الكتاب: الرسائل
المؤلف: السيد الخميني
الجزء: ١
الوفاة: ١٤١٠
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق: مع تذييلات لمجتبى الطهراني - ربيع الأول ١٣٨٥
الطبعة:
سنة الطبع: ربيع الأول ١٣٨٥
المطبعة: مؤسسة اسماعيليان
الناشر: مؤسسة اسماعيليان - للطباعة والنشر والتوزيع
ردمك:
ملاحظات:

الرسائل
تشتمل على مباحث
اللا ضرر، والاستصحاب، والتعادل والترجيح، والاجتهاد، والتقليد، والتقية
تأليف
الأستاذ الأعظم زعيم الحوزة العلمية المرجع الديني الأعلى
الآية العظمى الحاج آقا روح الله الخميني الموسوي
أدام الله أيام افادته
مع تذييلات لمجتبى الطهراني
ربيع الأول 1385
مؤسسة اسماعيليان
للطباعة والنشر والتوزيع
1

يا بقية الله
كيف نرفع الشكوى إليك وأنت اعلم بها منا.
وكيف نتحدث إليك عن الحوادث النازلة بالاسلام والمسلمين
من أعدائهما المبعوثين إلى زوالهما وأنت واقف على جملها
وتفاصيلها فليس من بد ان نرفع شكوانا إلى من به تغير الحال إلى
أحسن مآل ونتفرغ اليه بتعجيل ظهورك وقرب فرجك.
اللهم انا نشكو إليك فقد نبينا، وغيبته ولينا وكثرة عدونا وقلة
عددنا، وشدة الفتن بنا، وتظاهر الزمان علينا، فصل على محمد
وآله، واعنا على ذلك بفتح منك تعجله، وبضر تكشفه ونصر
تعزه، وسلطان حق تظهره.
(م - ط)
2

مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم انا نحمدك حمدا يكون وسيلة إليك، وذخيرة ليوم العرض بين يديك،
ونشكرك على ما أنعمت من نعمك ووهبت النوافل من كرمك، ونسألك ان تصلي وتسلم
على رسلك وأنبيائك، سيما نبي الرحمة ومعلم الكتاب والحكمة، وعلى أهل بيته
الأطهار ما تعاقب الليل والنهار، ونسئل منك الهداية إلى قوانين معالم الاسلام،
والارشاد إلى أصول ضوابط الاحكام، والتوفيق لتهذيب السر عن الأوهام، ما طلع
النجم في الظلام.
وبعد فان النواميس الإلهية من أطوار حضرة السبحان تقدست عن ان يحيط بها
بيان أو يكتنهها عقل الانسان، وانما الاعلام بذلوا مجهودهم لكشف الظلام عما يحتاج اليه
الأنام المقطوعون عن الامام عليه السلام، فذللوا الصعاب وفتحوا الأبواب بأفكارهم القيمة ولكن
الاسرار لم تزل محتجبة تحت الاستار فان دقائق الشريعة لا تكون شريعة لكل وارد وانما
يرد عليها واحد بعد واحد، وانى وان لم أستطع ان أبين لك حق المقال ولكن بالغت
فيه بالاختصار معتصما بحبل الاعتذار، وفي طليعة هؤلاء الاعلام سماحة العلامة الأكبر
سيدنا الأستاذ الأعظم، زعيم الحوزة العلمية، المرجع الديني الاعلى، الآية العظمى
الحاج آقا روح الله الموسوي الخميني، أدام الله أيام إفاداته.
أيها القارئ العزيز - عصرنا هذا عصر التقريرات لان ما هو المعمول بين رواد العلم
والفضيلة في الدراسات العالية في هذا العصر تحرير ما يستفيدون من الأساتذة
ونشره ليصير نفعه عاما ويسمى ذلك بالتقريرات - هذه سيرة جيدة الا انه قد يتفق لبعض
المقررين الاجمال في التحرير والاختلاف في التعبير وهما يورثان الاشكال على
الاعلام، ولعل بعض الاشكالات التي أوردها الأساتذة عليهم منشأ ها ذلك لأنه كثيرا ما يقرع
3

أسماعنا من الأساتذة بعد الايراد على مقالة بعض الأعاظم: " لعل هذا سهو من قلم المقرر ".
لأجل ذلك استدعيت من الأستاذ ان يجيز لنشر ما حرره بقلمه الشريف في بعض
المباحث الأصولية والفقهية صونا لهما (على) ان اكل الفاكهة من الشجر المثمر أطيب
وشرب الماء من الشريعة اهنأ - فأجاز دام ظله.
ثم ان هذا السفر القيم يشتمل على رسائل خمس ودونك بيان موضوعاتها:
1 - رسالة في قاعدة اللا ضرر.
2 - رسالة في قاعدة الاستصحاب - وفي آخرها (قاعدة اليد - التجاوز والفراغ - اصالة
الصحة - قاعدة القرعة).
3 - رسالة في قاعدة التعادل والترجيح.
4 - رسالة في قاعدة الاجتهاد والتقليد.
5 - رسالة في قاعدة التقية.
مع استجازة منه دام ظله سميت كتابه هذا ب‍ " الرسائل وأشرت في ذيل صحائفه
إلى أمور لا تخلو من الفائدة.
شكرا لك يا واهب التوفيق مزيد الشكر حيث وفقتني لتصحيح هذا الكتاب مرة
أخرى بعد ما صححته في سالف الزمان وتهيأ للطبع ولكن الحوادث المؤلمة صارت
موجبة لتأخير طبعه وقد جرى على المسلمين مثل ما جرى على اخوانهم في القرون
الماضية بل أعظم منها وثارت العواصف المسمومة وصارت الأيام ليالي وقد حال...
بيننا وبين زعيمنا الروحاني كالغيوم المتلبدة الحائلة بين الشمس وما استنار بنوره كم
من عيون سهرت الليالي في طلبه، وكم من سواد عيون ابيضت في انتظار قدومه ولله در
من قال: " لكل شئ آفة وللعم آفات ".
اقتصر كلامي هنا ملتمسا من الفضلاء الكرام ان يمنوا على بالصفح عما يرونه من
الزلل وان يدعوني بالخير في مظان الإجابة واجر ذلك على الله وعليه قصد السبيل وهو
حسبي ونعم الوكيل. 22 ج 2 - 1384
مجتبى الطهراني
4

رسالة
في قاعدة لا ضرر
5

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين وبعد فيقول العبد المفتاق إلى ربه روح الله ابن المرحوم السيد مصطفى الموسوي الخميني نزيل قم حرم أهل البيت: انى لما انتهيت في الدورة الأصولية إلى ما جرى على قلم المحقق الخراساني قدس سره استجرارا واستطرادا في قاعدة نفي الضرر والضرار تبعا لشيخه العلامة الأنصاري رحمة الله عليه، أحببت ان أفرد رسالة مستقلة فيها، مفرزة عن تعليقتي على الكفاية، لطول المباحث المتعلقة بها وخروج استيفاء البحث عن جميعها عن طور التعليقة ورسم التحشية، فحررت مبانيها ومطالبها حسب ما أدى إليه نظري القاصر ورتبتها على مقدمة وفصول وتنبيهات.
في نقل الأحاديث
المقدمة في ذكر الأحاديث المربوطة بالمقام وهي كثيرة:
منها ما رواه في الكافي (1) عن عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن خالد عن أبيه عن عبد الله بن بكير عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: ان سمرة بن جندب كان له عذق (2) في حائط لرجل من الأنصار وكان منزل الأنصاري بباب البستان فكان يمر به إلى نخلته، ولا يستأذن، فكلمه الأنصاري ان يستأذن إذا جاء، فأبى سمرة فلما تأبى جاء الأنصاري إلى

(1) كتاب المعيشة - باب الضرار - الرواية - 2.
(2) العذق كفلس - النخلة بحملها -
6

رسول الله صلى الله عليه وآله فشكا إليه وخبره الخبر، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وخبره بقول الأنصاري وما شكا وقال إذا (ان خ ل) أردت الدخول فاستأذن فأبى فلما أبى ساومه حتى بلغ به من الثمن ما شاء الله فأبى ان يبيع فقال لك بها عذق يمد لك في الجنة فأبى ان يقبل فقال رسول الله صلى الله عليه وآله للأنصاري: اذهب فاقلعها وارم بها إليه فإنه لا ضرر ولا ضرار.
قال في الوسائل (1) ورواه الصدوق بإسناده عن ابن بكير نحوه ورواه الشيخ بإسناده عن أحمد بن محمد بن خالد مثله.
وعن علي بن محمد بن بندار عن أحمد بن أبي عبد الله عن أبيه عن بعض أصحابنا عن عبد الله بن مسكان عن زرارة (2) عن أبي جعفر عليه السلام قال: ان سمرة بن جندب كان له عذق وكان طريقه إليه في جوف منزل رجل من الأنصار، فكان يجيء ويدخل إلى عذقه بغير اذن من الأنصاري. فقال الأنصاري: يا سمرة لا تزال تفجأنا على حال لا نحب ان تفجأنا عليها فإذا دخلت فاستأذن فقال: لا استأذن في طريق وهو طريقي إلى عذقي، قال فشكاه الأنصاري إلى رسول الله فأرسل إليه رسول الله. فأتاه فقال له: ان فلانا قد شكاك وزعم انك تمر عليه وعلى أهله بغير اذنه فاستأذن عليه إذا أردت ان تدخل فقال:
يا رسول الله أستأذن في طريقي إلى عذقي؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: خل عنه ولك مكانه عذق في مكان كذا وكذا فقال: لا قال: فلك اثنان قال: لا أريد فلم يزل يزيده حتى بلغ عشرة أعذاق فقال: لا، قال فلك عشرة في مكان كذا وكذا، فأبى فقال: خل عنه ولك مكانه عذق في الجنة قال: لا أريد، فقال له رسول الله: انك رجل مضار ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن قال: ثم امر بها رسول الله فقلعت ثم رمى بها إليه وقال له رسول الله:
انطلق فاغرسها حيث شئت.
ومنها ما في الوسائل (3) عن محمد بن علي بن الحسين بإسناده عن الحسن بن

(1) كتاب احياء الموات - الباب 12.
(2) الكافي - كتاب المعيشة - باب الضرار - الرواية 8.
(3) كتاب احياء الموات - الباب 12.
7

زياد الصيقل (1) عن أبي عبيدة الحذاء (2) قال قال أبو جعفر: كان لسمرة بن جندب نخلة في حائط بنى فلان فكان إذا جاء إلى نخلته ينظر إلى شيء من أهل الرجل يكرهه الرجل قال: فذهب الرجل إلى رسول الله فشكاه فقال: يا رسول الله ان سمرة يدخل علي بغير إذني فلو أرسلت إليه فأمرته ان يستأذن حتى تأخذ أهلي خدرها منه، فأرسل إليه رسول الله فدعاه فقال: يا سمرة ما شأن فلان يشكوك ويقول: يدخل بغير إذني فترى من أهله ما يكره ذلك، يا سمرة استأذن إذا أنت دخلت ثم قال رسول الله: يسرك ان يكون لك عذق في الجنة بنخلتك؟ قال: لا، قال لك ثلاثة قال: لا، قال: ما أراك يا سمرة إلا مضارا اذهب يا فلان فاقطعها واضرب بها وجهه.
ومنها ما في الكافي (3) عن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين عن محمد بن عبد الله بن هلال (4) عن عقبة بن خالد (5) عن أبي عبد الله قال قضى رسول الله بين أهل المدينة في مشارب

(1) يقال: انه كثير الرواية ولم يذكر له مدح ولا ذم.
(2) هذا الرجل زياد بن عيسى وهو ثقة.
(3) كتاب المعيشة - باب الضرار - الرواية 6.
(4) لم أظفر على رواية ذكر في طريقها ابن هلال الا قليلا ولا ذكر له في رجال النجاشي مستقلا بل ذكره في ترجمة محمد بن عبد الله الهاشمي، ولم أظفر على مدح فيه غير ان عظمة محمد بن الحسين الذي يروى عنه يمكن ان يورث حسن الظن به ومع ذلك الرجل مجهول الحال
(5) قال في نقد الرجال: عقبة بن خالد كوفي «ق» له كتاب روى عنه علي بن عقبة بن خالد (جش) وقال الكشي: حدثني محمد بن مسعود قال حدثني عبد الله بن محمد عن الوشاء قال حدثنا علي بن عقبة عن أبيه قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ان لنا خادما لا تعرف ما نحن عليه وإذا أذنبت ذنبا وأرادت ان تحلف بيمين قالت: لا وحق الذي إذا ذكرتموه بكيتم قال فقال: رحمكم الله من أهل البيت (انتهى).
وروى في الكافي في الباب السادس من أبواب الزكاة عن العدة عن سهل بن زياد عن أحمد بن الحسن بن علي عن أبيه عن عقبة بن خالد قال: دخلت انا والمعلى وعثمان بن عمران.
على أبي عبد الله عليه السلام فلما رآنا قال: مرحبا بكم وجوه تحبنا ونحبها جعلكم الله معنا في الدنيا والآخرة (إلخ) أوردها العلامة المامقاني في ترجمة عثمان بن عمران.
وغاية ما يمكن ان يستظهر من الروايتين كون الرجل شديد الحب لهم عليهم السلام ولكن لا يستفاد منهما وثاقته لأن الروايتين نحو من شهادة الرجل لنفسه، فالرجل لا يخلو من مدح -
8

النخل انه لا يمنع نفع الشيء (1) وقضى بين أهل البادية انه لا يمنع فضل ماء ليمنع به فضل كلأ وقال لا ضرر ولا ضرار (2).
ومنها ما في الوسائل (3) عن محمد بن يعقوب بالسند المتقدم عن أبي عبد الله قال قضى رسول الله بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن وقال: لا ضرر ولا ضرار، وقال: إذا أرفت الأرف (4) وحدت الحدود فلا شفعة، قال ورواه الشيخ بإسناده عن محمد بن يحيى مثله، ورواه الصدوق (5) بإسناده عن عقبة بن خالد وزاد ولا شفعة الا لشريك غير مقاسم.
ومنها ما في المستدرك (6) عن دعائم الإسلام روينا عن أبي عبد الله، انه سئل عن

(1) هكذا في النسخ الموجودة عندي، وفي رواية عبادة بن الصامت الآتية، وقضى بين أهل المدينة في النخل لا يمنع نقع بئر وقضى بين أهل البادية (إلخ) وهي أظهر، ولا يبعد تصحيف نقع البئر بذلك لقربهما في الكتب العربي وقوله: لا يمنع (إلخ) معناه كما في التذكرة وعن الشهيد: ان الماشية انما ترعى بقرب الماء فإذا منع من الماء فقد منع من الكلاء وحازه لنفسه، ونقع البئر أي فضل البئر كما في المجمع (منه).
(2) رواه في الوسائل في كتاب احياء الموات الباب 7 - بلفظة «ليمنع» وهكذا بلفظة «فقال» بدل «وقال».
(3) كتاب الشفعة - الباب 5 -
(4) اي حددت الحدود -
(5) في الفقيه باب الشفعة (36) غير انه بفعله بلفظة «اضرار» على ما في النسخ المصححة -
(6) كتاب احياء الموات - الباب 9 -
9

جدار الرجل وهو سترة بينه وبين جاره سقط فامتنع من بنيانه قال: ليس يجبر على ذلك الا ان يكون وجب ذلك لصاحب الدار الأخرى بحق أو بشرط في أصل الملك ولكن يقال لصاحب المنزل: استر على نفسك في حقك ان شئت، قيل له: فان كان الجدار لم يسقط ولكنه هدمه أو أراد هدمه إضرارا بجاره لغير حاجة منه إلى هدمه، قال:
لا يترك وذلك ان رسول الله صلى الله عليه وآله قال: لا ضرر ولا ضرار (إضرار خ) وان هدمه كلف ان يبنيه.
وعنه (1) قال: روينا عن أبي عبد الله عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه السلام ان رسول الله صلى الله عليه وآله قال: لا ضرر ولا ضرار.
ومنها ما في أول مواريث الوسائل (2) قال: قال الصدوق (3) وقال النبي صلى الله عليه وآله:

(1) المستدرك كتاب احياء الموات - الباب 9 -
(2) الباب 1 - من أبواب موانع الإرث -
(3) نقله بلفظة «إضرار» على ما في النسخ المصححة ويظهر من كلامه ان جملة «الإسلام يزيد ولا ينقص» وجملة «لا ضرر ولا إضرار في الإسلام، روايتان أو قطعتان منهما وان جملة «فالإسلام يزيد إلخ» نتيجة استنتجها منهما وفرعها عليهما لأنه (قده) هنا في مقام الاستدلال بالروايات على ان المسلم يرث من الكافر لا نقلها وعلى مزيد اطلاعك ننقل كلامه بتمامه ولعل هذا ينفعك فيما سيأتي وإليك عبارته:
لا يتوارث أهل ملتين، والمسلم يرث الكافر، والكافر لا يرث المسلم وذلك ان أصل الحكم في أموال المشركين انها فيء للمسلمين، وان المسلمين أحق بها من المشركين، وان الله عز وجل انما حرم على الكفار الميراث عقوبة لهم بكفرهم كما حرم على القاتل عقوبة لقتله، فاما المسلم فلأي جرم وعقوبة يحرم الميراث؟ وكيف صار الإسلام يزيده شرا؟ 1 - مع قول النبي صلى الله عليه وآله: الإسلام يزيد ولا ينقص.
1 - مع قول النبي صلى الله عليه وآله: الاسلام يزيد ولا ينقص.
2 - ومع قوله عليه السلام: لا ضرر ولا إضرار في الإسلام.
فالإسلام يزيد المسلم خير أو لا يزيده شرا.
3 - ومع قوله عليه السلام: الإسلام يعلو ولا يعلى عليه،
والكفار بمنزلة الموتى لا يحجبون ولا يورثون.
4 - وروى عن أبي الأسود الدؤلي ان معاذ بن جبل كان باليمن فاجتمعوا إليه وقالوا:
يهودي مات وترك أخا مسلما فقال معاذ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: الإسلام يزيد ولا ينقص، فورث المسلم من أخيه اليهودي. «انتهى كلامه» فظهر مما ذكرنا ان ما نقله الأستاذ دام ظله عن الصدوق في هذا الباب روايتان أو قطعتان منهما وان جملة «فالإسلام إلخ» من كلماته رحمه الله، - راجع من لا يحضره الفقيه - باب ميراث أهل الملل «171».
10

الإسلام يزيد ولا ينقص قال وقال: لا ضرر ولا ضرار في الإسلام فالإسلام يزيد المسلم خيرا ولا يزيده شرا.
وقال الشيخ في الخلاف في باب خيار الغبن (1): دليلنا ما روى عن النبي صلى الله عليه وآله انه قال: لا ضرر ولا ضرار، وقال ابن زهرة في باب خيار العيب: ويحتج على المخالف بقوله: لا ضرر ولا ضرار،
وعن التذكرة (2) مرسلا عن النبي صلى الله عليه وآله لا ضرر ولا ضرار في الإسلام، وعن نهاية ابن الأثير فيه أي في الحديث، لا ضرر ولا ضرار في الإسلام وفي مجمع البحرين وفي حديث الشفعة قضى رسول الله بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن وقال: لا ضرر ولا ضرار في الإسلام، قال وفي بعض النسخ ولا إضرار ولعله غلط.
ومنها ما عن مسند أحمد بن حنبل (3) برواية عبادة بن صامت في ضمن نقل قضايا كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: وقضى ان لا ضرر ولا ضرار.
ومنها ما في الكافي (4) عن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين عن يزيد بن إسحاق شعر (شفر خ - ل) (5) عن هارون بن حمزة الغنوي عن أبي عبد الله عليه السلام في رجل

(1) في المسئلة 6 -
(2) في المسئلة الأولى من باب خيار الغبن -
(3) المجلد الخامس - ص 326 -
(4) كتاب المعيشة - باب الضرار - الرواية 4
(5) لا يبعد وثاقة الرجل -
11

شهد بعيرا مريضا وهو يباع فاشتراه رجل بعشرة دراهم فجاء وأشرك فيه رجلا بدرهمين بالرأس والجلد، فقضي أن البعير برء فبلغ ثمنه دنانير قال فقال: لصاحب الدرهمين خمس ما بلغ فان قال أريد الرأس والجلد فليس له ذلك هذا الضرار وقد أعطى حقه إذا أعطى الخمس.
ومنها ما فيه (1) عن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين عن محمد بن عبد الله ابن هلال عن عقبة بن خالد عن أبي عبد الله في رجل أتى جبلا فشق فيه قناة فذهبت قناة الاخر بماء قناة الأول قال فقال يتقاسمان (يسان خ - ل) بحقائب البئر ليلة ليلة فينظر أيتها أضرت بصاحبتها، فان رأيت الأخيرة أضرت بالأولى فلتعور قال في الوسائل (2) ورواه الصدوق بإسناده عن عقبة بن خالد نحوه وزاد وقضى رسول الله بذلك وقال: ان كانت الأولى أخذت ماء الأخير لم يكن لصاحب الأخيرة على الأول سبيل، وعن محمد بن الحسن بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام (3) قريب منه.
ومنها ما فيه (4) عن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين قال كتبت إلى أبي محمد عليه السلام رجل كانت له قناة في قرية فأراد رجل ان يحفر قناة أخرى إلى قرية له كم يكون بينهما في البعد حتى لا يضر بالأخرى في الأرض إذا كانت صلبة أو رخوة فوقع عليه السلام:
على حسب ان لا يضر إحداهما بالأخرى إن شاء الله (4) قال وكتبت إليه رجل كان له رحى على نهر قرية والقرية لرجل فأراد صاحب القرية ان يسوق إلى قريته الماء في غير هذا النهر ويعطل هذه الرحى، آله ذلك أم لا؟ فوقع عليه السلام يتقى الله ويعمل في ذلك بالمعروف ولا يضر أخاه المؤمن.

