة

(1) الوسائل: ج 3 ص 230 باب 11 من أبواب القبلة، ح 2.
(2) الوسائل: ج 3 ص 230 و 231 باب 11 من أبواب القبلة، ح 4 و 5 و 6 و 8 و 9.
(3) الوسائل: ج 3 ص 229 باب 10 من أبواب القبلة، ح 4 و ص 231 باب 11، ح 10.
(4) النهاية: ص 64.
196

حيث إنها اعتبرت شرطا في الصلاة، ولا بد من تحقق الشرط من ابتداء الصلاة
إلى آخرها، وبعبارة أخرى: الالتفات إنما يكون قاطعا للهيئة فاعتباره إنما يكون
في أكوان الصلاة من غير دخل له في أفعالها، والقبلة إنما تكون شرطا لأفعال
الصلاة، إلا أنه لو وقعت بعض أفعال الصلاة في أثنائها إلى غير القبلة يصدق
الالتفات أيضا، لأنه يكون حينئذ التفاتا وزيادة.
والحاصل: أنه يمكن أن يتحقق الالتفات القاطع من دون إخلال بما هو
الشرط في أفعال الصلاة من القبلة، كما إذا التفت إلى ما ورائه ثم رجع من دون
أن يأتي بشئ من أفعال الصلاة، ولكن لا يمكن العكس بأن يأتي بشئ من
أفعال الصلاة إلى دبر القبلة من دون أن يكون هناك التفات كما لا يخفى.
إذا عرفت ذلك فنقول: الاستدلال على بطلان الصلاة الواقعة على دبر القبلة
بالأخبار الدالة على بطلان الصلاة عند الالتفات إلى ما وراء القبلة في أثناء
الصلاة يتوقف على أمور:
الأول: أن أخبار الباب الدالة على أن من صلى إلى غير القبلة يعيد في الوقت
لا في خارجه تعم الناسي أيضا ولا تختص بالمجتهد المتحري كما قدمناه، وكذا
الأخبار الدالة على أن الالتفات مبطل تعم الناسي أيضا ولا تختص (1) بالعامد
الملتفت كما لا يخفى على من راجعها.

(1) بل يمكن أن يكون مساقها الاختصاص بصورة النسيان. لأن أخذ قيد الالتفات بلكه أو إلى الخلف كما في
بعض أخبار الالتفات إنما يناسب صورة النسيان ولا يعم العامد، إذ في صورة العمد لا يحتاج إلى الالتفات بالكل أو
الخلف بل تبطل الصلاة بأقل من ذلك، ونفس الأدلة الأولية الدالة على شرطية القبلة تكفي في بطلان الصلاة عند
التعمد ولا يحتاج إلى أخبار الالتفات، فأخبار الالتفات سؤالا وجوابا إنما تكون مسوقة لصورة النسيان كما لا يخفى.
ومن الغريب دعوى صاحب الجواهر * بأن المتيقن من أخبار الالتفات صورة العمد، فراجع وتأمل. " منه ".
* - جواهر الكلام: ج 8 ص 35.
197

الأمر الثاني: أنه لا إشكال في صدق الصلاة على غير القبلة فيما إذا وقعت
ركعتين أو ركعة منها إلى غير القبلة، ولا تختص بما إذا وقعت الصلاة من أولها إلى
آخرها إلى غير القبلة، فمن كبر إلى القبلة ثم أوقع باقي الصلاة إلى غير القبلة
يصدق أنه صلى إلى غير القبلة، وذلك واضح أيضا.
الأمر الثالث: أنه لا إشكال في أولوية الصلاة بتمام أجزائها إلى غير
القبلة بالبطلان من الصلاة الواقعة ركعتين منها مثلا إلى غير القبلة لو قام الدليل
على بطلانها كذلك، بداهة أنه لو كان وقوع بعض أفعال الصلاة إلى غير
القبلة موجبا لبطلانها لكان وقوعها بتمام أجزائها إلى غير القبلة أولى
بالبطلان.
الأمر الرابع: أنه لو قام الدليل على عدم بطلان الصلاة لو وقعت إلى ما بين
المغرب والمشرق، ولا تحتاج إلى الإعادة لا في الوقت ولا في خارجه، أو عدم القضاء
فقط لو وقعت إلى نفس النقطتين، فالالتفات إلى ما بين المغرب والمشرق يكون
أولى بعدم البطلان، وكذا الالتفات إلى نفس النقطتين يكون أولى بعدم القضاء،
لما عرفت من الملازمة بين وقوع الصلاة إلى غير القبلة مع تحقق الالتفات إلى غيرها
ولا عكس، فلو كانت الصلاة إلى ما بين المغرب والشرق صحيحة وغير موجبة
للإعادة والقضاء لكان الالتفات المجرد عن فعل الصلاتي إلى ما بين المغرب
والمشرق أولى بالصحة كما لا يخفى.
إذا عرفت هذه الأمور فاعلم أن في أخبار الباب وفي أخبار الالتفات
مطلقات ينبغي ملاحظتها وما يستفاد منها، أو مطلقات الباب فهي ما ذكرناه من
الطائفة الثانية الدالة على عدم وجوب القضاء لمن صلى على غير القبلة، فإنها تعم
صورة الاستدبار وعدمه، وأما مطلقات باب الالتفات فهي ما دلت على وجوب
الإعادة والقضاء. على من التفت إلى غير القبلة، كقول الصادق عليه السلام في
198

خبر أبي بصير: إن تكلمت أو صرفت وجهك عن القبلة فأعد (1). فإنها تعم صورة
الالتفات على وجه الاستدبار أو دون ذلك إلى طرف المغرب والمشرق وما بينهما، هذا.
ولكن بعد ما كان الصلاة إلى ما بين المغرب والمشرق غير موجب للإعادة
والقضاء، وكان الصلاة إلى نفس النقطتين غير موجب للقضاء فقط لكان اللازم
هو عدم وجوب الإعادة والقضاء لو التفت إلى ما بين المغرب والمشرق نسيانا،
لما عرفت من أن الصلاة إلى ما بينها يلازم الالتفات أيضا، فإذا لم تكن الصلاة إلى
ذلك موجبة للإعادة والقضاء فالالتفات الخالي عن فعل الصلاة بطريق أولى
يكون غير موجب لذلك، فلا يبقى في مطلقات باب الالتفات إلا صورة واحدة
وهي صورة الاستدبار، فتكون نصا في بطلان الصلاة عند الالتفات إلى
الاستدبار.
ولا يعارضه أخبار الباب الدالة على عدم وجوب القضاء عند الصلاة إلى غير
القبلة، لأن شمول هذه الأخبار للاستدبار إنما يكون بالاطلاق والظهور،
ومقتضى تحكيم النص على الظاهر هو حمل مطلقات الباب على غير صورة
الاستدبار وهو ما إذا كانت الصلاة على نفس النقطتين، فصورة الاستدبار تكون
خارجة عن تحت هذه المطلقات، وحينئذ يتم الاستدلال بأخبار باب الالتفات
لما نحن فيه من بطلان الصلاة في صورة الاستدبار لبعض المقدمات السابقة، لأنه
لو كان الالتفات إلى الاستدبار موجبا للبطلان فالصلاة إلى ذلك ولو في الأثناء
أولى بالبطلان، ولو كان الصلاة في الأثناء إلى دبر القبلة موجبا للبطلان فالصلاة
التامة الواقعة إلى دبر القبلة نسيانا أولى بالبطلان، وبعد ملاحظة المقدمات
السابقة لا محيص عن القول بذلك.

(1) الوسائل: ج 3 ص 227 باب 9 من أبواب القبلة، ح 4 مع اختلاف يسير.
199

نعم لو قلنا بأن أخبار الباب مختصة بصورة التحري والاجتهاد ولا تعم الناسي
كما اختاره صاحب الجواهر قدس سره لكانت أخبار الالتفات أجنبية عن
المقام ولا يمكن الاستدلال بها فيه، إلا أن دعوى اختصاصها بذلك مما لا وجه
لها، مع أن صاحب الجواهر (1) رحمه الله اعترف بأن الطائفة الأولى من أخبار
الباب الدالة على عدم وجوب الإعادة والقضاء لو وقعت الصلاة إلى ما بين
المغرب والمشرق تعم الناسي أيضا، وإنما قال بالاختصاص في خصوص الطائفة
الثانية، ولكن الانصاف أنه لم يظهر وجه للتفرقة بين الطائفتين، فتأمل (2).
وكذا لا يمكنهم الاستدلال بأخبار باب الالتفات لما نحن فيه، لو منعنا الأولوية
وأنه لا ملازمة بين بطلان الصلاة إلى دبر القبلة لو كان ذلك في الأثناء وبطلانها
لو وقعت من أول الأمر إلى دبر القبلة، أو قلنا بعدم صدق الصلاة إلى دبر القبلة
لو كان في الأثناء، أو قلنا بأن أخبار الالتفات تختص بالعامد ولا تعم الناسي.
ولكن منع الملازمة بين الأول والأثناء وعدم صدق الصلاة إلى غير القبلة
لو كان ذلك في الأثناء واختصاص الالتفات بصورة العمد كل ذلك مشكل بل
لا سبيل إليه، فالأقوى القول ببطلان الصلاة لو وقعت إلى دبر القبلة، كما عليه
عمل الأصحاب حسب ما يستفاد من عبارة الشيخ (3) رحمه الله المتقدمة في ذيل
المرسل الذي حكاه، فتأمل فيما ذكرناه فإن الاستدلال بأخبار الالتفات لما نحن
فيه لا يخلو من إعمال لطف.

(1) جواهر الكلام: ج 11 ص 42.
(2) سيأتي وجه التفرقة بين الطائفتين في آخر البحث فانتظر وراجع.
(3) النهاية: ص 64 وقد عدل شيخنا الأستاذ مد ظله عن هذا التقريب عند البحث في القواطع في مسألة قاطعية
الالتفات، وقوى في نظره عدم ثبوت المفهوم لصحيحة البزنطي *، وهذا التقريب مبني على ثبوت المفهوم فتأمل. " منه ".
* - الوسائل: ج 4 ص 1249 باب 3 من أبواب قواطع الصلاة، ح 8.
200

ويمكن تقريب الاستدلال بوجه آخر، وهو أنه في أخبار باب الالتفات
ما يكون أخص من مطلقات هذا الباب، وهو صحيح البزنطي: سألت الرضا
عليه السلام عن الرجل يلتفت في صلاته هل يقطع ذلك صلاته؟ قال: إذا
كانت الفريضة والتفت إلى خلفه فقد قطع صلاته، فيعيد ما صلى ولا يعتد به (1)،
الخبر. وفي معناه رواية أخرى.
وجه كون ذلك أخص من مطلقات الباب واضح، فإن قوله عليه السلام
" من صلى إلى غير القبلة يعيد في الوقت لا في خارجه " (2) يعم صورة الاستدبار
وغيرها، وما في صحيح البزنطي في أخبار الالتفات مختص بصورة الاستدبار
كما هو الظاهر من الخلف، فتكون النسبة بينهما أعم أخص مطلقا.
ولا يتوهم أن صحيح البزنطي أعم من جهة التذكر في الوقت وفي خارجه
فتكون النسبة بينهما بالعموم من وجه. وذلك لأن الإعادة عند التذكر في الوقت
مما اتفق عليه كلتا الطائفتين من أخبار الباب وصحيح البزنطي، فلا تعارض
بينهما بالنسبة إلى ذلك، وإنما التعارض في صورة التذكر في خارج الوقت، فإن
صحيح البزنطي يوجب القضاء عند الالتفات إلى خصوص الاستدبار، وأخبار
الباب تنفي القضاء عند الاستدبار أيضا لكن بالعموم الشامل له ولغيره، فتكون
النسبة أعم مطلقا لا من وجه.
وحينئذ لا بد من تقييد أخبار الباب بما في صحيح البزنطي، وخروج صورة
الصلاة على وجه الاستدبار عن تحت قوله عليه السلام " من صلى إلى غير القبلة "
وذلك بعد ما تقدم من أولوية بطلان الصلاة على وجه الاستدبار من البطلان عند

(1) الوسائل: ج 4 ص 1249 باب 3 من أبواب قواطع الصلاة، ح 8.
(2) الوسائل: ج 3 ص 229 باب 11 من أبواب القبلة، نقلا بالمضمون.
201

الالتفات إلى الخلف الخالي عن الصلاة واضح لا شبهة فيه، فإذا خرجت صورة
الاستدبار عن عموم قوله " من صلى على غير القبلة، وخرجت صورة الصلاة إلى
ما بين المغرب والمشرق عن عمومه أيضا بما تقدم من الأخبار (1) الدالة على أن ما بين
المشرق والمغرب قبلة، فلا يبقى حينئذ تحت قوله عليه السلام " من صلى إلى غير
القبلة " إلا صورة واحدة وهي الصلاة إلى نفس النقطتين وما يلحق بذلك على
ما يأتي بيانه.
وتكون النسبة حينئذ بين أخبار الباب مع مطلقات باب الالتفات بالأعم
المطلق، لأن قوله عليه السلام في الخبر المتقدم " إن تكلمت أو صرفت وجهك عن
القبلة فأعد " (2) يعم صورة الاستدبار وغيره، وهذا بخلاف أخبار الباب فإنها بعد
التخصيص بما عرفت تكون مختصة بصورة الصلاة إلى نفس النقطتين وما يلحق
بذلك، فتكون النسبة بينهما بالأعم المطلق، وإن كان قبل تخصيص أخبار الباب
بما عرفت تكون النسبة بالعموم من وجه، ولكن بالتخصيص تنقلب النسبة، فلا بد
من حمل مطلقات باب الالتفات الدالة في فساد الصلاة عند الالتفات بغير
صورة الالتفات إلى النقطتين، لما تقدم أيضا من أن الصلاة إلى ذلك لو كان غير
موجب للقضاء، فالالتفات لا يكون موجبا له بالأولوية القطعية.
وعلى كل حال لا بد في الاستدلال بأخبار الالتفات لما نحن فيه من شمول
قوله عليه السلام " من صلى إلى غير القبلة " لصورة النسيان وعدم اختصاصه
بالمتحري، فإنه لولا ذلك لكان باب الالتفات أجنبيا عن المقام كما تقدم في
شمول قوله عليه السلام: " من صلى إلى غير القبلة " لصورة النسيان نوع خفاء،

(1) الوسائل: ج 3 ص 228 باب 10 من أبواب القبلة، ح 1 و 2.
(2) الوسائل: ج 3 ص 227 باب 9 من أبواب القبلة، ح 4.
202

لأن نسبة قوله عليه السلام: " من صلى إلى غير القبلة " مع قوله عليه السلام
" لا تعاد الصلاة إلا من خمس ومنها القبلة " (1) إنما تكون بالعموم من وجه، وذلك
لأن " لا تعاد الصلاة إلا من خمس " مقصور بصورة النسيان كما يأتي بيانه
إن شاء الله في باب الخلل، لأن عقد المستثنى منه وهو عدم الإعادة في غير الخمس إنما
يكون مختصا بمورد النسيان ولا يعم العامد وغيره، فيكون عقد المستثنى وهو الإعادة
من الخمس أيضا مقصورا بصورة النسيان.
وهذا لا ينافي وجوب الإعادة في الخمس في غير صورة النسيان أيضا، لأن
كون الحكم كذلك خارجا لا يلازم أعمية عقد المستثنى لغير صورة النسيان، فإن
المستثنى تابع للمستثنى منه، فإذا كان المستثنى منه مختصا بصورة النسيان فيكون
المستثنى أيضا كذلك.
وعليه تكون النسبة بين حديث " لا تعاد " وبين قوله " من صلى إلى غير
القبلة " بالعموم من وجه، فإن الموضوع في " لا تعاد " وإن كان يشمل صورة
وقوع الصلاة على نفس النقطتين وعلى الاستدبار وعلى ما بين المغرب والمشرق
ولكن يختص بصورة النسيان، وهذا بخلاف قوله عليه السلام " من صلى إلى غير
القبلة " فإنه وإن كان مختصا بصورة وقوع الصلاة إلى نفس النقطتين وما بحكمه
حسبما تقدم إلا أنه أعم من جهة النسيان وغيره من الغافل والمتحري فتكون
النسبة بالعموم من وجه، وكما يمكن تخصيص حديث " لا تعاد " بغير صورة
الصلاة إلى النقطتين كذلك يمكن تخصيص قوله " من صلى إلى غير القبلة " بغير
صورة النسيان.
ولعله إلى هذا كان نظر صاحب الجواهر (2) رحمه الله حيث ذهب إلى عدم

(1) الوسائل: ج 3 ص 227 باب 9 من أبواب القبلة، ح 1.
(2) جواهر الكلام: ج 8 ص 35.
203

شمول قوله " من صلى إلى غير القبلة " لصورة النسيان وكونه مختصا بالمتحري،
وهذا بخلاف قوله " ما بين المغرب والمشرق قبلة " فإنه وإن كان النسبة بينه وبين
حديث " لا تعاد " بالعموم من وجه أيضا إلا أنه حيث كان لسان " ما بين
المغرب والمشرق قبلة " لسان الحكومة يقدم على حديث " لا تعاد " ولا تلاحظ
النسبة وهذا بخلاف " من صلى إلى غير القبلة " فإنه لا يكون حاكما على حديث
" لا تعاد " بل معارضا له بالنسبة إلى خارج الوقت، وأما في الوقت فلا تعارض
بينهما لاتفاقهما على وجوب الإعادة فيه، هذا.
ولكن مع كون النسبة بينهما بالعموم من وجه يمكن أن يقال بأظهرية قوله
" من صلى إلى غير القبلة " في شموله لصورة النسيان من شمول " لا تعاد " إلى
الصلاة إلى النقطتين وما بحكمه.
وبيان ذلك: هو أنه ليس المستفاد من عقد المستثنى في حديث " لا تعاد " إلا
قضية جزئية وهو إعادة الصلاة من القبلة في الجملة، وليس لها إطلاق بالنسبة
إلى جميع الأحوال، بداهة أن حديث " لا تعاد " إنما سيق لبيان حكم المستثنى منه
وهو عدم إعادة الصلاة من غير الخمسة، ولم يرد لبيان حكم الإعادة من الخمسة،
فلا يمكن أن يقال: إن فوات كل واحد من الخمسة موجب لبطلان الصلاة
مطلقا، بل المستفاد منه ليس إلا البطلان في الجملة، لأن رفع السلب الكلي
الذي دل عليه عقد المستثنى منه إنما يصدق بالايجاب الجزئي الذي هو مفاد عقد
المستثنى، فالقول ببطلان الصلاة مطلقا وفي جميع الأحوال لا يستفاد من حديث
" لا تعاد " إلا بمعونة مقدمات أخر من أن الايجاب الجزئي في قوة الاهمال،
وخروج عقد المستثنى عن الفائدة مع كون المتكلم بصدد البيان، وغير ذلك من
مقدمات الحكمة.
وهذا بخلاف الاطلاق المستفاد من قوله " من صلى إلى غير القبلة " فإن
204

الاطلاق وشمول النسيان إنما يستفاد من نفس القضية، لأن الصلاة إلى غير
القبلة نسيانا ليس بمثابة يكون اللفظ منصرفا عنه.
وبالجملة: الانصاف أن إطلاق قوله عليه السلام " من صلى إلى غير القبلة "
وشموله لصورة النسيان يكون أقوى من إطلاق حديث " لا تعاد " وشموله لبطلان
الصلاة على نفس النقطتين.
بل قد عرفت أنه لا إطلاق في عقد المستثنى في حديث " لا تعاد " بل هو نظير
المفهوم المستفاد من قوله عليه السلام " إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شئ " (1)
فإن مفهومه ليس إلا أن الماء إذا لم يبلغ قدر كر ينجسه شئ، ولا يستفاد منه
أنه ينجسه كل شئ إلا بضم مقدمات أخر من الخارج، وليس ذلك إلا لأجل
أن القضية لم تسق إلا لبيان مطهرية الكر ولم تسق لبيان نجاسة غيره، فتأمل فإن
المقام لا يسع زيادة على ذلك من الكلام.
بقي الكلام في معنى الاستدبار الموجب لبطلان الصلاة مطلقا في الوقت وفي
خارجه. والظاهر أن يكون المراد منه مقدار ثلث الدائرة الذي يكون مقابلا للثلث
الذي تكون القبلة فيه، بحيث، لو قسمنا الدائرة التي يكون المصلي فيها إلى ثلاثة
أثلاث يكون ثلث منها بطرف القبلة وما بحكمها مما بين المغرب والمشرق الذي
تصح الصلاة فيه وغير موجب للإعادة والقضاء، ويكون ثلث آخر منها في طرف
المغرب والمشرق (سدس للمغرب وسدس للمشرق) والثلث الآخر يكون في دبر
القبلة.
وبالجملة: دائرة الاستدبار تكون أوسع من دائرة الاستقبال، فإن المعتبر في
الاستقبال إنما هو ما بين الجبينين على ما تقدم تفصيله وهذا يكون قريبا من عشر

(1) الوسائل: ج 1 ص 117 باب 9 من أبواب الماء المطلق، ج 1 و 2 و 6 وفيه: إذا كان الماء.. إلخ.
205

الدائرة، وأما الاستدبار فالمعتبر منه هو الخلف وما بين الكتفين، وهذا يكون قريبا
من ثلث الدائرة، إذ الظاهر صدق الاستدبار والخلف إلى هذا المقدار، فتأمل
جيدا.
هذا كله لو ظهر الخطأ بعد إتمام الصلاة.
وأما لو ظهر في الأثناء فلو كان ما بين المغرب والمشرق استقام والاستئناف،
ولو كان إلى نفس النقطتين فإن تذكر في خارج الوقت، بأن كانت صلاته في
آخر الوقت بحيث لم يدرك منه إلا ركعة، وفي الركعة الثانية التي وقعت في خارج
الوقت تذكر أنه أخطأ في القبلة، وكانت صلاته إلى نفس النقطتين فكذلك أيضا
استقام بلا استئناف، لأن تذكره كان في خارج الوقت الذي لا يوجب القضاء
إذا وقعت الصلاة بتمامها إلى نفس النقطتين، فعدم وجوب القضاء لو وقعت
ركعة منها كذلك يكون أولى.
ولو تذكر في الوقت فالظاهر وجوب الاستئناف، لأن التذكر في الوقت
موجب للإعادة إذا كان بعد الصلاة فكذلك لو كان في الأثناء، لأن ما هو شرط
الكل شرط للبعض أيضا، فتأمل.
ولو كان إلى دبر القبلة فالظاهر أيضا وجوب الاستئناف مطلقا في الوقت وفي
خارجه، لأن ما هو المبطل للكل مبطل للبعض أيضا، مضافا إلى دلالة بعض
الروايات عليه.
بقي الكلام في بعض الفروع التي تعرض لها في الشرائع، والظاهر أنه لا ثمرة مهمة
في ذكرها، فالأولى عطف عنان الكلام إلى ما هو الشرط الثالث في الصلاة وهو الساتر
وحيث كان البحث عن الساتر يشتمل على أمور مهمة أفردنا بجزء مستقل، فراجع.
206

[البحث الثالث]
لباس المصلي وبحث المكان
القول في لباس المصلي:
ويعتبر فيه أمور:
الأول:
أن لا يكون من جلد الميتة وغيره من سائر أجزائها سواء دبغ أولا، وسواء
كان مأكولة اللحم أولا، وسواء كانت مما لها نفس سائلة أولا، كل ذلك
لاطلاق الأدلة على تأمل في الأخير يأتي الإشارة إليه إن شاء الله. واعتبار ذلك في
اللباس مما انعقد عليه الاجماع ظاهرا واستفاضت به النصوص فلا كلام فيه،
ولكن يقع الكلام في مقامين:
الأول:
في بيان الحال عند الشك في كون الجلد جلد ميتة، وأنه هل يجوز الصلاة فيه
أولا. ربما يقال بابتناء المسألة على كون التذكية شرطا أو الموت مانعا، فإن قلنا
بالأول فلا بد من إحرازها ولا يجوز عند الشك فيها، كما هو الشأن في كل
ما اعتبر شرطا، ولو قلنا بالثاني فيمكن دفعه بالأصل عند الشك في تحققه، كما هو
الشأن أيضا في كل ما اعتبر مانعا، هذا.
207

ولكن الظاهر عدم ابتناء المسألة بذلك، وأنه لا يجوز الصلاة في المشكوك
مطلقا سواء قلنا بشرطية التذكية أو مانعية الموت، لأن الأصل عند الشك هو عدم
التذكية ومعه لا يبقى مجال لدفع المانع بالأصل.
نعم لو منع عن جريان أصالة عدم التذكية كما نسب ذلك إلى الفاضل
التوني قدس سره (1) لكان ابتناء المسألة على شرطية التذكية أو مانعية الموت في
محله، إلا أنه لا سبيل إلى المنع عن ذلك. وما ذكره الفاضل التوني قدس سره في
وجه المنع على ما حكاه الشيخ قدس سره (2) في تنبيهات الاستصحاب عند بيان
أقسام الاستصحاب الكلي يرجع إلى أحد وجهين كل منهما لا يخلو عن نظر.
أما الوجه الأول فحاصله: أن ما هو الموضوع في الأدلة وما أخذ مانعا عن جواز
الصلاة ليس إلا الموت حتف الأنف الذي يكون ضدا وجوديا للتذكية،
وبأصالة عدم التذكية لا يمكن إثبات الموت حتف الأنف، لأنه يكون إثباتا لأحد
الضدين الوجوديين بنفي الآخر.
الوجه الثاني: هو أن عدم التذكية في حال حياة الحيوان أمر مغاير لعدم
التذكية في حال موته، والذي ينفع هو عدم التذكية في حال الموت، وهذا العدم
لم يكن له حالة سابقة حتى يستصحب فهو مشكوك الحدوث، والعدم الثابت في
حال الحياة لم يؤخذ مانعا حتى يستصحب، مع أنه قطعي الارتفاع لأن المفروض
عدم حياة الحيوان.
والحاصل: أن عدم التذكية من اللوازم الأعم للحيوان من حال حياته ومن
حال مماته، وما هو المانع عن الصلاة هو العدم المقارن للموت لا العدم في حال

(1) الوافية: ص 91، س 13 القسم السادس من الشرط الرابع للعمل بالاستصحاب.
(2) فرائد الأصول: ص 641 التنبيه الأول.
208

الحياة، فاستصحاب عدم التذكية الثابت في حال حياة الحيوان لا ينفع في إثبات
عدم التذكية في حال موت الحيوان الذي يكون هو المانع.
وهذان الوجهان وإن لم يصرح بهما في كلامه، إلا أنه يمكن التطبيق كلامه
عليه، فراجع. وعلى كل حال ما يمكن أن يكون مانعا عن جريان أصالة عدم
التذكية في المشكوك هو هذان الوجهان.
ولكن لا يخفى عليك ما في كلا الوجهين من النظر.
أما الوجه الأول ففيه: أنه لم يؤخذ في شئ من الأدلة الموت حتف الأنف
موضوعا للنجاسة ولا اعتبر مانعا عن الصلاة، بل الموضوع للنجاسة والحرمة والمانع
عن الصلاة هو الميتة، وهي عبارة عن عدم التذكية وعدم ورود فعل الذابح على الحيوان.
والحاصل: أنه ليس التقابل بين التذكية والميتة تقابل التضاد، بل التذكية
هي أمر شرعي يعتبر في تحققها أمور من الذبح بالحديد وفري الأوداج والتسمية
والاستقبال، فإذا انتفى أحد هذه الأمور يكون الحيوان ميتة، بداهة أنه لو انتفى
أحد هذه الأمور لا يكون الحيوان مذكى وإلا خرج الشرط عن كونه شرطا، وإذا
لم يكن مذكى فلا بد من أن يكون ميتة إذ لا واسطة بينهما.
مع أن في بعض الأدلة رتب الحلية والطهارة وجواز الصلاة على نفس
التذكية، كقوله تعالى: إلا ما ذكيتم (1)، وقوله عليه السلام في ذيل موثقة ابن بكير الآتية
" إذا كان ذكيا ذكاه الذابح " وغير ذلك، فبانتفاء التذكية تنتفي هذه الأحكام
كما دل عليه قوله تعالى: ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه (2)، ولا فرق في
انتفاء التذكية بين العلم به أو قيام طريق معتبر عليه ولو كان أصلا. وليس
المقصود من أصالة عدم التذكية إثبات الموت حتف الأنف حتى يقال: إنه

(1) المائدة: الآية 3.
(2) الأنعام: الآية 121.
209

لا يمكن إثبات أحد الضدين بنفي الآخر، بل المقصود هو مجرد عدم ورود التذكية
على الحيوان، وهذا بنفسه كاف في إثبات النجاسة والحرمة وعدم جواز الصلاة في
جلده. فظهر أنه لا مانع من جريان أصالة عدم التذكية عند الشك فيها، ولا حاجة
إلى إثبات الموت حتف الأنف.
وأما الوجه الثاني ففيه: أن التذكية لو كانت عبارة عن فعل الذابح وما هو
الصادر عنه، من دون اعتبار قابلية المحل فيها جزء أو شرطا على ما سيأتي بيانه
فعند الشك في تحققها تكون مسبوقة بالعدم، بداهة أن فعل الذابح أمر حادث
مسبوق بالعدم الأزلي، وهذا العدم الأزلي مستمر من قبل وجود الحيوان إلى زمان
تحقق موته وإزهاق الروح عنه، غايته أن عدم التذكية قبل وجود الحيوان يكون
عدما محموليا منتف بانتفاء موضوعه وهو الحيوان، وبعد وجود الحيوان يكون
عدما نعتيا وهو عدم تذكية هذا الحيوان الموجود، وهذا العدم النعتي مستمر إلى
زمان زهوق الروح عنه وبعده، من دون أن ينقلب ذلك العدم الثابت في حال
الحياة إلى عدم آخر في حال الممات بل هو هو، غاية الأمر أن عدم التذكية
الثابت في حال حياة الحيوان لم يكن موضوعا لأثر شرعي، لأن موضوع الحرمة
والنجاسة وعدم جواز الصلاة مركب من أمرين: زهوق الروح مع عدم التذكية،
فعدم التذكية في حال الحياة لم يكن لها أثر، ولكن بقاء ذلك العدم إلى تحقق
الجزء الآخر الذي هو عبارة عن زهاق الروح يكون ذا أثر شرعي من النجاسة
والحرمة وعدم جواز الصلاة في جلده، والمفروض تحقق زهوق الروح وجدانا
فيستصحب عدم التذكية الثابتة في حال الحياة إلى زمان زهوق الروح ويلتئم
حينئذ كلا جزئي المركب الذي يكون موضوعا للنجاسة وغيرها من الأحكام،
غايته أن أحد جزئي المركب يكون محرزا بالوجدان والجزء الآخر بالأصل.
وحاصل الكلام: أن معروض التذكية التي هي عبارة عن فعل الذابح إنما
210

هو الجسم، وهذا الجسم في حال الحياة لم يكن مذكى ولم يرد عليه فعل الذابح
بالعدم النعتي فيستصحب إلى زمان زهوق الروح، والأثر في المقام مترتب على
نفس هذا العدم النعتي المستمر، وليست حياة الحيوان من مقومات هذا العدم
وقيدا للموضوع حتى يقال بتبدل ذلك العدم إلى عدم آخر لانقلاب الموضوع
وفوات الحياة عن الحيوان، بل ليست الحياة إلا من حالات الموضوع الذي عبر
عنها الشيخ قدس سره بالوجودات المقارنة، والموضع هو الجسم الثابت في كلا
الحالين، فلا الموضع تبدل ولا العدم انقلب.
فالانصاف أنه لو قلنا: إن التذكية هي عبارة عن فعل الذابح فقط من دون
أخذ قابلية المحل جزء لها، بل هي شرط آخر للنجاسة وغيرها من الأحكام مغايرة
للتذكية، فلا مجال للمنع عن جريان أصالة عدم التذكية عند الشك فيها، وكذا لو
قلنا: إن قابلية المحل داخل في التذكية وجزء لها ولكن كان المشكوك من
الحيوانات القابلة للتذكية بأن لا يكون من الحشرات بناء على أن كل حيوان
قابل للتذكية سوى الحشرات أو لم يكن من المسوخ أيضا بناء على أنه لا يقبل
التذكية أيضا.
وبالجملة لسنا في مقام تنقيح الضابط بين ما يقبل التذكية وما لا يقبل، بل
هو موكول إلى محله، وإن كان لا يبعد القول بأن كل حيوان قابل للتذكية [سوى] (1)
الحشرات، وعلى كل حال بعد إحراز قابلية المحل كما هو مفروض الكلام تكون
أصالة عدم التذكية جارية عند الشك فيها، سواء قلنا بأن قابلية المحل جزء
للتذكية أو لم نقل.
نعم لو قلنا بأن قابلية المحل جزء أو شرط لتحقق التذكية وإن لم يمكن القول

(1) ما بين المعقوفتين لم توجد في النسخة وأثبتناه لاقتضاء السياق.
211

بذلك لأن التذكية تعرض المحل القابل فلا يمكن أخذ القابلية في مفهومها لما كان
لأصالة عدم التذكية مجال أصلا عند الشك في قابلية المحل لها ولو فرض العلم
بتحقق ما هو فعل الذابح، لأن فعل الذابح بنفسه على هذا القول لم يكن تذكية،
بل هي مركب من فعله ومن قابلية المحل، وقابلية المحل ليست لها حالة سابقة
حتى تستصحب، فإن الحيوان إما أن يوجد قابلا للتذكية وإما أن يوجد غير
قابل، فلا مجرى لأصالة عدم التذكية حينئذ كما لا يخفى، هذا.
ولكن حتى على هذا القول لو شك في ورود فعل الذابح على الحيوان
المشكوك القابلية لكان أصالة عدم التذكية تجري أيضا، لأنه بناء على هذا القول
تكون التذكية معنى حاصلا من فعل الذابح ومن قابلية المحل، وهذا المعنى البسيط
الحاصل من ذلك مقطوع العدم عن هذا الجسم في حال حياته فيستصحب إلى
حال الممات.
والحاصل: أن نفس قابلية الحيوان للتذكية وإن لم يكن لها سابقة إلا بالعدم
المحمولي الثابت قبل وجود الحيوان، إلا أن التذكية الحاصلة منها ومن فعل الذابح
يكون مسبوقا بالعدم في حال حياة الحيوان، فتجري أصالة عدم التذكية
عند الشك في حصولها، فانقدح أنه عند الشك في تذكية الحيوان تكون أصالة عدم
التذكية محكمة، من غير فرق بين أن نقول: إن التذكية عبارة عن نفس فعل
الذابح وكان قابلية المحل شيئا آخر معتبرا في تأثير التذكية للطهارة والحلية، أو
نقول: إن التذكية هي عبارة عن معنى بسيط منتزع عن مجموع الأمرين، وإنما
تظهر الثمرة بين القولين فيما إذا علم بتحقق ما هو فعل الذابح، فإنه بناء على أن
التذكية عبارة عن نفس فعل الذابح فالتذكية تحققت قطعا ويرجع إلى قابلية
المحل عند الشك فيها إلى أصالة الحل والطهارة سواء كانت الشبهة حكمية أو
موضوعية، وأما بناء على القول الآخر فأصل التذكية مشكوكة، فتأمل جيدا.
212

وعلى كل حال قد ظهر مما حققناه أنه عند الشك في التذكية لا مانع من
جريان أصالة العدم، وعليه لا تظهر الثمرة بين شرطية التذكية أو مانعية الموت،
فلا حاجة في إتعاب النفس لاثبات أحد الأمرين، وإن كان القول بمانعية الموت
لا يخلو عن قوة، لظاهر النواهي الدالة على المنع عن الصلاة في أجزاء الميتة، فإن
النهي المتعلق بأجزاء العبادة وشرائطها ظاهر في المانعية لا الحرمة التكليفية، كما
أن الأمر المتعلق بها ظاهر في الجزئية والشرطية لا الوجوب النفسي.
وما قيل من أن الظاهر من قوله عليه السلام في صحيحة ابن بكير (1) " وإن
كان مما يؤكل لحمه فالصلاة في وبره وشعره وبوله وألبانه وكل شئ منه جائزة
إذا علمت أنه ذكي قد ذكاه الذابح " وقوله عليه السلام في خبر أبي حمزة " لا تصل
فيها إلا ما كان ذكيا " (2) هو شرطية التذكية لا مانعية الموت، فيمكن منعه لاحتمال
أن يكون المراد بالذكي عدم الميتة، والتعبير بالذكي من باب أنه إذا لم يكن ميتة
فلا محالة يكون ذكيا لانتفاء الواسطة، فتأمل جيدا.
المقام الثاني:
بعدما تبين أن المرجع عند الشك في التذكية هو أصالة العدم، فيقع الكلام
في بيان ما هو المخرج عن هذا الأصل، وهو أحد أمور:
الأول: المأخوذ من المسلم، فإن يد المسلم قد جعلها الشارع أمارة على
التذكية، سواء أخبر ذو اليد بها أو لم يخبر.
ومما يدل على اعتبار يد المسلم ما رواه إسماعيل بن عيسى قال: سألت

(1) الوسائل: ج 3 ص 250 باب 2 من أبواب لباس المصلي، ح 1.
(2) وسائل الشيعة: ج 3 ص 251 باب 2 من أبواب المصلي، ح 6.
213

أبا الحسن عليه السلام عن جلود الفراء يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجبل،
أيسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلما غير عارف؟ قال عليه السلام: عليكم أنتم
أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين. يبيعون ذلك، وإذا رأيتم يصلون فيه فلا تسألوا عنه (1).
وهذه الرواية كما ترى كالصريحة في اعتبار يد المسلم، وما ربما يظهر منها
من اعتبار أمر زائد على اليد، من استعمال المسلم له كالصلاة فيه، فالظاهر أنه
غير معتبر عند الأصحاب.
الأمر الثاني: الاشتراء من سوق المسلمين وإن لمى يعلم إسلام البائع، ولكن
بشرط عدم العلم بكفره بأن كان مجهول الحال، كما سيأتي والذي يدل على
اعتبار سوق المسلمين ما رواه أبو نصير عن الرضا عليه السلام قال: سألته عن
الخفاف يأتي السوق فيشتري الخف لا يدري أذكي هو أم لا، ما تقول في الصلاة
فيه وهو لا يدري أيصلي فيه؟ قال عليه السلام: نعم أنا أشتري الخف من السوق
ويصنع لي وأصلي فيه وليس عليكم المسألة (2).
وإطلاق هذه الرواية تدل على اعتبار السوق وإن لم يعلم إسلام البائع،
ولا يمكن دعوى انصرافه إلى ما كان البائع مسلما لغلبة وجود أهل الذمة في سوق
المسلمين في ذلك الزمان، فدعوى الانصراف مما لا وجه له.
الأمر الثالث: ما إذا كان الجلد أو غيره من أجزاء الحيوان مطروحا في أرض
الاسلام.
وقد استدل على اعتبار ذلك بما رواه السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام أن
أمير المؤمنين عليه السلام سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة لكثير لحمها
وخبزها وجبنها وبيضها وفيها سكين، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: يقوم ما فيها

(1) الفقيه: ج 1 ص 258 باب لباس المصلي، ح 792 وفيه " رأيتموهم يصلون " طبع جامعة المدرسين بقم.
(2) الوسائل: ج 2 ص 1072 باب 50 من أبواب النجاسات، ح 6 وفيه أحمد بن محمد بن أبي نصر.
214

ثم يؤكل لأنه يفسد وليس له بقاء، فإذا جاء طالبها غرموا له الثمن، قيل له:
يا أمير المؤمنين عليه السلام لا يدري سفرة مسلم أم سفرة مجوسي، فقال
عليه السلام: هم في سعة حتى يعلموا (1).
وربما يستدل عليه أيضا بما رواه عمار عن العبد الصالح عليه السلام أنه قال:
لا بأس بالصلاة في الفراء اليماني وفيما سنع في أرض الاسلام، قلت: فإن كان فيها
غير أهل الاسلام؟ قال عليه السلام: إذا كان الغالب عليها المسلمين فلا بأس (2).
والاستدلال بذلك على اعتبار المطروح في أرض الاسلام، بحيث يكون نفس
كونه في أرض الاسلام أمارة على التذكية قاطعة لأصالة العدم مشكل، وإن قال
به جماعة من الأساطين لكن بعد تقييده بما إذا كان عليه أثر الاستعمال، بأن
يكون على المطروح أثر يستفاد منه أنه كان مستعملا فيما لا يجوز استعماله على
تقدير كونه ميتة، كاللحم الموضوع في السفرة كما في الخبر المتقدم، حيث إنه
يستفاد من وضعه في السفرة أنه وضع فيها لأجل الأكل الذي لا يجوز على تقدير
كونه من ميتة، وهذا بخلاف الجلد المطروح في الأرض الذي لا يكون عليه أثر الاستعمال.
واستفادة هذا القيد إنما يكون من خبر السفرة، ولا بأس باستفادته إلا أن
الكلام في أصل اعتبار المطروح في أرض الاسلام من دون أن يكون في يدهم أو
سوقهم، فإن ما استدل به على اعتبار ذلك من الخبرين لا يخلو عن مناقشة.
أما خبر السفرة فالظاهر منه أنه ليس السؤال عن التذكية وعدمها، بل جهة
السؤال عن الطهارة والنجاسة، فإن الظاهر من قوله " لا يدري سفرة مسلم أو
سفرة مجوسي " هو أنه لا يعلم طهارة ما في السفرة ونجاستها، فأجاب عليه السلام:
بأنهم في سعة ما لا يعلمون، أي محكوم بالطهارة حتى يعلم خلافه، ولا يمكن

(1) الوسائل: ج 2 ص 1073 باب 50 من أبواب النجاسات، ح 11.
(2) الوسائل: ج 2 ص 1072 باب 50 من أبواب النجاسات، ح 5.
215

التمسك بإطلاق السؤال والجواب لصورة الشك في التذكية وعدمها، لأن السؤال
والجواب لم يسق لهذه الجهة، وعلى فرض التسليم فغايته أن يكون مفاد هذا الخبر
كمفاد المطلقات الآتية من الحكم بحلية ما لا يعلم كونه ميتة، وسيأتي أنه لا يمكن
الأخذ باطلاقها.
وبالجملة: دلالة هذا الخبر على أن نفس كون الشئ في أرض المسلمين مع
عدم العلم بسبق يد مسلم عليه أمارة شرعية، بحيث تكون قاطعة لأصالة عدم
التذكية مشكل.
وأما خبر عمار فهو أجنبي عما نحن فيه، فإن حلية ما صنع في أرص الاسلام
لا يلازم حلية المطروح في أرض الاسلام، بل الظاهر منه أن المصنوع في أرض
الاسلام من الفراء وغيره وإن كان فيها غير الاسلام يجوز استعماله والتصرف فيه
من الصلاة وغيرها، وهذا لا ينافي اعتبار أخذه من السوق أو من يد المسلم، بل
الظاهر من الخبر هو كون المصنوع في أرض الاسلام الذي يباع ويشترى في
أسواقهم يجوز الصلاة فيه وإن لم يعلم كون صانعه مسلما، فيكون مساق هذا الخبر
مساق الأخبار الدالة على اعتبار السوق، وأين هذا من الدلالة على اعتبار
المطروح في بلاد المسلمين.
والحاصل: أنه بعد لم يظهر لنا دليل يدل على أمارية الطرح في أرض الاسلام
في مقابل اليد والسوق، فالأقوى الاقتصار في مخالفة الأصل على اليد والسوق.
نعم هنا جملة من الأخبار يظهر منها أن كل ما لم يعلم كونه ميتة فهو محكوم
بالتذكية، وقد أخذ بإطلاقها بعض الأساطين، فلو تم هذا لكان ذلك تخصيصا
لحجية الاستصحاب، وتكون أصالة عدم التذكية ساقطة من أصلها ولو أخذ من
يد كافر فضلا عن الأخذ من مجهول الحال في غير سوق المسلمين، ولكن الكلام
في إطلاق هذه الروايات أولا، وفي إمكان الأخذ به ثانيا.
216

ولا بأس أولا بذكر بعض الأخبار، ثم نعقبه بما هو المستفاد منها.
ففي موثقة سماعة عن الصادق عليه السلام سألته عن تقليد السيف في
الصلاة فيه الفراء والكيمخت، فقال عليه السلام: لا بأس ما لم يعلم أنه ميتة (1).
وفي صحيحة الحلبي حدثني علي بن أبي حمزة رجلا سأل أبا عبد الله
عليه السلام وأنا عنده عن الرجل يتقلد السيف ويصلي فيه، قال: نعم، قال
الرجل: إن فيه الكيمخت، فقال: وما الكيمخت فقال: جلود الدواب منه
ما يكون ذكيا ومنه ما يكون ميتة، فقال عليه السلام: ما علمت أنه ميتة فلا تصل
فيه (2).
وفي رواية محمد بن يونس أن أباه كتب إلى أبي الحسن عليه السلام سأله عن
الفرو والخف ألبسه وأصلي فيه ولا أعلم أنه ذكي، فكتب عليه السلام: لا بأس به (3).
وفي معناها أخبار (4) أخر دلت بإطلاقها على الحكم بالتذكية ما لم يعلم أنه
ميتة، هذا.
ولكن الانصاف عدم إمكان التمسك بها.
أما أولا: فلأن الظاهر أن يكون جهة السؤال في جميع الأخبار الواردة في هذا
الباب هو أنه لما كان في زمن الأئمة أهل الذمة يبيعون ويشترون في أسواق
المسلمين، وكانت العامة تحل ذبائح أهل الكتاب ويعاملون معها معاملة ذبائح
المسلمين، وكذلك كانت تحل الميتة بالدبغ، وحيث كانت الشيعة كثير التردد

(1) الوسائل: ج 2 ص 1073 باب 50 من أبواب النجاسات، ح 12.
(2) الوسائل: ج 3 ص 332 باب 55 من أبواب لباس المصلي، ح 2.
(3) الفقيه: ج 1 ص 258 باب لباس المصلي، ح 793.
(4) الوسائل: ج 2 ص 1071 باب 50 من أبواب النجاسات، ح 2 وباب 61 من أبواب المصلي، ص 337،
ح 1 وباب 50 من أبواب النجاسات ص 1073، ح 11.
217

مع العامة ومخالطون لهم ويعاملون معهم في البيع والشراء، فمن أجل هذا أوجب
الضيق على الشيعة، حيث كانوا يدخلون السوق ويشترون ما لا يعلم أنه من ذبيحة
المسلم أو ذبيحة أهل الذمة، وكذا لم يعلم أنه ميتة دبغ أولا، فكثر السؤال من
الأئمة عليهم السلام، وأن هذه المعاملات التي تقع في الأسواق بيننا وبين العامة
مع ما هو المعلوم من طريقتهم كيف حالها، وأنه يجوز أن يعامل مع المأخوذ معاملة
المذكى أولا، فأجابوا عليهم السلام بعدم البأس، وأنه يعامل معه معاملة
المذكى.
فجميع ما صدر عنهم عليهم السلام جوابا في هذه الأخبار إنما سيق لبيان
حكم المعاملات الواقعة بين الشيعة وبين أهل السوق، وعليه لا يبقى مجال لتوهم
الاطلاق فيما دل على حلية ما لم يعلم كونه ميتة، بل هو منزل على ما كان متعارفا
في ذلك الزمان، ويكون مساقها مساق الأخبار الدالة على اعتبار اليد والسوق.
وأما ثانيا: فعلى فرض تسليم الاطلاق فلا بد من تقييده بما إذا لم يؤخذ من يد
الكافر، أو من يد مجهول الحال في غير سوق المسلمين، وذلك لصراحة بعض
الأخبار بوجوب السؤال والفحص عما أخذ من يد المشركين.
ففي خبر إسماعيل بن موسى عن أبيه سألت أبا الحسن عليه السلام عن جلود
الفراء يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجبل، أيسأل عن ذكاته إذا كان البائع
مسلما غير عارف؟ قال عليه السلام: عليكم أنتم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين
يبيعون ذلك (1).. إلخ. ومع هذا التصريح كيف يمكن الأخذ بإطلاق ما دل على
حلية ما لم يعلم كونه ميتة ولو أخذ من يد الكافر؟
فالانصاف أنه لا قاطع لأصالة عدم التذكية إلا يد المسلم أو سوق المسلمين

(1) الوسائل: ج 2 ص 1072 باب 50 من أبواب النجاسات، ح 7 وفيه. عن سعد عن أبيه إسماعيل بن عيسى.
218

ولو كان المأخوذ منه مجهول الحال، لاطلاق أدلة اعتبار السوق خرج منه ما إذا
علم كفر المأخوذ منه، فتأمل جيدا.
بقي في المقام أمور ينبغي التنبيه عليها.
الأول: في أنه هل يد الكافر أمارة على عدم التذكية كما كانت يد المسلم
أمارة على التذكية، أو أنه ليس يد الكافر أمارة على عدم التذكية، بل مجرد كونها
غير أمارة على التذكية ومما لا أثر لها وغير موجبة لرفع اليد عن أصالة عدم التذكية
الجارية في المشكوك؟
ربما قيل بأن يد الكافر أمارة على عدم التذكية كما أن يد المسلم أمارة على
التذكية. وقد استظهر ذلك من قوله عليه السلام في خبر إسماعيل (1) المتقدم " إذا
رأيتم المشركين يبيعون ذلك " ومن قوله عليه السلام في خبر عمار (2) المتقدم أيضا
" إذا صنع في أرض الاسلام ". وفي الاستظهار من ذلك نظر واضح كما لا يخفى.
والانصاف أنه لم يظهر من الأدلة من يستفاد منه أما رية يد الكافر على عدم
التذكية، بل غاية ما يستفاد منها عدم الأمارية في مقابل جعل أمارية يد المسلم.
ثم إن الثمرة بين القولين إنما تظهر فيما إذا اشتركا يد الكافر ويد المسلم في جلد
الحيوان أو غيره، فبناء على الأمارية يقع التعارض بين الأمارتين، ونحتاج في
ترجيح يد المسلم على يد الكافر إلى بعض الوجوه الاعتبارية، ككون يد المسلم
أقوى أمارة من يد الكافر، وغير ذلك من الوجوه التي لا دليل على اعتبارها، وأما
بناء على ما قلناه من عدم أمارية يد الكافر فلا تعارض في البين.
وربما قيل بظهور الثمرة أيضا فيما إذا سبقت يد الكافر على يد المسلم، فيقع

(1) الفقيه: ج 1 ص 258 باب لباس المصلي، ح 792.
(2) الظاهر أن المراد خبر إسحاق بن عمار المذكور في الوسائل: ج 2 ص 1072 باب 50 من أبواب النجاسات،
219

التعارض أيضا ويقدم يد المسلم للأقوائية واللحوق وغير ذلك، هذا. ولكن تمامية
هذه الثمرة موقوفة على كون يد المسلم أمارة على التذكية ولو مع العلم بسبقها بيد
الكافر، وسيأتي الاشكال في ذلك.
الأمر الثاني: في أن أمارية يد المسلم على التذكية هل مطلقة ولو مع العلم
بسبق يد الكافر عليه، أو أنها مقيدة بما إذا لم يعلم ذلك؟
فقول: ذهب بعض الأساطين إلى الأول، نظرا إلى إطلاق الأدلة الدالة على
اعتبار يد المسلم، كقوله عليه السلام في ذيل خبر إسماعيل (1) المتقدم " وإذا رأيتم
يصلون فيه فلا تسألوا عنه " حيث إن إطلاق ذلك يقتضي اعتبار يد المسلم ولو
مع العلم بأخذه من يد الكافر، هذا.
وقد استشكل شيخنا الأستاذ مد ظله في ذلك، ومال إلى عدم اعتبار يد
المسلم مع العلم بسبقها بيد الكافر إلا على وجه تأتي الإشارة إليه.
وحاصل ما أفاده مد ظله في وجه الاشكال يحتاج إلى تمهيد مقدمة، وهي
أن الأدلة المتكلفة لبيان الأحكام الشرعية تارة تكون على نحو القضايا الحقيقية
ومبينة للكبريات التي يتألف منها الأقيسة لاستنتاج الأحكام الجزئية، كقوله
عليه السلام " إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شئ " (2) وأمثال ذلك، وأخرى
تكون على نحو القضايا الخارجية، كما إذا سئل المعصوم عليه السلام عن فعل شئ
أو ترك شئ فأجاب عليه السلام بالبأس أو عدم البأس، فإن هذا لا يكون على
نحو الكبرى الكية، بل قضية خاصة وردت في مورد خاص، ومن هنا يعبر عنها
في كلمات الفقهاء بأنها قضية في واقعة.

(1) الفقيه: ج 1 ص 258 باب لباس المصلي، ح 792.
(2) الوسائل: ج 1 ص 117 باب 9 من أبواب الماء المطلق، ح 1.
220

وقد حققنا ذلك في مبحث " لا ضرر " وقلنا في ذلك المورد: إنه ليس كل
ما صدر عنهم عليهم السلام جوابا عن سؤال خاص يكون على نحو القضية
الخارجية، بل ربما يستفاد منه كبرى كلية، وقد حررنا الضابط بينهما على وجه
لا مزيد عليه.
والغرض في المقام مجرد بيان أن الجواب يمكن أن يكون على نحو القضية
الخارجية، كما أنه يمكن أن يكون على نحو الكبرى الكلية، فإن كان على نحو
الكبرى الكلية فلا إشكال في استفادة الاطلاق أو العموم منها لو كان في مقام
البيان، وأما إذا كان على نحو القضية الخارجية فلا يمكن استفادة الاطلاق منها
إلا بضميمة ترك الاستفصال في الموارد التي تكون محلا للاستفصال مع القطع
بعدم خصوصية المورد، فلو لم يكن المحل محلا للاستفصال، أو لم يحصل القطع بعدم
خصوصية المورد، لا يمكن استفادة الاطلاق من الجواب كما لا يخفى.
إذا عرفت هذا فنقول: إن غالب ما صدر عنهم عليهم السلام في هذا الباب
إنما هو جواب عما سألوا عنه الأصحاب مما كانوا مبتلين به من معاملتهم مع
أهل السوق الذي يكون فيهم من يستحل ذبائح أهل الذمة وطهارة الميتة بالدبغ،
ومن المعلوم أن في مثل هذا لا يمكن أن يتمسك بإطلاق الجواب، لأنه جواب عما
وقع في الخارج.
ولا يمكن القول بالاطلاق من باب ترك الاستفصال، لما عرفت من استفادة
الاطلاق من ترك الاستفصال إنما يكون في المحل القابل للاستفصال، ومن
المعلوم أن الصحابة في ذلك الزمان لم يكونوا مبتلين بما نحن مبتلون به الآن، من
حمل مال التجارة من الجلود وغيرها من بلاد الكفر إلى بلاد الاسلام، بحيث نعلم
أن ما وقع في يد المسلم إنما هو مسبوق بيد الكافر وحمل من بلاد الكفر إلى بلاد
الاسلام، وهذا المعنى لم يكن معهودا في ذلك الزمان، فليس المقام مقام ترك
221

الاستفصال، فلا يمكن القول بالاطلاق من هذه الجهة.
وكذلك لا يمكن القول بالاطلاق بدعوى القطع بعدم الفرق بين ما نحن مبتلون
به الآن من سبق يد الكافر على يد المسلم، وما كانوا مبتلين به في ذلك الزمان من
المعاملة مع من يستحل ذبيحة أهل الذمة، لأن المأخوذ في ذلك الزمان من يد
المسلم العارف أو غير العارف حيث لم يعلم كونه من ذبيحة أهل الذمة ولم يعلم
سبقه بيد الكافر، فجعل الشارع يد المسلم أمارة عن التذكية، وأين هذا من
المأخوذ في هذا الزمان مما يعلم سبقه بيد الكافر؟ فدعوى القطع بعدم الخصوصية
عهدتها على مدعيها.
والحاصل: أنه بعد ما كان الصادر عنهم عليهم السلام في هذا الباب إنما هو
جواب عن قضايا خارجية، ولم يرد في هذا الباب ما يكون كبرى كلية يستفاد منه
اعتبار يد المسلم على الاطلاق حتى لو كانت مسبوقة بيد الكافر، وقد عرفت أن
استفادة الاطلاق والكبرى الكلية من الجواب عن القضية الخارجية لا يمكن إلا
بترك الاستفصال مع القطع بعدم خصوصية للمورد، وكلاهما ممنوعان في مثل
المقام كما لا يخفى، فالأقوى عدم اعتبار يد المسلم إذا كانت مسبوقة بيد الكافر.
نعم لو احتمل احتمالا عقلائيا أن المسلم وإن أخذها من يد الكافر لكن بعد
تحقيقه الحال عن تذكية المأخوذ وعدمها لكان يده بضميمة أصالة الصحة في فعل
المسلم أمارة على التذكية، إلا أن هذا مما يقطع بعدمه في هذا الزمان، للقطع بأن
المسلمين في هذا الزمان يجلبون مال التجارة من بلاد الكفر من دون تحقيق للحال
والسؤال عن التذكية وعدمها.
هذا حاصل ما أفاده شيخنا الأستاذ في هذا المقام في وجه الاشكال في اعتبار
يد المسلم على الاطلاق، وقد عرفت أن الاشكال في ذلك إنما هو لأمرين: الأول:
عدم ابتلاء الصحابة في ذلك بما ابتلينا نحن الآن من حمل مال التجارة من بلاد
222

الكفر إلى بلاد الاسلام. الثاني: أن ما صدر عنهم جوابا في هذا الباب إنما يكون
على نحو القضايا الخارجية وليس لبيان الكبرى الكلية فتأمل جيدا فإن كلا
الأمرين لا يخلو عن تأمل وربما يمكن استفادة الاطلاق من قوله عليه السلام
ولولا ذلك لما قام للمسلمين سوق (1) فتأمل.
الأمر الثالث: هل يعتبر في أمارية يد المسلم أن يكون المسلم مستعملا للجلد
أو غيره فيما لا يجوز استعمال الميتة فيه كعرضه للبيع والشراء والصلاة فيه وأمثال ذلك،
أو أنه يكفي مجرد كونه في يده وتحت استيلائه وإن كان مطروحا في بيته أو
دكانه؟ وجهان مبنيان على أن أمارية يد المسلم على التذكية هل هي من باب
أماريتها على الملك وحيث إن الميتة لا تملك فيد المسلم كاشفة عن الملك الملازم
للتذكية، أو أن أماريتها من باب حمل فعل المسلم على الصحة، فلو قلنا بالأول
فنفس كون الجلد تحت يده وسلطانه يكفي في ترتيب آثار التذكية عليه، لأن
نفس الاستيلاء كاشف عن الملكية الملازمة للتذكية، وإن قلنا بالثاني فلا بد من
استعماله له على وجه لا يجوز الاستعمال لو كان ميتة حتى تجري قاعدة حمل فعل
المسلم على الصحة، بداهة أنه لا موضوع للقاعدة إلا في صورة الاستعمال،
فلا يكفي مجرد كونه في داره مع عدم استعماله له في ترتيب آثار التذكية عليه (2)

(1) الوسائل: ج 18 ص 215 باب 25 من أبواب كيفية الحكم، ح 2 نقلا بالمضمون.
(2) لا يقال: لا وجه لاعتبار قيد الاستعمال زائدا على الاستيلاء فإن نفس استيلاء المسلم على شئ أمارة على
الملكية والملكية تلازم التذكية ومثبتات الأمارة حجة فلا وجه لاعتبار الاستعمال.
فإنه يقال: يد المسلم إنما تكون أمارة على الملك فيما إذا أحرز قابلية ما في يده للتملك، فلو كان هناك في يده
شئ لم يعلم كونه ترابا غير قابل للتملك أو نحاسا قابلا له فمن مجرد كونه في يده لا يحكم كونه نحاسا، وكذا لو كان في
يده لحم لا يحكم كونه من مذكى ما لم يستعمله فيما يستعمل فيه الذكي، فالمخرج عن أصالة عدم التذكية ليست اليد
فقط بل هي مع الاستعمال، وهذا هو المتيقن من أدلة الباب، ومن هنا يعلم أن المبنى الأول من المبنيين الذي
ذكرناهما فاسد من أصله فتأمل " منه ".
223

والأقوى هو الوجه الثاني أي كون أماريتها من باب حمل فعل المسلم على
الصحة، لأن الظاهر من أدلة الباب سؤالا وجوابا هو ما إذا كان هناك استعمال
من المسلم على وجه ينافي كون ما في يده ميتة كالبيع والشراء وأمثال ذلك. ويدل
عليه قوله عليه السلام " وإذا رأيتم يصلون فيه فلا تسألوا عنه " (1) ومعلوم أن
الصلاة أخذت في المقام كناية عن مطلق الاستعمال على وجه ينافي كونه ميتة،
فمجرد ثبوت جلد أو لحم بيد المسلم مع احتمال أن يكون ذلك في يده من جهة
إرادة إعدامه لا استعماله لا يحكم عليه بالتذكية.
الأمر الرابع: لو كان الشئ مسبوقا بيد المسلم ولو كان الآن بيد الكافر كما
إذا اشتراه اليهودي من مسلم، فهل العبرة على اليد الفعلي ويحكم عليه بعدم
التذكية، إما من جهة أمارية يد الكافر عليها وإما من جهة اقتضاء الأصل ذلك
على الوجهين المتقدمين، أو أن العبرة على اليد السابق ويحكم عليه بالتذكية إما
مطلقا ولو قلنا بأمارية يد الكافر على عدم التذكية، وإما في خصوص ما إذا منعنا
عن ذلك وقلنا بأن الموجود في يد الكافر بعد باق على أصالة عدم التذكية من
دون أن تكون يده أمانة على العدم؟
والأقوى من هذه الوجوه هو الوسط أي كون العبرة على اليد السابقة ولا أثر
لليد الفعلي للكافر أصلا، أما لو قلنا بعدم كون يد الكافر أمارة على العدم
فواضح، فلأن المفروض ثبوت يد المسلم على هذا الشئ. وهي أمارة على
التذكية، ومجرد انتقاله إلى يد الكافر التي ليس هي أمارة على العدم لا يوجب
سلب الشئ عما كان محكوما به من التذكية بمقتضى يد المسلم، وكذلك الحال
لو قلنا بأمارية يد الكافر على عدم التذكية، بداهة أنه بعد ما كان الشئ بيد

(1) الفقيه: ج 1 ص 258 باب لباس المصلي، ح 792.
224

المسلم فقد حكم عليه بالتذكية، وما هو مذكى لا يمكن أن ينقلب إلى غير المذكي،
فلا يعامل معهما معاملة تعارض الأمارتين.
وليس المقام مثل تعارض أمارة الطهارة مع أمارة النجاسة، بداهة أن الظاهر
يمكن أن ينقلب إلى النجاسة والنجس ينقلب إلى الطهارة وكذلك الملك يخرج عن
الملكية، وهذا بخلاف المقام فإن المذكى لا يصير غير المذكى، فيد الكافر المسبوقة بيد
المسلم ساقطة عن الأمارية ولا أثر لها، فتأمل هذا في صورة سبق يد المسلم على يد
الكافر، وأما في صورة العكس فقيه الكلام المتقدم.
الأمر الخامس: في أن المنع عن الصلاة في الميتة هل يعم جميع أقسام الميتة مما
كان لها نفس سائلة أو لم يكن، أو يختص بما إذا كانت لها نفس سائلة؟ وبعبارة
أخرى: هل المنع عن الصلاة فيها من جهة نجاستها، أو أن المنع عنها من جهة
مانعية نفس الموت من دون دخل للنجاسة في ذلك، وإن اجتمعت الجهتان فيما
كان لها نفس سائلة؟ وجهان بل قولان.
الأقوى هو الأول أي مقصور بما إذا كان لها نفس سائلة، لما عرفت من أن
أغلب أخبار الباب إنما هي جوابا عن سؤالات خاصة في موارد خاصة كانت
الصحابة مبتلين بها من شراء الجلود والفراء وأمثال ذلك، ومعلوم أن مثل هذه
الأشياء لم يعهد صناعتها من الميتة التي ليس لها نفس سائلة، فلا إطلاق في الأدلة
تعم جميع أقسام الميتة.
وما ورد في بعض الأخبار (1) من المنع عن الصلاة في الميتة بقول مطلق
فمنصرف أيضا إلى الميتة التي يعهد اتخاذ اللباس وغيره من جلودها وسائر
أجزائها، وذلك في الميتة التي تكون لها نفس سائلة من غير فرق في ذلك بين أن

(1) الوسائل: ج 3 ص 249 و 250 باب 1 و 2 من أبواب لباس المصلي.
225

نقول بشرطية التذكية أو مانعية الموت.
وما يتوهم من أنه بناء على شرطية التذكية لا بد من إحرازها من غير فرق بين
ما كان له نفس سائلة وغيره، وعليه لا يجوز الصلاة في مطلق الميتة وإن لم يكن لها
نفس سائلة لفقد الشرط.
ففيه: أنه وإن قلنا بشرطية التذكية لكن شرطيتها مقصورة في الحيوان الذي
له نفس سائلة، فإن ما دل على اعتبار التذكية ليس إلا صحيح ابن بكير (1) وخبر
ابن أبي حمزة (2)، وفي كليهما اعتبرت التذكية فيما كان له نفس سائلة، فإن الظاهر من
قوله عليه السلام في الأول " إذا علمت أنه ذكي قد ذكاه الذبح " هو أن التذكية
معتبرة في الحيوان الذي يقبل الذبح، والذبح لا يطلق إلا فيما كان له نفس سائلة،
فتأمل. والخبر الثاني يكون أظهر من ذلك، فراجع.
والحاصل: أنه بعد لم يظهر من الأدلة كون مطلق الموت مانعا وإن كان الميتة
طاهرة لم يكن لها نفس سائلة.
فالأولى إن لم يكن أقوى هو الاقتصار في المانعية بالميتة النجسة، وعليه
لا تكون عدم الميتة شرطا آخر في الصلاة، بل هو من صغريات اشتراط الطهارة في
لباس المصلي، فالأحكام المذكورة في ذلك الباب من جواز الصلاة في المشكوك
مع عدم ثبوت حالة سابقة له تقتضي نجاسته، ومن صحة الصلاة في النجس إذا
وقع ذلك جهلا مع عدم سبق العلم به وغير ذلك من الأحكام كلها جارية في
باب الميتة.
فلو شك في حيوان من حيث ثبوت نفس سائلة له وعدمه يجوز الصلاة في

(1) الوسائل: ج 3 ص 250 باب 2 من أبواب لباس المصلي، ح 1.
(2) الوسائل: ج 3 ص 252 باب 3 من أبواب لباس المصلي، ح 3.
226

أجزائه، وكذا لو صلى جهلا بكونه ميتة صحت صلاته، فتأمل جيدا فإن ذلك
لا يخلو عن إشكال، فإن من قال منا بطهارة الميتة بالدبغ قال بعدم جواز الصلاة
فيها، فيظهر من ذلك أن الموت بنفسه مانع عن الصلاة، وإن كان مانعيته مقصورة
بالميتة النجسة حسب ما استظهرناه من أدلة الباب، إلا أن ذلك لا يقتضي
جريان أحكام الطهارة والنجاسة فيها أيضا.
الأمر السادس: في أنه هل يشترط في أمارية يد المسلم على التذكية كونه غير
مستحل للميتة بالدبغ، أو لا يشترط ذلك؟ وقد اختلفت كلمات الأصحاب في
ذلك فقد حكي من بعض عدم جواز الصلاة في المأخوذ من مستحل الميتة
بالدبغ، بل زاد بعض المنع ممن يتهم بذلك سواء في ذلك أخبر وضمن بالتذكية
أولا، وحكي من آخر المنع إلا إذا أخبر بالتذكية أو ضمن بها.
ولكن المشهور الذي عليه العمل هو الجواز مطلقا ولو علم بكونه ممن يستحل
الميتة بالدبغ فضلا عن المتهم سواء في ذلك الضمان والاخبار وعدمه، لاطلاق
النصوص الواردة في الباب، بل قد عرفت أن تكثر السؤال عنهم عليهم السلام عن
الشراء مما هو في السوق كان لأجل ذلك أي وجود من يستحل الميتة بالدبغ.
بل في بعض الأخبار ما يقرب التصريح بذلك، وهو خبر إسماعيل بن
موسى (1) المتقدم فإن فيه: سألت أبا الحسن عليه السلام عن جلود الفراء يشتريها
الرجل في سوق من أسواق الجبل، أيسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلما غير
عارف؟ فأجاب عليه السلام: بعدم السؤال إذا كان البائع مسلما. وهذا مع
معروفية استحلال الميتة بالدبغ عند العامة يكون كالصريح في اعتبار يد المسلم
وسوقه مطلقا.