(1) الكافي - كتاب المعيشة - باب الضرار - الرواية 7.
(2) كتاب احياء الموات - الباب 16.
(3) الوسائل، كتاب احياء الموات - الباب 16.
(4) الكافي، كتاب المعيشة - باب الضرار الرواية 15.
(5) أورد صدرها في الوسائل 14 - وذيلها في الباب 15 - من كتاب احياء الموات.
12

ومنها ما فيه (1) عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن محمد بن يحيى (2) عن طلحة بن زيد (3) عن أبي عبد الله عن أبيه عليهما السلام قال قرأت في كتاب لعلي عليه السلام ان رسول الله كتب كتابا بين المهاجرين والأنصار ومن لحق بهم من أهل يثرب ان كل غازية غزت بما يعقب بعضها بعضا بالمعروف والقسط بين المسلمين فإنه لا يجوز حرب الا بإذن أهلها وان الجار كالنفس غير مضار ولا آثم وحرمة الجار على الجار كحرمة أمه وأبيه لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله الا على عدل وسواء» والظاهر زيادة لفظة (بما) بعد قوله (غزت) وعن التهذيب «غزت معنا» وفي بعض النسخ (لا تجار حرمة) بدل (لا يجوز حرب) كما عن أكثر نسخ التهذيب.
ومنها ما في الوسائل في كتاب الخلع (4) عن محمد بن علي بن الحسين في

(1) الكافي - كتاب الجهاد - باب اعطاء الامام - الرواية 5.
(2) قال النجاشي في ترجمة الرجل: محمد بن يحيى الخزاز الكوفي روى عن أصحاب أبي عبد الله ثقة عين له كتاب نوادر -
(3) قال العلامة المامقاني في ترجمته: عده الشيخ تارة من أصحاب الباقر عليه السلام قائلا طلحة بن زيد تبرى وأخرى من أصحاب الصادق عليه السلام بقوله طلحة بن زيد الجزري القرشي. وقال النجاشي: طلحة بن زيد أبو الخزرج النهدي الشامي ويقال الخزرجي عامي روى عن جعفر بن محمد عليهما السلام ذكره أصحاب الرجال، له كتاب يرويه جماعة يختلف برواياتهم. وقال في الفهرست: طلحة بن زيد له كتاب وهو عامي المذهب الا ان كتابه معتمد (انتهى) فمنهم من قال انه تبرى كالشيخ في رجاله والمحقق في المعتبر وغيرهما ومنهم من قال انه عامي كالشيخ في الفهرست والنجاشي وصاحب المدارك وابن داود في الفصل الذي عقده في آخر كتابه لعد العامة وغيرهم وقد تفرد الشيخ بقوله ان كتابه معتمد، ولم أقف على من نطق به غيره وذلك لا ينفع الا فيما علم انه من كتابه لأن النتيجة تتبع أخس المقدمات ونقل المولى الوحيد (ره) عن خاله يعنى المجلسي الثاني الحكم بكونه كالموثق قال: ولعله لقول الشيخ:
كتابه معتمد «انتهى» فالرجل لم يوثق -
(4) الباب 2.
13

عقاب الأعمال من النبي صلى الله عليه وآله في حديث قال: ومن أضر بامرأته حتى تفتدي منه نفسها لم يرض الله له بعقوبة دون النار (إلى ان قال): ومن ضار مسلما فليس منا ولسنا منه في الدنيا والآخرة.
هذه جملة ما عثرنا عليه من الروايات المربوطة بالمقام وقد نقل عن الفخر في الإيضاح دعوى تواتر حديث نفي الضرر والضرار (1)

(1) وقد وقفت على عدة روايات يمكن ان ينتفع بها في المقام في الكتب الأربعة وغيرها وأوردتها هنا ولكن أسقطت عن إسنادها بعض الوسائط روما للاختصار، وأشرت في ذيلها إلى مصادرها، وما وجدته منها في الوسائل أرجعنا إليه لسهولة المراجعة إليها، أقدم شكري إلى بعض الاعلام لما أطلعني على ثمان منها وان عثرت عليها بعده في كتب الاخبار مع زيادة، وإليك بيان الروايات تحت أرقام رياضية:
1 - ما رواه الكليني عن إسماعيل بن الفضل الهاشمي. قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل اكترى أرضا من أرض أهل الذمة من الخراج وأهلها كارهون وانما تقبلها من السلطان لعجز أهلها عنها أو غير عجز، فقال: إذا عجز أربابها عنها فلك ان تأخذها الا ان يضاروا (الحديث) - راجع الوسائل - كتاب التجارة - الباب 21 - من أبواب عقد البيع - 2 - الحسن بن علي بن شعبة في (تحف العقول) عن الصادق عليه السلام في وجوه معايش العباد «إلى ان قال»: واما وجوه الحرام من وجوه الإجارة نظير ان يؤاجر نفسه على جمل ما يحرم عليه أكله أو شربه «إلى ان قال»: أو يؤاجر نفسه في هدم المساجد ضرارا - الوسائل - كتاب الإجارة - الباب 1 - 3 - ما رواه الكليني عن عبيد بن زرارة - قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام: الجارية يريد أبوها ان يزوجها من رجل ويريد جدها ان يزوجها من رجل آخر فقال: الجد أولى بذلك ما لم أبوها ان يزوجها من رجل ويريد جدها ان يزوجها من رجل اخر فقال: الجد أولى بذلك ما لم يكن مضارا - الحديث - راجع الوسائل - كتاب النكاح - الباب 11 - من أبواب عقد النكاح - 4 - محمد بن الحسن بإسناده عن صفوان بن يحيى عن أبي الحسن الرضا عليه السلام انه سأله عن الرجل تكون عنده المرأة الشابة فيمسك عنها الأشهر والسنة لا يقربها ليس يريد الإضرار بها يكون لهم مصيبة، يكون في ذلك آثما؟ قال: إذا تركها أربعة أشهر كان آثما بعد ذلك - الوسائل - كتاب النكاح - الباب 71 من أبواب مقدمات النكاح - 5 - ما رواه الكليني عن أبي الصباح الكناني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن قول الله عز وجل: «لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده» فقال: كانت المواضع مما تدفع إحداهن الرجل إذا أراد الجماع تقول: لا أدعك انى أخاف ان أحبل فأقتل ولدي هذا الذي،
، أرضعه، وكان الرجل تدعوه المرأة فيقول: انى أخاف ان أجامعك فأقتل ولدي، فيدفعها فلا يجامعها فنهى الله عز وجل عن ذلك ان يضار الرجل المرأة والمرأة الرجل راجع الوسائل كتاب النكاح - الباب 72 - من أبواب أحكام الأولاد.
6 - عن علي بن إبراهيم في تفسيره عن محمد بن الفضيل عن أبي الصباح عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا ينبغي للرجل ان يمتنع عن جماع المرأة فيضار بها إذا كان لها ولد مرضع ويقول لها: لا أقربك فانى أخاف عليك الحبل فتقتلى ولدي وكذلك المرأة لا يحل لها ان تمنع على الرجل فتقول: انى أخاف ان أحبل فأقتل ولدي. وهذه المضارة في الجماع على الرجل والمرأة وعلى الوارث مثل ذلك قال: لا يضار المرأة التي يولد لها ولد وقد توفي زوجها ولا يحل للوارث ان يضار أم الولد في النفقة فيضيق عليها - راجع المصدر المذكور آنفا - 7 - ما رواه الصدوق عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: المطلقة الحبلى يتفق عليها حتى تضع حملها وهي أحق بولدها ان ترضعه بما تقبله امرأة أخرى يقول الله عز وجل: «لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك» لا يضار بالصبي ولا يضار بأمه في رضاعه الحديث - راجع الوسائل - كتاب النكاح - الباب 70 من أبواب أحكام الأولاد - 8 - ما رواه الكليني عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث انه نهى ان يضار بالصبي أو تضار أمه في رضاعه الحديث راجع المصدر المذكور آنفا -،
، 9 - ما رواه الصدوق عن حسن بن زياد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا ينبغي للرجل ان يطلق امرأته ثم يراجعها وليس فيها حاجة ثم يطلقها فهذا الضرر الذي نهى الله عز وجل عنه الا ان يطلق ثم يراجع وهو ينوي الإمساك - راجع الوسائل - كتاب الطلاق - الباب 34 من أبواب أقسام الطلاق - 10 - ما رواه الصدوق عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن قول الله عز وجل: ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا، قال: الرجل يطلق حتى إذا كادت ان يخلو أجلها راجعها ثم طلقها يفعل ذلك ثلث مرات فنهى الله عز وجل عن ذلك - راجع المصدر المذكور آنفا.
11 - ما رواه الصدوق عن علي بن الحسين بن علي بن فضال عن أبيه قال. سألت الرضا عليه السلام عن العلة التي من أجلها لا تحل المطلقة للعدة لزوجها حتى تنكح زوجا غيره فقال: ان الله تعالى انما اذن في الطلاق مرتين فقال: الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان يعنى في التطليقة الثالثة فلدخوله فيما كره الله عز وجل من الطلاق الثالث حرمها عليه فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره لئلا يوقع الناس الاستخفاف بالطلاق ولا يضار النساء - راجع الوسائل كتاب الطلاق - الباب 4 - من أبواب أقسام الطلاق - 12 - ما رواه الكليني عن يحيى بن عبد الله بن الحسن عن أبي عبد الله عليه السلام قال سمعته يقول: لا يجوز طلاق في استكراه ولا تجوز يمين في قطيعة رحم «إلى ان قال»: وانما،
، الطلاق ما أريد به الطلاق من غير استكراه ولا إضرار - الحديث - الوسائل - كتاب الطلاق - الباب 37 - من أبواب مقدماته وشرائطه - 13 - ما رواه الكليني عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا يضار الرجل امرأته إذا طلقها فيضيق عليها حتى تنتقل قبل ان تنقضي عدتها فان الله تعالى عز وجل قد نهى عن ذلك فقال: «ولا تضار وهن لتضيقوا عليهن» ورواه بطريق آخر عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام - الكافي - كتاب الطلاق - باب في قول الله عز وجل: ولا تضار وهن - ج 6 - ص 123 - 14 - ما رواه الكليني عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام انه سئل عن رجلين كان بينهما عبد فأعتق أحدهما نصيبه فقال: ان كان مضارا كلف ان يعتقه كله والا استسعى العبد في النصف للآخر ورواه الصدوق بإسناده عن حماد ورواه الشيخ بإسناده عن محمد بن يعقوب مثله - الوسائل - كتاب العتق - الباب 18 - 15 - ما رواه الشيخ عن محمد بن مسلم قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام: رجل ورث غلاما وله فيه شركاء فأعتق لوجه الله نصيبه فقال: إذا أعتق نصيبه مضارة وهو موسر ضمن للورثة وإذا أعتق لوجه الله كان الغلام قد أعتق من حصة من أعتق ويستعملونه على قدر ما أعتق منه له ولهم فان كان نصفه عمل لهم يوما وله يوما وان أعتق الشريك مضارا وهو معسر فلا عتق له لأنه أراد ان يفسد على القوم ويرجع القوم على حصصهم - راجع المصدر المذكور آنفا -،
14



، 16 - ما رواه الكليني عن إسحاق بن عمار قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام: الرجل يكون عليه اليمين «الدين» فيحلفه غريمه بالايمان المغلظة ان لا يخرج من البلد الا بعلمه فقال:
لا يخرج حتى يعلمه قلت: ان أعلمه لم يدعه قال: ان كان علمه ضررا عليه وعلى عياله فليخرج ولا شيء عليه - الوسائل - كتاب الإيمان - الباب 40 - 17 - ما رواه الكليني عن حمران في حديث طويل قال: قال أبو جعفر عليه السلام:
لا يكون ظهار في يمين ولا في إضرار ولا في غضب - الحديث - الوسائل كتاب الظهار - الباب 2 - 18 - ما رواه الكليني عن محمد بن حفص عن رجل عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن قوم كانت لهم عيون في الأرض قريبة بعضها من بعض فأراد رجل ان يجعل عينه أسفل من موضعها الذي كانت عليه وبعض العيون إذا فعل بها ذلك أضر بالبقية من العيون وبعضها لا يضر من شدة الأرض قال: فقال: ما كان في مكان شديد فلا يضر وما كان في أرض رخوة بطحاء فإنه يضر، وان عرض رجل على جاره ان يصنع عينه كما وضعها وهو على مقدار واحد قال: ان تراضيا فلا يضر - الحديث - ورواه الصدوق مرسلا إلى قوله: فإنه يضر - الوسائل - كتاب إحياء الموات - الباب 13 - 19 - ما رواه الصدوق عن يونس عن بعض رجاله عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته ما العلة التي من أجلها إذا طلق الرجل امرأته وهو مريض في حال الإضرار ورثته ولم يرثها وما حد،
، الإضرار عليه فقال: هو الإضرار ومعنى الإضرار منعه إياها ميراثها منه فألزم الميراث عقوبة - ورواه في العلل مثله - الوسائل - كتاب الإرث - الباب 14 - من أبواب ميراث الأزواج - 20 - ما رواه الصدوق بإسناده عن زرعة عن سماعة قال سألته عن رجل طلق امرأته وهو مريض قال: ترثه ما دامت في عدتها فان طلقها في حال الإضرار فإنها ترثه إلى سنة، وان زاد على السنة في عدتها يوم واحد فلا ترثه - راجع المصدر المذكور آنفا - 21 - ما رواه الصدوق عن علي بن سويد قال: قلت لأبي الحسن الماضي عليه السلام: يشهدني هؤلاء على إخواني؟ قال: نعم أقم الشهادة لهم وان خفت على أخيك ضررا - وقال الصدوق:
هكذا وجدته في نسختي، ووجدت في غير نسختي (وان خفت على أخيك ضررا فلا - إلخ) راجع من لا يحضره الفقيه - باب الاحتياط في إقامة الشهادة (32) ج 3 - ص 42 - الطبعة الحديثة - 22 - ما رواه محمد بن الحسن بإسناده عن أحمد بن محمد عن علي بن النعمان عن أبي - الصباح الكناني قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: من أضر بشيء من طريق المسلمين فهو له ضامن - الوسائل - كتاب الديات - الباب 8 من أبواب موجبات الضمان -،
، 23 - ما رواه الكليني عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن الشيء يوضع على الطريق فتمر الدابة فتنفر بصاحبها فتعقره فقال: كل شيء يضر بطريق المسلمين فصاحبه ضامن لما يصيبه - الوسائل - كتاب الديات - الباب 9 - من أبواب موجبات الضمان - 24 - ما رواه الشيخ عن أبي العباس البقباق عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له:
الطريق الواسع هل يؤخذ منه شيء إذا لم يضر بالطريق؟ قال: لا - الوسائل - كتاب التجارة - الباب 27 - من أبواب عقد البيع - 25 - ما رواه الشيخ في التهذيب عن معلى بن خنيس عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من أضر بطريق المسلمين شيئا فهو ضامن.
26 - ما رواه الصدوق عن السكوني عن جعفر بن محمد، عن أبيه عليهما السلام قال:
قال علي عليه السلام: ما أبالي أضررت بولدي أو سرقتهم ذلك المال - الوسائل - كتاب الوصايا - الباب 5 - 27 - ما رواه الكليني عن السكوني عن جعفر بن محمد، عن أبيه عليهما السلام قال: قال،
، علي عليه السلام: من أوصى ولم يحف ولم يضار كان كمن تصدق في حياته - راجع المصدر المذكور آنفا - 28 - ما رواه الفضل بن الحسن الطبرسي في «مجمع البيان» قال: جاء في الحديث ان الضرار في الوصية من الكبائر - الوسائل - كتاب الوصية - الباب 8 - 29 - ما رواه في التهذيب عن محمد بن يعقوب عن محمد بن عيسى بن عبيد عن علي بن مهزيار قال: قلت له: جعلت فداك ان في يدي أرضا والمعاملين قبلنا من الأكرة والسلطان يعاملون على ان لكل جريب طعاما أفيجوز ذلك؟ قال: فقال لي: فليكن ذلك بالذهب، قال:
قلت فان الناس انما يتعاملون عندنا بهذا لا بغيره فيجوز ان آخذ منهم دراهم ثم آخذ الطعام؟ قال: فقال: وما تغني إذا كنت تأخذ الطعام قال: فقلت فإنه ليس يمكننا في شيئك وشئ الا هذا ثم قال لي على ان له في يدي أرضا ولنفسي وقال له: على ان علينا في ذلك مضرة، يعنى في شيئه وشئ نفسه أي لا يمكننا غير هذه المعاملة قال: فقال لي: قد وسعت لك في ذلك، فقلت له: ان هذا لك وللناس أجمعين؟ فقال لي: قد ندمت حيث لم استأذنه لأصحابنا جميعا فقلت:
هذه لعلة الضرورة؟ فقال: نعم - راجع التهذيب كتاب التجارات باب من الزيادات (21) الحديث 16 - قال في الوافي هذا الحديث لم نجده في الكافي (م - ط)
14

فصل
في حال ورود لا ضرر في ضمن القضايا
لا ينبغي الإشكال في صدور قوله لا ضرر ولا ضرار لاشتهاره بين الفريقين وورود الروايات المستفيضة المتضمنة له، كما ان وروده في ضمن قضية سمرة بن جندب مما لا إشكال فيه، فقد ورد من طرقنا بتوسط الكافي والفقيه والتهذيب بأسانيد مختلفة مع اختلاف في المتون اختلافا غير جوهري يطمئن الناظر فيها بان هذا الاختلاف انما وقع لأجل النقل بالمعنى واختلاف دواعي الناقلين في نقل تمام القضية وإسقاط بعضها.
فمرسلة زرارة مشتملة على خصوصيات أكثر من موثقته ومن رواية الحذاء، فإنها مع اشتمالها على غالب خصوصيات القضية جمعت في نقل قوله رسول الله صلى الله عليه وآله بين
15

قوله: انك رجل مضار، وقوله: لا ضرر ولا ضرار، وكلمة (على مؤمن)، وقوله: «انطلق فاغرسها حيث شئت» مما قد أهملت الموثقة ورواية الحذاء كل بعض فقراتها، وسيأتي التعرض لذلك وقد ورد في ضمن ثلث قضايا أخرى (إحداها) في ضمن قضية الشفعة.
و (ثانيتها) في ضمن قضية عدم منع فضل الكلاء: ونرجع إلى البحث فيهما (وثالثتها) في ضمن قضية هدم الجدار لا ضرار الجار، كما في رواية الدعائم المتقدمة.
ويمكن ان يقال: ان ما في الدعائم ظاهر في استقلال ورود لا ضرر عن رسول الله لكنه احتمال لا يعول عليه وليس ظهورا لفظيا، واستشهاده بقوله صلى الله عليه وآله لا يدل على كونه قضية مستقلة من قضايا رسول الله صلى الله عليه وآله، هذا حال وروده في ضمن القضايا، وقد ورد في موارد مستقلا (منها) مرسلة دعائم الإسلام الثانية ومراسيل الصدوق والشيخ وابن زهرة والعلامة
16

وابن الأثير منها ما في مسند أحمد بن حنبل، هذا ما وقفنا عليه من نقله مستقلا لكن إثبات استقلاله بها مشكل لعدم حجية تلك المراسيل وعدم ظهورها في كونه صادرا مستقلا ولعل استشهادهم انما يكون بما في ذيل قضية سمرة بن جندب واحتمال أخذ بعضهم من بعض ولا تكون الا مرسلة واحدة وكتاب المسند لا يجوز الاستناد إليه عندنا وبالجملة لا طريق لنا بإثبات كونه قضية مستقلة.
فما ادعى بعض أعاظم العصر رحمه الله في رسالته المعمولة في قاعدة لا ضرر من قوله وعلى أي حال وروده مستقلا على الظاهر مما لا إشكال فيه، ان كان مراده من الورود هو الأعم من الحجة فهو كذلك لوروده في مسند أحمد وغيره كذلك وان كان مراده ثبوت الورود فلا دليل عليه يمكن الاستناد إليه.
17

فصل
في حال ورود لا ضرر في ضمن القضايا
قد عرفت ورود لا ضرر ولا ضرار في ذيل قضية الشفعة وقضية عدم منع فضل الماء والظاهر منهما انه من تتمتهما وبمنزلة كبرى كلية يندرج فيها الموردان كاندراج قضية سمرة فيها، فيلزم منه إشكالات:
منها انه لو كان بمنزلة العلة للحكم لزم كونها معممة ومخصصة واللازم منه في باب الشفعة ان يخصص حق الشفعة بموارد لزم من الشركة الثانية ضرر دون غيرها، ضرورة
18