(1) الفقيه: ج 1 ص 258 باب لباس المصلي، ح 792.
227

وما ورد من أن علي بن الحسين كان ينزع الفر والمأخوذ من أرض العراق في
وقت الصلاة، معللا بأن أهل العراق يستحلون الميتة بالدباغ (1). فليس فيه دلالة
على خلاف ما ذهب إليه المشهور وإن استدل به صاحب القول الأول، فإن نفس
أخذه عليه السلام ولبسه وإن كان في غير حال الصلاة دليل على أنه ما كان
يعامل معه معاملة الميتة، بداهة أنه لو كان المأخوذ ممن يستحل الميتة بالدبغ مما
لا يحكم عليه بالتذكية وكان بحكم الميتة لما جاز لبسه واستعماله في حال من
الأحوال، فنفس استعماله ولو في غير حال الصلاة أقوى شاهد على أنه بحكم
المذكى.
وذلك لا ينافي نزعه في حال الصلاة، فإن ذلك كان للتنزيه وشدة الاحتياط
لاحراز الواقع الذي ينبغي البناء عليه لكل أحد فضلا عن المعصوم عليه السلام،
والاحتياط في الموضوع لا ينافي مرتبة العصمة، فتأمل.
وكذلك لا ينافي ما ذهب إليه المشهور خبر الأشعري قال: كتب بعض
أصحابنا إلى أبي جعفر عليه السلام: ما تقول في الفرو نشري من السوق؟ فقال
عليه السلام: إذا كان مضمونا فلا بأس (2). وإن استدل به صاحب القول الثاني
بناء على حمل الضمان على ضمان البائع، فيدل بمفهومه على عدم جواز الشراء عند
عدم ضمان البائع ذكاته، فإن أقصى ما يفيده المفهوم هو ثبوت البأس عند عدم
الضمان، وذلك غير صريح ولا ظاهر في المنع عن الشراء، فلا يمكن أن يقاوم
ما تقدم من الأدلة الصريحة على جواز الشراء من السوق ولو علم أن البائع كان
ممن يستحل الميتة بالدبغ.

(1) الوسائل: ج 2 ص 1081 باب 61 من أبواب النجاسات، ح 3.
(2) الوسائل: ج 2 ص 1073 باب 50 من أبواب النجاسات، ح 10 وفيه اختلاف يسير.
228

وربما يستدل للتفصيل المزبور بما رواه عبد الرحمن قلت لأبي عبد الله
عليه السلام: إني أدخل سوق المسلمين أعني هذا الخلق الذين يدعون الاسلام
فأشتري منهم الفراء للتجارة فأقول لصاحبها هي ذكية فيقول بل فهل يصلح لي
أن أبيعها على أنها ذكية فقال عليه السلام: لا ولكن لا بأس أن تبيعها وتقول قد
شرط الذي اشتريتها منه أنها ذكية فقلت: وما أفسد ذلك قال عليه السلام:
استحلال أهل العراق الميتة ويزعمون أن دباغ الجلد ذكاته (1).. إلخ. فإن ظاهر
التعليل هو المنع عن الأخذ ممن يستحل الميتة بالدبغ مطلقا حتى مع الاخبار
بالتذكية، غاية الأمر أن صدر الرواية دلت بالصراحة على جواز الشراء عند
الاخبار بالتذكية، وإن منع عن بيعها على أنها ذكية، فيبقى صورة عدم الاخبار
داخل في التعليل.
وفيه: أن التعليل إنما سيق لأجل المنع عن بيعها على أنها ذكية لا لأصل المنع
عن الشراء، فليس في الرواية ما يدل على المنع عن الشراء عند عدم الاخبار، بل
المتحصل من الرواية هو أنه حيث كان أهل العراق يستحلون الميتة بالدبغ فليس
للمشتري منهم أن يبيع ما اشتراه على أن ذكي، لأن ظاهر الاشتراط هو الاخبار
عن الذكاة وأنه عالم به مع أنه لم يعلم به، فإن أخذه ممن يستحل ذلك يوجب
عدم العلم بالذكاة، وإخبار البائع الأول لا يوجب العلم به فليس للبائع الثاني
الاخبار على سبيل الجزم بذكاته، وأين هذا من الدلالة على التفصيل المزبور؟
وبالجملة: بعد لم يظهر لنا دليل يدل على خلاف ما ذهب إليه المشهور، وعلى
تقدير ثبوته فهو مؤول أو مطروح، لعدم مقاومته لما تقدم من الأدلة الدالة على
اعتبار يد المسلم مطلقا ولو كان ممن يستحل الميتة بالدبغ، فالأقوى ما عليه المشهور

(1) الوسائل: ج 2 ص 1081 باب 61 من أبواب النجاسات، ح 4 وفيه اختلاف يسير.
229

الأمر السابع: مقتضى إطلاق الأدلة هو عدم جواز الصلاة في الميتة مطلقا،
سواء كان مما تتم الصلاة فيه أولا، وسواء كان نعلا أو خفا أو غيره.
وما ورد (1) في (2) بعض الأخبار من نفي البأس عن النعال والخفاف إذا لم تكن
من أرض المسلمين فمحمول أو مطروح، بداهة عدم مقاومته لمطلقات الباب، مع
أنه معارض لصريح بعض الأخبار الوارد في خصوص الخفاف من المنع عن
الصلاة فيها إذا كانت من ميتة، وهو ما رواه الحلبي قلت لأبي عبد الله: الخفاف
عندنا في السوق فنشتريها فما ترى في الصلاة فيها؟ فقال عليه السلام: صل فيها
حتى يقال لك إنما ميتة بعينها (3)
فاحتمال جواز الصلاة في الخفاف المصنوعة من الميتة ضعيف غايته،
كضعف احتمال جواز الصلاة في خصوص النعال، لما ورد (4) في عدة من الأخبار
من أن نعل موسى عليه السلام الذي أمر بخلعه كان من جلد ميتة، فيظهر منه
جواز لبس النعل من الميتة، وإذا جاز لبسه جاز الصلاة فيه.
وجه الضعف هو أنه أولا: مجرد جواز لبس ذلك في شريعة موسى عليه السلام
لا يثبت جوازه في شريعتنا، مع ما ورد (5) من المنع عن استعمال الميتة بقول مطلق
الشامل للنعل، بل لم يعلم جواز ذلك حتى في شريعة موسى عليه السلام، لأنه
كان لبسه والأمر بخلعه قبل تلبسه بمرتبة النبوة على ما هو المحكي.

(1) الوسائل: ج 3 ص 310 باب 38 من أبواب لباس المصلي، ح 3.
(2) هو ما رواه الهاشمي، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن لباس الجلود والخفاف والنعال والصلاة فيها إذا لم
يكن من أرض المسلمين، فقال عليه السلام: أما النعال والخفاف فلا بأس بها. " منه ".
(3) الوسائل: ج 3 ص 310 باب 38 من أبواب لباس المصلي، ح 2 نقلا بالمضمون.
(4) الوسائل: ج 3 ص 249 باب 1 من أبواب لباس المصلي، ح 3 و 4.
(5) الوسائل: ج 16 ص 368 باب 34 من كتاب الأطعمة والأشربة.
230

وثانيا: قد روي (1) عن الحجة عليه السلام تكذيب ذلك، وأنه لم يكن نعل
موسى عليه السلام من جلد الميتة، بل المراد من خلع النعل الذي أمر به الله تعالى
هو خلع محبة الأهل الذي كان في قلب موسى.
وبالجملة: لا يمكن رفع اليد عن المطلقات بمثل هذا، فالأقوى عموم المنع
حتى من حمل أجزاء الميتة كما ربما يشعر به رواية (2) تقليد السيف المتقدم، بناء
على كون تقليد السيف من باب المحمول، لا من باب كونه ملبوسا وإلا كان دالا
على عدم جواز الصلاة فيما لا تتم الصلاة فيه، فتأمل جيدا.
هذا تمام الكلام في الأمر الأول من الأمور المعتبرة في لباس المصلي.
الأمر الثاني:
أن لا يكون من أجزاء غير مأكول اللحم وإن ذكي وكان قابلا للتذكية، فإن
التذكية فيما كان قابلا لها إنما توجب جواز سائر الاستعمالات ما عدا الصلاة.
ولسنا الآن في بيان ما يقبل التذكية من الحيوانات فإن لبيان ذلك مقاما
آخر، وإن كان الأقوى قبول كل حيوان مأكول وغير مأكول للتذكية حتى
المسوخات، لما حكاه شيخنا الأستاذ مد ظله من ورود بعض الأدلة على قبول
بعض المسوخات للتذكية، وإذا ثبت في البعض ثبت في الكل لعدم القول
بالفصل.
بل ربما يستفاد قابلية كل حيوان للتذكية من قوله عليه السلام في ذيل
صحيح ابن بكير (3) الآتي " ذكاه الذابح أو لم يذكه " بداهة ظهوره في أن التذكية

(1) الوسائل: ج 3 ص 249 باب 1 من أبواب لباس المصلي، ح 4.
(2) الوسائل: ج 2 ص 1072 باب 50 من أبواب النجاسات، ح 4.
(3) الوسائل: ج 3 ص 250 باب 2 من أبواب لباس المصلي، ح 1.
231

هي عبارة عن نفس الذبح وكل حيوان قابل للذبح، فيستفاد من ذلك
كبرى كلية وهي قابلية كل حيوان للتذكية إلا ما خرج كالحشرات،
فتأمل.
وعلى كل حال المهم في المقام هو البحث عن مانعية غير المأكول للصلاة.
وتنقيح البحث عن ذلك يستدعي رسم أمور:
الأول:
لا إشكال ولا خلاف في مانعية غير المأكول للصلاة وفسادها إذا وقعت فيه،
وهذا في الجملة ما قد تواترت به النصوص، إنما الكلام في أن ذلك على نحو
الكبرى الكلية وأن كل غير مأكول لا تجوز الصلاة فيه عدا ما استثنى من الخز
والسنجاب، أوليس ذلك على نحو الكبرى الكلية بل المانعية مقصورة بما يأكل
اللحم مما له ناب ومخلب؟
ولا بد أولا من ذكر بعض ما ورد في الباب من الأدلة، ثم نعقبه بما هو المستفاد
منها فنقول:
روى ابن أبي عمير عن ابن بكير قال: سأل زرارة أبا عبد الله عليه السلام عن
الصلاة في الثعالب والفنك والسنجاب وغيره من الوبر، فأخرج كتابا زعم أنه
إملاء رسول الله صلى الله عليه وآله أن الصلاة في وبر كل شيء حرام أكله
فالصلاة في وبره وشعره وجلده وبوله وروثه وكل شئ منه فاسد لا تقبل تلك
الصلاة حتى يصلي في غيره مما أحل الله أكله، ثم قال: يا زرارة هذا عن
رسول الله صلى الله عليه وآله فاحفظ ذلك يا زرارة، فإن كان مما يؤكل لحمه
فالصلاة في وبره وبوله وشعره وروثه وألبانه وكل شئ منه جائز إذا علمت أنه
ذكي وقد ذكاه الذبح، وإن كان غير ذلك مما قد نهيت عن أكله وحرم عليك
232

أكله فالصلاة في كل شئ منه فاسد ذكاه الذبح أو لم يذكه (1).
وفي رواية جعفر بن محمد عن آبائه في وصية النبي صلى الله عليه وآله لعلي
عليه السلام قال: يا علي لا تصل في جلد ما لا يشرب لبنه ولا يؤكل لحمه (2).
وفي رواية ابن أبي حمزة قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام وأبا الحسن
عليه السلام عن لباس الفراء والصلاة فيها، فقال: لا تصل فيها إلا ما كان منه
ذكيا، قال: أوليس الذكي مما ذكي بالحديد؟ قال: نعم (3) إذا كان مما يؤكل
لحمه، قلت: وما يؤكل لحمه من غير الغنم؟ فقال: لا بأس بالسنجاب فإنه دابة
لا تأكل اللحم، وليس هو مما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وآله، إذ نهى
عن كل ذي ناب ومخلب (4).
وفي رواية محمد بن إسماعيل بإسناده يرفعه إلى أبي عبد الله عليه السلام قال:
لا تجوز الصلاة في شعر ووبر ما لا يؤكل لحمه، لأن أكثرها مسوخ (5).
وفي الباب روايات أخر صريحة الدلالة في المنع عن الصلاة فيما لا يؤكل لحمه
إلا أنها واردة في موارد خاصة كالثعلب والأرنب والسمور وأمثال ذلك، وفيما
ذكرناه غنى وكفاية. إذا عرفت ذلك فيقع الكلام حينئذ فيما هو المستفاد منها،
فنقول:
مقتضى رواية ابن بكير (6) هو عموم المنع عن كل ما لا يؤكل لحمه، ويستفاد

(1) الوسائل: ج 3 ص 250 باب 2 من أبواب لباس المصلي، ح 1.
(2) الوسائل: ج 3 ص 251 باب 2 من أبواب لباس المصلي، ح 6.
(3) وفي بعض النسخ " وما يؤكل لحمه من غير الغنم " بإسقاط كلمة (لا) " منه ". راجع الكافي: ج 3 ص 397، ح 3.
(4) الوسائل: ج 3 ص 252 باب 3 من أبواب لباس المصلي، ح 3.
(5) الوسائل: ج 3 ص 251 باب 2 من أبواب لباس المصلي، ح 7.
(6) الوسائل: ج 3 ص 250 باب 2 من أبواب لباس المصلي، ح 1.
233

منها الملازمة بين غير المأكول وفساد الصلاة، كما أنه يستفاد منها الملازمة بين
المأكول والصحة، فهذه الرواية بنفسها تدل على كبرى كلية، وهي صحيحة
السند ومعمول بها عند الأصحاب، وإن كان ابن أبي بكير في نفسه ملعونا،
كما يظهر من سوء تعبيره في الرواية بقوله " زعم أنه إملاء رسول الله صلى الله
عليه وآله " هذا، مع ما ذكر في حالاته من الذم، وعلى أي حال كونه مذموما في
نفسه لا يضر بصحة روايته، فلا إشكال من هذه الجهة، كما لا إشكال في دلالتها
على الكبرى الكلية.
نعم مقتضى التعليل في ذيل رواية ابن أبي حمزة (1) هو عدم المنع في خصوص
ما إذا لم يكن آكل اللحم ولم يكن له ناب ومخلب، فمقتضى القاعدة لو لم يكن
في المقام شئ آخر هو تخصيص الكبرى الكلية المستفاد من رواية ابن بكير بما في
ذيل رواية ابن أبي حمزة.
ولكن مقتضى التعليل الوارد في ذيل رواية محمد بن إسماعيل (2) وهو قوله
عليه السلام " لأن أكثرها مسوخ " هو عموم المنع أيضا (3) فالحري هو ملاحظة النسبة

(1) الوسائل: ج 3 ص 252 باب 3 من أبواب لباس المصلي، ح 3.
(2) الوسائل: ج 3 ص 251 باب 2 من أبواب لباس المصلي، ح 7.
(3) وقد أفاد شيخنا الأستاذ مد ظله أن النسبة بين التعليلين إنما هي بالأعم الأخص المطلق، وأن قوله عليه السلام
" لأن أكثرها مسوخ " أخص من قوله عليه السلام " لأنه لا يأكل اللحم ".
وتقريبه هو أن قوله عليه السلام " لأنه لا يأكل اللحم " قد اشتمل على عقد إيجابي وهو جواز الصلاة فيما لا يأكل اللحم،
وعقد سلبي وهو عدم جواز الصلاة فيما يأكل اللحم، والنسبة إنما تلاحظ بين كلا العقدين من الايجابي والسلبي مع قوله " لأن
أكثرها مسوخ ".
وحينئذ يكون قوله عليه السلام " لأن أكثرها مسوخ " أخص مطلقا من التعليل الآخر، لأن العقد الايجابي والسلبي
يعم جميع أصناف الحيوانات، بداهة أنه كل حيوان في الدنيا إما أن يكون آكل اللحم وإما أن لا يكون، فكل حيوان لا بد
وأن يكون داخلا في أحد العقدين، وهذا بخلاف قوله " لأن أكثرها مسوخ " فإنه مختص بصنف خاص من الحيوان وهو
ما كان مسوخا، وحينئذ يكون دلالة قوله عليه السلام " لأن أكثرها مسوخ " على مانعية الحيوان المسوخ وإن لم يكن أكل
اللحم أظهر لأخصيته، ويخرج قوله عليه السلام " لأنه لا يأكل اللحم " عن العلية.
ثم على تقدير كون النسبة بين التعليلين بالعموم من الوجه لا بد أيضا من أنه بكلا العلتين، وذلك لأنه لو قصرنا المانعية
بخصوص آكل اللحم وما كان له ناب أو مخلب يلزم أن يبقى قوله عليه السلام " لأن أكثرها مسوخ " بلا مورد، وذلك لأن
المسوخ إما آكل اللحم وإما غير آكل، فإن كان آكل اللحم فمانعيته عن الصلاة إنما يكون من جهة آكليته للحم، بمقتضى
مفهوم قوله عليه السلام " لأنه لا يأكل اللحم " لا من جهة مسوخيته، إذا المسوخية مع كونه آكل اللحم مما [لا] أثر لها، وإذا
خرج هذا القسم من المسوخ عن قوله " لأن أكثرها مسوخ " فلا يبقى له إلا مورد واحد وهو المسوخ الغير الآكل، فلو خص
المانعية بخصوص الآكل قوله عليه السلام " لأن أكثرها مسوخ " عن العلية ويبقى بلا مورد وهذا مما لا يجوز، لأن كل
عام بالنسبة إلى بعض موارده نص في الجملة، فتأمل.
ثم إن هذا كله على تقدير اشتمال الرواية على كلمة " لا " وأما بناء على ما في بعض نسخ الصحاح من سقوط كلمة
" لا " فيكون التعليل حينئذ أجنبيا عن المقام كما لا يخفى وجهه على المتأمل، فتأمل جيدا. " منه ".
234

بين التعليلين وما يستفاد منهما.
والظاهر أن تكون النسبة بينهما هي العموم من وجه، فإن مقتضى التعليل في
رواية ابن أبي حمزة (1) هو علية عدم آكل اللحم ولم يكن له ناب ومخلب للجواز
سواء كان من المسوخ أو لم يكن، ومقتضى التعليل في رواية محمد بن
إسماعيل (2) هي علية المسوخ سواء كان ذي ناب ومخلب أو لم يكن، فيقع
التعارض بينهما في المسوخ الذي لم يكن له ناب ومخلب، فإن مقتضى التعليل في
رواية ابن أبي حمزة هو جواز الصلاة فيه، ومقتضى التعليل في رواية محمد بن
إسماعيل هو عدم جواز الصلاة فيه، هذا.
ولكن من المعلوم أن دلالة ذيل رواية ابن أبي حمزة على انحصار علة المنع في
آكل اللحم مما كان له ناب ومخلب إنما هو بالاطلاق، إذ ليست العلية بنفسها
موضوعة للعلة المنحصرة، بل الانحصار إنما يستفاد من الاطلاق من الاطلاق وعدم ذكر علة
أخرى، وهذا بخلاف دلالة ذيل رواية محمد بن إسماعيل، فإنها تدل على علية

(1) الوسائل: ج 3 ص 252 باب 3 من أبواب لباس المصلي، ح 3.
(2) الوسائل: ج 3 ص 251 باب 2 من أبواب لباس المصلي، ح 7.
235

المسوخية بالنصوصية، فلا بد من رفع اليد عن إطلاق ما في رواية ابن أبي حمزة
وعدم دلالته على الانحصار.
فيتحصل من مجموع الذيلين علية كل من المسوخية وكون الحيوان ذي ناب
ومخلب للمنع وعدم جواز الصلاة في شئ منها.
وإذا ثبت المنع عن المسوخ وإن لم يكن ذي ناب ومخلب فيثبت في غير المسوخ
أيضا مما حرم أكله، لأن قوله عليه السلام " لأن أكثرها مسوخ " علة لعموم
المنع، وأن المنع عن غير المأكول بجميع أقسامه إنما هو من جهة أكثرية المسوخ فيها،
فمقتضى هذا التعليل هو عموم المنع لكل ما لا يؤكل.
مع أن الظاهر أن يكون قوله عليه السلام " لأن أكثرها مسوخ " علة للتشريع
لا علة للحكم، ومن المعلوم أن الحكم في باب علل التشريع لا يدور مدارها بل
يطرد ولو في غير موردها، وعليه يرتفع التعارض بين العلتين أيضا، فإن التعليل في
ذيل رواية ابن أبي حمزة (1) إنما يكون علة للحكم، وفي ذيل رواية محمد بن
إسماعيل (2) إنما يكون علة للتشريع.
الأمر الثاني:
بعد ما ثبت عموم المنع عن كل حيوان غير مأكول اللحم سواء في ذلك
السباع وغيره، فهل يختص المنع بخصوص ما إذا كان له نفس سائلة كما
استظهرنا ذلك في مانعية الميتة، أو يعم المنع لكل حيوان وإن لم يكن له نفس
سائلة؟ مقتضى إطلاقات أدلة الباب هو عموم المنع لكل حيوان.

(1) الوسائل: ج 3 ص 252 باب 3 من أبواب لباس المصلي، ح 3.
(2) الوسائل: ج 3 ص 251 باب 2 من أبواب لباس المصلي، ح 7.
236

ولا يقاس المقام بما تقدم في الميتة، فإن في باب الميتة حيث إن ما دل على المنع
عنها إنما كان غالبا جوابا عما فرضه السائل من الجلود والفراء وغيره، ولم يعهد
أخذ مثل ذلك مما لا نفس له، فكان المنع عنها منصرفا إلى ذلك، لأن نجاسة
الميتة هي التي كانت مرتكزة في الأذهان، وذلك هو الذي أوجب السؤال عن
المشكوك أخذه من الميتة، فالمنع عن الميتة مقصور بالميتة النجسة وهي التي تكون
لها نفس سائلة.
وهذا بخلاف المقام فإن قوله عليه السلام في صحيح ابن بكير " إن الصلاة في
وبر كل شئ حرام أكله (1).. إلخ " عام يشمل كل حيوان محرم الأكل وإن لم
يكن له نفس سائلة، وكذلك قوله صلى الله عليه وآله لعلي في وصيته " لا تصل
في جلد ما لا يشرب لبه ولا يؤكل لحمه " (2) يعم كل حيوان.
ودعوى انصراف ذلك إلى خصوص ما كان له نفس سائلة مما لا شاهد
عليها، خصوصا في قوله " كل شئ حرام أكله " كما في الصحيحة، فإن لفظة
" كل " موضوعة للعموم فيعم جميع أصناف الحيوانات.
فإن قلت: نعم وإن كان لفظة " كل " عام للجميع إلا أن قوله عليه السلام
في ذيل الصحيحة " ذكاه الذابح أو لم يذكه " يوجب تخصيص ذلك العموم بما إذا
كان تذكيته بالذبح، وذلك مقصور بما إذا كان للحيوان نفس سائلة، بداهة أن
تذكية ما لا نفس له ليس بالذبح.
قلت: ذلك لا يصلح للتخصيص، فإن المقسم في قوله عليه السلام " ذكاه
الذابح أو لم يذكه " هو الحيوان القابل للتذكية بالذبح وعدمه، فما لا نفس له

(1) الوسائل: ج 3 ص 250 باب 2 من أبواب لباس المصلي، ح 1.
(2) الوسائل: ج 3 ص 251 باب 2 من أبواب لباس المصلي، ح 6.
237

خارج عن المقسم وغير متعرض له في هذا التقسيم، إلا أن ذلك لا يوجب خروجه
عن عموم قوله عليه السلام " وكل شئ حرام أكله ".
مع أنه يمكن أن يقال: إن الذبح في الرواية إنما يكون كناية عن مطلق
ما يتحقق به التذكية لا خصوص فري الأوداج، وإنما كان التعبير بالذبح لأن
غالب ما يتحقق به التذكية هو الذبح، وحينئذ يصير المعنى أن كل ما حرم أكله
فالصلاة فيه فاسدة سواء ذكي بما يذكى به أو لم يذك وحينئذ يعم ما لا نفس له
لأن ما لا نفس له له تذكية، غايته أن تذكيته ليس بالذبح بل بالخروج من الماء
مثلا كما في السمك. والحاصل: أن مقتضى العموم هو عموم المنع لكل حيوان.
ويؤيد ذلك بل يدل عليه استثناء خصوص الخز مع كونه مما لا نفس له،
بناء على ما ذكره الشهيد قدس سره من أن الحيوانات البحرية كلها مما لا نفس
لها إلا التمساح، وحينئذ يكون استثناء الخز مع كونه بحريا لا نفس له دليلا على
عموم المنع لكل حيوان، فتأمل جيدا.
نعم لا يعم ما كان غير قابل للأكل لعدم لحم فيه كالقمل والبراغيث والزنبور
وأمثال ذلك، فإن الموضوع في غالب الأدلة هو ما لا يؤكل لحمه، فما لا لحم له
خارج عنها، وما في بعض الأدلة من التعبير بحرمة الأكل كما في صحيح
ابن بكير (1) فالمراد منه أيضا ما حرم أكل لحمه لانصرافه إلى ذلك، بل ربما يستدل
على الجواز بالسيرة القطعية وغير ذلك كما لا يخفى على المتتبع، فالظاهر خروج
ما لا لحم له عن عنوان الأدلة.
كما أن الظاهر خروج الانسان عنه أيضا لانصرافه إلى غير الانسان، فلا بأس
بالصلاة مصاحبا لشعر الانسان وريقه، ويدل على ذلك ما في الصحيح كتبت إلى

(1) الوسائل: ج 3 ص 250 باب 2 من أبواب لباس المصلي، ح 1.
238

أبي الحسن عليه السلام هل يجوز الصلاة في ثوب يكون فيه شعر من شعر الانسان
وأظفاره من قبل أن ينفضه ويلقيه عنه؟ فوقع بالجواز (1). وكذلك يدل على ذلك
ما ورد من جواز وصل المرأة شعر غيرها بشعرها.
فالأقوى أن الانسان خارج عن عنوان الأدلة، وعليه لو فرض نسج ثوب من
شعر الانسان فلا بأس بلبسه والصلاة فيه.
ثم إن في عموم المنع لما كان محرم الأكل بالعارض كالموطوء والجلال يأتي
الإشارة إليه.
هذا كله في الحيوان الذي يتخذ منه اللباس وغيره، وقد عرفت مقدار المانعية
من حيث عموم الحكم لكل حيوان محرم الأكل وعدم العموم.
بقي الكلام في مقدار المانعية من حيث ما يتخذ من الحيوان من اللباس وغيره
فنقول:
لا إشكال في عموم المنع لكل لباس تتم الصلاة فيه سواء كان ساترا أو لم
يكن، فلو كانت جبته الملبوسة فوق الساتر متخذة من غير المأكول فالصلاة فيها
فاسدة. وبالجملة: لا كلام في عموم الحكم ما تتم الصلاة فيه، إنما الكلام
في عموم الحكم لما لا تتم الصلاة فيه كالتكة والجورب والقلنسوة.
ومقتضى صحيحة ابن بكير (2) هو عموم المنع لذلك أيضا، فإن قوله
عليه السلام " وكل شئ حرام أكله فالصلاة في وبره.. إلخ " بإطلاقه شامل لما
لا تتم الصلاة فيه بعد صدق كونه صلى فيه.
مضافا إلى ما ورد في خصوص الجورب والتكة من المنع إذا كانت من وبر

(1) الوسائل: ج 3 ص 277 باب 18 من أبواب لباس المصلي، ح 2.
(2) الوسائل: ج 3 ص 250 من أبواب لباس المصلي، ح 1.
239

ابن بكير على ما لا يتأتي فيه الظرفية الحقيقية من ذكر الروث واللبن، بداهة أن
الروث واللبن سواء كان في ثوب المصلي أو بدنه لا يكون إلا كون الصلاة معه
لا فيه، مع أن الإمام عليه السلام جعل مساق الروث واللبن مساق اللباس وعبر
في الجميع بكلمة " في ".
ومن هنا التجأ بعض الأعلام إلى جعل كلمة " في " بمعنى المصاحبة والمعية،
وعلى ذلك بنى عدم جواز الصلاة في الشعر الملقاة وفي المحمول
ورده في الجواهر (1) بما حاصله: أن مجرد ثبوت الروث واللبن في الرواية
لا يوجب رفع اليد عما يقتضيه ظاهر كلمة " في " من الظرفية وجعلها بمعنى
" مع " في جميع ما ذكر في الرواية من الوبر والشعر والجلد، إذ جعل كلمة " في "
بمعنى " مع " في مثل هذه الأمور بلا موجب، لامكان تحقق معنى الظرفية فيها
كالصلاة في الثوب المعمول من الوبر أو الشعر أو الجلد، غايته أن في خصوص
الروث واللبن لا بد من التصرف بعد عدم إمكان إبقاء كلمة " في " بمعناها من
الظرفية فيهما لعدم تحقق معنى الظرفية في ذلك.
والتصرف كما يكون بجعل كلمة " في " بمعنى " مع " كذلك يمكن أن يكون
المراد من الصلاة في اللبن والروث الصلاة في الثوب المتلطخ بهما، فتكون كلمة
" في " بمعناها من الظرفية في جميع ما ذكر في الرواية، غايته أن في خصوص اللبن
والروث يحتاج إلى تجوز في الكلام، ومن هنا استشكل في الجواهر (2) في مانعية
الشعر الملقاة وفي المحمول، لعدم شمول الأدلة لهما بعد عدم جريان الظرفية فيهما،
هذا.
ولكن الانصاف أنه لا يمكن المساعدة على ما في الجواهر (3) من إبقاء كلمة

(1) جواهر الكلام: ج 8 ص 77.
(2) جواهر الكلام: ج 8 ص 79.
(3) جواهر الكلام: ج 8 ص 77.
240

الأرانب، كما في خبر علي بن مهزيار كتب إليه إبراهيم بن عقبة عندنا جوارب
وتكك تعمل من وبر الأرانب، فهل تجوز الصلاة في وبر الأرانب من غير ضرورة
ولا تقية؟ فكتب: لا تجوز الصلاة فيها (1). ومن العموم أنه لا فرق بين وبر الأرانب
وغيرها ولا بين التكة والقلنسوة، فالأقوى عموم المنع.
وما في خبر ابن عبد الجبار (2) من جواز الصلاة في القلنسوة والتكة إذا كانت
من وبر الأرانب فلا بد من حمله على التقية أو طرحه، لعدم مقاومته للأدلة الدالة
بالاطلاق وبالخصوص على عموم المنع.
بل ذكر شيخنا الأستاذ مد ظله أن في نفس خبر ابن عبد الجبار ما يظهر منه
أن الحكم كان لأجل التقية، فإن فيه قال: كتبت إلى أبي محمد عليه السلام هل
يصلي في قلنسوة عليها وبر ما لا يؤكل لحمه أو تكة حرير أو تكة من وبر الأرانب؟
فكتب عليه السلام: لا تجوز الصلاة في الحرير المحض وإن كان الوبر ذكيا حلت
الصلاة فيه. فإن نسبة التذكية إلى نفس الوبر يشعر (3) بالتقية، فتأمل فإن في
الاشعار ما لا يخفى، وعلى أي حال الأقوى ما عليه المعظم من عموم الحكم.
بقي الكلام في الشعر الملقاة على لباس المصلي أو بدنه وفي حكم المحمول. أما
الشعر الملقاة فالظاهر أيضا عدم جواز الصلاة معها، وذلك لأن كلمة " في "
الواقعة في أخبار الباب وإن كانت ظاهرة في الظرفية على نحو تكون الصلاة واقعة
في الشئ نحو ثبوت الشئ في المكان أو الزمان، وهذا المعنى من الظرفية مفقود
في الشعر الملقاة على الثوب أو البدن، لعدم كون الصلاة واقعة فيه بل معه، إلا أنه
لا بد من رفع اليد عما يقتضيه الظاهر الأولي من الظرفية، من جهة اشتمال موثقة

(1) الوسائل: ج 3 ص 258 باب 7 من أبواب لباس المصلي، ح 3.
(2) الوسائل: ج 3 ص 273 باب 14 من أبواب لباس المصلي، ح 4.
(3) لأن الوبر ليس مما تحله الحياة حتى يعتبر فيه التذكية " منه ".
241

" في " في غير الروث واللبن على معناها الأولي من الظرفية الحقيقية، والتجوز في
خصوص اللبن والروث بعد ما ذكر الجميع في الرواية على مساق واحد، كما
لا يمكن المساعدة على ما أفاده بعض الأعلام من جعل كلمة " في " بمعنى " مع "
لأنه خروج عما تقتضيه كلمة " في " بلا موجب.
فالأولى إبقاء كلمة " في " على معناها من الظرفية، ولكن ذكر الروث
واللبن في الرواية يكون قرينة على أن المراد من الظرفية ليس هو معناها الأولي
الظاهر من كلمة " في " من ثبوت الشئ في المكان أو الزمان، بل المراد منها
معنى أوسع من ذلك بحيث يشمل مثل اللبن والروث الواقع على بدن المصلي أو
لباسه ويصدق أنه صلى فيهما ولو بنحو من التوسعة في الظرفية.
وهذا المعنى من التوسعة موجود في الشعر الملقاة على لباس المصلي بل على
بدنه، بل وكذا المحمول إذا كان مع المصلي بلا واسطة وعاء كما إذا كان في
جيب المصلي، وأما لو كان في وعاء كما إذا فرض جعل بعض أجزاء ما لا يؤكل
لحمه في قارورة أو وعاء آخر وكانت القارورة مع المصلي فصدق الظرفية على
مثل هذا المحمول مشكل.
وحاصل الكلام: أن أدلة الباب وإن اشتملت على كلمة " في " الظاهرة في
الظرفية إلا أنه لا محيص عن القول بالتوسعة في الظرفية على نحو يعم الشعر الملقاة
على اللباس والبدن والمحمول بلا واسطة، فإن في الجميع يصح إطلاق (الصلاة
فيه) بنحو من التسامح والتوسعة، والشاهد على ذلك إطلاق الظرفية في مثل
الروث واللبن الذي لا يكون ذلك إلا بعد التوسعة في معنى الظرفية.
نعم في المحمول مع الواسطة جميع مراتب الظرفية مفقود، وإنما الظرفية تكون
في الوعاء المشتمل على المحمول، فيقال: صلى في قارورة فيها عظم ما لا يؤكل
مثلا، ولا يقال: صلى في عظم ما لا يؤكل، وهذا بخلاف ما إذا كان العظم مع
242

المصلي بلا واسطة لصدق الظرفية فيه، وصح أن يقال: صلى في عظم ما لا يؤكل،
هذا حاصل ما أفاده شيخنا الأستاذ مد ظله في هذا المقام فتأمل فيه فإنه لا يخلو
عن تأمل خصوصا في التفرقة بين قسمي المحمول.
وعلى كل حال الظاهر عموم المنع للشعر الملقاة على لباس المصلي لصدق
الظرفية على مثل ذلك كما تقدم فيشمله الاطلاقات، مضافا إلى خصوص خبر
الهمداني كتب إليه: يسقط على ثوبي الوبر والشعر مما لا يؤكل لحمه من غير تقية
ولا ضرورة فكتب: لا تجوز الصلاة فيه (1). وتضعيف الجواهر (2) سنده مما لا وجه
له بعد ما كان معمولا به.
فإن قلت: إن ذلك معارض بما في رواية ابن عبد الجبار (3) المتقدمة، فإن قوله
عليه السلام فيها " وإن كان الوبر ذكيا حلت الصلاة فيه " جوابا عما سأله
السائل من التكة المعمولة من وبر الأرانب ومن القلنسوة التي عليها وبر ما
لا يؤكل، والمعلوم أنه لا فرق بين الوبر الملقى على القلنسوة وبين الوبر الملقى على
الثوب كمعلومية عدم الفرق بين الوبر والشعر فيكون معارضا لرواية الهمداني.
قلت: رواية ابن عبد الجبار قد اشتملت على جزءين (أحدهما) جواز الصلاة
في القلنسوة الملقى عليها وبر ما لا يؤكل لحمه (وثانيهما) جوار الصلاة في التكة
المعمولة من وبر الأرانب. وكل من الجزءين له معارض بعد إلقاء الخصوصية عن
القلنسوة والوبر.
أما الجزء الأول فهو معارض برواية الهمداني حيث دلت على المنع عن
الصلاة في الشعر الملقاة.

(1) الوسائل: ج 3 ص 251 باب 2 من أبواب لباس المصلي، ح 4.
(2) جواهر الكلام: ج 8 ص 78.
(3) الوسائل: ج 3 ص 273 باب 14 من أبواب لباس المصلي، ح 4.
243

وأما الجزء الثاني فهو معارض برواية ابن مهزيار (1) المتقدمة، حيث دلت على
المنع عن الصلاة في التكك المعمولة من وبر الأرانب، فيكون المقام نظير العام
المخصص بمخصصين المستوعبين لأفراد العام، ويدور الأمر بين الأخذ بالعام وطرح
المخصصين أو الأخذ بالمخصصين وطرح العام، والمتعين في المقام هو طرح العام،
لما تقدم من عدم عمل المعظم برواية ابن عبد الجبار (2)، مع أن فيها شائبة التقية
فتأمل جدا.
بقي الكلام في حكم ما استثناه المعظم من جواز الصلاة في الخز والسنجاب.
أما السنجاب فقد نسب إلى المشهور استثناؤه لدلالة جملة من الأخبار على
جواز الصلاة فيه المعللة بعضها بأنه لا يأكل اللحم (3). بل ربما يظهر من بعض
الأخبار حلية أكل لحمه أيضا، كما في رواية ابن أبي حمزة (4) بناء على بعض
النسخ من إسقاط كلمة " لا " على ما تقدم، لكن الظاهر عدم ثبوت قول معتد به
بين الأصحاب في حلية لحمه وإن قالوا بجواز الصلاة فيه.
ولكن مع ذلك أشكل شيخنا الأستاذ مذ ظله تبعا لبعض الأصحاب في
جواز الصلاة فيه، نظرا إلى ورود بعض الأخبار (5) في المنع عنه، وعدم ثبوت شهر
القدماء التي تكون هي العبرة في كسر الأخبار وجبرها في العمل بأخبار المجوزة،
مع احتمال التقية فيها، فتأمل جيدا.
وأما الخز فالظاهر قيام الاجماع على استثنائه وبرا على ما هو المحكي، وإن نقل

(1) الوسائل: ج 3 ص 258 باب 7 من أبواب لباس المصلي، ح 3.
(2) الوسائل: ج 3 ص 273 باب 14 من أبواب لباس المصلي، ح 4.
(3) الوسائل: ج 3 ص 252 باب 3 من أبواب لباس المصلي، ح 2 و 3.
(4) راجع ص 220 من هذا الكتاب.
(5) مستدرك الوسائل: ج 1 ص 201 باب 4 من أبواب لباس المصلي، ح 1.
244

الخلاف بالنسبة إلى جلده ولكن خلاف ضعيف لا يعتد به، فالأقوى جواز الصلاة
في وبره وجلده لدلالة جملة من الأخبار (1) على ذلك من غير معارض.
نعم قال شيخنا الأستاذ مد ظله إن الظاهر كون هذا الخز المعروف في هذا
الزمان غير الخز الذي كان يعمل منه الألبسة في عصر الأئمة عليهم السلام وما
تأخر عنه إلى ما قبل زمان الشهيد رحمه الله فإن الخز الذي كان في ذلك العصر
كان ينسج من وبره الألبسة الفاخرة التي كانت تباع بأغلى القيم، وهذا الخز
المعروف في هذا الزمان مما لا يمكن أن يعمل من نفس وبره منفصلا عن جلده شئ أصلا
وما في الجواهر (2) من التمسك على اتحاد هذا الخز للخز السابق بأصالة عدم
النقل منظور فيه، لأنه إن أريد من أصالة العدم أصالة عدم نقل معنى ذلك الخز
الذي كان في السابق فهو مما لا يثبت كون هذا الخز الموجود في هذا الزمان هو
ذلك الخز، وإن أريد من أصالة عدم النقل على نحو القهقراء فهو ليس بحجة
عندنا. وبناء على هذا يشكل الصلاة في هذا الخز إن ثبت كونه من محرم الأكل،
وإلا فالجواز مبني على الجواز في المشكوك كما لا يخفى.
ثم إنه يعتبر في الخز بناء على جواز الصلاة فيه أن يكون خالصا، فلا يجوز في
المغشوش منه بوبر الأرانب والثعالب وغير ذلك مما لا يجوز الصلاة فيه منفردا.
نعم في تعيين معنى الخلوص وأنه هل هو عبارة عن عدم خلطه بشئ مطلقا
ولو كان الغش قليلا جدا بحيث لا يراه العرف غشا، أو أنه ليس الأمر كذلك
فلا بأس بالغش القليل الذي لا يراه العرف غشا، وجهان مبنيان على أن
الخلوص هل هو عند العرف معنى يجامع الغش القليل جدا بحيث لا ينافي ذلك مع
ما هو حقيقة المرتكز في ذهن العرف، نظير مفهوم الماء الصادق حقيقة بماله

(1) الوسائل: ج 3 ص 260 باب 8 من أبواب لباس المصلي (2) جواهر الكلام: ج 8 ص 91.
245

من المعنى على الماء المغشوش بقليل من التراب، أو أن الخلوص هو عبارة عن
الخلوص الحقيقي بمعناه الساذج الخالص من كل شئ، وأن إطلاق العرف
الخالص على ما كان الغش قليلا من باب التسامح من حيث إن الغش لا يراه
غشا، نظير الزيادة والنقيصة القليلة في التحديدات كالكر مثلا.
فإن كان الخلوص هو المعنى الأول فلا ينافيه الغش القليل، وإن كان المعنى
الثاني فالغش القليل ينافيه، وأنه لا عبرة بتسامح العرف وإطلاق الخالص عليه،
كما لا عبرة بإطلاق الكر على ما نقص منه قليلا، وحيث قلنا بأن هذا الخز غير الخز
المستثنى في الأخبار فلا طائل في تنقيح معنى الخلوص وأن أي المعنيين صحيح،
فإنه لا موضوع لهذا البحث حينئذ فتأمل جيدا.
ثم إنه ربما استثنى بعض تبعا لبعض الأخبار (1) الحواصل والسمور والفنك،
ولكن الظاهر ذهاب المشهور على خلافه ومعارضة أخبار المجوزة لصراحة جملة من
الأخبار الدالة على المنع، فلا بد من حمل أخبار الجواز على التقية.
الأمر الثالث:
في تحقيق الحال في شرطية المأكولية أو مانعية غير المأكولية، وينبغي أولا من
تمهيد مقدمة ربما يظهر منها فساد بعض ما قيل في المقام، وهي أنه قد حقق في
محله من أن الشرطية والجزئية والمانعية والسببية غير قابلة لأن تنالها بأنفسها يد
الجعل، سواء في ذلك شرطية التكليف أو شرطية المكلف به (2).

(1) الوسائل: ج 3 ص 254 باب 4 من أبواب لباس المصلي.
(2) وكذلك شرطية الوضع كما في باب العقود والايقاعات، وكذلك في باب الطهارة والنجاسة وأمثال ذلك،
وبالجملة: المدعى هو أن الشرطية والجزئية والمانعية والسببية غير قابلة للجعل في أي باب من الأبواب، سواء كان في
باب التكليف أو في باب المتعلق والمكلف به أو في باب الوضع، لأن ملاك استحالة الجعل في الجميع واحد كما
لا يخفى وجهه، فتأمل جيدا " منه ".
246

والسر في ذلك واضح، فإن ما هو فعل الآمر والصادر عنه في مقام التشريع
ليس إلا تصور عدة أمور تكون موافقة لغرضه وقيام المصلحة بها، وبعد ذلك
يجمعها في قالب الطلب وينشئها على طبق ما تصوره، فعند ذلك ينتزع من القيود
الوجودية الجزئية والشرطية على اختلاف بينهما في كيفية الاعتبار من جعل
الشئ داخلا في الماهية بحيث يتألف منه ومن غيره المركب فيكون جزء، ومن
جعله خارجا عنها على نحو التقيد داخل والقيد خارج فيكون شرطا، وينتزع من
القيود العدمية المانعية، وإلا فنفس الشرطية والمانعية والجزئية ليس لها ما بحذاء
في وعاء، وليس لها ثبوت وتحقق لا في عالم التكوين ولا في عالم الاعتبار والتشريع.
بل تكون الشرطية وأخواتها أسوأ حالا من وجوب والمقدمة اللازم من وجوب
ذيها، فإن وجوب المقدمة أمر ثابت في عالم الاعتبار ومتصور في عالم التشريع
وتتعلق بها إرادة آمرية، غاية الأمر إرادة تبعية تترشح من إرادة ذيها وخطابها لازم
خطاب ذيها، وهذا بخلاف الشرطية وما شابهها فإنها أمور انتزاعية صرفة غير
متأصلة في عالم الاعتبار، وغير متعلقة لإرادة أصلا ولو بإرادة تبعية، وليس لها نحو
ثبوت وتحقق لا في عالم التصور السابق على الجعل ولا في عالم الجعل والانشاء، لما
عرفت من أن الثابت في عالم التصور ليس إلا لحاظ أمور متعددة متباينة يجمعها
قيام المصلحة بها وموافقتها للغرض، ثم بعد ذلك. يجعلها في معرض الانشاء
وقالب الطلب.
ففي عالم التصور لم يتصور إلا ذات الشرط والجزء من حيث دخله في الغرض
ونفس المانع من حيث منعه عنه، لا شرطية الشرط وجزئية الجزء ومانعية المانع،
فإنها لم يقع التصور عليها ولم تدخل في عالم اللحاظ، بل المتصور والملحوظ هو
247

ذوات هذه الأشياء، وعند ذلك تنتزع الشرطية والجزئية والمانعية عن المتصور،
ففي عالم التصور ليس لهذه الأشياء ما بحذاء ولم يكن لها تحقق، فإذا لم يكن لها في
عالم التصور نحو ثبوت وتحقق ففي عالم الجعل والانشاء تكون أيضا كذلك، بداهة
أن الجعل والانشاء إنما يكون على طبق المتصور، ولا يعقل أن يتحقق في عالم
الجعل شئ ليس له تحقق في عالم التصور، ففي عالم الجعل أيضا ليس للشرطية
وأخواتها نحو ثبوت وتحقق فلا يتعلق بها جعل، بل لو فرض أن بعد الجعل ألف مرة
قال: جعلت هذا الشئ جزء للمجعول أو شرطا له فهو غير قابل لأن يصير جزء
أو شرطا له إلا بالنسخ وتغيير المجعول عما جعل، وذلك واضح إلى النهاية
فلا حاجة إلى إطالة الكلام فيه.
ثم إنه قد عرفت أن منشأ انتزاع الشرطية غير منشأ انتزاع المانعية، فإن منشأ
انتزاع الشرطية إنما هو تعلق الطلب بالخصوصية الوجودية التي لها دخل في تحقق
الملاك، وهذا بخلاف منشأ انتزاع المانعية فإنه ليس هو إلا عبارة عن اعتبار
عدمه في المتعلق من جهة مضادة وجوده لتحقق الملاك.
إذا عرفت ذلك فيقع الكلام حينئذ في إمكان الجمع في الجعل بين ما هو
منشأ انتزاع شرطية أحد الضدين ومانعية الآخر، بحيث يكون وجود أحد الضدين
شرطا والآخر مانعا، فنقول:
الظاهر عدم إمكان ذلك، وأنه من المستحيل أن يكون لوجود أحد الضدين
دخل في الملاك والمصلحة مع مانعية الضد الآخر عن تحقق الملاك، وكذلك من
المستحيل أيضا جعل أحد الضدين شرطا والآخر مانعا، وكذلك من المستحيل
أيضا ثبوت أثر وتحقق فائدة في الجمع بين شرطية أحدهما ومانعية الآخر، فالجمع
بينهما من المستحيل في جميع هذه العوالم الثلاثة من عالم الملاك والجعل والأثر.
وتفصيل ذلك هو أنه لا إشكال في تقدم رتبة الشرط على وجود المانع كتقدم
248

رتبة المقتضي على وجود الشرط، فإن المانع هو الذي يزاحم المقتضي في تأثيره
ويصادم أثره، فرتبة وجود المانع متأخر عن وجود المقتضي، إذ مع عدم المقتضي
لا معنى لمانعية المانع وكان وجوده كعدمه، ولا يستند عدم الشئ إلى وجود المانع
بل يستند إلى عدم وجود مقتضيه، لأن انتفاء الشئ إنما يكون بانتفاء أول جزء
علته وليس هو إلا المقتضي، فمع عدم المقتضي لا معنى لاطلاق المانع على الشئ
كما يشاهد ذلك بالوجدان، فإن مع عدم وجود النار في المكان المقتضية للاحراق
لا يصح إطلاق المانع على البلل الموجود في المكان إلا على نحو التعليق والاشتراط،
وذلك بمكان من الوضوح لا حاجة إلى إطالة الكلام فيه.
فإذا ثبت تأخر رتبة وجود المانع عن وجود المقتضي فلا محالة يكون رتبة
وجوده متأخرا عن رتبة وجود ما هو شرط لتأثير المقتضي، لما عرفت من أن المانع
هو ما صادم تأثير المقتضي وزاحم رشحه وإفاضته الوجود لمعلوله، فلا بد أولا من
وجود المقتضي بماله من الشرائط المعتبرة في تأثيره حتى تصل النوبة إلى المانع،
وإلا فمع عدم وجود الشرط لا يستند عدم الشئ إلا إلى عدم شرطه لا على وجود
مانعه، فإن المانع كان أو لم يكن وجوده وعدمه سيان بعد عدم وجود ما هو
الشرط لتأثير المقتضي، كما هو واضح أيضا إلى الغاية.
وإذا ظهر تأخر رتبة وجود المانع عن رتبة وجود الشرط فلا محالة يكون رتبة
عدم المانع متأخرا أيضا عن وجود الشرط، لأن عدم المانع هو القيد الأخير لوجود
العلة التامة المستتبعة لوجود المعلول، فلا محالة يكون متأخرا في الرتبة عن وجود
المقتضي والشرط كما لا يخفى.
إذا عرفت ذلك فنقول: بعد ما كان الشرط في العلل التكوينية مقدما في
الرتبة عن المانع، كان الشرط الشرعي من حيث دخله في الملاك وكشفه عن
المصلحة بناء على أصول العدلية مقدما في الرتبة عن دخل عدم المانع في الملاك
249

وما هو مصلحة الحكم، وذلك لأن دخل الشروط وعدم الموانع الشرعية في
الملاكات إنما هو من الأمور الواقعية التكوينية، ولا يكون ذلك بتصرف شرعي
وجعل مولوي، بداهة أن مدخلية شئ في الملاك وتسبب الملاك عنه أو عدم
التسبب من الأمور الواقعية التكوينية وقد كشف الشارع عنه.
فإذا كان مدخلية الشروط وعدم الموانع الشرعية في الملاكات من الأمور
الواقعية التكوينية، كان من المستحيل أن يكون لوجود أحد الضدين دخل في
تحقق الملاك وشرط لثبوته، مع مدخلية عدم الضد الآخر في ثبوت الملاك أيضا
بحيث يكون وجوده مانعا، بداهة أنه عند وجوده لا يكون عدم الملاك مستندا إليه
حتى يكون مانعا، لأن وجوده مساوق لعدم الضد الآخر لاستحالة اجتماع
الضدين في الوجود، فإذا ساوق وجوده لعدم الآخر المفروض شرطيته في الملاك
كان عدم الملاك مستندا إلى عدم شرطه لا إلى وجود هذا الضد المفروض
مانعيته، لما تقدم من تقدم رتبة الشرط على وجود المانع، فإذا لم يكن عدم الملاك
مستندا إلى وجوده لم يكن لعدمه دخل في الملاك وهو المطلوب.
وحاصل الكلام: أنه حيث كان وجود أحد الضدين دائما مساوقا لعدم الآخر
فلا يعقل أن يكون وجود أحد الضدين شرطا في تحقق الملاك مع كون الضد
الآخر مانعا عنه، لأنه عند وجود الضد المفروض كونه مانعا لا يكون عدم تحقق
الملاك من أجل وجوده ومستندا إليه، بل يكون من أجل انعدام الضد الآخر
الذي يكون وجوده شرطا في الملاك، السابق وجوده في الرتبة عن وجود المانع كما
تقدم، فلا يصح أن يكون وجود هذا الضد مانعا، فلا يكون لعدمه دخل في
الملاك كما لا يخفى. فظهر استحالة اجتماع شرطية أحد الضدين مع مانعية الآخر
في الملاك والمصلحة عليها الأحكام.
وأما استحالة اجتماعهما في الجعل فمضافا إلى لزوم خلو أحد الجعلين عن
250

الملاك، وهو مناف للأصول العدلية من تبعية الأحكام للملاكات، يلزم لغوية
جعل المانع.
بل يكون من باب تحصيل الحاصل، لأنه بنفس جعل أحد الضدين شرطا
يكون الآخر مانعا، فهو منجعل قهرا لاستحالة اجتماع الضدين في الوجود،
فلا يعقل استقلال الجعل بالنسبة إلى كل منهما، لأن جعل المانع بعد جعل شرطية
أحد الضدين يكون من قبيل جعل ما هو حاصل، لما عرفت من أن مانعية الضد
وتقيد المطلوب بعدمه لازم جعل شرطية الضد الآخر، وحيث كان وجود الشرط
مقدما في الرتبة على وجود المانع كما تقدم فلا محالة يكون تصور الشرط في مقام
الجعل مقدما على جعل المانع، فيكون رتبة جعل الشرط سابقة عن جعل
المانع، وإذا كان الأمر كذلك يكون جعل مانعية أحد الضدين بعد جعل شرطية
الآخر تحصيلا للحاصل، لأنه منجعل بنفس جعل شرطية الضد الآخر السابق في
الرتبة عليه كما لا يخفى.
وأما استحالة اجتماعهما في الأثر فهو أيضا أوضح من أن يخفى، لأنه بعد
جعل شرطية أحد الضدين لا يعقل أن يترتب أثر عملي على جعل مانعية الآخر،
لأن وجود أحد الضدين دائما ملازم مع عدم الآخر، وعليه يكون الانبعاث عن
الجعل المتكفل لشرطية أحد الضدين هو بنفسه انبعاثا عن إيجاد الضد الآخر
المفروض مانعيته، كما أن عصيان خطاب الشرط يكون باتحاد ضده.
والحاصل: أنه لا يترتب بعد جعل أحد الضدين شرطا أثر علمي من إطاعة
وعصيان على جعل مانعية الضد الآخر، لأن إطاعته وعصيانه إنما هو بإطاعة
وعصيان الشرط السابق رتبة عليه، والأثر المترتب على الجعل ليس إلا الإطاعة
والعصيان، فإذا انتفيا انتفى الجعل كما هو واضح.
وإذا ظهر لك استحالة الجمع بين شرطية أحد الضدين ومانعية الآخر ملاكا
251