ان الضرر لم يكن لازما لمطلق الشركة مع غير الشريك الأول فربما تكون الشركة مع الثاني أنفع له من الأول وربما لا يكون ضرر أصلا مع عدم التزامهم بذلك، وأيضا يلزم منه ثبوت الشفعة في غير البيع من ساير المعاوضات إذا لزم منها الضرر وبالجملة قضية العلية دوران الحكم مدارها.
ومنها انه يلزم ان يكون لا ضرر مشرعا للحكم الثبوتي فان جواز أخذ الشفعة حكم ثبوتي زائد على نفي اللزوم في البيع بالغير اللازم منه الضرر.
ومنها انه يلزم ان ترفع بالضرر الأحكام التي يلزم منها عدم النفع، فان في منع فضل الماء عدم وصول النفع إلى الماشية، مضافا إلى ان المشهور على ما قيل على كراهة منع فضل الماء فيلزم منه سد باب الاستدلال بلا ضرر إلى غير ذلك مما لا يمكن الالتزام به.
ولقد أصر العلامة شيخ الشريعة الأصفهاني قدس سره في رسالة لا ضرر بان الحديثين لم يكونا حال صدورهما عن النبي صلى الله عليه وآله مذيلين بحديث الضرر، وان الجمع بينهما وبينه وقع من الراوي بعد صدور كل في وقت خاص به وعمدة ما استدل به لهذه
19

الدعوى هو انه يظهر بعد التروي والتأمل التام في الروايات ان الحديث الجامع لا قضية رسول الله صلى الله عليه وآله في مواضع مختلفة وموارد متشتتة كان معروفا بين الفريقين، اما من طرقنا فبرواية عقبة بن خالد عن الصادق عليه السلام ومن طرق أهل السنة برواية عبادة بن صامت، ثم روى قضايا رسول الله صلى الله عليه وآله عن مسند أحمد برواية عبادة وبرواياتنا عن أبي - عبد الله عليه السلام ثم قال: قد عرفت بما نقلنا مطابقة ما روى من طرقنا لما روى من طرق القوم من رواية عبادة من غير زيادة ونقيصة بل بعين تلك الألفاظ غالبا الا الحديثين الأخيرين المرويين عندنا من زيادة قوله: لا ضرر ولا ضرار، وتلك المطابقة بين الفقرات مما يؤكد الوثوق بان الأخيرين أيضا كانا مطابقين لما رواه عبادة من عدم التذييل بحديث الضرر وقال أيضا: والذي أعتقده انها كانت مجتمعة في رواية عقبة بن خالد عن أبي عبد الله عليه السلام كما في رواية عبادة بن الصامت الا ان أئمة الحديث فرقوها على الأبواب.
أقول: انه قدس سره قد نقل من قضايا رسول الله صلى الله عليه وآله من طرق القوم برواية عبادة عشرين
20

قضية تقريبا، ونقل من طرقنا برواية عقبة بن خالد ست أو سبع قضايا، اثنتان منهما قضية الشفعة وعدم منع فضول الماء وقد تفحصت في الاخبار الحاكية لقضايا رسول الله صلى الله عليه وآله من طرقنا فوجدت ان غالبها غير منقولة برواية عقبة بن خالد وهو أيضا غير متفرد غالبا فيما نقله فكيف يمكن مع ذلك دعوى الوثوق بان قضاياه كانت مجتمعة في رواية عقبة بن خالد ففرقها أئمة الحديث على الأبواب، فمن راجع الاخبار الحاكية لقضايا رسول الله ورأى ان عقبة بن خالد لم ينقل الا نادرا من قضاياه ولم يكن في نقل تلك النوادر متفردا غالبا يطمئن بخلاف ما ادعى ذلك المتبحر، فلو كان لنا مجال واسع لسردت الروايات المتضمنة لقضايا رسول الله حتى تجد صدق ما ادعيناه هذا مع انه بناء على ان يكون التجزئة على الأبواب من فعل أئمة الحديث لا معنى لتكرار لا ضرر في ذيل قضيتين، فان عقبة بن خالد لم يذكر ح تلك القضية إلا مرة واحدة، واما ما قيل في تأييد قوله
21

بان سند الكليني إلى عقبة في جميع القضايا المنقولة منه واحد ففي غاية السقوط، لأن الطريق إلى أرباب الكتب والأصول من أصحاب الجوامع قد يكون واحدا وقد يكون متعددا، فوحدة طريقهم إلى كتب الرواة لا تدل على اجتماع رواياتهم كما هو واضح فحينئذ بقي الروايتان المذيلتان بحديث لا ضرر في قالب الإشكال
فصل
في تأييد عدم وروده في ذيل القضيتين
قد عرفت ان ما تشبث به المتبحر المتقدم للوثوق بكون الحديثين غير مذيلين بلا ضرر لا يمكن الاعتماد عليه، فالظهور السياقي يقتضى كونه من تتمتهما ولا يرفع اليد عن هذا الظهور ولو كان ضعيفا الا بدليل موجب له، نعم لو امتنع جعله كبرى كلية وعلة للحكم وكذا علة للتشريع لا بد من رفع اليد عنه فلا بد من التعرض لذلك حتى يتضح الحال.
فنقول: اما امتناع كونه كبرى كلية يندرج فيها الموردان فواضح، ضرورة عدم اندراج الموردين فيه اندراج الصغرى في الكبرى فان معنى اندراجها فيها كون الأصغر من مصاديق الأوسط ويحمل هو عليه حملا شايعا حتى يسرى الحكم الثابت عليه في الكبرى إلى الأصغر فينتج النتيجة المطلوبة، كقوله كل خمر مسكر، وكل مسكر حرام فكل خمر حرام فحرمة الخمر ليست بعنوانه الذاتي بل بعنوان كونه مسكرا، ولأجل اندراجه في كبرى كلية هي كل مسكر حرام، وأخذ مال الشريك شفعة ومنع فضول الماء لا يندرجان في قوله: لا ضرر ولا ضرار، وكذا حكمهما، وأيضا لا يكون نفي الضرر علة موجبة لأخذ الشفعة ومنع فضل الماء أو لحكمهما لعدم التناسب بينهما، واما امتناع كونه علة للتشريع، فلان الميزان في كون شيء علة التناسب بينهما، واما امتناع كونه علة للتشريع، فلان الميزان في كون شيء علة للتشريع على ما يعلم من تصفح مواردها هو ان يكون الموضوع مندرجا في كلي لا على نحو الكلية، أو يترتب على متعلق الحكم أو موضوعه لا بنحو الترتب الكلي والعلي ولا يمكن
22

تشخيص الموارد المترتبة عن غيرها وتعريفه للمكلف بحيث لا يقع بخلاف الواقع.
وبالجملة لا بد وان يكون ما لأجله التشريع مما يترتب على مورد التشريع لا كليا، كتشريع العدة لعدم اختلاط المياه وتشريع الحج للتفقه في الدين وبسط امر الولاية وتشريع الصلاة لعدم نسيان ذكر النبي والتطهير من الذنوب، وتشريع الصوم لحصول التساوي بين الفقراء والأغنياء ومس الأغنياء ألم الجوع، وتشريع الزكاة لاختبار الأغنياء وتحصين أموالهم، وتشريع الصدقة لازدياد المال ودفع الأمراض وتشريع غسل الجمعة لإزالة أرياح الآباط، وتشريع طهارة الحديد لدفع الحرج إلى غير ذلك من مواردها التي ترى انها مشتركة في ترتب الفوائد على ذيها جزئية، ومعلوم ان الموردين ليسا بهذه المثابة فان أخذ ملك الشريك شفعة لا يترتب عليه دفع الضرر في مورد من الموارد، فإنه على فرض تحقق الضرر يكون هو دائما مرفوعا بأمر متقدم طبعا، على الأخذ بالشفعة وهو عدم لزوم بيع الشريك، ومنع فضل الماء لا يكون موجبا للضرر بل لعدم النفع تأمل. اللهم الا ان يقال: يكفي في نكتة التشريع أدنى مناسبة وهو كما ترى (1).
وبعد ما عرفت من عدم تناسب هذا الذيل لصدر روايتي ثبوت الشفعة وكراهة منع فضل الماء فلا يبعد الالتزام بعدم كونهما مذيلين به خصوصا مع عدم هذا الذيل في ساير الروايات في البابين، فعن محمد بن علي بن الحسين (2) قال قضى رسول الله في أهل البوادي ان لا يمنعوا فضل ماء ولا يبيعوا فضل كلأ، وعن ابن أبي جمهور في درر اللئالي عن النبي صلى الله عليه وآله قال من منع فضل الماء ليمنع به الكلاء منعه الله فضل رحمته يوم القيامة (3) وعن مسند أحمد بن حنبل برواية عبادة بن صامت قال في ضمن

(1) لكن يمكن ان يقال: ان نكتة التشريع ليست سلب الضرر عن الشريك فقط حتى يقال ما ذكر بل هو وسلب الضرر عن صاحب المال فإنه لو جعل الخيار للشريك بفسخ المعاملة بقي ملك صاحب المال الشريك له بلا مشتري فربما يقع في ضرر أو ضرار وضيق فجعل الشفعة بالشرائط التي فيها انما هو بملاحظة حال كليهما (منه)
(2) الوسائل - كتاب احياء الموات - الباب 7.
(3) المستدرك - كتاب احياء الموات - الباب 6 - الرواية 5 -
23

قضايا رسول الله صلى الله عليه وآله: وقضى بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والدور ثم بعد ذكر عدة من
قضاياه قال: وقضى ان لا ضرر ولا ضرار وقضى انه ليس لعرق ظالم حق وقضى بين أهل المدينة في النخل لا يمنع نقع بئر (1) وقضى بين أهل البادية انه لا يمنع فضل ماء ليمنع به فضل الكلاء، وفي رواياتنا في كتاب الشفعة ليس عين ولا أثر من هذا الذيل.
فما أفاد العلامة شيخ الشريعة قدس سره من دعوى الوثوق باجتماع قضايا رسول الله في رواية عقبة كرواية عبادة وان كان خلاف التحقيق كما عرفت لكن دعوى عدم تذييل الحديثين بهذا الذيل بمثابة ارتباط علة الحكم أو التشريع بمعلولها قريبة فلا يبعد ان يدعى ان عقبة بن خالد قد سمع عدة من قضايا رسول الله صلى الله عليه وآله في موارد مختلفة عن أبي عبد الله وحين نقله روايتي الشفعة ومنع فضل الماء كان في ذهنه قضاء رسول الله صلى الله عليه وآله انه لا ضرر ولا ضرار فألحقه بهما وذيلهما به زعما منه انه سمع من أبي عبد الله عليه السلام كذلك.
وبالجملة بعد ما عرفت من عدم الارتباط بينه وبينهما وورود إشكالات غير منحلة عليه وخلو الروايات الاخر من هذا الذيل وافتراق لا ضرر عن الحكمين في حديث عبادة بن الصامت لا يبعد دعوى الوثوق بعدم تذييلهما بهذا الذيل ولا أقل من صيرورة هذه الجهات موجبة لرفع اليد عن هذا الظهور السياقي الضعيف مضافا إلى إمكان دعوى ظهور الروايتين في كون لا ضرر ولا ضرار قضية مستقلة حيث تخلل بين الصدر والذيل لفظة «وقال» وفي الوسائل وان ذكر بدل الواو الفاء، لكن لا يبعد كونه تصحيفا فان في بعض نسخ الكافي الذي عندي يكون بالواو وقال المتبحر المتقدم: ان ما في النسخ من عطف قوله: لا ضرر ولا ضرار بالفاء تصحيف قطعا، والنسخ الصحيحة المعتمدة من الكافي متفقة على الواو هذا كله مضافا إلى ضعف الروايتين لمحمد بن عبد الله بن هلال المجهول وعقبة بن خالد الذي لم يرد فيه توثيق فلا تصلحان لإثبات الحكم.

(1) أي فضل مائها (مجمع).
24

فصل
في حال كلمتي «في الإسلام» «وعلى مؤمن» في الحديث
لم نجد في شيء من الروايات المعتمدة كلمة في الإسلام في ذيل حديث لا ضرر، فان ما نقل مذيلا بها انما هي مرسلة الصدوق والعلامة ومرسلة ابن الأثير، ولا يبعد أخذ العلامة من الصدوق وهي: قال النبي: الإسلام يزيد ولا ينقص، قال ولا ضرر ولا ضرار في الإسلام، فالإسلام يزيد المسلم خيرا ولا يزيده شرا ومن المحتمل ان تكون تلك الزيادة من بعض النساخ، ومنشأ الاشتباه كلمة فالإسلام، فان كثيرا ما يتفق للكاتب ان يقع نظره على كلمة فكتبها مرتين ثم بعد هذا الاشتباه والتكرار صحح النسخة بعض من تأخر عنه بظنه، فبدل الفاء بفي، ولم يتوجه إلى كون الغلط في التكرار (1) والعجب من الطريحي حيث أضاف تلك الكلمة في ذيل حديث الشفعة ونقل عين الحديث الموجود في الكافي بلا هذه الزيادة معها وانما سبق قلمه إليها لما ارتكزت في ذهنه، ولعل غيره كابن الأثير مثله.
فان العلامة شيخ الشريعة قال قد تفحصت في كتبهم أي العامة، وتتبعت في صحاحهم ومسانيدهم ومعاجمهم وغيرها فحصا أكيدا فلم أجد روايته في طرقهم الا عن ابن عباس وعن عبادة بن الصامت وكلاهما رويا من غير هذه الزيادة ولا أدري من أين جاء ابن الأثير في النهاية بهذه الزيادة.
أقول: ولعله جاء بها مما جاء بها صاحب مجمع البحرين في حديث الشفعة، و

(1) ومما قدمناه سابقا من ان الصدوق (ره) هنا بصدد الاستدلال بالروايات على ان المسلم يرث من الكافر ولا يكون بصدد نقل الروايات كما يظهر من عبارته يحتمل قويا ان جملة «الإسلام يزيد ولا ينقص» من فقرات رواية أبي الأسود وان جملة «لا ضرر ولا إضرار» من فقرات رواية عقبة بن خالد التي نقلها في باب الشفعة خاليا عن هذا القيد وحيث انه (ره) لم يحتج في هذا المقام إلى أزيد من الفقرتين لم يورد تمامهما وهذا الاحتمال يؤيد ما احتمله الأستاذ من سهو قلم بعض النساخ في تكرار كلمة «فالإسلام» على ما بينه دام ظله (م - ط)
25

بعد اللتيا والتي لا تكون مرسلة ابن الأثير منهم كمرسلة الشيخ الصدوق منا مما يجوز الاعتماد عليها، ولم تثبت الزيادة حتى تقدم أصالة عدمها على أصالة عدم النقيصة في مقام الدوران.
واما كلمة على مؤمن فلم يشمل عليها أيضا الا مرسلة أبي عبد الله عن ابن مسكان عن زرارة في قضية سمرة بن جندب، وهذه وان كانت مرسلة لكن مضمونها ومطابقتها لموثقة زرارة ورواية أبي عبيدة الحذاء في جوهر القضية مما يورث الوثوق بصدقها وصدورها، وان أبا جعفر الباقر عليه السلام قد نقل هذه القضية لزرارة وأبي عبيدة وهما أو ساير الرواة نقلوا بالمعنى فصارت مختلفة اختلافا غير جوهري، وهذه المرسلة أجمع من غيرها في نقل خصوصياتها، فكأن رواتها أرادوا نقل تمام خصوصياتها، فلا يبعد دعوى الوثوق بوجود كلمة على مؤمن، وقوله: انطلق فاغرسها حيث شئت فيها المتفردة بنقلهما فتركهما الرواة اختصارا كما تركوا تفصيلها، ففي رواية الحذاء سقط لا ضرر ولا ضرار، وفي موثقة زرارة سقط أنت رجل مضار وهذه المرسلة شاهدة على اشتمالها بهما. هذا مع ان بناء العقلاء في دوران الأمر بين الزيادة والنقيصة على تقديم أصالة عدم الزيادة (1) على أصالة عدم النقيصة.
لا يقال: ان تقديمها عليها من باب بناء العقلاء وأبعدية الغفلة بالنسبة إلى الزيادة عنها بالنسبة إلى النقيصة، وهذا البناء لا يجري فيما إذا تعدد الراوي من جانب مع وحدة الاخر كما في المقام، لأن غفلة المتعدد عن سماع كلمة على مؤمن في غاية البعد مع احتمال وقوع الزيادة من الراوي لمناسبة الحكم والموضوع وان المؤمن هو الذي تشمله العناية الإلهية ويستحق ان ينفي عنه الضرر امتنانا.
فإنه يقال: اما أولا ان تقديم أصالة عدم الزيادة على أصالة عدم النقيصة ليس من

(1) يمكن ان يقال: لم يكن لهذا البناء أصل ولم يكن للعقلاء تعبد خاص بتقديم أحد الأصلين على الاخر بل المدار عندهم في هذه الموارد في عمل أنفسهم على الاطمئنان ويشهد على ذلك اتكاؤهم في احتجاجاتهم مع خصومهم في هذه المقامات على القرائن التي يحصل منها الاطمئنان عادة من اللفظية والحالية والمقامية (م - ط)
26

جهة الدوران بين الغفلتين فقط وأبعدية إحداهما حتى ينعكس الأمر في صورة تعدد طرف النقيصة، بل لأن الزيادة لا تقع إلا غفلة أو كذبا وافتراء، واما النقيصة فهي مشاركة معها في ذلك وتختص بدواع اخر من قبيل الاختصار أو عدم كونه في مقام بيان تمام القضية أو توهمه ان وجود الكلمة وعدمها سواء في إفادة المقصود إلى غير ذلك، ولا إشكال في تقديم أصالة عدم الزيادة في الدوران.
وثانيا ان ترجيح جانب المتعدد انما يتعين إذا كان المتعدد متوافقين في النقل واما مع اختلافه فلا، ولو مع التوافق من هذه الجهة، وما نحن فيه كذلك، فان موثقة زرارة ورواية الحذاء وان توافقتا في عدم زيادة كلمة على مؤمن لكنهما مختلفتان في جهات أخرى، فالموثقة مشتملة على قوله فإنه لا ضرر ولا ضرار، متعقبا بالأمر بالقلع دون رواية الحذاء وهي مشتملة على قوله: ما أراك يا سمرة الا مضارا، مقدما على الأمر بالقلع والمرسلة مشتملة على الفقرتين ومن ذلك بل ومن التفصيل الذي فيها في مقاولة كل من الأنصاري وسمرة مع الاخر وهما مع رسول الله يظهر ان رواة المرسلة كانوا بصدد بيان تفصيل القضية دون رواة الروايتين الأخريين، وذلك يؤكد سقوط كلمة على مؤمن منهما ويؤيد تقديم أصالة عدم الزيادة.
وثالثا ان ما ذكر من مناسبة الحكم والموضوع ليس بشيء فان المدعى ان كان ان الازدياد وقع عمدا للمناسبة بينهما فهو بمكان من البطلان كما لا يخفى، وان كان ان المناسبة المذكورة صارت موجبة لسبق لسان الراوي إلى تلك الكلمة، ففيه ان سبق اللسان انما يكون فيما إذا ارتكزت المناسبة في الذهن كاللازم البين بحيث تحضر الكلمة في الذهن عند تصور المزيد عليه وما نحن فيه ليس كذلك، ضرورة انه عند ذكر لا ضرر ولا ضرار لا تسبق كلمة على مؤمن إلى الذهن حتى يتبع اللسان عنه.
نعم لأحد ان يقول ان مرسلة زرارة لا تصلح لإثبات هذه الكلمة لو كانت مثبتة لحكم شرعي على فرض وجودها لكن قد عرفت انه لا يبعد دعوى الوثوق بصدورها لموافقة مضمونها مع الروايتين الأخريين وان نفس مضمونها
مما يشهد بصدقها.
27

فصل
في معنى مفردات الحديث
في ذكر معنى مفردات الحديث، اما معنى الضرر فهو معروف لدى العرف ولعل معناه العرفي هو النقص في الأموال والأنفس كما ان النفع الذي مقابله كذلك (1) يقال ضره البيع الكذائي وأضر به والبيع ضرري ونفعه كذا وضره الغذاء الكذائي وأضر به وهو ضار ونفعه الغذاء وهو نافع، ولا يقال لمن هتك حرمته أو وردت الإهانة عليه انه ورد عليه ضررا وأضر به الفلان إذا هتكه أو نظر إلى أهله، كما لا يقال لمن بجله أو جلله وقره: انه نفعه وهو نافع وهذا واضح لدى العرف، نعم جاء الضرر لغة بمعان وهي الضيق والشدة وسوء الحال والمكروه، قال في الصحاح: مكان ذو ضرر أي ضيق ويقال لا ضرر عليك ولا ضارورة ولا تضره، وظاهره ان في هذه الاستعمالات يكون الضرر بمعنى الضيق وقال في القاموس الضرر الضيق، وفي المنجد الضر والضر والضرر ضد النفع الشدة والضيق وسوء الحال، النقصان يدخل في الشيء، أقول: ولعل منه الضراء في مقابل السراء بمعنى الشدة والقحط، وعن المصباح الضر بمعنى فعل المكروه وضره فعل به مكروها.
ومما ذكرنا يعلم ان استعمال الضرر والضرار والمضار في حديث الضرر ليس باعتبار ان الضرر أعم من الضرر العرض كما شاع في الألسن، فان استعماله بمعنى الهتك والانتقاص في العرض مما لم يعهد في لغة ولا عرف، وانما استعماله في قضية سمرة بمعنى الضيق والشدة وإيصال الحرج والمكروه (2) فقوله ما أراك يا سمرة

(1) يمكن ان يقال: ان ما قاله المحقق الخراساني في هذا المقام من كون التقابل بين الضرر والنفع تقابل العدم والملكة في غير محله لأن عدم النفع لا يساويه الضرر بل هو أعم منه لثبوت الواسطة بين الضرر والنفع تأمل (م - ط)
(2) يمكن ان يقال: ان الضرر على الأنصاري ضرر مالي لأن دخول الأجنبي دارا بلا اذن صاحبها حيث ما شاء يوجب نقص ما ليتها كما لا يخفى فتأمل (م - ط)
28