وخطابا وأثرا بما لا مزيد عليه، فلو قام هناك دليل على شرطية أحد الضدين، وقام
دليل آخر على مانعية الضد الآخر، كان الدليلان متعارضين ولا بد من إعمال
باب المعارضة عليهما، فإن الضابط في باب التعارض هو التنافي وامتناع ثبوت
مدلولي الدليلين في نفس الأمر، سواء كان ذلك من أجل مناقضة نفس الدليلين
كما في أكرم زيدا ولا تكرم زيدا، أو كان من أجل قيام الاجماع والضرورة على
وحدة المجعول في الواقع، مع أن كلا من الدليلين متكفل لجعل مغاير لما تكفله
الآخر من الجعل، كما في مسألة وجوب صلاة الظهر والجمعة، فإنه مع قطع النظر
عن الاجماع الخارجي القائم على وحدة الفريضة في يوم الجمعة لم يكن بين
الدليلين تعارض، بل كان اللازم الأخذ بكلا مدلوليهما من وجوب الظهر
والجمعة، ولكن بعد قيام الاجماع على ذلك يعامل مع كل من الدليلين معاملة
التعارض، أو كان من أجل استحالة أن تنالهما معا يد الجعل، كما فيما نحن فيه من
شرطية أحد الضدين ومانعية الآخر، فإن في جميع هذه الأقسام الثلاثة يعامل مع
الدليلين معاملة التعارض.
فظهر فساد ما ربما ينسب إلى بعض من عدم معاملة التعارض مع الدليلين
الدال أحدهما على شرطية أحد الضدين والآخر على مانعية الضد الآخر، بل لا بد
من الأخذ بكل منهما.
وجه الفساد واضح بعد ما عرفت من استحالة الجمع بينهما، وعليه لا محيص
من معاملة التعارض مع مثل هذين الدليلين.
إذا عرفت ذلك كله فلا بد حينئذ من ملاحظة أدلة الباب، وما يستفاد منها
من شرطية المأكولية للصلاة أو مانعية الغير المأكولية، فنقول: إن أخبار الباب على
طوائف.
منها: ما تضمن النهي عن الصلاة في غير المأكول، وهي عدة من الأخبار ربما
252

تصل حد الاستفاضة، كما يظهر للناظر في أدلة الباب من الأدلة العامة والخاصة
الواردة في المنع عن الصلاة في مثل الثعالب والأرانب والسمور والفنك وغيرها.
وظهور هذه الطائفة في مانعية غير المأكول مما لا يكاد يخفى، لما عرفت من أن منشأ
انتزاع المانعية إنما هو النواهي الغيرية الدالة على تقيد المطلوب بعدم تخصصه
بالخصوصية الكذائية من غير المأكول والحرير وأمثال ذلك.
ومنها: ما تضمن عدم جواز الصلاة في غير المأكول، كما في خبر الهمداني (1)
المتقدم. وهذه الطائفة أيضا كسابقها في الدلالة على المانعية كما لا يخفى، لأن
المراد من الجواز وعدم الجواز في أخبار الباب ليس هو الجواز وعدم الجواز
التكليفي، بل المراد الوضعي منه المساوق لعدم ترتب الأثر وعدم المضي، في
مقابل الجواز بمعنى المضي وترتب الأثر، وظاهر أن عدم ترتب الأثر وعدم المضي
للصلاة الواقعة في غير المأكول إنما هو من جهة خروج الفرد المتخصص به عن
صلاحية الانطباق على المطلوب، وليس ذلك إلا من جهة مانعية غير المأكول عن
انطباق المتخصص به على المطلوب.
ومنها: ما دل على فساد الصلاة الواقعة في غير المأكول، وهي أيضا ظاهرة في
المانعية، لأن الفساد أيضا عبارة عن عدم انطباقه على المطلوب وهو معنى المانعية
كما تقدم.
ومنها: بعض التعليلات الواردة في الباب من أكثرية المسوخ وآكلية اللحم،
وهذا أيضا يدل على المانعية، لأن التعليل بذلك يدل على أن المنع عن غير المأكول
لملاك مسوخية الأكثر أو آكلية اللحم، فهو تعليل بما هو ملاك المنع.
وبالجملة: هذه الطوائف كلها يدل على المانعية، ولم نعثر في أدلة الباب على

(1) الوسائل: ج 3 ص 251 باب 2 من أبواب لباس المصلي، ح 4.
253

ما يدل على الشرطية، سوى ما قيل من ظهور روايتي ابن أبي حمزة (1) وابن بكير (2) في
شرطية المأكول.
قال في الأولى: سألت أبا عبد الله عليه السلام وأبا الحسن عليه السلام عن
لباس الفراء والصلاة فيها، فقال: لا تصل فيها إلا فيما كان منه ذكيا، قلت: أوليس
الذكي ما ذكي بالحديد؟ فقال: بلى إذا كان مما يؤكل لحمه، قلت: وما
يؤكل لحمه من غير الغنم؟ فقال: لا بأس بالسنجاب فإنه دابة لا تأكل اللحم،
وليس هو مما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وآله، إذا نهى عن كل ذي ناب
ومخلب. وفي نسخة: وما لا يؤكل لحمه من غير الغنم؟ فقال: لا بأس.. (3) إلخ. وهذه الرواية قد استدل بها من قال بالشرطية، ولكن الاستدلال بها على
الشرطية يتوقف على أن يكون ما بعد " بلى " وهو قوله " إذا كان مما يؤكل لحمه "
راجعا إلى صدر الرواية وهو قوله " إلا فيما كان منه ذكيا " ويكون قيدا له، فيصير
المعنى حينئذ لا تصل إلا في الذكي مما يؤكل لحمه، ويستفاد منه الشرطية من
جهة تعلق الطلب بأمر وجودي (4).
وأما لو كان ما بعد " بلى " من تتمة الجواب عن قول السائل " أوليس
الذكي ما ذكي بالحديد " فتكون الرواية حينئذ أجنبية عن الدلالة على شرطية
المأكول، لأنه بناء على هذا يكون من قوله " قلت أوليس الذكي ما ذكي..
إلخ " جملة مستأنفة مشتملة على سؤال وجواب أجنبي عن باب الصلاة، فكأن

(1) الوسائل: ج 3 ص 252 باب 3 من أبواب لباس المصلي، ح 3.
(2) الوسائل: ج 3 ص 250 باب 2 من أبواب لباس المصلي، ح 1.
(3) التهذيب: ج 2 ص 203 باب 11، ح 797.
(4) وهذا أيضا لا يدل على شرطية المأكولية بقول مطلق، بل غايته أن يدل على شرطية المأكولية فيما يعتبر فيه
التذكية كالجلد وغيره مما تحله الحياة، لا مثل الوبر والشعر وغير ذلك مما لا تحله الحياة فتأمل " منه ".
254

السائل بعد ما سمع جواب الإمام عليه السلام عن مسألة الصلاة في الفراء من أنه
يجوز الصلاة فيها إذا كانت ذكية، أراد أن يعلم الذكي فسأل وقال " أوليس
الذكي ما ذكي بالحديد " فأجابه الإمام عليه السلام بأنه ليس مجرد تذكية
الحيوان بالحديد يكون ذكيا، بل يعتبر أن يكون الحيوان الذي يرد عليه التذكية
مما يؤكل لحمه.
وبهذا استدل من قال بعدم قبول غير مأكول اللحم للتذكية، وعليه لا بد من
رفع اليد عن هذا الذيل لمعارضته لعدة من الأخبار الصريحة الصحيحة الدالة على
قبول غير مأكول اللحم للتذكية.
وبالجملة: لو كان قوله " إذا كان مما يؤكل لحمه " من تتمة الجواب عن
السؤال الثاني فتكون الرواية بمعزل عن الدلالة على شرطية المأكولية، وإنما هو أمر
آخر لا بد من رفع اليد عنه بما دل على قبول المسوخ وغيره للتذكية، ويكون الجواب
عن السؤال الأول مجرد قوله عليه السلام " لا تصل فيها إلا فيما كان منه ذكيا "
وهذا لا يدل على شرطية المأكولية، بل أقصاه أنه يدل على اشتراط التذكية في
لباس المصلي إذا كان بما يعتبر فيه التذكية كالجلد وأمثاله مما تحله الحياة،
لا مثل الوبر، والشعر مما لا يعتبر فيه التذكية:
والظاهر أن يكون قوله " إذا كان مما يؤكل لحمه " من تتمة الجواب عن
السؤال الثاني لا تقييدا للجواب الأول، لأن الفصل بين الجواب الأول وقيده
بسؤال وجواب أجنبي بعيد غايته.
اللهم إلا أن يقال: إن ما دل على قبول محلل الأكل من المسوخ وغيره يكون
قرينة على رجوع ما بعد " بلى " إلى تقييد الجواب الأول، فتأمل فإن أقصاه على
اعتبار المأكولية في خصوص ما تحله الحياة كما ذكرناه في الهامش.
ثم إن هذا كله مع قطع النظر عما في ذيل الرواية، فإنه بناء على ما في بعض
255

النسخ (1) من ثبوت كلمة " لا " في قول السائل " وما لا يؤكل لحمه من غير الغنم "
يكون نفس الذيل دليلا على مانعية غير المأكول، فإن قوله عليه السلام في آخر
الرواية " وليس هو مما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وآله إذا نهى عن كل
ذي ناب ومخلب " يكون أقوى شاهدا على أن الأصل في باب الصلاة هو نهي
النبي صلى الله عليه وآله عن غير المأكول، فتكون المانعية هو الأصل في هذا
الباب، ويكون التعبير في الصدر بالمأكولية من باب صحة التعبير على اعتبار
انتفاء أحد الضدين بوجود الضد الآخر، من دون أن يكون خصوصية لوجوده
حتى يستفاد منه الشرطية.
نعم بناء على خلو السؤال عن كلمة " لا " يكون الذيل أيضا أجنبيا عن باب
الصلاة كما تقدم.
فالانصاف أن استفادة الشرطية من هذه الرواية في غاية الاشكال، وعلى
تقدير الاستفادة فلا يمكن مقاومتها مع الأدلة العامة والخاصة الدالة على المانعية،
مع ما فيها من الصراحة والتعليل، فتأمل جيدا.
وأما رواية ابن بكير فهي ما رواه ابن أبي عمير عن ابن بكير قال: سأل زرارة
أبا عبد الله عن الصلاة في الثعالب والفنك والسنجاب وغيره من الوبر، فأخرج
كتابا زعم أنه إملاء رسول الله أن الصلاة في وبر كل شئ حرام أكله فالصلاة.
في وبره وشعره وجلده وبوله وروثه وكل شئ منه فاسد لا تقبل تلك الصلاة
حتى يصلي في غيره مما أحل الله أكله (2)، الخبر.
وقد استدل بهذه الرواية أيضا على شرطية التذكية، حيث يستفاد من قوله

(1) راجع ص 237 من هذا الكتاب.
(2) الوسائل: ج 3 ص 250 باب 2 من أبواب لباس المصلي، ح 1 وفيه اختلاف يسير.
256

عليه السلام " حتى يصلي في غيره مما أحل الله أكله " توقف صحة الصلاة على
القيد الوجودي وهو وقوعها في محلل الأكل.
ولكن يتوقف الاستدلال بالرواية على الشرطية على جعل الجملة الفعلية
وهي قوله " لا تقبل تلك الصلاة " جملة مستأنفة سيقت للتأسيس وبيان حكم
مستقل، لا للتأكيد وتوضيحا لقوله " فالصلاة في وبره وشعره وجلده وبوله وروثه
وكل شئ منه فاسد " بداهة أنه لو كانت الجملة مسوقة للتأكيد كانت الرواية
من جملة الأدلة الدالة على المانعية لا الشرطية كما لا يخفى.
وكذا يتوقف الاستدلال بها على الشرطية على أن تكون الجملة الفعلية ناظرة
إلى الصلاة قبل وقوعها في الخارج وقبل صدورها من المكلف، وأما لو كانت
الجملة ناظرة إلى الصلاة بعد وقوعها، وبيان أن الصلاة الواقعة في غير ما أحل الله
أكله فاسدة ولا تجزي حتى يصليها في غيره، ويكون قوله " مما أحل الله أكله "
بيانا لبعض أفراد الغير الذي يعتبر أن يوقع الصلاة فيه بداهة أنه للغير أفراد منه القطن
والكتان ومنه ما أحل الله أكله من أجزاء الحيوان، فإذا كانت الجملة ناظرة إلى
الصلاة بعد وقوعها فأقصى ما تدل عليه الجملة حينئذ هي فساد الصلاة الواقعة في
محرم الأكل ولا بد من إعادتها في غيره.
ومعلوم أنه لا يعتبر أن يكون الغير هو خصوص محلل الأكل، لقيام الضرورة
على جواز الصلاة في القطن والكتان، فلا بد من حمل قوله " مما أحل الله أكله "
لبيان بعض أفراد الغير لا أن يكون قيدا لذلك الغير، فإنه لو كان قيدا لذلك الغير
كان ظاهره اعتبار وقوع الصلاة في محلل الأكل، بحيث لا تجوز الصلاة في غيره قط
كما هو الشأن في جميع الشرائط الوجودية للصلاة، فإن معنى اعتبار وقوع الصلاة
في الظاهر هو عدم جوازها في غيره، ولذا يجب عليه تحصيل الطاهر مهما أمكن،
فلو كان قوله " مما أحل الله أكله " قيدا لكان اللازم هو اعتبار وقوع الصلاة فيه
257

بحيث يلزم عليه تحصيله، وهذا مخالف للضرورة بداهة جواز الصلاة في القطن والكتان
ومن هنا كان للقائل بالشرطية الالتزام بأحد الأمرين، إما بالالتزام بأن ما
هو الشرط في الصلاة هو أحد الخصوصيات الوجودية من القطن والكتان
والمأكول وغيرها، وإما بالالتزام بأن في خصوص ما إذا كان اللباس من الحيوان
يشترط فيه خصوصية وجودية من كونه من مأكول اللحم، ويكون جواز الصلاة
في القطن والكتان من باب السالبة بانتفاء الموضوع.
ولكن حيث كان الالتزام الأول بلا موجب ولم يقم عليه دليل التزم بعض
من قال بالشرطية إلى الثاني، وقال: إن الشرط مقصور بما إذا كان اللباس من
أجزاء الحيوان، ويكون الجواز بالنسبة إلى غير ذلك من باب السالبة بانتفاء
الموضوع، مع أن السلب بانتفاء الموضوع خلاف القضايا المتداولة في العلوم، فإن
الأصل في السلب أن يكون بانتفاء المحمول، وسيأتي الإشارة إليه في طي المباحث
الآتية إن شاء الله.
وبالجملة: السلب بانتفاء الموضوع خلاف الظاهر، ولا يصار إليه إلا من باب
اللابدية كما في المقام، بناء على قيام الدليل القطعي على شرطية المأكول، إلا أن
الشأن في قيام الدليل على ذلك.
وبعد لم يقم في المقام دليل على ذلك، لما عرفت من أن دلالة رواية ابن
بكير (1) على الشرطية يتوقف على جعل الجملة الفعلية للتأسي، وكونها ناظرة إلى
الصلاة قبل وقوعها، وكون قوله " مما أحل الله أكله " قيدا للغير لا بيانا لأحد
أفراده، وفي جميع هذه المقدمات الثلاثة نظر، وعلى تقدير التسليم فغايته تعارض
الصدر مع الذيل، فإن صدر الرواية ظاهر في المانعية وذيلها ظاهر في الشرطية،

(1) الوسائل: ج 3 ص 250 باب 2 من أبواب لباس المصلي، ح 1.
258

فيتعارضان وتسقط هذه الرواية عن صلاحية التمسك بها على كلا الطرفين من
الشرطية والمانعية، ويبقى في المقام أدلة المانعية الصريحة المعللة سالمة عن المعارض.
فتحصل: أن أدلة الباب مطبقة على المانعية.
إذا عرفت ذلك فيقع الكلام حينئذ في أن المانعية المستفادة من الأدلة هل
هي المانعية المطلقة الواقعية التي لا دخل للعلم والجهل بها، أو أن مانعيتها مقصورة
بصورة العلم بالموضوع؟ وبعبارة أخرى: هل مانعية غير المأكول من الموانع
الواقعية، أو من الموانع العلمية كالنجاسة، بحيث لو صلى في غير المأكول جهلا
كانت صلاته واقعا صحيحة، وهذا بخلاف ما لو كانت المانعية واقعية فإن
مقتضى القاعدة الأولية بطلان الصلاة إلا أن يقوم دليل على الاجزاء؟
فنقول: ربما قيل بأن المانعية في المقام علمية لا واقعية، وأقصى ما يمكن أن
يستدل به على ذلك أحد أمور:
الأول: هو دعوى أخذ العلم في مداليل الألفاظ وضعا وانصرافا. وهذه
الدعوى بمكان من الغرابة والفساد، بداهة أن لفظ الخمر والخل والمأكول وغير
المأكول لم يوضع إلا لنفس الخمر والخل الواقعي من دون دخل للعلم والجهل به،
ولا وجه لانصرافه إلى المعلوم.
وبالجملة: هذه الدعوى مما لا يمكن المساعدة عليها، وكانت في هذا الزمان
من الدعاوي المهجورة.
الثاني: دعوى دلالة رواية عبد الرحمن على ذلك، قال سألت أبا عبد الله
عليه السلام عن رجل يصلي وفي ثوبه عذرة من إنسان أو سنور أو كلب، أيعيد
صلاته؟ قال عليه السلام: إن كان لم يعلم فلا يعيد (1).

(1) الوسائل: ج 2 ص 1060 باب 40 من أبواب النجاسات، ح 5.
259

وجه الدلالة هو أنه لا إشكال في عدم الفرق بين أجزاء غير المأكول من
الأجزاء النجسة وغيرها في المانعية، بل مانعية الأجزاء النجسة تكون أشد وأولى،
فإذا كانت مانعية عذرة الكلب والسنور مقصورة بصورة العلم حسب ما دلت عليه
الرواية حيث حكم الإمام عليه السلام فيها بعدم الإعادة عند الجهل، فمانعية غير
العذرة من سائر أجزاء السنور والكلب يكون أولى بقصرها بصورة العلم، هذا.
ولكن لا يخفى عليك أن الاستدلال بهذه الرواية على قصر المانعية بصورة العلم
يتوقف على دعوى عدم الفرق بين الصلاة الواقعة في غير المأكول باعتقاد عدم
وقوعها فيه أو الغفلة عن ذلك، وبين الصلاة مع الشك في المأكولية وعدمها.
وبالجملة: هذه الرواية دلت على عدم إعادة الصلاة عند وقوعها في غير
المأكول جهلا بزعم أنه من المأكول أو الغفلة عن ذلك، وأين هذا مما نحن فيه
من جواز إيقاع الصلاة في المشكوك كونه من المأكول جوازا واقعيا، بحيث لا يضر
انكشاف الخلاف لو صلى فيه والحال هذه، ويكون من قبيل انقلاب الموضوع إلى
موضوع آخر؟
فهذه الرواية أجنبية عما نحن فيه، بل لو قلنا فيما نحن فيه بالجواز من جهة
اقتضاء الأصول العملية ذلك كما هو المختار وسيأتي توضيحه كان الاجزاء عند
انكشاف الخلاف بعد الصلاة يحتاج إلى دليل آخر غير هذه الرواية، فإن هذه
الرواية قد تضمنت للاجزاء وعدم الإعادة بقيدين (أحدهما) انكشاف الخلاف
بعد وقوع الصلاة (ثانيهما) أن يكون إيقاع الصلاة في غير المأكول بزعم أنه من
المأكول.
وما نحن فيه من جواز إيقاع الصلاة مع الشك في المأكولية قبل الصلاة جوازا
واقعيا يكون كلا القيدين اللذين اعتبرا في الرواية منتفيا، ولو قلنا بالجواز
الظاهري حسب ما تقتضيه الأصول العملية مع الشك في المأكولية قبل الصلاة،
260

كان عند انكشاف الخلاف القيد الثاني اللذين اعتبرا في الرواية منتفيا، فلا بد
من التماس دليل آخر يدل على الاجزاء وعدم الإعادة عند انكشاف الخلاف،
بناء على جواز الصلاة في المشكوك. وهذه الرواية لا تدل لا على أصل الجواز في
المشكوك، ولا على عدم الإعادة عند انكشاف الخلاف.
فإن قلت: لو كانت الصلاة الواقعة في غير المأكول مع الجهل به مشتملة على
المصلحة وما هو ملاك الحكم، كما يكشف عنه هذه الرواية الدالة على الاجزاء
وعدم الإعادة، فما المانع من إيقاع الصلاة مع الجهل بالمأكولية ولو شكا، لأنه على
فرض كون المشكوك من غير المأكول واقعا لا يضر باشتمال الصلاة على المصلحة
وما هو ملاك الأمر؟ فهذه الرواية دليل على اشتمال الصلاة على المصلحة وإن
وقعت في غير المأكول جهلا، من غير فرق بين أقسام الجهل من الغفلة واعتقاد
المأكولية والشك فيها، فإن العبرة بعدم العلم بغير المأكولية كما هو مفروض
الرواية، وعدم العلم متحقق في جميع أقسام الجهل.
قلت: نعم هذه الرواية وإن دلت على اشتمال الصلاة الواقعة في غير المأكول
جهلا على المصلحة والملاك، إلا أن مجرد اشتمال الصلاة الواقعة امتثالا للأمر
الواقعي المتعلق بها على المصلحة لا يلازم اشتمال الصلاة على المصلحة مع الشك
في المأكولية قبل فعلها، فإنه لو قام الدليل على أن الشئ الواقع في مرحلة امتثال
المأمور به الذي هو متأخر عن رتبة الأمر وفي طوله مشتمل على ما هو مصلحة المأمور
به في هذا الحال وبهذا الوصف أي بوصف وقوعه امتثالا عما هو المأمور به
فلا يمكن التعدي عنه والقول بأن ذلك الشئ قبل وقوعه بوصف الامتثال
مشتملا على المصلحة.
نعم لو قام دليل آخر على اشتمال الشئ ولو قبل وقوعه بوصف الامتثال
على المصلحة لكان الأمر كما ذكر، إلا أن الشأن في قيام الدليل على ذلك، فإنه
261

لم يقم دليل على اشتمال الصلاة في مشكوك المأكولية على الملاك قبل إيقاعها،
حتى يقال بالتخيير بين وقوع الصلاة في المأكول ووقوعها في مشكوك المأكولية.
وبالجملة: هذه الرواية إنما تدل على اشتمال الصلاة الواقعة في غير المأكول
جهلا امتثالا لأمرها على المصلحة، وهذا لا يلازم اشتمال الصلاة في مشكوك
المأكولية قبل إيقاعها بوصف الامتثال على المصلحة، حتى يقال بأن المانعية في
المقام علمية لا واقعية.
الثالث: دعوى اختصاص أدلة الباب بصورة العلم بغير المأكولية. وقد نسبت
هذه الدعوى إلى المحقق القمي قدس سره وفيه: أنه لم يظهر وجه اختصاص
الأدلة بذلك بعد عدم أخذ قيد العلم فيها، اللهم إلا أن يكون غرضه من أدلة
الباب هي الرواية المتقدمة، وقد عرفت أنها أجنبية عن الدلالة على ذلك.
الرابع: دعوى عدم إطلاق أدلة الباب بحيث يعم صورة العلم والجهل. وفيه:
أن رواية ابن بكير (1) وأمثالها في غاية القوة من الاطلاق، ولم يظهر لنا في سائر
أبواب الفقه إطلاق أقوى من إطلاق أدلة الباب.
الخامس: دعوى قصر القيدية المستفادة من الخطابات الغيرية بصورة العلم. وهذه
الدعوى أيضا نسبت إلى المحقق القمي قدس سره ومرجع هذه الدعوى إلى دعويين.
(إحداهما) دعوى أن الخطابات الغيرية المسوقة لبيان الشرطية والمانعية
مشروطة بكل ما يشترط به الخطاب النفسي من الوجوبي والتحريمي، فكل شرط
اعتبر في حسن الخطاب النفسي فهو معتبر في حسن الخطاب الغيري أيضا.
(ثانيهما) دعوى أن العلم بالموضوع من شرائط حسن الخطاب، كما أن القدرة
على المتعلق من شرائط حسن الخطاب، ولدا نسب إلى بعض الأعلام اشتراط

(1) الوسائل: ج 3 ص 250 باب 2 من أبواب لباس المصلي، ح 1.
262

القيدية المستفادة من الأوامر الغيرية بالقدرة عليها، بحيث إنه إذا عجز عنها
فالقيدية ساقطة، ويجب الاتيان بالمقيد خاليا عن القيد، من دون أن يكون العجز
عن القيد موجبا لسقوط المقيد أيضا كما هو كذلك فيما إذا استفيدت القيدية من
مثل قوله " لا صلاة إلا بالطهور " (1) حيث إن العجز عن الطهور موجب لسقوط
الصلاة أيضا بحسب القاعدة الأولية.
وهذا بخلاف القيدية المستفادة من مثل قوله " لا تصل فيما لا يؤكل " و " في
الحرير " وأمثال ذلك من الخطابات الغيرية، فإن الخطاب الغيري كالخطاب
النفسي حسنه مشروط بالقدرة على متعلقة، فإذا عجز عن متعلقه فالخطاب ساقط
والقيدية المستفادة منه تستتبعه في السقوط وحينئذ لا موجب لسقوط المقيد.
وكأن المحقق القمي رحمه الله قاس العلم على القدرة، وجعل العلم أيضا من
شرائط حسن الخطاب كالقدرة، ولعل الذي أوقعه في هذا هو عد العلم من
الشرائط العامة كالقدرة، فكل خطاب مشروط بالقدرة فهو مشروط بالعلم أيضا،
وعليه يكون المانعية المستفادة من قوله " لا تصل في غير المأكول " مقصورة بصورة
العلم بغير المأكولية، هذا.
ولكن لا يخفى عليك ما في هذه الدعوى من المناقشة من وجوه:
(أحدها) أنه على تقدير تسليم هذه الدعوى والغض عما سيأتي، فأقصى
ما تقتضيه هذه الدعوى هو قصر المانعية المستفادة من الخطابات الغيرية الواردة في
أدلة الباب بصورة العلم بالموضوع، وأما المانعية المستفادة من الوضع كقوله
عليه السلام في رواية ة ابن بكير " فالصلاة فيه فاسدة " (2) وأمثال ذلك فلا يمكن

(1) الفقيه: ج 1 ص 33 باب وقت وجوب الطهور ح 67.
(2) الوسائل: ج 3 ص 250 باب 2 من أبواب لباس المصلي، ح 2.
263

قصرها بصورة العلم، فإنه لا يكون هناك خطاب حتى يقال باشتراط حسنه
بصورة العلم.
(وثانيها) أن أصل اعتبار القدرة في الأوامر الغيرية وجعلها من شرائط حسن
الخطاب الغيري كالخطاب النفسي مما لا وجه له، بعد ما كان الخطاب الغيري
في باب متعلقات التكاليف كالخطاب الغيري في باب الوضع والأسباب إنما
يكون لمحض الارشاد وبيان مدخلية القيد في تحقق الملاك في المقيد، فليس فيه
جهة بعث ومولوية حتى يكون حسنه مشروطا بالقدرة.
وعلى تقدير تسليم الفرق بين الخطاب الغيري في باب متعلقات التكاليف
والخطاب الغيري في باب الأسباب والوضع، وأن الخطاب الغيري في الأول له
جهة مولوية وبعث، فمن المعلوم أن جهة المولوية المستفادة من الخطاب إنما هو من
جهة تعلق الطلب المولوي بالمركب من هذا القيد المستفاد من الخطاب الغيري،
ومن سائر الأجزاء والقيود الأخر المستفادة من الخطابات الأخر، وإلا فنفس هذا
القيد لم يتعلق به خطاب مولوي مستقل، وإلا كان واجبا مستقلا وخرج عن
كونه قيدا، فليس هناك إلا خطاب واحد مستقل مولوي، والقدرة المعتبرة في
حسن الخطاب إنما هي القدرة على جميع المقيد مع القيود، فاللازم هو سقوط أصل
الخطاب المولوي عند العجز عن متعلقه ولو بواسطة العجز عن بعض قيوده، وقد
أطلنا الكلام في ذلك في التنبيه الثاني من تنبيهات مبحث الاشتغال في الأصول
فراجع.
(ثالثها) أن قياس العلم على القدرة وجعله من شرائط حسن الخطاب مما
لا وجه له، ومجرد عد العلم كالقدرة من الشرائط العامة لا دلالة له على كون العلم
من شرائط حسن الخطاب، بل شرطية العلم يختلف مع القدرة، فإن القدرة من
شرائط حسن الخطاب لقبح تكليف العاجز عقلا، وأما العلم فإنما هو من شرائط
264

تنجز الخطاب كما لا يخفى وجهه.
وبالجملة: دعوى اختصاص القيدية المستفادة من أدلة الباب بصورة العلم
بالموضوع مما لا وجه لها.
السادس: دعوى دلالة إطلاقات أدلة جواز الصلاة في كل لباس على جواز
الصلاة في المشكوك، والقدر الخارج منها هو صورة العلم يكون اللباس من غير المأكول.
وفيه: (أولا) أنه لم يظهر لنا بعد دليل يدل على جواز الصلاة في كل لباس
ولو بالاطلاق. (وثانيا) أن الخارج عن تحت الاطلاق على فرض وجوده إنما هو
عنوان غير المأكول الواقعي، فيكون التمسك بالاطلاقات على جواز الصلاة في
المشكوك من باب التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، وقد تبين في محله فساد ذلك.
فظهر أنه لا محيص عن القول بأن المانعية في المقام هي المانعية الواقعية التي
لا يتفاوت الحال فيها بين العلم بالموضوع والجهل به.
إذا عرفت ذلك فالذي ينبغي تحريره في المقام هو تحرير مرجع الشبهة، وأنه
عند الشك في المأكولية وعدمها هي الأصل العملي يقتضي جواز الصلاة في
المشكوك، أو أن الأصل العملي يقتضي عدم جواز الصلاة فيه؟ وتعيين الأصل
الجاري في الشبهة وأنه أي أصل يجري وأي أصل لا يجري؟
وقبل الخوض في ذلك ينبغي تمهيد مقدمة، وهي أنه كلامنا في تحرير
مرجع الشبهة في المشكوك إنما هو بعد الفراغ عن جريان البراءة في باب
الارتباطيات في متعلقات التكاليف، سواء قلنا بالبراءة العقلية والشرعية كليهما
كما هو مختار الشيخ قدس سره (1) أو قلنا بالبراءة الشرعية فقط كما هو مختارنا.
وإلا فلو قلنا في باب الارتباطيات بالاشتغال وعدم جريان البراءة الشرعية

(1) فرائد الأصول: ص 460 المقصد الثالث في الاشتغال.
265

والعقلية فيها فينهدم أساس تحرير الأصل في المقام، ولم يبق محل للتكلم عن
الأصل الجاري في المشكوك، بداهة أنه لو قلنا عند دوران الأمر بين الأقل
والأكثر في باب متعلقات التكاليف بالاشتغال والرجوع إلى الشك في الامتثال،
فيكون القول بالاشتغال فيها نحن فيه من تردد الموضوع الخارجي بين المأكولية
وعدمها الذي يرجع إلى الأقل والأكثر في باب موضوعات التكاليف
كما سنوضحه إن شاء الله أولى، ورجوع الشبهة في المقام إلى الشك في الامتثال
أشد، لأن بعض من قال بالبراءة عند دوران الأمر بين الأقل والأكثر في باب
متعلقات التكاليف الارتباطية قال بالاشتغال في المقام، بتخيل الفرق بين
دوران الأم ر بين الأقل والأكثر في متعلقات التكاليف، وبين دوران الأمر بينهما
في موضوعات التكاليف كما سيأتي.
والحاصل: أن كلامنا في المقام إنما هو بعد تسليم البراءة في باب الارتباطيات
عند دوران المتعلق بين الأقل والأكثر، حتى يتمحض الكلام في المقام في بيان
تحقق الفرق بين ما نحن فيه، وبين باب متعلقات التكاليف، وعدم تحقق الفرق
بينهما. فليكن هذا على ذكر منك حتى لا تشكل علينا في أثناء تحرير الأصل
الجاري في المشكوك بما يرجع إلى إنكار جريان البراءة في باب الارتباطيات عند
تردد متعلق التكليف بين الأقل والأكثر.
وينبغي أيضا أن يعلم أن السر في جريان البراءة في الارتباطيات ليس إلا
أن وجود الارتباطية كعدمها، وأن ما هو مناط جريان البراءة في التكاليف
الاستقلالية عند دورانها بين الأقل والأكثر كالدين المردد بين أن يكون عشرة
دراهم أو خمسة هو بعينه جار في التكاليف الارتباطية أيضا.
فإن المناط في جريان البراءة في الاستقلاليات ليس إلا من جهة الشك في
تعلق التكليف بالأكثر، وفي الارتباطيات أيضا كذلك، فإن التكليف فيها وإن
266

كان واحدا إلا أنه حيث كان منبسطا على أجزاء متعلقه وشرائطه فكان لكل
واحد من الأجزاء والشرائط حظ من ذلك التكليف وحصة يخصه، فإذا شك في
وجوب شئ جزء كان أو شرطا أو مانعا كان باعتبار ماله من الحصة شك في
التكليف، فتشمله أدلة البراءة العقلية والشرعية بناء على مسلك الشيخ
قدس سره أو خصوص البراءة الشرعية بناء على ما هو المختار عندنا.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن الكلام في تحرير الأصل الجاري في المشكوك يقع
في مقامات ثلاث:
الأول: في تنقيح جريان أصالة البراءة العامة للشبهات الوجوبية والتحريمية
والحكمية والموضوعية.
الثاني: في تنقيح جريان أصالة الحل المختصة بالشبهات التحريمة الموضوعية،
أو تعم الحكمية أيضا على وجه.
الثالث: في جريان الاستصحاب، وأنه هل يمكن أن يكون المشكوك مجرى
للاستصحاب بعد الفراغ عن كونه مجرى أصالة البراءة وأصالة الحل.
أما الكلام في المقام الأول: وهو في بيان جريان أصالة البراءة في المشكوك
فتنقيحه يستدعي رسم أمور:
الأول: أن الأحكام الشرعية بعدما كان لا محيص عن تعلقها بفعل المكلف،
وما كان تحت قدرته واختياره وما هو فاعله والصادر عنه، فإما أن لا يكون لها
تعلق بموضوع خارجي كالصلاة مثلا، حيث إن أجزاءها ليست إلا أفعالا وأقوالا
صادرة عن المكلف من دون أن يكون تعلق بموضوع خارجي، وكذا الكلام في
الغناء وأمثال ذلك في المتعلقات سواء كانت معروضة لحكم وجوبي أو لحكم
تحريمي، وإما أن يكون لها تعلق بموضوع خارجي، كوجوب إكرام العالم وحرمة
شرب الخمر، وأمثال ذلك من التكاليف الوجوبية والتحريمية التي لها تعلق
267

وربط بموضوع خارجي، سواء كان الموضوع من الموضوعات التي يمكن للمكلف
إيجادها في الخارج ويجعلها في عالم الأعيان كالخمر مثلا، فإنه يمكن أن يوجده
المكلف في الخارج بأن يصنع ويعمل من التمر والزبيب خمرا، أو كان من
الموضوعات التي لا يمكن للمكلف إيجادها في الخارج كحرمة وطئ الأم مثلا، إذ
لا يعقل للمكلف إيجاد ما تكون أما له، وكوجوب استقبال القبلة وأمثال ذلك من
الموضوعات الخارجة عن تحت قدرة المكلف واختياره.
ولكن على كل حال ما هو متعلق التكليف والمخاطب به لا بد وأن يكون أمرا
اختياريا للمكلف، بحيث يمكن أن ينبعث عنه ويحرك عضلاته نحوه، ففي مثل
حرمة وطئ الأم ما هو متعلق الحرمة ومورد التكليف ليس إلا وقوع الوطئ على
الأم، وأما كون المرأة أما فهذا غير قابل لتعلق التكليف به، وكذلك وجوب
الصلاة عند الزوال فإن ما هو مورد التكليف ليس إلا إيقاع الصلاة عند تحقق
الزوال، وأما زوالية الزوال وكون هذا الوقت زوالا فهو مما ليس تحت قدرة
المكلف واختياره، ولا يمكنهم تعلق التكليف به كما هو واضح.
وحاصل التقسيم: هو أن التكليف إما أن يكون وجوديا بمعنى أن يكون
المطلوب هو وجود الشئ، كالصلاة والحج وإكرام العالم وأمثال ذلك، وإما أن
يكون عدميا بمعنى أن يكون المطلوب عدم تحقق الشئ في الخارج وعدم صدوره
عن المكلف، كالغناء والغيبة وشرب الخمر وأمثال ذلك.
وكل منهما إما أن يكون له تعلق بموضوع خارجي كإكرام العالم وشرب الخمر
وأمثال ذلك، وإما أن لا يكون له تعلق بموضوع خارجي كالصلاة والغناء وأمثال
ذلك.
ثم إن ما كان له تعلق بموضوع خارجي فإما أن يكون الموضوع من
الموضوعات التي يمكن للمكلف إيجادها في الخارج كالخمر والعالم بناء على
268

إمكان جعل الشخص عالما، وإما أن لا يمكن كالأم والقبلة والوقت وأمثال
ذلك.
الأمر الثاني: ما كان من التكليف الذي له تعلق وربط بموضوع خارجي، ففي
عالم التصور والثبوت يمكن أن يكون الملاك والمصلحة، التي اقتضت إنشاء الحكم
وتشريعه إنما يثبت ويتحقق بعد تحقق الموضوع ووجوده في الخارج، بحيث يكون
وجود الموضوع خارجا من شرائط تحقق الملاك بحيث لا ملاك ولا مصلحة مع عدم
تحققه خارجا.
وأما القدرة فإن أخذت شرطا شرعا في لسان الدليل، كما إذا قال: إن
قدرت فافعل كذا فهي أيضا لها دخل في تحقق الملاك، إذ لو لم يكن لها دخل في
ذلك لكان أخذها في لسان الدليل لغوا، لاستقلال العقل بقبح تكليف العاجز.
والقول بأنه لا مانع من أخذها في لسان الدليل مع استقلال العقل باعتبارها
في التكليف، وأي ملازمة بين القدرة المأخوذة في لسان الدليل من أن يكون لها
دخل في تحقق الملاك، أو أي مانع من بيان الشارع ما يستقل به العقل فاسد
جدا، فإن الظاهر في كل ما أخذ في لسان الدليل أن يكون أخذه من باب أن
بيانه من وظيفة الشارع وما هو شأن المولى في مقام إعمال المولوية، والقدرة إذا
أخذت في لسان الدليل فالظاهر يقتضي أن يكون أخذها من جهة أن من وظيفته
بيانها، والقدرة المعتبرة عقلا في التكليف ليس من وظيفة الشارع بما أنه شارع
بيانها.
فمن نفس أخذ القدرة في لسان الدليل يستكشف أنها غير القدرة المعتبرة
عقلا. وعليه لا محالة يكون لها دخل في تحقق الملاك، لأن مع عدم دخلها في
الملاك يكون اعتبارها في الدليل لغوا وعبثا كما لا يخفى.
ثم إن هنا فرقا بين القدرة العقلية المعتبرة في التكليف وبين القدرة الشرعية
269

المأخوذ في لسان الدليل، فإن المعتبر في تحقق القدرة الشرعية هو أن يكون
المكلف قادرا على الشئ عرفا، بحيث يعد عند العرف أنه قادر في مقابل العجز
العرفي، فلو توقف تحقق المأمور به خارجا على مقدمات بعيدة المسافة بحيث يعد في
العرف أنه عاجز، لكان المأمور به ساقطا عنه إذا قيد بالقدرة في لسان الدليل.
وهذا بخلاف القدرة العقلية المعتبرة في التكليف، فإن المعتبر فيها هو إمكان
تحقق الشئ من المكلف ولو بمقدمات بعيدة المسافة، لأن العقل إنما اعتبر القدرة
من حيث قبح تكليف العاجز، فمع عدم عجزه تكوينا يجب عليه فعل المأمور به،
وهذا بخلاف القدرة الشرعية، فإن أخذها في لسان الدليل تكون كسائر القيود
المعتبرة في الدليل التي يرجع في مداليلها إلى العرف، والعرف ربما لا يرى
الشخص قادرا مع كونه قادرا عقلا.
وبالجملة: القدرة إذا أخذت في لسان الدليل يستكشف منها أمران:
(أحدهما) دخلها في الملاك. (وثانيهما) كونها عرفية، وأما إذا لم تؤخذ في لسان
الدليل فلا إشكال في اعتبارها عقلا من جهة قبح تكليف العاجز من دون أن
يكون لها دخل في الملاك، بل مع تمامية الملاك ربما يكون الشخص عاجزا
فيسقط عنه التكليف، لكن لا لسقوط ملاكه بل لعجزه كما في جميع موارد
التزاحم.
نعم يبقى في المقام إشكال، وهو أنه لم لا يجوز أن يكون للقدرة العقلية دخل
في الملاك أيضا؟ ومجرد عدم أخذها في لسان الدليل لا يكشف عن عدم دخلها في
الملاك، إذ من الممكن أن تكون القدرة كالبلوغ والعقل مما لها دخل في تحقق
الملاك، غاية الأمر أن الشارع اكتفى عن بيانها بواسطة استقلال العقل
باعتبارها، وهذا بخلاف البلوغ فإن العقل لا يرى قبحا في تكليف غير البالغ، فمن
أجل ذلك اعتبره الشارع، وهذا بخلاف القدرة فإن اعتبارها من المستقلات
270

العقلية الضرورية فاكتفى الشارع ببيان العقل، وعلى كل حال لا طريق لاثبات
القول بأن القدرة العقلية مما لا دخل لها في الملاك.
وبناء على هذا يشكل الأمر في مسألة تصحيح العبادة في باب التزاحم،
سواء قلنا بالخطاب الترتبي أم لم نقل، فإن الخطاب الترتبي مبني على تحقق
الملاك، كما أن من أنكر الترتب وصحح العبادة إنما هو من أجل ذلك مع أنه
لا طريق لنا إلى إحراز الملاك، فإن الملاكات إنما يستكشف من الخطابات بناء
على أصول العدلية، وبعد سقوط الخطاب لأجل التزاحم وعدم القدرة لا سبيل إلى
العلم بالملاك حتى يقال بصحة العبادة بالملاك أو الترتب.
وعلى كل قد خرجنا عما هو المقصود في المقام ولكن الكلام يجر الكلام،
فظهر أن الشرائط الراجعة إلى نفس المكلف مما لها دخل في تحقق الملاك غير
القدرة.
وأما موضوع التكليف والشرائط الراجعة إليه فيمكن أن يكون أيضا لتحققه
بماله من الشرائط دخل في تحقق الملاك، بحيث لا ملاك واقعا مع عدم تحققه
خارجا، وعليه يتفرع أنه لا حكم واقعا إلا بعد تحقق الموضوع لتبعية الحكم
الملاك، وعليه يتفرع أيضا امتناع الشرط المتأخر، لأن معنى الشرط أن يكون له
دخل في تحقق الموضوع بحيث لا موضوع واقعا من عدم تحقق شرطه، كما أن شرائط
المكلف من البلوغ والعقل مما لها دخل في تحقق عنوان المكلف، فإذا لم يكن
الموضوع ثابتا ولو لفقدان شرطه كان الحكم منتفيا واقعا، إذ لا يعقل تحقق الحكم
مع عدم موضوعه.
ويمكن أيضا أن لا يكون لوجود الموضوع دخل في تحقق الملاك والمصلحة
المقتضية للحكم، بل كان الملاك ثابتا ولو مع عدم الموضوع، غاية الأم أنه مع
عدم تحقق الموضوع خارجا وعدم قدرة المكلف على إيجاده الحكم المستتبع للملاك
271

يسقط من جهة انتفاء القدرة على امتثاله من دون سقوط الملاك، بل الملاك مع
بقائه على ملاكيته يفوت من المكلف كسائر الملاكات التي تفوت من المكلف
من جهة عجزه عن استيفائها، وهذا بخلاف القسم الأول وهو ما كان لتحقق
الموضوع دخل في الملاك، فإن مع عدم وجود الموضوع خارجا لا ملاك واقعا حتى
يوجب فواته عن المكلف.
وحاصل الكلام: أن متعلق التكليف إذا كان له ربط بموضوع خارجي،
سواء كان مما يمكن للمكلف إيجاده كالخمر أم لا كالوقت والقبلة وأمثال
ذلك، لا يخلو حال الموضوع من أحد أمرين لا ثالث لهما، فإنه إما أن يكون
للموضوع دخل في تحقق الملاك، وإما أن لا يكون، فإن كان له دخل فلا محالة
يكون الحكم مشروطا بوجود الموضوع، والسر في ذلك هو تبعية الحكم للملاك،
وإن لم يكن له دخل فلا حالة يكون الحكم مطلقا غير مشروط بوجود الموضوع هذا
في عالم الثبوت.
وأما في عالم الاثبات ففي التكاليف العدمية التحريمية طرا تكون من القسم
الأول، أي ما كان لوجود الموضوع دخل في تحقق الملاك والمفسدة المقتضية
للنهي، بداهة أن الخمر إذا لم يكن موجودا في الخارج فلا معنى
لتحقق المفسدة في شربه ولا معنى للنهي عنه، إذ الخمر الذي لا وجود له في الخارج
يكون الشرب منتركا بنفسه، فالمنهي عنه ليس إلا الخمر الموجود، وعليه يكون
التكليف مشروطا بوجود موضوعه.
ولا يمكن أن يكون التكليف بالنسبة إليه مطلقا بحيث يجب على المكلف
إيجاد الخمر مقدمة لترك شربه، بل معنى لا تشرب الخمر إنما هو قضية مشروطة،
أي إذا وجد الخمر فلا تشربه، ففي التكاليف العدمية دائما يكون التكليف
مشروطا بوجود الموضوع.
272

وأما التكاليف الوجودية المطلوب منها الوجود فكلا القسمين يمكن فيها، فإن
في مثل قوله أكرم عالم أو صل في المسجد يمكن أن يكون لوجود العالم والمسجد
دخل في تحقق ملاك وجوب الصلاة، فيكون التكليف بالنسبة إليه
مشروطا فلا يجب الاكرام والصلاة عند عدم وجود العالم والمسجد، ولا يجب على
المكلف إيجادهما ولو مع تمكنه منه، ويمكن أيضا أن لا يكون لوجود الموضوع دخل
في الملاك بأن كان ملاك أكرم العالم والصلاة في المسجد ثابتا ولو مع عدم
وجودهما، وعليه يكون التكليف بالنسبة إلى الموضوع مطلقا ويجب على المكلف
إيجاده مع عدم وجوده وتمكنه منه كسائر مقدمات الواجب المطلق، ففي طرف
الأوامر كل من القسمين ممكن.
نعم ظاهر القضية هو أن يكون التكليف بالنسبة إلى وجود الموضوع مطلقا،
إلا أن يعلم من خصوصية المقام خلافه، فإنه بعدما لم يؤخذ وجود الموضوع في
القضية شرطا، وقال بقول مطلق أكرم العالم وصل في المسجد، ولم يقل إذا وجد
عالم فأكرمه وإذا وجد المسجد فصل فيه، فالظاهر يقتضي أن لا يكون التكليف
مشروطا بأزيد مما يعتبره العقل في مطلق التكليف من القدرة على الامتثال
وإيجاد المتعلق، فإذا تمكن المكلف من إكرام العالم والصلاة في المسجد ولو بإيجاد
العالم والمسجد، لكان اللازم بمقتضى إطلاق القضية وعدم أخذ الموضوع فيها
مفروض الوجود، هو وجوب الاكرام والصلاة ولو ببناء المسجد وإيجاد العالم إذا
مكن له ذلك.
والحاصل: أن ظاهر إطلاق القضية في طرف الأوامر إذا كان المطلوب هو
صرف وجود الشئ لا مطلق الوجود، كما في مثل أكرم عالما وتوضأ بالماء وصل
في المسجد وأمثال ذلك، هو أن لا يكون التكليف مشروطا بأزيد مما يستقل به
العقل في جميع التكاليف من القدرة على الامتثال، فإذا تمكن المكلف من إكرام
273

العالم والوضوء بالماء والصلاة في المسجد ولو بخلق الموضوع وإيجاده كان اللازم
هو امتثال التكليف، إلا أن تقوم قرينة من حال أو مقال على اشتراط التكليف
بصورة وجود الموضوع وفرض تحققه في الخارج.
فظهر الفرق بين باب الأوامر والنواهي، وأن في باب الأوامر يمكن أن
لا يكون التكليف مشروطا بوجود الموضوع إذا كان المطلوب صرف الوجود، وأما
في باب النواهي فدائما التكليف يكون مشروطا بوجود الموضوع.
ثم إن هنا فرقا آخر بين باب الأوامر والنواهي، وهو أنه في باب النواهي
لا يمكن أن يكون المطلوب صرف الوجود، بل دائما يكون المطلوب فيها هو عدم
الوجود والسلب الكلي الذي هو نقيض صرف الوجود. وهذا بخلاف باب
الأوامر فإن كون المطلوب فيها هو صرف الوجود بمكان من الامكان.
والسر في ذلك هو أن ه لمما كان المطلوب في طرف النهي عدم الشئ، وعدم
الشئ لا يمكن إلا بانعدام جميع ما يفرض للشئ من الوجودات العرضية
والطولية، فلا بد من أن يكون المتعلق في النهي مطلق الوجود الساري في جميع
الموجودات، مثلا لو قال: لا تكرم الفاسق ولا تكرم فاسقا أو لا تكرم الفساق
فالمطلوب هو ترك إكرام مطلق الفاسق في أي وجود فرض له، ولا معنى لأن
يكون المطلوب هو ترك إكرام الفاسق على نحو صرف الوجود بأن يكون إكرام
فاسق ما متعلق النهي، وهذا بخلاف باب الأوامر فإنه لما كان المطلوب فيها
وجود الشئ والشئ يوجد بأول وجوده، فيمكن أن يكون متعلق الطلب هو
أول الوجود لا مطلق الوجود.
وبالجملة: في طرف الأوامر يمكن أن يكون المطلوب على أحد وجوه أربعة:
الأول: أن يكون المطلوب في طرف المتعلق والموضوع صرف الوجود، بأن
يكون المقصود من قول أكرم عالما هو وقوع صرف وجود الاكرام على صرف وجود العالم
274

الثاني: أن يكون المطلوب مطلق الوجود على نحو العام الاستغراقي، بأن يكون
المطلوب كل فرد فرد من الاكرام على كل فرد فرد من العالم.
الثالث: أن يكون المطلوب مطلق الوجود على نحو العام المجموعي، بأن يكون
الملحوظ هو مجموع أفراد الاكرام مع مجموع أفراد العالم، ويكون المجموع من حيث
المجموع مطلوبا واحدا تعلق الأمر به.
الرابع: أن يكون المطلوب هو الطبيعة السارية في جميع الأفراد على نحو
وجودها السعي، وهذا القسم مشترك مع القسم الثالث في الأثر، وإنما التفاوت
بالتعبير فإنه تارة يرد الحكم على نفس الطبيعة السارية، وأخرى يرد الحكم على
أفرادها بعد ملاحظتها على نحو العام المجموعي، هذا في طرف الأمر.
وأما في طرف النهي فأقسامه أيضا أربعة، فإنه تارة يرد النهي عن الشئ
باعتبار مطلق وجوده على نحو العام الاستغراقي، بأن يكون المطلوب في مثل
لا تشرب الخمر هو ترك كل فرد فرد من أفراد الشرب لكل فرد فرد من أفراد
الخمر.
وأخرى يكون المطلوب هو ترك مجموع أفراد الشرب لمجموع أفراد الخمر على
نحو العام المجموعي، بمعنى أن يكون المطلوب عموم السلب لا سلب العموم، أي
يكون متعلق النهي هو ترك مجموع أفراد الخمر، لا على نحو يكون كل وجود منه
مبغوضا على حدة وله إطاعة وعصيان، حتى يرجع إلى القسم الأول وهو العام
الاستغراقي، ولا على نحو يكون المبغوض مجموع الموجودات بوصف المجموع على نحو
سلب العموم، حتى يكون فعل البعض مع ترك البعض غير مبغوض، كما في مثل
قوله لا تأكل كل رمانة في البستان، حيث يكون المقصود من النهي هو أكل جميع
الرمانات التي في البستان، بل على نحو يكون النهي عن المجموع بأن يريد أن لا
يتحقق منه فرد في الخارج، بحيث لو تحقق فرد منه في الخارج كان عصيانا
275

للخطاب وكانت الأفراد الأخر غير متعلقة للنهي، كما في مثل النذر فإنه لو نذر
ترك شرب التتن كان المقصود منه هو أن لا يتحقق الشرب منه في الخارج،
بحيث لو عصى وشرب فبأول وجوده يتحقق الحنث وتلزمه الكفارة فله أيضا أن
يشرب سائر الأفراد، إلا أن يكون نذره تعلق بترك كل فرد فرد منه مستقلا على
نحو العام الاستغراقي، فإنه في شرب كل فرد حينئذ يتحقق حنث وكفارة كما
لا يخفى.
وثالثة: يرد النهي على الطبيعة السارية، بمعنى أن يكون المقصود هو عدم تحقق
الطبيعة خارجا، وهذا مشترك أثره مع القسم الثاني وهو ما إذا كان على نحو العام
المجموعي.
ورابعة: يكون النهي في التكاليف العدمية من قبيل القضية المعدولة المحمول،
بأن يكون المقصود من النهي هو أن لا يكون الشخص شارب الخمر بمعنى عدم
اتصافه بهذا الوصف، كما إذا قال: كن لا شارب الخمر.
وبتقريب آخر نقول: لا إشكال في أن ما هو الصادر عن المكلف وما هو فعله
مباشرة في التكاليف العدمية ليس إلا ترك الشرب لآحاد الممكنة شربها، فإن
ما هو فعل المكلف ليس إلا ترك هذا الخمر وهذا الخمر وهكذا ترك كل فرد فرد
من أفراد الخمر، ثم بعد ذلك يتولد من آحاد هذه التروك السلب المجموعي وأنه
تارك للمجموع، ثم بعد ذلك يتولد أيضا عنوان آخر وهو اتصاف الشخص بأنه
لا شارب الخمر، فهذه مراتب ثلاث مترتبة في التولد والانتزاع، فأول ما يوجد من
المكلف هو ترك الآحاد، ثم بعد ذلك يتحقق ترك المجموع، ثم بعد ذلك يتصف
الشخص بأنه صار لا شارب الخمر.
وهذه المراتب الثلاث كلها قابلة لتعلق التكليف العدمي بها، فإنه تارة
يكون التكليف بما هو الصادر عن المكلف بالمباشرة فيكون التكليف حينئذ
276

انحلاليا، بمعنى أنه يكون لكل فرد فرد من أفراد الخمر خطاب يخصه، وله إطاعة
وعصيان لا ربط له بالخطاب الوارد على الفرد الآخر.
وأخرى يتعلق التكليف بالعنوان المتولد من ترك الآحاد وهو ترك المجموع،
فيكون التكليف واحدا وخطابا فاردا يتعلق بالمجموع، وعصيانه يكون بأول وجود
شرب فرد من الخمر، وكانت الأفراد الأخر حينئذ لا طاعة ولا عصيان.
وثالثة يتعلق التكليف بالأمر المتولد من ترك المجموع، وهو كون الشخص
لا شارب الخمر على نحو القضية المعدولة المحمول، وهذا بخلاف القسمين الأولين
فإن القضية من السالبة المحصلة.
الأمر الثالث:
بعد ما عرفت الأقسام المتصورة في طرف الأوامر وفي طرف النواهي يقع
الكلام حينئذ فيما هو الأصل من هذه الأقسام، وأن الأصل في طرف التكاليف
الوجودية وفي باب الأوامر أن يكون المطلوب هو صرف الوجود، أو أن الأصل
يقتضي أن يكون المطلوب مطلق الوجود؟ ففي مثل أكرم أو صل في المسجد
يقتضي الأصل الاكتفاء بصرف وجود إكرام العالم، أو أن الأصل يقتضي إكرام
مطلق وجوده بأقسامه المتقدمة؟
وكذا الكلام في طرف النهي والتكاليف العدمية، هل الأصل يقتضي أن
يكون التكليف فيها انحلاليا، أو يكون كل فرد يوجد في الخارج من أفراد الموضوع
مستتبعا لفرد من الخطاب يخصه، أو أن الأصل لا يقتضي ذلك؟
والحاصل: أن الكلام في هذا الأمر يقع في أن طبع الأمر والتكليف
الوجودي، هل يقتضي أن يكون المطلوب منه صرف الوجود، بحيث يكتفي في
مقام الامتثال بأول الوجود، وكان الوجود الثاني من باب الامتثال عقيب
277

الامتثال، أو أن طبع الأمر يقتضي مطلق الوجود على نحو العام الاستغراقي أو
المجموعي أو الطبيعة السارية؟
وكذا يقع الكلام في أن طبع النهي والتكاليف العدمية، هل يقتضي
الانحلالية بحيث يكون كل فرد من أفراد الموضوع له خطاب وطاعة وعصيان، أو
أن طبع النهي يقتضي السلب الكلي علي نحو العام المجموعي، أو يقتضي السلب
على نحو المعدولة المحمول؟
فنقول: مقتضى التضاد والمقابلة بين الأمر والنهي هو أن يكون المطلوب في
كل منهما نقيض ما هو المطلوب في الآخر، فلو كان المطلوب في طرف الأمر صرف
الوجود كان اللازم بمقتضى المقابلة أن يكون المطلوب في طرف النهي هو السلب
الكلي على نحو العام المجموعي، بحيث يتحقق العصيان بأول الوجود من دون أن
يكون للوجودات الأخر طاعة وعصيان، كما كان الأمر في طرف الأمر بالعكس
وأن الإطاعة تتحقق بأول الوجود من دون أن يكون للوجودات الأخر طاعة
وعصيان.
وبالجملة: لو كان المطلوب في طرف الأمر صرف الوجود كان اللازم أن
يكون المطلوب في طرف النهي السلب الكلي، لأن نقيض الموجبة الجزئية السالبة
الكلية. ولو كان المطلوب في طرف الأمر مطلق الوجود على نحو العام الاستغراقي
كان مقتضى المقابلة أن يكون المطلوب في طرف النهي العام الانحلالي. هذا
بحسب ما تقتضيه المقابلة بين الأمر والنهي.
ولكن مع ذلك الأصل وما هو طبع الأمر والنهي لا يقتضي ذلك، بل يقتضي
أن يكون المطلوب في طرف الأمر صرف الوجود، وفي طرف النهي انحلاليا
ويكون لكل فرد من أفراد الخمر خطاب يخصه.
أما في طرف الأمر فاقتضاؤه صرف الوجود واضح، فإن طلب إيجاد الطبيعة
278

لا يقتضي أزيد من نقض العدم وتحقق وجود الطبيعة في الخارج، وهذا المعنى
يحصل بأول وجود للطبيعة، فلو كان المقصود إيجاد كل فرد فرد من الطبيعة على
نحو العام الاستغراقي أو المجموعي لكان اللازم هو اعتبار قيد زائد في متعلق الأمر
ومؤنة أخرى غير تعلق الطلب بنفس الطبيعة، فتعلق الأمر بنفس الطبيعة بنفسه
وبطبعه لا يقتضي أزيد من صرف الوجود كما لا يخفى.
وأما في طرف النهي فقد عرفت أن محتملاته ثلاثة:
(أحدها) أن يكون النهي من باب أخذ القضية على نحو المعدولة المحمول، بأن
يكون النهي عن شرب الخمر مثلا باعتبار ما يتولد من الترك الخارجي، ويكون
المقصود منه هو كون الشخص لا شارب الخمر.
وهذا الاحتمال في باب النواهي والتكاليف العدمية ساقط من أصله، فإن
الظاهر في باب النواهي هو أن يكون النهي عن الشئ لأجل أن لوجود المنهي
عنه وهو شرب الخمر مثلا مفسدة، من دون أن يكون في عدم الشرب مصلحة
بحيث يكون نفس العدم بما هو عدم مطلوبا ويلاحظ معنى اسميا ويتعلق الطلب
به.
وفي القضية المعدولة المحمول إنما يكون نفس العدم محمولا وملحوظا معنى
اسميا، فلو كان معنى قوله لا تشرب الخمر هو صيرورة الشخص لا شارب الخمر
فمعناه أن نفس اتصاف الشخص بهذا العدم بما هو عدم مطلوب ومحبوب من دون
أن يكون في شرب الخمر مفسدة، ويكون النهي عن الشرب إنما هو لأجل كون
ترك آحاد الشرب مقدمة لتحقق ذلك العدم في الخارج، وهذا كما ترى
خلاف ما يقتضيه النهي، لما عرفت من أن ظاهر النهي عن الشئ ثبوتا إنما هو
لأجل أن في وجود ذلك مفسدة اقتضت النهي عنه، هذا.
مع أنه خلاف ظاهر الدليل، فإن الظاهر من قوله لا تشرب الخمر هو عدم
279

إيجاد الشرب في الخارج، فلو كان المقصود هو عدم اتصاف الشخص بشرب
الخمر كان حق العبير أن يقول: كن لا شارب الخمر، لا أن يقول: لا تشرب
الخمر.
وبالجملة: هذا الاحتمال في باب التكاليف العدمية ضعيف جدا.
بقي في الباب احتمالان آخران.
(أحدهما) أن يكون المقصود من النهي هو السلب الكلي على نحو العام
المجموعي، بأن يكون معنى قوله لا تشرب الخمر هو ترك مجموع أفراد الخمر من
حيث المجموع، بأن كان هناك خطاب واحد تعلق بالمجموع ويكون عصيانه بوجود
أول فرد من شرب الخمر، من دون أن يكون للباقي طاعة وعصيان كما كان في
النذر كذلك.
وهذا الاحتمال وإن كان ربما يعينه مقابلة النهي للأمر كما تقدم إلا أنه
أيضا خلاف الظاهر، فإن الظاهر من قوله لا تشرب الخمر هو أن يكون مطلق
وجود شرب الخمر مبغوضا، سواء في ذلك الوجود الأول والثاني والثالث وهكذا،
لا أن يكون المبغوض هو أول الوجود كما هو لازم معنى السلب الكلي.
والحاصل: أن كون المقصود في النهي هو السلب الكلي على نحو المجموع
يحتاج إلى عناية زائدة عن تعلق النهي بنفس الطبيعة، وهي أخذ مجموع وجودات
الطبيعة أمرا ويلاحظها بلحاظ فأرد ثم ينهى عنها بما أنها أمر واحد، وهذا خلاف
ظاهر توجه النهي على نفس الطبيعة، فإن ظاهره أن يكون لكل وجود من الطبيعة
مفسدة لا ربط بها بالآخر.
فيتعين (الاحتمال الثالث) وهو الانحلالية، وأن في باب النواهي يكون
لكل وجود يفرض للطبيعة خطاب برأسه وطاعة وعصيان يخصه، وهذا الخطاب
لا تحقق له إلا بعد تحقق الفرد خارجا، لما عرفت من أنفي باب التكاليف
280