الا مضارا، أي مضيقا ومورثا للشدة والحرج والمكروه على أخيك، أي لا تريد الا التشديد والتضييق على الأنصاري، وليس معنى كونه مضارا أي هاتكا للحرمة بدخوله منزل الأنصاري ونظره إلى أهله، ولعل الناظر إلى ألفاظ الرواية والمتدبر في كلمات أهل اللغة وأئمة اللسان يصدق ما ادعيناه وان كنت في شك مما تلونا عليك فانتظر لما سنقرئك في معنى الضرار ثم راجع موارد استعمال الضرر والضرار في اللغة والكتاب والحديث وانظر هل ترى موردا استعملا مكان هتك الحرمة والإهانة في العرض.
واما الضرار وساير تصاريفه من بابه فلم أجد بعد الفحص موردا استعمل بمعنى باب المفاعلة أو لمجازاة على الضرر، وكثير من المتبحرين من أهل اللغة قد صرحوا بكونه بمعنى الضرر وقد ورد في القرآن الكريم من هذا الباب في ستة موارد كلها بمعنى الإضرار وهي قوله تعالى لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده (1) وقوله تعالى:
ولا تضار وهن لتضيقوا عليهن (2) وقوله تعالى ولا يضار كاتب ولا شهيد () وقوله تعالى:
ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا (3) وقوله تعالى والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا (4) وقوله تعالى من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار (5) وما رأيت في الأحاديث الا كذلك كقوله: في مرسلة زرارة انك رجل مضار، وفي رواية الحذاء ما أراك يا سمرة الا مضارا، وفي رواية هارون بن حمزة في البعير فليس له ذلك هذا الضرار، وفي رواية طلحة بن يزيد في باب إعطاء الأمان ان الجار كالنفس غير مضار ولا آثم وفي باب كراهة الرجعة بغير قصد الإمساك روى الصدوق (6) بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام قال لا ينبغي للرجل ان يطلق امرأته ثم يراجعها وليس فيها حاجة ثم يطلقها فهذا

(1) سورة البقرة - الآية 234.
(2) سورة الطلاق - الآية 7.
(3) سورة البقرة - الآية 282.
(4) سورة البقرة - الآية 231.
(5) سورة التوبة - الآية 108.
(6) سورة النساء - الآية 16.
(7) الوسائل - كتاب الطلاق - الباب 34 - من أبواب اقسام الطلاق.
29

الضرار الذي نهى الله عز وجل عنه، وفي باب ولاية الجد في النكاح (1) قال الجد أولى بذلك ما لم يكن مضارا، وفي الرواية المتقدمة عن عقاب الأعمال من ضار مسلما فليس منا، وفي كتاب الوصية (2) في رواية قال علي عليه السلام من أوصى ولم يحف ولم يضار كان كمن تصدق في حياته، إلى غير ذلك من الروايات التي سيمر بعضها عليك.
في الفرق بين الضرر والضرار
ثم اعلم ان غالب استعمالات الضرر والضر والإضرار وساير تصاريفهما هي في الضرر المالي والنفسي بخلاف الضرار وتصاريفه، فان استعمالها في التضييق وإيصال الحرج والمكروه والكلفة شايع بل الظاهر غلبته فيها، والظاهر ان غالب استعمال هذا الباب في القرآن الكريم انما يكون بهذه المعاني لا بمعنى الضرر المالي أو النفسي فان قوله تعالى لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده قد فسر بذلك، فعن أبي عبد - الله (3) قال: لا ينبغي للرجل ان يمتنع من جماع المرأة فيضار بها إذا كان لها ولد مرضع (مرتضع - ظ) ويقول لها لا أقربك فانى أخاف عليك الحبل فتقتلى ولدي وكذلك المرأة لا يحل لها ان تمنع على الرجل فتقول انى أخاف ان أحبل فأقتل ولدي وهذه المضارة في الجماع على الرجل والمرأة، وبهذا المضمون غيره أيضا وفي رواية أخرى عن أبي عبد الله فسر المضارة بالأم بنزع الولد عنها، قال في مجمع البحرين: في الآية أي لا تضار بنزع الرجل الولد عنها ولا تضار الأم الأب فلا ترضعه وعن أبي عبد الله المطلقة الحبلى ينفق عليها حتى تضع حملها وهي أحق بولدها ان ترضعه بما تقبله امرأة أخرى يقول الله عز وجل «لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك» لا يضار بالصبي ولا يضار بأمه في رضاعه - الخبر.
فعلى التفسيرين خصوصا أو لهما يكون المضارة بمعنى التضييق وإيصال الحرج

(1) الوسائل - كتاب النكاح - الباب 11 - من أبواب عقد النكاح -
(2) الوسائل - كتاب الوصية - الباب 5.
(3) الوسائل - كتاب النكاح - الباب 72 - من أبواب احكام الأولاد.
30

والمكروه لا الضرر المالي أو النفسي وكذا قوله تعالى: ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا، يكون بمعنى ذلك فعن محمد بن علي بن الحسين بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام (1) قال سألته عن قول الله عز وجل: ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا قال: الرجل يطلق حتى إذا كادت ان يخلو أجلها راجعها ثم طلقها يفعل ذلك ثلث مرات فنهى الله عز وجل عن ذلك، وفي مجمع البيان لا تمسكوهن ضرارا أي لا تراجعوهن لا لرغبة فيهن بل لطلب الإضرار بهن، اما بتطويل العدة أو بتضييق النفقة في العدة.
والظاهر ان الضرار في قوله تعالى: والذين اتخذوا مسجدا ضرارا، هو بمعنى إيصال المكروه على المؤمنين بإيقاع الشك في قلوبهم وتفريق جمعيتهم واضطرابهم في دينهم كما روى ان بنى عمرو بن عوف بنوا مسجد قباء وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وآله فحسدهم إخوتهم بنو غنم بن عوف فبنوا مسجد الضرار وأرادوا ان يحتالوا بذلك فيفرقوا المؤمنين ويوقعوا الشك في قلوبهم بان يدعوا أبا عامر الراهب من الشام ليعظهم ويذكروهن دين الإسلام ليشك المسلمون ويضطربوا في دينهم فأخبر الله نبيه بذلك فأمر بإحراقه وهدمه بعد الرجوع من تبوك، وفي مجمع البيان ضرارا أي مضارة يعنى الضرر بأهل مسجد قباء أو مسجد الرسول ليقل الجمع فيه، ويظهر من القضية ان الضرار هاهنا بمعنى إيصال المكروه والحرج والتضييق على المؤمنين بتقليل جمعيتهم وتفرقتهم وإيقاع الاضطراب في قلوبهم والشك في دينهم لا الضرر المالي والنفسي.
وفي قوله تعالى: ولا يضار كاتب ولا شهيد احتمالان أحدهما انه بالبناء للفاعل فيكون النهي متوجها إلى الكاتب والشهيد، وثانيهما بالبناء للمفعول فيكون المعنى لا يفعل بالكاتب والشهيد ضرر قال في مجمع البحرين: قوله
ولا يضار كاتب ولا شهيد فيه قراءتان: إحداهما لا يضار بالإظهار والكسر والبناء للفاعل على قراءة أبي عمرو فعلى هذا يكون المعنى لا يجوز وقوع المضارة من الكاتب بان يمتنع من الإجابة أو يحرف بالزيادة والنقصان وكذا الشهيد، وثانيتهما قراءة الباقين لا يضار بالإدغام والفتح والبناء للمفعول فعلى هذا يكون المعنى لا يفعل بالكاتب والشهيد ضرر بأن

(1) الوسائل - كتاب الطلاق - الباب 34 - من أبواب اقسام الطلاق.
31

يكلفا قطع مسافة بمشقة من غير تكلف بمؤنتهما أو غير ذلك، وفي مجمع البيان نقل عن ابن مسعود ومجاهد أن الأصل فيه لا يضار بفتح الراء الأولى، فيكون معناه لا يكلف الكاتب الكتابة في حال عذر لا يتفرع إليها ولا يضيق الأمر على الشاهد بان يدعى إلى إثبات الشهادة وإقامتها في حال عذر ولا يعنف عليها، ولا يبعد ان يكون المضارة في قوله تعالى ولا تضار وهن لتضيقوا عليهن هي عدم إسكانهن في بيوت مناسبة لحالها ليقعن في المضيقة وهو أيضا يرجع إلى ما ذكرنا قال في مجمع البيان ولا تضار وهن لتضيقوا عليهن أي لا تدخلوا الضرر بالتقصير في السكنى والنفقة والكسوة طالبين بالإضرار التضييق عليهن ليخرجن وقيل المعنى أعطوهن من المسكن ما يكفيهن لجلوسهن ومبيتهن وطهارتهن ولا تضايقوهن حتى يتعذر عليهن السكنى عن أبي مسلم انتهى، نعم الظاهر ان المضار في آية الوصية بمعنى الاضرار المالي بالورثة.
نعم الظاهر ان المضار في آية الوصية بمعنى الإضرار المالي بالورثة والمقصود من التطويل الممل هو إثبات شيوع استعمال الضرار وتصاريفه في التضييق وإيصال المكروه والحرج والتكلف وأمثالها كما ان الشائع في الضرر والضر والإضرار هو استعمالها في المال والنفس كما هو واضح.
فاتضح مما ذكرنا ان الضرر في الحديث هو النقص في الأموال والأنفس والضرار فيه هو التضييق والتشديد وإيصال المكروه والحرج، وقضية سمرة بن جندب انما تكون ضرارا على الأنصاري وتشديدا وتضييقا وإيصالا للمكروه عليه بدخوله في منزله بلا استئذان والنظر إلى شيء من أهله يكرهه الرجل وليس الضرار بمعنى الضرر في الحديث لكونه تكرارا باردا ولا بمعنى الإصرار على الضرر ولا مباشرة الضرر ولا المجازاة عليه ولا اعتبر فيه كونه بين الاثنين كما قيل، ولا أظنك بعد التأمل والتدبر فيما ذكرنا والفحص في موارد استعمال الكلمتين في القرآن والحديث والتدبر في قضية سمرة وإطلاق خصوص المضار عليه ان تتأمل في تصديق ما ذكرناه.
نعم هنا امر لا بد من التعرض له والتفصي عنه وهو ان أئمة اللغة ومهرة اللسان صرحوا بان الضرار في الحديث بمعنى المجازاة وبمعنى باب المفاعلة فعن النهاية الأثيرية معنى قوله لا ضرر، أي لا يضر الرجل أخاه فينقصه شيئا من حقه، والضرار فعال من الضر أي لا يجازيه على إضراره بإدخال الضر عليه والضرر فعل الواحد و
32

الضرار فعل الاثنين والضرر ابتداء الفعل والضرار الجزاء عليه، وقيل الضرر ما تضر صاحبك وتنتفع أنت به والضرار ان تضره من غير ان تنتفع أنت به، وقيل هما بمعنى واحد والتكرار للتأكيد، وعن لسان العرب معنى قوله لا ضرر أي لا يضر الرجل أخاه وهو ضد النفع وقوله لا ضرار أي لا يضار كل منهما صاحبه، وعن السيوطي لا ضرر أي لا يضر الرجل أخاه فينقصه شيئا من حقه ولا ضرار أي لا يجازيه على إضراره بإدخال الضرر عليه، وعن تاج العروس مثل ما عن السيوطي بعينه والمجمع عبر بعين ألفاظ ابن الأثير هذا.
ولكن التأمل في كلامهم يوجب الوثوق بان المعنى الذي ذكروه انما هو على قاعدة باب المفاعلة وان الضرار فعال من الضر وهو فعل الاثنين، والمظنون ان ابن الأثير ذكر هذا المعنى بارتكازه من باب المفاعلة، والبقية نسجوا على منواله، فترى ان السيوطي وصاحب تاج العروس قد أخذا العبارة منه بعينها واقتصرا على بعض كلامه، والطريحي قد عبر بعين ألفاظه من غير زيادة ونقيصة، وبالجملة الظاهر ان هذا الكلام قد صدر عنهم لقاعدة باب المفاعلة وتبعا لابن الأثير من غير تدقيق وفحص في موارد استعمالات الضرار هذا.
مضافا إلى ان إطلاق المضار في رواياتنا على سمرة بن جندب مما يوجب القطع بان الضرر الواقع في هذه القضية ليس بمعنى المجازاة على الضرر أو بمعنى إضرار كل بصاحبه وان قوله: انك رجل مضار، بمنزلة الصغرى لقوله: ولا ضرر ولا ضرار، وقد عرفت عدم ثبوت ورود لا ضرر ولا ضرار مستقلا من رسول الله صلى الله عليه وآله بل لم يثبت عندنا الا في ذيل قضية سمرة مع انه قد أشرنا سالفا إلى انه بعد الفحص الأكيد لم أر موردا استعمل الضرار وتصاريفه بالمعنى الذي ذكره ابن الأثير وتبعه غيره، فقد تبين من جميع ما ذكرنا ان الضرار تأسيس لا تأكيد وتكرار للضرر ولا يكون الا بمعنى التضييق وإيصال المكروه والحرج على الغير فتدبر.
فصل
في مفاد الجملة التركيبية
في البحث عن مفاد الجملة التركيبية في الحديث فنقول انه محتمل لمعان:
33

أحدها ما احتمله الشيخ الأنصاري قدس سره من إبقاء النفي على حاله ويراد به نفي الحكم الشرعي الذي هو ضرر على العباد وانه ليس في الإسلام مجعول ضرري، وبعبارة أخرى حكم يلزم من العمل به الضرر على العباد كلزوم البيع مع الغبن ووجوب الوضوء مع إضرار مالي وإباحة الإضرار بالغير، فان كلها أحكام ضررية منتفية في الشريعة، هذا كله إذا كان الحديث لا ضرر ولا ضرار من غير تقييد أو مع التقييد بقوله في الإسلام، واما قوله لا ضرر ولا ضرار على مؤمن فهو مختص بالحكم الضرري بالنسبة إلى الغير فلا يشمل نفي وجوب الوضوء والحج مع الضرر، قال رحمه الله:
هذا الاحتمال هو الأرجح في معنى الرواية بل المتعين بعد تعذر حمله على حقيقته لوجود الحقيقة في الخارج بديهة.
أقول: كلامه هذا صريح في امرين ومحتمل لوجوه، فأول ما صرح به هو ان حمل هذا الكلام على الحقيقة متعذر، ضرورة وجودها في الخارج فتقوية بعض أعاظم العصر قول الشيخ وتوجيهه مع تطويلات مملة والذهاب إلى كون هذا المعنى مما لا يلزم منه المجاز توجيه لا يرضى به صاحبه مع ان في كلامه مواقع للنظر ربما نشير إلى بعض منها والثاني ان المنفي هو الحكم الشرعي الذي لزم منه الضرر على العباد.
في محتملات كلام الشيخ الأعظم
واما الوجوه المحتملة:
فمنها ان يراد من قوله لا ضرر لا حكم ضرري بنحو المجاز في الحذف.
ومنها ان يراد منه المجاز في الكلمة بمعنى استعمال الضرر المسبب من الحكم وإرادة سببه.
ومنها كونه حقيقة ادعائية ومصحح الادعاء هو علاقة السببية والمسببية كما هو التحقيق في ساير أبواب المجازات، فلما كانت الأحكام الشرعية بإطلاقها سببا للضرر لكونها باعثة للمكلف إلى الوقوع فيه ادعى المتكلم ان الأحكام هي نفس الضرر فنفاها بنفيه، وهذه الحقيقة الادعائية غير التي ادعاها المحقق الخراساني، لأن
المصحح فيها هو السببية والمسببية وفيما ذكره امر آخر كقوله: يا أشباه الرجال ولا رجال، فان
34

المصحح فيه ليس علاقة السببية والمسببية بل هو كون الشجاعة أو المروة تمام حقيقة الرجولية لأنها من أظهر خواص الرجل وأعظمها كأنها هي لا غيرها، وبالجملة مصحح الادعاء في الحقائق الادعائية مختلفة باختلاف المقامات حتى ان قوله تعالى: واسئل القرية التي كنا فيها يكون من قبيل الحقيقة الادعائية، بدعوى ان القرية أيضا مطلعة من القضية لغاية اشتهارها وكمال ظهورها كقول الفرزدق.
«هذا الذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحل والحرم» وكون أمثاله من قبيل حذف المضاف وقيام المضاف إليه مقامه مما يخرج الكلام عن الحسن والحلاوة ويجعله مبتذلا باردا خارجا عن فنون البلاغة، ولعل الشيخ رحمه الله لم يكن في مقام بيان كيفية المجازية وكان بصدد بيان ان النفي انما بقي على حاله في مقابل القول بان المستفاد منه النهي كقوله: لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج، وفي مقابل القول بان المنفي هو الضرر الغير المتدارك، وغرضه بيان ما يستفاد من الحديث بنحو نتيجة البرهان لا كيفية استعمال لا ضرر ولا ضرار وبيان العلاقة المحققة في البين بنحو مبدأ البرهان، نعم يوهم ظاهر تعبيراته إرادته المعنى الأول أي المجاز في الحذف لكن التأمل في كلامه وفيما ذكرناها يرفعه، وليعلم ان الاحتمال المذكور أي إرادة نفي الأحكام الضررية انما هو في مقابل إرادة النهي وفي مقابل كونه كناية عن لزوم التدارك.
واما كيفية استفادة هذا المعنى من الحديث أي كونه بنحو المجاز في الحذف أو الكلمة أو الحقيقة الادعائية ليست في عرض الاحتمالات الثلاثة بل في طولها ومن متفرعات الاحتمال الأول وبيان استفادته وبيان ترجيحه على ساير الاحتمالات، فالقائل بالمجاز في الحذف كالقائل بالمجاز في الكلمة والقائل بالحقيقة الادعائية من أصحاب هذا الاحتمال في مقابل الاحتمالين الآخرين.
في وجوه الحقيقة الادعائية
ثم ان في بيان الحقيقة الادعائية وجوها:
منها ما أفاده المحقق الخراساني (قده) في الكفاية من انها من قبيل نفي الموضوع ادعاء كناية عن نفي الآثار كقوله: يا أشباه الرجال ولا رجال، ومراده من الآثار هي
35

الأحكام الثابتة للأفعال بعناوينها الأولية كوجوب الوفاء بالعقد الضرري ووجوب الوضوء الضرري كما صرح به في الكفاية. وهذا يرجع إلى ما أفاده الشيخ قدس سره بالنتيجة ظاهرا وان يوهم كلامه خلافه، حيث عبر عن لا ضرر في الرسائل بان الشارع لم يشرع حكما يلزم منه ضرر على أحد لكن الظاهر من لزوم الضرر ليس لزومه ولو بالوسائط كما يشهد به ما أفاده في رسالته المعمولة في قاعدة الضرر حيث قال: «الثالث ان يراد به نفي الحكم الشرعي الذي هو ضرر على العباد وانه ليس في الإسلام مجعول ضرري، وبعبارة أخرى حكم يلزم من العمل به الضرر على العباد» حيث جعل نفي حكم يلزم من العمل به الضرر عبارة أخرى من نفي الحكم الشرعي الذي هو ضرر على العباد فما جعله المحقق الخراساني قدس سره فارقا بين احتماله واحتمال الشيخ مما لا طريق إلى إثباته.
ومنها ما جعلنا من وجوه احتمال كلام الشيخ قدس سره وهو ادعاء نفي حقيقة الضرر لأجل نفي أسبابه، فان سبب تحقق الضرر اما الأحكام الشرعية الموجبة بإطلاقها وقوع العباد في الضرر، واما المكلفون الذين باضرارهم يقع العباد فيه، فإذا نفي الشارع الأحكام الضررية ونهى المكلفين عن إضرار بعضهم بعضا يصح له دعوى نفي الضرر لحسم مادته وقطع أسبابه، فلذلك ادعى ان أسباب الضرر هي الضرر، فنفي تلك الأسباب نفي الضرر على سبيل الحقيقة الادعائية ومصححها علاقة السببية والمسببية.
ومنها ما أفاده المحقق الخراساني قدس سره في تعليقته على الرسائل من نفي الحكم بلسان نفي الموضوع بنحو الحقيقة الادعائية، مثل لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج، بمعنى ان الشارع لم يشرع جواز الإضرار بالغير أو وجوب تحمل الضرر عنه، والفرق بينه وبين ما ذكره في الكفاية واضح كالفرق بينهما وبين ما ذكرنا آنفا.
ومنها ما أفاده شيخنا العلامة رحمه الله على ما ببالي من ان نفي الضرر والضرار انما هو في لحاظ التشريع وحومة سلطان الشريعة، فمن قلع أسباب تحقق الضرر في صفحة سلطانه بنفي الأحكام الضررية والمنع عن إضرار الناس بعضهم بعضا وحكم
36