العدمية الانحلالية يكون لوجود الموضوع دخل في تحقق الملاك.
بل في التكاليف الوجودية الانحلالية يكون الأمر كذلك أيضا، إذا الظاهر
من قوله أكرم كل عالم أن يكون لوجود العالم في الخارج دخل في تحقق ما هو مناط
الحكم، ويلزمه قهرا تبعية الحكم لوجود الموضوع، فلازم الانحلالية أن يكن الحكم
مشروطا بوجود الموضوع، كما أن لازم صرف الوجود عكس ذلك، وأن الظاهر في
مثل قوله أكرم عالما هو أن لا يكون التكليف مشروطا بأزيد مما يقتضيه العقل
من القدرة على الامتثال كما تقدم تفصيله.
فتحصل من جميع ما ذكرنا: أن الأصل في باب النواهي هو أن يكون
التكليف انحلاليا إلا أن تقوم قرينة على خلاف ذلك، ويلزمه قهرا اشتراط
التكليف بوجود الموضوع، وأن الأصل في باب الأوامر أن يكون المطلوب صرف
الوجود وعدم اشتراطه بتحقق الموضوع إلا أن تقوم قرينة على خلاف ذلك.
الأمر الرابع:
بعد ما عرفت الانقسامات المتصورة في طرف الأمر والنهي، يقع الكلام
حينئذ في بيان حال الشك، وأنه في أي مورد يرجع الشك إلى الشك في
التكليف، وفي أي مورد يرجع الشك إلى الشك في الامتثال. وقبل بيان ذلك
لا بد من بيان ما هو الضابط في رجوع الشك إلى أحد القسمين، فنقول:
إن ضابط الشك في التكليف هو أن يرجع الشك إلى مرحلة فعل الآمر وما هو
الصادر عنه في مقام أمره وتحقق الطلب منه، ففي كل مرحلة يرجع الشك إلى
مرحلة أصل الطلب، ولو باعتبار سعة دائرة الطلب وضيقه يكون الشك شكا في
التكليف، وضابط الشك في الامتثال هو أن يرجع الشك إلى الشك في تحقق
الفعل والترك المطالب به، مع تبين التكليف وما هو الصادر عن الآمر.
281

إذا عرفت ذلك فاعلم أنه لو لم يكن للتكليف تعلق وربط بموضوع خارجي،
بل كان هناك تكليف ومتعلق فقط فالشبهة المصداقية لا يمكن تحققها فيه، سواء
في ذلك التكاليف الوجودية والعدمية، بداهة أن بعد تبين مفهوم التكليف
ومفهوم التعلق، وأن التكليف هو الوجوب والحرمة والمتعلق هو الصلاة والغناء،
وعلم معنى الصلاة والغناء، لا يمكن أن يشك الشخص في حال صدور المتعلق
منه فيما يفعله وأن هذا المشغول به ما هو.
نعم بعد الفعل يمكن أن يشك في فعله السابق، والذي فعله في السابق هل
هو صلاة أو غناء، ولكن هذا الشك في التكاليف الوجودية يرجع إلى الشك في
الامتثال إن لم يكن هناك مثل قاعدة الفراغ التي تثبت الامتثال وفي التكاليف
التحريمية مما لا أثر له بداهة أنه لا أثر للشك في أنه هل صدر مني غناء أو لم
يصدر وعلى تقدير فرض الأثر فأصالة عدم صدور الغناء جارية.
ثم لا يخفى عليك أن ما قلناه من عدم تحقق الشبهة المصداقية في باب
متعلقات التكاليف إنما هو فيما إذا كان نفس الفعل الصادر عن المكلف ابتداء
متعلق التكليف، وأما إذا كان الفعل الصادر عن المكلف محصلا وسببا لما هو
متعلق التكليف فتطرق الشبهة المصداقية فيه بمكان من الامكان، بداهة أنه يمكن
الشك في أن هذا الذي يفعله هل هو محصل لما هو المكلف به أو غير محصل وكلما
رجع الشك إلى المحصل كان مجرى للاشتغال، لرجوع الشك إلى الشك في
الامتثال والخروج عن الفعل والترك المطالب به، سواء كان ذلك في التكاليف
الوجودية أو العدمية.
أما في التكاليف الوجودية فرجوع الشك إلى الشك في الامتثال واضح، كما
في باب الطهارة الحدثية والخبثية على وجه.
وأما في التكاليف العدمية فكذلك أيضا على ما اختاره شيخنا الأستاذ مد ظله
282

مثلا لو نهى عن إحراق زيد فالتكليف بحرمة الاحراق بعد العلم به قد تنجز
على المكلف، فلو شككت في الالقاء الكذائي هل هو محصل للاحراق أولا، كان
اللازم بمقتضى تنجز التكليف بحرمة الاحراق هو التجنب عن مثل هذا الالقاء
المشكوك محصليته، وذلك لرجوع الشك فيه إلى الشك في العصيان، لا إلى الشك
في التكليف بداهة العلم بالتكليف والمتعلق كليهما، فالشك في ذلك لا يرجع إلى
الشك في أحدهما، بل إلى الشك في تحقق العصيان بمثل هذا الالقاء المحتمل كونه
محصلا للاحراق، والشك في تحقق العصيان كالشك في تحقق الإطاعة ليس
من مجاري البراءة، لأن مجرى البراءة منحصر في الشك في التكليف لا في محصله.
والحاصل: أن الشك في محصلية الالقاء الكذائي للاحراق لا بد له من رافع
ومؤمن عقلي أو شرعي، والمفروض انتفاء المؤمن العقلي والشرعي في مثله، لعدم
جريان قبح العقاب بلا بيان، وعدم جريان رفع ما لا يعلمون، لما عرفت من أن مورد
البراءة الشرعية والعقلية منحصر بما إذا كان الشك في أصل التكليف لا في
محصله، فتأمل جيدا.
هذا كله فيما إذا لم يكن للتكليف تعلق بموضوع خارجي.
وأما إذا كان له تعلق بذلك، فيختلف حال الشك حسب اختلاف
التكاليف الوجودية والعدمية بأقسامها المتقدمة.
فلو كان التكليف وجوديا، وكان المطلوب منه صرف الوجود كما هو
الأصل في التكاليف الوجودية على ما عرفته فقد تقدم أن الظاهر من مثل قوله
أكرم عالما هو أن لا يكون التكليف مشروطا بأزيد مما يشترط العقل في جميع
التكاليف من القدرة على الامتثال، ولازمه أن لا يكون الملاك والتكليف
مشروطا بوجود العالم، فاللازم حينئذ هو وجوب تحصيل العالم ليكرمه، وعلى تقدير
الشك في وجود العالم أو القدرة على إيجاده فاللازم هو الفحص حتى يعلم بعدم القدرة.
283

وبالجملة: كلما رجع الشك إلى ناحية القدرة العقلية، فمن حيث عدم دخلها
في الملاك العقل يستقل بوجوب الفحص ويحكم بذلك حكما طريقيا، نعم لو
كانت القدرة شرطا شرعيا فمن حيث دخلها في الملاك كما تقدم كان الشك
فيها شكا في أصل التكليف، فلا يجب الفحص حينئذ إذا كان الشك فيه من
أجل الشبهة الموضوعية كما فيما نحن فيه، إلا أن يقوم دليل من الخارج على وجوب
الفحص، أو كان الخطاب المشروط بالقدرة يقتضي الفحص، لأنه كانت القدرة
المأخوذة في الخطاب شرعا مما لا يمكن العلم بها بحسب العادة إلا في الفحص
كما في الاستطاعة الحجية، فإن العلم بحصولها لا يمكن عادة إلا بالفحص عن
مقدار المالية وما يملكه.
وهذا هو السر في فتوى المشهور بوجوب الفحص عن الاستطاعة مع أن
القاعدة لا تقتضي ذلك، لما عرفت من أنه كلما كان الشك في أصل تحقق ما هو
شرط التكليف وكان له دخل في الملاك كان مرجعه إلى أصل التكليف،
وأصالة البراءة تنفي وجوب الفحص إذا كانت الشبهة موضوعية.
وحاصل الكلام: أن في التكاليف الوجودية إذا لم يكن الملاك والتكليف
مشروطا بوجود الموضوع، كان اللازم هو وجوب الفحص عن تحقق الموضوع
والقدرة عليه، وقد عرفت أن عدم اشتراط الملاك والتكليف بوجود الموضوع
مما يقتضيه إطلاق الخطاب إذا كان المطلوب منه صرف الوجود كما هو مقتضى
طبع الأمر والأصل فيه.
وأما إذا كان الملاك والتكليف مشروطا بوجود الموضوع، كما إذا قام دليل
من الخارج على ذلك، كان مقتضى القاعدة عند الشك فيه عدم وجوب
الفحص والبراءة عنه، إلا أن يقوم دليل على وجوب ذلك، أو كان الخطاب
بنفسه يقتضيه، كما في بلوغ المال حد الاستطاعة في الحج، وحد النصاب في
284

الزكاة. هذا كله في التكاليف الوجودية المطلوب منها صرف الوجود.
وأما التكاليف الوجودية المطلوب منها مطلقة، فإن كان ذلك على نحو
الانحلالية بأن كان لكل موضوع يوجد في الخارج خطاب مستقل، كما في مثل
أكرم العلماء إذا كان على نحو العموم الاستغراقي، فرجوع الشك إلى الشك في
التكليف عند الشك في وجود الموضوع واضح، بداهة أن لو شك في عالمية زيد مثلا
كان الشك في ذلك مستلزما للشك في وجوب إكرامه، لأنه على تقدير أن يكون
عالما كان له خطاب مستقل برأسه، فيرجع الشك إلى الشك في أصل التكليف،
وواضح أنه من مجاري البراءة.
وأما إذا كان المطلوب مطلق الوجود على نحو العام المجموعي، فهو وإن لم يكن
هناك إلا خطاب واحد وتكليف فأرد، إلا أنه لا إشكال في أنه يختلف سعة
وضيقا حسب ما يوجد من أفراد الموضوع خارجا، بداهة أنه لو لم يوجد من أفراد
العلماء إذا اعتبر على نحو المجموعي إلا مائة، كان سعة التكليف بمقدار المائة وله
تعلق بهذه الجملة، ولو زاد على المائة واحد اتسعت دائرة التكليف وكان له تعلق
أيضا بذلك الواحد، وهكذا تتسع دائرة التكليف حسب اتساع أفراد الموضوع.
فلو شك في عالمية زيد مثلا فهو وإن لم يكن له خطاب مستقل على تقدير
كونه عالما إلا أنه مما يوجب سعة دائرة التكليف، فالشك فيه شك في مقدار
التكليف، وبالآخرة يرجع الشك إلى الشك في وجوب إكرام زيد، ويكون مجرى
البراءة أيضا كما لا يخفى.
هذا كله في التكاليف الوجودية، وقد عرفت حال الشك فيها بأقسامه.
وأما التكاليف العدمية فقد عرفت أنه ليس فيها ما يكون المطلوب منه صرف
الوجود، فما ذكرناه في التكاليف الوجودية عند الشك في وجود الموضوع إذا كان
المطلوب منه صرف الوجود ساقط في التكاليف العدمية من أصله.
285

نعم الاحتمالات الأخر جارية فيها أيضا مع زيادة احتمال آخر في
خصوصها، وهو ما إذا كان المطلوب من التكليف العدمي العنوان المتولد من
الترك الخارجي وهو كون الشخص لا شارب الخمر، وقد عرفت أن هذا خلاف
ما يقتضيه ظاهر النهي. ولو قام دليل على أن المطلوب من النهي هو ذلك
فلا محيص حينئذ من ترك جميع ما يحتمل كونه خمرا، لأن الترك الخارجي يكون
حينئذ محصلا لذلك العنوان، فلا بد من القطع بحصول العنوان الذي يكون هو
المطلوب، والقطع بحصول ذلك لا يتحقق إلا بترك جميع أفراد الخمر المعلومة
والمشكوكة، بداهة أن شرب مشكوك الخمرية ملازم للشك في حصول العنوان،
والشك فيه يرجع إلى الشك في الامتثال كما هو أوضح من أن لا يخفى.
بقي في المقام احتمالان آخران: (أحدهما) أن يكون النهي على نحو
الانحلالية، بأن يكون لكل فرد من أفراد الخمر خطاب يخصه (ثانيهما) أن يكون
على نحو المجموعية.
والكلام فيهما عند الشك في الموضوع الكلام في التكاليف الوجودية بعينه،
وأنه يكون من مجاري البراءة فلا نعيده، لكنه قد عرفت أن الأصل في باب الأوامر
هو أن يكون على نحو صرف الوجود، وأن الأصل في باب النواهي أن يكون على
نحو الانحلالية. هذا كله في التكاليف الوجودية والعدمية الاستقلالية.
وأما التكاليف الوجودية والعدمية الارتباطية التي هي المقصود بالأصالة
للبحث عنها هنا، وإنما ذكرنا حال الاستقلالية تبعا، فمجمل القول فيها: أن جميع
الأقسام المتصورة في التكاليف الاستقلالية متصورة في التكاليف الارتباطية
أيضا، فإن منها ما لا يكون له تعلق بموضوع خارجي كالركوع والسجود والتكفير
وقول آمين وغير ذلك من الخطابات الغيرية الوجودية والعدمية. ومنها ما يكون له
تعلق بموضوع خارجي، وهذا على قسمين لأنه إما أن يتعلق به تكليف وجودي
286

كالاستقبال والطهور وأمثال ذلك، وإما أن يتعلق به تكليف عدمي كلبس
الحرير وغير المأكول وأمثال ذلك.
فإن كان التكليف وجوديا وكان المطلوب منه صرف الوجود، كما هو الشأن
في جميع التكاليف الوجودية الارتباطية، فعند الشك في تحقق الموضوع والقدرة
عليه يجب الفحص كالتكاليف الاستقلالية.
وهذا هو السر فيما اشتهر في الألسن من أن الشرط يجب إحرازه ولا يكفي الشك
في حصوله، لأن التكليف المتعلق بالشرط يكن وجوديا والمطلوب منه صرف
الوجود، فلا بد عند الشك فيه من الفحص إلى أن يعلم بتعذره.
وإن كان التكليف عدميا كما في باب الموانع التي هي محل البحث في
المقام، فينبغي أولا أن يتكلم فيما هو منشأ انتزاع المانعية ثبوتا وإثباتا، فنقول:
بعد ما عرفت من أن رتبة تحقق المانع ووجوده إنما هو بعد وجود المقتضي بماله
من الشرائط والأجزاء، فلا إشكال في أن منشأ انتزاع المانعية بالنسبة إلى
الملاكات والمصالح والمفاسد التي تبتني عليها الأحكام الشرعية بناء على أصول
العدلية إنما يكون أمرا واقعيا تكوينيا، كما أن مقتضيات الملاكات بمالها من
الأجزاء والشرائط تكون أمورا واقعية تكوينية، من دون أن يكون لها تعلق بجعل
شرعي ولا مساس لها بالشارع في عالم شارعيته وجعله الأحكام، بل هي كسائر
الأمور التكوينية الواقعية.
وإذا كان شأن موانع الملاكات كذلك فعند الشك في تحقق المانع عن
الملاك يرجع الشك في الحقيقة إلى الشك في حصول الملاك، فلو كانت
الملاكات داخلة في حيز التكليف ومتعلقة للطلب لكان الأصل عند الشك في
المانع عن الملاك هو الاشتغال والاحتياط، لما عرفت من أن الشك في المانع يرجع
إلى الشك في حصول الملاك الذي فرض تعلق الطلب به، وكلما رجع الشك إلى
287

الشك في المحصل يكون الأصل فيه هو الاشتغال والاحتياط لا البراءة كما تبين في
محله، هذا.
ولكن بعد ما بينا في محله وأوضحنا أن الملاكات غير داخلة في حيز الطلب ولم
يتعلق بها أمر أصلا، وليست من المسببات التولدية لفعل المكلف، بل ليس
الفعل إلا مقدمة إعدادية لحصولها كان الشك في حصول المانع منها مما لا أثر له،
ولا ينفع في شئ من المقامات، ولا يمنع عن جريان البراءة في متعلقات
التكاليف.
بداهة أن في جميع موارد تردد الواجب بين الأقل والأكثر يرجع الشك فيها إلى
الشك في حصول الملاك بالأقل، فلو كان الشك في حصول الملاك يمنع عن
جريان البراءة في المتعلق لكان اللازم هو القول بالاحتياط في جميع موارد تردد
الأمر بين الأقل والأكثر. وهذا يكون هدما لما أسسناه في أول البحث، من أن
التكلم فيما نحن فيه إنما هو بعد الفراغ عن جريان البراءة في الأقل والأكثر
الارتباطي.
والحاصل: أنه بعد البناء على أن الملاكات لم تكن لازمة التحصيل ولم يتعلق
بها طلب ولا أمر، بل إنما تكون عللا ودواعي للأمر والتكليف، كان الشك في
حصول المانع منها مما لا أثر له ولا يترتب عليه شئ، فالحري إنما هو ملاحظة
منشأ انتزاع المانعية في باب التكاليف، وفي باب متعلقاتها، وفي باب موضوعاتها،
وفي باب الوضع والأسباب، كموانع باب العقود والايقاعات، فنقول:
إن المانع (تارة) يكون مانعا عن التكليف الذي هو فعل اختياري للآمر
والمكلف بالكسر.
(وأخرى) يكون مانعا عن متعلق التكليف والمأمور به الذي هو فعل
اختياري للمأمور والمكلف بالفتح.
288

(وثالثة) يكون مانعا عن تحقق ما هو موضوع التكليف، وهذا أيضا يرجع إلى
المانعية عن التكليف، بداهة اشتراط التكليف بالموضوع فالمانع عن الموضوع مانع
عن التكليف.
(ورابعة) يكون مانعا عن تحقق المسبب الذي هو المجعول الشرعي في باب
الوضع والأسباب، كموانع تحقق الملكية والزوجية وأمثال ذلك من المجعولات
الشرعية الامضائية، فهذه جملة أقسام الموانع.
وحيث عرفت سابقا أن المانعية كالسببية والشرطية والجزئية مما لا تنالها
يد الجعل، بل المجعول إنما هو منشأ انتزاع هذه الأمور، فاعلم أن منشأ انتزاع
المانعية للمأمور به والمكلف [به] ليس هو ثبوتا إلا تحقق تخصص المأمور وتقيده
في عالم الجعل والتشريع بعدم ما فرض كونه مانعا، بداهة أن الاهمال النفس
الأمري في عالم تحقق الإرادة والجعل مما لا يعقل بالنسبة إلى الجاعل الملتفت، ففي
عالم الثبوت والواقع لا محيص إما من لحاظ تقيد المأمور به بعدم الشئ، وإما من
لحاظه مطلقا بالنسبة إلى وجوده وعدمه، ولا يمكن أن يكون لا هذا ولا ذاك، وإلا
لزم الاهمال الواقعي الذي عرفت استحالته.
والحاصل: أن في مقام تأليف الماهية وتشريعها إما أن يلاحظها الشارع
مقيدة بأمر وجودي، وإما أن يلاحظها مقيدة بأمر عدمي، وإما أن يلاحظها
مطلقة، ولا رابع لهذه الأقسام.
واختلاف اللحاظ بحسب هذه الأقسام إنما يكون من أجل اختلاف الماهية
بحسب انطباق الملاك عليها، فتارة يكون الملاك منطبقا عليها مطلقا بالنسبة إلى
الانقسامات اللاحقة لها، وأخرى لا ينطبق الملاك عليها إلا على وجه خاص من
انضمام أمر وجودي إليها أو عدمي، ومن المعلوم أن الجاعل لا بد في مقام اللحاظ
والجعل من ملاحظة الماهية على الوجه الذي ينطبق عليها الملاك، وإلا كان ذلك
289

نقضا لغرضه ومفوتا لمقصوده كما لا يخفى.
فإن لاحظ الماهية مطلقة غير مقيدة بأمر وجودي أو عدمي، فلا يعقل بعد
ذلك جعل شئ جزء لها أو شرطا أو مانعا، إلا أن يكون غير ملتفت إلى أن
الشئ الفلاني شرط أو مانع، وإلا لا يعقل أن يلاحظ الشخص الملتفت إلى
الجهات الواقعية الماهية المطلقة وبعد ذلك لا يحظ شيئا آخر جزء لها أو مانعا
عنها.
وإن لاحظها مقيدة بأمر وجودي، فذلك الأمر الوجودي إما أن يكون جزء
لها أو شرطا على اختلاف بينهما في كيفية اللحاظ.
وإن لاحظها مقيدة بأمر عدمي فذلك الأمر العدمي يكون مانعا لا محالة. هذا
كله في عالم اللحاظ.
ثم بعد ذلك لا بد للجاعل والشارع من تشريع الماهية وجعلها على طبق
لحاظها، فكما أن في عالم اللحاظ ليس له لحاظ شئ آخر جزء أو شرطا أو مانعا
بعد لحاظ الماهية مطلقة، فكذلك بعد الجعل والتشريع أن يجعل أمرا شرطا أو
مانعا عن مجعوله إلا على سبيل النسخ.
وحاصل الكلام: أن هنا عوالم ثلاثة، عالم الملاك وعالم اللحاظ وعالم الجعل
والتشريع، ومنشأ انتزاع الجزئية والشرطية والمانعية في كل من هذه العوالم الثلاثة
مختلف، فإن منشأ انتزاع هذه الأمور في عالم الملاك قد عرفت أنه أمر واقعي
تكويني، وقد تقدم أن الشك في تحقق المنشأ وحصوله في هذا العالم مما لا أثر له
بعد عدم كون الملاكات داخلة في حيز الطلب والتكليف.
ومنشأ انتزاع هذه الأمور في عالم اللحاظ إنما هو عبارة عن لحاظ الطبيعة إما
مقيدة بأمر وجودي أو بأمر عدمي، والجزء والشرط والمانع في هذا العالم أيضا مما
لا أثر له، بداهة أن عالم اللحاظ مع قطع النظر عن الجعل والتشريع على طبقه
290

مما لا أثر له ولا إطاعة له ولا عصيان.
بل الإطاعة والعصيان والأثر إنما تترتب على عالم الجعل والتشريع الذي هو
عالم التكليف، ومنشأ انتزاع المانعية والشرطية والجزئية في هذا العالم أي عالم
الجعل إنما هو جعل الطبيعة وتقييدها وتخصيصها بأمر وجودي أو عدمي فمن
تقيدها بأمر وجودي تنتزع عنه الجزئية والشرطية، ومن تقيدها بأمر عدمي تنتزع
عنه المانعية، فلولا تقيد الماهية في عالم التشريع بعدم ذلك الذي فرض كونه مانعا
عن تحقق المأمور به، لا يمكن بعد ذلك أن يصير شئ مانعا عنه، ولا يعقل جعله
ثانيا إلا على طريق النسخ كما عرفت.
فتحصل: أن منشأ انتزاع المانعية للمأمور به ليس إلا تقيد المأمور به في عالم
الجعل والتشريع بعدم الشئ، كما أن منشأ انتزاع المانعية في باب الوضع
والأسباب ليس هو إلا عبارة عن تقيد المسبب الذي هو المجعول الشرعي في باب
الأسباب، كالملكية والزوجية وأمثال ذلك بعد المانع، وهكذا الحال في موانع
التكليف ليس المنشأ إلا عبارة عن اشتراط التكليف وتقيده بعدم المانع كما لا يخفي.
هذا كله بحسب عالم الثبوت.
وأما بحسب عالم الاثبات فالنواهي الغيرية الواردة دالة بمدلولها المطابقي على
ذلك التقيد النفس الأمري، كما أن الأوامر الغيرية الواردة دالة بمدولها المطابقي
على التقيد النفس الأمري أيضا، غايته أن النواهي تدل على التقيد بالعدم الذي
هو مساوق لمانعية الشئ، والأوامر تدل على التقيد بالوجود الذي هو مساوق
لجزئية الشئ أو شرطيته.
فمثل قوله " اركع أو اسجد أوصل مستقبلا " يدل على جزئية الركوع
والسجود وشرطية الاستقبال، ويكشف عن تقيد الصلاة ثبوتا في مقام الجعل
والتشريع بالركوع والسجود والاستقبال، ومثل قوله " لا تصل في الحرير " و " فيما
291

لا يؤكل " يدل على مانعية الحرير وما لا يؤكل، ويكشف عن تقيد الصلاة ثبوتا
بعدم وقوعها في الحرير وفيما لا يؤكل.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن المحتملات التي ذكرناها في النواهي الاستقلالية
بعينها جارية في النواهي الغيرية، فإن النهي الغيري يمكن أن يكون له تعلق
بموضوع خارجي، كالنهي عن الصلاة فيما لا يؤكل وفي الحرير، ويمكن أن لا يكون
له تعلق بموضوع خارجي، كالنهي عن قول آمين والتكتف.
ثم ما كان له تعلق بموضوع خارجي يمكن ثبوتا أن يكون المطلوب منه هو
العنوان المترتب والسبب التوليدي الحاصل من ترك ما تعلق به النهي، بأن يكون
المطلوب من النهي عن الصلاة فيما لا يؤكل هو اتصاف الصلاة بعدم وقوعها فيه،
وكون المصلي متصفا بأنه غير لابس له، بحيث يكون المقصود هو المعنى النعتي
الحاصل من ترك لبس أفراد غير المأكول، فتكون القضية حينئذ من الموجبة
المعدولة المحمول وتخرج عن السالبة المحصلة، كما إذا كان المطلوب في النواهي
الاستقلالية مثل لا تشرب الخمر هو كون الشخص غير متصف بكونه شارب
الخمر، وأنه يعتبر أن لا يكون شارب الخمر.
ويمكن أن يكون المطلوب من النهي الغيري المتعلق بموضوع خارجي هو
السلب الكلي على نحو العام المجموعي، بأن يكون المقصود من النهي عن الصلاة
فيما لا يؤكل هو تركها في مجموع أفراد ما لا يؤكل، بحيث كان هناك نهي واحد و
مطلوب فأرد تعلق بمجموع الأفراد، فيكون المانع هو مجموع الأفراد على نحو عموم
السلب لا سلب العموم، بحيث لو صلى في فرد مما لا يؤكل اضطرارا فقد خرجت
لأفراد الأخر عن المانعية وتعلق النهي بها.
ويمكن أن يكون المطلوب من النهي الغيري هو السلب الكلي على نحو
الانحلالية بحيث يكون لكل فرد من أفراد ما لا يؤكل خطاب يخصه، ويتعدد
292

المانع حسب تعدد أفراده في الخارج، وتكون الصلاة مقيدة بعدم وقوعها في كل
واحد من الأفراد، ويتعدد القيد حسب تعدد أفراد كتعدد الخطابات
الاستقلالية حسب تعدد أفراد الموضوع.
والحاصل: أن المحتملات في النواهي الغيرية هي بعينها المحتملات في
النواهي الاستقلالية، وقد عرفت أن المحتملات في النواهي الاستقلالية ثلاثة ففي
النواهي الغيرية أيضا كذلك، هذا بحسب الامكان.
وأما بحسب الاستظهار فما استظهرناه في النواهي الاستقلالية، من كون
المطلوب فيها بحسب ما يقتضيه ظاهر الدليل كونه على نحو الانحلالية، لا السلب
الكلي على نحو العام المجموعي، ولا الموجبة المعدولة المحمول، بعينه مستظهر في
النواهي الغيرية، وأن الأصل فيها أيضا الانحلالية، وحينئذ يكون الشك في تحقق
الموضوع الخارجي شكا في التكليف، كما تقدم وجهه في النواهي الاستقلالية.
وبيان ذلك، هو أنه لا إشكال في أن الظاهر من أدلة الباب، من مثل قوله
عليه السلام " لا تجوز الصلاة فيما لا يؤكل " (1) خصوصا الأخبار المعللة بالمسوخية
وغيرها، هو أن جهة المنع إنما هي لأجل خصوصية قائمة في غير المأكول أوجبت
المنع عن الصلاة فيه.
وهذا المعنى ينافي كونه من باب الموجبة المعدولة المحمول، فإنه لو كان
المطلوب بالنهي هو كون الصلاة متصفة بكونها لا فيما يؤكل لحمه، بحيث يكون
نفس هذا العدم النعتي تمام المطلوب والمصلحة قائمة به، لكان اللازم هو ملاحظة
العدم معنى استقلاليا، وتكون الخصوصية الموجبة لعدم صحة الصلاة فيما لا يؤكل
قائمة بنفس هذا العدم، من دون أن يكون في الحيوان الغير المأكول خصوصية

(1) الوسائل: ج 3 ص 251 باب 2 من أبواب لباس المصلي ح 7.
293

أوجبت المنع عن الصلاة فيه، بل كانت الخصوصية قائمة بذلك الوصف العدمي
القائم بالصلاة عند ترك الصلاة فيما لا يؤكل، بحيث تدور الصحة والفساد مدار
تحقق ذلك الوصف وعدمه، حتى لو فرض محالا أن المكلف ترك الصلاة في جميع
أفراد ما لا يؤكل، ولم يتحقق ذلك الوصف العدمي للصلاة، لكانت الصلاة فاسدة.
وهذا الفرض وإن كان محالا، لأن ترك الصلاة في جميع أفراد ما لا يؤكل
ملازم لتحقق العنوان العدمي للصلاة، فإن ذلك العنوان من قبيل المسبب
التوليدي لذلك الترك، كما عرفت وجهه في النواهي الاستقلالية، إلا أن
التفكيك بين المتلازمين مما يوجب تقريب المطلب وتسجيله.
والحاصل: لازم كون المطلوب هو الصلاة لا فيما يؤكل على نحو القضية المعدولة
المحمول، هو كون الخصوصية المستتبعة للصحة والفساد قائمة بنفس ذلك العدم،
من دون أن يكون لأفراد غير المأكول دخل في ذلك، ولا خصوصية فيها توجب
المنع عن الصلاة فيها.
وهذا كما ترى ينافي ظواهر الأدلة، من كون المنع إنما هو من أجل
خصوصية قائمة في نفس الحيوان التي أوجبت حرمة أكله وعدم جواز الصلاة فيه،
كما يشهد لذلك التعليل بالمسوخية وغيرها، فالمطلوب في باب النواهي الغيرية
سحب ما يقتضيه ظاهر الأدلة ليس هو إلا ترك الصلاة في أفراد ما لا يؤكل
لاتصاف الصلاة بالترك، بحيث لو فرض أيضا محالا ترك المكلف الصلاة في
جميع أفراد ما لا يؤكل، ولكن لم يتحقق ذلك الوصف العدمي للصلاة، لما كان
ذلك مخلا بالصحة أصلا.
فاحتمال أن يكون المطلوب من النهي عن الصلاة فيما لا يؤكل، هو اتصاف
الصلاة بكونها لا فيما يؤكل لحمه على نحو المعدولة المحمول ساقط من أصله،
ولا ينبغي الاصغاء إليه
294

بقي احتمالات آخران: (أحدهما) أن يكون المطلوب من النهي هو ترك
الصلاة في أفراد ما لا يؤكل على نحو العام المجموعي، بحيث يكون هناك مطلوب
واحد وقيد فأرد للصلاة، وهو عدم وقوعها في مجموع أفراد ما لا يؤكل من حيث
المجموع على نحو السلب الكلي، نظير من نذر ترك أفراد شرب الدخان.
(ثانيهما) أن يكون المطلوب من النهي هو ترك الصلاة في كل فرد فرد من
أفراد ما لا يؤكل على نحو العموم انحلالي، بحيث يكون كل فرد من أفراد ما لا يؤكل
متعلقا للنهي الغيري استقلالا، ويكون عدم كل فرد فرد قيدا للصلاة، فتتعدد
القيدية حسب تعدد الأفراد.
وقد تقدم في النواهي الاستقلالية أن الأصل فيها الانحلالية، والظاهر من
مثل قوله " لا تشرب الخمر " هو انحلال الخطاب بالنسبة إلى كل فرد فرد من
أفراد الخمر، بحيث يكون لكل فرد خطاب يخصه، فهل الأمر في النواهي الغيرية
أيضا كذلك، أو أن الأصل فيها أن يكون النهي على نحو العام المجموعي؟
ربما يتوهم أن المطلوب فيما نحن فيه لا بد وأن يكون على نحو السلب الكلي
لا العام الانحلالي، وذلك لأنه لا إشكال في عدم حصول قيد الصلاة، وما هو
المطلوب من النهي عن الصلاة فيما لا يؤكل، إلا ترك الصلاة في مجموع أفراد
ما لا يؤكل، فامتثال النهي عن الصلاة فيما لا يؤكل لا يتحقق إلا بالتحرز والتجنب
عن جميع أفراد ما لا يؤكل، وهذا كما ترى لا يستقيم إلا بأن يكون المطلوب فيما
نحن فيه هو السلب الكلي لا الانحلالي.
وأيضا لا إشكال في أنه لو صلى في أحد أفراد ما لا يؤكل لا تكون سائر الأفراد
مانعة، لأن المسبوق بمثله لا يؤثر، وهذا يكشف عن بطلان الانحلالية، لأنه لو كان
المطلوب بالنهي هو الانحلالية لكان اللازم اتصاف كل فرد فرد من أفراد غير
المأكول بالمانعية، كاتصاف كل فرد فرد من أفراد الخمر بالحرمة، هذا.
295

ولكن لا يخفى عليك فساد هذا التوهم، فإن عدم حصول القيد للصلاة، إلا
بترك جميع أفراد غير المأكول لا يكشف عن كون المطلوب بالنهي هو السلب الكلي، بل عدم حصول ذلك إنما هو من لوازم الارتباطية، حيث إن الارتباطية
بين أجزاء الصلاة وشرائطها وموانعها تقتضي عدم تحقق المطلوب من الصلاة إلا
بوجدانها لجميع ما اعتبر فيها.
وما ذكر من أنه لو صلى في أحد أفراد غير المأكول تخرج سائر الأفراد عن
كونها مانعة، وهذا ينافي الانحلالية، ففساده غني عن البيان، فإن فيه:
(أولا) نقضا أنه لو صلى مع فقدان بعض أجزاء الصلاة أو شرائطها، أو
صلى مع مانع آخر غير ما لا يؤكل كالحرير مثلا، فلا إشكال في أن غير المأكول
لا يتصف بالمانعية، فإنه لو صلى في ألف من غير المأكول لا يؤثر في الفساد، بعدما
كانت الصلاة واقعة على غير ما اعتبر فيها من الأجزاء والشرائط والموانع، فمجرد
خروج سائر الأفراد عن المانعية إذا كانت الصلاة واقعة في فرد مما لا يؤكل
لا يكشف عن كون القيد أخذ على نحو السلب الكلي أو الانحلالي.
(وثانيا) أن مانعية غير المأكول لم تؤخذ قيدا لأفراد الصلاة، حتى يقال بأن
الفرد من الصلاة الواقع في فرد من غير المأكول يوجب خروج سائر الأفراد عن
المانعية، بل القيد إنما اعتبر قيدا للطبيعة، فلو فرض أنه صلى ألف فرد من الصلاة
في غير المأكول، لا يوجب خروج غير المأكول عن المانعية، وبعد باق على مانعيته
للطبيعة، والأفراد الواقعة من الصلاة خارجة عن صحة انطباقها على الطبيعة
المأمور بها.
نعم لو فرض أنه اضطر إلى الصلاة في فرد من غير المأكول، بحيث يوجب
سقوط القيد عن القيدية، فحينئذ لو قال أحد بأنه بعد اضطراره إلى لبس فرد من
أفراد غير المأكول يجوز لبس سائر الأفراد، ولا تضر بصحة الصلاة، لكشف ذلك
296

عن أن القيد إنما أخذ على نحو السلب الكلي، حيث جواز لبس سائر الأفراد الغير
المضطر إليها ينافي الانحلالية، وأن كل فرد من أفراد غير المأكول مانع مستقل
وتعلق النهي الغيري به بحياله.
إلا أن الشأن في جواز ذلك، فإن الظاهر تسالم الفقهاء على ما حكي أنه
لا بد من الاقتصار على المضطر إليه ولا يجوز لبس الزائد، وهذا التسالم يكشف عن
الانحلالية لا السلب الكلي، كما لا يخفى وجهه.
فظهر أن ما تخيل وجها لأن يكون النهي في مثل " لا تصل فيما لا يؤكل " على
نحو السلب الكي ليس بجيد، والأقوى أن النهي فيما نحن فيه إنما يكون على نحو
الانحلالية، وأن كل فرد من أفراد غير المأكول يكون مانعا بحياله وتعلق به النهي
الغيري مستقلا.
وعليه تندرج الشبهة في مجاري البراءة، فإذا شك في شئ أنه من غير
المأكول من جهة الشبهة المصداقية يكون الشك شكا في التكليف، ويكون من
باب دوران المتعلق بين الأقل والأكثر، بداهة أن الانحلالية توجب تعدد القيد
والنهي حسب ما يوجد من أفراد غير المأكول في الخارج، فالشك في فرد يوجب
الشك في النهي والتقيد زائدا عما علم من الأفراد المعلومة.
ثم على تقدير التنزل وتسليم كون النهي على نحو السلب الكلي لا الانحلالي،
فالشبهة أيضا مندرجة في مجاري البراءة، ضرورة أنه بناء على السلب الكلي وإن
كان النهي واحدا والقيد فاردا، إلا أنه لا إشكال في اتساع دائرة متعلق النهي
والقيد حسب سعة ما يوجد من أفراد غير المأكول، وأن كل ما يوجد في الخارج من
أفراده يوجب زيادة المتعلق وتوسعة في ناحية القيد، وهذا المقدار يكفي في اندراج
الشبهة في مجاري البراءة، كما عرفت وجهه في التكاليف الاستقلالية، بداهة أنه
بناء على هذا أيضا يرجع الشك فيه إلى الشك في التكليف لا الشك في الامتثال.
297

وحاصل الكلام: أنه بناء على أن يكون النهي عن الصلاة فيما لا يؤكل
انحلاليا، وأن كل فرد فرد من أفراد ما لا يؤكل قد تعلق به نهي، وكان موردا
للتكليف مستقلا بحيث يتعلق بكل فرد يوجد في الخارج فرد من الخطاب لا ربط
له بخطاب المتعلق الآخر، يكون اندراج الشبهة في مجاري البراءة واضحا.
ولو لم يكن النهي عن الصلاة فيما لا يؤكل انحلاليا وكان على نحو السلب
الكلي، فهو وإن كان خلاف ظاهر النهي إلا أنه مع ذلك تكون الشبهة مجري
للبراءة، لرجوع الشك في الفرد المشتبه إلى الشك في سعة التكليف والقيد، فإنه
لو كان الفرد المشتبه من غير المأكول واقعا لكان ذلك يوجب سعة دائرة النهي
والقيد المستفاد منه، فالشك في الفرد يلازم الشك في تعلق النهي به، وكلما رجع
الشك إلى الشك في تعلق النهي يرجع إلى البراءة، لما عرفت من الضابط بين
رجوع الشبهة إلى الشك في التكليف ورجوعها إلى الشك في الامتثال، وأنه كلما
رجعت الشبهة إلى ناحية الطلب وما هو فعل الآمر والمكلف بالكسر فتكون الشبهة
من مجاري البراءة في غير الشك في المحصل، وكلما رجعت الشبهة إلى تحقق الفعل
أو الترك المطالب به كانت الشبهة من مجاري الاشتغال.
وفيما نحن فيه على كلا التقديرين، سواء كان النهي انحلاليا أو كان
مجموعيا، يكون الشك في الفرد المشتبه من باب الشك في التكليف وتردد المتعلق
بين الأقل والأكثر. غايته أنه بناء على الانحلالية يرجع الشك إلى الشك في أصل
تعلق الخطاب المستقل في الفرد المشتبه، وبناء على المجموعية يرجع الشك إلى
دخول الفرد المشتبه تحت دائرة الخطاب الواحد المتعلق بمجموع الأفراد.
نعم لو كان المطلوب بالنهي هو العدم النعتي، والوصف المسبب من ترك
الصلاة في آحاد غير المأكول، لكان الشك حينئذ مندرجا في مجاري الاشتغال،
لرجوع الشك إلى الشك في تحقق ذلك الوصف العدمي المطالب به، لما عرفت من
298

أنه لو كان المطلوب بالنهي هو العدم النعتي على نحو الموجبة المعدولة المحمول،
لكان ترك أفراد غير المأكول محصلا لذلك العدم، ويدور أمر المحصل حينئذ بين
الأقل والأكثر، وكلما رجع الشك إلى باب المحصل فالأصل فيه الاشتغال.
فتحصل من جميع ما ذكرنا: أنه لا فرق بين النواهي الغيرية والنواهي
الاستقلالية، فكما أن الأصل في النواهي الاستقلالية هو الانحلالية، ويكون
الشك في الفرد المشتبه شكا في أصل التكليف، فكذلك الأمر في النواهي الغيرية
وكما أن المطلوب في باب النواهي الاستقلالية، لو كان على نحو السلب
الكلي والعام المجموعي، كان الشك أيضا راجعا إلى الشك في التكليف من
حيث سعة دائرة التكليف وضيقه، فكذلك الحال في النواهي الغيرية.
وكما أن المطلوب في باب النواهي الاستقلالية لو كان على نحو الموجبة
المعدولة المحمول لكان الشك راجعا إلى الشك في الامتثال، فكذلك الحال في
النواهي الغيرية حذو النعل بالنعل.
هذا كله بناء على المختار عندنا من مانعية غير المأكول، كما تقدم وجهه.
وأما بناء على شرطية المأكول، فهو وإن كان خلاف ظاهر الأدلة إلا أنه
يختلف حكم الشك فيه، فإنه بناء على المانعية قد عرفت أنه لا محيص عن القول
بالبراءة إلا على تقدير تقدم، وقد عرفت أن ذلك التقدير خلاف ظاهر أدلة الباب.
وأما بناء على الشرطية، فإن قلنا بأن شرطية المأكول مقصورة بما إذا كان
اللباس من حيوان، بحيث لو كان اللباس من غير الحيوان كانت الشرطية منتفية
من باب عدم الموضوع كما عرفت الوجه في ذلك فيما تقدم لكان اللازم حينئذ
عند الشك في المأكولية مع العلم بأن اللباس متخذ من الحيوان هو الاحتياط،
للشك في تحقق ما هو الشرط، والشك في الشرط يستدعي الشك في تحقق
المشروط وهو الصلاة، فيرجع الشك إلى الشك في تحقق الامتثال والخروج عن
299

عهدة التكليف.
وأما لو شك في اتخاذ اللباس من الحيوان أو غيره من القطن والكتان، وعلى
تقدير كونه من الحيوان فيشك في كونه مأكولا أو غيره، لكان اللازم حتى على
القول بالشرطية هو الرجوع إلى البراءة، لأن مرجع الشك في الفرض أيضا إلى
اتساع سعة دائرة الشرطية بحيث تشمل المشكوك.
ومجرد العلم بشرطية المأكول لا يلازم القول بالاشتغال، فإن شرطية المأكول
حسب الفرض مقصورة بما إذا كان اللباس من الحيوان، فلو علم كون اللباس من
الحيوان كان اللازم هو تحصيل العلم بكونه من المأكول قضية للشرطية، وأما لو
شك كونه من الحيوان كما هو المفروض فلا مانع من جريان البراءة للشك في
تحقق موضوع ما هو الشرط، وهو كون اللباس من الحيوان، فيرجع الشك إلى
الشك في اشتراط المأكولية في هذا اللباس، فإنه على تقدير كونه من الحيوان
يشترط فيه المأكولية، وكلما رجع الشك إلى الشك في الاشتراط فالأصل البراءة
عنه، فتأمل جيدا.
نعم لو قلنا بأن الشرط هو خصوص المأكولية، بل هو أحد خصوصيات
الوجودية من القطن والكتان ومنها المأكولية كما تقدم الوجه في ذلك أيضا كان
اللازم في الفرض المذكور هو القول بالاشتغال، للشك في تحقق تلك الخصوصية
الوجودية التي كانت شرطا في صحة الصلاة، لاحتمال كون اللباس من حيوان
غير مأكول.
فتحصل من جميع ما ذكرناه: أنه بناء على مانعية غير المأكول كما أطبقت
عليها روايات (1) الباب، وبناء على انحلالية القيد، وأن مثل قوله " لا تصل فيما

(1) الوسائل: ج 3 ص 250 باب 2 من أبواب لباس المصلي.
300

لا يؤكل " ينحل إلى نواهي متعددة حسب تعدد أفراد ما لا يؤكل في الخارج،
ويكون لكل فرد فرد من أفراده خطاب يخصه ويتعلق به بعد وجوده، كما هو
ويكون الشأن في كل خطاب تعلق بموضوع خارجي على نحو الانحلالية، كان محل الكلام
وهو ما إذا اشتبه الشئ في كونه من المأكول أو غيره مندرجا في موارد تردد
متعلق التكليف بين الأقل والأكثر، من جهة الشبهة المصداقية والموضوعية، بداهة
أنه بناء على المانعية والانحلالية يرجع الشك في المورد المشتبه إلى الشك في تعلق
التكليف والخطاب الغيري بهذا الفرد من اللباس، وأنه هل ورد عليه خطاب
لا تصل فيه أو لم يرد، بعد العلم بورود الخطاب وتوجه التكليف بالنهي عن
الصلاة فيما علم كونه من غير المأكول.
فيكون ما نحن فيه مثل ما إذا شك في خمرية مائع من جهة الشبهة الموضوعية،
فكما أن الشك في الخمرية يستلزم الشك في تعلق النهي به، لأن نسبة الموضوع إلى
الحكم نسبة العلة إلى المعلول، والشك في العلة يلازم الشك في المعلول، فكذلك
بعينه فيما نحن فيه، سوى أن الخطاب في مثل لا تشرب الخمر استقلالي، والخطاب
فيما نحن فيه غيري. وسنشير إلى أن الفرق ليس بفارق فيما هو المناط في جريان
البراءة في الشبهات الموضوعية في التكاليف الاستقلالية. هذا كله بناء على
انحلالية الخطاب.
وأما بناء على عدم الانحلالية وأن المطلوب في مثل قوله " لا تصل فيما
لا يؤكل " إنما هو أمر واحد، ويكون للصلاة قيد فأرد وهو عدم وقوعها في مجموع
أفراد ما لا يؤكل، لا أنها مقيدة، بعدم وقوعها في كل فرد فرد، حتى تتعدد القيدية
حسب تعدد الأفراد كما هو لازم الانحلالية، بل ليس هناك إلا نهي واحد وقيد
فأرد تعلق بمجموع الأفراد على نحو السلب الكلي، بحيث لا يختلف النهي
والخطاب والقيد، زادت الأفراد في الخارج أو نفصت. نعم زيادة الأفراد
301

ونقصانها يوجب التوسعة والضيق في دائرة متعلق النهي والقيد، كما لو نذر أنه
لا يشرب ماء الدجلة مثلا، فإن زيادة ماء الدجلة أو نقصانه لا يوجب تعدد
النذر، ولا تعدد النهي الجائي من قبل الوفاء بالنذر، بل الزيادة والنقيصة إنما
توجب سعة دائرة المنذور وضيقه فهو وإن كان خلاف ما يقتضيه ظاهر النهي
الذي له تعلق بموضوع خارجي، حيث عرفت أن الأصل الأولي في باب النواهي
المتعلقة بالموضوعات الخارجية هو الانحلالية، من غير فرق بين الاستقلالية والغيرية،
وأن ما تخيل من أن النهي الغيري في مثل لا تصل فيما لا يؤكل لا يمكن أن يكون
مفاد الانحلالية لأحد الوجهين المتقدمين، فقد عرفت ضعفه، وأن ما ذكر من
الوجهين لا يصلح فارقا بين النواهي الاستقلالية والغيرية، ولا يوجب انقلاب
الأصل الأولي عما هو عليه، إلا أنه بناء عليه أيضا يرجع الشك في المورد المشتبه
إلى تردد متعلق التكليف بين الأقل والأكثر.
غايته أنه بناء على الانحلالية يرجع الشك في المورد المشتبه إلى الشك في أصل
وجود النهي عنه وتقيد الصلاة بعدم الوقوع فيه، وهذا بخلاف الوجه الأخير، فإن
الشك [يرجع] فيه إلى الشك في تعلق ذلك النهي المقطوع وجوده بهذا المشتبه،
واتساع دائرة القيدية بعدم الوقوع فيه. وعلى كل حال يرجع الشك إلى الشك في
متعلق التكليف وتردده بين الأقل والأكثر.
وأما بناء على أن يكون المطلوب في مثل لا تصل فيما لا يؤكل هو النعت
العدمي على نحو الموجبة معدولة محمولها، وهو اتصاف الصلاة بعدم وقوعها فيما
لا يؤكل، وأن المطلوب هو الصلاة لا فيما لا يؤكل، فيخرج المورد المشتبه عن كونه
متعلقا للتكليف والنهي لا استقلالا ولا ضمنا وتبعا، بل يكون متعلق النهي حقيقة
هو ذلك النعت العدمي المسبب التوليدي من ترك الصلاة في آحاد أفراد
ما لا يؤكل، فيكون ترك الأفراد محصلا لذلك المطلوب، ويرجع الشك في المورد
302

المشتبه إلى تردد محصل متعلق التكليف بين الأقل والأكثر لا تردد نفس المتعلق.
ولعل نظر المشهور على ما نسب إليهم من ذهابهم إلى المنع عن الصلاة في
المشكوك ومصيرهم إلى الاحتياط إلى هذا الوجه، وأنهم فهموا من النهي عن
الصلاة فيما لا يؤكل هو أن المطلوب النعت العدمي، من دون أن تكون الأفراد
متعلقة للنهي، هذا.
ولكن قد عرفت أنه لا يمكن المصير إلى هذا الوجه، لأن الظاهر من الأدلة،
خصوصا المعللة منها، هو كون الخصوصية والمفسدة التي أوجبت المنع عن الصلاة
فيما لا يؤكل قائمه بنفس أفراد ما لا يؤكل، فتكون نفس الأفراد متعلقة للنهي.
إذا عرفت ذلك فنقول: إن دوران متعلق التكليف بين الأقل والأكثر من
جهة الشبهة الموضوعية، كدوران المتعلق بين الأقل والأكثر من جهة الشبهة
الحكمية كفقد النص وإجماله، ونحن بعدما بينا وأوضحنا أن دوران الأمر بين
الأقل والأكثر من جهة الشبهة الحكمية يكون مجرى للبراءة الشرعية لا العقلية،
فكذلك دوران المتعلق بينهما من جهة الشبهة الموضوعية من غير فرق بينهما أصلا.
وتوهم أن مورد الرجوع إلى البراءة العقلية والشرعية إنما هو فيما إذا شك في
شئ يكون بيانه من وظيفة الشارع، وما هو جاعله والصادر عنه في مقام التشريع،
بداهة أن حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان إنما هو فيما إذا كان البيان من وظيفة
الشارع، وكذا قوله " رفع ما لا يعلمون " إنما يكون فيما إذا شك في مجعول شرعي
يكون وضعه ورفعه بيد الشارع، وهذا المعنى لا يجري في الشبهات الموضوعية، لأنه
ليس من وظيفة الشارع بيان حمال الموضوع الخارجي وأن اللباس من مأكول
اللحم أو غيره، بل ليس وظيفة الشارع إلا بيان الأحكام، وأن حكم المأكول
وغير المأكول ما هو، والمفروض أنه علمنا حكم المأكول وغيره، وأنه لا يجوز الصلاة
في غير المأكول، فما هو من وظيفة الشارع بيانه قد علمناه، والشك إنما هو واقع فيما
303

لا يكون من وظيفة الشارع بيانه، فلا محل للبراءة العقلية والشرعية في الشبهات
الموضوعية فاسد جدا، بداهة أنه ليس المناط في البراءة العقلية والشرعية أن يكون
المشكوك من وظيفة الشارع بيانه، وإلا كان اللازم عدم جريان البراءة في
الشبهات الحكمية أيضا عند إجمال النص، كما لو تردد الغناء المحرم بين أن يكون
هو مطلق مد الصوت وترجيعه، أو ذلك مع كونه مطربا، بداهة أنه ليس من
وظيفة الشارع بيان معنى الغناء، بل معناه موكول إلى اللغة والعرف.
بل مناط البراءة العقلية ليس إلا قبح العقاب على الواقع المجهول الذي لم
يصل إلى المكلف بأحد أسباب وصوله من العلم به أو قيام الطريق عليه، ضرورة
أن الانبعاث عن البعث المولوي إنما يكون بوجوده العلمي لا بوجوده الواقعي، فإن
الانبعاث عن الوجود الواقعي مع عدم وجوده العلمي من المحالات الأولية كما
لا يخفى، فإذا كان الانبعاث يحتاج إلى الوجود العلمي فما لم يعلم بالبعث، ولم
يصل إلى المكلف بأحد أسباب وصوله كان العقاب عليه قبيحا عقلا، سواء صدر
البعث عن الشارع واقعا أو لم يصدر.
بل ربما يقال بأن مورد البراءة العقلية إنما هو فيما إذا كان صادرا عن الشارع
واقعا ولم يصل إلى المكلف، وأما إذا لم يصدر من الشارع واقعا وكان مما سكت
الله عنه فليس قبح العقاب على مثل هذا من باب قبح العقاب بلا بيان، بل قبح
العقاب على مثل هذا إنما هو لأجل أن وظيفة الشارعية ما تمت، إذ لا معنى
للعقاب عن شئ لا واقع له ولا مجعول للشارع.
وبالجملة: مناط حكم العقل بقبح العقاب من غير بيان إنما هو لأجل أن
الانبعاث يحتاج إلى الوصول، فما لم يصل الحكم الشرعي بما اعتبر فيه كان
العقاب عليه قبيحا، وإن كان في الواقع صادرا عن الشارع بما له من القيود وتمت
وظيفته، لما عرفت من أن مجرد تمامية وظيفة الشارع مع عدم وصول البعث إلى
304

المكلف غير مصحح للعقاب، هذا في البراءة العقلية.
وأما البراءة الشرعية فمناط جريانها إنما هو الشك في أمر كان بيد الشارع رفعه
ووضعه، وكان في رفعه المنة والتوسعة على العباد، فكلما حصل الشك في مثل هذا
تجري البراءة الشرعية.
إذا عرفت ذلك فنقول: إنه بعد ما عرفت من انحلالية النهي، وأن مثل قوله
" لا تشرب الخمر " أو " لا تصل فيما لا يؤكل " ينحل إلى نواهي متعددة، حسب
تعدد أفراد الخمر وغير المأكول في الخارج، ويستنبع كل فرد خطاب مستقل
يخصه لا ربط له بخطاب الفرد الآخر، يحتاج الوصول والوجود العملي لمثل هذا
النهي إلى أمرين: (الأول العلم بالكبرى، وهي حرمة أفراد الخمر وغير المأكول.
(الثانية) العلم بالصغرى، وهي كون هذا الشئ خمرا أو غير مأكول.
فإذا وصل هذان الأمران جميعا كان البعث المولوي والنهي منجزا، ويجب
الخروج عن هدته. ولو شك في أحد الأمرين أو كليهما كان البعث غير تام في
الباعثية، وتجري البراءة العقلية فيه وكذلك البراءة الشرعية، فإنه بعد ما كان
لكل فرد خطاب يخصه فالشك في تحقق الفرد في الخارج شك في تحقق ذلك
الخطاب وهو أمر مجهول، أمر وضعه ورفعه بيد الشارع، وفي رفعه المنة فتجري
البراءة الشرعية فيه، هذا في الشبهات الموضوعية.
وأما في الشبهات الحكمية إذا كان من جهة إجمال النص، فالكلام فيها
الكلام في الشبهات الموضوعية إشكالا وجوابا. كما أن الاشكال والجواب مطرد
أيضا في الشبهات التحريمة والوجوبية، وقد استقصينا البحث عن ذلك في
الأصول، فراجع.
هذا تمام الكلام في بيان كون الشبهة من مجاري أصالة البراءة.
المقام الثاني في توضيح كون الشبهة من مجاري أصالة الحل التي قام الدليل
305

على اعتبارها بالخصوص، ونطقت بها عدة من الروايات، كرواية مسعدة بن
صدقه (1) وغيرها.
وفي اختصاصها بالشبهات الموضوعية أو تعم الشبهات الحكمية أيضا كلام
ذكرنا تفصيله في الأصول، وقلنا: إن الأشبه اختصاصها بالشبهات الموضوعية،
لأن الظاهر من قوله عليه السلام " كل شئ فيه حلال وحرام فهو لك حلال..
إلخ " هو كون الشئ الذي أخذ موضوعا منقسما إلى القسمين فعلا، بحيث
يكون له فعلا قسم حلال وقسم حرام، وإن كان التقسيم باعتبار نوعه وصنفه بأن
يكون نوع منه حلالا ونوع منه حراما، كالحيوان المنقسم إلى الأرنب المحرم الأكل
والغنم المحلل الأكل، وذلك إنما يكون في الموضوعات الخارجية.
وبالجملة: الظاهر من رواية مسعدة خصوصا الأمثلة المذكورة فيها هو
اختصاص أصالة الحل بالشبهات الموضوعية.
وعلى كل حال فقد تمسك بأصالة الحل لجواز الصلاة في المشكوك جملة من
الأساطين، ببيان أن الشك في جواز الصلاة في المشكوك مسبب عن الشك في
حلية الحيوان المأخوذ منه اللباس، وبعد جريان أصالة الحل في الحيوان يرتفع
الشك المسببي، كما هو الشأن في كل شك سببي ومسببي، ولا يتوقف جريان
أصالة الحل في الحيوان [على] كون اللحم محلا للابتلاء فعلا، بل لو فرض أن
لحم الحيوان كان خارجا عن مورد الابتلاء كانت أصالة الحل في الحيوان جارية،
باعتبار جواز الصلاة في المأخوذ منه، ويكفي في جريان الأصل هذا المقدار من
الأثر، فمجرد خروج لحم الحيوان عن مورد الابتلاء غير مانع عن جريان الأصل.
كما أنه لا يمنع عن جريان أصالة الحل جريان أصالة عدم التذكية في

(1) الوسائل: ج 12 ص 60 من أبواب ما يكتسب به، ح 4.
306

الحيوان، على تقدير الشك فيها بناء على أخذ قابلية المحل جزء للتذكية، وتردد
الحيوان المأخوذ منه اللباس بين كونه قابل للتذكية أو غير قابل، فإن أصالة عدم
التذكية على تقدير جريانها إنما تنفع بالنسبة إلى الأجزاء التي تحلها الحياة، وأما
بالنسبة إلى الصوف والوبر والشعر وغيرها من الأجزاء التي لا تحلها الحياة فأصالة
عدم التذكية مما لا أثر لها، ولا تمنع عن جريان أصالة الحل في الحيوان بالنسبة
إلى أثر جواز الصلاة في مثل الوبر والصوف، نعم بالنسبة إلى الأجزاء التي تحلها
الحياة تكون أصالة الحل محكومة بأصالة عدم التذكية في مورد جريانها.
وبالجملة: ما توهم مانعا عن جريان أصالة الحل غير مانع، لا خروج اللحم
عن محل الابتلاء، ولا جريان أصالة عدم التذكية في الحيوان، لأنه يكفي في
جريان الأصل مجرد ترتب أثر شرعي عليه، ولو كان ذلك الأثر جواز الصلاة في
وبره وصوفه، فالخروج عن محل الابتلاء لا يصلح للمانعية، كما أن أصالة عدم
التذكية لا تصلح للمانعية بالنسبة إلى الأجزاء التي لا تحلها الحياة، هذا.
ولكن مع ذلك لا يستقيم الاستدلال بأصالة الحل الجارية في الحيوان لجواز
الصلاة في المأخوذ منه بالبيان المتقدم، وذلك لأن اللباس المشكوك تارة يكون
منشأ الشك فيه من جهة الشك بين أخذه من الحيوان المحلل أو من الحيوان المحرم
المعلوم كل منهما والممتاز في الخارج عن الآخر، كما أنه فرض أن هناك غنما
معلوم الحلية وأرنبا معلوم الحرمة، وشك في أخذ الصوف مثلا من الغنم أو
الأرنب، وهذا هو الغالب في اللباس المشكوك. وأخرى يكون الشك فيه من
جهة الشك في المأخوذ منه، وتردده بين كونه محلل الأكل أو محرمه، كما لو فرض
أن هناك حيوانا علم أخذ الصوف منه، ولكن تردد الحيوان بين المحلل والمحرم
سواء كانت الشبهة حكمية أو موضوعية.
فلو كان منشأ الشك من قبيل القسم الأول فلا مجال لتوهم جريان أصالة
307