بتداركه على فرض تحققه يصح له ان يقول: لا ضرر في مملكتي وحوزة سلطاني وحمى قدرتي، وهو رحمه الله كان يقول انه بناء على هذا يكون نفي الضرر والضرار محمولا على الحقيقة لا الحقيقة الادعائية، ولكنك خبير بان الحمل على الحقيقة غير ممكن لتحقق الضرر في حمى سلطانه وحوزة حكومته صلى الله عليه وآله، ومجرد النهي عن إضرار بعضهم بعضا لا يوجب قلع الضرر والحمل على الحقيقة بل لو خص نفي الضرر بالاحكام الضررية حتى يكون المعنى انه لا حكم ضرري في الإسلام لا يكون على نحو الحقيقة لوجود الأحكام الضررية في الإسلام كالزكاة والخمس والكفارات وغيرها، بل لو أغمض عن ذلك أيضا لا يمكن الحمل على الحقيقة لأن المراد من نفي الضرر نفي الأحكام ولهذا يكون دليله حاكما على أدلة الأحكام وإطلاق لفظ لا ضرر ولا ضرار وإرادة نفي الأحكام الضررية مع كون الاستعمال على وجه الحقيقة مما لا يجتمعان فاذن يكون ذلك من الحقيقة الادعائية، والفرق بينه وبين ما ذكرنا في ضمن احتمالات كلام الشيخ انه بناء على ما ذكرنا ترجع دعوى المتكلم إلى ان الأحكام المؤدية إلى الضرر هي عين حقيقة الضرر، ومصحح الادعاء هي علاقة السببية والمسببية وعلى ما ذكره رحمه الله ترجع إلى ان ما هو موجود بمنزلة المعدوم لقلع مادته وقطع أسبابه، فما ذكرنا من قبيل تنزيل السبب منزلة المسبب وتطبيق عنوان المسبب عليه بعد الا دعاء، وما ذكره من قبيل تنزيل الموجود منزلة المعدوم لقلع موجباته وقطع أسبابه.
ومنها ان يقال: ان الحقيقة الادعائية بمعنى تنزيل الموجود منزلة المعدوم لكن لا باعتبار ما ذكرنا آنفا بل باعتبار ان الضرر الواقع قليل طفيف بحيث ينزل منزلة المعدوم ويدعى انه لا ضرر في الإسلام ويجعل هذه الدعوى كناية عن نفي الأحكام الضررية. ثم ان بعض أعاظم العصر رحمه الله قد أتعب نفسه الشريفة وأطال البحث حول كلام الشيخ وحديث نفي الضرر وزعم ان ما ذكره موافق لكلامه قدس سره وادعى ان قوله: لا ضرر ولا ضرار، بناء على تحقيقاته محمول على الحقيقة، وبعد اللتيا والتي لم يأت بشيء، ولو بنينا على التعرض لتمام كلامه ونقده لانجر إلى التطويل الممل بلا
37

طائل فيه، ولهذا لم نتعرض إلا للب كلامه ومرمى هدفه، وهو ان لا ضرر، محمول على نفي الأحكام الضررية ولا يلزم منه مجاز أصلا لأنها بشراشر هويتها وتمام حقيقتها مما تنالها يد الجعل، فان تشريعها عين تكوينها، ونفيها بسيطا عين إعدامها، فنفي الأحكام الضررية نفي حقيقتها من صفحة التكوين، واما متعلقات الأحكام أو موضوعاتها فليس نفيها تحت جعل الشارع بل هي أمور تكوينية مع قطع النظر عن الجعل فهي مما لا تنالها يد الجعل فلا يكون نفيها نفيا بسيطا عين إعدامها بل نفي تركيبي، ولا تصل النوبة فيما إذا دار الأمر بين
الحمل على نفي الأحكام أو نفي الموضوعات إلى الثاني مع إمكان الأول، ثم نسج على هذا المنوال ورتب أمورا بعنوان المقدمات مما لا دخل لها فيما نحن بصدده، مع كون كثير منها موردا للخدشة والمناقشة فراجع كلامه.
أقول: ان الكلام الموجود الملقى من المتكلم هو قوله: لا ضرر ولا ضرار، والأحكام أمور ضررية بالمعنى الذي سنشير إليه لا هي نفس الضرر، فإطلاق لفظ موضوع للضرر وإرادة الأحكام التي هي ضررية مما لا مسرح له المجازية ولو سود في أطرافه الف طومار، وما أفاد من ان الأحكام تشريعها عين تكوينها ونفيها عين إعدامها مما لا ربط له بما نحن فيه ولا يوجب صيرورة المجاز حقيقة.
وما ذكر من ان قوله: رفع، أو «لا ضرر» ليس اخبارا حتى يلزم تجوز أو إضمار حتى لا يلزم الكذب، فإذا لم يكن «لا ضرر» الا إنشاء ونفيا له في عالم التشريع فيختلف نتيجته كقوله في خلال كلماته انه لا إشكال ان الإنشاء والاخبار من المداليل السياقية لا مما وضع له اللفظ، مما لا يرجع إلى محصل، ضرورة ان الجملة المصدرة بلا التي لنفي الجنس جملة إخبارية موضوعة للحكاية عن الواقع واستعمالها وإرادة إنشاء السلب منها مجاز بلا إشكال.
وأهون منه قوله الاخر ضرورة ان هيئة الجملة الخبرية موضوعة دالة على الحكاية التصديقية عن الواقع بحكم التبادر بل البداهة، فالالتزام بعدم الوضع اما لازمه الالتزام بكون الهيئة مهملة فهو خلاف الوجدان واما الالتزام بوضعها لأمر آخر
38

غير الإنشاء والاخبار، والأمر الاخر اما أجنبي منهما وهو كما ترى أو جامع بينهما ولا جامع بين الاخبار والإنشاء بل قد حقق في محله عدم تعقل الجامع بين المعاني الحرفية الا الجامع الاسمي العرضي ولو وضعت له صارت اسما وهو خلاف الواقع، وما ذكره من ان الضرر عنوان ثانوي للحكم ونفي العنوان الثانوي وإرادة العنوان الأولى ليس من باب المجاز وانما يستلزم المجاز لو كان الحكم من قبيل المعد للضرر أو إذا كان سببا له وكانا وجودين مستقلين أحدهما مسبب عن الاخر واما مثل القتل أو الإيلام المترتب على الضرب فإطلاق أحدهما على الاخر شايع متعارف، وبالجملة نفس ورود القضية في مقام التشريع وإنشاء نفي الضرر حقيقة يقتضى ان يكون المنفي هو الحكم الضرري لا انه استعمل الضرر وأريد منه الحكم الذي هو سببه انتهى، من غرائب الكلام.
اما أولا فلان إطلاق اللفظ الموضوع للعنوان الثانوي وإرادة العنوان الأولى كإطلاق القتل على الضرب مجاز بلا إشكال ومجرد تعارفه وشيوعه لا يوجب ان يكون حقيقة، مع ان دعوى الشيوع أيضا في محل المنع، نعم إطلاق القاتل على الضارب المنتهى ضربه إلى القتل شايع، لا إطلاق القتل على الضرب وبينهما فرق.
وثانيا ان الأحكام لا تكون سببا للضرر وعلة له، فوجوب الوضوء ليس سببا للضرر وانما السبب هو نفس الوضوء بل الوجوب لا يكون سببا لانبعاث المكلف وعلة لتحركه نحو المكلف به، وانما التكليف والبعث محقق موضوع الطاعة في صورة الموافقة وكاشف لمطلوبية المكلف به والباعث المحرك مباد اخر في نفس المكلف بعد تحقق الأمر، مثل الخوف من مخالفة المولى والطمع في طاعته وحبه ووجدان أهليته لها وأمثال ذلك من المبادي التي في نفوس العباد بحسب اختلاف مراتبهم، فالامر الوجوبي المتعلق بالموضوع يكون دخيلا في انبعاث العبد بنحو من الدخالة لا بنحو السببية والمسببية، فليست نسبة الأحكام إلى الضرر كنسبة الضرب إلى القتل والإيلام بل ولا كنسبة حركة اليد وحركة المفتاح، فالأحكام لها وجودات من غير ان يترتب عليها الضرر ثم يتعلق علم المكلف بها فيرى ان إتيان متعلقاتها موضوع طاعة المولى، وتركها موضوع مخالفته، ويرى ان في طاعته ثوابا ودرجات
39

وفي مخالفته عقاب ودركات فيرجح الطاعة على المعصية فينبعث نحوها ويأتي بالمتعلق فيترتب على إتيانه ضرر أحيانا، وما كان هذا حاله كيف يمكن ان يقال: ان إطلاق لفظ الموضوع لأحدهما على الاخر ليس مجازا وورود القضية في مقام التشريع قرينة على كون المراد من الضرر الحكم الضرري لا انه موجب لكون الاستعمال على نحو الحقيقية وهو واضح، هذا فيما يمكن ان يقال في حول لا ضرر ولا ضرار إذا أريد منه نفي الحكم الضرري، وان شئت قلت في حول محتملات كلام العلامة الأنصاري. والاحتمال الثاني ما نقل عن بعض الفحول من ان المنفي هو الضرر الغير المتدارك فيكون لا ضرر كناية عن لزوم تداركه، ومصحح دعوى نفي الحقيقة هو حكم الشارع بلزوم التدارك فينزل الضرر المحكوم بلزوم تداركه منزلة العدم، ويقال لا ضرر ولا ضرار وأجاب عنه الشيخ وجعله أردأ الاحتمالات وسيأتي التعرض لكلامه قدس سره حتى يتضح انه رديفه وزميله في ورود الإشكال عليه.
والاحتمال الثالث هو الحمل على النهي كقوله لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج، اما باستعمال النفي في النهي، واما ببقاء النفي على حاله والتعبير بالجملة الخبرية في مقام الإنشاء لإفهام شدة التنفر عنه والمبالغة في عدم الرضا بتحققه لينتقل السامع إلى الزجر الأكيد، كما ان المطلوب إذا أريد المبالغة في طلبه وانه لا يرضى بتركه ينزل منزلة الموجود ويعبر عنه بما يدل على وقوعه لينتقل السامع إلى الأمر الأكيد. وهذان الاحتمالان كلاهما تجوز. وان كان الثاني راجحا بل متعينا على فرض كونه بمعنى النهي.
فقد رجح الاحتمال الثالث فريد عصره شيخ الشريعة الأصفهاني رحمه الله وارتضاه، مدعيا انه موافق لكلمات أئمة اللغة ومهرة أهل اللسان ونقله عن نهاية ابن الأثير ولسان العرب والدر النثير للسيوطي وتاج العروس ومجمع البحرين.
وهاهنا احتمال رابع يكون راجحا في نظري القاصر وان لم أعثر عليه في كلام القوم، وهو كونه نهيا لا بمعنى النهي الإلهي حتى يكون حكما إلهيا كحرمة شرب الخمر وحرمة القمار بل بمعنى النهي السلطاني الذي صدر عن رسول الله صلى الله عليه وآله بما انه
40

سلطان الملة وسائس الدولة لا بما انه مبلغ أحكام الشرع وسنرجع إلى توضيحه وتشييده فانتظر.
واما ما احتمله المحقق الخراساني رحمه الله في تعليقته على الرسائل وجعله أظهر الاحتمالات، من ان المعنى ان الشارع لم يشرع جواز الإضرار بالغير أو وجوب تحمل الضرر عنه، فان كان المراد عدم وجوب التحمل عن الشارع برجوع ضمير عنه إلى الشارع أو إلى الغير والمراد منه الشارع، فهو يرجع إلى احتمال الشيخ والاختلاف بينهما في التعبير، وان كان المراد عدم تشريع وجوب تحمل الضرر عن الغير أي الناس بمعنى جواز الدفاع عن الضرر المتوجه إليه وجواز تداركه مع وقوعه بالتقاص والقصاص مثلا، فهو احتمال ضعيف ربما يكون أردأ الاحتمالات.
فصل
البحث في حول محتملات كلام الشيخ
المهم في المقام التعرض لما ورد على وجوه احتمالات كلام العلامة الأنصاري حتى يتضح حقيقة الحال في المقام لا لمجرد إيراد الإشكال على الاعلام.
فنقول ان الإشكال فيها على ضربين: أحدهما ما يكون واردا على الجميع وثانيهما ما يختص ببعضها.
فمن الأول لزوم كثرة التخصيص المستهجن وتوضيحه ان الأحكام كما عرفت لم تكن عللا تامة ولا أسبابا توليدية للضرر كما هو واضح، بل تكون ضرريتها باعتبار كونها منتهية إلى الضرر ولو بواسطة أو وسائط، فإنها كما أشرنا إليه محققة لموضوع الطاعة وحصول بعض المبادي في نفس المكلف كالخوف والطمع وغيرهما موجبة لانبعاثه بعد تحقق مقدمات الانبعاث من التصور والتصديق بالفائدة والشوق والإرادة، ثم الانبعاث والإيجاد خارجا، وانما يكون وجود المتعلق في الخارج ضرريا، فحينئذ قد يكون المتعلق علة وسببا توليديا للضرر وقد يكون معدا ومنتهيا إليه ولو بوسائط، مثلا قد يكون نفس الصوم ضرريا وقد يكون موجبا لليبوسة وهي ضررية وكذا الكلام في
41

لزوم البيع، فان نفس اللزوم لا يكون ضرريا بل البيع نفسه ضرري، فحينئذ قد يكون البيع ضرريا بذاته وقد يترتب عليه الضرر ترتبا ثانويا أو ترتبا مع الوسائط بل قد يكون بيع متاع بقيمة رخيص موجبا لتنزل المتاع والضرر الفاحش على واجديه، وقد يكون موجبا للغلاء والقحط وحصول الضرر على فاقديه، وقد يكون بيع الدار المحبوبة موجبا للضرر على الأهل والأولاد، وقد يكون موجبا للإضرار بالجار والشريك.
إذا عرفت ذلك نقول: لو كانت الأحكام قد توجب الضرر بنحو العلية والسببية التوليدية وقد توجب بنحو الاعداد وقد تلزمه لزوما أوليا وقد تلزمه لزوما ثانويا يمكن ان يدعى ان المنفي بقوله لا ضرر هو الأحكام الموجبة للضرر إيجابا عليا أو أوليا، واما بعد ما عرفت من عدم ترتب الضرر على الأحكام كذلك بل الترتب عليها بنحو من الدخالة وبنحو من الاعداد، فلا ترجيح لاختصاص نفى الضرر بحكم دون حكم وضرر دون ضرر ومعد دون معد.
ودعوى اختصاص نفى الضرر باحكام تكون متعلقاتها ضررية بنحو السببية لا بنحو الاعداد كما ترى، فاتضح لزوم تخصيصات كثيرة عليه وإلا لزم تأسيس فقه جديد ولا محيص عن هذا الإشكال بما أفاده الشيخ رحمه الله من ان الخارج انما خرج بعنوان واحد ولا استهجان فيه، فان الواقع خلافه، لأن موارد التخصيصات مما لا جامع لها ظاهرا ولو فرض ان يكون لها جامع واقعي مجهول لدى المخاطب ووقع التخصيص بحسب مقام التخاطب بغير ذلك الجامع لا يخرج عن الاستهجان - هذا.
مع ان الخروج بعنوان واحد أيضا لا يخرج الكلام من الاستهجان إذا كان المخصص منفصلا فلو قال: أكرم كل إنسان، ثم قال بدليل منفصل: لا تكرم من له رأس واحد، وأراد بإلقاء الكبرى إكرام من له رأسان كان قبيحا مستهجنا.
ومن الإشكالات المشتركة، ان لا ضرر بما انه حكم امتناني على العباد وان مفاده انه تعالى لعنايته على العباد لم يوقعهم في الضرر ولم يشرع الأحكام للإضرار عليهم آب عن التخصيص مطلقا فهو كقوله تعالى: ما جعل عليكم في الدين من حرج، ولسانه كلسانه ويكون آبيا عن التخصيص، مع ان كثيرا من الأحكام الإلهية ضررية كتشريع
42

الزكاة والخمس والحج والجهاد والكفارات والحدود والاسترقاق وغير ذلك كسلب مالية الخمر والخنزير وآلات القمار وآلات الطرب وساير الأعيان النجسة وما يلزم منه الفساد على مذاق الشرع بل لو لم يكن التخصيص أكثريا ولا يكون لا ضرر في مقام الامتنان لكان نفس خروج تلك المعظمات التي هي أصول الأحكام الإلهية ومهماتها من قوله لا ضرر ولا ضرار مستهجنا. فمن أخبر بعدم الضرر في الأحكام سواء كان اخباره في مقام الإنشاء أم لا ثم يكون معظم أحكامه وأصولها ضرريا لم يخرج كلامه عن الاستهجان.
وما قيل ان لا ضرر انما هو ناظر إلى الأحكام التي نشأت من إطلاقها الضرر دون ما يكون طبعه ضرريا كالأمثلة المتقدمة كما ترى فان قوله لا ضرر إذا كان معناه انه تعالى لم يشرع حكما ضرريا على العباد فلا معنى لإخراج الأمثلة الا بنحو التخصيص فان ما يكون بتمام هويته ضرريا أولى بالدخول فيه مما هو بإطلاقه كذلك، كما ان ما يقال من ان الزكاة والخمس حق للفقراء وإخراج مال الفقراء وتأدية حقوقهم ليس بضرر عرفا كلام شعري، فان الإشكال انما هو ان جعل عشر المال الزكوي وخمس المال الذي تعلق به الخمس ملكا لغير مالكه العرفي ضرر على العباد وهذا الجعل حكم شرعي ضرري نعم يمكن ان يدعى ان دليل نفى الضرر منصرف عن مثل تلك الأحكام المعروفة المتداولة بين المسلمين فلا يكون خروجها تخصيصا وهو ليس ببعيد، لكن هذا لا يدفع أصل الإشكال لورود تخصيصات غير ما عليه خصوصا على ما قررناه.
حول الإشكالات الغير المشتركة
واما الإشكالات الغير المشتركة بين الاحتمالات، اما كونه مجازا في الحذف أو في الكلمة بإطلاق اللفظ الموضوع للمسبب على السبب فهما احتمالان ضعيفان لا يصار إليهما بل التحقيق ان جل المجازات لو لا كلها حقائق ادعائية كما حقق في محله وقد عرفت في قوله تعالى: واسئل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها انه حقيقة ادعائية كما ان قوله جرى الميزاب ليس بإطلاق اللفظ الموضوع للميزاب على الماء بعلاقة المجاورة، فإنه مستهجن مبتذل، بل ادعى المتكلم ان الميزاب بنفسه جرى، ومصحح
43

هذه الدعوى اما كثرة المطر وغزارته أو علاقة المجاورة مثلا.
واما كونه حقيقة ادعائية كما أفاد المحقق الخراساني في الكفاية من نفى الآثار أي الأحكام بنفي الموضوع ففيه ان الأحكام ليست من آثار الضرر ولا يكون الضرر موضوعا لها حتى يصحح كونها كذلك تلك الادعاء (1) ففي قوله يا أشباه الرجال ولا رجال، يدعى القائل ان تمام حقيقة الرجولية عبارة عن الشجاعة والإقدام في معارك القتال والجدال فمن تقاعد عنها خوفا وجبنا فلا يكون رجلا، فيسلب الرجولية لسلب آثارها البارزة التي يمكن دعوى كونها تمام حقيقة الرجولية، واما الأحكام فليست من آثار الضرر حتى يصح فيها هذه الدعوى، نعم لو فرض ان للضرر أثرا بارزا غير مرتب عليه أو كان الضرر لقلة وجوده مما يعد معدوما يمكن دعوى عدمه، فقياس المقام بقوله يا أشباه الرجال ولا رجال مع الفارق وقد عرفت الإشكال فيما ذكره رحمه الله في تعليقته على الرسائل.
واما الحقيقة الادعائية بالأنحاء الاخر كنفي الضرر لنفي أسبابه وقلعها، فالمصحح لدعوى انه لا ضرر في دائرة سلطاني وحمى حكومتي هو قلع مادة أسبابه وقطع أصول علله برفع الأحكام الشرعية الموجبة للضرر، والنهي عن إضرار الرعية بعضهم بعضا، فالشارع قد قطع علل الضرر بما هو وظيفته فيمكن ان يدعى انه لا ضرر ولا ضرار.
فيرد على ذلك بجميع تقريراته المتقدمة ان دعوى نفى الحقيقة بتمام هويتها مع وجودها في الخارج انما تستحسن وتصح إذا صح تنزيل الموجود منزلة المعدوم اما لقلة وجوده أو قطع علله وأسبابه بحيث يقل وجوده، ومع كون الأحكام البارزة المهمة في الإسلام التي هي أصول الأحكام الفرعية كالزكاة والخمس والحج والجهاد والكفارات والحدود بل والاسترقاق وأخذ الغنائم وغيرها ضررية في نظر العقلاء لا مصحح لهذه الدعوى ولا حسن لها،
فهل هذه الدعوى الا كدعوى السلطان عدم السارق في حومة سلطانه مع كون غالب أعاظم مملكته ومقربي حضرته من السارقين.

(1) يمكن ان يقال: انه لا يعقل ان يكون الضرر موضوعا للحكم مع انه الموجب لنفيه لأن موضوعات الأحكام بمنزلة المقتضى لها ولو كان الضرر موضوعا أو جزء موضوع له يلزم منه ان يكون الموضوع رافعا له أو دافعا عنه وهذا غير معقول تأمل (م - ط)
44

ثم ان نهى الشارع عن الإضرار لا يوجب قلع مادة الإضرار حتى تصح تلك الدعوى، كما ان حكم الشارع بلزوم التدارك لا يوجب نفى الضرر بل الانتهاء الواقعي يوجبه، فهذا الوجه والوجه الذي جعله الشيخ العلامة قدس سره أردأ الاحتمالات شقيقان في ورود الإشكال عليهما مع ورود إشكالات اخر عليه، وبالجملة لا مصحح لدعوى نفى الضرر والضرار لا مطلقا ولا في الإسلام وفي صفحة التشريع.
ودعوى ان الأمثلة المذكورة ليست ضررية كدعوى ان الحديث ليس ناظرا إليها وانه حاكم على الأدلة التي بإطلاقها موجبة للضرر كالوضوء والصوم الضرريين، لا التي بتمام هويتها ضررية، وان ما يكون الضرر يقتضيه لا يمكن ان ينفيه كما ترى، فان الكلام في مصحح دعوى نفى الحقيقة، فهل يجوز دعوى نفى حقيقة الضرر عن صفحة الكون أو عن صفحة التشريع مع شيوعه في الخارج وكثرة الأحكام الضررية في صفحة الشريعة، فمن كانت صفحة تشريعه مملوة من الأحكام الضررية مما هو أساس أحكامه وقوام شريعته، كيف يدعى عدم حقيقة الضرر والضرار، وكيف ينزل الأحكام التي هي كالأصول منزلة العدم، وعندي ان هذا الوجه أردأ الوجوه وان هذه الدعوى من أبرد الدعاوي وأقبحها مما لا يمكن حمل الكلام العادي عليه فكيف بكلام صدر ممن هو أفصح من نطق بالضاد وما ذكرنا من إمكان دعوى الانصراف مع عدم سلامته من المناقشة لا يخرج الكلام من البرودة، والدعوى من القبح، مع ان إضرار الناس بعضهم بعضا، مع هذا الشيوع والكثرة يكفى في فساد هذا الوجه وبرودة هذه الدعوى، هذا حال الاحتمال الأول الذي اختاره العلامة الأنصاري وجل من تأخر عنه رحمهم الله باختلاف تعبيراتهم.
واما الاحتمال الثاني الذي نسبه الشيخ إلى بعض الفحول فقد اتضح ضعفه بما ذكرنا وما أورد عليه الآخرون، واما الاحتمال الثالث الذي اختاره شيخ الشريعة رحمه الله فهو أقرب الاحتمالات الثلاثة وسليم عن الإشكالات المتقدمة لكن الشأن في ظهور الكلام فيه كما ادعى.
45

فصل
حول ما أفاده شيخ الشريعة الأصفهاني
في حال الاحتمال الثالث قال العلامة شيخ الشريعة في رسالته المعمولة في حديث الضرر ما ملخصه: ان حديث الضرر محتمل عند القوم لمعان: أحدها ان يراد به النهي عن الضرر فيكون نظير قوله: لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج (1) وقوله تعالى: فان لك في الحياة ان تقول لا مساس (2) أي لا تقربني ولا تمسني، ومثل قوله صلى الله عليه وآله: لا جلب ولا جنب ولا شغار في الإسلام (3) وقوله صلى الله عليه وآله: لا جلب ولا جنب ولا اعتراض، وقوله صلى الله عليه وآله: لا أخصاء في الإسلام ولا بنيان كنيسة وقوله صلى الله عليه وآله: لا حمى في الإسلام ولا مناجشة (4) وقوله صلى الله عليه وآله: لا حمى في الأراك وقوله صلى الله عليه وآله: لا حمى الا ما حمى الله ورسوله، وقوله صلى الله عليه وآله: لا سبق في خف أو حافر أو نصل (5) وقوله صلى الله عليه وآله: لا صمات يوم إلى الليل (6) وقوله صلى الله عليه وآله: لا صرورة في الإسلام (7) وقوله صلى الله عليه وآله: لا طاعة

(1) سورة البقرة - الآية 193.
(2) سورة طه - الآية 9.
(3) الوسائل - كتاب النكاح - الباب 27 من أبواب عقد النكاح - قوله: لا جلب، الجلب في الرهان هو ان يركب فرسه رجلا فإذا قرب من الغاية تبع فرسه فجلب عليه أي صاح به ليكون هو السابق وهو ضرب من الخديعة، وقيل غير ذلك، والجنب ان يجعل الرجل بجانبه مع فرسه عند الرهان فرسا آخر لكي يتحول عليه ان خاف ان يسبق على الأول وقيل غير ذلك، والشغار تزويج الأخت أو البنت في مقابل الاخر بضعا ببضع -
(4) المناجشة مدح الطعام -
(5) الوسائل - كتاب السبق والرماية - الباب 3 -
(6) الوسائل - كتاب الايمان - الباب 11 -
(7) الصرورة الاصرار على ترك التزويج -
46

لمخلوق في معصية الخالق (1) وقوله صلى الله عليه وآله: لا هجر بين المسلمين فوق ثلاثة أيام (2) وقوله صلى الله عليه وآله: لا غش بين المسلمين، هذا كله مما في الكتاب والسنة ولو ذهبنا لنستقصى ما وقع من نظائرها في الروايات واستعمالات الفصحاء نظما ونثرا لطال المقال وادى إلى الملال، وفيما ذكرنا كفاية في إثبات شيوع هذا المعنى في هذا التركيب أعني تركيب «لا» التي لنفي الجنس، وفي رد من قال (3) في إبطال احتمال النهي ان النفي بمعنى النهي وان كان ليس بعزيز الا انه لم يعهد من مثل هذا التركيب.
ثم نقل ساير الاحتمالات فقال: والظاهر الراجح عندي بين المعاني الأربعة هو الأول وهو الذي لا تسبق الأذهان الفارغة عن الشبهات العلمية إلا إليه.
ثم أيد ما ذكره بقوله في قضية سمرة: انك رجل مضار ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن، وقال: انه بمنزلة صغرى وكبرى فلو أريد التحريم كان معناه انك رجل مضار والمضارة حرام وهو المناسب لتلك الصغرى، لكن لو أريد غيره مما يقولون صار معناه، انك رجل مضار والحكم الموجب للضرر منفي أو الحكم المجعول منفي في صورة الضرر، ولا أظن بالأذهان المستقيمة ارتضائه، ثم أيد مدعاه بقول أئمة اللغة ومهرة أهل اللسان كما تقدم، ثم قال: وليعلم ان المدعى ان حديث الضرر يراد به إفادة النهي عنه سواء كان هذا باستعمال التركيب في النهي ابتداء، أو انه استعمل في معناه الحقيقي وهو النفي ولكن لينتقل منه إلى إرادة النهي إلى ان قال: فالمدعى ان الحديث يراد به إفادة النهي لا نفي الحكم الضرري ولا نفي الحكم المجعول للموضوعات عنها ولا يتفاوت في هذا المدعى ان استعمال النفي في النهي بأي وجه وربما كانت دعوى الاستعمال في معنى النفي مقدمة للانتقال إلى طلب الترك ادخل في إثبات المدعى حيث لا يتجه ح ما يستشكل في المعنى الأول من انه تجوز لا يصار إليه انتهى الموارد الحساسة من كلامه رحمه الله.

(1) الوسائل - كتاب الامر بالمعروف - الباب 11 - من أبواب الامر وما يناسبها -
(2) الوسائل - كتاب الحج - الباب 144 - من أبواب احكام العشرة -
(3) القائل هو المحقق الخراساني رحمه الله -
47

والإنصاف ان في دوران الأمر بين محتملات القوم الترجيح فما أفاده وبالغ في تحقيقه لكن لا يتم ما ذكره الا بمساعدة ما ذكرنا من وجوه إبطال محتملات القوم والا فمجرد كثرة استعمال النفي في النهي لا يوجب ظهوره فيه مع كونه مجازا سواء أريد منه النهي أو النفي وجعل كناية عن النهي، فان ذلك لا يوجب كونه حقيقة كما لا يخفى ولو كان نظره إلى ان كثرة الاستعمال في هذا المعنى صيرته من المجازات الراجحة التي يحمل عليها اللفظ مع تعذر المعنى الحقيقي، ففيه ان استعمال هذا التركيب في هذا المعنى وان كان شايعا ولكن استعماله في غيره أكثر شيوعا وها انا أسرد قليلا من كثير مما ورد هذا التركيب في الروايات وأريد غير ما ذكره.
وهو قوله: لا سهو لمن أقر على نفسه بسهو (1) وقوله: لا سهو في سهو، وقوله: لا سهو في نافلة (2) وقوله: لا نذر في معصية الله (3) وقوله: لا يمين لمكره (4) وقوله: لا يمين في قطعية (5) وقوله: لا يمين في معصية الله (6) وقوله: لا يمين فيما لا يبذل (7) وقوله: لا يمين في استكراه ولا على سكر ولا على معصية (8) وقوله: لا يمين الا بالله وقوله: لا نذر فيما لا يملكه ابن آدم (9) وقوله: لا رضاع بعد فطام وقوله:
لا يتم بعد احتلام وقوله: لإطلاق قبل النكاح وقوله: لا عتق قبل الملك وقوله:

(1) الوسائل - كتاب الصلاة - الباب 16 - من أبواب الخلل الواقع في الصلاة - والرواية هكذا لا سهو على من أقر على نفسه بسهو -
(2) المستدرك كتاب الصلاة - الباب 16 - من أبواب الخلل الواقع في الصلاة -
(3) الوسائل - كتاب النذر والعهد - الباب 17 -
(4) المستدرك - كتاب الايمان - الباب 12 -
(5) و (6) المستدرك كتاب الايمان - الباب 11 -
(7) المستدرك - كتاب الايمان - الباب 7 -
(8) المستدرك - كتاب الايمان - الباب 7 - والرواية هكذا - لا يمين في استكراه ولا على سكر ولا على عصبية الخ -
(9) المستدرك - الباب 1 - من أبواب النذر والعهد -
48

لا يمين للولد مع والده ولا للمملوك مع مولاه ولا للمرأة مع زوجها (1) وقوله: لا نكاح للعبد ولا طلاق الا بإذن مولاه (2) وقوله: لا طلاق الا على طهر (3) وقوله: لإطلاق الا بخمس: شهادة شاهدين إلخ (4) وقوله: لإطلاق فيما لا تملك ولا عتق فيما لا تملك ولا بيع فيما لا تملك (5) وقوله: لا طلاق لسكران الذي لا يعقل (6) وقوله: لإظهار الا في طهر (7) وقوله: لإطلاق الا ما أريد به الطلاق (8) ولإظهار الا ما أريد به الظهار (9) وقوله: لا إيلاء حتى يدخل بها (10) إلى غير ذلك من الموارد التي يطلع عليها المتتبع
.
والمقصود من الإطالة إثبات ان هذا التركيب وان كان استعماله وإرادة النهي به بأي معنى كان ليس بعزيز لكن شيوعه ليس بحد يكون ظاهرا فيه ابتداء أو مع تعذر الحقيقة، ولو فرض المناقشة في بعض الأمثلة المتقدمة لكن بعد الإشكالات الواردة على الاحتمالين الآخرين لو دار الأمر بين الاحتمالات الثلاثة يكون هذا الاحتمال أرجحها.
فصل
حول المختار في معنى الرواية
اعلم ان هاهنا احتمالا آخر قد أشرنا إليه والآن نرجع إلى توضيحه وتشييده، ربما

(1) الوسائل - كتاب الايمان - الباب 11 -
(2) المستدرك - كتاب النكاح - الباب 16 من أبواب نكاح العبيد والإماء -
(3) الوسائل - كتاب الطلاق - الباب 9 - من أبواب مقدماته وشرائطه -
(4) المستدرك - كتاب الطلاق - الباب 11 من أبواب مقدماته وشرائطه -
(5) المستدرك - كتاب الطلاق - الباب 12 - من أبواب مقدماته وشرائطه -
(6) المستدرك - كتاب الطهارة - الباب 2 -
(7) المستدرك - كتاب الظهار - الباب 2 -
(8) الوسائل - كتاب الطلاق - الباب 11 من أبواب مقدماته وشرائطه -
(9) الوسائل - كتاب الظهار - الباب 3 -
(10) الوسائل - كتاب الايلاء والكفارات - الباب 6 - من أبواب الايلاء -
49

كان أقرب الاحتمالات بملاحظة شأن صدور الرواية من طرقنا وبملاحظة لفظها الوارد من طرق الناس
ولا بد لبيانه من ذكر مقدمات:
الأولى
ان لرسول الله صلى الله عليه وآله في الأمة شئونا أحدها النبوة والرسالة أي تبليغ الأحكام الإلهية من الأحكام الوضعية والتكليفية حتى أرش الخدش وثانيها مقام السلطنة والرئاسة والسياسة لأنه صلى الله عليه وآله سلطان من قبل الله تعالى، والأمة رعيته وهو سائس البلاد ورئيس العباد، وهذا المقام غير مقام الرسالة والتبليغ، فإنه بما انه مبلغ ورسول من الله ليس له امر ولا نهى، ولو امر أو نهى في أحكام الله تعالى لا يكون ذلك إلا إرشادا إلى امر الله ونهيه، ولو خالف المكلف لم يكن مخالفته مخالفة رسول الله بل مخالفة الله تعالى لأن رسول الله صلى الله عليه وآله ليس بالنسبة إلى أوامر الله ونواهيه ذا امر ونهى بل هو مبلغ ورسول ومخبر عنه تعالى، كما ان أوامر الأئمة عليهم السلام ونواهيهم في أحكام الله كذلك، وليست أوامر النبي والأئمة عليه وعليهم الصلاة والسلام ومن هذه الجهة الا كأوامر الفقهاء مقلديهم، فقول الفقيه لمقلده: اغسل ثوبك عن أبوال ما لا يؤكل لحمه، كقول النبي والأئمة عليهم السلام من حيث انه إرشاد إلى الحكم الإلهي وليس مخالفة هذا الأمر الا مخالفة الله لا مخالفة الرسول والأئمة والفقيه.
واما إذا امر رسول الله أو نهى بما انه سلطان وسائس يجب إطاعة امره بما انه امره، فلو امر سرية ان يذهبوا إلى قطر من الأقطار تجب طاعته عليهم بما انه سلطان وحاكم فان أوامره من هذه الجهة كأوامر الله واجب الإطاعة وليس مثل هذه الأوامر الصادرة عنه أو عن الأئمة إرشادا إلى حكم الله بل أوامر مستقلة منهم تجب طاعتها وقوله تعالى.
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، ناظر إلى تلك الأوامر والنواهي الصادرة عن الرسول وأولي الأمر، بما انهم سلطان وولى على الناس وبما انهم سائس العباد قال تعالى: وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله امرا ان يكون لهم الخيرة في أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا بعيدا (1) وثالث المقامات مقام القضاوة والحكومة الشرعية وذلك عند تنازع الناس في حق

(1) سورة الأحزاب - الآية 36 -
50

أو مال، فإذا رفع الأمر إليه وقضى بميزان القضاوة يكون حكمه نافذا لا يجوز التخلف عنه، لا بما انه رئيس وسلطان بل بما انه قاض وحاكم شرعي وقد يجعل السلطان الأمارة لشخص فينصبه لها والقضاوة لآخر، فيجب على الناس إطاعة الأمير في إمارته لا في قضائه، وإطاعة القاضي في قضائه لا في أوامره، وقد يجعل كلا المقامين لشخص أو لأشخاص، وبالجملة ان لرسول الله مضافا إلى المقامين الأولين مقام فصل الخصومة والقضاء بين الناس قال تعالى: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما (1)
الثانية
كل ما ورد من رسول الله وأمير المؤمنين بلفظ «قضى» أو «حكم» أو «امر» وأمثالها ليس المراد منه بيان الحكم الشرعي، ولو أريد منه ذلك لا يكون الا مجازا أو إرشادا إلى حكم الله، فان الظاهر من تلك الألفاظ هو انه قضى أوامر أو حكم من حيث انه سلطان وأمير أو من حيث انه قاض وحاكم شرعي لا من حيث انه مبلغ للحرام والحلال، لما عرفت ان الأحكام الإلهية ليست أحكام رسول الله وانه صلى الله عليه وآله لا يكون ذا امر ونهى وحكم وقضاء بالنسبة إليها حقيقة بل هو مبين ومبلغ، واما بالنسبة إلى الأحكام الصادرة عنه في مقام القضاء أو في مقام السلطنة والرئاسة يكون قاضيا وحاكما وآمرا وناهيا حقيقة وان كان فرق بين هذين المقامين وما ذكرنا مضافا إلى كونه موافقا للتحقيق والظهور اللفظي يتضح بالتتبع والتدبر في موارد استعمال تلك الكلمات في الروايات الناقلة لقضايا رسول الله وأمير المؤمنين وأوامر هم السلطانية.
ولذا قلما ترى ورود تلك التعبيرات بالنسبة إلى ساير الأئمة عليهم السلام حيث لم تكن لهم الرئاسة والسلطنة الظاهرية ولا القضاء والحكم بحسب الظاهر. وان أطلق نادرا يكون باعتبار كونهم حاكما وقاضيا بحسب الواقع، وربما يقال: امر رسول الله أو أحد الأئمة عليهم السلام بكذا في الأحكام الإلهية فيكون الحكم أو الأمر إرشادا إلى حكم الله تعالى، والمدعى ان الظاهر من امر فلان بكذا أو قضى بكذا هو الأمر المولوي والقضاء والحكومة لا الإرشاد إلى امر آخر أو حكم إلهي.

(1) سورة النساء - الآية 68.
51

الثالثة
قد يعبر في مقام الأوامر الصادرة عنه صلى الله عليه وآله أو عن أمير المؤمنين عليه السلام بما انهما السلطان والحاكم بغير الألفاظ المتقدمة فيقال: قال رسول الله أو قال أمير المؤمنين لكن قرينة الحال والمقام تقتضي الحمل على الأمر المولوي أو القضاء وفصل الخصومة فلو ورد ان رسول الله صلى الله عليه وآله قال لفلان: أنت رئيس الجيش فاذهب إلى كذا، يكون بقرينة المقام ظاهرا في ان هذا الأمر صدر مولويا من حيث انه سلطان، ولو ورد ان رجلين تخاصما عنده في كذا وأقام أحدهما البينة فقال صلى الله عليه وآله: ان المال لصاحب البينة، يكون ظاهرا بحسب المقام في انه قضى بذلك ويكون قوله ذلك هو القضاء بالحمل الشائع.
وبالجملة الألفاظ المتقدمة مع قطع النظر عن القرائن ظاهرة في الحكم والأمر منه، ويمكن ان يقال: ان قوله: «امر» بكذا ظاهر في الأمر المولوي السلطاني، و «قضى بكذا» ظاهر في فصل الخصومة، و «حكم» مردد بينهما يحتاج إلى قرينة معينة، واما ما هو من قبيل «قال» فدلالته على القضاء أو الأمر المولوي تحتاج إلى قرينة حال أو مقال، نعم صيغ الأمر في حد نفسها ظاهرة في الأمر المولوي وكونها إرشادية يحتاج إلى القرينة.
الرابعة
لا بأس لتأييد ما ذكرنا بنقل بعض الروايات الواردة بالألفاظ المتقدمة وبعض ما يكون بقرينة المقام دالا على ان الأمر الصادر امر مولوي سلطاني أو حكم وقضاء وان لم يرد بلفظ قضى أو امر أو حكم فنقول: اما ما ورد بلفظ قضى وحكم فأكثر من ان يحصى.
فمن ذلك ما في الكافي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله انما أقضي بينكم بالبينات والإيمان (1) وعن تفسير الإمام عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: كان رسول الله يحكم بين الناس بالبينات والإيمان الخبر (2)

(1) الوسائل - كتاب القضاء - الباب 2 - من أبواب كيفية الحكم واحكام الدعوى.
(2) الوسائل - كتاب القضاء - الباب 2 - من أبواب كيفية الحكم واحكام الدعوى.
52

وعن الكافي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان رسول الله يقضى بشاهد واحد مع يمين صاحب الحق (1) وعنه حدثني أبي ان رسول الله قد قضى بشاهد ويمين (2) إلى غير ذلك وقضايا أمير المؤمنين مشهورة (3) وفي بعض الروايات أجاز رسول الله شهادة شاهد مع يمين طالب الحق (4) وعن أبي جعفر عليه السلام قال: لو كان الأمر إلينا أجزنا شهادة الرجل الواحد إذا علم منه خير مع يمين الخصم في حقوق الناس، فاما ما كان من حقوق الله عز وجل أو رؤية الهلال فلا (5) هذه الرواية تدل على ان هذا التنفيذ وهذه الإجازة هو تنفيذ ولى الأمر والسلطان.
ومما ورد من قضايا رسول الله صلى الله عليه وآله بما انه سلطان وسائس ما في الكافي عن عقبة بن خالد (6) ان النبي صلى الله عليه وآله قضى في هوائر النخل (7) ان يكون النخلة والنخلتان للرجل في حائط الاخر فيختلفون في حقوق تلك فقضى فيها ان لكل نخلة من أولئك من الأرض مبلغ جريدة من جرائدها حين بعدها.
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: قضى النبي صلى الله عليه وآله في رجل باع نخلا واستثنى عليه نخلة فقضى له رسول الله بالمدخل إليها والمخرج منها ومدى جرائدها (8) وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: قضى رسول الله صلى الله عليه وآله في سيل وادي مهزور للزرع إلى الشراك وللنخل إلى الكعب ثم يرسل الماء إلى أسفل من ذلك قال

(1) الوسائل - كتاب القضاء - الباب 14 - من أبواب كيفية الحكم واحكام الدعوى.
(2) الوسائل - كتاب القضاء - الباب 14 - من أبواب كيفية الحكم واحكام الدعوى.
(3) الوسائل - كتاب القضاء - الباب 21 من أبواب كيفية الحكم واحكام الدعوى.
(4) الوسائل - كتاب القضاء - الباب 14 - من أبواب كيفية الحكم واحكام الدعوى.
(5) الوسائل - كتاب القضاء - الباب 14 - من أبواب كيفية الحكم واحكام الدعوى.
(6) الوسائل - كتاب احياء الموات - الباب 10 -
(7) مسقط ثمرتها.
(8) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 30 من أبواب احكام العقود.
53