الحل في الحيوان، حتى يكون موجبا لرفع الشك المسببي من جواز الصلاة في صوفه
مثلا، وذلك لأنه ليس هناك حيوان مشكوك الحلية والحرمة حتى تجري أصالة
الحل فيه، بل المفروض أن أحد الحيوانين معلوم الحلية والآخر معلوم الحرمة،
فالشك ليس راجعا إلى المأخوذ منه وهو الحيوان حتى تجري أصالة الحل فيه، بل
الشك راجع إلى مرحلة الأخذ، وأن الصوف من أي من الحيوانين أخذ.
وتوهم أن الشك في الأخذ يستلزم الشك في المأخوذ منه قهرا، وبهذا الاعتبار
يكون المأخوذ منه مجرى لأصالة الحل. فاسد جدا، فإنه إن أريد من استلزام
الشك في الأخذ الشك في المأخوذ منه تحقق الشك في المأخوذ منه الخارجي،
المعلوم حلية أحدها وحرمة الآخر، فدعوى الاستلزام ممنوعة جدا، وكيف يعقل
الشك في المأخوذ منه الخارجي مع العلم بحلية أحدها وحرمة الآخر؟
وإن أريد من الاستلزام مع قطع النظر عن المأخوذ منه الخارجي، بأن يقال:
إن الشخص الآن شاك في أن المأخوذ منه هذا الصوف حلال أو حرام، ولو
باعتبار الشك في نحو الأخذ مع قطع النظر عن أن المأخوذ منه الخارجي لا ترديد
فيه، بلا يلاحظ نفس هذا المفهوم المنتزع عن لحاظ الاتصاف باتخاذ هذا
الصوف منه، ويغمض العين ويقطع النظر عن الخارج، فالاستلزام وإن كان
صحيحا إلا أن هذا مجرد مفهوم ومحض صور لا واقع له، ولا يمكن جريان أصالة
الحل بهذا الاعتبار المبني على المغالطة وعدم ثبوت واقع له. فالانصاف أن في هذا
القسم من الشك لا مجرى لأصالة الحل أصلا.
وأما القسم الآخر، وهو ما إذا كان الشك في الصوف من جهة الشك في
حلية الحيوان المأخوذ منه وحرمته، فهو وإن كان أصالة الحل قاضية بحلية الحيوان
المشتبه، إذا ترتب على الحلية أثر شرعي يمكن إحرازه بأصالة الحل، ولو كان ذلك
الأثر جواز الصلاة في أجزائه، إلا أنه مع ذلك لا جدوى لأصالة الحل فيما نحن فيه
308

وبيان ذلك هو أنه يعتبر في كل شك سببي ومسببي أن يكون بين الشك
السببي والمسببي ترتب وطولية، وأن يكون ذلك الترتب شرعي لا عادي أو عقلي،
وأن يكون الأصل الجاري في الشك السببي رافعا لموضوع الشك المسببي وهادما
له، كما في الشك في طهارة المغسول بماء مشكوك الطهارة والنجاسة، حيث إن
أصالة الطهارة في الماء يوجب رفع الشك في نجاسة المغسول به.
وبالجملة: يعتبر في رفع الشك المسببي عند جريان الأصل في الشك السببي
اجتماع هذه القيود الثلاثة، فلو انتفى أحد هذه القيود، إما بأن لا يكون بينهما
ترتب، أو كان ذلك الترتب عاديا أو عقليا، أو كان الأصل الجاري في الشك
السببي غير رافع للشك المسببي، كان الشك المسببي باقيا على حاله، والأصل
الجاري في الشك السببي مما لا فائدة له بالنسبة إلى الشك المسببي.
إذا عرفت ذلك فنقول: إن الحكم المترتب على ما يحل أكله وما لا يحل،
كعدم جواز الصلاة في أجزائه وجوازها، يمكن أن يكون على أحد وجوه ثلاث.
الأول: أن يكون الحلية والحرمة أخذت في موضوع الدليل لمجرد المعرفية إلى
الذوات التي يحل أكلها أو يحرم، من الغنم والأرنب وأمثال [ذلك]، بحيث
لا يكون لوصف الحلية والحرمة دخل في ترتب ذلك الحكم، من جواز الصلاة في
أجزائه وعدم جوازها، وحينئذ يكون جواز الصلاة فيما يؤكل وعدم جوازها فيما
لا يؤكل في عرض حلية الأكل وحرمته معروضان لذات الحيوان من دون أن يكون
بينهما ترتب وطولية، بل كانا معلولين لعلة ثالثة.
وعلى هذا الوجه لا جدوى لأصالة الحل القاضية بحلية الحيوان، ولا يترتب
عليها جواز الصلاة في أجزائه، إذ لا سببية ومسببية بين الحكمين ولا بين الشكين،
فأصالة الحل في الحيوان لا يوجب جواز الصلاة فيه، لأن إثبات أحد المتلازمين
بالأصل لا يوجب إثبات اللازم الآخر، إلا على القول بالأصل المثبت كما لا يخفى.
309

الوجه الثاني: أن يكون الحلية والحرمة أخذت في موضوع الدليل للعنوانية،
بأن يكون لوصفي الحلية والحرمة دخل في جواز الصلاة وعدمه، ويكونا موضوعين
لذلك، لكن لا مطلق الحلية والحرمة، بل الحلية والحرمة العارضان لذوات
الحيوانات في حد أنفسها، المحفوظان عند طرو ما يوجب الرخصة فعلا أو المنع،
كالحلية الموضوعة للحم الغنم، والحرمة الموضوعة للحم الأرانب، بداهة أن الحلية
الموضوعة للحم الغنم لا تنافي عروض المنع الشرعي عن أكله في مورد، كما إذا
كان مغصوبا، فإن الغنم مع كونه مغصوبا محلل الأكل في حد ذاته، بمعنى أن
الغنم خلق مأكول اللحم، كما أن حرمة لحم الأرانب لا تنافي الرخصة الشرعية في
أكله، كما إذا كان في المخمصة، فإنه مع ذلك الأرنب خلق غير مأكول اللحم.
وبالجملة: يمكن أن تكون الحلية والحرمة الذاتيان العارضة للحيوان موضوعا
لجواز الصلاة في أجزائه وعدم جوازها.
وعلى هذا الوجه يكون الشك في جواز الصلاة في المشكوك مسببا عن الشك
في حلية الحيوان وحرمته، لأن المفروض أن حلية الحيوان وحرمته صار موضوعا
لجواز الصلاة في أجزائه وعدم جوازها، فيكون الشك في الجواز مسببا عن ذلك.
ولكنه مع ذلك لا جدوى لجريان أصالة الحل في الحيوان لاحراز جواز الصلاة
في أجزائه، فإن مفاد أصالة الحل ليس إلا الحلية الفعلية والرخصة في المشكوك
بما أنه مشكوك، من دون أن تكون محرزة لحال الحيوان وأنه من محلل الأكل أو
محرمه، إذ ليست أصالة الحل من الأصول التنزيلية المحرزة المتكفلة لالغاء أحد
طرفي الشك والأخذ بالآخر كما لاستصحاب، بل أصالة الحل كأصالة الطهارة
أصل عملي موضوع لمجرد البناء على أحد طرفي المشكوك بما أنه مشكوك.
فالحكم الظاهري المجعول بأصالة الحل يكون من سنخ الواقعي المجعول في حال
الاضطرار، فكما أن الرخصة الواقعية المجعولة في حال المخمصة لا توجب صيرورة
310

الحيوان محلل الأكل في حد ذاته، فكذلك الرخصة الظاهرية المجعولة بأصالة
الحل، وحينئذ يكون الشك في جواز الصلاة في المشكوك المسبب عن الشك في
الحلية والحرمة بالمعنى المتقدم بعد باق على حاله، والأصل الجاري في ناحية
السبب لا يوجب رفع الشك المسببي.
الوجه الثالث: أن يكون الحلية والحرمة الفعليان موضوعين لجواز الصلاة
وعدمه، بأن يكون تمام الموضوع لجواز الصلاة في أجزاءه هو الرخصة في أكل
لحمه فعلا، بحيث يدور جواز الصلاة وعدمه مدار هذه الرخصة والحلية الفعلية،
فكلما حل أكل لحم الحيوان جاز الصلاة في أجزائه، وكلما حرم لا تجوز الصلاة في
أجزائه.
وعلى هذا الوجه تكون أصالة الحل في الحيوان عند الشك فيه مجدية، ورافعه
للشك المسببي، وموجبة لجواز الصلاة في أجزائه.
وإذا تمهد هذا فنقول: إن من الواضح أنه لم تؤخذ الحلية والحرمة بالمعنى
الأخير موضوعا لجواز الصلاة في أجزاء الحيوان، حتى يقال بجريان أصالة الحل في
طرف الحيوان، ليترتب عليه جواز الصلاة في أجزائه قضية للسببية والمسببية، إذ
أدلة الباب بين طائفتين:
الأولى: ما رتب الحكم بعدم جواز الصلاة على نفس الأنواع والذوات
المحرمة، كالأرانب والثعالب وأمثال ذلك. ومن الواضح أن هذه الطائفة
لا مساس لها لحديث السببية والمسببية، إذ لم يعلق الحكم فيها على حرمة الأكل
حتى يتوهم ذلك، بل تكون حرمة الأكل وعدم جواز الصلاة في عرض واحد،
يعرضان للحيوان باعتبار ماله من الخصوصية المسوخية، كما ورد التعليل بذلك
في بعض الأخبار.
الطائفة الثانية: ما رتب الحكم بعدم جواز الصلاة على عنوان ما لا يؤكل
311

وما هو حرام أكله. وهذا الطائفة مما لا يمكن إنكار ظهورها في دخل حرمة الأكل
في الحكم بعدم جواز الصلاة في أجزاء الحيوان، إذ ظاهر كل وصف أخذ في
عنوان الدليل أن يكون لذلك الوصف دخل في ترتب الحكم.
وحمله عل المعرفية خلاف الظاهر خصوصا التفريع الوارد في موثقة ابن
بكير (1)، فإن الظاهر من قوله عليه السلام فيها " وكل شئ حرام أكله فالصلاة في
وبره وشعره.. إلخ " هو أن يكون عدم جواز الصلاة متفرعا على حرمة الأكل
ومترتبا عليه.
وبالجملة: ظهور هذه الطائفة في سببية الوصف مما لا ينكر.
إلا أنه مع ذلك يمكن أن يحمل الوصف فيها على المعرفية بقرينة الطائفة
الأولى، إذ لا شبهة في أظهرية الطائفة الأولى، باعتبار اشتمالها على التعليل بأن
أكثرها مسوخ، ولا مانع من رفع اليد عن ظهور الطائفة الثانية، وحمل الوصف فيها
على المعرفية لمكان أظهرية الطائفة الأولى.
ثم على تقدير التسليم والقول بأن لوصف الحرمة دخلا في ترتب الحكم بعدم
جواز الصلاة في أجزائه، فغاية ما يمكن تسليمه هو أن يكون لوصف الحرمة بالمعنى
الثاني دخل في الحكم، وهو الحرمة الذاتية المجعولة لذوات الأشياء في حد أنفسها،
لا الحرمة بالمعنى الثالث التي هي عبارة عن المنع الفعلي، فإن الظاهر من الحرمة
والحلية الموصوفة بهما محرمات الأنواع ومحللاتها هو الحرمة والحلية الذاتية، لا الحرمة
والحلية الفعلية.
ثم على تقدير تسليم عدم ظهورها في ذلك، فلا محيص للفقيه من حملها على
ذلك، بداهة أنه لو لم يحمل على ذلك، وقلنا بأن الحلية والحرمة الفعليين

(1) الوسائل: ج 3 ص 250 باب 2 من أبواب لباس المصلي، ح 1.
312

موضوعان لعدم جواز الصلاة وجوازها، كان اللازم هو الحكم بجواز الصلاة في
أجزاء ما اضطر إلى أكله للمخمصة من الأرانب والثعالب، وعدم جواز الصلاة في
الغنم المغصوب أو المحلوف ترك أكله. وهذا كما ترى باطل بالضرورة
فلما كان هذا التالي الباطل لا بد من حمل الحلية والحرمة على الحلية والحرمة
العارضين لذوات الأشياء، وعليه كان جريان أصالة الحل في الحيوان مما لا يثمر
في رفع الشك المسببي من جواز الصلاة في أجزائه، لما عرفت من أن الحلية الثابتة
بأصالة الحل إنما هي الحلية الفعلية والرخصة في أكل اللحم، وجواز الصلاة وعدم
جوازها لم يترتب على هذه الحلية، بل على الحلية الذاتية العارضة لذوات الأنواع.
فظهر مما ذكرناه أنه لا يترتب على جريان أصالة الحل في الحيوان جواز
الصلاة في أجزائه، وأن حديث السببية والمسببية مما لا مساس لها في المقام، إما
لعدم السببية والمسببية، كما إذا كانت حلية الأكل وجواز الصلاة كلاهما
معروضين لذات الحيوان في عرض واحد، وإما لعدم الجدوى في السببية والمسببية
بناء على ترتب جواز الصلاة على الحلية الواقعية.
ومما ذكرنا ظهر أيضا أنه لو قلنا بأصالة الحرمة عند الشك في حلية الحيوان
وحرمته، إما لكون الأصل في اللحوم الحرمة كما حكي (1) عن المحقق والشهيد
الثانيين بناء على أن حصر المحللات في الطيبات في قوله تعالى: وأحل لكم
الطيبات (2)، يوجب انقلاب الأصل في المطعومات، وأن الأصل فيها الحرمة كما هو
الشأن في كل حكم علق على أمر وجودي، حيث يلزم إحرازه في ترتب ذلك
الحكم على ما هو المعروف بينهم، وإما لكون الأصل في كل شبهة تحريمية هو
الحرمة كما ذهب إليه الأخباريون فليس مفاد أصالة الحرمة حينئذ إلا عكس

(1) جواهر الكلام: ج 36 ص 402.
(2) المائدة: الآية 4.
313

مفاد أصالة الحل، ولا يترتب عليها عدم جواز الصلاة في أجزاء الحيوان وإن حرم
أكل لحمه، لأن حرمة أكل لحمه المدلول عليه بأصالة الحرمة لا يصيره محرم الأكل
ذاتا، بل هي كالحرمة الواقعية المجعولة في حال الغصب، والمفروض أن عدم جواز
لصلاة مترتب على الحرمة الذاتية لا الحرمة العرضية الفعلية.
وبالجملة: لا يكفي في رفع المانعية جريان أصالة الحل في الحيوان المتخذ منه
اللباس، كما لا يكفي في ثبوت المانعية جريان أصالة الحرمة فيه بناء على أن
الأصل فيه الحرمة، وكذا لا يكفي في رفع المانعية جريان أصالة الحل من جهة
الحرمة الذاتية أو الحرمة التشريعية في الصلاة في المشكوك.
أما الأول فلأن الحرمة الذاتية مما لا ينبغي توهمها في الصلاة فيما لا يؤكل
وغيره من سائر القيود المعتبرة في صحة الصلاة سوى الطهارة الحدثية، إما مطلقا
أو في خصوص الحيض، وإن كان الأقوى أن الطهارة الحدثية مطلقا على حد
سائر القيود مما لا حرمة ذاتية للصلاة عند اختلالها، وعلى كل حال لا مجرى
لأصالة الحل في رفع الحرمة الذاتية، لأن الصلاة فيما لا يؤكل مما يقطع بعدم
حرمتها الذاتية، فالمشكوك من أنه مما لا يؤكل لا شك في حرمته الذاتية وحليته،
حتى تجري فيه أصالة الحل.
وعلى فرض التسليم والقول بحرمة الصلاة ذاتا عند فعلها فيما لا يؤكل، فمع ذلك
لا يجدي أصالة الحل في رفع المانعية، فإن غاية ما يثبت بأصالة الحل هو عدم
الحرمة الذاتية وحلية الصلاة في المشكوك، وأما كون هذه الصلاة مما تنطبق على
المأمور به فمما لا يمكن إثباته بأصالة الحل إلا على القول بالأصل المثبت، فيبقى
الشك في الخروج عن عهدة التكليف باقيا على حاله.
فأما الثاني فلأن بمجرد الشك في المشروعية مما يقطع بعدم المشروعية،
ولا يبقى مجال لأصالة الحل بناء معلى ما هو التحقيق من أن حرمة التشريع لا تدور
314

مدار عدم المشروعية الواقعية، بل حكم العقل بقبح التشريع المستتبع بقاعدة
الملازمة لحكم الشارع بحرمته، مترتب على الأعم من القطع بعدم المشروعية
الواقعية والظن والشك بجامع واحد، بحيث يكون تمام الموضوع لحكم العقل هو
عدم إحراز المشروعية، فبمجرد عدم إحراز المشروعية يتحقق تمام ما هو موضوع
حكم العقل بقبح الاستناد والتشريع، فلا يبقى مجال للشك حتى يتشبث بذيل
أصالة الحل للحلية التشريعية.
كما أنه بناء على هذا لا يمكن التشبث بأصالة عدم المشروعية لاثبات الحرمة
التشريعية فيما كان الخالة السابقة عدم المشروعية، لا في مثل المقام من الشك في
انطباق الصلاة في المشكوك على ما هو المأمور به الثابت تشريعه قطعا، فإن في
مثل هذا لا مجال للاستصحاب من جهة انتفاء الحالة السابقة.
وأما فيما كان حالته السابقة عدم المشروعية فلا يمكن جريان الاستصحاب
لاثبات عدم المشروعية النفس الأمرية، لما عرفت من أن الأثر الذي يراد ترتبه
بالاستصحاب من الحرمة التشريعية غير مترتب على عدم المشروعية النفس
الأمرية، بل الأثر مترتب على عدم إحراز المشروعية، وهذا حاصل بنفس الشك
وجدانا ومتحقق تكوينا، وما كان حاصلا بنفس الشك تكوينا لا يمكن أن تناله
يد التعبد، لأنه تحصيل للحاصل، بل أردأ أنحائه، لأنه يرجع إلى إحراز ما هو محرز
بالوجدان بالتعبد.
وبالجملة: بعدما كان حرمة التشريع لا تدور مدار عدم المشروعية الواقعية،
بل كان تمام الموضوع الواقعي لحرمة التشريع هو عدم إحراز المشروعية، فبنفس
الشك بالمشروعية يقطع بعدم المشروعية، ولا مجال لأصالة الحل في إثبات
المشروعية، ولا لأصالة عدم المشروعية في إثبات عدم المشروعية فيما كان الحالة
السابقة عدم المشروعية كالحجية مثلا، وأما في مثل المقام من الشك في الانطباق
315

فأصالة عدم المشروعية مما لا مجرى له من أصله، لانتفاء الحالة السابقة. هذا بناء
على ما هو التحقيق عندنا من أن تمام الموضوع لقبح التشريع هو عدم العلم
بالمشروعية الثابت عند القطع بالعدم والشك والظن.
وأما بناء على الاحتمال الآخر من أن حكم العقل بقبح التشريع إنما هو
مترتب على عدم المشروعية الواقعية، وكان حكمه بقبح التشريع عند الشك في
المشروعية من أجل التحرز عن الوقوع فيما هو الموضوع الواقعي، لا لقبح التشريع
وهو عدم المشروعية الواقعية، فيكون حكمه في صورة الشك لمحض الطريقية،
كحكمه بقبح التصرف في المال المشكوك كونه لنفسه أو لغيره، فإن القبيح العقلي
إنما هو التصرف في مال الغير، لا فيما شك كونه مال الغير، ولكن مع ذلك يقبح
التصرف في المال المشكوك مخافة للوقوع في القبيح الواقعي، فلأصالة عدم
المشروعية مجال، لأن المفروض أن الحرمة التشريعية مترتبة على عدم المشروعية
الواقعية لا على عدم العلم بها، والشك في المشروعية لا يلازم ما هو الموضوع للحرمة
من العدم الواقعي، وإن استقل العقل بالحرمة عند الشك من باب الطريقية،
فالأصل الموضوعي المحرز لعدم المشروعية الواقعية جار وحاكم على الحكم الطريقي
العقلي، كما في مثل قاعدة الطهارة واستصحابها.
ولكن مع ذلك أصالة الحل لا تجري، لأن أصالة الحل ليست من الأصول
الموضوعية المحرزة للواقع، بل إنما هي قاعدة مضروبة لغرض الشك مع حفظ
الشك، والحكم الطريقي العقلي بقبح التشريع عند الشك المستتبع بقاعدة الملازمة
حكم طريقي شرعي بحرمته يكون هادما لموضوع أصالة الحل ورافعا له، لأن بمجرد
الشك في المشروعية يحكم العقل والشرع بقبح وحرمة التشريع، فلا يبقى شك
حتى يتشبث بذيل أصالة الحل، لأن جريانها موقوف على انحفاظ الشك، ومع
هذا الحكم العقلي الطريقي لا انحفاظ له. ولا يقاس أصالة الحل بأصالة عدم
316

المشروعية حيث قلنا بجريانها، فإن أصالة العدم من الأصول التنزيلية المحرزة
للواقع الموجبة لالقاء الشك والأخذ بأحد الطرفين على أنه هو الواقع، فأصالة
العدم يكون موجبا لرفع الشك في المشروعية ومحرزا لعدمها الواقعية، ومعها لا يبقى
شك في المشروعية حتى يتشبث بذيل الحكم العقلي الطريقي بقبح الاقدام على
ما لا يؤمن معه من الوقوع في التشريع الواقعي، وأين هذا من أصالة الحل؟ فإن
موضوع أصالة الحل إنما هو الشك في الحلية والحرمة، والشك في المشروعية وإن
كان مستتبعا للشك في حرمة التعبد به وحليته، إلا أنه بنفس الشك في
المشروعية العقل يستقل بقبح التعبد به الملازم لحكم الشارع بحرمته، فلا تصل
النوبة إلى أصالة الحل.
وبعبارة أخرى: موضوع حكم العقل بقبح التعبد إنما هو الشك في
المشروعية، وموضوع أصالة الحل إنما هو الشك في الحلية والحرمة المسببية عن
الشك في المشروعية، وبعد جريان الأصل السببي وهو حكم العقل بقبح التعبد
عند الشك لا يبقى مجال للأصل المسببي (1). من أصالة الحل.
فتحصل من جميع ما ذكرنا: أنه لو كان الشك في انطباق المشكوك على
المأمور به كما في مثل المقام، فلا أصالة الحل تجري ولا أصالة عدم المشروعية،
سواء قلنا بأن موضوع قبح التشريع هو عدم المشروعية الواقعية، أو قلنا بأن
موضوعه هو عدم العلم بالمشروعية. أما عدم جريان أصالة الحل، فلأن بمجرد
الشك يستقل العقل بقبح التشريع من باب الطريقية بناء على الأول، ومن باب
الموضوعية بناء على الثاني. وأما عدم جريان أصالة عدم المشروعية، فلأن

(1) بل لو فرض اتحاد الموضوع واتحاد المرتبة فلا بد من التخصيص، لأعمية أصالة الحل وأخصية حكم العقل
" منه مد ظله ".
317

الانطباق وعدم الانطباق مما لا يكون له حالة سابقة.
وأما لو كان الشك في أصل المشروعية كالشك في الحجية وأمثال ذلك، فإن
قلنا بأن الموضوع لحكم العقل والشرع بقبح التشريع وحرمته يدور مدار عدم
المشروعية النفس الأمرية، وأن حكمه عند الشك في المشروعية بقبح الاستناد
والتشريع لمحص الطريقية، فأصالة عدم المشروعية تجري، ولكن أصالة الحل
لا تجري أيضا، وأما لو قلنا بأن قبح التشريع لا يدور مدار عدم المشروعية النفس
الأمرية، بل يدور مدار عدم إحراز المشروعية، فلا أصالة الحل تجري ولا أصالة عدم
المشروعية، لتحقق تمام الموضوع للقبح العقلي بنفس الشك وجدانا وحاصل
تكوينا، ولا يمكن التعبد بما هو محرز بالوجدان وحاصل بنفسه.
ولا ينتقض بما إذا قامت أمارة معتبرة على عدم تشريع شئ، فلأن لازم هذا
البيان هو عدم حجية مثل هذه الأمارة، لأن المؤدى حاصل بنفس الشك،
فلا يمكن التعبد بما هو حاصل وإن كان ذلك بالأمارة، وذلك لعدم أخذ الشك في
موضوع حجية الأمارة، وإنما كان الشك موردا لها من باب لغوية جعل الطريق
على القاطع بذي الطريق. والحاصل: أنه لا يعتبر في تحقق موضوع الأمارة الشك،
وإنما المعتبر هو تحقق أثر وفائدة على مؤداها، ويكفي في الأثر ثبوت عدم المشروعية
النفس الأمرية مع لوازمه وملزوماته المثبتة، وأين هذا من الاستصحاب الذي
أخذ الشك في موضوعه؟ فتأمل جيدا.
وعلى كل حال فقد ظهر لك أنه لا مجال للتشبث بأصالة الحل لرفع الشك في
المشروعية، لعدم تحقق موضوعها. ولو سلم وأغمضنا عن جميع ما تقدم، فغاية
ما يترتب على أصالة الحل هو جواز الاستناد وفعل الصلاة في المشكوك مستندا إلى
الشارع، ومجرد ثبوت هذا لا يكفي في رفع المانعية وانطبقا الصلاة في المشكوك
على المأمور به إلا على القول بالأصل المثبت.
318

وبالجملة: فليس التمسك بهذا الأصل مبنيا على شئ من هذه الوجوه، وإنما
بناء الاستدلال على إجزائه في نفس الشك في المانعية، من حيث رجوع الشك في
ذلك إلى الشك في حلية الصلاة فيه وحرمته حقيقة، باعتبار منشأ انتزاع المانعية
الذي هو عبارة عن تقيد المطلوب بعدم وقوع الصلاة فيه، على ما أسلفنا الكلام
فيه، فكما أن القيدية تساوق الحرمة فكذلك عدم القيدية يساوق الحلية. فإن
كانت الحلية والحرمة حلية وحرمة واقعية كان معناهما ثبوت التقيد وعدمه واقعا،
وإن [كانت] الحلية والحرمة حلية وحرمة ظاهرية كان معناهما ثبوت التقيد
وعدمه ظاهرا، ويترتب على الحلية الظاهرية في المقام الصحة والاجزاء، كما
يترتب عليها في التكاليف الاستقلالية النفسية جواز الفعل وإباحة المنافع المقصود
فيها يحكم عليه بالحلية.
وحاصل الاستدلال: هو أن المراد من " الشئ " في قوله عليه السلام " كل
شئ فيه حلال وحرام " والموصول في قوله " كل ما كان فيه حلال وحرام " إما
أن يكن نفس الموضوعات الخارجية المرددة بين الحلال والحرام، كما هو الظاهر
من لفظة الشئ، والتمثيل بالثوب في رواية مسعدة (1)، وورود الموصول بعد السؤال
عن الجبن في رواية عبد الله بن سليمان (2) وإما أن يراد من الشئ أو الموصول
نفس الأفعال المشتبهة من حيث أنفسها، أو باعتبار تعلق الأفعال بموضوعاتها المشتبهة.
فإن كان المراد من الشئ والموصول هو نفس الموضوعات الخارجية فيكون
[المراد] من الحل والحرمة المعنى الوضعي، الثابت لنفس الموضوعات الخارجية
باعتبار تعلق أفعال المكلفين بها، إذا لا معنى لحلية الموضوع أو حرمته في نفسه وحد

(1) الوسائل: ج 12 ص 60 باب 4 من أبواب ما يكتسب به، ح 4.
(2) الوسائل: ج 17 ص 91 باب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، ح 2.
319

ذاته، بل إنما يتصف بالحلية والحرمة باعتبار تعلق فعل المكلف به، لكن لا على
أن يكون واسطة في العروض بأن تكون الحلية والحرمة عارضين أولا وبالذات
لنفس الفعل، وكان اتصاف الموضوع بهما بالعرض والمجاز، حتى يحتاج إلى تقدير
المضاف في قولك الخمر حرام من نحو الشرب والاستعمال وأمثال ذلك، فإن
ذلك إنما يكون على تقدير كون الحلية والحرمة الحلية والحرمة الاقتضائية لا الحلية
والحرمة الوضعية، فإن الحلية والحرمة الوضعية إنما يتصف بهما نفس الموضوع
الخارجي حقيقة، غايته أنه لا بما هو هو بل باعتبار تعلق فعل المكلف به، بحيث
يكون الفعل واسطة في الثبوت ومصححا لعروض الحلية والحرمة على الموضوع.
وإن أريد من الشئ أو الموصول نفس الأفعال، لا معنى إرادة خصوص
الأفعال التي ليس لها تعلق بموضوع خارجي، حتى يكون أصالة الحل أجنبية عن
المقام وأمثاله مما كان الشك من جهة التردد في الموضوع الخارجي، إذ إرادة
خصوص الفعل بقيد عدم تعلقه بموضوع خارجي مما لا شاهد عليها، بل المراد
الأفعال بمعناها الأعم، أي سواء كان لها تعلق بموضوع خارجي أو لم يكن.
وحاصل الكلام: أن المراد من الشئ في لسان الدليل، إما أن يكون
الأفعال سواء كان لها تعلق بموضوع خارجي أو لم يكن، وإما أن يكون المراد منها
خصوص الموضوعات باعتبار تعلق الفعل به، وإما أن يراد منه خصوص الفعل
الذي له تعلق بموضوع خارجي. والفرق بين القسمين الأخيرين من حيث نفسها،
أو باعتبار تعلقها بموضوعاتها المشتبهة، فيكون المراد من الحلية والحرمة حينئذ المعنى
الاقتضائي العارض لأفعال المكلفين، فعلى الأول يختص جريان هذا الأصل بما
إذا كان الشك في الحلية والحرمة مستندا إلى تردد موضوع خارجي بين الأمرين،
وعلى الثاني لا يختص بذلك، بل يعم ما إذا كان الشك فيهما مستندا إلى تردد
المكلف بين من يحل له الفعل أو يحرم كالخنثى.
320

ثم لا يخفى عليك أنه لا يعتبر في جريان هذا الأصل من أن تكون الحرمة
المحتملة الذي يراد نفيها بهذا الأصل على تقدير ثبوتها الواقعي عارضة للشئ من
جميع الجهات، بأن يكون الشئ، حراما بقول مطلق لا منفعة محللة له أصلا، بل
يكفي في جريان هذا الأصل كون الشئ محتمل الحرمة من جهة خاصة، وإن
كان له منفعة محللة قطعية من جهة أخرى. نعم يعتبر في الجهة المحتملة تحريمها أن
تكون من الجهات المقصودة من الشئ مما يعد عند العرف منفعة له، فالجهة
النادرة التي لا يعتني بها العقلاء خارجة عن مجاري هذا الأصل، كما لو فرض أن
جميع منافع الشئ المقصودة منه محللة قطعا، وكان هناك جهة نادرة غير مقصودة
يحتمل حرمتها، فإن في مثل هذا لا يصح أن يقال: إن هذا الشئ محتمل الحل
والحرمة بحيث يوصف الشئ بهما حتى يدخل في مجاري هذا الأصل.
وبالجملة: لو كان للشئ جهة مقصودة عند العرف، ومنفعة معتنى بها عند
العقلاء واحتمل حرمتها، صح أن يقال: إن هذا الشئ محتمل الحل والحرمة،
ولا يحتاج في جريان هذا الأصل تردد الشئ بينهما من جميع الجهات، ولا إشكال
أن الصلاة في الشئ من الجهات المعتنى بها عند العرف والمنافع المقصودة عند
العقلاء، فلو تردد الشئ بين حلية الصلاة فيه وحرمتها يدخل في مجاري هذا
الأصل، وإن لم تكن الجهات الأخر من مجاريه، كما إذا كانت مقطوعة الحلية أو
الحرمة.
وكذلك لا مجال لتوهم اختصاص هذا الأصل بما إذا كان المنع والحرمة
المحتملة في موضوع أصالة الحل حكما نفسيا وخطابا مستقلا ناشئا عن المبغوضية
الذاتية، حتى يختص موضوع أصالة الحل بالتكاليف الاستقلالية والشبهات
النفسية التحريمية، بل يعم ما إذا كان المنع والحرمة من جهة القيدية والمنع عن
وقوع الصلاة فيه، فإن الملاك في اتصاف الشئ بالحرمة الشرعية هو تعلق
321

التكليف العدمي به، سواء كان مطلوبا لنفسه كما في التكاليف الاستقلالية، أو
مطلوبا لغيره كما في التكاليف الغيرية.
وبالجملة: ليس معنى الحرمة الشرعية إلا عبارة عن المنع عن الشئ في
الشريعة، وحرمان العباد عنه، وكونه واقعا في حيز التكليف العدمي، من دون
دخل الاستقلالية في ذلك.
فكما أن الخمر حرام شرعا، وواقع في حيز التكليف العدمي، وحرم العباد
عنه من جهة شربه، أو حرم العباد عن نفس شربه على الوجهين المتقدمين، من
أن المراد من الشئ هو نفس الموضوعات باعتبار تعلق أفعال العباد بها، أو
الأفعال المتعلقة بالموضوعات، فكذلك وقوع الصلاة في غير المأكول أو الحرير حرام
شرعا، وواقعا في حيز التكليف العدمي، وحرم العباد عنه باعتبار إيقاع الصلاة
فيه، أو حرم العباد عن إيقاع الصلاة فيه على الوجهين.
وكما أن المائع المردد بين الخل والخمر مردد بين الحلال والحرام باعتبار تعلق
الشرب به، أو تردد نفس الشرب بينهما، فكذلك الصوف المردد بين ما قيدت
الصلاة بعدم الوقوع فيه وما رخص إيقاعها فيه مردد بين الحلال والحرام حقيقة،
ومندرج تحت موضوع هذا الأصل بحسب حاق معنى الحل والحرمة.
وكما أن مرجع جريان أصالة الحل في المائع المردد إلى ترخيص ظاهري
فكذلك مرجع جريان أصالة الحل في الصوف المردد إلى ترخيص ظاهري من
جهة إيقاع الصلاة فيه، ومرجع الترخيص في الصوف إلى إطلاق المطلوب وعدم
تقيده بعدم الوقوع فيه، ولازم ذلك هو الصحة والاجزاء الظاهري.
وبالجملة: الاستدلال بأصالة الحل لجواز الصلاة في المشكوك يتركب من
مقدمات ثلاث.
الأولى: رجوع الشك في مانعية المشتبه إلى الشك في منع الشارع من إيقاع
322

الصلاة فيه أو ترخيصه له. ورجوع الشك إلى ذلك موقوف على ما مهدناه سابقا
وأوضحناه، من أن منشأ انتزاع المانعية هو تقيد المطلوب بعدم الوقوع فيما فرض
كونه مانعا ووقوع ذلك في حيز التكليف العدمي.
وبهذه المقدمة يخرج الشك في الأجزاء والشرائط عن موضوع هذا الأصل، إذ
منشأ انتزاع الجزئية والشرطية ليس هو إلا عبارة عن تقيد المطلوب بالوقوع فيه أو
معه، فهو واقع في حيز التكليف الوجودي لا العدمي، وذلك كما ترى أجنبي
عن موضوع أصالة الحل، فإن موضوع أصالة الحل كما عرفت إنما هو تردد الفعل
أو الموضوع الخارجي بين الممنوع عنه شرعا وبين المرخص فيه، وأين ذلك مما
كان التردد من جهة وقوعه في حيز التكليف العدمي؟ وبالجملة: الشك في
الأجزاء والشرائط أجنبي عن اندراجه في موضوع هذا الأصل.
وحاصل الكلام: هو أن تقيد المطلوب بعدم وقوعه في شئ عبارة عن منع
مولوي عن إيقاعه في ذلك الشئ، كما أن عدم التقييد وإطلاق المطلوب بالنسبة
إلى القطن والكتان مثلا عبارة عن الرخصة الشرعية المقابلة للمنع المذكور، وكل
من هاتين الجهتين واضح.
أما رجوع التقييد إلى المنع المولوي فهو واضح بعد الانحلالية، ووقع كل واحد
من أفراد ما لا يؤكل مثلا في حيز التكليف العدمي، والمنع المولوي عن إيقاع
الصلاة فيه. نعم لو منعنا الانحلالية وقلنا: إن المطلوب هو المعنى البسيط المنتزع
عن عدم وقوع المطلوب في آحاد ما لا يؤكل على نحو السالبة معدولة محمولها، كانت
الشبهة فيما نحن فيه أجنبية عن مجاري هذا الأصل، إذ مرجع ذلك إلى تقيد
المطلوب بأمر وجودي على نحو تقيده بالأجزاء والشرائط، وقد عرفت من أنه كلما
رجع الشك إلى التكليف الوجودي كان خارجا عن مجاري أصالة الحل.
وأما الجهة الثانية، وهي رجوع عدم التقييد والاطلاق إلى الترخيص الشرعي
323

الذي هو أمر وجودي لا محض اللاحكمية، فلأن الاطلاق إنما هو عبارة عن إرسال
المولى، وإرخاء عنان العباد فيما تساوى وجود الشئ وعدمه في عالم اللب
والإرادة. وهذا المعنى من الاطلاق يساوق الترخيص والحل والإباحة.
فدعوى أن الترخيص والإباحة والحلية لا يساوق الاطلاق وعدم التقييد.
ممنوعة جدا، بل الاطلاق كالترخيص أيضا أمر وجودي وأحدهما مساوق للآخر.
وهذا لا ينافي ما قلناه في باب المطلق والمقيد من أن التقابل بين الاطلاق
والتقييد تقابل العدم والملكة لا تقابل التضاد، فإن ما قلناه في ذلك الباب إنما هو
الاطلاق والتقييد الموصوفان بهما الألفاظ بحسب وضع الألفاظ، لا الاطلاق
والتقييد النفس الأمري وفي عالم اللب والإرادة، فإنه لا إشكال في أن الاطلاق
النفس الأمري كالتقييد أمر وجودي.
فظهر فساد ما ربما يتوهم من أن الشك في المقام باعتبار منشأ انتزاع المانعية
إنما هو إلى تقييد المطلوب بعدم الوقوع في المشكوك أو إطلاقه، فيكون أحد طرفي
الشك أمرا وجوديا والآخر عدميا، وفي مثل هذا الشك لا يندرج في موضوع أصالة
الحل، لأن موضوع أصالة الحل إنما هو فيما إذا كان طرفا الشك أمرا وجوديا من
الحرمة والحلية الذي كلاهما أمران وجوديان.
وجه الفساد هو أن الاطلاق أيضا أمر وجودي مساوق فيما نحن فيه للترخيص
والحلية.
ثم لو سلمنا أن الاطلاق أمر عدمي فنقول: إنه لا يعتبر في موضوع أصالة
[الحل] أن يكون طرفا الشك أمرين وجوديين، فإن في رواية معدة: كل شئ
حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه (1) لم يؤخذ الشك في الحلية والحرمة موضوعا،

(1) الوسائل: ج 12 ص 60 باب 4 من أبواب ما يكتسب به، ح 4، مع تفاوت يسير.
324

بل لو لم يكن قوله " حتى تعرف الحرام " كان مفاد الرواية حكما واقعيا نظير كل
غنم حلال، ولكن بعد قوله " حتى تعرف.. إلخ " يستفاد منه أنه في مقام بيان
إعطاء القاعدة للمشكوك، وحينئذ يكون الشك في الحرمة وعدمها مندرجا تحت
القاعدة المستفادة من رواية مسعدة، وإن خرج عن الرواية الآخر التي أخذ الشك
في الحرمة والحلية موضوعا، ومجرد أخذ الشك في الحلية والحرمة في موضوع هذه
الروايات لا يصلح لأن يكون مقيدا لرواية مسعدة، الذي لم يؤخذ الشك في الحلية
والحرمة موضوعا فيها، فتأمل جيدا.
المقدمة الثانية: بعد ما عرفت من رجوع الشك في المانعية إلى الشك في المانعية إلى الشك في منع
الشارع فنقول: إن الحلية والحرمة الواردين في عنوان أدلة أصالة الحل لا اختصاص
لهما بالحلية والحرمة الناشئتين عن المبغوضية الذاتية وعدمها، حتى يختص موضوع
أصالة الحل بالتكاليف الاستقلالية، بل ليس الحرمة إلا عبارة عن المنع الشرعي
وما حرم العباد عنه، ولو باعتبار بعض ما يتعلق به من الأفعال كالصلاة فيه، فإن
من الشارع عن إيقاع الصلاة في غير المأكول وترخيصه في إيقاعها في المأكول
عبارة عن الحرمة والحلية الشرعية، ولم يؤخذ في حاق مدلول لفظة الحرام أن تكون
ناشئة عن المبغوضية الذاتية، حتى يختص بالاستقلاليات. ولو سلم انصراف
لفظة الحرام إلى التكاليف الاستقلالية، فإنما هو في لسان الفقهاء، وأما في لسان
الشارع فلا انصراف فيه إلى ذلك.
والذي يدلك على ذلك استعمال لفظ الحرام في لسان الأدلة بمعناه الأعم
الناشئ عن المبغوضية الذاتية أو المنع المتعلق بباب القيود والروايات الواردة في
ذلك وإن كانت كثيرة جدا، إلا أنه نحن نقتصر على ذكر رواية واحدة رواها
الفقيه مرسلا، قال: سئل أبو جعفر وأبو عبد الله عليه السلام فقيل لهما: إنا نشتري
ثيابا يصيبها الخمر وودك الخنزير عند حاكتها، أفنصلي فيها قبل أن نغسلها؟
325

فقالا: نعم، إن الشئ حرم أكله وشربه ولم يحرم لبسه ومسه والصلاة فيه (1).
وهذه الرواية كما ترى كالصريحة في أن الحرمة الشرعية أعم من المنع
الاستقلالي أو المنع في باب القيود من الموانع، إذ الإمام عليه السلام استعمل
لفظة الحرام بجامع واحد بين ما حرم لذاته كالمس واللبس، وما حرم لأجل المانعية
كالصلاة فيه.
وبالجملة: استعمال لفظ الحرام في باب الموانع كثير جدا كما يظهر للمتتبع،
وعليه لا مجال للمنع عن شمول أصالة الحل لما نحن فيه، لأن هذا الصوف المردد
بين كونه من مأكول أو غيره، يشك في حلية الصلاة فيه وحرمتها، باعتبار منشأ
انتزاع المانعية من تعلق التكليف العدمي به، فيدخل في مجاري هذا الأصل
حقيقة.
ولا حاجة إلى تكلف أن الحل والحرمة في باب العبادات بمعنى الصحة
والفساد، فيكون الصوف مرددا بين ما تحل الصلاة فيه أي تصح، وما تحرم أي
تفسد، وبهذا الاعتبار يدخل ما نحن فيه في مجاري أصالة الحل، وذلك لأنه وإن
استعمل لفظ الحل والحرمة بمعنى الصحة والفساد (2)، كما بظهر من خبر تحف
العقول (3) وغيره الوارد في باب المعاملات، إلا أنه معلوم أن المراد من الحلية
والحرمة في أدلة أصالة الحل هو الحلية ولحرمة التكليفية، لا الحلية بمعنى الصحة والفساد.

(1) الفقيه: ج 1 ص 248 باب لباس المصلي، ح 751 وفيه " نعم لا بأس إنما حرم الله أكله وشربه.. إلخ ".
(2) بل يمكن أن يقال: إنه ما استعمل لفظ الحل والحرمة في شئ من الروايات بمعنى الصحة والفساد بل المراد
من الحل والحرمة في جميع الموارد حتى في باب المعاملات هو الترخيص والمنع الشرعي غايته أن الترخيص والمنع
الشرعي يختلف أثره باختلاف متعلقه ففي باب المعاملات يكون الأثر هو النفوذ وعدم النفوذ وفي باب العبادات
يكون الأثر هو الاجزاء والصحة وعدمها " منه ".
(3) تحف العقول: ص 24 ط النجف الأشرف.
326

مع أنه لو كان الحل والحرمة بمعنى الصحة والفساد لكان اللازم اطراد أصالة
الحل عند الشك في باب القيود لوجودية من الأجزاء والشرائط، لأنه عند الشك
في تحقق الشرط يشك في الصحة والفساد أيضا، فهل يمكن أن يقال: إنا بأصالة
الحل نثبت الصحة؟
وبالجملة: ليس مبنى الاستدلال على أخذ الحل والحرمة بمعنى الصحة
والفساد، بل مبنى الاستدلال أن الممنوع عنه في باب الموانع حقيقة داخل في
حاق مدلول لفظ الحرام، فالمراد من الحل والحرمة في موضوع أصالة الحل هو
الحرمة التكليفية، غايته أنه ليست الحرمة في باب الموانع ناشئة عن المبغوضية
الذاتية، وقد عرفت أن المبغوضية الذاتية خارجة عن مدلول لفظ الحرام لغة وعرفا
وشرعا، إذ ليس الحرام في اللغة إلا بمعنى الحرمان المطرد في باب الموانع أيضا،
وعند العرف عبارة عن المنع الشرعي.
المقدمة الثالثة: بعد ما عرفت من أن الترخيص والحلية الظاهرية المستفادة من
أصالة الحل، كما تقابل الحرمة الذاتية كذلك تقابل الحرمة في باب الموانع،
فلا محالة يترتب على الترخيص الظاهري في باب الشبهات الاستقلالية الترخيص
والحلية الذاتية، بمعنى جواز الشرب واللبس وغير ذلك مما كان موردا للشبهة، وفي
باب الموانع يترتب على الترخيص الظاهري الاجزاء والصحة الظاهرية المحفوظة
عند عدم انكشاف الخلاف، وذلك لأن الترخيص في كل مقام لا محالة وإن
يرجع إلى الجهة المشكوك فيها، إذ لا معنى لورود الترخيص على غير تلك الجهة.
ففي باب التكاليف الاستقلالية يلاحظ الجهة المشكوك فيها فيرد الترخيص
عليها، فإن كان الجهة المشكوك فيها هي الأكل مثلا، بأن كان شاكا في حلية
الأكل، فالترخيص الظاهري المستفاد من أصالة الحل يرجع إلى حلية الأكل،
وإن كان الجهة المشكوك فيها هو الشرب فالترخيص يرجع إليه، وهكذا سائر
327

الجهات، فإن الترخيص يرد على نفس الجهة المشكوكة.
وفي باب الموانع الجهة المشكوك فيها هي عبارة عن القيدية المستفادة من المنع
عن وقوع الصلاة في المشكوك، فحقيقة الشك فيما نحن فيه يرجع إلى المنع المستتبع
للقيدية، فالترخيص الظاهري المستفاد من أصالة الحل لا بد وأن يرد على هذه
الجهة، ومعنى الترخيص من هذه الجهة هو عدم المنع المساوق للتقييد عن وقوع
الصلاة في المشكوك، ومرجع هذا إلى إطلاق المطلوب وعدم أخذ عدم الوقوع في
المشكوك قيدا، كعدم أخذ عدم الوقوع في القطن مثلا قيدا، غايته أن في باب
القطن إطلاق المطلوب بالنسبة إليه وعدم أخذ عدمه قيدا فيه يكون إطلاقا واقعيا،
وفيما نحن فيه يكون إطلاقا ظاهريا، وكما أنه يترتب على الاطلاق الواقعي الصحة
والاجزاء الواقعي، فكذلك يترتب على الاطلاق الظاهري الصحة والاجزاء
الظاهري المقيد بعدم انكشاف الخلاف.
وبالجملة: ورود الترخيص على الجهة المشكوكة فيها فيما نحن فيه يساوق
لاطلاق المترتب عليه الصحة والاجزاء، فالاطلاق المستفاد من أصالة الحل فيما
نحن [فيه] كالاطلاق المستفاد من أصل آخر موضوعي أو حكمي من استصحاب
أو غيره، فكما أن من الاستصحاب أو حديث الرفع (1) يستفاد الاطلاق وعدم
تقييد المطلوب عند الشك فيه ويترتب عليه الصحة والاجزاء، فذلك من أصالة
الحل يستفاد ذلك ويترتب عليه الصحة والاجزاء.
وبما ذكرنا يظهر الفرق بين جريان أصالة الحل في نفس الجهة المستتبعة
للقيدية والمانعية، حيث قلنا بترتب الصحة والاجزاء عليه، وبين جريان أصالة
الحل من جهة الشك في الحرمة الذاتية أو التشريعية، حيث قلنا: إنه لا يترتب على

(1) الوسائل: ج 11 ص 295 باب 56 من أبواب جهاد النفس، ح 1
328

جرين أصالة الحل بهذا الوجه الصحة والاجزاء وانطباق المأتي به على المأمور به
إلا على القول بالأصل المثبت، بداهة أن ترخيص الشارع الفعل ذاتا أو من حيث
استناده إليه لا يترتب عليه انطبقا المأتي به على المأمور به، ولا يلازم رفع المانعية
المشكوكة، إذ الترخيص لم يرجع على هذا الوجه إلى الجهة المستتبعة للمانعية، بل
الترخيص يرجع إلى أمر آخر من الحرمة الذاتية أو التشريعية الملازم عقلا لرفع
المانعية. وهذا بخلاف جريان أصالة الحل من الجهة المستتبعة للمانعية على ما
أوضحناه، فإن الترخيص من هذه الجهة يساوق الاطلاق وعدم تقيد المطلوب بما
شك في مانعيته، ولازم هذا لا محالة هو ترتب الصحة، لأن المأتى به بالأمر الظاهري
مجز ما لم ينكشف الخلاف. هذا تما الكلام في تقريب التمسك بأصالة الحل فيما
نحن فيه.
تنبيه: لا يخفى عليك أن ما قلناه من جريان أصالة الحل في التكليف والمنع
الشرعي المستتبع للمانعية وترتب الصحة عليه إنما هو بناء على عدم تأصل المانعية
وأخواتها في الجعل، وأما لو قلنا بتأصل المانعية في الجعل فيشكل التمسك بأصالة
الحل لما نحن فيه، فإن المانعية بنفسها ليست من مجاري أصلة الحل، لما عرفت من
أنه يعتبر في موضوع أصالة الحل من أن يكون الشك في الحلية والحرمة، وأما نفس
الشك في المانعية فليس شكا في الحلية والحرمة.
نعم التكليف المنتزع عن جعل المانعية يكون من مجاري أصالة الحل، فإن
جعل المانعية يستتبع المنع الشرعي عن إيقاع الصلاة فيما فرض كونه مانعا،
فالشك في المانعية يستتبع الشك في المنع الشرعي المسبب من جعل المانعية،
فالشك المسببي يكون من مجاري أصالة الحل إلا أن جريان الأصل في الشك
المسببي لا يوجب رفع الشك السببي وهو الشك في مانعية المشتبه، فالشك في
المانعية بعد باق على حاله إلا على القول بالأصل المثبت.
329

اللهم إلا أن يقال: إنه لا حاجة لنا في رفع الشك السببي بعد عدم منع
الشارع وترخيصه في إيقاع الصلاة في المشتبه من الجهة الذي يلازم المانعية،
فالشك في المانعية وإن كان بعد باق على حاله إلا أن بقاءه لا يخل في جريان
الأصل المسببي وترتب الصحة، كما لو كان المكلف على طهارة وخرج منه وذي
أو مذي وشك في ناقضية الوذي والمذي، فإن الشك في ناقضيتهما وإن كان
يستتبع الشك في الطهارة إلا أنه بجريان استصحاب الطهارة نستغني [عنه]، وإن
كان الشك في الطهارة مسببا عن الشك في ناقضية المذي، وناقضية المذي لم
يكن مجرى لأصل. إلا أنه لا حاجة لنا إلى رفع الشك السببي بعد حكم الشارع
بأن المكلف متطهر، والمفروض أن ما جعل شرطا للصلاة هو الطهارة، وهي
حاصلة بمقتضى الاستصحاب فليبق الشك في ناقضية المذي إلى يوم القيامة،
وبعين ذلك يمكن أن يقال فيما نحن فيه، من أن الشك في المانعية وإن كان باقيا
إلا أنه يستغنى عنه بعد ترخيص الشارع في إيقاع الصلاة في المشتبه من الجهة
المنتزعة على المانعية لا من جهة التشريع أو الحرمة الذاتية، فتأمل جيدا.
وعلى كل حال بناء على تأصل المانعية في الجعل لا تكون نفس المانعية من
مجاري أصالة الحل وإن كانت من مجاري أصالة البراءة، إذ لا يعتبر في موضوع
البراءة أزيد من أن يكون أمر المشكوك بيد الشارع رفعا ووضعا، والمانعية بناء
على تأصلها في الجعل تكون كذلك أمر وضعها ورفعها بيد الشارع، فلا مانع من
جريان أصالة البراءة فيها، فتأمل جيدا.
المقام الثالث: في بيان جريان أصالة عدم المانع في المقام، وقد نسب إلى
بعض المفروغية عن جريانها في المقام بناء على المانعية، وهو على إطلاق ممنوع، كما
سيتضح لك عن قريب إن شاء الله. نعم لو قلنا بأن أصالة عدم المانع أصل
عقلائي برأسه، من دون أن يرجع إلى الاستصحاب كما حكي عن بعض دعوى
330

ذلك لتم التمسك بأصالة عدم المانع في المقام على إطلاقه، وكذلك لو لم نقل
بذلك ولكن قلنا باعتبار الأصل المثبت يتم إطلاق التمسك بها في المقام، هذا
ولكن الظاهر أنه لا يمكن المساعدة على كلا الدعويين.
أما الدعوى الأولى فغاية ما يمكن في تقريبها هو أن يقال: إن الطريقة العقلائية
قد استقرت عند الشك في وجود شئ على البناء على العدم وترتيب آثاره عليه،
وإن لم يكن ذلك العدم مسبوقا بالحلة السابقة، كما إذا كان الأثر مترتبا على
العدم النعتي لا المحمولي على ما سيأتي بيانه وبالجملة: تارة يكون بناء العقلاء عند
التردد بين الوجود والعدم هو البناء على العدم، من حيث إن كل حادث مسبوق
بالعدم، فهذا يرجع إلى الاستصحاب، وأخرى يكون بناؤهم على ذلك لا من تلك
الحيثية، بل من باب إن الممكن حيث يفتقر في وجوده إلى علة خارجة عن ذاته
فمع عدم إحراز علة الوجود يبنون على العدم، وإن كان ذلك العدم من العدم
الربطي الذي هو مفاد ليس الناقصة.
وإثبات هذه الدعوى في غاية الاشكال، فإن استقرار الطريقة العقلائية لا بد
وأن يكون ناشئا عن منشأ عقلائي ارتكازي فطري، ولم نجد منشأ لاستقرار
الطريقة العقلائية على ذلك، نعم في خصوص باب الأنساب قد ادعي ذلك،
وأن بناء العقلاء عند الشك في تحقق النسب على العدم حفظا للأنساب
والمواريث. والحاصل: أن دعوى كون أصالة عدم المانع من الأصول العقلائية غير
الاستصحاب، دون إثباتها خرط القتاد.
وأما الدعوى الثانية وهي دعوى حجية الأصل المثبت ففي غاية الفساد كما بينا
في محله. وأما التمسك بأصالة عدم المانع الراجع إلى الاستصحاب فهو على إطلاقه
لا يستقيم، وتوضيح ذلك يتوقف على بيان أمرين:
الأول: أن المجعول في باب الطرق والأمارات مغاير لما هو المجعول في باب
331

الأصول، فإن المجعول الشرعي في باب الطرق إنما هو الثبوت الواقعي المحكي
بالطريق، ولذا كان مثبتاتها حجة، وأما المجعول في باب الأصول على اختلاف
أنحائها إنما هو الجري العملي والبناء على مؤدياتها من حيث العمل، كما حقق في
محله، فلا بد حينئذ من ترتب أثر عملي على نفس مؤدى الأصول إذا لم يكن المؤدى
هو بنفسه أثرا عمليا، كما إذا كان المؤدى حكما شرعيا، إذ بعد ما كان المجعول هو
الجري العملي فلا بد من أن يكون مؤدى الأصل مما له جري عملي يكون بنفسه
مما تناله يد الجعل، ولذا كان مثبتاتها غير حجة.
ثم إنه لا فرق في تحقق الأثر العملي بين أن يكون الأصل جاريا في وادي
الثبوت ومرحلة توجه التكليف، أو جاريا في وادي السقوط ومرحلة امتثال
التكليف، إذ بعد ما كان وادي السقوط والامتثال كوادي الثبوت وتوجه
التكليف أما قابلا للجعل الشرعي وتصرف ظاهري والحكم بتحقق الفراغ،
فلا فرق حينئذ بين كون مؤدى الأصل راجعا إلى مرحلة الثبوت، أو إلى مرحلة
السقوط والفراغ كما هو واضح.
وكذلك لا فرق في تحقق الأثر العملي المحتاج إليه في جريان الأصل، بين أن
يكون مؤدى الأصل تمام الموضوع لذلك الأثر، أو كان جزء الموضوع وبه قوامه
ولو على نحو القيدية، إذ يكفي في تحقق الأثر هذا المقدار أي ولو بأن يكون جزء لما
هو موضوع الأثر أو قيده، بحيث لو لم يجر الأصل لما كان الأثر مترتبا، وإن كان
جزؤه الآخر محرزا بالوجدان. والحاصل: أنه يكفي في جريان الأصل كون مؤداه
مما له دخل في تحقق الأثر، سواء كان تمام الموضوع أو جزءه، وهذا أيضا مما
لا سترة فيه.
نعم ينبغي تعيين ما هو الضابط الكلي لمعرفة أن في أي مورد يكون مؤدى
الأصل جزء ما هو الموضوع أو قيده وما لا يكون كذلك، فإنه ربما يشتبه الحال في
332

بعض الموارد بتخيل أن مؤدى الأصل يكون جزء موضوع الأثر، مع أنه لا يكون
كذلك وكان موضوع الأثر أمرا آخر لا يمكن إثباته بمؤدى الأصل إلا على نحو
المثبتية، وكذلك العكس فإنه ربما يكون المؤدى جزء الموضوع ويتخيل عدمه،
فلا بد من تعيين الضابط الكلي لذلك فنقول:
إنه كلما كان الأثر الشرعي المجعول مترتبا على عدة أجزاء داخلية أو
خارجية، بحيث لو أحرزنا تلك الأجزاء واجتماعها في عمود الزمان، سواء كان
إحراز ذلك بالوجدان أو بتعبد شرعي، لم يبق لنا شك في ترتب ذلك الأثر
الشرعي المجعول، ولا تردد في حصول أمر آخر له دخل في ترتب الثر لم نكن
محرزين إياه، ففي مثل هذا يكفي إحراز بعض تلك الأجزاء بالوجدان والبعض
الآخر بالأصل، وذلك لا يكون إلا إذا كان الموضوع المركب متألفا من أجزاء
متبائنة ليس لها جامع سوى اجتماعه في الزمان، من دون أن يكون هناك أمر
آخر له دخل في الموضوع منتزعها عن اجتماع هذه الأجزاء في الزمان، أو معلولا له،
أو ملازما له، فإن في جميع هذا لا يكفي إحراز بعض تلك الأجزاء بالوجدان
والآخر بالأصل، إلا إذا كان نفس ذلك الأمر المنتزع أو المعلول أو الملازم الذي
فرض له دخل في ترتب الأثر محرزا إما بالوجدان أو يكون مؤدى الأصل هو
بنفسه، ولا يكفي جريان الأصل في منشأ الانتزاع إلا على القول بالأصل المثبت.
وحاصل الكلام: ضابط إحراز بعض الموضوع بالوجدان والآخر بالأصل هو
أن يكون الموضوع ذا أثر شرعي، ويكون ذلك الموضوع مركبا من جزءين فصاعدا
ليس بينهما جامع سوى تحققهما في الوعاء الذي أخذ موضوعا للأثر في ذلك
الوعاء، مثلا لو كان طهارة المغسول مترتبا على الغسل بالماء الطاهر، بحيث يكون
الموضوع مركبا من الماء وكونه طاهرا كما هو كذلك، فحينئذ لو أحرزنا الماء
بالوجدان وطهارته بالأصل أو بالعكس وغسلنا في مثل هذا الماء لم يبق لنا شك
333

بعد في حصول طهارة المغسول، إذ المفروض أنه لا يعتبر في طهارته سوى الغسل
بالماء في ظرف كونه طاهرا، وقد تحقق هذا المعنى لأنه غسل في ماء محكوم
بطهارته شرعا ولو بالأصل، وكذلك لو فرض أن الأثر مترتب على الصلاة عند
طهارة المصلي، فلو أحرز المصلي طهارته بالأصل لم يبق له شك في ترتب الأثر،
إذ لم يعتبر في موضوع الأثر إلا كون المصلي طاهرا في ظرف الفعل، فلو أحرز
طهارته بالأصل في ذلك الظرف والوعاء كان تمام الموضوع للأثر متحققا.
ولا معنى لأن يقال: إن موضوع الأثر هو ارتباط الصلاة بالطهارة، وذلك
الارتباط غير محرز بمجرد إحراز الصلاة والطهارة. وذلك لأن الارتباط ليس إلا
عبارة عن فعل الصلاة في ظرف الطهارة، وهذا حاصل ولو بضم الوجدان
بالأصل، ولو كان المراد من الارتباط هو تقيد الصلاة بالطهارة فهذا ليس من
فعل المصلي بل التقييد من فعل الشارع.
وبالجملة: ما هو فعل المصلي ومتعلق التكليف ليس إلا الصلاة في ظرف
طهارته من الحدث والخبث، وهذا محرز ولو بضم الوجدان بالأصل، وأما الارتباط
والتقييد، وكذا مقارنة الشرط للمشروط بمعناها المنتزع عن اجتماع الشرط
والمشروط في الزمان، فهذه كلها خارجة عن متعلق التكليف وموضوعه. وإن
أريد من المقارنة مجرد اجتماع الشرط والمشروط في الزمان فهذا حاصل ومحرز ولو
بضم الأصل، فجريان الأصل في طهارة المصلي أو طهارة الماء المغسول به لم يكن
من الأصول المثبتة، إذ الضابط في الأصل المثبت هو أن يكون الأثر الشرعي
مترتبا على ما هو لازم مؤدى الأصل أو ملزومه، لا على نفس مؤدى الأصل، وفي
المثالين الأثر الشرعي مترتب على نفس مؤدى الأصل ولو باعتبار كونه جزء
الموضوع أو قيده.
نعم فيما إذا كان الأثر مترتبا على المعنى المتنزع عن اجتماع الأجزاء في الزمان
334

أو معلولا له، لا يمكن جريان الأصل فيما هو منشأ الانتزاع في إثبات الأثر إلا على
القول بالأصل المثبت، وذلك كما في استصحاب الشهر السابق بالنسبة إلى يوم
الشك، ومع ذلك لا يترتب أحكام أول الشهر على اليوم الذي بعد يوم الشك،
مثلا لو شك في يوم الثلاثين من شعبان أنه من شعبان أو لا، فلا إشكال في
جريان استصحاب بقاء شعبان وجواز إفطاره، وكذلك لا إشكال في تحقق القطع
بأن اليوم الذي من بعده يكون من رمضان، إذ لا يمكن كون شعبان واحدا
وثلاثين يوما، ومع ذلك لا يمكن ترتب أحكام أول الشهر على ذلك اليوم، إذ
الأولية لرمضان إنما هي عنوان ثانوي ينتزع عن وجود رمضان المسبوق بالعدم،
وكذا أولية كل شئ، لا أن الأولية هي عبارة عن الوجود المسبوق بالعدم حتى
يقال: إن الوجود ثابت بالوجدان للعلم بأن هذا اليوم من رمضان، ومسبوقيته
بالعدم ثابت باستصحاب بقاء شعبان في اليوم الذي قبله وهو يوم الشك، فيكون
هذا من باب ضم الوجدان بالأصل.
والأولية لو كانت بهذا المعنى فلا إشكال في ترتب أحكام الأول على اليوم
الذي بعد يوم الشك. وأما لو كانت هي عبارة عن المعنى المنتزع عن الوجود
المسبوق بالعدم فضم الوجدان بالأصل مما ينفع (1) في ترتب أحكام الأولية عليه،
إذ مع هذا الوجدان والأصل بعد شاكين في تحقق ما هو موضوع الأحكام من
تحقق الأولية، ولم يرتفع شكنا بضم الوجدان بالأصل، وقد تقدم أن الضابط في
ضم الوجدان بالأصل هو أن بعد الضم لا يبقى لنا شك في تحقق الموضوع.
وكذلك لا يكفي في ترتب آثار نجاسة الملاقي بالكسر باستصحاب رطوبة
الملاقي بالفتح مع العلم بالملاقاة، إذ تلك الآثار لم تترتب على مجرد تماس

(1) هكذا في الأصل، والظاهر " لا ينفع ".
335

الجسمين مع رطوبة أحدهما حتى يقال: إن الموضوع مركب من أمرين: تماس
الجسمين المحرز بالوجدان، ورطوبة أحدهما المحرز بالأصل، بل الأثر مترتب على
ما هو معلول لهذا التماس من انتقال الرطوبة من أحدهما إلى الآخر، فإن الانتقال
هو المؤثر في التنجيس لا مجرد الملاقاة، ففي مثل هذا أيضا لا يندرج تحت قاعدة ضم
الوجدان بالأصل.
وكذلك يكفي في إدراك الركعة وترتب أحكام الجماعة على مجرد
استصحاب بقاء الإمام في الركوع بدعوى أن الموضوع مركب من ركوع المأموم في
ظرف ركوع الإمام وقد أحرز المأموم ركوعه بالوجدان وركوع الإمام بالأصل نظير
استصحاب طهارة الفاعل في ظرف الصلاة وذلك لأن موضوع إدراك الركعة
وأحكام الجماعة ليس هو ذلك بل الموضوع في لسان الدليل إنما هو ركوع المأموم
قبل رفع رأس الإمام من ركوعه وهذه القبلية من لوازم ذلك المركب لا أن
الموضوع نفس المركب حتى يندرج في ضم الوجدان بالأصل.
وحاصل الكلام: أنه كلما كان الموضوع أمرا منتزعا أو معلولا أو ملازما أو
ملزوما للأمر المركب مما هو حاصل بالوجدان وما هو حاصل بمؤدى الأصل
لا ينفع جريان الأصل في إثبات ما هو موضوع الأثر إلا على القول بالأصل
المثبت.
ومنه يظهر أن الأثر لو كان مترتبا على المركب لكن لا بما أن أجزاءه مجتمعين
في الزمان، بل باعتبار الربط الخاص الحاصل بين اجتماع تلك الأجزاء في
الزمان لا ينفع جريان الأصل بضم الوجدان في إحراز ذلك الربط الخاص، كما لو
قال: إن جاءك زيد راكبا فأكرمه، فإن الاكرام لم يترتب على نفس مجئ زيد
وركوبه، بل الأثر مترتب على المجئ الخاص، وهو حالية الركوب للمجئ الذي
يعبر عنه بهيئة الحال، فإن في مثل هذا لو أحرزنا مجئ زيد وركوبه في زمان واحد
336

بحيث اجتمعا هذان الأمران في الزمان، مع ذلك لا يترتب عليه وجوب الاكرام،
لأن إثبات ذلك الربط الخاص بهذا الاجتماع في الزمان المحرز أحدها بالوجدان
والآخر بالأصل لا يكون إلا على القول بالأصل المثبت، فإن الضابط الكلي على
ما عرفت في كفاية ضم الوجدان بالأصل في ترتب الأثر هو أن لا يكون الموضوع
إلا نفس المركب الذي لا جامع بين أجزائه إلا وحدة الزمان، فتأمل جيدا.
الأمر الثاني: لا إشكال في رجوع كل وصف اعتبر في المصلي، أو في المكان،
أو في اللباس، أو في الزمان إلى تقييد الصلاة بذلك الوصف وجوديا كان أو
عدميا، بداهة أن المطلوب هو الصلاة المتقيدة بكون المصلي واجدا لكذا أو فاقدا
لكذا، والصلاة المتقيدة بكون لباس المصلي كذا وكذا، فرجوع كل وصف اعتبر
في أي محل بالآخرة إلى الصلاة مما لا خفاء فيه. ولكن مع ذلك المحل الذي اعتبر
الوصف الوجودي أو العدمي فيه تارة يكون هو المصلي، وأخرى يكون لباسه أو
مكانه، وثالثة يكون نفس الصلاة.
مثلا أليست الصلاة مقيدة بعدم وقوعها في الحرير، ولكن محل الذي اعتبر
هذا الوصف فيه تارة يكون المصلي، بأن يكون المعتبر في الصلاة هو عدم كون
المصلي لابسا للحرير، وأخرى يكون معتبرا في اللباس، بأن يكون المعتبر هو عدم
كون اللباس من الحرير، وثالثا يكون معتبرا في نفس الصلاة، كالصلاة في غير
الحرير.
واستفادة هذه الوجوه وأن الوصف في أي محل اعتبر إنما يكون من لسان
الدليل، فقد يكون لسانه اعتبار الوصف في المصلي، وقد يكون في اللباس، وقد
يكون في الصلاة.
إذا عرفت ذلك فلا إشكال في جريان الاستصحاب فيما إذا كان المحل المعتبر
فيه الوصف هو المصلي، أو اللباس. مثلا لو كان المصلي غير لابس للحرير، أو
337

كان لباسه من غير الحرير، فيشك في ظرف وقوع الصلاة كونه لبس الحرير أو لا،
أو صار لباسه من الحرير أو لا، فلا إشكال في جريان استصحاب عدم كونه
لابسا للحرير، أو عدم صيرورة اللباس من الحرير في ظرف وقوع الصلاة،
ويدخل في صغريات ما إذا كان بعض الموضوع محرزا بالوجدان والآخر بالأصل،
إذ بعد ما كان محل الوصف هو كون المصلي غير لابس للحرير في ظرف الصلاة،
فالموضوع هو عبارة عن نفس هذا المركب المحرز بالوجدان والأصل.
وكذا الكلام في الطهارة الحدثية والخبثية الذي لا إشكال في اعتبارها في
المصلي، وكونه هو محل الوصف، فإن المعتبر في الصلاة هو كون الفاعل متطهرا،
كما يدل عليه قوله عليه السلام " لأن يكون العبد طاهرا بين يدي ربه " (1) وما
حكي عن بعض الأعلام من التفصيل بين التفاته إلى الشك في طهارته قبل
الصلاة، وبين أن يكون قبل الصلاة غافلا وصلى غفلة ثم بعد ذلك شك في
الطهارة، فقال في الأول بكفاية استصحاب الطهارة، ويترتب عليه جواز الدخول
في الصلاة، ويكون من صغريات إحراز بعض الموضوع بالوجدان والآخر
بالأصل، وأما الثاني فاستصحاب الطهارة لا تثبت وقوع الصلاة مع الطهارة إلا
على القول بالأصل المثبت، فلولا قاعدة الفراغ الحاكمة بصحة الصلاة لا يترتب
على استصحاب الطهارة أثر الصحة، هذا.
ولكن لا يخفى عليك ما فيه، فإنه بعد ما كان الأثر مترتبا على وقوع الصلاة في
ظرف طهارة الفاعل فلا فرق في ذلك بين أن يكون الشك في الطهارة حاصلا قبل
الصلاة ودخل في الصلاة باستصحاب الطهارة، وبين أن يكون الشك حاصلا
بعد الصلاة وأحرز الطهارة في ظرف وقوع الصلاة باستصحابها بعدها، فإنه وإن لم

(1) الوسائل: ج 1 ص 257 باب 1 من أبواب الوضوء، ح 9.
338

يجر الاستصحاب قبل الصلاة مع الغفلة لاعتبار الشك الفعلي في جريانه ولا يكفي
الشك التقديري، إلا أنه بعد تحقق الشك ولو بعد الصلاة يجري الاستصحاب
ويبني على بقاء الطهارة المتيقنة إلى ظرف وقوع الصلاة، فيكون المكلف قد أحرز
الصلاة في ظرف طهارته، ويدخل في صغريات إحراز بعض الموضوع بالوجدان
والآخر بالأصل.
وبالجملة: لا فرق في ترتب أثر الصحة والاجزاء بين جريان استصحاب
الطهارة قبل الصلاة أو بعدها، سوى أنه لو أجري الاستصحاب قبل الصلاة كان
إحراز جزء الموضوع مقدما على إحراز جزئه الآخر المحرز بالوجدان، ولو كان
جريان الاستصحاب بعد الصلاة كان إحراز ما هو محرز بالوجدان وهو فعل
الصلاة مقدما على إحراز ما هو محرز بالأصل من الطهارة، ومن المعلوم أن سبق
الاحراز الوجداني على الاحراز التعبدي ولحوقه لا دخل له في الأثر المقصود من
الصحة وسقوط الإعادة والقضاء، هذا.
مع أنه المراد من قوله: إن جريان الاستصحاب قبل الصلاة يترتب عليه جواز
الدخول في الصلاة، إن كان هو الجواز التكليفي فهذا مما لا أثر له في الأثر
المقصود من سقوط الإعادة والقضاء، إذ الجواز التكليفي لا يلازم ذلك إلا على
القول بالمثبت، مع أنه لا شك في الجواز التكليفي، إذ الصلاة مع عدم الطهارة
ليست من المحرمات الذاتية حتى يقال: إن باستصحاب الطهارة يترتب عليه
الجواز التكليفي، وإن كان المراد منه الجواز الوضعي بمعنى الصحة والمضي وسقوط
الإعادة والقضاء فهذا مما لا فرق فيه بين سبق جريان الاستصحاب ولحوقه، إذ
على كل تقدير سقوط الإعادة والقضاء مترتب على إحراز الموضوع المركب من
طهارة المصلي والصلاة في ظرفها، وهذا الاحراز لا يتوقف على جريان
الاستصحاب قبل الصلاة، فالتفصيل بين الصورتين مما لا يستقيم ولا يمكن
339

المساعدة عليه، فتأمل جيدا. هذا كله فيما إذا كان محل الوصف هو المصلي أو
اللباس.
وأما إذا كان محل الوصف هو نفس الصلاة، فإن كان القيد الوجودي أو
العدمي حاصلا من أول الشرع ثم يشك في ارتفاعه، إما لأجل الشك في فقدان
الجزء أو الشرط أو عروض المانع في الأثناء، وإما لأجل الشك في مانعية الموجود
سواء في ذلك الشبهة الحكمية والموضوعية، وإما أن يكون مشكوك الحصول من
أول الصلاة. فإن كان حاصلا في أول الأمر ثم طرأ الشك في ارتفاعه، فلا يخلو
أيضا إما أن يكون محل القيد هو ذات الأجزاء وأفعال الصلاة، كما هو أقوى
الوجهين في باب الموانع (1)، وإما أن يكون محل القيد هو الهيئة الاتصالية القائمة
بمواد الأجزاء الحادثة بحدوث التكبيرة والمنعدمة بالتسليمة، كما هو أحد الوجهين
في باب القواطع.
فإن كان محل القيد هو ذوات الأجزاء فالاستصحاب مما لا مجال له أصلا،
بداهة أن أصالة عدم المانع لا يثبت اتصاف الصلاة بعدمه إلا على القول بالأصل
المثبت. وكذلك استصحاب صحة الأجزاء السابقة مما لا ينفع، لأن صحة
الأجزاء السابقة عبارة عن الصحة التأهلية، إذ الصحة الفعلية بمعنى سقوط
الإعادة والقضاء مما لا تتصف الصلاة بها إلا بعد الفراغ منها وإتيانها تامة
للأجزاء والشرائط، والصحة التأهلية بمعنى أنه لو انضم إليها سائر الأجزاء

(1) بداهة أن مثل مانعية الحرير أو الذهب أو النجاسة الخبثية إنما تعتبر في نفس الأجزاء وما هو أفعال الصلاة
فلو لبس الحرير في بين السكونات والأكوان، أو تنجس لباسه في أثنائها، ثم نزع الحرير أو زال النجاسة عند اشتغاله
بأفعال الصلاة لم يكن ذلك مخلا بصلاته مع عدم فوت الموالاة، وهذا بخلاف القهقهة والبكاء والالتفات وغير ذلك
من القواطع، فإنها معتبرة في جميع الصلاة حتى سكوناتها وأكوانها، ولذا لو وقع البكاء في أثناء السكون بطلت الصلاة
" منه ".
340

والشرائط لكانت صحيحة فهي مع أنه يرجع إلى الاستصحاب التعليقي مقطوعة
البقاء حتى عند طرو الشك في وجود المانع أو مانعية الموجود. فمحل القيد
الوجودي أو العدمي إن كان نفس أجزاء الصلاة فاستصحاب عدم تحقق المانع
مما لا مساس له ولا أثر له.
وإن كان محل القيد هو الهيئة الاتصالية المستمرة في الصلاة التي لا يضربها
تبادل الأجزاء نظير الحركة المتوسطة، فاستصحاب بقاء الهيئة الاتصالية عند
الشك في طرو القاطع أو قاطعية الموجود وإن كان له مساس، وتام الأركان،
واعتمد عليه الشيخ قدس سره إلا أنع مع ذلك لا يفيد، فإن الهيئة الاتصالية لم
تكن هي بنفسها متعلقة الطلب والتكليف، حتى يجدي استصحابها ولو مع بقاء
الشك في قاطعية الموجود نظير استصحاب الطهارة عند الشك في ناقضية المذي،
حيث إن استصحاب الطهارة يكفي ولو مع بقاء الشك في ناقضية المذي، إذ ما هو
متعلق التكليف نفس الطهارة التي لا بد للمكلف من إحرازها، وأما كون المذي
ناقضا أوليس بناقض فليس هو متعلق التكليف، وإنما كان وجوده منشأ للشك
في ارتفاع ما هو متعلق التكليف، وبعد إحراز الطهاة ولو بالأصل لا حاجة لنا إلى
رفع الشك في ناقضية المذي، وليكن الشك باق إلى يوم القيامة.
وما نحن فيه لو كان متعلق الطلب والتكليف هو نفس الهيئة الاتصالية،
وقلنا بأنها أمر وجودي وفعل المكلف، وكان تعلق النهي بعدم وقوع تلك القواطع
من باب أنه رافع لما هو متعلق التكليف حقيقة، لا أن نفس عدم القواطع أخذ
قيدا في الصلاة، فجريان الاستصحاب حينئذ في محله، إذ بعد استصحاب ما هو
متعلق التكليف من بقاء الهيئة الاتصالية لا حاجة لنا إلى إحراز حال القاطع،
وليبق الشك فيه إلى يوم القيامة، ولكن الأمر ليس كذلك، فإن نفس كون
الصلاة مشتملة على أمر وجودي وراء الأجزاء والشرائط محل إشكال بل منع، إذ
341

لا يخطر ببال المصلي أن هناك وراء الأجزاء أمر آخر وجودي متعلق للإرادة
الفاعلية.
مع أن على فرض وجوده كونه هو بنفسه متعلق التكليف دون تلك القواطع
محل منع أيضا بعدما كان ظواهر الأدلة على خلافه، فإن الظاهر من أدلة القواطع
كون نفس عدم تخلل تلك القواطع في أثناء الصلاة متعلقا للطلب، فلا يمكن أن
يقال: إنه يكفي استصحاب بقاء الهيئة الاتصالية، ولا حاجة لنا إلى رفع الشك
في وجود القاطع أو قاطعية الموجود، وتنظير ما نحن فيه بالمثال المتقدم، فإن معنى
ذلك هو أن متعلق التكليف مما لا نحتاج إلى إحرازه، وما هو ليس متعلق
التكليف نحتاج إلى إحرازه، وهو كما ترى.
نعم يمكن أن يقال: إن متعلق التكليف وإن كان هو نفس عدم تخلل تلك
القواطع، إلا أن المحل الذي اعتبر ذلك العدم فيه هو الجزء الصوري والهيئة
الاتصالية لا الأجزاء المتبادلة المتصرمة، وحينئذ نستصحب عدم تخلل القاطع في
محله الذي اعتبر فيه، لا أنه نستصحب بقاء الهيئة الاتصالية.
ولا يرد عليه ما أوردناه في باب الموانع، فإن الموانع حيث إنه كان محلها نفس
الأجزاء المتصرمة فاستصحاب عدم تحقق المانع في الأجزاء مما لا مساس له، لأن
الأجزاء السابقة على ما هو مشكوك المانعية أو حصوله قد تصرمت وانقضت. مع
أنه عدم حصوله في تلك الأجزاء مقطوع لا معنى لاستصحابه، والأجزاء اللاحقة
بعد لم توجد، والجزء الذي في يده الذي شك في تحقق المانع فيه لم يكن له حالة
سابقة حتى يقال: الأصل عدم وقوع المانع في هذا الجزء، إذ قبل وجوده لم يكن
شئ، وبعد وجوده يكون مشكوك المصاحب للمانع، فهو من أول وجوده
وحدوثه مشكوك، وليس له حالة سابقة حتى يقال: الأصل عدم وقوع المانع في
هذا الجزء، إذ متى كان الجزء ولم يكن مصاحبا لعدم المانع حتى يستصحب.
342

وهذا بخلاف باب القواطع، فإن من أدلة القواطع نستكشف لا محيص من
أن هناك أمرا وجوديا، وإن لم يكن متعلقا لإرادة الفاعل ومتعلق الطلب
والتكليف، وهذا الأمر الوجودي أمر واحد مستمر قائم بالأجزاء ولا يضره تبادلها،
وقد أخذ هذا الأمر الوجودي محلا لعدم تلك القواطع، وعند الشك في تخلل
القاطع في أثناء هذا الأمر الوجودي الذي اعتبر محلا له نستصحب عدم تخلله في
محله الذي اعتبر فيه، وما هو متعلق التكليف ليس إلا عدم وقوع القاطع في أثناء
هذا الأمر الوجودي، وهذا الأمر الوجودي الذي نعبر عنه بالجزء الصوري والهيئة
الاتصالية قبل حصول ما يشك في قاطعيته لم يقع فيه قاطع، والآن نستصحب
أيضا عدم وقوعه فيه، ويكون ما هو متعلق التكليف محرزا بالأصل، ولا محذور فيه
أصلا، فتأمل جيدا. هذا كله إذا كان القيد الوجودي أو العدمي موجودا في أول
الشروع ثم عرض الشك في ارتفاعه.
وإن كان مشكوك الحصول من أول الأمر، فمعلوم أنه بالنسبة إلى القيد
الوجودي لا مجرى لأصل من الأصول بعد ما كان القيد الوجودي مما لا بد في
إحرازه من أول الصلاة إما بالوجدان وإما بالأصل، فمع الشك في وجوده من أول
الصلاة الذي أخذ القيد محلا فيها ووصفا لها كما هو مفروض الكلام لم يكن
لاتصاف الصلاة بهذا الأمر الوجودي حالة سابقة، إذ المفروض أنه مشكوك
الحصول من أول الصلاة، فلا مجرى للاستصحاب.
وأما إذا كان القيد قيدا عدميا، ففي جريان الأصل وعدمه اضطربت
كلمات القوم والأعلام حتى الشيخ قدس سره وجريان الاستصحاب في هذا
مبني على كفاية جريان استصحاب العدم السابق على الحوادث في إحراز عدم
تخصص تلك الحوادث بالخصوصيات المشكوكة عند حدوثها، كالصلاة فيما نحن
فيه، حيث إنها حين حدوثها مشكوكة التخصص بخصوصية عدم المأكولية، إذا
343

فرض كونه وصفا للصلاة لا للباس كما سيأتي بيانه ففي كفاية جريان
استصحاب عدم اتصاف الصلاة بغير المأكولية السابق على وجود الصلاة أو عدم
كفايته خلاف بين الأعلام، والحق عدم كفايته وتوضيح المطلب يتوقف على
رسم أمور:
الأول: لا إشكال في جريان الاستصحابات العدمية بالنسبة إلى نفس
لتكاليف وموضوعاتها.
وما يتوهم من أنه لا بد وأن يكون المستصحب من الأمورات التي تنالها يد
الجعل، أو كان هناك أثر مجعول مترتب على المستصحب وإن لم يكن هو بنفسه
مما تناله يد الجعل، والعدم الأزلي هو بنفسه ليس مجعولا، فاستصحاب عدم
التكليف مما لا يجري. وكذلك استصحاب عدم الموضوع، فإن الأثر الذي يراد
ترتبه هو عدم الحكم، وإلا نفس عدم الموضوع مع قطع النظر عن الأثر المترتب
عليه مما لا معنى لاستصحابه، وعدم الحكم ليس هو أمرا مجعولا حتى يترتب على
عدم الموضوع، بداهة أن انتفاء الحكم عند انتفاء موضوعه ليس أمرا مجعولا، بل
هو من قبيل انتفاء المعلول عند انتفاء علته الذي لا يقبل أن تناله يد الجعل ولو
تبعا، واضح الفساد، فإن العدم الأزلي وإن لم يكن هو بنفسه مجعولا إلا أن التعبد
بالبناء عليه الذي هو المجعول في باب الأصول مما يمكن أن تناله يعد الجعل، فإنه
كما أن للشارع التعبد بالبناء على وجود الشئ تكليفا كان أو وضعا أو موضوعا،
فكذلك للشارع التعبد بالبناء على عدم الشئ، ولا نحتاج في مقام جريان
الاستصحاب إلى أزيد من أن يكون المستصحب قابلا للتعبد الشرعي بكلا
طرفيه من جوده وعدمه. فما ربما ينسب إلى الشيخ من إنكاره الاستصحابات
العدمية من الأوهام، فإن كلماته مشحونة بخلافه.
ثم إنه لا فرق في المستصحب العدمي بين أن يكون تمام الموضوع للأثر أو
344

جزءه على ما تقدم، كما أنه لا فرق فيها بين أن يكون العدم هو بنفسه ذا أثر شرعي،
أو كان الأثر مترتبا على نقيضه الوجودي ويراد من استصحاب العدم هو نفي
ذلك الأثر باعتبار نفي نقيضه الوجودي. مثلا تارة يكون عدم فسق زيد ذا أثر،
وأخرى فسق زيد ذا أثر من حرمة الاكرام مثلا وإن لم يكن نفس عدم فسفه
موضوعا لأثر أصلا، وعلى كلا التقديرين استصحاب عدم فسق زيد يجري إذا
تمت أركانه من اليقين السابق والشك اللاحق، غايته أنه إذا كان نفس عدم
فسق زيد موضوعا للأثر من وجوب الاكرام مثلا فبنفس استصحاب عدم الفسق
يرتب أثره، وإن كان فسقه موضوعا للأثر فباستصحاب عدم فسقه ينفى الأثر
المترتب على نقيضه الوجودي من الفسق، ويقال بعدم حرمة إكرامه إذا كان
الفاسق موضوعا لذلك. وبالجملة: لا فرق في الاستصحاب العدمية بين أن تكون هي بنفسها ذا
أثر، أو كان نقيضها الوجودي ذا أثر. كما أنه لا يختص ذلك بالاستصحابات
العدمية بل يجري في الاستصحابات الوجودية أيضا، فإن الأثر تارة يترتب على
نفس الوجود المستصحب، وأخرى يترتب [على] نقيضه العدمي، ويراد من
استصحاب الوجود نفي الأثر المترتب على عدمه، كما في استصحاب وجود المانع،
فإن نفس وجود المانع مما لم يؤخذ موضوعا للأثر شرعا، وإنما كان موضوع الأثر
هو عدم المانع، ولكن حينئذ ذلك استصحاب وجود المانع يجري ويترتب عليه
انتفاء الأثر المترتب على عدم المانع كما لا يخفى.
الأمر الثاني: بعد ما عرفت من أنه لا يتوقف جريان الأصل على كون الأثر
مترتبا على نفس مؤداه، بل يكفي ترتبه على نقيضه أيضا، فنقول: إن المقيد أو
المخصص النافي للحكم الوارد على العنوان المأخوذ في مصب العموم أو الاطلاق،
كورود إلا الفساق أو لا تكرم فساق العلماء بعد ورود أكرم العلماء، أو الفاسق
345

العالم بعد ورود أكرم العالم، فلا يخلو حاله عن أحد أمرين:
إما أن يكون المخصص أو المقيد الذي أخذ خصوصية وجودية فيه كالفسق في
المثال واردا لمحص إفادة التخصيص أو التقييد للعام أو المطلق، من دون أن
يتكفل لاثبات حكم على الفاسق من حرمة إكرامه، بل كان وروده لمجرد بيان
أن العام الذي يجب إكرامه بمقتضى العموم أو الاطلاق ليس هو مطلق العالم
بل العالم الذي لم يكن فاسقا، وأما كون العالم الفاسق محرم الاكرام أو لا فليس
لدليل المخصص أو المقيد تعرض لذلك.
وإما أن يكون المخصص أو المقيد واردا لبيان إثبات حكم على المتخصص
بالخصوصية الوجودية التي تكفل دليل المخصص لها، كما إذا كان قوله لا تكرم
فساق العلماء عقيب قوله أكرم العلماء واردا لبيان إفادة حرمة إكرام الفاسق
لا مجرد عدم وجوبه.
فإن كان ورود المخصص أو المقيد على الوجه الأول كان مفاده مانعية
الفسق عن وجوب الاكرام المستفاد من العموم أو الاطلاق، ودخل عدم تخصص
مصب لعموم أو الاطلاق بتلك الخصوصية التي تكفلها المخصص، فيكون العالم
الذي يجب إكرامه هو العالم الذي لم يتخصص بخصوصية الفسق، وحينئذ لو
كانت تلك الخصوصية مؤدى الأصل، كما إذا كان مشكوك الفسق حالته
السابقة عدم الفسق، كان الأثر مترتبا على نفس إحراز عدم تلك الخصوصية
بالأصل، وكان مؤدى الأصل هو موضوع الأثر لا بعناية نقيضه، إذ المفروض أن
الفسق لم يكن ذا أثر ولم يحكم عليه بحكم، وإنما كان الأثر مترتبا على نفس
عدم الفسق، لأنه هو القيد الذي تكفل دليل المخصص لبيان دخله في مصب
العموم أو الاطلاق، فالأثر إنما يترتب على نفس إحراز عدم فسق زيد، فلو كان
عالميته محرزة بالوجدان يدخل في صغريات ما قلناه من إحراز بعض المركب
346

بالوجدان والآخر بالأصل، لأن موضوع وجوب الاكرام بعد ورود المخصص يكون
مركبا من العالم الذي لم يكن فاسقا، فلو أحرز عالمية زيد بالوجدان وعدم فسقه
بالأصل ترتب عليه وجوب الاكرام كما لا يخفى.
وإن كان ورود المخصص أو المقيد على الوجه الثاني، بأن كان قوله لا تكرم
الفاسق العالم واردا لبيان حرمة إكرام العالم الفاسق لا لمجرد عدم وجوبه، وكان
استفادة التخصيص أو التقييد لأجل امتناع ورود الحكمين المتضادين على موضوع
واحد، بأن يكون زيد مثلا مما يجب إكرامه لكونه عالما، ومحرما إكرامه لكونه
فاسقا، فامتناع ذلك يوجب تقييد أو تخصيص الاطلاق والعموم، رجعت حينئذ
نتيجة التخصيص والتقييد إلى تنويع مصب العموم أو الاطلاق إلى نوعين
متقابلين، أحدهما العالم الفاسق الذي يحرم إكرامه، والآخر نقيض ذلك وهو
العالم الغير الفاسق الذي يجب إكرامه، ويكون تخصص العالم بالخصوصية
الوجودية من الفسق دخيلا في حرمة الاكرام، وعدم التخصص دخيلا في وجوب
الاكرام، وقوله لا تكرم العالم الفاسق دالا على الأول، وهو دخل خصوصية
الفسق في حرمة الاكرام بالمطابقة، ودخل عدم الفسق في وجوب الاكرام
بالملازمة من باب امتناع توارد الحكمين المتضادين على موضوع واحد الذي بمعونة
ذلك استفدنا التقييد أو التخصيص، وإلا نفس قوله لا تكرم العالم الفاسق لم
يكن مدلوله المطابقي ذلك بل كان مدلوله المطابقي حرمة إكرام الفاسق.
وهذا القسم من المخصص والمقيد أي الذي يكون واردا لبيان حرمة إكرام
الفاسق العالم يتحد مع القسم الأول وهو ما كان ورد لمحض تقييد وتخصيص
مصب العموم والاطلاق من جهة، ويمتاز عنه من أخرى. أما الجهة التي يتحد معه
فهي أن الأثر وهو وجوب إكرام من لم يكن فاسقا الذي دل عليه دليل المخصص
بالملازمة مترتب على نفس عدم تلك الخصوصية من الفسق، فإن كان عدم
347

الخصوصية مؤدى الأصل ترتب على نفس المؤدى وجوب الاكرام. وأما الجهة التي
يمتاز عنه فهي أن أثر حرمة الاكرام الذي دل على ذلك دليل المخصص بالمطابقة
يترتب على إحراز عدم تلك الخصوصية بعناية نقيضة، إذ الحرمة لم تترتب على
نفس عدم تلك الخصوصية، بل رتبت على نقيضه وهو الفسق، وعلى كل حال إذا
كان عدم تلك الخصوصية مؤدى الأصل، كما إذا كانت الحالة السابقة لزيد
عدم الفسق، فبنفس إحراز عدم تلك الخصوصية بالأصل يترتب عليه وجوب
الاكرام وعدم حرمته كما لا يخفى.
ثم إن الأثر المترتب عند عدم إكرام الفاسق العالم من عدم الحرمة، إذا كان
دليل المخصص مثبتا لها، وإن كان يترتب على انتفاء الجملة والمركب الذي أخذ
في دليل المخصص موضوعا أو متعلقا للحكم، كما إذا لم يتحقق منه إكرام العالم
الفاسق بجملته، إلا أنه يترتب أيضا عند انتفاء أحد أجزاء الجملة، لأن المركب
ينتفي بانتفاء أحد أجزائه، كما إذا تحقق منه الاكرام ولكن لم يكن المكرم بالفتح
عالما أو فاسقا، وعند انتفاء أحد الأجزاء يصدق أيضا انتفاء الجملة والمركب.
إلا أنه إذا كان الشك في انتفاء الجملة مسببا عن الشك في انتفاء الجزء،
كما إذا أكرم ما هو مشكوك الفسق، فإن الشك في تحقق إكرام الفاسق منه بهذه
الجملة مسبب عن الشك في فاسقية المكرم بالفتح، فلا محالة يكون الأصل الجاري
في طرف السبب لو كان مجرى للأصل حاكما على الأصل الجاري في ناحية
المسبب، ولا يكون الأصل المسببي معارضا للأصل السببي عند التخالف،
ولا معاضدا له عند التوافق. فلو كان منشأ الشك في صدور الجملة منه وهو إكرام
الفاسق العادل مسببا عن الشك في فاسقية المكرم الذي هو جزء المركب، وكان
فاسقية المكرم مجرى للأصل، بأن كان حالته السابقة الفسق أو عدم الفسق،
كان الأصل الجاري في طرف الجزء هو المتبع، ولا تصل النوبة إلى الأصل
348

الجاري في الجملة، فلو استصحب عدم فاسقية زيد المكرم ترتب عليه عدم
الحرمة، ولا حاجة إلى استصحاب عدم تحقق الجملة.
ولا يمكن أن يقال: إن إكرام الفاسق العالم لم يعلم صدوره منه والأصل
عدمه، وكذلك لو استصحب فاسقية زيد ترتب عليه أثر الحرمة ولا أن يعارضه
بأصالة عدم صدور إكرام الفاسق العالم منه، لما عرفت من أن الأصل المسببي
لا يكون معاضدا ولا معارضا للأصل السببي.
نعم لو لم يكن الجزء مجرى للأصل، كما إذا لم يعلم حالته السابقة من الفسق
وعدمه، كان الأصل المسببي حينئذ جاريا، وصح أن يقال: الأصل عدم صدور
إكرام الفاسق العالم منه، لأن هذه الجملة مسبوقة بالعدم، ويترتب عليه حينئذ
أثر عدم الحرمة، وأنه لم يفعل حراما، ولكن لا يترتب على هذا الأصل إكرام العالم
الغير الفاسق الذي دل على وجوبه قوله أكرم العالم بعد تخصيصه بقوله لا تكرم
الفاسق العالم، فإن مجرد عدم صدور إكرام الفاسق العالم منه لا يثبت أنه أكرم
العالم الغير الفاسق، كما لا يخفى. فليس له الاكتفاء بإكرام مشكوك الفسق
تعويلا على هذا الأصل، ولا يسقط به الوجوب الذي تكفله العام بعد التخصيص
وإن ترتب على هذا الأصل عدم الحرمة، وذلك واضح في الغاية. هذا كله إذا
كان دليل المخصص مثبت لحكم من الحرمة على ما تقدم في القسم الثاني من
المخصص.
وأما إذا كان دليل المخصص من القسم الأول، وهو ما إذا كان مفاده مجرد
المانعية من دون أن يتكفل لثبوت حكم على المخصص، فلا يجري الأصل
المسببي، وإن لم يكن الأصل السببي جاريا من حيث انتفاء الحالة السابقة
للجزء، وذلك لأنه لا يترتب على الأصل المسببي وانتفاء الجملة أثر أصلا، لأن
الفاسق لم يكن محرم الاكرام حتى يراد من أصالة انتفاء الجملة ترتب أثر الحرمة.
349

ولا يكون الأصل الجاري في الجملة محرزا لاكرام العالم الغير الفاسق الذي تكفله
العام بعد التخصيص حذو ما سمعته في القسم الأول، فلا أثر لجريان الأصل في
الجملة.
فتحصل من جميع ما ذكرنا: أن دليل المخصص إن كان واردا لمحض إفادة
المانعية فلا فائدة في جريان الأصل في الجملة مع عدم جريانه في الأجزاء، وإن
كان واردا لإفادة حكم على العنون الذي أخذ في دليل المخصص موضوعا
للحكم، فالأصل في الجملة عند عدم جريان الأصل في الأجزاء وإن كان جاريا،
إلا أنه لا يترتب عليه إلا انتفاء حكم المخصص الذي سيق دليل المخصص
لإفادته.
وبذلك يظهر فساد ما قيل في المقام من أنه عند الصلاة في المشكوك يجري
الأصل بالنسبة إلى الجملة، ويقال الأصل عدم صدور الصلاة في غير المأكول،
لأن الشك في صدور الصلاة في غير المأكول وإن كان مسببا عن الشك في الجزء،
وهو الشك في كون اللباس من المأكول أو غيره، إلا أنه لما لم يكن الشك في
الجزء مجرى للأصل من حيث عدم الحالة السابقة للباس كان الأصل في الجملة
المركب جاريا، وصح أن يقال: الأصل عدم صدور الصلاة في غير المأكول، لأن
صدور الصلاة فيه أمر حادث مسبوق بالعدم، ويترتب عليه وقوع الصلاة في غير
غير المأكول. وجه الفساد هو أن الأصل الجاري في الجملة مما لا أثر له أصلا، بعد ما
كان الدليل الدال على النهي عن الصلاة في غير المأكول مسوقا لمحض إفادة
المانعية، من دون أن يتكفل النهي لحكم تحريمي، بأن تكون الصلاة في غير
المأكول محرمة، فيكون أصالة عدم صدور الصلاة في غير المأكول، كأصالة عدم
صدور إكرام الفاسق العالم فيما إذا كان قوله لا تكرم العالم الفاسق، مسوقا لمحض
إفادة المانعية مما لا أثر لها أصلا.
350

وعلى تقدير أن يكون النهي عن الصلاة في غير المأكول مثبتا للحرمة، فغاية
ما يترتب على الأصل المذكور هو عدم صدور الحرام منه، لا صدور الصلاة في غير
غير المأكول منه، على حذو ما سمعته من ترتب أثر عدم الحرمة على جريان أصالة عدم
صدور إكرام الفاسق العالم منه، إذا كان دليل المخصص سيق لبيان إفادة حكم
على العنوان الذي أخذ موضوعا في دليله، فتأمل جيدا فإن المطلب وإن كان
واضحا، إلا أنه لما كان كتابة شيخنا الأستاذ مد ظله في هذا المقام مشكلة أردنا
توضيحها.
الأمر الثالث: أن تركب متعلقات الأحكام أو موضوعاتها يكون تارة من
العرض ومحله، كما إذا كان موضوع التكليف هو زيد وصف فسقه، أو كان
متعلق التكليف هو الصلاة مع وصوف وقوعها في غير المأكول، بأن يكون
التركيب من العرض والمعروض، وأخرى يكون غير ذلك، بأن يكون التركيب من
عنوانين متباينين أجنبي كل منهما من الآخر.
وهذا أقسامه كثيرة، لأنه إما أن يكون التركيب من جوهريين وجودين أو
عدمين أو مختلفين، كما إذا كان الموضوع مركبا من وجود زيد ووجود عمرو، أو
كان مركبا من وجود زيد وعدم عمرو، أو كان مركبا من عدم زيد وعدم عمرو،
وإما أن يكون التركيب من جوهر وعرض قائم بمحل آخر، كما إذا كان التركيب
من وجود زيد وقيام عمرو، هذا أيضا على أقسامه الثلاثة من كونهما وجوديين أو
عدميين أو مختلفين. وإما أن يكون التركيب من عرضيين كقيام زيد وقيام عمرو
على أقسامه الثلاثة أيضا، وإما أن يكون التركيب من عرضيين قائمين بموضوع
واحد كقيام زيد وسواده بأقسامه الثلاثة أيضا. وفي جميع هذه الأقسام يكون
التركيب من المتباينين، ولا يعقل أن يؤخذ أحد جزئية نعتا للآخر، بداهة أن
وجود زيد لا يمكن نعتا لوجود عمرو، وكذا عدمه نعتا لعدمه أو لوجوده،
351

وكذا لا يمكن أن يكون قيام زيد نعتا لقيام عمرو [و] بالعكس، وذلك واضح.
وحيث إن في كل تركيب لا بد من اعتبار وحدة يكون جامع بين الأجزاء
المتباينة، وبدون ذلك لا يعقل التركيب كما لا يخفى، والوحدة التي تمكن أن تكون
جامعا بين المتباينات ليس إلا الاجتماع في الزمان ووجود كل من الجزءين في
ظرف وجود الآخر بحيث يجمعهما عمود الزمان، وحينئذ إن كان القيد وجوديا
كان التقييد راجعا إلى العدم المقارن، وكان الأثر مترتبا على وجود زيد المقارن
لوجود عمرو [و] إن كان القيد عدميا كان التقييد راجعا إلى العدم المقارن،
وكان الأثر مترتبا على وجود زيد المقارن لعدم عمرو.
وفي جميع هذه الأقسام لو كان الموضوع أو المتعلق هو نفس هذه الأجزاء كان
إحراز بعضها بالوجدان والآخر بالأصل يكفي في ترتب الأثر، سواء كان الأثر
مترتبا على نفس الوجود أو العدم، أو كان الأثر مترتبا على نقيض كل منهما،
حسب ما تقدم من أنه لا فرق في ترتب الأثر بين أن يكون نفس الجزء [محرزا]
بالوجدان أو مؤدى موضوع الأثر أو كان نقيضه موضوعا لذلك. وعلى كل حال
في جميع ما كان التركيب من الأجزاء المتباينة التي لا جامع بينها سوى وحدة
الزمان كان داخلا في صغرى ما قدمناه، من كفاية إحراز بعض الأجزاء
[بالوجدان] والآخر بالأصل. نعم لو كان الموضوع هو العنوان الملازم أو المنتزع أو
المعلول عن تحقق تلك الأجزاء لما كان لنفس تحقق تلك الأجزاء حينئذ أثر، ولما
كان إحراز بعضها بالوجدان والآخر بالأصل مجديا إلا على القول بالأصل
المثبت.
والأمثلة التي ذكرها شيخنا الأستاذ مد ظله في المقام كالصلاة، وطهارة
الفاعل، والاستيلاء على مال الغير عند عدم الرخصة من الشرع أو المالك، وإسلام
الوارث عند حياة مورثه، كلها راجعة إلى ما كان الأثر مترتبا على نفس اجتماع
352

الأجزاء في الزمان، من دون أن يكون مترتبا على العنوان الملازم، فلو أحرزت
الصلاة بالوجدان والطهارة بالأصل ترتب عليه أثر الصحة، وكذا لو أحرز
الاستيلاء بالوجدان وعدم الرخصة بالأصل ترتب عليه أثر الضمان، وكذا لو
أحرز إسلام الوارث بالوجدان وحياة المورث بالأصل ترتب عليه أثر الوراثة، إذا
كان إسلام لوارث معلوم التاريخ بحيث لا يكون مجرى للأصل، ولو كان مجهول
التاريخ كان الأصلان من الطرفين متعارضين، والمثال الذي ذكره أخيرا بقوله
" والأوصاف المتوقفة لزوم العقد على اتصاف العوضين.. إلخ " راجع إلى أن
موضوع الأثر هو العنوان الملازم، فلا يكفي إحراز العقد بالوجدان وسلامة العوضين
من العيوب بالأصل في ترتب لزوم العقد، ما لم يحرز وقوع العقد على العوض
المتصف بالسلامة، فتأمل جيدا. هذا كله فيما إذا كان التركيب من الأجزاء
المتباينة.
وأما إذا كان التركيب من العرض ومحله، ففي عالم التصور يمكن أن يلاحظ
العرض القائم بمعروضه تارة بما أنه شئ بحيال ذاته، ويتصوره بما أنه معنى من
المعاني وشئ من الحوادث، كأن يلاحظ مثلا زيدا ويلاحظ أيضا عدالة زيد
بلحاظ مستقل من دون أن يأخذه وصفا ونعتا لزيد، بل بما أنه هو في قبال زيد
شئ من الأشياء، وأخرى يلاحظه بما أنه نعتا قائم بزيد وعارض له وحاصل
لموضوعه لاحق به.
فإن لاحظه على الوجه لا يصح حمله على معروضه، لأن العرض بهذا
الوجه يكون مبدأ الاشتقاق الذي لا يحمل على الذات، ولحاظ العرض بهذا الوجه
هو الذي اصطلح على تسميته بالمحمول المقارن، سواء أخذ وجوده قيدا للموضوع
والمتعلق أو عدمه، فإن أخذ الوجود يكون القيد حينئذ هو الوجود المقارن، وإن
أخذ عدمه يكون القيد هو العدم المقارن. وأخذ العرض بهذا الوجه هو الذي يصح
353

استصحاب عدمه حتى مع وجود معروضه، بداهة أنه لو كان القيد هو عدم عدالة
زيد بما أنه شئ بحيال ذاته أو عدم فسقه فالعرض بهذا الوجه يكون كسائر
الحوادث مسبوقا بالعدم، وصح أن يقال بعد وجود زيد: إن عدالة زيد أو فسقه لم
يكن والآن كما كان، ويترتب حينئذ الأثر، ويكون أيضا من صغريات إحراز
بعض الموضوع [بالوجدان] والآخر بالأصل، فلو أحرز وجود زيد ولم يحرز وجود
عدالته بمعناه الاستقلالي لترتب الأثر حينئذ.
وإن لاحظه على الوجه الثاني صح حمله حينئذ على معروضه، لأنه يكون
حينئذ من المشتقات التي يصح حمله على الذوات، ويقال: زيد عادل أو فاسق،
وأخذ العرض بهذا الوجه هو الذي جرى اصطلاحهم في تسميته بالعرض النعتي
في قبال المحمول المقارن، سواء أيضا أخذ وجوده نعتا أو عدمه، فإن أخذ وجوده
نعتا يكون القيد هو وجوده النعتي، وإن أخذ عدمه يكون القيد هو العدم النعتي،
وهذا العدم النعتي هو الذي لا يمكن استصحابه بعد وجود معروضه كما سنوضحه.
هذا كله في عالم التصور.
لكن لا يخفى عليك أن في مقام أخذ العرض قيدا لمعروضه لا محيص عن أخذه
على الوجه الثاني وهو العرض النعتي، ولا يمكن أخذه على الوجه الأول وهو
العرض المقارن لا ثبوتا ولا إثباتا، أما عدم إمكانه في مرحلة الثبوت فيتضح
بتمهيد مقدمتين:
الأولى: لا إشكال في استحالة الاهمال النفس الأمري في مقدمات الأحكام
وموضوعاتها بالنسبة إلى الانقسامات المنقسمة هي إليها، بداهة أن الغرض
لا يتعلق بمهمل، بحيث [لا يلاحظ] الآمر ما هو متعلق غرضه أو موضوعه، مثلا لو
قال: أكرم العالم فلا يخلو إما أن يكون الغرض قائما بإكرام العالم بالنسبة إلى جميع
انقساماته، من كونه فاسقا أو عادلا أو روميا أو زنجيا وقائما وقاعدا وكذا بالنسبة
354

إلى الاكرام تعلق الغرض بوجوده سواء وقع بالاطعام أو الاعطاء أو الضيافة
وغير ذلك من الانقسامات، وإما أن يكون الغرض قائما به على نحو الخاص من
فسقه وعدالته وغير ذلك، بحيث لا يتعلق الغرض به بما أنه مرسل، بل بما أنه مقيد
بخصوصية، وإن لم تذكر الخصوصية في نفس مصب الاطلاق أو العموم بل اعتمد
على ذكرها بدليل منفصل. وعلى كل أمر الموضوع أو المتعلق لا يخلو عن أحد هذين
القسمين، ولا يمكن أن يقوم الغرض بما لا يتساوى فيه الانقسامات ولا ما يتساوى
الذي هو عبارة أخرى عن الاهمال، وذلك واضح غايته.
والثانية: لا إشكال أيضا في أن إطلاق المتعلق والموضوع، أو تقييده بما يقارنه في
الزمان، متأخر في الرتبة عن إطلاقه وتقييده بالنسبة إلى انقسامات نفسه، بداهة
أن إطلاق العالم أو تقييده بالنسبة إلى ما يقارنه في الزمان، من قيام عمرو وقعود
زيد وغير ذلك من المقارنات الزمانية، إنما هو متأخر رتبة عن إطلاق أو تقييد
العالم بالنسبة إلى انقسامات نفسه من عدالته وفسقه، إذ لا يعقل أخذ العالم
بالنسبة إلى عدالته وفسقه مهملا وتقييده أو إطلاقه بما يقارنه في الزمان، فإن معنى
ذلك يرجع إلى أخذ الموضوع مهملا، وقد عرفت استحالته في المقدمة الأولى، بل
هذه المقدمة إنما تكون من صغريات المقدمة الأولى.
إذا عرفت هاتين المقدمتين يظهر لك انحصار قيدية الخصوصية العرضية
لمعروضها في مرحلة الثبوت بالنعني، وامتناع التقييد بالمقارن، بمعنى أنه لا بد في
مقام تأليف موضوع التكليف أو متعلقة في العرض ومحله من أخذ العرض بالنسبة
إلى معروضة عرض نعتيا بالمعنى المتقدم في العرض النعتي لا مقارنا، وذلك لأنه
بعدما امتنع أن يكون الموضوع أو المتعلق مهملا بالنسبة إلى النعت الوجودي أو
العدمي اللاحق من واجديته لتلك الخصوصية أو فاقديته لها، بمعنى أن العالم أو
الاكرام لا يعقل أن يكون مهملا بالنسبة إلى العدالة والفسق والضيافة والاعطاء
355

فإن العالم الذي أخذ موضوعا فإما أن يؤخذ موضوعا بوصف كونه عادلا، أو
بوصف كونه غير فاسق، أو مطلقا، إذ مع عدم أخذه بهذا النحو يكون مهملا، وقد
عرفت امتناعه، فحينئذ فإن أخذ في نفس الأمر مقيدا بالعدالة أو عدم الفسق لزم
عدم انقسامه إلى المقارن رأسا، فإنه بعد ما كان الموضوع هو العالم العادل أو غير
الفاسق لا يبقى محل لعدالته المقارن وعدم فسقه المقارن ولا موضوع لهذا
الانقسام، ولا يمكن الاطلاق والتقييد بالنسبة إليه لارتفاع موضوعه، إذ لو قيد
العالم العادل بأن يكون عدالته موجودا ومقارنا له في الزمان يلزم لغوية هذا
التقييد، إذ بعد تقييد العالم بالعدالة لا يعقل انفكاكه عن عدالته المقارنة له في
الزمان حتى يحتاج إلى التقييد، وإذا امتنع تقييده بالوصف الموفق المقارن امتنع
إطلاقه أو تقييده بالوصف المضاد المقارن، للزوم المناقضة بين ذلك التقييد وهذا
الاطلاق أو التقييد المضاد، كما لا يخفى وجهه على المتفطن، بداهة أن بعد تقييد
العالم بالعدالة أو عدم الفسق لا يعقل أخذه مطلقا بالنسبة إلى عدالته لمقارن له في
الزمان أو عدم فسقه كذلك، إذ معنى إطلاقه بالنسبة إلى ذلك هو أن العالم
العادل يجب إكرامه سواء قارن عدالته في الزمان أو لم يقارن، وهكذا الحال فيما
إذا قيد بالوجود أو العدم المقارن المضاد لما قيد به أولا.
فظهر أنه ثبوتا لا يمكن أخذ العرض بالنسبة إلى محله إلا على وجه النعتية
والتوصيف والربطية، ولا يمكن أخذه على وجه المقارن، فإذا امتنع الثبوت النفس
الأمري إلا على وجه النعتية فلا محيص من صرف الدليل في مقام الاثبات إلى
ذلك لو فرض أنه ظاهر في المقارن، فكيف إذ كان مجملا أو ظاهر في النعتية؟
وبعد ذلك لا يبقى مجال للتكلم في مرحلة الاثبات.
ولكن مع ذلك نقول: على فرض إمكان التقييد بالمقارن في مرحلة الثبوت
ونفس الأمر، وأغمضنا على استحالته ففي مقام الاثبات، تكون الأدلة منطبقة
356

على التقييد بالنعتي لا المقارن.
وتفصيل ذلك هو أنه لا إشكال في أن مفاد الدليل لو كان من أول الأمر
مركبا توصيفيا، كقوله أكرم العلماء العدول، أو قوله أكرم العالم الغير الفاسق، فهو
ظاهر في كون الوجود والعدم وجودا وعدما نعتيا لا مقارنا، بداهة ظهور قوله أكرم
العالم الغير الفاسق في كون عدم الفسق أخذ قيدا للعالم على وجه النعتية، ومن
هنا لم يستشكل أحد في ظهور المخصص المتصل في النعتية.
وأما لو كن المخصص من قبيل الاستثناء أو المنفصل فهو الذي وقع محلا
للكلام في استفادة النعتية أو المقارنة منه، ولكن لا محيص عن حمل الاستثناء أو
المنفصل في النعتية أيضا.
وكذا لو كان دليل المخصص مجملا، كما إذا قام إجماع على اعتبار عدم فسق
العالم في وجوب إكرامه، ولم يكن له إطلاق في أخذه على وجه النعتية أو المقارنة،
بل كان لمجرد الإفادة على دخل الخصوصية من العدالة أو عدم الفسق في
معروض الحكم، فلو كان دليل المخصص مجملا فغايته أنه يدور الأمر حينئذ بين
المتباينين، إذ أخذ الخصوصية على وجه النعتية مباين لأخذه على وجه المقارنة،
من دون أن يكون بينهما جامع حتى يكون من باب دوران الأمر بين الأقل
والأكثر، بل عند إجمال دليل القيد يتردد القيد بين المتباينين.
ومع الغض عن أنه ثبوتا لا محيص عن حمل القيدية على النعتية نقول: إنه عند
دوران الأمر بين المتباينين لا جدوى لاحراز العدم أو الوجود المقارن بالأصل مع
عدم إحراز النعتية منهما، إذ انتفاء العدم أو الوجود المقارن وإن كان يلازم واقعا
انتفاء النعتية أيضا، بداهة أنه مع عدم مقارن الفسق لزيد يكون زيد غير فاسق،
إلا أنه لا جدوى للأصل الجاري في الملزوم لاحراز لازمه إلا على القول بالأصل
المثبت، فعند إجمال الدليل لا بد من إحراز كل من النعتية والمقارنة، ولا يكفي
357

إحراز المقارنة فقط بالأصل.
وأما لو كان دليل القيد من قبيل الاستثناء أو المنفصل، كما هو الغالب في
التخصيصات التي بأيدينا، فلا محيص أيضا من حملها على النعتية، وذلك لأنه
لا إشكال في استفادة التباين الكلي بين ما هو الموضوع عن تلك الكلية بأحد الوجهين
المتقدمين، من أن التخصيص تارة يرد لمجرد إفادة المانعية، أو لبيان حكم آخر،
وعلى أي حال الموضوع الذي أخذ في العموم بعد التخصيص يكون مباينا
للموضوع الذي أخذ في الخاص تباينا كليا، وإلا ما فرض كونه مخصصا لم يكن
بمخصص، ومع فرض كونه مخصصا لا محيص في ارتفاع المناقضة بين حكم العام
والمخصص من تباين الموضوعين، والتباين الكلي لا يكون إلا بتنويع ما أخذ مصبا
للعموم إلى نوعين أحدهما ما أخرجه المخصص وهو العالم الفاسق، والآخر قسيمه
وهو العالم الغير الفاسق، من دون أن يكون ثالث بين النوعين، وحينئذ يكون
حكم العام أو المطلق واردا على ما هو قسيم ما أخرجه المخصص، وهذا المقدار مما
لا إشكال فيه، إذ معنى التخصيص والتقييد ذلك، وإذا ضممت هذه المقدمة إلى
م تقدم من مغايرة الانقسام اللاحق لمصب العام والمطلق من جهة العدم والوجود
المحمولي المقارن للانقسام اللاحق له من جهة العدم والوجود الربطي النعتي، لما
عرفت من أن لوجود والعدم المقارن مغاير للنعتي منهما، وحينئذ يكون العدم
المقارن مباينا للوجود المقارن، كما أن العدم النعتي مغاير أو مباين للوجود النعتي،
فالمقابل لكل من المقارن والنعتي هو ما يقابله بمعنى مقابلة المقارن من الوجود
بالمقارن من العدم وبالعكس، ومقابلة النعتي منه بالنعتي من العدم وبالعكس،
وليس مقابل العدم النعتي الوجود المقارن إلا بالملازمة.
وهذا هو المراد من قول شيخنا الأستاذ مد ظله في رسالته: وبداهة أن
358

المقابلة بينهما بكل واحد من الاعتبارين إنما هي مع ما يقابله بذلك الاعتبار دون
الآخر. وحاصل مرده من هذه العبارة: هو أن العدم الربطي إنما يقابل ويباين
الوجود الربطي لا الوجود المقارن، كما أن الوجود المقارن إنما يباين العدم المقارن
لا العدم الربطي.
وإذا عرفت ذلك فحينئذ نقول: إنه لا إشكال في أن ما تكفله المخصص بمدلوله
المطابقي إنما هو نفي الحكم الوارد على العام عن المتخصص بالخصوصية الوجودية
التي تكفله دليل المخصص من استثناء أو منفصل، مثلا قوله إلا الفاسق، أو
لا تكرم الفاسق العالم، عقيب قوله أكرم العالم قد سيق لبيان إفادة أن الخصوصية
الوجودية الربطية من فسق العالم تكون مانعة عن وجوب إكرامه، ومن المعلوم أن
الخصوصية الوجودية قد أخذت على وجه النعتية في دليل المخصص لا المقارنة، فإن
قوله لا تكرم العالم الفاسق كقوله أكرم العالم العادل الظاهر في أخذ الخصوصية
على وجه الربطية والنعتية، ومن هنا لم يقع خلاف في استفادة النعتية من
المخصص المتصل، فإذا كانت الخصوصية الوجودية التي تكفلها دليل المخصص
أخذت على وجه الربطية فلا محيص من أخذ ما يقابلها ويباينها من العدم الربطي
والنعتي في مصب العموم والاطلاق، لما عرفت من أن مصب العام بعد
التخصيص والتنويع يكون مباينا كليا مع ما أخرجه المخصص، والتباين الكلي
لا يحصل بينهما إلا بذلك، أي أخذ ما يقابل ويباين الخصوصية الوجودية التي
تكفل لبيان مانعيتها دليل المخصص في مصب العموم، فإن أخذت الخصوصية فيه
على وجه المقارن فلا بد من أخذ العدم المقارن في مصب العموم، وإن أخذت
الخصوصية الوجودية فيه على وجه النعتية فلا بد من [أخذ] ما يقابله من العدم
النعتي في مصبه، وحيث إن الخصوصية الوجودية إنما أخذت في دليل المخصص
على وجه النعتية، فيكون القيد المأخوذ في مصب العموم هو العدم النعتي لا غير،
359

فالباقي تحت العموم بعد التخصيص إنما هو العالم الغير الفاسق على جهة الربطية.
وإذ قد عرفت بما لا مزيد عليه من أن التركيب إذا كان من العرض ومحله
فلا بد من أخذ العرض وجوديا كان أو عدميا على وجه يكون نعتا لمعروضه
لا مقارنا له، واستحالة أخذه على وجه المقارنة ثبوتا وإثباتا، فقد ظهر لك فساد
ما قيل، من أن العام المخصص بالمتصل ليس كالعام المخصص بالاستثناء أو
المنفصل، فإن المخصص المتصل يوجب معنوية العام بعنوان خاص، كالعدالة في
قوله أكرم العالم العادل، وأما العام المخصص بالاستثناء أو المنفصل فليس معنونا
بعنوان خاص، بل بكل عنوان لم يكن ذلك بعنوان الخاص، وحينئذ يكفي في
ترتب الأثر إحراز أي عنوان لم يكن ذلك بعنوان الخاص، فالشرط الذي لم يوجد
مخالفته للكتاب، والمرأة التي لم يوجد انتسابها إلى قريش، مصداق للعام وليس
بمصداق للخارج قطعا، فحينئذ يكون من الباقي تحت العام بعد التخصيص، لما
عرفت من أن الباقي تحت العام لم يكن معنونا بعنوان خاص، حتى لا بد من
إحرازه في ترتب الأثر، كما في المخصص المتصل، حيث يوجب معنونية العام
بعنوان الخاص، بل كل عنوان بعد باق تحت العام غير عنوان الخاص، ولا إشكال
أن عنوان الخاص أمر حادث مسبوق بالعدم، فيجري الأصل فيه ويدخل في
صغريات إحراز بعض الموضوع بالوجدان والآخر بالأصل. هذا حاصل ما أفيد في
المقام، ولكن لا يخفى عليك ما فيه.
أما أولا: فلأن المسلم من دعوى عدم معنونية العام بالمنفصل والاستثناء هو أن
المنفصل أو الاستثناء لا يوجب إجمال العام عند تردد المخصص بين الأقل والأكثر،
وهذا بخلاف المتصل، فإنه يسري إجمال المخصص إلى العام كما بين في محله، وأما
إذا كان الخاص مبين المفهوم من دون إجمال فيه، فلا محيص من تنويعه العام إلى
نوعين متباينين، وسقوط أصالة العموم، وإخراج العام عن كونه كبرى كلية
360

وتمام الموضوع كما هو ظاهر عمومه أولا إلى كونه كالجزء منه، وهذا المقد
لا محيص عنه سواء في ذلك المخصص المتصل أو المنفصل، فإن تنويع العام إلى
نوعين هو معنى التخصيص والتقييد الذي به يرتفع التناقض والتنافي بين عموم
العام وإطلاق المطلق والمخصص، إذ مع عدم تنويع العام إلى ذلك يكون التنافي
بعد باق على حاله.
والحاصل: أن معنونية العام إلى نقيص [الخاص] الخارج بالتخصيص، وجعل
العالم مثلا هو العالم الغير الفاسق هو عين التخصيص والتقييد، ولولا ذلك لما
كان تخصيصا وتقييدا، ولا ارتفعت المناقضة والمضادة والمضادة من البين، ولكان اللازم هو
التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية، لأنه إذا لم يكن قوله لا تكرم الفاسق
العالم معنونا للعام في الشبهات المصداقية، لأنه إذا لم يكن قوله لا تكرم الفاسق
العالم معنونا للعالم وموجبا لتنويعه بما عدا الفاسق، وكان خروج الفاسق عنه
كموت بعض الأفراد، فكما أن موت بعض أفراد العامة لا يوجب معنونية العام،
وكانت أصالة العموم بالنسبة إلى البقية بعد باقية على حالها كما إذا لم يكن
هناك موت، فكذلك التخصيص بالفاسق بناء على عدم تنويعه العالم يكون
كالموت، ولا يوجب سقوط أصالة العموم في الأفراد المشكوكة، بل غاية ما يستفاد
من التخصيص هو خروج الفاسق، فالفرد المشكوك مع عدم العلم بكونه من
أفراد المخرج يكون باقيا تحت العموم بمقتضى أصالة العموم، فكان اللازم هو
جواز التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية، وهو كما ترى لا يقول به من قال
بهذه المقالة، فتنويع العام إلى نوعين متباينين من لوازم الغير المنفك عن
التخصيص، سواء في ذلك المخصص المتصل أو المنفصل.
وعلى ذلك لا يكفي في ترتب الأثر مجرد إحراز عدم عنوان الخاص ما لم يحرز
عنوان العام الثابت له بعد التخصيص، ولا يكفي جريان الأصل في عدم عنوان
الخاص لترتب الأثر إلا على القول بالأصل المثبت، ولا يكون من صغريات إحراز
361