ابن أبي عمير: ومهزور موضع واد (1) إلى غيرها من الروايات.
واما ما ورد بلفظ قال أو يقول وأمثال ذلك وكان المستفاد منه هو القضاء أو الأمر المولوي السلطاني فكثير أيضا يطلع عليه المتتبع، من ذلك رواية عقبة بن خالد (2) المتقدمة في المقدمة برواية الصدوق الراجعة إلى شق القناة بجنب قناة الاخر وفيها قضى رسول الله بذلك وقال: ان كانت الأولى أخذت ماء الأخيرة لم يكن لصاحب الأخيرة على الأول سبيل.
ومنه ما عن الشيخ بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام عن أبيه عن آبائه ان النبي صلى الله عليه وآله قال: اقتلوا المشركين واستحيوا شيوخهم وصبيانهم، والظاهر ان هذا امر سلطاني متوجه بالجيوش (3) ومنه ما عن الكافي بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان رسول الله إذا أراد ان يبعث سرية دعاهم فأجلسهم بين يديه ثم يقول سيروا باسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله لا تغلوا ولا تمثلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا شيخا فانيا ولا صبيا ولا امرأة ولا تقطعوا شجرا الا ان تضطروا إليها (4) وعنه عن إبراهيم بن جندب عن أبيه ان أمير المؤمنين عليه السلام كان يأمر في كل موطن لقينا فيه عدونا فيقول: لا تقتلوا القوم حتى يبدؤكم فإنكم بحمد الله على حجة وترككم إياهم حتى يبدؤكم حجة أخرى لكم فإذا هزمتموهم فلا تقتلوا مدبرا ولا تجهزوا على جريح ولا تكشفوا عورة ولا تمثلوا بقتيل (5)
نتيجة ما أصلناها
إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم ان حديث نفي الضرر والضرار قد نقل عن مسند أحمد

(1) الوسائل - كتاب احياء الموات - الباب 18 -
(2) الوسائل - كتاب احياء الموات - الباب 16 -
(3) الوسائل - كتاب الجهاد - الباب 8 - من أبواب جهاد العدو وما يناسبه.
(4) الوسائل - كتاب الجهاد - الباب 15 - من أبواب جهاد العدو وما يناسبه.
(5) الوسائل - كتاب الجهاد - الباب 33 - من أبواب جهاد العدو وما يناسبه.
54

بن حنبل برواية عبادة بن الصامت في ضمن قضايا رسول الله صلى الله عليه وآله ولفظه: وقضى ان لا ضرر ولا ضرار، وقد اتضح ان لفظة «قضى» أو «حكم» أو «امر» ظاهرة في كون المقضي به من أحكام رسول الله بما انه سلطان أو قاض وليس من قبيل تبليغ أحكام الله وكشف مراده تعالى. والمقام ليس من قبيل القضاوة وفصل الخصومة كما هو واضح، فيكون قوله: قضى ان لا ضرر ولا ضرار ظاهرا في انه من أحكامه بما انه سلطان وانه نهى عن الضرر والضرار بما انه سائس الأمة ورئيس الملة وسلطانهم وأميرهم، فيكون مفاده انه حكم رسول الله وامر بان لا يضر أحد أحدا ولا يجعله في ضيق وحرج ومشقة فيجب على الأمة طاعة هذا النهي المولوي السلطاني بما انها طاعة السلطان المفترض الطاعة.
فالحمل على النهي الإلهي وكونه نهيا من قبل الله وانما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وآله كما اختاره العلامة شيخ الشريعة تبعا لشراح الحديث خلاف الظاهر، مع ان شراح الحديث كابن الأثير والسيوطي وغيرهما لم يظهر من عباراتهم المنقولة الا كون لا ضرر بمعنى لا يضر أخاه.
واما كون النهي من قبل الله أو من قبل رسول الله بما انه سلطان وحاكم فلم - يظهر منهم اختيار فيه ولعل المتبحر المتقدم ذكره، أيضا لم يكن بصدد ذلك بل مقصوده أيضا كون لا ضرر نهيا في مقابل الأقوال الاخر وان كان المتبادر منه هو كون النهي إلهيا وبالجملة كون النهي إلهيا خلاف ظاهر قوله قضى بذلك، كما ان نفي الحكم الشرعي الضرري بقوله قضى انه لا ضرر ولا ضرار، خلاف الظاهر، لعدم التناسب بين قضائه وبين نفي الحكم الضرري هذا حال ما ورد من طرقهم.
واما ما ثبت وروده من طرقنا فهو قضية سمرة بن جندب وورود الحديث في ذيلها من غير تصديره بلفظة «قضى» أو «امر» أو «حكم» بل ورد بلفظة «قال» لكن التأمل في صدر القضية وذيلها وشأن صدور الحديث مما يكاد ان يشرف الفقيه بالقطع بان لا ضرر ولا ضرار حكم صادر منه صلى الله عليه وآله بنحو الأمرية والحاكمية بما انه سلطان ودافع للظلم عن الرعية، فان الأنصاري لما ظلم ووقع في الحرج والمضيقة بورود سمرة بن جندب
55

هذا الفاسق الفاجر على أهله من غير استئذان منه وفي حالة يكره وروده عليه وهو فيها شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله بما انه سلطان ورئيس على الملة حتى دفع الظلم عنه، فأرسل رسول الله إليه فأحضره وكلمه بما هو في الاخبار فلما تأبى حكم بالقلع ودفع الفساد وحكم بأنه لا يضر أحد أخاه في حمى سلطاني وحوزة حكومتي، فليس المقام مقام بيان حكم الله وان الأحكام الواقعية مما لا ضرر فيها وانه تعالى لم يشرع حكما ضرريا أو أخبر انه تعالى نهى عن الضرر، فان كل ذلك أجنبي عن المقام فليس لهما شبهة حكمية ولا موضوعية، بل لم يكن شيء الا تعدى ظالم على مظلوم وتخلف طاغ عن حكم السلطان بعد امره بالاستيذان، فلما تخلف حكم بقلع الشجرة وامر بأنه لا ضرر ولا ضرار، أي الرعية ممنوعون عن الضرر والضرار دفاعا عن المظلوم وسياسة لحوزة سلطانه وحمى حكومته.
فيكون ما في أحاديثنا موافقا للمنقول عن العامة بطريق عبادة بن صامت الذي صرحوا بإتقانه وضبطه وانه من أجلاء الشيعة وعن الكشي عن الفضل بن شاذان انه من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين عليه السلام كحذيفة وخزيمة بن ثابت وابن التيهان وجابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري، وهو ممن شهد العقبة الأولى والثانية وشهد بدرا واحدا والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وآله، ويؤيد إتقانه وضبطه ان القضايا التي نقلها عن رسول الله على ما في مسند أحمد وجمعها في حديث واحد تكون غالبا بألفاظها أو قريبا منها في أحاديثنا متفرقة في الموارد المحتاج إليها منقولة عن الصادقين عليهما السلام (1).

(1) لا يقال: ان ما نقله الأستاذ دام ظله هنا من إتقانه وضبطه لا يلائم ما ذكره سابقا من عدم جواز الاستناد بما رواه أحمد وعدم حجيته وان توثيق عبادة بن صامت لا يكفي في الاعتماد على الحديث لأن في طريقه رجالا آخرين لم يثبت وثاقتهم لأن أحمد بن حنبل نقله في مسندة بست وسائط عن عبادة لأنه يقال: انه دام ظله لم يستند بالحديث بل أيد مقالته به لموافقة مضمونه لما ورد من طرقنا ومراده استجماع الشواهد وتظافر القرائن على ان الحكم حكم مولوي سلطاني وان تصحيحه آخر السند لا يدل على انه اعتمد عليه لأنه لا يستلزم تصحيح الوسائط كما لا يخفى (م - ط)
56

فذلكة المقام
وأنت إذا تأملت فيما ذكرنا من المقدمات وتدبرت الاخبار الحاكية عن قضية الأنصاري وسمرة بن جندب وراجعت الإشكالات الواردة على الاحتمالات القوم لا أظنك ان تشك في ترجيح ما ذكرناه، اما على احتمال الشيخ (قده) بالوجوه المتقدمة فواضح لما ذكرنا من الإشكالات الغير المنحلة مضافا إلى عدم التناسب بين صدر القضية وذيلها على هذا الاحتمال وعدم تناسب تعليل قلع الشجرة بقوله: فإنه لا ضرر ولا ضرار ومخالفته، لكون هذه القضية أي لا ضرر ولا ضرار من قضايا رسول الله صلى الله عليه وآله بل قيل انها من أشهر قضاياه وعدم معهودية استعمال هذا التركيب وإرادة هذا المعنى، كما يظهر من التدبر فيما تقدم من موارد استعماله وفي غيره مما هو متفرق في الاخبار والآثار وكلمات الفصحاء، فان غالبها يكون من قبيل نفي الأثر والحكم بنفي الموضوع، وكثير منها من قبيل النهي بلسان النفي.
واما نفي عنوان وإرادة نفي الحكم الذي يكون منشئا لهذا العنوان لا بنحو السببية والعلية بل بنحو من الدخالة في بعث المكلف نحو الموضوع الذي هو سبب للضرر، فلم أجد استعمال هذا التركيب فيه، وقد عرفت ان نفي الحكم بلسان نفي الموضوع الذي يكون هذا التركيب شايع الاستعمال فيه مما لا وجه له في حديث لا ضرر فان الأحكام الشريعة ليست من آثار الضرر وأحكامه ولا لضرر موضوعها.
نعم لو كان الحكم الضرري في الإسلام نادرا جدا بحيث ينزل منزلة المعدوم يمكن نفي الضرر وإرادة نفي الحكم الضرري بنحو تنزيل الموجود منزلة المعدوم لكنه أيضا يحتاج إلى دعويين، إحداهما دعوى كون المسبب عين السبب، وثانيتهما كون النادر معدوما.
وان شئت قلت: لا بد في هذا المجاز من استعمال اللفظ الموضوع للمسبب في السبب على المشهور وبعد هذا المعنى المجازي لا بد من تنزيل الموجود منزلة المعدوم ولا يخفى ما في هذا المجاز الغريب الوحشي عن ارتكاز العرف والعقلاء، مضافا إلى عدم
57

معهوديته أصلا فلا يمكن ان يصار إليه.
واما إرادة النهي من النفي كما عن ابن الأثير والسيوطي وغيرهما من مهرة أهل اللسان، فهو ليس ببعيد، بل الظاهر منه ذلك، والاختلاف بين ما رجحناه وبين ما ذكره هؤلاء انما هو في كون النهي من نواهي الله تعالى كالنهي عن شرب الخمر والقمار فأطبق رسول الله الكبرى الكلية على المورد واتكل في ردع سمرة بن جندب فقط أو في امره بقلع الشجرة أيضا على قوله تعالى: لا ضرر ولا ضرار كما يظهر من شيخ الشريعة ولعله الظاهر أيضا منهم، أو ان النهي مولوي صدر منه صلى الله عليه وآله بما انه سلطان في الرعية وسائس في الملة كما هو الأرجح عندي وعرفت وجهه مستقصى، فان رجح ذلك في نظرك فالشكر لله تعالى وله المنة وإلا فاجعله أحد المحتملات في قبال سائرها ولعل الله يحدث بعد ذلك امرا.
إشكال ودفع
لعلك تقول: ان الظاهر من صحيحة زرارة: انه صلى الله عليه وآله اتكل في حكمه بقلع الشجرة والرمي بها إلى سمرة على قاعدة شرعية وحكم إلهي حيث قال للأنصاري: اذهب فاقلعها وارم. بها إليه فإنه لا ضرر ولا ضرار، فان ظاهر التعليل انه اتكل على القاعدة الشرعية والحكم الإلهي لا بحكم نفسه، فان تعليل عمله بحكم نفسه غير مناسب كما لا يخفى، فلا بد ان يحمل لا ضرر اما على النهي الإلهي أو نفي التشريع الضرري.
لكنك غفلت عن ممنوعية هذا الظهور وان الظاهر خلافه، لأن المقام لما كان مقام عرض الرعية شكواه إلى السلطان لا السؤال عن الحكم الشرعي كان قوله فاقلعها وارم بها إليه، حكما سياسيا تأديبيا صادرا منه بما انه سلطان علل بالحكم السياسي الكلي أي ان الضرر والضرار لا بد وان لا يكون في حمى سلطاني وحوزة حكومتي، ولما كان سمرة مضارا ومتخلفا عن حكم السلطان فاقلع نخلته وارم بها إليه، وهذا أنسب من تعليل القلع بالنهي الشرعي أو رفع الحكم الضرري، لعدم التناسب ح بين العلة والمعلول
58

أبدا فهذا التعليل مما يؤيد ما ذكرنا ويبعد محتملات القوم، فان تعليل حكمه بالقلع بان الشارع لم يشرع حكما ضرريا أو انه تعالى نهى عن الضرر والضرار مع ان نفس القلع ضرر والحكم به ضرري تعليل باطل يحتاج إلى التأويل ونرجع إلى توضيح ذلك عن قريب، ومما يؤيد ما ذكرنا قوله في رواية ابن مسكان عن زرارة انك رجل مضار ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن، فان التقييد بقوله على مؤمن، مما يوجب الظهور في النهي، وهي وان كانت مرسلة لكن ملاحظة مضمونها وموافقتها لموثقة زرارة ربما توجب الوثوق بصدورها ولا أقل من صلاحيتها للتأييد لما قلنا في مقابل قول الشيخ وبعض الفحول، وبضميمة قرينة الصدر والمورد يؤكد كون النهي مولويا سلطانيا.
بقي التنبيه على أمور:
الأول
- قال الشيخ الأنصاري في رسالة لا ضرر في هذه القصة إشكال من حيث قول النبي صلى الله عليه وآله بقلع العذق مع ان القواعد لا تقتضيه ونفي الضرر لا يوجب ذلك لكن لا يخل بالاستدلال، أقول: اما عدم إخلاله بالاستدلال فهو كما ترى، واما الإشكال فلا يرد على ما ذكرنا، ضرورة ان المورد مندرج تحت الحكم السلطاني الكلي فيكون الأمر بالقلع لقطع مادة الفساد المتوقع في مثل المقام، واما على غيره فالإشكال وارد، لأن عدم تشريع الحكم الضرري ونهى الله تعالى عن الإضرار بالغير لا يقتضيان الإضرار بالغير بقلع شجرته ويؤكد الإشكال ظهور موثقة زرارة في كون المستند للقلع هو قوله لا ضرر ولا ضرار لوقوعه تعليلا لقوله: فاقلع الشجرة ولهذا وقعوا للجواب عنه في حيص بيص، وأحسن الأجوبة ما يقال: ان امره بالقلع يكون لحكومته وسلطنته الإلهية مع انه مخالف للتعليل في الموثقة فيبقى الإشكال بحاله.
ولقد تصدى للجواب عنه بعض أعاظم العصر بما حاصله انه (أولا) ان لا ضرر ليس علة للقلع بل علة لوجوب الاستئذان وانما امر بالقلع لسقوط احترام ماله بإصراره على الإضرار فأمر به من باب الولاية العامة حسما للفساد (وثانيا) لو سلمنا عليته للقلع الا انه لا ينافي القواعد لحكومة لا ضرر على قاعدة السلطنة التي من فروعها احترام مال
59

المسلم الذي هو عبارة عن سلطنة المالك على منع غيره من التصرف في ماله، وقاعدة السلطنة وان كانت مركبة من امر وجودي هو كون المالك مسلطا على التصرف في ماله وامر سلبي هو سلطنته على منع غيره منه، والضرر يرد على الأنصاري من تصرف سمرة في ماله بما يشاء لا من منع الأنصاري عن قلع عذقه ولا بد ان يرفع بدليل الضرر الجزء الأخير من علة الضرر وليس إلا دخوله بلا استئذان لا كون ماله محترما، لكن هذا التركيب انحلالي عقلي لا انها مركبة من حكمين فلا معنى لحكومة لا ضرر على أحد الجزءين، والدخول بلا استئذان وان كان هو الجزء الأخير من العلة لكنه متفرع على إبقاء النخلة، فالضرر نشأ من علة العلل فينفي حق الإبقاء، لأن سمرة لم يكن مالكا الا للنخلة وله حق إبقائها في البستان وهذا علة لجواز الدخول بلا استئذان،
فلو كان المعلول مستلزما للضرر فدليل الضرر رافع لعلته، لأن الضرر في الحقيقة نشأ من استحقاق سمرة لا بقاء عذقه، فقاعدة الضرر ترفع هذا الاستحقاق، والنقض برفع دليل الضرر اللزوم في العقد الغبني دون الصحة، غير وارد، لأن الصحة واللزوم حكمان مستقلان ملاكا ودليلا ولا ربط بينهما ولا علية بينهما، واما جواز الدخول بلا استئذان مع كونه مترتبا على استحقاق إبقاء العذق يكون من آثاره، فالضرر معلول الاستحقاق كما ان الضرر في الوضوء معلول الإيجاب الشرعي وان نشأ من اختيار المكلف انتهى ملخصا، وفيه مواقع للنظر:
الأول ان الظاهر من موثقة زرارة هو كون لا ضرر علة للأمر بالقلع وهذا لفظها قال بعد إحضار سمرة واخباره بقول الأنصاري: «وما شكا إذا أردت الدخول فاستأذن فأبى فلما أبى ساومه حتى بلغ من الثمن ما شاء الله فأبى ان يبيع فقال لك بها عذق يمد لك في الجنة فأبى ان يقبل فقال رسول الله للأنصاري اذهب فاقلعها وارم بها إليه فإنه لا ضرر ولا ضرار» وهذا كما ترى ظاهر غاية الظهور في كونه علة للأمر بالقلع ولا يجوز حمله على كونه علة لوجوب الاستئذان، لأن وجوبه المستفاد من قوله: فاستأذن، انما يكون في ضمن مقاولته صلى الله عليه وآله سمرة ثم بعد ما ساومه بكلام طويل أعرض عنه وأقبل إلى الأنصاري وقال له مستأنفا: اذهب فاقلعها وارم بها إليه فإنه لا ضرر ولا ضرار
60

فكيف يمكن ان يكون هذا الكلام المستقل مع الأنصاري تعليلا للوجوب المستفاد من كلام مستقل مع سمرة مع هذا الفصل الطويل وهل هذا الا الخروج عن طريق المحاورة وقانون التكلم.
الثاني ان الإصرار على الإضرار بالغير لا يوجب سقوط احترام مال المصر، فأية قاعدة عقلية أو شرعية تقتضي ذلك، نعم للسلطان ان يأمر بالقلع حسما لمادة الفساد لكن حمل لا ضرر على ما ذكره القوم لا يناسب كونه تعليلا للأمر بالقلع، واما بناء على ما ذكرنا فالمناسبة بين العلة والمعلول مع حفظ ظهور الموثقة واضحة.
الثالث ان عد قاعدة احترام مال المسلم من فروع قاعدة السلطنة وتفسير الاحترام بأنه عبارة عن سلطنة المالك على منع غيره من التصرف في ماله مما لا ينبغي ان يصغى إليه فإنهما قاعدتان مستقلتان عند العقلاء وفي الشريعة، دليلا وملاكا، فان قاعدة السلطنة قاعدة عقلائية هي من أحكام المالكية عند العقلاء، فان المالك للشيء مسلط عليه بأنحاء التسلط عندهم وقد أمضاها الشارع وأنفذها بقوله في النبوي المشهور: الناس مسلطون على أموالهم (1) وقاعدة حرمة المال عبارة عن كونه في حريم المملوكية ومحترما لا يجوز لأحد التصرف فيه بلا اذن من مالكه، ومع الإتلاف كان ضامنا، وهذا غير سلطنة المالك على ماله وجواز دفع الغير عن التصرف فيه وهذه أيضا قاعدة عقلائية أمضاها الشارع والدليل عليها كثير منه قوله صلى الله عليه وآله في حجة الوداع: فان دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم يلقونه وكمرسلة الصدوق قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله: سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر وأكل لحمه من معصية الله وحرمة ماله كحرمة دمه (2) وما عن صاحب الزمان روحي له الفداء (3) لا يحل لأحد ان يتصرف في مال غيره بغير اذنه، إلى غير ذلك فعد

(1) البحار - ج 1 - ص 154.
(2) وفي موثقة أبي بصير عن أبي جعفر نحوها - راجع الوسائل - كتاب الحج - الباب 158 - من أبواب احكام العشرة.
(3) في الاحتجاج ص 267 - عن أبي الحسين محمد بن جعفر الأسدي عن أبي جعفر محمد ابن عثمان العمري عن صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف.
61

أحدهما من فروع الاخر في غير محله، ومما ذكرنا يعلم ان تفسير احترام مال المسلم بما ذكر أيضا في غير محله فحكومة دليل نفي الضرر على قاعدة السلطنة غير مربوطة بقاعدة حرمة مال المسلم.
الرابع ان القول بان قاعدة السلطنة مركبة من امر وجودي هو كون المالك مسلطا على التصرف في ماله وامر سلبي هو سلطنته على منع غيره من التصرف في ماله أو انحلالها إلى امر وجودي وسلبي عقلا غريب، فان السلطنة على منع الغير من أنحاء تسلط المالك على ماله، والكثرة انما هي في المتعلق، مع ان السلطنة على منع الغير ليست امرا سلبيا ولو كان متعلقها أي منع الغير ودفعه سلبيا، والحال ان متعلقها أيضا ليس بسلبي كما هو واضح.
الخامس انه لو سلم كون القاعدة مركبة من امر وجودي هو السلطنة على تصرفه في ماله بما يشاء وامر سلبي هو السلطنة على منع الغير عن التصرف فيه، لكن دخول سمرة بلا استئذان في منزل الأنصاري ليس من أنحاء سلطنته على التصرف في عذقه بل من المقدمات الوجودية للتصرف فيه ولا يعقل ان تكون القاعدة منحلة إلى السلطنة على الشيء ومقدمته الوجودية بما انها مقدمته.
هذا مضافا إلى ان السلطنة على العذق لا توجب السلطنة على مال الأنصاري وجواز الدخول في بيته بلا استئذان منه، ولو كان الدخول مقدمة للتصرف في عذقه فلا محالة كان له حق الجواز إلى عذقه ما دام موجودا في بستانه، ودليل نفي الضرر ينفي السلطنة على دخوله بلا استئذان واما الدخول مع الاستئذان وأنحاء التصرف في عذقه وحرمة ما له كلها باقية على حالها من غير دليل حاكم عليها (1).