بعض المركب بالوجدان والآخر بالأصل.
وأما ثانيا: فقوله " يكفي في ترتب الأثر إحراز أي عنوان لم يكن ذلك بعنوان
الخاص " مما لا يستقيم، فلأن الذي يحتاج إليه في ترتيب الأثر هو إحراز العنوان
الذي أخذ في مصب العموم بعد تخصيصه بالخارج، فإن هذا هو الذي تعلق به
التكليف أو الوضع، وإحراز سائر العناوين غير ذلك العنوان الذي تعلق به
التكليف أو الوضع مما لا أثر [له]، ويكون من ضم الحجر في جنب الانسان.
اللهم إلا أن يكون المراد أن إحراز أي عنوان لم يكن ذلك بعنوان الخاص يكون
ملازما لاحراز عنوان العام بعد التخصيص، وهذا وإن كان ثبوتا كذلك، إلا أن
إحراز عنوان العام بإحراز أي عنوان بالأصل يكون من المثبت الذي لا يقول هو به
وتوهم أن العام لم يكن معنونا بعنوان حتى يحتاج إلى إحرازه، بل بكل
عنوان غاية الأمر أن المخصص أخرج عنوانا خاصا، وبقيت البواقي على ما كان
عليه قبل التخصيص كما إذا مات بعض الأفراد، وعلى ذلك يبتني إحراز أي
عنوان لم يكن ذلك بعنوان الخاص. ففساده غني عن البيان، بداهة أن تعنون
العام بكل عنوان مما لا يمكن، للزوم التناقض والتنافي. مع أن لازم ذلك هو أن
شمول العام لما ينطبق من مصاديقه على سائر العناوين إنما يكون بواسطة انطباق
ذلك العنوان عليه، مثلا شمول أكرم العلماء للرومي يكون بواسطة انطباق عنوان
الرومي عليه، وشموله للزنجي بواسطة انطباق الزنجي عليه وهكذا، وهذا
كما ترى ضروري الفساد، بل يكون شمول العام للرومي إنما يكون بواسطة
انطباق عنوان العام عليه، من دون أن يكون للرومية دخل في ذلك ولا الزنجية،
فدعوى معنونية العام بكل عنوان وكفاية إحراز أي عنوان مما يستقيم. بل
الظاهر أن العام غير معنون بعنوان ويتساوى وجود كل عنوان وعدمه بعد إحراز
ما أخذ في لسان الدليل عنوان من العالم مثلا، فالذي يحتاج إليه هو إحراز عنوان
362

العام بعد التخصيص، من دون حاجة إلى إحراز سائر العناوين من الرومية
والزنجية مثلا.
وحاصل الكلام: أن ما أخذ في مصب العموم مع قطع النظر عن ورود
المخصص عليه كان يتساوى فيه وجود كل عنوان مع عدمه، ولم يكن معنونا
بعنوان أصلا الذي هو معنى الارسال والاطلاق، وكان مصب العموم هو بنفسه
كبرى كلية وهو معنى أصالة العموم والاطلاق، وبعد ورود التخصيص يخرج
مصب العموم عن هذا التساوي بالنسبة إلى خصوص ما أخرجه المخصص، وتكون
الكبرى الكلية ما عدا الخاص وتدور مدار نقيضة، ولكن بالنسبة إلى سائر
العناوين بعد باق على حاله من التساوي وعدم المدخلية، وحينئذ يكون اللازم هو
إحراز نقيض الخارج، ولا يكفي إحراز أي عنوان بعد ما كان ذلك العنوان المحرز
مما لا دخل له في مصب العموم، وكان وجوده وعدمه سيان، فقوله " العام
المخصص بالمنفصل يكون معنونا بكل عنوان، ويكفي في ترتب الأثر إحراز أي من
العنوان لم يكن ذلك بعنوان الخاص " مما لا يستقيم، بل لا بد من إحراز نقيض
الخارج الذي يكون هو الموضوع للأثر بعد التخصيص، فتأمل جيدا.
فيكون ما في ذيل رواية محمد بن إسماعيل (1) من التعليل في قوة التصريح بأن
غير المسوخ أيضا لا يجوز الصلاة فيه، نعم دلالته على المنع بالنسبة إلى جميع أفراد
غير المسوخ إنما يكون بالاطلاق، وتخصيص مثل هذا الاطلاق المؤيد بإطلاقات
أدلة الباب وفتاوى الأصحاب بخصوص ما إذا كان الحيوان آكل اللحم بعيد
غايته، مع ما عرفت من أن دلالة التعليل في رواية ابن أبي حمزة (2) على الجواز فيما

(1) الوسائل: ج 3 ص 251 باب 2 من أبواب لباس المصلي، ح 7.
(2) الوسائل: ج 3 ص 252 باب 3 من أبواب لباس المصلي، ح 3.
363

إذا لم يكن آكل اللحم إنما هو لأجل دلالته على الانحصار المستفاد من مقدمات
الحكمة، ويكفي في عدم جريان مقدمات الحكمة وعدم الانحصار إطلاق ما في
رواية محمد بن إسماعيل (1) فتأمل.
وعلى كل حال فالظاهر ثبوت الملازمة بين حرمة الأكل وفساد الصلاة كما
عليه المعظم، فتكون هي الأصل في المسألة إلا أن يقوم دليل بالخصوص على
خلاف ذلك، كما في السنجاب والخز حيث قام الدليل على جواز الصلاة فيهما
بلا معارض كما عليه المعظم أيضا، وفيما عدا ذلك فهو بعد باق على الأصل في
المسألة من عدم الجواز، وقيام الدليل على الجواز بالنسبة إلى بعض الأفراد مثل
الفنك والسمور فهو معارض بمثله من عدم الجواز، وعلى تقدير عدم المعارض فلا بد
من حمله على التقية مع إعراض الأصحاب عنه، لأن الجواز في غير المأكول هو
مذهب العامة، تأمل جيدا.
تنبيه:
قال شيخنا الأستاذ مد ظله: إن الخز الذي كان معمولا أخذ اللباس منه في
زمن الأئمة عليهم السلام غير الخز المعروف في هذا الزمان، فإن الذي يظهر من
بعض الأخبار والتواريخ أن الألبسة الخزية التي كانت في ذلك الزمان كانت
تعمل من وبر الخز، وكان وبره أما نفسيا غالي القيمة، وهو في منتهى اللطافة،
وكان ينسج من وبره الأقمشة كالعمامة والقباء وغير ذلك، وهذا الخز المعروف في
هذا الزمان غير قابل لأن ينسج من وبره شئ، وعليه لا يلحقه حكم الخز، بل هو
شئ آخر يلحق بالمشتبه، فإن جوزنا الصلاة في المشتبه فهو، ولكن بعد إحراز

(1) الوسائل: ج 3 ص 251 باب 2 من أبواب لباس المصلي، ح 7.
364

تذكيته إن كان مما له نفس سائلة، وإن لم نجوز الصلاة في المشتبه كانت الصلاة
فيه فاسدة، فتدبر. ولعله يأتي لبيان حكم الخز والسنجاب مزيد توضيح.
المشهور بين الأصحاب اعتبار الإباحة في لباس المصلي، وقد ادعي الاجماع
على ذلك، خصوصا الساتر منه حيث تكرر نقل الاجماع على بطلان الصلاة في
الساتر المغصوب. والظاهر أنه لا خصوصية للساتر بل حاله في ذلك حال سائر اللباس.
وتوهم أن الستر حيث كان مأمورا به في الصلاة وشرطا لصحتها، وذلك
لا يجامع كونه منهيا عنه لغصبية ما يستر به، فلا بد من فساد الصلاة عند التستر
بالمغصوب، إما لاندراجه في باب النهي عن العبادة ولو لشرطها، وإما لاندراجه
في باب اجتماع الأمر والنهي مع غلبة جانب النهي، كما هو الشأن في جميع موارد
اجتماع الأمر والنهي، حيث يقدم جانب النهي بناء على الامتناع، لأن إطلاق
النهي يكون شموليا، واطلاق الأمر بدليا، وكلما دار الأمر بين الاطلاق الشمولي والاطلاق
البدلي فالاطلاق الشمولي مقدم، كما أوضحناه في محله، ففساده غنى عن البيان.
أما أولا: فلأن ما هو الواجب والشرط في الصلاة هو الستر بمعناه الاسمي
المصدري، وهو الإضافة اللاحقة للصلاة من جهة الستر، والأثر الحاصل من
التستر وهو كون الشخص مستورا، وما هو المنهي عنه هو الستر بمعناه المصدري، وهو
التستر واللبس الذي يتحقق الغصب به، فلا يندرج التستر بالمغصوب لا في باب
النهي عن العبادة، ولا في باب اجتماع الأمر والنهي، لأن النهي تعلق بأمر خارج
عما هو الشرط في الصلاة، فلا الشرط منهي عنه، ولا هو متحد مع النهي عنه.
وأما ثانيا: فلأنه لو سلمنا أن ما هو الشرط في الصلاة هو الذي تعلق به النهي،
أو اتحد مع المنهي عنه، ولكن ليس كل شرط تعلق النهي به إما لنفسه وإما
لاتحاده مع المنهي عنه يوجب فساد الصلاة، بل ذلك مقصور بالشرط العبادي
الذي يعتبر فيه قصد التقرب والامتثال، كالطهارات الثلاث مثلا، وأما الشروط
365

التوصلية التي لا يعتبر فيها ذلك فتعلق النهي بها ووقوعها على صفة التحريم
لا توجب فساد العبادة المشروطة بها، غايته أنه فعل محرم في الصلاة مع اشتمال
الصلاة على شرطها من التستر مثلا، فلا موجب لفساد الصلاة، ولا إشكال أن
شرطية الستر ليس من الشروط التي يعتبر فيها قصد الامتثال، بل إنما هو من
الشروط التوصلية، ولذا يكتفي به مع وقوعه عن غير قصد وبلا نية، فمجرد كون
الستر شرطا في الصلاة لا يوجب له خصوصية بها يمتاز عن سائر اللباس، فينبغي
عقد البحث في كلي اللباس.
والظاهر أنه ليس في المقام نص بالخصوص يدل على اعتبار الإباحة في لباس
المصلي، وما ورد في بعض الأخبار من وصية علي عليه السلام لكميل: انظر فيما
تصلي وعلى ما تصلي إن لم يكن من وجهه وحله فلا قبول (1). فلا دلالة فيه على
ذلك، لعدم ظهور قوله عليه السلام " فلا قبول " في الحكم الفقهي، حتى يكون
عدم القبول مستتبعا للإعادة والقضاء، بل هو محمول على الحكم الأخلاقي.
وبالجملة: الظاهر أنه ليس فيما بأيدينا من الأدلة ما يدل على اعتبار الإباحة
في لباس المصلي، فلا بد من ملاحظة ما تقتضيه القاعدة، وليس لنا في المقام
قاعدة تقتضي ذلك سوى مسألة اجتماع الأمر والنهي، فإن أمكننا إدراج المقام
في باب اجتماع الأمر والنهي بالنسبة إلى أجزاء الصلاة، بأن يتحد الجزء
الصلاتي مع التصرف في المغصوب فهو، وإلا كان مقتضى القاعدة عدم
اشتراط اللباس ذلك، وإن ادعي عليه الاجماع، لكن الاجماع موهون بنقل الخلاف.
والذي يقتضيه النظر هو إمكان إدراج المسألة في باب اجتماع الأمر والنهي
بالنسبة إلى بعض أجزاء الصلاة، وهو الجزء الركوعي والجزء السجودي بيان ذلك

(1) الوسائل: ج 3 ص 423 باب 2 من أبواب لباس المصلي، ح 2.
366

هو أنه لا إشكال بعد البناء على ركنية القيام المتصل بالركوع الذي معناه أن
يكون الركوع عن قيام أن الهوي من القيام إلى الركوع يكون من أجزاء الركوع،
ويكون الركوع حينئذ من مبدأ الانحناء إلى أن يصل إلى حد الراكع، لا أن الركوع
عبارة عن نفس الهيئة ويكون الهوي مقدمة وجودية له، فيكون الهوي والانحناء
خارجا عن أفعال الصلاة، كما قال به العلامة الطباطبائي (1) في منظومته " إذا لهوي
فيهما مقدمة.. إلخ " إذ الالتزام بذلك ينافي القول بركنية القيام المتصل بالركوع،
إذ معنى ركنية ذلك كما عرفت هو أن يكون الركوع عن قيام، وذلك لا يجتمع
مع مقدمية الهوي، إذ لازم القول بمقدمية الهوي هو أنه لا يعتبر الهوي بقصد الركوع،
بل لو هوى لا بمقصد الركوع فلما وصل إلى حد الركوع قصد الركوع لكان ذلك
مجزيا، وهذا المعنى ينافي اعتبار كون الركوع عن قيام الذي هو معنى ركنية القيام
المتصل بالركوع، فإن كون الركوع عن قيام هو أنه من مبدأ تقوسه وانحنائه مشتغلا
بالركوع إلى أن يصل إلى حد الراكع.
وبالجملة: لا محيص بعد الالتزام بركنية القيام المتصل بالركوع كما لا محيص
عنه من القول بأن الهوي من القيام إلى الركوع من أفعال الصلاة، وليس مقدمة
خارجة عنها. ومن هنا من جمع بين ركنية القيام المتصل بالركوع وبين مقدمية
الهوي فقد جمع بين ما لا يمكن الالتزام به. وإذ قد ظهر أن الهوي من القيام يكون
من أفعال الصلاة فيكون الهوي عند تلبسه بالمغصوب تصرفا في المغصوب ومتحدا
معه، بحيث يحمل على هذا الهوي بالحمل الشائع الصناعي أنه تصرف
بالمغصوب، فيجتمع الأمر والنهي في هذا الجزء الصلاتي الذي ملاكه الاتحاد
بحسب الخارج، فيكون حال الهوي كحال الصلاة في المكان المغصوب من حيث

(1) الدرة النجفية: ص 123 في الركوع.
367

الاتحاد، وبعد البناء على تقديم جانب النهي في موارد اجتماع الأمر والنهي
تكون الصلاة باطلة ولو باعتبار جزئها من الهوي. هذا بالنسبة إلى الركوع.
وأما بالنسبة إلى السجود فإن بنينا على أن السجود عبارة عن نفس كون
الجبهة على الأرض والهوي إليه، من مبدأ حدوثه إلى أن تصير الجبهة على الأرض
مقدمة خارجية، فلا اتحاد بينه وبين التصرف في الغصب أبدا كما لا يخفى. وإن
بنينا على أن السجود من مقولة الفعل، الذي هو عبارة عن وضع الجبهة على
الأرض لا كون الجبهة على الأرض، فبمقدار ما يتحقق به الوضع وهو قبيل صيرورة
الجبهة على الأرض يتحقق الاتحاد بين التصرف في المغصوب وبين الوضع الذي
يكون فعلا سجوديا، وهذا هو الأقوى، لأنه يعتبر في السجود وضع الجبهة على
الأرض لا مطلق كون الجبهة على الأرض، ففي الجزء السجودي أيضا يتحقق
اجتماع الأمر والنهي، وتبطل الصلاة من أجله بعد البناء على تغليب جانب
النهي. وهذا بالنسبة إلى الجزء الركوعي والسجودي.
وأما بالنسبة إلى سائر الأجزاء فلا اتحاد فيها بين الأمر والنهي ولا اجتماع،
بداهة أن القيام عبارة عن الهيئة الحاصلة للقائم، وهذا هو الذي يكون جزء
للصلاة، وكذا الجلوس للتشهد، والهيئة لم تتحد مع التصرف في المغصوب، بل إنما
يكون التصرف من المقارنات لها.
ثم لا يخفى عليك أن ما قلناه من الاتحاد في الجزء الركوعي والسجودي إنما
هو موجبة جزئية وفي بعض اللباس، وهو ما يتحرك بالحركة الركوعية والسجودية،
وذلك إنما يكون بالنسبة إلى ما على المصلي من اللباس في النصف العالي من
بدنه، فإن هذا المقدار هو الذي يتحرك بالحركة الركوعية عند الهوي إليه، وأما
ما في أسافل بدنه كالسراويل فلا يتحرك بالحركة الركوعية أصلا، هذا بالنسبة إلى
الركوع. وأما بالنسبة إلى السجود، فبالنسبة إلى ما يكون في أعالي بدنه أيضا
368

لا يتحرك بالحركة السجودية التي هي قبيل وصول الجبهة إلى الأرض بالمقدار
الذي يصدق عليه الوضع، بل ما يتحرك بهذه الحركة إنما هو مثل العمامة مثلا
وما يكون بمثابها.
فتحصل من جميع ما ذكرنا: أن إطلاق القول باعتبار الإباحة في لباس
المصلي مما لم يقم عليه دليل، وإنما يصح ذلك موجبة جزئية وهو بالنسبة إلى
خصوص الركوع والسجود، وذلك أيضا ليس على إطلاقه، بل بالنسبة إلى بعض
اللباس وهو ما يتحرك بحركتهما، ولازم ذلك هو أنه لو لبس المغصوب في الصلاة
ونزعه عند إرادة الركوع والسجود لكانت صلاته صحيحة، بل لازم ذلك جواز
لبس مثل السراويل وغيرها مما لا يتحرك بالحركة الصلاتية مطلقا ولو في حال
الركوع والسجود، هذا. ولكن الاحتياط لا ينبغي تركه، خصوصا بعد ذهاب
المشهور على اعتبار الإباحة في اللباس، بل في المصاحب من غيره.
بقي الكلام في حكم الناسي بالموضوع، والجاهل به، والجاهل بالحكم
تقصيرا أو قصورا وضعا أو تكليفا، والناسي بالحكم كذلك. فنقول: المشهور هو
أن الجاهل بالموضوع تصح صلاته، وكذا الناسي له على إشكال في خصوص
الغاصب، يأتي بيانه إن شاء الله وأما الجاهل بالحكم الوضعي من بطلان الصلاة
في المغصوب، وكذا الناسي له، فمما لا أثر له، بل المدار على الجهل والعلم بالحكم
التكليفي. وأما الجاهل بالحكم التكليفي، فإن كان عن تقصير فهو بحكم العامد
العالم من بطلان صلاته، وإن كان عن قصور فهو بحكم الجاهل بالموضوع من
صحة صلاته. وأما الناسي بالحكم فهو ملحق بالجاهل به. هذا ما ذهب إليه
المشهور على ما حكي عنهم.
وينبغي من تقديم مقال به يتضح الوجه فيما ذهبوا إليه، وحاصله: أنه قد
ذكرنا في محله من أن البحث عن جواز اجتماع الأمر والنهي وامتناعه يقع
369

من جهتين:
الأولى: البحث عن ذلك من حيث وحدة المتعلق، وأنه هل يلزم في مورد
الاجتماع من تعلق الأمر بعين ما تعلق به الآخر، وسراية كل من الأمر والنهي إلى
متعلق الآخر، أو أنه لا يلزم ذلك وإن تصادقا خارجا على شئ واحد؟ وبعبارة
أخرى: بعد تصادق الصلاة والغصب على المجمع المأتي به، يقع البحث في أن
هذا التصادق هل هو من باب التركيب الاتحادي، حتى يلزم تعلق كل منهما
بعين ما تعلق به الآخر، أو أنه من باب التركيب الانضمامي حتى لا يلزم ذلك؟
الجهة الثانية: بعد الفراغ عن الجهة الأولى، وأن التركيب على نحو الانضمام،
وعدم سراية كل منهما إلى متعلق الآخر، يقع الكلام في الجهة الثانية من اعتبار
المندوحة، وأنه عند المندوحة وقدرة المكلف على الصلاة في غير المغصوب، هل
يكون مورد التصادق مأمورا به ومنهيا عنه بالفعل، أو لا يكون إلا أحدهما؟ فإن
قلنا بالامتناع من الجهة الأولى، وسراية كل من الأمر والنهي إلى متعلق الآخر،
فيكون مسألة اجتماع الأمر والنهي من صغريات باب التعارض، ولا ربط له
بباب التزاحم، فإن الضابط في باب التعارض هو امتناع صدور الحكمين ثبوتا وفي
عالم التشريع وتعلق إرادة المولى، من دون أن يكون لقدرة المكلف وعدم قدرته
دخل في ذلك، والامتناع من الجهة الأولى إنما يكون في عالم الثبوت والتشريع
حيث يستحيل أن يأمر المولى بعين ما ينهى عنه، وتعلق كل من إرادة الفعل
والترك بالنسبة إلى شئ واحد، سواء كان هناك مكلف أو لم يكن، قدر
المكلف على الجمع بينهما أو لم يقدر، كما هو واضح.
وحينئذ لو بنينا على الامتناع من الجهة الأولى، وقدمنا في مقام التعارض
جانب النهي، كما لا محيص عنه، لما تقدمت الإشارة إليه من أن الاطلاق الشمولي
الذي هو مفاد النهي مقدم في مقام التعارض على الاطلاق البدلي الذي هو مفاد
370

الأمر، كتقدم العام الاستيعابي على الاطلاق الشمولي تكون المسألة من
صغريات باب النهي عن العبادة، ويلزمه القول بفساد العبادة مطلقا حتى مع
الجهل بالموضوع أو نسيانه، وذلك لأنه بعد ما كانت المسألة من صغريات باب
التعارض مع تقديم جانب النهي، فتكون جهة الأمر ثبوتا مغلوبة وجهة النهي
غالبة، كما هو الشأن في كل مورد يقع التعارض بين الأمر والنهي مع تغليب
جانب النهي، وإن لم يكن التعارض من باب اجتماع الأمر والنهي، بل كان
التعارض لجهة أخرى غير مسألة الاجتماع، بل هذا هو الشأن في كل متعارضين
قدم أحدهما على الآخر وإن لم يكن التعارض بين الأمر والنهي، فإن تقديم أحد
المتعارضين على الآخر يكشف إنا عن غلبة ملاكه ومغلوبية ملاك الآخر، لو كان
فيه ملاك مع قطع النظر عن المعارضة، وبعد ذلك لا يمكن تصحيح متعلق
المعارض المغلوب لو كان عبادة لا بالأمر ولا بالملاك، لعدم الأمر به حسب
الفرض بعد تقديم النهي، وملاكه لو كان فهو مغلوب بملاك النهي، والملاك
المغلوب بأقوى منه لا يوجب صحة العبادة، فلا يمكن تصحيح العبادة بشئ من
الأمر والملاك مع توقف صحة العبادة على أحدهما لا محالة.
لا يقال: إنه عند الجهل بالموضوع أو نسيانه يسقط النهي لا محالة، فلا مانع من
الصحة حينئذ. فإنه يقال: النهي وإن سقط بالجهل والنسيان إلا أن ملاكه لم
يسقط بذلك، لعدم تصرف الجهل بالملاك في مثل ما نحن فيه مما كان من باب
التعارض الذي ملاكه وقوع المعارضة في عالم التشريع وعالم تعلق إرادة الآمر،
الذي لا دخل لإرادة الفاعل وعلمه وجهله بذلك، فإذا كان ملاك النهي باقيا
فالفساد إنما يستند إليه لا إلى النهي الساقط بالجهل، ولتفصيل الكلام محل آخر.
هذا كله لو بنينا على الامتناع من الجهة الأولى.
وأما لو بنينا على الامتناع من الجهة الثانية، فقد عرفت أنه يكون حينئذ نم
371

صغريات باب التزاحم ويخرج من باب التعارض، فإن معنى الجواز في الجهة
الأولى هو عدم سراية كل من الأمر والنهي إلى متعلق الآخر، وأن التركيب في
مورد التصادق والاجتماع انضمامي، ففي عالم الثبوت والإرادة لا مانع من تشريع
مثل هذا الأمر والنهي، لعدم تعلق الإرادة بفعل شئ وترك ذلك، بل تعلقت
الإرادة بفعل شئ وترك شئ آخر وإن تصادقا في الخارج، ففي ناحية الثبوت
لا مانع من الاجتماع فيخرج عن باب التعارض.
نعم في ناحية قدرة الفاعل، وتعلق إرادته بفعل متعلق الأمر وترك متعلق
النهي، يقع التزاحم بينهما في مورد التصادق، لعدم قدرة المكلف من امتثال كل
من الأمر والنهي مع اتحاد المتعلق خارجا، لكن هذا مع اشتمال كل من الأمر
والنهي على تمام ما هو ملاكه، فإنه بعد عدم المانع من تشريع الحكمين ثبوتا يكون
الملاك في كل منهما على حاله من دون وقوع كسر وانكسار بينهما، وقدرة المكلف
وعدمها لا توجب تصرفا في الملاك أصلا، كما هو الشأن في كل متزاحمين، فتكون
مسألة الاجتماع بناء على الامتناع من الجهة الثانية والجواز من الجهة الأولى من
صغريات باب التزاحم، ويجري فيها ما يجري في كلي باب التزاحم من ملاحظة
المرجحات، وحيث كان النهي سريانيا والأمر صرف الوجود فلا محيص من تقديم
جانب النهي، وخروج الفرد من الصلاة المبتلى بالمزاحم عن تحت إطلاق متعلق
الأمر، لأن النهي بسريانيته يصلح أن يكون تعجيزا مولويا عن متعلق الأمر
بخلاف العكس، فتأمل جيدا.
ثم إن من لوازم باب التزاحم هو أن تقديم أحد المتزاحمين على الآخر لأحد
موجباته إنما يكون في صورة العلم بالحكم والموضوع، لأن التزاحم إنما يقع عند
ذلك، وإلا فوجود الواقعي للحكم مما لا أثر له في باب التزاحم، بل لا بد من
وجوده العلمي، مثلا لو لم يعلم بأن هناك غريقا آخر، لا يمكن أن يزاحم وجود
372

واقعي " أنقد الغريق " للغريق الذي علم به حكما وموضوعا، بل اللازم عليه فعلا
هو إنقاذ ما علم كونه غريقا ليس إلا، وهذا بخلاف باب التعارض، لما عرفت
من أن التعارض إنما يكون بين الوجود الواقعي وفي عالم الإرادة الآمرية والتشريع
من دون أن يكون لعلم المكلف وجهله دخل في ذلك، ولتوضيح المقال محل آخر،
والغرض في المقام مجرد الإشارة إلى ما يبتني عليه مسألتنا من الصلاة في المغصوب
عند الجهل والنسيان.
وإذا عرفت ما ذكرناه، ظهر لك الوجه فيما ذهب إليه المشهور من صحة صلاة
الجاهل بالموضوع، والناسي له، والجاهل بالحكم التكليفي قصورا، وبطلان صلاة
العامد العالم، والجاهل بالحكم تقصيرا، فإن ذهابهم إلى ذلك إنما هو لبنائهم على
الجواز من الجهة الأولى كما هو المشهور بينهم أيضا على ما نسب إليهم في الأصول
والامتناع من الجهة الثانية، وذلك بعد الإحاطة بما قدمناه واضح.
أما الصحة عند الجهل بالموضوع ونسيانه فواضح، لما عرفت من أن النهي في
الجهة الثانية إنما يقدم على الأمر بوجوده العلمي لا بوجوده الواقعي، لأنه بوجوده
الواقعي لا يزاحم الأمر بعد تمامية ملاكه، كما عرفت من أن ذلك من لوازم
التزاحم، وأن مسألة الاجتماع من الجهة الثانية تكون من صغرى باب التزاحم،
والجاهل بالغصبية وإن لم يسقط النهي عنه واقعا إلا أنه غير منجز عليه، فلا مانع
من صحة صلاته بعد استمالها على تمام الملاك، وكذا الناسي لها، بل هو أولى
بالصحة، لسقوط النهي عنه واقعا، وكذا الكلام بالنسبة إلى الجاهل بالحكم عن
قصور، فإنه كالجاهل بالموضوع من حيث كون النهي غير منجز عليه.
وأما بطلانها في صورة العلم بالحكم والموضوع، أو الجهل بالحكم فقط لكن
عن تقصير، فلتنجز النهي عليه، فتقع الصلاة منه مبغوضة، وما وقع مبغوضا
لا يمكن أن يكون مقربا.
373

فإن قلت: بعد الالتزام بأن مورد الاجتماع مشتمل على كل من ملاك الأمر
والنهي، كما هو لازم باب التزاحم، ومجرد تقديم جانب النهي لا يوجب عدم
اشتمال الصلاة على ملاكها، وإلا لخرج عن باب التزاحم ودخل في باب
التعارض، وحينئذ لا مانع من تصحيح الصلاة بالملاك، وإن عوقب على فعل
الغصب، كما هو الشأن في كل متزاحمين قدم أحدهما على الآخر، كتقديم الإزالة
على الصلاة، ولكن مع ذلك تقع صلاته صحيحة لو خالف وترك الإزالة.
وحاصل الكلام: أنه بعد الفراغ من الجهة الأولى والبناء على الجواز فلا معنى
للقول ببطلان صلاة الجاهل المقصر، بل وكذا العالم بعد الاعتراف بأن مورد
التصادق مشتمل على تمام ملاك الأمر، وبعد تصحيح العبادة بالملاك كما في
نظائر المقام من سائر موارد التزاحم.
قلت: نعم وإن كان مورد التصادق مشتملا على تمام ما هو ملاك الأمر، إلا
أن مجرد ذلك لا يكفي في المقربية بعد اتحاده وابتلائه بما يقع فعلا من المكلف
مبغوضا عليه من التصرف في المغصوب، وما قلنا من تصحيح العبادة بالملاك إنما
هو فيما إذا لم يكن بهذه المثابة.
وتفصيل ذلك هو أن التزاحم على أقسام خمسة.
الأول: تزاحم الضدين كالتزاحم بين الإزالة والصلاة.
الثاني: التزاحم بين المقدمة وذيها إذا كان أحدهما واجبا والآخر محرما.
الثالث: تزاحم المتلازمين في الوجود فيما إذا كان التلازم اتفاقيا، كما إذا
فرض وجوب استقبال القبلة وحرمة استدبار الجدي مع أنهما متلازمان في العراق
وما والاها.
الرابع: تزاحم المتحدين في الوجود، كما فيما نحن فيه من تزاحم الصلاة
والغصب عند التصادق والاتحاد.
الخامس: تزاحم الواجبين في ناحية قدرة الكلف، من دون أن يكون بينهما
374

تضاد ولا اتحاد ولا تلازم ولا مقدميته وذيها، وذلك كما في تزاحم القيام في الركعة
الأولى والثانية، أو في بعض الركعة، كما إذا دار أمره بين القيام في الركعة الأولى
والجلوس في الثانية والعكس، أو دار أمره بين القيام في أول الركعة والجلوس في
آخرها وبالعكس.
وهذه الأقسام الخمسة بعد اشتراكها في التزاحم تختلف من حيث تصحيح
العبادة بالملاك، فإن في القسمين الأولين، وهما التزاحم بين الضدين والمقدمة
وذيها، يمكن تصحيح العبادة بالملاك، فلو فرض أنه ترك الإزالة مع كونها أهم
من الصلاة وصلى بداعي الملاك تقع صلاته صحيحة، وكذا لو أتى بالمقدمة
المحرمة مع كونها أهم وفعل ذي المقدمة الواجب بداعي الملاك صحت وإن
عصى بترك الإزالة وفعل المقدمة.
والسر في ذلك هو أن الصلاة، وكذا في المقدمة، حيث كان لها وجود
استقلالي لا ربط له بالإزالة والمقدمة، ومشتملة على تمام الملاك، فلا مانع عند
العقل من التقرب بها وصحتها بداعي الملاك، ومجرد عصيانه في ترك الإزالة
وفعل المقدمة لا يمنع عن ذلك، فهو نظير من شرب الخمر وصلى، أو ترك الحج
وصلى، ومجرد إمكان الاجتماع في الوجود كما في الأمثلة وعدم إمكانه كما فيما
نحن فيه لا يصلح فارقا من الجهة التي نحن فيها، وكما يمكن تصحيح العبادة في
هذا القسمين بالملاك كذلك يمكن بالأمر الترتبي، بناء على المختار من إمكانه.
وأما القسم الخامس فلا يمكن تصحيح العبادة بالملاك، مثلا لو كان يجب
عليه حفظ قدرته على القيام في آخر الركعة لئلا يفوت منه القيام المتصل بالركوع،
لكونه أهم من القيام في أول الركعة والجلوس في آخرها مع استلزامه فوات القيام
المتصل بالركوع، فلو خالف وقام في أول الركعة وجلس في آخرها كان مقتضى
القاعدة بطلان صلاته، لأنه زاد في أول الركعة قيام لم يكن واجبا عليه، ونقص
375

في آخرها قياما واجبا عليه، فهو كمن تعمد بالقعود في آخر الركعة مع قدرته على
القيام الذي لا إشكال في بطلان صلاته، ففي القسم الخامس مع كونه من باب
التزاحم لا يمكن [تصحيح] العبادة بالملاك.
وأما القسم الثالث وهو ما إذا كان التزاحم بين المتلازمين، ففي تصحيح
العبادة بالملاك إشكال، وذلك فلأن أحد المتلازمين العبادي وإن كان له وجود
استقلالا، واشتمل على الملاك، وكان ما بحذائه في الخارج غير ما بحذاء ملازمه
الآخر، إلا أن اكتفاء العقل بالامتثال بمثل هذه العبادة التي لازمت ما يكون
مبغوضا للمولى محل إشكال، إذ ليس لنا دليل لفظي يتمسك بإطلاقه على أن
كلما تحقق الملاك في العبادة صحت، بل تصحيح العبادة بالملاك إنما هو عقلي،
وحكمه بصحة أحد المتلازمين إذا كان عبادة، مع أن ما يلازمه مبغوضا فعليا
للمولى، وعدم انفكاك إرادة أحد المتلازمين عن إرادة الآخر غالبا ولو تبعا، غير
معلوم.
فإذا كان هذا حال القسم الثالث فما ظنك بالقسم الرابع! وهو ما إذا
اتحدت العبادة مع ما هو مبغوض للمولى فعلا، فإن تصحيح مثل هذا بالملاك،
مع أن ما يصدر منه فعلا مبغوضا للمولى ومعاقبا عليه، مما لا يمكن، وكيف يمكن
ذلك مع أن الوجود من المكلف في الخارج متحد ماهية ووجودا، وقد تعلقت به
إرادة الفاعل بما هو عليه من المبغوضية الفعلية والتفاته إلى ذلك أو عدم التفاته على
وجه لا يعذر فيه؟
وبالجملة: لا يمكن تصحيح هذه العبادة المتحدة مع المبغوض الفعلي بالملاك،
ولا يمكن أن تكون مقربة مع تعلق إرادة الفاعل بما يصدر منه مبغوضا عليه مع ما هو
عليه من الاتحاد.
فإن قلت: نعم إرادة الفاعل وإن تعلقت بالمبغوض الفعلي من التصرف
376

بالغصب، إلا أنها تعلقت بما هو مشتمل على ما يكون فيه ملاك المحبوبية أيضا من
امتثال الأمر الصلاتي المتعلق بالطبيعة دون الفرد، وتشخص الصلاة بما يكون
مبغوضا لا يوجب عدم تحقق الامتثال بالطبيعة بعد ما كانت الخصوصيات الفردية
خارجة عن دائرة متعلق الأمر، فليكن هذا العبد مطيعا من حيث إرادته إيجاد
طبيعة الصلاة امتثالا لأمرها، وعاصيا من جهة إرادة الشخص الذي يكون
مبغوضا.
قلت: لو كان إرادة الفاعل بإيجاد الطبيعة قد تعلقت بها مستقلا، وكانت
إرادته ذلك مغايرة لإرادته الشخص المبغوض، بأن كان له إرادتان مستقلتان
منحازتان، قد تعلقت أحدهما بالطبيعة والأخرى بالفرد، أمكن أن يقال ذلك.
مع أن ذلك أيضا على إطلاقه ممنوع، لما عرفت من أن المسلم من تصحيح العبادة
بالملاك هو ما كانت العبادة لها وجود استقلالي خارجا وإرادة من دون أن تكون
ملازمة بينها وبين المبغوض، وعلى كل حال في صورة الاتحاد لم تكن هناك
إرادتان للفاعل مستقلتان منحازتان في الخارج، بل ليس هناك إلا إرادة واحدة
قد تعلقت بإتيان ما يكون مجمع العوانين مع ما هو عليه من المبغوضية والاتحاد،
فكيف يكون إرادة إيجاد مثل هذه الطبيعة مقربا مع أنه أسوأ حالا من المتلازمين
في الوجود الذي قد عرفت الاشكال فيه؟ مع أن في المتلازمين كانت إرادة أحد
اللازمين مغايرة لإرادة الآخر، غايته أنه متلازمين في الإرادة، وفي المقام لم يكن
الإرادة واحدة تعلقت بالمبغوض الفعلي.
فإن قلت: إذا لم تكن إرادة الطبيعة مغايرة لإرادة المجمع، وكانت هناك
إرادة واحدة قد تعلقت بالمحبوب والمبغوض، فكيف جوزتم الاجتماع من الجهة
الأولى؟ وهل لازم ذلك إلا تعلق الإرادة بعين ما تعلقت به إرادة الآخر؟
قلت: الكلام في الجهة الأولى إنما كان في إرادة الآمر في مقام التشريع،
377

وحيث كان في ذلك المقام الخصوصيات الفردية خارجة عن تعلق إرادة الآمر
بها، بل تعلقت بالطبيعة الصلاتية وطبيعة الغصبية، فلا يلزم في مقام تعلق إرادة
الآمر من اجتماع الإرادتين وتعلق كل بعين ما تعلق به الآخر، وهذا بخلاف
الكلام من الجهة الثانية، فإنها في مقام تعلق إرادة الفاعل، الذي لا يمكن في هذا
المقام من تعلق إرادته بالطبيعة الصرفة من دون أن تتعلق بالفرد المبغوض.
فإن قلت: فما معنى قولهم إن المشخصات الفردية خارجة عن متعلق الإرادة
وغير ملتفت إليها؟
قلت: مرادهم من ذلك الخصوصيات اللاحقة لنفس الفرد في حال وجوده،
كتشخص الصلاة بالخصوصية الكذائية عند وجودها، وأما الخصوصيات اللاحقة
لنفس الطبيعة، كإيجاد الطبيعة في زمان كذا أو في مكان كذا، فمما لا يمكن عدم
تعلق الإرادة الفاعلية بها، بل لا بد من تعلق الإرادة بها.
وحاصل الكلام: أن إرادة الطبيعة في ضمن الفرد المحرم مما لا يمكن أن
يكون مقربا، لصدوره منه مبغوضا عليه، وبذلك ظهر أنه ليس وجه فساد صلاة
العالم بالموضوع والحكم هو عدم إمكان تمشي قصد القربة منه، فإن ذلك مع
كونه مقصورا بالعالم دون الجاهل المقصر على إطلاقه ممنوع، فإن العالم ربما يمكن
تمشي قصد القربة منه فلا يكن هذا مانعا عن الصحة، بل المانع ما ذكرناه من
أنه عند العلم والجهل الذي لا يعذر فيه فلا يقع الفعل مبغوضا عليه، من جهة
قصده إيجاد الطبيعة في ضمن الفرد المحم الفعلي. وهذا بخلاف الجاهل المعذور
أو الجاهل بالموضوع والناسي له، فإنه لمكان عدم قصده ذلك، إما لعدم كونه
محرما عليه واقعا كالناسي للموضوع، وإما لعدم منجزية النهي كالجاهل به أو
بالحكم مع كونه معذورا، كانت عبادته صحيحة، هذا بالنسبة إلى غير الغاصب.
وأما بالنسبة إلى نفس الغاصب فقد يقال: إن نسيانه للموضوع لا يوجب
378

صحة صلاته، ووجهه بعض بأنه غير معذور في نسيانه، إما لانصراف أدلة رفع
النسيان إلى غير ذلك، وإما لأنه كان يجب عليه الحفظ والذكر حتى يرد مال
الناسي إلى أهله، فبتركه الحفظ والذكر الذي أوجب النسيان صار نسيانه مما
لا يعذر فيه، وكان تكليف لا تغصب منجزا عليه، فلا تصح منه الصلاة، هذا.
ولكن لا يخفى عليك ما في كلا الوجهين من الصعف.
أما دعوى الانصراف فمما لا شاهد عليها، إذ لا موجب له.
وأما الوجه الثاني، فعلى فرض تسليم أنه كان يجب عليه الحفظ والذكر،
فأقصاه أنه فرط في هذا الواجب وعصى بتركه، وهذا لا ينافي معذوريته في حال
النسيان، ولا يعقل أن يكون النهي منجزا عليه في حال النسيان، فإن رفع
التكليف عن الناسي عقلي لا يختص بشخص دون شخص، وحال دون حال.
ودعوى أن تصرفه في المغصوب حال النسيان كتصرفه في حال الخروج عن
الدار المغصوبة يمكن أن لا يكون معذورا فيه، مع أنه مما لا بد منه عقلا، مدفوعة
(أولا) بأن الخروج يكون مأمورا به ليس إلا ومعذورا فيه، على ما هو المختار من أن
الخروج لم يكن منهيا عنه في حال من الحالات، لأنه تخلص عن الغصب فلا يمكن
أن [يكون] منهيا عنه. (وثانيا) سلمنا ذلك إلا أن الخروج يمكن أن يقال منهيا
عنه بالنهي السابق الساقط، ويكون مقدورا تركه بترك الدخول، إلا أنه في صورة
النسيان لا يمكن ذلك، لأن الشئ في حال النسيان غير مقدور لا بنفسه
ولا بالواسطة، فإن التحفظ والمواظبة على الذكر لا يلازم عدم النسيان، فربما
الشخص يكون في كمال التحفظ والمواظبة ومع ذلك ينسى لأمر غير اختياري،
فلا يقاس باب النسيان بباب الخروج الذي هو مقدور دائما بترك الدخول، فتأمل
جيدا. فالأقوى أنه لا فرق في الصحة بين كون الناسي هو الغاصب أو غيره.
بقي في المقام بعض الفروع المرتبطة بالمقام.
379

الأول: لو وجب على الغاصب حفظ المغصوب، وتوقف حفظه على الصلاة فيه،
فالأقوى صحة صلاته، لأن المفروض أن التصرف الحاصل بالصلاة فيه مما
يجب عليه مقدمة للحفظ، ومعه لا يمكن أن يكون التصرف منهيا عنه، فلا موجب
للفساد.
ثم إن وجوب حفظ مال المغصوب عن التلف إنما هو لأجل اقتضاء الضمان
ذلك، فإنه بالغصب قد ضمن العين المغصوبة بمالها من الخصوصية الشخصية،
والخصوصية النوعية التي ينتقل إليها عند تعذر الشخصية، وذلك كما في المثليات،
والخصوصية المالية التي ينتقل إليها عند تعذر الشخصية والنوعية، كما في
القيميات.
ومعنى كون الخصوصية الشخصية في ضمانه هو أنها في عهدة الغاصب إلى
أن يردها إلى صاحبها، ولا معنى لذلك إلا وجوب ردها، ولا معنى لضمان
الخصوصية الشخصية إلا ذلك، إذ بعد ما كانت الخصوصية المثلية والمالية
ضامنا لها بنفس وضع يده على المغصوب، فلا معنى لأن يتوهم أن معنى ضمان
الخصوصية الشخصية هو أن عند تلفها ينتقل إلى المثل والقيمة، وليس معنى
ضمانها وجوب ردها، فإن الانتقال إلى المثل والقيمة ليس من لوازم ضمان
الخصوصية الشخصية، بل هو من لوازم وضع اليد على المال الذي يكون له
خصوصية نوعية وخصوصية مالية، وإلا فالخصوصية الشخصية إذا تلفت فقد
فاتت من المالك من دون أن يحصل له بإزائها شئ، فمعنى ضمان الخصوصية
الشخصية ليس إلا وجوب ردها، فإذا وجب ردها وجب حفظها مقدمة
لذلك، فإذا كان وجوب الحفظ من لوازم ضمان المغصوب، فلا يقتضي ضمان
المغصوب حينئذ حرمة التصرف المتوقف عليه الحفظ، فإن الشئ لا يمكن أن
يقتضي لازمين متدافعين، فتأمل.
380

ويمكن أن يقال: إن وجوب حفظ مال المغصوب ليس من جهة ضمانه،
بل من جهة أن وقوع مال الغير تحت اليد وإن لم تكن اليد يدا عادية
يقتضي وجوب حفظه، كما نرى وجوب حفظ المال ولو كانت اليد يد أمانة
مالكية أو شرعية، ودعوى أن كل مال وقع تحت اليد يجب حفظه ليس بكل
البعيد. نعم دعوى أن كل مال يجب حفظه وإن لم يكن تحت اليد مما
لا سبيل إليها. وعلى كل حال بعد وجوب حفظ المال المتوقف على الصلاة فيه،
إما لاقتضاء الضمان ذلك، وإما لوقوعه تحت اليد، لم يكن التصرف الصلاتي
منهيا عنه، فلا وجه لفسادها.
الثاني: لو صبغ الثوب بصبغ مغصوب، أو خاطه بخيط مغصوب، فربما قيل:
إنه لا مانع من الصلاة فيه، لعد الصبغ والخيط تالفا ويلزمه قيمته، ويشكل
ذلك بأن دعوى عد الصبغ والخيط تالف عند العرف مما لا سبيل إليها، بعدما
كان عين الصبغ والخيط موجودا في الثوب، ومجرد عدم إمكان رده إلى صاحبه
لا يقتضي ذلك ولا الانتقال إلى القيمة، فليكن شريكا بنسبة قيمة الصبغ
والخيط، وليس كل ما لا يمكن رده إلى صاحبه يعد تالفا عند العرف، بل
التالف ما خلا صفحة الوجود عنه، إما حقيقة كالحرق، وإما عرفا كالغرق في
البحر الذي يستحيل عادة إخراجه وإيصاله إلى صاحبه، وأما الصبغ والخيط
الذي هو موجود بالفعل، وما بحذاء في الخارج، ومما يشار إليه عرفا، فلا يمكن
عده تالفا والانتقال إلى القيمة.
نعم فيما لو أجبر أحد على الصبغ والخياطة مع كون الصبغ والخيط مباحا
وملكا للمكره بالكسر أمكن أن يقال: إنه لا مانع من الصلاة فيه، ويلزمه
قيمة أجرة الخياطة والصباغة، لأنه عمل محترم له أجره عند العرف، بل
استشكل شيخنا الأستاذ مد ظله في حاشيته على العروة الصلاة فيه أيضا،
381

من جهة احتمال بعض الشركة في المالية في الزيادات الحكمية كالقصارة
والخياطة، فإذا كان هذا حال الزيادة الحكمية فما ظنك في الزيادات العينية،
كما إذا كان الصبغ والخيط ملكا لغير مالك الثوب، فتأمل جيدا.
الثالث: لا إشكال في جواز الصلاة لو أذن المالك الصلاة في المغصوب حتى
بالنسبة إلى الغاصب، واحتمال منع الغاصب حتى مع إذن المالك ضعيف
جدا، وأضعف منه احتمال منع غير الغاصب أيضا، كما أن أضعف منه
احتمال منع نفس المالك أيضا مع بقاء موضوع الغصبية، إذ ليس منشأ لهذه
الاحتمالات سوى كون العين بعد مغصوبة وبالإذن لا تخرج عن الغصبية.
ولكن فيه أنه ليس لنا إطلاق يدل على منع الصلاة في المغصوب حتى يؤخذ
بإطلاقه، ويقال: ما دامت العين باقية على الغصب لا يجوز الصلاة فيها ولو
للمالك، بل لو كان هناك إطلاق لما كان دالا على ذلك، لعدم شموله
لصورة الإذن، أو انصرافه إلى غير ذلك، فتأمل جيدا. هذا تمام الكلام فيما
يتعلق باللباس المغصوب.
ومما قيل باعتباره في لباس المصلي هو أن لا يصلي فيما يستر ظهر القدم
دون الساق، ذكره جماعة من الأعلام، وقد استدل عليه بما روي مرسلا من عدم
جواز الصلاة في الشمشك بضم الأوليين وسكون الثالث، والنعل السندية (1).
ولعل قد فهموا من ذلك المثال وتعدوا عنهما إلى كل ما يغطي الساق، هذا.
ولكن الأقوى الجواز، لأن إثبات الحكم بمثل هذا المرسل الذي لم يعلم
عمل القدماء به مشكل، وعلى فرض العمل به فلم يعلم أن المنع عنهما لمكان
عدم تغطية الساق، إذ يحتمل أن يكون النهي من ذلك لأجل عدم استقرار

(1) الوسائل: ج 3 ص 311، باب 38 من أبواب لباس المصلي، ح 7.
382

الابهام على الأرض بنفسه أو بحائل في حال السجود، بل يبقى الابهام في زاوية
النعل معلقا بالهواء، كما هو المحسوس في أغلب النعول، هذا كله مضافا إلى
ما في التوقيع المروي عن الاحتجاج أن محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري
كتب إلى صاحب الزمان عليه السلام يسأله هل يجوز للرجل أن يصلي وفي
رجليه بطيط لا لا يغطي الكعبين أم لا يجوز؟ فوقع عليه السلام جائز (1). بناء على
إرادة العظمين من الكعبين فيه، وعلى كل حال الظاهر أنه لا ينبغي الاشكال
في الجواز. هذا كله فيما يعتبر في الساتر من اللباس.
وأما ما يعتبر في الستر من حيث الحل الذي يجب ستره. يجب على الرجل
ستر عورته من القبل والدبر والبيضتين، ولا يجب ستر ما زاد على ذلك،
ولا الصلاة في ثوبين. وأما المرأة فيجب ستر جميع بدنها عدا الوجه والكفين
والقدمين. وقد استدل على ستر جميع البدن بما ورد من أن نسائكم عوراتكم (2).
ولا يخفى أنه ليس المراد منه كون المرأة جميعها عورة التي هي عبارة عن سوأة
وما يستحى منه، بل المراد من كون المرأة عورة وجوب حفظها ومراعاتها،
كما هو المراد من قوله تعالى: بيوتنا عورة (3).
وربما يدعى الملازمة بين ما يجب ستره عن غير المحارم وما يجب ستره في
الصلاة، وهو جميع البدن عدا ما استثني. ولكن الانصاف أنه لم تثبت هذه
الملازمة، ولم يدل عليها دليل، والنصوص الواردة في الباب ليس إلا وجوب
ليس المرأة ثوبين في الصلاة، وهي أخبار متعددة على اختلاف بينها من حيث
جعل الثوبين في بعضها الدرع والخمار، وفي بعضها الدرع والمقنعة، وفي بعضها

(1) الإحتجاج: ج 2 ص 484 س 21.
(2) الوسائل: ج 14 ص 173 باب 131 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه، ح 1 إلا أن فيه هكذا " أن
النساء عي وعورة.. إلخ ".
(3) الأحزاب: الآية 13.
383

غير ذلك، ومعلوم أن ذلك من باب المثال، والمقصود لبسها ثوبين أحدهما يستر
أسافل البدن والآخر أعاليه، بل يكفيها ثوب واحد إذا كان ساترا للأسافل
والأعالي، والتعبير في الثوبين إنما هو لغلبة تحقق ستر ذلك بهما، وندرة الستر
بثوب واحد يكن ساترا للجميع، وحينئذ ينبغي الاقتصار بما يقتضيه طبع
الثوبين من الستر.
لا إشكال أنه لو كان هناك ثوبان، سترت بأحدهما أسافل البدن وبالآخر
أعاليه، فالذي يتحقق من الستر هو ستر جميع البدن، عدا ما استثني من الوجه
والكفين والقدمين، فما في بعض الأخبار (1) من عدم وجوب ستر الرأس مؤول
أو مطروح، لعدم العمل به، وكذا إلحاق بعض الشعر بالوجه مما لا وجه له،
مع أن المتعارف عند لبس الثوبين هو ستر الشعر أيضا، هذا مضافا إلى دعوى
الاجماع والشهرة المحققة على ذلك، فلا ينبغي الاشكال في ذلك، كما لا ينبغي
الاشكال في عدم وجوب ستر الوجه والكف والقدم، بعدما كان المتعارف عند
لبس الثوبين عدم ستر ذلك بهما، فما في بعض العبائر من وجوب ستر جميع
البدن إلا موضع السجود مما لا وجه له، وكذا لا إشكال في عدم وجوب ستر
الرأس على الأمة، لورود النص (2) على ذلك.
بقي في المقام فروع مهمة ينبغي التعرض لها.
الأول: يتحقق الستر بكل ما يكون ساترا بحسب نوعه وطبعه، ولا يلزم أن
يكون من جنس المنسوج، بل يكفي الجلد والملبد وغير ذلك من أنواع الساتر،
بل وكذا الحشيش والورق وغير ذلك. نعم في كون الحشيش والورق في عرض

(1) الوسائل: ج 3 ص 297 باب 5 من أبواب لباس المصلي، ح 5 و 6.
(2) الوسائل: ج 3 ص 297 باب 29 من أبواب لباس المصلي، ح 1 و 2.
384

المنسوج والجلد إذا عمل منه ثوبا والملبد، أو في طوله وأن الانتقال إلى ذلك
عند تعذر المنسوج وشبهه إشكال. فظاهر بعض هو العرضية، وظاهر آخر
الطولية، على اختلاف في كلماتهم في الطولية، وأن مثل الطين مثلا هل هو في
عرض الحشيش أو في طوله، وغير ذلك مما يطلع عليها المراجع.
والظاهر أن الجميع في عرض واحد، وأنه يجوز اختيارا التستر بالحشيش،
وإن مال شيخنا الأستاذ مد ظله إلى الطولية، نظرا إلى أن الظاهر من الستر
هو الستر بما يكون ساترا في جنسه وطبعه، وإلى صحيح علي بن جعفر سأل
أخاه عن رجل قطع عليه أو غرق متاعه فبقي عريانا، وحضرت الصلاة كيف
يصلي؟ قال: إن أصاب حشيشا يستر به عورته أتم صلاته بركوع
وسجود (1).. إلخ. فإن أمره عليه السلام بالتستر بالحشيش بعد فرض السائل
عدم التمكن من غيره، وعدم التمكن وإن كان في كلام السائل لا في كلام
الإمام عليه السلام، إلا أنه يشعر بأنه الانتقال إلى الحشيش إنما هو عند عدم
التمكن من غيره، فتأمل. نعم ينبغي القطع بعدم كفاية الستر باليد إلا
عند الضرورة (2).
الثاني: الستر واجب في الصلاة وإن لم يكن هناك ناظر محترم، وليس الستر
مقصورا بما إذا كان هناك ناظر، بل الستر واجب في الصلاة مطلقا، على وجه
لو كان هناك ناظر لامتنع عليه النظر إلى عورته. ويتفرع على ذلك وجوب ستر
العورة من جميع الجهات، فلو كان واقفا على سطح أو شباك، بحيث لو كان
هناك ناظر من تحت لأمكنه النظر إلى عورته، لم يتحقق منه الستر الواجب،

(1) الوسائل: ج 3 ص 326 بابا 50 من أبواب لباس المصلي، ح 1 وفيه اختلاف يسير.
(2) وسيأتي الكلام في الطين " منه ".
385

بل كان يجب عليه الستر على وجه لا يمكن للواقف من تحت النظر إلى العورة.
نعم من كان واقفا على الأرض لم يجب عليه الستر من تحت، لتحقق الستر
بالأرض، بل يجب عليه الستر من سائر الجوانب. هذا كله بالنسبة إلى الستر
عن الغير.
وأما الستر عن نفسه ففي وجوبه إشكال، فلو صلى في ثوب واسع الجيب،
بحيث لو أراد النظر إلى عورة نفسه لأمكنه ولو في بعض الأحوال، ففي الصحة
إشكال. ولا يبعد أن يقال: إن الشك في ذلك إنما هو لأجل تردد مفهوم الستر
بين الأقل والأكثر، لعدم العلم بأن الستر الواجب في الصلاة ما هو، وأنه هل
يجب الستر حتى عن نفسه أولا، وكلما رجع الشك إلى ذلك فالأصل
البراءة.
الثالث: وجوب الستر في الصلاة إنما هو وجوب شرطي لا تكليفي محض،
كما هو ظاهر الأوامر الواردة في بيان أجزاء العبادة وشرائطها، فلا تصح الصلاة
مع عدم الستر. وهل شرطيته مطلقة حتى في حال الجهل والنسيان. أو مقصورة
بصورة العلم والالتفات؟ الظاهر أن شرطيته ليست مطلقة بحيث لو جهل
بالستر أو نسيه في تمام الصلاة أو في بعضها تبطل.
وتفصيل ذلك هو أن عدم الستر، إما أن يكون لجهل به، كما إذا تستر
بثوب بتخيل أنه ساتر لعورته مع أن في الواقع لم يكن ساترا، وإما لنسيانه، كما
إذا نسي التستر وصلى عاريا، من غير فرق بين أن يكون النسيان من أول
الصلاة، أو في أثنائها، كما إذا تستر في أول الصلاة وفي الأثناء انكشفت
عورته ونسي سترها ثانيا، وإما لقهر قاهر، كما إذا هب الريح في أثناء الصلاة
فانكشفت عورته. وكل من هذه الأمور الثلاثة إما أن يزول المانع من الجهل
والنسيان والقهر في أثناء الصلاة، كما إذا التفت أو تذكر أو سكن الريح في
386

الأثناء، وإما أن يزول بعد الصلاة، فتكون الصور ستة.
أما صورة الجهل فإن لم يلتفت إلا بعد الصلاة فلا إشكال في الصحة،
لصحيح علي بن جعفر عن أخيه قال: سألته عن الرجل يصلي وفرجه خارج
لا يعلم به، هل عليه إعادة أو ما حاله؟ قال عليه السلام: لا إعادة عليه، وقد
تمت صلاته (1). فإن المتيقن من شموله هو صورة عدم الالتفات إلا بعد
الصلاة.
وإن التفت في الأثناء، فهو وإن كان خارجا عن مورد الرواية، إلا
أنه لا يبعد دعوى عدم الفرق بين وقوع تمام الصلاة من غير ساتر لجهل به، أو
وقوع بعضها لذلك.
لكن هذا إنما يجدي بالنسبة إلى حال الجهل، بمعنى أن الأجزاء الواقعة في
حال الجهل بعدم الستر حالها حال جميع الصلاة الواقعة كذلك، وأما بالنسبة إلى
حال العلم بذلك، وهو آن التفاته إلى أنه مكشوف العورة، فبأي وجه يمكن
القول بالصحة مع أنه يصدق عليه أنه مكشوف العورة وهو عالم به؟ ولا يجديه
تحقق الستر منه بعد العلم فورا، فإن الكلام إنما هو في آن العلم والالتفات،
فإن في هذا الآن إلى أن يتحقق الستر منه لم يكن واجدا للشرط من الستر مع
علمه بذلك، والحال أن الستر شرط في جميع أكوان الصلاة، لا أنه شرط
لخصوص الأقوال والأفعال، كما سيأتي بيانه إن شاء الله، فيشكل الأمر في هذا
الصورة، وهي صورة التفاته في الأثناء.
فإن قلت: بعد البناء على أن الأجزاء السابقة على الالتفات، الواقعة في
حال عدم التستر مشمولة لصحيح علي بن جعفر، فبلازمه يدل عن اغتفار

(1) الوسائل: ج 3 ص 293 باب 277 من أبواب لباس المصلي، ح 1.
387

عدم تحقق الستر في حال الالتفات إلى حصول الستر، وإلا لغى صحة الأجزاء
الواقعة في حال الجهل، فإن معنى اغتفار عدم تحقق الستر مع الجهل به فيما
مضى من صلاته ولو التفت في الأثناء هو اغتفار عدم الستر في حال
الالتفات إلى أن يحصل الستر.
والحاصل: أنه لا بد إما من القول بأن رواية علي بن جعفر مقصورة بصورة
وقوع تمام الصلاة فاقدة للستر مع الجهل، فلا تعم وقوع بعض الأجزاء كذلك،
وهو بعيد غايته، وإما من القول باغتفار عدم الستر في حال الالتفات لو التفت
في الأثناء.
قلت: حيث إن صحيح علي بن جعفر كان شموله لمحل البحث بالعموم
ومن المعلوم في محله أنه لو كان هناك عموم ذو أفراد وكان شمول العام لبعض
الأفراد بلا عناية وشموله لبعض آخر يتوقف على عناية من إثبات لازم ذلك
البعض، كان ذلك الفرد المتوقف شمول العام له على عناية إثبات لازمه غير
مشمول للعام من أصله لا أنه مشمول له، نعم لو كان الدليل خاصا بذاك
الفرد لكان لا محالة مثبتا للازمه من جهة خروجه الكلام عن اللغوية، ولنوضح
ذلك بمثال مثلا قوله صلى الله عليه وآله: " رفع ما لا يعلمون " (1) عام ذو أفراد
شامل لكل تكليف مجهول أمر وضعه ورفعه بيد الشارع كالشك في وجوب
الدعاء والصلاة وغير ذلك، ومن التكليف المجهول الشك في جزئية شئ
للعبادة كالسورة للصلاة فيعمه حديث الرفع ولكن الشك في جزئية ذلك
الشئ يلازم الشك في حصول الغرض والمصلحة التي اقتضت الأمر بالمركب
عند عدم فعل ذلك المشكوك، فلو قلنا إن تحصيل الغرض ليس بواجب بل

(1) الوسائل: ج 11 ص 295 باب 56 من أبواب جهاد النفس، ح 1.
388

الواجب هو فعل متعلق التكيف كما هو المختار عندنا كان شمول حديث
الرفع للجزء المشكوك في عرض شموله لسائر التكاليف المجهولة بلا عناية
أصلا.
وأما لو قلنا بوجوب تحصيل الغرض كما قيل فلا يمكن أن يعم حديث
الرفع (1) للجزء المشكوك، لما عرفت من أن الشك فيه يلازم الشك في حصول
الغرض والشك في حصول الغرض هو بنفسه لم يكن مشمولا لحديث الرفع لأنه
من الشك في المحصل الذي لا تجري البراءة فيه كما أوضحناه في محله، ولا يمكن
أن يقال: إن حديث الرفع بالنسبة إلى نفس الجزء المشكوك لا مانع من
شموله، لأنه تكليف مجهول، وشموله لذلك لا يلازم إلقاء الشارع، للشك في
المحصل وجعله الخالي من ذلك الجزء محصلا للغرض وإلا لغي رفع الجزء
المشكوك لأنه دائما ملازم للشك في حصول الغرض، فلو لم يجعل الشارع الخالي
من ذلك الجزء محصلا للغرض لما كان معنى لقوله رفع التكليف عن الجزء
المشكوك، إذ لا فائدة في رفعه، وذلك لأن هذا فرع شمول حديث الرفع للجزء
المشكوك الملازم لذلك اللازم من الشك في المحصل، والكلام بعد في شموله
للجزء المشكوك لأن شموله لذلك يتوقف على جعل آخر من إلقاء الشك في
المحصل وإلا كان شموله لذلك لغوا كما قيل، وذلك الجعل الآخر يتوقف
شمول حديث الرفع للجزء المشكوك وهذا كما ترى.
والحاصل: أن حديث الرفع إنما هو متكفل لجعل مدلوله، فلا يمكن أن
يتكفل لجعل آخر غير مدلوله، فلو توقف شموله لبعض أفراده على جعل آخر
كان ذلك مانعا عن شموله لذلك الفرد لا أنه يشمل وبشموله يترتب عليه

(1) الوسائل: ج 11 ص 295 باب 56 من أبواب جهاد النفس، ح 1.
389

ذلك الجعل الآخر، ومن هنا لا نقول بالأصل المثبت، نعم لو كان حديث
الرفع مختصا بالأجزاء كان لا محالة يترتب عليه ذلك الجعل وإلا لغي إلا أن
الأمر ليس كذلك، فإنه من عدم شموله للأجزاء لا يلزم محذور أصلا ولا يبقى
العام بلا مورد، لبقاء الشك في التكليف غير الأجزاء تحته، وما نحن فيه من
هذا القبيل عينا، فإن رواية علي بن جعفر (1) إنما هي متكفلة لحال الجهل
بعدم الساتر، وأما حال العلم بعدم الساتر إلى حصول الستر منه فالرواية غير
متعرضة له بالمطابقة، نعم لازم شمولها لصورة الالتفات في الأثناء هو اغتفار
حال العلم أيضا، كما كان لازم شمول حديث الرفع (2) للأجزاء هو محصلية
الخالي عن الجزء المشكوك، فلا يمكن أن يقال إن الرواية شاملة لصورة
الالتفات في الأثناء ويترتب عليه اغتفار حال الالتفات أيضا وإلا لغي، إذ
اللغوية إنما تلزم لو كانت الرواية مختصة بصورة الالتفات في الأثناء، إلا أن
الأمر ليس كذلك لأن من عدم شموله لتلك الصورة لا يلزم منه محذور بقاء
الرواية بلا مورد، لشمولها لصورة الالتفات بعد الصلاة فتأمل جيدا، هذا كله
في الجهل.
وأما النسيان فلو نسي الستر ولم يتذكر إلا بعد الصلاة، فقد حكي (3) عن
الشهيد قدس سره بطلان الصلاة، وربما يقال بالصحة لعموم رفع النسيان،
وقد بينا في محله عدم إمكان التمسك بحديث الرفع لرفع الأجزاء والشرائط
المنسية، ومن الغريب أنه لم يتمسك لما نحن فيه بحديث " لا تعاد " (4)، ودعوى

(1) الوسائل: ج 3 ص 293 باب 27 من أبواب لباس المصلي، ح 1.
(2) الوسائل: ج 11 ص 295 باب 56 من أبواب جهاد النفس، ح 1.
(3) جواهر الكلام: ج 8 ص 178.
(4) الوسائل: ج 3 ص 227 باب 9 من أبواب القبلة، ح 1.
390

أن حديث " لا تعاد " مقصور بالأجزاء دون الشرائط، يدفعها اشتمال
" لا تعاد " على الشرائط كالقبلة والطهور، فالظاهر أنه لا مانع من شمول
حديث " لا تعاد " لصورة النسيان إلا أن الجرأة على الفتوى به مشكل، بعد
عدم تمسك الأساطين به مع علمهم به في سائر المقامات، بل عليه يبتنى
غالب أساس قواعد الخلل، هذا لو تذكر بعد الصلاة.
وأما لو تذكر في الأثناء فبالنسبة إلى الأجزاء الواقعة مع غير الساتر في
حال النسيان لا مانع من شمول حديث " لا تعاد " لها، وأما بالنسبة إلى حال
التذكر فالكلام فيه الكلام في حال الجهل لأن حال التذكر غير داخل في
" لا تعاد " إلا بعناية دخول ملزومه من حال النسيان، والمفروض أن
" لا تعاد " أيضا عام لا يلزم من عدم شموله لصورة التذكر في الأثناء محذور
أصلا، اللهم إلا أن يقال: إن ملاك شمول " لا تعاد " للنسيان السابق على
التذكر هو بعينه موجود في حال التذكر فحال التذكر مشمول ل‍ " لا تعاد " في
عرض شموله لحال النسيان لا أنه لازم له، وذلك لأن حديث " لا تعاد "
مقصور بما إذا كان التكليف بالجزء الفائت ساقط بحيث يستحيل التكليف به
إلا بالإعادة، ولا يمكن التكليف به بدون الأمر بالإعادة، فكل مورد كان
التكليف منحصر بالإعادة ف‍ " لا تعاد " ترفعه، وأما إذا أمكن التكليف
بالفائت بدون الأمر بالإعادة فلا يعمه حديث " لا تعاد " بل مورد " لا تعاد "
منحصر بما إذا كان التكليف بالفائت مساوق لقوله أعد فب‍ " لا تعاد " تنفى
الإعادة، ومن هنا كان الجهل خارجا عن مورد " لا تعاد " فإن ترك الجزء أو
الشرط جهلا لا يوجب سقوط التكليف به لقدرته على فعل الجزء أو الشرط
خارجا، غايته أنه لا يفعله لا أنه لا يمكنه فعله، حتى يسقط التكليف منه
وينحصر تكليفه بالإعادة، بل هو حال ترك الجزء مكلف بفعله، ولا يقال له
391

" أعد " بل يقال له " إقرأ السورة " لتمكنه من فعلها، والجهل لا يوجب سقوط
التكليف في شئ من الموارد، وهذا بخلاف صورة النسيان، فإنه يستحيل
تكليف الناسي للجزء أو الشروط لخروجه بنسيانه عن قدرته وينحصر تكليفه
حينئذ بالإعادة،، ومن هنا نقول يلزم تدارك المنسي مع بقاء محله وهو عدم
الدخول في ركن لعدم انحصار تكليفه حينئذ بالإعادة.
وبالجملة: ينحصر مورد " لا تعاد " بما إذا كان التكليف بالفائت مساوقا
لقوله أعد، وهذا في صورة النسيان واضح وكذا ما بحكمه مما إذا لم يمكن
التكليف بالفائت إلا بالإعادة وحينئذ نقول: إنه كما كان ترك الستر في حال
النسيان مشمولا ل‍ " لا تعاد ". فكذلك ترك الستر في حال التذكر إلى زمان
يمكنه الستر مشمول ل‍ " لا تعاد " بمناط شموله لحال النسيان، إذ ليس مناط
شموله لحال النسيان إلا امتناع تكليفه بالستر في ذلك الحال إلا بالإعادة،
فكذلك في حال التذكر لامتناع تكليفه بالستر في ذلك الحال قبل مضي زمان
يمكنه الستر، وينحصر تكليفه بالإعادة لو كان الستر شرطا في ذلك الحال،
فحديث " لا تعاد " (1) بمناط واحد يشمل حال النسيان والتذكر في عرض
واحد لا أن أحدهما لازم للآخر حتى يتجه عليه الاشكال المتقدم.
وبذلك ظهر حكم ما إذا كان عدم الستر لقهر قاهر من ريح وغيره فإنه
مشمول لحديث " لا تعاد " بكلا قسميه من زوال المانع بعد الصلاة أو في
الأثناء، بل يمكن أن يقال بالصحة في الصورة الثانية أيضا، وهي ما إذا كان
عدم التستر لجهل به وقد علم به في الأثناء، غايته أن الصحة فيها يكون
بمجموع الدليلين من رواية علي بن جعفر (2)، ومن حديث " لا تعاد " فالرواية

(1) الوسائل: ج 3 ص 227 باب 9 من أبواب القبلة، ح 1.
(2) الوسائل: ج 3 ص 293 باب 27 من أبواب لباس المصلي، ح 1.
392

تدل على الصحة بالنسبة إلى حال الجهل أي عدم الستر الحاصل في حاله
والحديث يدل عليها بالنسبة إلى حال العلم بمقدار يمكنه الستر، ولا حاجة إلى
التمسك بالصحة لحال العلم برواية علي بن جعفر حتى يقال إن ذلك من
إثبات اللازم بالعام، فتأمل.
الرابع: الظاهر أن يكون الستر شرطا في جميع من أجزائها وأكوانها
حتى السكونات المتخللة، وليس شرطية الستر كشرطية الطهارة من الخبث
حيث تكون شرطا في خصوص الأجزاء، ومن هنا كان نجاسة البدن أو الثوب
في بين السكونات مع تطهيره عند فعل الأجزاء مما لا يخل بالصحة، لأن
النجاسة الخبثية اعتبرت على جهة المانعية لا القاطعية، بخلاف الحدث،
والظاهر أن يكون شرطية الستر من قبيل شرطية الطهارة الحدثية وذلك لظهور
الأدلة في ذلك، فإن الظاهر من اعتبار الستر في الصلاة هو اعتباره في جميع
الصلاة حتى في الهيئة الاتصالية، وجعله من قبيل النجاسة الخبثية يحتاج إلى
دليل، هذا مع أن مناسبة الحكم والموضوع يقتضي ذلك، حيث إنه لا يناسب
الوقوف بين يدي الجبار مع كونه مكشوف العورة ولو في آن من الآنات.
الخامس: قد عرفت فيما تقدم الكلام في الستر بالحشيش وأنه هو في طول الستر
بما يكون ساترا في نوعه كالثوب أو في عرضه وهل التستر (1) بالطين والدخول
في الحفيرة والماء الكدر وغير ذلك مما يحصل به الستر عن الناظر المحترم يكون
كالتستر بالحشيش أو لا؟ واعلم أن الكلام في التستر بالطين وما شابهه من
الحفيرة والماء الكدر يقع من جهتين:

(1) كون التستر بالطين والحفيرة والماء الكدر في عرض واحد أو بينها ترتب كلام للأصحاب، لا يخفى على
المراجع، وإن اختار شيخنا الأستاذ مد ظله العرضية فتأمل " منه ".
393

الأولى: أن الستر بذلك هل هو من الستر الصلاتي حتى يجب ولو مع
الأمن عن الناظر المحترم، أو أنه ليس من الستر الصلاتي بل هو من الستر عن
الناظر المحترم فلا يجب إلا مع عدم الأمن منه؟
الثانية: بعد أن ثبت أن الستر بذلك إنما يكون من الستر الصلاتي، فهل
هو في طول سائر ما يحصل به الستر، حتى يكون الانتقال إليه بعد عدم التمكن
من غيره حتى من الحشيش الذي ثبت كونه ساترا في الجملة، أو أنه في
عرض غيره، وهذا بخلاف الكلام في الحشيش فإنه كان متحصلا من الجهة
الثانية، لأنه لا إشكال في أن الستر بالحشيش كان من الستر الصلاتي، كما دل
عليه رواية علي بن جعفر، وعلى كل حال ليس فيما بأيدينا من الأدلة ما يدل
على وجوب الستر بهذه الأشياء سوى رواية الحفيرة، وهي رواية مرسلة أيوب
ابن نوح عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله عليه السلام العاري الذي ليس له
ثوب إذا وجد حفرة دخلها وسجد فيها وركع (1). وهي وإن كانت مرسلة إلا
أن عمل الأصحاب بها يكون جابرا لها، فمن هذه الجهة لا إشكال إنما
الاشكال فيما يستفاد منها، من أن النزول في الحفيرة هل هو من جهة حصول
الستر الصلاتي، كما قواه بعض الأعلام في بعض رسائله العملية، أو من جهة
الأمن عن الناظر، كما قواه صاحب الجواهر (2) قدس سره وعليه بنى في رسالته العلمية.
وتنقيح البحث هو: أن هذه المرسلة صالحة لأن تكون مقيدة لأحد
الاطلاقين.
الأول: إطلاق رواية علي بن جعفر الدالة على أنه إن لم يجد شيئا يستر به

(1) الوسائل: ج 3 ص 326 باب 50 من أبواب لباس المصلي، ح 2.
(2) جواهر الكلام: ج 8، ص 212.
394

للصلاة حتى الحشيش فليصل قائما بإيماء، فتكون هذه المرسلة مقيدة لاطلاق
قوله عليه السلام " إن لم يجد شيئا "، فيصير المعنى حينئذ إن لم يجد شيئا يستر به
حتى الحفيرة فليصل قائما بايماء، وأما لو وجد حفيرة فلينزلها ويصلي مع ركوع
وسجود، وعلى هذا يكون الستر بالحفيرة من الستر الصلاتي، ويجب حينئذ وإن أمن المطلع.
الثاني: إطلاق ما دل على أنه عند الأمن من المطلع يصلي قائما بإيماء، وإن
كان بعض الروايات خالية عن قيد الايماء كمرسل ابن مسكان المنجبر
بالشهرة يصلي عريانا قائما إن لم يره أحد فإن رآه أحد صلى جالسا " (1).
فتكون المرسلة مقيدة لهذه الطائفة من الأخبار، فيصير المعنى حينئذ إن أمن
المطلع صلى قائم وإن لم يمن المطلع صلى جالسا إلا إذا وجد حفيرة فيدخلها
ويصلي قائما بركوع وسجود، فتخرج الرواية حينئذ عن الستر الصلاتي، ويكون
النزول في الحفيرة مقصورا بما إذا لم يأمن المطلع.
وتوهم أنه لا مانع من تقييد كلا الاطلاقين وضح الفساد، فإن تقييد
الاطلاق الأول يوجب رفع موضوع الاطلاق الثاني، بداهة أنه لو كان النزول
في الحفيرة من مراتب الستر الصلاتي لكان اللازم حينئذ نزولها سواء أمن
المطلع أو لم يأمن.
وبالجملة: رواية الحفيرة يمكن أن تكون مقيدة لاطلاق رواية علي بن
جعفر (2)، الدالة على أنه عند عدم إصابة شئ يستر به عورته للصلاة يصلي
قائما بإيماء، سواء وجد حفيرة أو لم يجد، وهذه المرسلة تدل على أنه إن وجد
حفيرة ليس له الايماء بل يصلي بركوع وسجود فتقيد تلك لاطلاق ويكون

(1) الوسائل: ج 3 ص 326 باب 50 من أبواب لباس المصلي، ح 3.
(2) الوسائل: ج 3 ص 326 باب 50 أبواب لباس المصلي، ح 1.
395

النزول في الحفيرة من مرتب الستر الصلاتي، ويمكن أن تكون مقيدة لاطلاق
الروايات الدالة على أنه عند عدم الأمن من المطلع يصلي جالسا إلا إذا وجد
حفيرة فينزلها ويصلي قائما بركوع وسجود، والذي يوهن أن تكون المرسلة مقيدة
للاطلاق الثاني، هو أنه لم يفرض في المرسلة عدم الأمن عن المطلع بل هي من
هذه الجهة مطلقة، ويكون التعارض بينه وبين ما دل على الصلاة جالسا عند
عدم الأمن عن المطلع بالعموم من وجه، فإن ما دل على الصلاة جالسا أعم من
وجدان الحفيرة وعدمه، كما أن المرسلة أعم من الأمن عن المطلع وعدمه، اللهم
إلا أن يقال: إن الأمر بالنزول بالحفيرة إنما هو لعدم الأمن عن المطلع، وإلا
لكان النزول لغوا إلا إذا كان من مراتب الستر الصلاتي، فحينئذ يكون الأمر
به لذلك، والذي يوهن أيضا أن تكون المرسلة مقيدة للاطلاق الثني هو أنه
بعدما لم يكن النزول في الحفيرة من مرتب الستر الصلاتي، وكان لأجل الأمن
عن المطلع، فتكون حكم الصلاة في الحفيرة حكم صلاة العراة الآمنين،
وسيأتي أن حكمها الصلاة قائما مع الايماء من دون ركوع وسجود، وإن خالف
في ذلك بعض الأعلام كصاحب الجواهر (1) حيث قال بالركوع والسجود فيها
نظرا إلى هذه المرسلة، إلا أنه سيأتي ضعفه وهذا بخلاف ما إذا جعلنا النزول
في الحفيرة من مراتب الستر الصلاتي، فإن اعتبار الركوع والسجود فيها على
القاعدة ولعل من قال: بأن النزول في الحفيرة من مرتب الستر الصلاتي كان
نظره إلى هذا، ولكن الذي يوهن أن يكون النزول في الحفيرة من مراتب؟
الصلاتي، هو استبعاد كون النزول في الحفيرة التي يمكن للشخص من الركوع
والسجود فيها من مراتب الستر الصلاتي، مع كون الحفيرة بهذه السعة، إذ

(1) جواهر الكلام: ج 8 ص 198.
396

مناسبة الحكم والموضوع لا يقتضي ذلك.
فالانصاف أنه لا يمكن القول بأن النزول في الحفيرة من مراتب الستر
الصلاتي، فتكون روية الحفيرة حينئذ ساقطة، لأنه بعد عدم كون النزول فيها
من مراتب الستر الصلاتي يكون النزول فيها لأجل الأمن عن المطلع، ومعه
لا يمكن الفتوى بمضمونها لما سيأتي، من أن صلاة العاري الآمن عن المطلع إنما
هو بالايماء لا بالركوع والسجود، مع أن الرواية مرسلة ولم يظهر من القدماء
العمل بمضمونها، بل سيأتي أن نفس وجوب النزول في الحفيرة لأجل تحصيل
الأمن عن المطلع (1) إشكال، فإن من لم يأمن المطلع تكليفه الجلوس، ولا يجب
عليه تحصيل المأمن كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
ثم إن في حكم النزول في الحفيرة التلطخ بالطين، والنزول في الماء
الكدر، وأن ذلك ليس من مراتب الستر الصلاتي، بداهة أنه لو كان التلطخ
بالطين من مراتب الستر الصلاتي لوقع التنبيه عليه في الأخبار، كيف لا يكون
كذلك مع أن مثل الحشيش نبه عليه في الأخبار، والحال أن التلطخ بالطين
أسهل إصابة من الحشيش، إذ قلما يوجد أحد لا يمكنه خلط الماء بالتراب
وجعله طينا وتلطيخ العورة به، وإصابة الحشيش لا يكون بهذه السهولة.
وبالجملة وقوع التنبيه بالستر بالحشيش في الأخبار وعدم وقوعه بالتلطخ
بالطين، يكشف عن أن التلطخ بالطين ليس من الستر الصلاتي، بل يجب
لتحصيل الأمن عن الناظر المحترم.
الفرع السادس: من لم يجد شيئا يشتر به عورته للصلاة، فإن أمن من الناظر
المحترم وجب عليه الصلاة قائما، وإن لم يأمن وجب عليه الصلاة جلوسا، وهذا

(1) والأقوى وجوب تحصيل المأمن مقدمة للقيام الواجب في الصلاة كما يأتي الإشارة إليه " منه ".
397

مما لا إشكال فيه وقد تضافرت عليه النصوص، إنما الكلام في كيفية صلاة
القائم والجالس، أم الجالس فالظاهر أيضا أنه لا إشكال في أنه لا يجوز له
الركوع والسجود بل يومي إليهم، وأما القائم فقد اختلفت كلمات الأعلام في
كيفيتها فقيل: بأنه يركع ويسجد واختاره في الجواهر (1)، وقيل: بأنه يومي لهما
وهذا هو الأقوى لدلالة جملة من النصوص عليه من غير معارض إلا رواية
الحفيرة (2) التي قد تقدم الكلام فيها، فمن ذلك قوله عليه السلام في رواية علي
بن جعفر المتقدمة: " وإن لم يصب شيئا يستر به عورته أومى وهو قائم " (3)، بعد
تقييدها بصورة الأمن عن المطلع بقرينة الأخبار المفصلة، ومن ذلك موثقة
سماعة " في رجل يكون في فلاة من الأرض ليس عليه إلا ثوب واحد وأجنب
فيه وليس عنده ماء قال: يتيمم ويصلي عريانا قائما ويومي إيماء " (4)، وفي
نسخة الكافي (5) " قاعدا " بدل " قائما ".
ثم إنه بناء على وجوب الايماء عليه لو خالف وركع وسجد كان مقتضى
القاعدة بطلان صلاته لعدم إتيانه ما هو المأمور به في هذ الحال، ودعوى أن
سقوط الركوع والسجود رخصة لا عزيمة فلا مانع من صحة الصلاة كذلك مما
لا شاهد عليها، بعد الأمر بالايماء، ولو جمع بين الايماء والركوع والسجود سهوا
ففي بطلان صلاته إشكال، لصدق أنه زاد في صلاته ركنا من الركوع
والسجود فتبطل، ومن أن الركوع والسجود لم يكونا ركنا في هذا الحال،

(1) جواهر الكلام: ج 8 ص 217.
(2) الوسائل: ج 3 ص 326 باب 50 من أبواب لباس المصلي، ح 2.
(3) الوسائل: ج 3 ص 326 باب 50 من أبواب لباس المصلي، ح 1.
(4) الوسائل: ج 2 ص 1068 باب 46 من أبواب النجاسات، ح 1.
(5) الكافي: ج 3 ص 396 ح 15.
398

فلا موجب للبطلان وقد اختار شيخنا الأستاذ مد ظله الأول، وقال بالبطلان،
نظرا إلى أن أمره بالايماء لا يوجب خروج الركوع والسجود عن الركنية فتأمل
جيدا.
وكذا تبطل صلاة من كان وظيفته القيام فخالف وجلس وبالعكس لعدم
إتيانه ما هو المأمور به، ودعوى أن أهمية الستر عن الناظر المحترم أوجب سقوط
القيام والانتقال إلى الجلوس وهذا لا يوجب خروج القيام عن الملاك، فيكون
المقام كسائر موارد التزاحم الذي كان لأحد المتزاحمين أهمية وجبت الأمر
به، فإنه لا إشكال في أنه خالف وأتى بالمزاحم الآخر صح لو كان عبادة،
فليكن المقام كذلك، مما لا دليل عليها، وإن قال به في الجواهر، فإنه من
الممكن أن لا يكون للصلاة عن قيام في هذا الحال أي حال عدم الأمن عن
الناظر المحترم الذي تكليفه الجلوس ملاك يقتضي الصحة فتأمل جيدا.
الفرع السابع: لا إشكال في أنه تشرع الجماعة للعراة بل تستحب.
لصحيح ابن سنان سألته عن قوم صلوا جماعة وهم عراة قال: يتقدمهم
الإمام بركبتيه ويصلي بهم جلوسا (1).
وموثق إسحاق بن عمار قلت لأبي عبد الله: قوم قطع عليهم الطريق
وأخذت ثيابهم فبقوا عراة وحضرت الصلاة كيف يصنعون قال عليه السلام
يتقدمهم إمامهم فيجلس ويجلسون خلفه فيومي إيماء للركوع والسجود وهم
يركعون ويسجدون خلفه على وجوههم (2).
وقد عمل بهما الأصحاب وأفتوا بمضمونهما، فما في بعض الأخبار من
إيجاب التباعد والصلاة فرادى كما عن قرب الإسناد عن الصادق فإن كانوا

(1) الوسائل: ج 3 ص 328 باب 51 من أبواب لباس المصلي، ح 1 و 2.
(2) الوسائل: ج 3 ص 328 باب 51 من أبواب لباس المصلي، ح 1 و 2.
399

جماعة تباعدوا في المجالس ثم صلوا كذلك فرادى (1) محمول أو مؤول، لعدم
لعمل به وإن كنت القاعدة تقتضيه، بداهة أن القيام واجب في الصلاة،
ومع عدم المأمن يجب تحصيل المأمن ولو كان ذلك بالتباعد، أو النزول في
الحفيرة ليمكنه القيام، فالقول بعدم وجوب التباعد والصلاة جلوسا جماعة على
خلاف القاعدة، لأن الجماعة مستحبة فلا تزاحم ما هو واجب من القيام، إلا
أنه بعد ورود النص الصريح على مشروعيتها وفتوى الأصحاب بمضمونه كان
الاشكال بذلك اجتهادا في مقابل النص.
وبالجملة: لا إشكال في مشروعية الجماعة إنما الكلام في كيفيتها أما
بالنسبة إلى القيام والجلوس، فالظاهر أيضا أنه لا ينبغي الاشكال في تعين
الجلوس عليهم، كما هو صريح الأخبار المتقدمة، والاشكال بأن النسبة بين
هذه الأخبار وما دل على أن الآمن عن الناظر يصلي قائما هو العموم من وجه،
فإن ما يدل على أن الآمن يصلي قائما أعم من أن يكون وحده أو مع جماعة،
وهذه الأخبار أعم من الآمن وغيره، إذ مجرد كونهم جماعة لا يلازم عدم الأمن
إذ من الممكن أن يكونوا في ظلمة أو فاقدين للبصر، فتكون النسبة هي العموم
من وجه مندفع.
أولا: أن فرض الأمن عن الناظر مع كونهم جماعة نادر جدا، تكون هذه
الأخبار منصرفة عنه، بل هي مختصة بصورة عدم الأمن، فتكون هذه الأخبار
موافقة لما دل على أن غير الآمن يصلي جالسا.
وثانيا: فعلى فرض كون النسبة هي العموم من وجه، فالعمل على هذه
الأخبار إجماعا، إذ لم ينقل من أحد أنهم يصلون قائما جماعة وأما من حيث

(1) قرب الإسناد: ص 66.
400

الركوع والسجود، فظاهر الأخبار أن الإمام يومي وهم يركعون ويسجدون،
ولكن اختلفت كلمات الأصحاب في ذلك، فمنهم من عمل بظاهر الأخبار
من أن المأمومين يركعون ويسجدون والإمام يومي، ومنهم من قال بالايماء في
الجميع. والأقوى هو الأول، لأن نسبة ما تقدم من الأخبار من أن الجالس
يومي للركوع والسجود مع هذه الأخبار نسبة الأعم المطلق، فيجب تخصيص
تلك الأخبار بغير صورة الجماعة، ولا استبعاد فيه أصلا، إذ من الجائز أن يكون
للجماعة خصوصية أوجبت عدم الانتقال إلى الايماء، بل يمكن أن يقال: إن
ما دل على أن الجالس يومي للركوع والسجود ولا يركع ولا يسجد إنما كان مختصا
بصورة عدم الأمن عن الناظر، وهذا المعنى مفقود في الجماعة، فإنه مع وحدة
الصف والتصاق بعضهم ببعض يكونوا في حال الركوع والسجود آمنين، لعدم
تمكنهم عادة من النظر إلى سوأة الآخر الملاصق له، وهذا بخلاف حال
قيامهم، لامكان نظر كل واحد إلى عورة الآخر، وهذا هو الذي أوجب
انتقالهم من القيام إلى الجلوس.
وبالجملة: إمكان النظر إلى عورة الآخر في حال القيام وعدم إمكانه في
حال الركوع والسجود أوجب إيجاب الجلوس عليهم والركوع والسجود التام،
وما يقال: من أن لازم ذلك هو التعدي إلى كل آمن في حال الركوع والسجود
مع عدم أمنه في حال القيام ولو كان فرادى، وهذا ينافي ما دل على أن غير
الآمن يجلس ويومي، من غير تفصيل بين أمنه في حال الركوع وعدم أمنه، إنما
يستقيم مع وجود الدليل على ذلك، وإلا هو بنفسه أمر ممكن إلا أنه لا دليل
عليه، وما ذكرناه في الجماعة من أن أمنهم في حال الركوع والسجود وعدم
أمنهم في حال القيام أوجب انتقالهم إلى الجلوس مع فعلهم الركوع التام
والسجود كذلك، إنما كان لمحض الاستئناس، وإلا لم يرد التعليل بذلك في
401

الأخبار حتى يتعدى عن الجماعة إلى غيرها.
فإن قلت: القول بأن المأمومين يركعون ويسجدون ينافي ما ورد في بعض
الأخبار من التعليل لعدم الركوع والسجود بأنه يبدو خلفه، كما في بعض الروايات.
قلت: هذا التعليل لا يصلح أن يكون علة للحكم يستفاد منه كبرى كلية بل
هو حكمة التشريع، كما [لا] يخفى وجهه على المتأمل، وقد بينا الضابط بين
ما يكون علة للحكم وبين ما يكون حكمة التشريع فراجع.
اختلف الأصحاب في اعتبار تقدم الرجل على المرأة في الصلاة فالمشهور بين
القدماء على ما هو المحكي عنهم اعتبار تقدم الرجل على المرأة بكله أو بعد عشرة
أذرع بين الموقفين أو وجود حائل، وعن المتأخرين عدم اعتبار ذلك، ومنشأ
الاختلاف هو اختلاف الأخبار، ففي عدة من الروايات ورد النهي ي عن ذلك،
وفي عدة أخرى ورد عدم البأس عن ذلك.
فمن الأول: ما رواه عمار عن الصادق عليه السلام أنه سئل عن الرجل يستقيم
له أن يصلي وبين يديه امرأة تصلي قال عليه السلام: لا يصلي حتى يجعل بينه
وبينها أكثر من عشرة أذرع، وإن كانت عن يمينه وعن يساره جعل بينه وبينها
مثل ذلك، فإن كانت تصلي خلفه فلا بأس، وإن كانت تصيب ثوبه وإن
كانت المرأة قائمة أو قاعدة أو نائمة في غير صلاة فلا بأس حيث كانت (1).
وخبر إدريس بن عبد الله القمي سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل
يصلي وبحياله امرأة قائمة على فراشها أجنبية فقال عليه السلام: إن كانت قاعدة
فلا يضرك وإن كانت تصلي فلا (2). وفي معناه عدة من روايات (3) أخر مشتملة

(1) الوسائل: ج 3 ص 430 باب 7 من أبواب مكان المصلي، ح 1.
(2) الوسائل: ج 3 ص 425 باب 1 من أبواب مكان المصلي، ح 1.
(3) الوسائل: ج 3 باب 5 من أبواب مكان المصلي، ح 2 و 5.
402

على النفي.
ومن الثاني خبر جميل عن الصادق عليه السلام في الرجل يصلي والمرأة تصلي
بحذاه فقال: لا بأس (1).
وخبر عيسى بن عبد الله القمي على ما رواه في العلل سئل الصادق
عليه السلام عن امرأة صلت مع الرجال وخلفها صفوف وقدامها صفوف قال
عليه السلام: مضت صلاته ولم تفسد على أحد ولا تعيد (2)، وغير ذلك من الأخبار
الدالة على الجواز.
اعلم أن هنا مقامات وقع البحث عنها:
الأول: في أصل اعتبار تقدم الرجل على المرأة، وأنه هل يعتبر ذلك في أصل
صحة الصلاة حتى يكون عدم تقدمه من الموانع أو لا يعتبر ذلك في الصحة وإن
كره ذلك؟
الثاني: على كل من تقديري المانعية والكراهة فهل يعتبر في رفع المانعية أو
الكراهة تأخر المرأة عن الرجل بكله، بأن يكون موضع سجود المرأة متأخر عن
موقف الرجل أولا يعتبر ذلك المقام؟
الثالث: لو كانت المرأة قدام الرجل أو عن يمينه ويساره فما حد البعد المعتبر بينهما
في زوال المانعية والكراهة؟
المقام الرابع: في تحديد الحائل الذي يكون رافع للمانعية أو الكراهة.
أما الكلام في المقام الأول فمجمله أنه وإن حكي عن المشهور بين المتقدمين
ذهابهم إلى المنع، وجعل ذلك في مسلك الموانع، إلا أن الأقوى هو الكراهة،

(1) الوسائل: ج 3 ص 426 باب 4 من أبواب مكان المصلي، ح 4.
(2) لم نعثر عليه.
403

وذلك لأن الأدلة المجوزة نص في الجواز، لا تتحمل معنى آخر بداهة صراحة قوله
عليه السلام: " لا بأس " في خبر جميل (1) المتقدم في الجواز وإن كان بالنسبة إلى نفي
الكراهة ظاهر، فإن نفي البأس ظاهر في نفيه بجميع مراتبه التي منها الكراهة إلا
أن ظهوره في نفي الكراهة لا يصادم صراحته في الجواز، وهذا بخلاف الأدلة
المانعة، إذ غايتها ظهورها في ذلك، بداهة أن كلمة " لا " أو " لا تصلي " ليس
صريحا في المنع بل أقصاه ظهورها فيه، والظهور لا يصادم النص، هذا مضافا إلى
أن في نفس أدلة المنع ما يظهر منه الكراهة كقوله عليه السلام في صحيح الحلبي (2)
" لا ينبغي ". والحاصل أن قوله عليه السلام في أخبار المنع " لا " أو " لا تصلي "
إنما يدل على المنع ظهورا، حيث إن النهي والنفي ظاهر في الحرمة النفسية في غير
باب الأجزاء والشرائط والموانع في المركبات، فإنه يكون ظاهرا في المانعية وأما
قوله عليه السلام " لا بأس " كما في خبر جميل، وقوله عليه السلام مضت صلاتها ولم
تفسد على أحد " كما في خبر عيسى (3)، فلا يكون إلا نصا في الجواز، فلا محيص
حينئذ من رفع اليد عن ظاهر النفي والنهي وحمله على الكراهة، وإلا لزم طرح أدلة
الجواز بالمرة. هذا مع ما عرفت من أن في نفس أخبار المنع ما يدل على الكراهة،
فيكون شاهد جمع، مضافا إلى ما في الأخبار المانعة من المناقشة سندا ودلالة كما
لا يخفى على المتأمل، ومضافا إلى اختلاف الروايات المحددة لمقدار البعد بين الرجل
والمرأة تارة بالشبر (4)، وأخرى بالذراع (5)، وثالثة بالرحل (6)، ورابعة بكون موضع

(1) الوسائل: ج 3 ص 426 باب 4 من أبواب مكان المصلي، ح 4.
(2) الوسائل: ج 3 ص 431 باب 8 من أبواب مكان المصلي، ح 3.
(3) لم نعثر عليه.
(4) الوسائل: ج 3 ص 427 باب 5 من أبواب لباس المصلي، ح 1.
(5) الوسائل: ج 3 ص 427 باب 5 من أبواب لباس المصلي، ح 3.
(6) الوسائل: ج 3 ص 429 باب 5 من أبواب لباس المصلي، ح 11.
404

سجود المرأة محاذيا لركوع الرجل (1)، وغير ذلك من التحديدات، فإن هذا
الاختلاف العظيم أقوى شاهد على أن الحكم استحبابي، واختلاف التحديدات
لاختلاف مراتب الاستحباب.
وأما الكلام في المقام الثاني فمجمله أنه ذهب بعض في رفع المانعية أو الكراهة
إلى اعتبار تأخر المرأة بكلها عن الرجل، بأن يكون موضع سجود المرأة متأخرا عن
موضع وقوف الرجل، وقد استدل على ذلك برواية عمار حيث قال عليه السلام
فيها: " فإن كانت تصلي خلفه فلا بأس " (2) حيث إن ظاهر الخلف هو التأخر
بكل البدن هذا، ولكن الأقوى عدم اعتبار التأخر بكل البدن في رفع المانعية أو
الكراهة، وذلك لمنع دلالة الخلف على التأخر بكل البدن، بل يصدق الخلف
لو كانت المرأة واقفة عن يمين الرجل أو يساره مع تأخرها عنه يسيرا، بأن يكون
موضع سجودها متأخرا عن موضع سجوده، مضافا إلى إشعار قوله عليه السلام في
ذيل الرواية بعد قوله " " فإن كانت تصلي خلفه فلا بأس " و " وإن كانت تصيب
ثوبه " أنه لا يعتبر التأخر بكل البدن، فإن إصابة الثوب إنما يكون غالبا عند
وقوف المرأة إلى أحد جانبي الرجل، وأما إذا كانت متأخرة عنه بجميع بدنها،
فيبعد إصابتها ثوبه فتأمل، مع أنه لو أغمض عن ذلك، فأقصى ما يقتضيه لفظة
الخلف هو كونها ظاهرا في التأخر بكل البدن مع صدقه أيضا على ما سوى ذلك،
وحينئذ لا يمكن أن يعارض الأخبار الواردة في تحديد رفع المنع بالشبر والذراع
والرحل وغير ذلك، كما أنه لا يمكن معاملة التعارض في نفس الأخبار المحددة
بعد ما كان الحكم كراهية، فيقتصر في رفع الكراهة بالأقل وهو الشبر ويكون

(1) الوسائل: ج 3 ص 430 باب 6 من أبواب لباس المصلي، ح 3.
(2) الوسائل: ج 3 ص 430 باب 6 من أبواب مكان المصلي، ح 4.
405

الزائد على ذلك فضلي، كما هو الشأن في جميع التحديد بين الأقل والأكثر.
وحاصل الكلام: أنه سواء قلنا بالمنع أو الكراهة لا بد من القول برفعهما
بالشبر، فإن رواية الشبر (1) تنفي اعتبار الزائد، والخلف أيضا يصدق بذلك، وإن
سلم كونه ظاهرا في التأخر بكل البدن، فتحمل حينئذ رواية الذراع (2)
والرحل (3) وغير ذلك على مراتب الاستحباب والفضل، فراجع الأخبار وتأمل
فيها.
وأما الكلام في المقام الثالث فقد قيل: إنه يعتبر البعد بينهما بعشرة أذرع لو
كانت المرأة قدام الرجل أو إلى أحد جانبيه، واستدل لذلك برواية عمار (4)
المتقدمة، ولكن الأقوى عدم اعتبار ذلك فيما كانت إلى أحد جانبيه لخبر أبي
بصير: سألت الصادق عليه السلام عن الرجل والمرأة يصليان جميعا في بيت المرأة
عن يمين الرجل بحذاه قال: لا حتى يكون بينهما شبر أو ذراع أو نحوه (5). وفي معناه
روايات آخر (6)، وهذا الروايات كما ترى، تنفي اعتبار الزائد على الشبر إذا كانت
المرأة واقفة عن يمين الرجل بل في رواية أطلق الشبر ولم يقيد بكونها واقفة عن
يمينه، بل قال عليه السلام: " إذا كان بينهما قدر شبر صلت بحذاه " (7). وبهذا يمكن
أن يقال لا يعتبر الزائد على الشبر ولو كانت المرأة واقفة قدام الرجل، إلا أن يمنع
ذلك، بدعوى أن لفظة بحذاه ظاهرة في الجنب من اليمين واليسار، ولا يشمل صورة

(1) الوسائل: ج 3 ص 427 باب 5 من أبواب مكان المصلي، ح 1 و 3 و 4.
(2) الوسائل: ج 3 ص 427 باب 5 من أبواب مكان المصلي، ح 3.
(3) الوسائل: ج 3 ص 429 باب 5 من أبواب مكان المصلي، ح 11.
(4) الوسائل: ج 3 ص 430 باب 6 من أبواب مكان المصلي، ح 4.
(5) الوسائل: ج 3 ص 427 باب 5 من أبواب مكان المصلي، ح 3.
(6) الوسائل: ج 3 ص 427 و 428 من أبواب مكان المصلي، ح 3 و 7.
(7) الوسائل: ج 3 ص 427 و 428 من أبواب مكان المصلي، ح 3 و 7.
406

التقدم، وعلى أي حال الظاهر أنه لا ينبغي الاشكال في كفاية الشبر إذا كانت
عن يمين الرجل أو يساره، فتحمل حينئذ رواية اعتبار العشرة (1) على الفضل، نعم
يبقى الكلام فيما إذا كانت المرأة قدام الرجل، ولا يبعد الالتزام بعشرة أذرع في رفع
المنع أو الكراهة تمسكا بتلك الرواية، ولا مانع من التفصيل بين اليمين واليسار
وبين التقدم فتأمل جيدا.
وأما الكلام في المقام الرابع فقد قيل أيضا: إنه يعتبر في الحائل أن يكون مانعا
عن مشاهدة كل منهما للآخر في جميع حالات الصلاة، وربما يستدل على ذلك
بصحيح الحلبي سأل الصادق عليه السلام عن الرجل يصلي في زاوية الحجرة
وامرأته أو بنته تصلي بحذاه في الزاوية الأخرى قال عليه السلام: لا ينبغي ذلك
إلا أن يكون بينهما سترا (2) حيث إن الظاهر من الستر هو أن يكون ساترا بقول
مطلق، وفي جميع الحالات هذا، ولكن الأقوى أيضا عدم اعتبار ذلك، بل يكفي
مطلق الحائر ولو في الجملة وفي بعض الأحوال، لرواية علي بن جعفر سأل أخاه
عن الرجل هل يصلح أن يصلي في مسجد قصير الحائط وامرأته قائمة تصلي وهو
يراها وتراه قال عليه السلام: إن [كان] بينهما حائط طويل أو قصير فلا بأس (3).
وفي معناه روايات أخر (4) تدل على عدم اعتبار الستر في جميع الحالات بل ربما
يقال: إنه يكفي في الحائل أن يكون طوله قدر ذراع بل قدر شبر لما في ذيل خبر
أبي بصير المتقدم حيث قال عليه السلام بعد أن اعتبر الشبر: كان طول رحل
رسول الله ذراعا، وكان يضع بين يديه إذا صلى شيئا يستره ممن يمرر بين

(1) الوسائل: ج 3 ص 430 باب 7 من أبواب مكان المصلي، ح 1.
(2) الوسائل: ج 3 ص 431 باب 8 من أبواب مكان المصلي، ح 3.
(3) الوسائل: ج 3 ص 432 باب 8 من أبواب مكان المصلي، ح 4.
(4) الوسائل: ج 3 ص 427 باب 5 من أبواب مكان المصلي، ح 1 و 3.
407

يديه (1). فإن التعليل بذلك بعد اعتبار الشبر إنما يناسب أن يكون الشبر الذي
اعتبره أولا من جهة كونه حائلا، فيكون مقدار الشبر من حيث الطول لا من
حيث المسافة، فتأمل جيدا.
هذا تمام الكلام في أصل المسألة. بقي في المقام فروع ينبغي التنبيه عليها:
الأول: هل يعتبر في مانعية المحاذاة أن تكون كل من صلاة الرجل والمرأة
صحيحة من غير جهة المحاذاة أو لا يعتبر ذلك بل يكفي في المانعية ولو كانت أحد
الصلاتين فاسدة من غير جهة المحاذاة؟ وقد كثر الكلام في المقام من الأعلام،
حتى بنوا المسألة على القول بالصحيح والأعم، ولكن الظاهر أن المسألة بمكان
من الوضوح لا تحتاج إلى إطالة الكلام فيها، بداهة أن جميع الأدلة التي تكون
متكلفة لبيان الأجزاء والشرائط والموانع إنما تتكفل جزئية شئ أو شرطيته أو
مانعيته بعد الفراغ من اشتمال المركب لسائر الشرائط والأجزاء والموانع، إذ
لا معنى لتكفل مانعية شئ مثلا وأخذه مانعا عن المركب الأعم عن أن يكون له
مانع آخر أو لا، إذ مع سبقه بمانع آخر لا يمكن أن يكون هذا الشئ مانعا، فأخذ
شئ مانعا إنما هو بعد فرض اشتمال المركب على جميع ما يعتبر فيه سوى هذا
الذي يراد أخذه مانعا مثلا قوله: " لا تلبس الحرير في الصلاة " إنما يكون متكفلا
لمانعية الحرير للصلاة الجامعة للأجزاء والشرائط والموانع غير لبس الحرير، إذ
لا معنى لأخذ الحرير مانعا للصلاة الأعم من كونها واجدة لسائر ما يعتبر فيها أو
فاقدة لها، وقوله " لا تصلي محاذيا للمرأة " كقوله " لا تلبس الحرير " إنما يكون
متكفلا لمانعية المحاذاة، بناء عليها للصلاة بعد كونها جامعة لشرائط الصحة لولا
المحاذاة، فلا محيص عن القول باعتبار صحة الصلاتين في مانعية المحاذاة، وبذلك

(1) الوسائل: ج 3 ص 427 باب 5 من أبواب مكان المصلي، ح 3.
408

يظهر الخلل في جملة من كلمات الأعلام فراجع.
الفرع الثاني: لو علم أحدهما بفساد صلاة الآخر من غير جهة المحاذاة في أول
الأمر، فلا إشكال في صحة صلاته ولو علم بصحتها من غير تلك الجهة،
فلا إشكال في فساد صلاته مع عدم تبين الخلاف، وكذا لو شك في الصحة
والفساد، لأن الأصل هو الصحة ولو تبين الخلاف وأن صلاته كانت فاسدة من
غير جهة المحاذاة وكان علمه بالصحة خطأ، فلا ينبغي الاشكال أيضا بصحة
صلاته لو تمشى منه قصد القربة مع علمه بصحة صلاة الآخر ولو لأجل أصالة
الصحة، لأن علمه بالصحة إنما يكون طريقيا لا موضوعيا وبعد تبين خطأ علمه
وتمشى منه قصد القربة لا مانع من صحة صلاته، سواء علم بالفساد بعد الصلاة
أو في الأثناء، نعم لو علم من أول الأمر بفساد صلاة الآخر وصلى وبعد الصلاة
أو في أثنائها تبين صحتها من غير جهة المحاذاة وأن علمه بالفساد كان خطأ،
فمقتضى القاعدة هو بطلان صلاته، لأن المفروض أنه صلى محاذيا مع صحة
صلاة الآخر واقعا وإن لم يعلم بها واعتقد فسادها، إذ ذلك لازم أخذ العلم على
وجه الطريقية، وبالجملة: العلم يكون طريقا في كل من طرفي الصحة والفساد.
الفرع الثالث: لا إشكال في أنه لا يجب عليه الاستفسار والاستخبار من الآخر في
صحة صلاته وفسادها عند الشك فيها، لمكان أصالة الصحة، نعم لو أخبر
بالفساد فهل يكون قوله معتبرا في مقابل أصالة الصحة أو لا يعتبر قوله؟ وقد ذكر
لكل من الوجهين وجوه لا تخلو عن مناقشة، فالأولى ابتناء ذلك على اعتبار قاعدة
ما لا يعلم إلا من قبله، فإن قلنا باعتبار ذلك وعمومها لجميع الموارد كما يظهر من
بعض إرسالها إرسال المسلمات، فلا إشكال ويكون إخباره بالفساد فيما نحن فيه
معتبرا لأن العلم بفساد صلاته غالبا منسد لغير المصلي إلا أن الشأن في اعتبار
تلك القاعدة بعمومها، وبعد لم يظهر لنا ما يدل على اعتبارها بعمومها، نعم ورد
409

في بعض الموارد ما ربما لا يخلو عن إشعار بالعموم كقوله عليه السلام في باب المتعة:
" أرأيت إن سألتها البينة هل تقدر على ذلك بعد السؤال عن اتهامها بأن لها
زوج " (1) وكذا ورد في باب الحيض (2) والعدة (3) والحمل (4) أنها مصدقات، والمسألة بعد
تحتاج إلى مزيد مراجعة لعله يعثر على ما يدل على عموم القاعدة.
الفرع الرابع: لو عرض لأحد الصلاتين الفساد في الأثناء فهل هو كالفساد من
أول الأمر فتكون الصلاة الأخرى صحيحة، لعدم اشتمالها على المانع من المحاذاة
لصلاة صحيحة، أو أنه ليس كالفساد من أول الأمر فتكون الصلاة الأخرى
أيضا فاسدة، لصدق أنه صلى محاذيا لآخر في صلاته المنعقدة على وجه الصحة،
وعروض الفساد عليها في الأثناء مما لا أثر له؟ وبالجملة: العبرة بالصحة والفساد
إنما هو في أول الأمر، فلو صلى محاذيا لمن انعقد صلاته صحيحة بطلت صلاته،
وإن عرض لها الفساد في الأثناء، وهذا الوجه هو الأقوى، كما لا يخفى وجهه على
المتأمل.
الفرع الخامس: هل مانعية المحاذاة مطلقة أو مقصورة بصورة الاختيار؟ والالتفات
الذي ينبغي أن يقال: هو أن قوله عليه السلام " " لا يصلي " وإن لم يدل بهيئته
ومادته على صدور الفعل منه اختيارا أما المادة فواضح، لأن مادة الأفعال لم توضع
إلا للمعنى الحدثي والمصدري، وأما الهيئة فلأنها إنما وضعت لقيام المادة بالفاعل
على اختلاف أنحاء القيام، من دون أن يكون لها دلالة على صدور الفعل منه
اختيارا وعن علم، إلا أن في خصوص المقام لا يبعد القول باختصاص مانعية
المحاذاة بصورة العلم بها، وذلك لأن الظاهر من أخبار الباب والمسؤول عنه هو

(1) الوسائل: ج 14 ص 457 باب 10 من أبواب المتعة، ح 5، مع اختلاف.
(2) الوسائل: ج 2 ص 596 باب 47 من أبواب الحيض.
(3) الوسائل: ج 2 ص 596 باب 47 من أبواب الحيض.
(4) الوسائل: ج 15 ص 441 باب 24 من أبواب العدد، ح 2.
410

الجهة الاختيارية، كما يظهر من قوله في السؤال: أن المرأة تزامل الرجل في
المحل (1).. إلخ، وبالجملة: الظاهر أن المسؤول عنه في الأخبار هو صلاة الرجل
خلف المرأة مع الالتفات والاختيار، وفي هذا الفرض أجاب عليه السلام: بأنه
لا يصلي، هذا مع أن مناسبة الحكم والموضوع يقتضي اختصاص المنع بذلك
فتأمل.
ويتفرع على ذلك أنه لو كان كل من الرجل والمرأة جاهلين بالآخر إما
لظلمة أو لعمى أو غير ذلك صحت صلاتهما جميعا، لعدم إيقاع الصلاة اختيارا مع
المحاذاة، ولو كان أحدهما جاهلا بالمحاذاة والآخر عالما بها صحت صلاة الجاهل
وفسدت صلاة العالم، لأن المحاذاة الاختيارية إنما تنتسب إلى العالم دون الجاهل،
وهذا بخلاف ما إذا كان كل منهما عالم بالآخر، فإن المحاذاة الاختيارية تنتسب
إليهما جميعا فتفسد صلاتهما.
ويتفرع على ذلك أيضا بطلان خصوص صلاة اللاحق إذا كان عالما
بالسابق، دون صلاة السابق، لأنه حينئذ المحاذاة الاختيارية إنما تستند إلى
اللاحق فتفسد صلاته، ولا أثر لعلم السابق حينئذ بالمحاذاة لانعقاد صلاة اللاحق
فاسدة بسبب علمه بالمحاذاة، وقد تقدم أن المحاذاة للصلاة الفاسدة لا يكون مانعا،
نعم لو كان اللاحق جاهلا، فإن أمكن السابق التباعد على وجه لا تبطل صلاته
بالمقدار المعتبر من التباعد وجب عليه، وإن لا يمكنه التباعد كذلك سقطت مانعية
المحاذاة حينئذ، من جهة حرمة قطع الصلاة فتأمل.
الفرع السادس: لا عبرة بالفوقية والتحتية مع صدق كون أحدهما في يمين الآخر
أو شماله أو قدامه، نعم لو كانت الفوقية والتحتية على وجه لا يصدق ذلك، كما

(1) الوسائل: ج 3 ص 433 باب 10 من أبواب مكان المصلي، ح 2.
411

إذا كان أحدهما في مكان مرتفع بحيث لا يقال: إنه واقف في يمين الآخر أو شماله
أو قدامه، كما إذا كان ارتفاعه يقرب من عشرين ذراعا، لكان ذلك خارجا عن
مورد الروايات، لأن الروايات إنما تكفلت لبيان الجهات الأربع فقط، ثم إنه لو
كان أحدهما واقفا على مكان مرتفع بحيث لا يضر بصدق اليمين واليسار والقدام،
ففي كيفية اعتبار المسافة بينهما وجوه أو أقوال: أحدها اعتبارها من موقف أحدهما
إلى الأساس الذي يكون الآخر واقفا على مرتفعه، فإن بلغ عشرة أذرع فهو وإلا
فلا. ثانيهما: اعتبارها من موقف أحدهما إلى الأساس ومن الأساس إلى موقف
الواقف على مرتفعه، فإن بلغ المجموع عشرة أذرع فهو. وإلا فلا ثالثها: اعتبارها
من ضلع المثلث بين الموقفين، بأن تلاحظ المسافة بين الموقفين بأن يخرج خطا من
أحد الموقفين إلى موقف الآخر فإن بلغ عشرة أذرع فهو إلا فلا، ولا يكفي إخراج
الخط من الموقف إلى الأساس فقط ولا يعتبر إخراجه أيضا من الأساس إلى موقف
العالي، ولا يخفى عليك الفرق بين هذه الوجوه الثلاثة، فإن الأول ينقص عن
الضلع المثلث الحاصل بين الموقفين، والثاني يزيد عليه وأقوى الوجوه هو الثالث،
من غير فرق بين أن يكون تسنيميا أو انحداريا.
الفرع السابع: لو كانا في موقف لا يمكنهما التباعد فإن كانا في ضيق الوقت صليا
جميعا وسقط اعتبار عدم المحاذاة وإن كان في سعة الوقت صليا على التعاقب
مخيرين في التقدم والتأخر، وإن كان الأفضل تقديم الرجل، وما ورد في بعض
الأخبار من أنه " صلى الرجل أولا " (1) محمول على ذلك، لا أن ذلك شرط لصحة
الصلاة أو أنه واجب نفسي.
الفرع الثامن: ظاهر أخبار الباب اختصاص الحكم بالرجل والمرأة، ولا يعم الصبي

(1) الوسائل: ج 3 ص 433 باب 10 من أبواب مكان المصلي، ح 1 و 2.
412

والصبية وإن قلنا بشرعية عبادتهما، من غير فرق بين تقدم الصبية على الصبي أو
على الرجل، أو تقدم الصبي على المرأة، نعم ورد في بعض (1) أخبار باب الجماعة
ما يظهر منه تعميم الحكم للصبي والصبية، فراجع وتأمل.
بقي الكلام في المعنى الثاني من المكان، وهو اعتبار الطهارة فيه: اعلم أن
الأقوال في ذلك أربعة الأول: اعتبار الطهارة في جميع مكان المصلي، من موضع
القدم إلى موضع السجود. الثاني: عدم اعتبار الطهارة فيه مطلقا حتى موضع
السجود، وهو الذي ينسب إلى الراوندي (2). الثالث: اعتبار الطهارة في خصوص
المساجد السبعة. الرابع: اعتبار الطهارة في خصوص موضع الجبهة، وهو الذي
ينسب إلى المشهور.
والروايات في المقام مطلقة وهي بين ما تعتبر الطهارة مطلقا وبين ما لا تعتبرها
مطلقا، ولكن حيث كانت روايات عدم الاعتبار صريحة في ذلك من حيث نفي
البأس فيها وروايات الاعتبار ظاهرة في ذلك من حيث ورود النهي فيها الظاهر
في المانعية كان مقتضى القاعدة حمل الروايات الناهية على الكراهة، تحكيما
للنص على الظاهر، وهذا هو الذي دعا الراوندي إلى عدم اعتبار الطهارة مطلقا،
حتى في المسجد، ولا بأس بذكر بعض أخبار الباب حتى يتضح حقيقة الحال:
فمنها خبر ابن أبي عمير قلت لأبي عبد الله عليه السلام أصلي على الشاذكونه
وقد أصابتها الجنابة فقال عليه السلام: لا بأس (2). وفي معناه عدة من روايات
أخر دالة على نفي البأس في المكان النجس الذي بإطلاقه يشمل جميع المكان.
ومنها خبر ابن بكير عن الصادق عليه السلام: في الشاذكونه يصيبها الاحتلام

(1) الوسائل: ج 5 ص 412 باب 23 من أبواب صلاة الجماعة، ح 3 و 5.
(2) المعتبر: ص 124 س 4 من كتاب الطهارة.
(3) الوسائل: ج 2 ص 1044 باب 30 من أبواب النجاسات، ح 4.
413

أيصلي عليها قال: لا (1).
ومنها موثق عمار: سأله عن الموضع القذر يكون في البيت أو غيره فلا تصيبه
الشمس ولكنه قد يبس الموضع القذر قال عليه السلام: لا يصلي عليه وأعلم
موضعه حتى تغسله.. الخبر (2).
وهذان الخبران ظاهران في المنع، إلا أن لما كان نفي البأس صريحا في الجواز
كان مقتضى القاعدة حمل النفي على الكراهة، وليس في أخبار الباب ما يدل على
اعتبار الطهارة في المساجد السبعة أو خصوص موضع الجبهة، ولكن لشيخنا
مد ظله في المقام كلاما وحاصله: أن خبر ابن بكير وكذا موثق عمار ظاهر في عدم
نجاسة جميع المكان الذي يصلي فيه، بداهة أن إصابة الاحتلام إنما يكون في
مقدار من المكان، وكذا ظاهر الموضع القدر بقرينة " وأعلم موضعه حتى تغسله "
هو قذارة مقدار قليل من البيت، بحيث لا يصلح للصلاة فيه بل يصلح للصلاة
عليه في الجملة ولو في بعض حالات الصلاة، وكذا لفظة " على " ظاهرة في
الاستعلاء، بحيث يكون الصلاة عليه وذلك أخص من الصلاة فيه، فإن لفظة
في يشمل جميع مكان المصلي وإن لم يلاق بدنه له كالمواضع المتخللة بين المساجد
في حال السجود، وهذا بخلاف لفظة " على " فإنه [نها] ظاهرة في ملاقاة بدن
المصلي للموضع ليتحقق الاستعلاء، فلفظة " على " إنما تشمل موقف المصلي
ومحل تشهده ومواضع مساجده السبعة، فضم هاتين المقدمتين أحدهما: كون
موضع إصابة الاحتلام والقذارة قليل جدا، بحيث لا يتحمل إلا لبعض حالات
الصلاة. وثانيهما: اعتبار كون ذلك الموضع مما يصيبه بدن المصلي، بقرينة

(1) الوسائل: ج 2 ص 1044 باب 30 من أبواب النجاسات، ح 6.
(2) الوسائل: ج 2 ص 1042 باب 29 من أبواب النجاسات، ح 4.
414

" على " ومعلوم أن المتيقن من ذلك هو موضع السجود، لأنه أحق بإطلاق الصلاة
عليه لأنه ركن في الصلاة مع أنه لا يحتمل اعتبار طهارة غيره، وعدم اعتبار
طهارته، واعتبار طهارة الجميع ينافي قلة المكان القذر ينتج ما ذهب إليه المشهور،
من اختصاص اعتبار الطهارة في خصوص المسجد دون غيره، لأنه بناء على
المقدمات المذكورة تكون الأخبار المانعة مختصة بموضع السجود، ومقتضى صناعة
الاطلاق والتقييد هو حمل الأخبار المجوزة على ما عدا موضع السجود، لأخصية
الأخبار المانعة حينئذ فتأمل جيدا، فإنه بعد في المقدمات شئ، وتتميم فتوى
المشهور بغير الاجماعات المنقولة مشكل.
وعلى كل حال ظاهر المشهور عدم اعتبار الطهارة في غير محل السجود، نعم
يعتبر أن لا يكون في المكان نجاسة متعدية، والظاهر أن اعتبار ذلك إنما هو لمحض
الطريقية لا الموضوعية، فلو كانت النجاسة مما يعفى عنها لقلتها فلا بأس بتعديها
كما هو واضح، هذا تمام الكلام فيما يعتبر في المكان.
وأما البحث عن مكروهات المكان فليس بمهم، نعم ينبغي البحث عن
الصلاة في المقابر، حيث إنه ربما قيل ببطلان الصلاة فيها. اعلم أن هنا عناوين
أربع: الصلاة في المقابر والصلاة بين القبور، والصلاة على القبر والصلاة إلى القبر،
بأن يجعل القبر قبلة له. وقد ورد المنع عن كل من هذه العناوين الأربع في
الأخبار، ولا يخفى الفرق بين الأول والثاني، إذ في الأول لا يعتبر فعلية القبور ولا
أن تكون الصلاة بينها بل يكفي كون المكان معدا للدفن، بحيث يطلق عليه المقبرة
وإن لم يكن فيه إلا قبر واحد. بل وإن لم يكن فيه قبر أصلا، وهذا بخلاف الثاني
فإنه يعتبر فعلية القبور لا أقل من قبرين صدق البينية بدون ذلك، فمما دل
على الأول قوله في خبر المناهي، نهى رسول الله صلى الله عليه وآله أن يصلي
415

الرجل في المقابر والطرق.. الخبر (1). وقوله عليه السلام في خبر عبيد بن زرارة:
الأرض كلها مسجد إلا بئر غائط ومقبرة (2). ومما يدل على الثاني موثقه عمار
سأل الصادق عليه السلام يصلي بين القبور قال: لا يجوز ذلك إلا أن يجعل بينه
وبين القبور إذا صلى عشرة أذرع من بين يديه، وعشرة أذرع من خلفه، وعشرة
أذرع عن يمينه، وعشرة أذرع عن يساره، ثم يصلي إن شاء (3). ومما يدل على
الثالث خبر يونس بن ظبيان عن أبي عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وآله نهى
أن يصلى على قبر أو يقعد عليه أو يبنى (4). ومما دل على الرابع قوله في صحيحة
زرارة المروية عن العلل قال: لأبي جعفر عليه السلام الصلاة بين القبور فقال:
بين خللها ولا تتخذوا شيئا منها قبلة.. الخبر (5).

(1) الوسائل: ج 3 ص 453 باب 25 من أبواب مكان المصلي، ح 2.
(2) الوسائل: ج 3 ص 423 باب 1 من أبواب مكان المصلي، ح 4.
(3) الوسائل: ج 3 ص 453 باب 25 من أبواب مكان المصلي، وفيه " سألته عن الرجل يصلي ".
(4) الوسائل: ج 3 ص 454 باب 25 من أبواب مكان المصلي، ح 8 وفيه اختلافي يسير.
(5) علل الشرائع: ص 358 باب 75، ح 1 ط بيروت، وفيه اختلاف يسير.
416