(1) أضف إلى ذلك ان ما قاله من ان السمرة لم يكن مالكا الا للنخلة وله حق إبقائها في البستان وهذا علة لجواز الدخول بلا استئذان فلو كان المعلول مستلزما للضرر فدليل الضرر رافع لعلته غير سديد، لأنه لو سلمنا ان حق إبقاء النخلة علة لجواز الدخول بلا استئذان ولكن لا نسلم ان كون المعلول ضرريا يوجب ارتفاع علته بل يوجب ارتفاع نفسه وبارتفاعه نستكشف ارتفاع علية العلة بالنسبة إليه لا نفس العلة سيما إذا كانت العلة ذات معاليل وعليه فحق إبقاء النخلة باق على حاله تأمل (م - ط).
62

التنبيه الثاني
بناء على ما ذهبنا إليه في حديث نفي الضرر لا يكون دليله حاكما على أدلة الأحكام الأولية سوى قاعدة السلطنة، فان دليل نفي الضرر ورد لكسر سورة تلك القاعدة الموجبة للضرر والضرار على الناس، وهو صلى الله عليه وآله بأمره الصادر منه بما انه سلطان على الأمة وبما ان حكمه على الأولين حكمه على الآخرين منع الرعية عن الإضرار والضرار، فدخول سمرة بن جندب في دار الأنصاري فجأة والاشراف على أهله ضرار وإيصال مكروه وحرج على المؤمن فهو ممنوع، واما نفي اللزوم في المعاملة، الغبنية ونفي وجوب الوضوء الضرري وأمثالهما أجنبي عن مفاد الحديث، ولا يلزم منه فقدان الدليل في كثير من الفروع المسلمة الفقهية كخيار الغبن لأنه لم تجد ظاهرا موردا يكون الدليل منحصرا به بحيث يلزم من عدم التمسك به فقدان الدليل فيه وهذا خيار الغبن وهو من أوضح موارد النقض لا يكون ثبوته متقوما بدليل الضرر، لإمكان دعوى كون خيار الغبن عرفيا عقلائيا لا لأجل الشرط الضمني على مساواة الثمن والمثمن كما قيل حتى يكون خيار الغبن من قبيل خيار تخلف الشرط فان ذلك ممنوع بل لأن خيار الغبن بعنوانه عرفي عقلائي، فان العقلاء يرجع بعضهم إلى بعض في صورة الغبن بعنوان المغبونية لا بعنوان تخلف الشرط، كما ان الرجوع في العيب انما يكون بعنوانه لا بعنوان تخلف الشرط الضمني كما قيل فيه أيضا.
نعم حكم العقلاء في باب العيب هو الخيار أي السلطنة على حل العقد، واما في الغبن فالظاهر ان حكمهم بالخيار معلق على عدم بذل الغابن التفاوت، واستفادة امر زائد على ذلك من دليل الضرر مشكل كما اعترف به بعض الأعاظم منهم العلامة الأنصاري ومنهم شيخنا العلامة الحائري قدس سرهما، ونقل عن العلامة أيضا حيث استشكل في التذكرة في ثبوت الخيار مع بذل التفاوت ويظهر من ابن زهرة في الغنية عدم اعتماده على دليل الضرر في الخيار حيث استدل لثبوته بالإجماع وقال: ويحتج على المخالف بقوله صلى الله عليه وآله لا ضرر ولا ضرار تأمل.
63

ويظهر من الجواهر أيضا عدم اعتماده به في خيار الغبن بل اعتمد على الإجماع المحقق عنده (نعم) استدل الشيخ في الخلاف لثبوت خيار الغبن بقول النبي لا ضرر ولا ضرار وهو لا يدل على انحصار الدليل به
وبالجملة كون دليل الضرر مثبتا لحكم لولاه لبقي بلا دليل محل منع، مع ان بقاء مسألة أو مسائل بلا دليل لا يوجب انعقاد ظهور لدليل الضرر أو ان الحكم بخلاف ظاهره، اللهم الا ان يكون المنظور الاستدلال بفهم الفقهاء وهو أيضا غير تام
التنبيه الثالث
ان مقتضى ما ذكرنا في معنى الحديث هو ممنوعية الضرر والضرار على الناس أو على المؤمن، واما لزوم تحمل الضرر عن الغير أو دفعه عنه فأجنبي عن مفاده، فلو توجه ضرر إلى الغير لا يجب دفعه عنه ولا يجب تحمل الضرر لئلا يتوجه إلى غيره، فلو توجه السيل إلى دار الغير لا يجب عليه دفعه ولا توجيهه إلى داره لئلا يتضرر جاره، ولو توجه إلى داره يجوز دفعه عنها وان توجه بنفسه إلى دار الغير ولا يجوز دفعه إلى دار الغير وتوجيهه إليها لكونه إضرارا عليه، كل ذلك واضح لأن الممنوع هو الإضرار بالغير مباشرة أو تسبيبا لا تحمل الضرر عنه أو وجوب الدفع عنه.
وإذا أكره على الإضرار بالغير فهل يجوز له ذلك أولا، مقتضى حديث الرفع الجواز وعدم وجوب التقاعد عنه وتحمل الضرر عن المكره، اما لحكومة حديث الرفع على دليله بناء على كونه نهيا شرعا بل وبناء على ما ذكرنا من كونه نهيا سلطانيا لحكومته عليه أو على دليل وجوب اتباع السلطان وهو قوله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، واما لدعوى انصراف دليل منع الإضرار عن مثل المقام مما توجه الضرر إلى الغير من قبل المكره بالكسر ويكون المكره بالفتح غير ضار عرفا كالمتولي عن الجائر لكن يجب ان يعلم ان حديث الرفع وغيره مما له حكومة على الأدلة الأولية لا يمكن ان يعمل على حكومته والجمود عليها في جميع الموارد، فرب مورد يتحقق الإكراه بأول وجوده بحيث لو أوجد معه طلاقا أو عتاقا
64

يحكم بالبطلان ولكن لا يمكن رفع اليد معه عن الأدلة الأولية فيما إذا أحرز المقتضى فيه مع أهميته، كما لو أكره على هدم الكعبة وقبر النبي والأئمة عليه وعليهم الصلاة والسلام أو على إحراق المصحف أو على رد القرآن أو تأويله بما يقع الناس به في الضلالة أو على إبطال حجج الله أو على بعض القبائح العقلية والموبقات الشرعية، ولو أوعده بما لو أو عده به في ترك طلاق امرأته أو عتق عبده أو بيع داره فأوقعها تقع باطلة كالإيعاد على الشتم والهتك والضرب وأخذ عشرة دنانير، فان الإيعاد بما ذكر مما يدخل الطلاق ومثله في موضوع الإكراه ويرفع حكمه فهل يمكن الالتزام بمجرد هذا الإيعاد بجواز ما ذكر من المهمات والموبقات، بل في بعض الموارد لا يمكن الالتزام بالجواز مع الإيعاد بالقتل أيضا وان ورد ان التقية في كل شيء يضطر إليه ابن آدم فقد أحله الله، فلو امر الوالي المتولي من قبله بهتك حرمات الناس وضربهم وشتمهم وسبي نسائهم وهدم بيوتهم ونهب أموالهم، وأوعده بما يتحقق به أول مصداق من الإكراه فلا يمكن ان يلتزم بجوازه لدليل الرفع، فلا يبعد الالتزام بالفرق بين الأحكام الوضعية فيقال برفعها بمجرد الإكراه وبين الأحكام التكليفية فيفصل بين مهماتها وغيرها.
التنبيه الرابع
لو استلزم التصرف في ملكه الضرر على غيره، فالمشهور على ما قيل على الجواز، ونقل عن الشيخ والحلي وابن زهرة ان له التصرف بلا خلاف، فهاهنا صور لا بأس بذكرها وذكر ما يقتضى القاعدة فيها: الأولى ان يكون في تصرفه ضرر على الجار وفي تركه ضرر عليه. الثانية ان يكون في تركه حرج ومشقة عليه وفي التصرف ضرر على الجار الثالثة ان يكون في تصرفه حرج ومشقة على الجار وفي تركه ضرر عليه الرابعة ان يكون في ترك تصرفه حرج عليه وفي تصرفه على الجار الخامسة ان يكون في تصرفه ضرر أو حرج على الجار وفي تركه فقدان منفعة له السادسة ان يكون في تصرفه ضرر أو حرج على الجار ولا يكون في تركه شيء عليه ولا فقدان نفع منه. فحينئذ قد يكون تصرفه
65

لغوا وقد يكون للإضرار أو إيصال الحرج بالجار.
فبناء على ما ذكرنا في معنى حديث نفي الضرر لا يبعد انصرافه عما إذا كان ترك تصرفه في ملكه موجبا لتضرره أو وقوع الحرج عليه، لأن النهي عن الإضرار بالغير لا يقتضى تحمل التضرر أو الحرج والمشقة فلا يجب على المالك تحملهما بترك التصرف في ملكه لأجل وقوع الضرر على جاره (نعم) لا يجوز إيقاع الضرر ابتداء على الغير ولو لزم من تركه الضرر عليه، وهذا غير لزوم الضرر عليه من التصرف في ملكه كما هو ظاهر.
هذا إذا لزم من ترك التصرف في ملكه ضرر أو حرج عليه، ومنه ما إذا لزم من تركه فقدان المنفعة المعتد بها فان حبس المالك عن الانتفاع بملكه حرج عليه واما مع عدم لزومهما فلا يجوز له التصرف الموجب لهما، وكذا على مسلك القوم في معنى الحديث يمكن دعوى ذلك الانصراف لأنه قاعدة امتنانية ومقتضى الامتنان ذلك، وبالجملة دليل الضرر منصرف عما يلزم من رفعه إثبات الضرر، واما إذا لم يلزم ذلك كما لو حفر بئرا لمجرد الإضرار على الجار أو لغوا فلا يجوز.
وقد يقال فيما يلزم الضرر: ان جواز حفر البئر ضرري لتضرر الجار به، ومنع تصرف المالك في ملكه ضرري لتضرر المالك به، فيتعارض الضرر ان فيرجع إلى قاعدة السلطنة أو إلى الأصول العقلية والشرعية، ولو لزم من الحفر وتركه الحرج يتعارض الحرجان ولو كان أحدهما حرجيا والاخر ضرريا يتعارضان الا (ان يقال) دليل الحرج حاكم على دليل الضرر فيختلف حكم صور المسألة ففي صورة تعارض الضررين أو الحرجين يقدم حق المالك لقاعدة السلطنة أو الأصول، وفي صورة حرجية أحدهما يقدم جانب الحرج لو قلنا بالحكومة والا فيرجع إلى قاعدة السلطنة أو الأصول.
وقد يقال: ان منع المالك عن التصرف في ملكه بنفسه حرج ففي جميع الصور يقدم جانب المالك لحكومة دليل الحرج أو للتعارض والرجوع إلى قاعدة السلطنة أو الأصول أقول: اما (دعوى) كون منع المالك عن التصرف في ملكه هو بنفسه حرج منفي بدليل الحرج (ممنوعة) فان الحرج هو الضيق والكلفة والمشقة ومطلق المنع ليس كذلك (نعم) قد يلزم منه الحرج.
66

واما حديث تعارض الضررين فتقريره ان جواز حفر البئر ضرري منفي بدليل نفي الضرر، ودليل الضرر الرافع للجواز ضرري على المالك فينفي هذا المصداق بدليل نفي الضرر، فيتعارض دليل الضرر في مصداقين من نفسه، وذلك لأن القضية حقيقة منحلة إلى القضايا المتكثرة.
وفيه أولا انه لا يعقل ان يتكفل دليل نفي نفسه أو مصاديقه، فقوله: لا ضرر ولا ضرار، إنشاء لنفي الأحكام الضررية على مسلكهم فهذا الإنشاء لا يمكن ان ينفي نفس لا ضرر فيكون دليل النافي نافيا لنفسه ومعدما لذاته أو مصاديقه التي هي هو.
لا يقال: حكومة مصداق من لا تنقض اليقين بالشك على مصداق آخر في الشك السببي والمسببي من هذا القبيل، والحل ان حكومة مصداق من الدليل على مصداق آخر لا يلزم منه إعدام الشيء نفسه بل إعدام مصداق للشيء
مصداقا آخرا وذلك غير ممنوع.
فإنه يقال: قضية الشك السببي والمسببي ليست من قبيل ما نحن فيه بل الاستصحاب الجاري في السبب يرفع الشك الذي هو موضوع الأصل السببي فلا يجري لعدم الموضوع وهذا مما لا مانع منه، واما لو فرض في مورد، نفي لا تنقض لنفسه، أي يتكفل إنشاء عدم نقض اليقين بالشك إعدام عدم النقض فهو أيضا محال وما نحن فيه من هذا القبيل، ومما ذكرنا يظهر حال الحل، فان انحلال القضية إلى القضايا لا يوجب إمكان إعدام الشيء نفسه وليس معنى الانحلال إنشاء قضايا متكثرة بل ليس في البين الا إنشاء واحد ولا يمكن ان تنحل قضية إلى مصداق ومعدم لمصداق آخر، وثانيا على فرض صحة تلك الحكومة لا معنى للتعارض بين المصداقين، لأن أحدهما الرافع للآخر حاكم عليه، وبعد الحكومة تصير النتيجة عدم جواز تصرف المالك.
وهاهنا تقرير آخر لبيان التعارض، وهو ان جواز التصرف منفي بلا ضرر، ومنع التصرف الناشئ من لا ضرر أيضا منفي بلا ضرر، فيتعارضان.
وفيه ان مفاد لا ضرر هو نفي الجواز لا المنع من التصرف بمعنى إثبات الحكم، ونفي الحكم ليس حكما حتى ينفي بلا ضرر.
وقد يقال (1): ان الحكم الناشئ من قبل لا ضرر لا يمكن ان ينفي بلا ضرر

(1) القائل هو المحقق النائيني رحمه الله.
67

لأن المحكوم لا بد ان يكون في الرتبة المتأخرة (1) من الحاكم حتى يكون شارحا له وناظرا إليه.
وفيه ان الحكومة لا تتقوم بالنظر والشرح مع ان النظر إلى المتأخر رتبة وشرحه مما لا يمتنع فإذا تحقق بدليل نفي الضرر حكم ضرري لا مانع من نفيه بدليل الضرر، فإنه قضية حقيقية تنفي كل حكم ضرري محقق الوجود أو مقدره في ظرف تحققه مثل قوله: صدق العادل، بالنسبة إلى الاخبار مع الواسطة.
ومما ذكرنا يتضح حال تعارض دليل الحرجين فان الكلام فيه كالكلام في الضرر وكذا الحال في تعارض الضرر والحرج، واما حديث حكومة دليل نفي الحرج على نفي الضرر فهو أيضا مما لا أصل له بناء على مسلك القوم، اما إذا كان دليل نفي الحرج للإضرار الذي قد عرفت انه بمعنى نفي الحرج فواضح، واما إذا كان دليله قوله تعالى: وما جعل عليكم في الدين من حرج، فلان لسانه كلسان لا ضرر بناء على كون لا ضرر بمعنى نفي تشريع الأحكام الضررية، فان لسانهما نفي تشريع الأحكام الحرجية أو الضررية فلا وجه لحكومة أحدهما على الاخر.
هذا آخر ما أردنا إيراده فلنختم الكلام بحمد الله تعالى والصلاة على رسوله وآله الطاهرين وقد وقع الفراغ من تسويده يوم الأربعاء غرة جمادى الأولى سنة الف وثلاثمائة وثمان وستين قمرية من الهجرة النبوية على هاجرها الصلاة والسلام والتحية.

(1) الظاهر انه المتقدمة لا المتأخرة راجع ص 225 من تقريرات المحقق المذكور (م - ط).
68

رسالة
في الاستصحاب
69

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين
فصل
في تعريف الاستصحاب
وقد عرف بتعاريف لا يخلو شيء منها من الإشكال بل لا يخلو كلام الاعلام في هذا الباب من الاضطراب والمناقضة صدرا وذيلا، وبعد تحقيق حقيقة الاستصحاب يظهر صدق ما ادعيناه فنقول:
ان الاستصحاب اما ان يكون أصلا عمليا كأصالة الحل والطهارة ويكون وظيفة عملية في مقام الشك ويكون موضوعه الشك في شيء متيقن سابقا من غير ان يكون اعتباره لأجل التحفظ على الواقع فلا يكون حينئذ حجة على الواقع ولا طريقا مجعولا، فإطلاق الحجة عليه غير صحيح كإطلاق الحجة على أصالتي الطهارة والحلية، فبناء عليه يكون تعريفه بإبقاء ما كان وأمثاله مما لا مانع منه سواء أريد منه الإبقاء العملي الذي هو وظيفة المكلف أو الحكم بالإبقاء من قبل الشارع ولا يخفى انه (ح) يكون مسألة فقهية ولو في الاستصحابات الحكمية فإنه على كلا التقديرين يكون وظيفة عملية غير ناظرة إلى الحكم الواقعي ولا حجة عليه ولا طريقا إليه.
واما ان يكون حجة على الواقع سواء كان أصلا اعتبر لأجل التحفظ على الواقع كأصالة الاحتياط في الشبهة البدوية أو طريقا كاشفا عنه كسائر الأمارات الكاشفة عن
70

الواقع فحينئذ يكون مسألة أصولية وإطلاق الحجة عليه صحيح.
فان معنى الحجية هو كون الشيء منجزا للواقع بحيث لو خالفه المكلف مع قيامه عليه يكون مستحقا للعقوبة، مثلا لو قام الدليل على وجوب الاحتياط في الشبهة البدوية يصير الاحتمال حجة على الواقع، بمعنى انه لو احتمل المكلف وجوب شيء وتركه وكان واجبا واقعا يصير مستحقا للعقوبة عليه وهذا معنى تنجيز الواقع والمنجز هو الحجة على الواقع، وليس المراد بالحجة في الأصول القياس المنطقي وان اشتبه على بعض الأعاظم حتى العلامة الأنصاري قدس سره.
وبالجملة إطلاق الحجة على الاستصحاب بناء على كونه أصلا لتحفظ الواقع أو أمارة لإثباته صحيح ولكن تعريفه حينئذ بإبقاء ما كان ومثله ليس على ما ينبغي، لأن الاستصحاب بناء عليه امر يكون حكم الشارع أو بناء العقلاء أو حكم العقل دليلا على اعتباره ويجب على المكلف العمل على طبقه وجوبا طريقيا للتحفظ على الواقع، ولا يكون نفس الحكم الشرعي أو نفس عمل المكلف، فكما ان خبر الثقة الذي هو طريق إلى الواقع وحجة عليه شيء وإيجاب العمل على طبقه شيء آخر والعمل عليه شيء ثالث فلا يصح ان يقال ان خبر الثقة هو وجوب العمل على طبقه أو العمل على طبقه فكذلك الاستصحاب فلا بد من تعريفه بناء عليه اما ب «كون السابق للشيء الكاشف عن بقائه في زمن الشك فيه» أو «اليقين السابق الكاشف عن متعلقه في زمن الشك» أو «الشك المسبوق باليقين بالشيء» لأن الاستصحاب اما ان يكون أمارة على الواقع كسائر الأمارات ووجه اعتباره عند العقلاء أو الشارع ان الثابت يدوم، فيكون كون السابق الكاشف عن البقاء في زمن الشك فيه هو حقيقة الاستصحاب فهذا التعريف صحيح ولو بناء على أخذه من الاخبار.
واما لو قلنا بان اعتباره الشرعي انما يكون بجعل اليقين طريقا إلى متعلقه في زمان الشك، فتكون حقيقته انه اليقين السابق على الشك في البقاء الكاشف عن متعلقه في زمن الشك.
ولو قلنا بان اعتباره ليس لأجل الطريقية عن الواقع بل لأجل التحفظ عليه، و
71

ان إيجاب العمل على طبق الحالة السابقة لأجل التحفظ عليها فيكون أصلا وحجة على الواقع نظير أصالة الاحتياط في الشبهات البدوية في الاعراض والنفوس فتكون حقيقته انه الشك في بقاء الشيء المسبوق باليقين به أو اليقين الملحوق بالشك، فيكون ما جعله الشارع حجة على الواقع هو اليقين السابق الغير الكاشف عن الكون اللاحق أو الشك المسبوق به كما ان ما جعله حجة عليه في باب الاحتياط في الاعراض والنفوس بناء على
وجوبه هو الاحتمال.
وبما ذكرنا يتضح النظر في كثير مما ذكره الاعلام في المقام فإنه ترى من جعل الاستصحاب أصلا عمليا ووظيفة عملية للشاك يبحث عن حجيته، ومن جعله حجة على الواقع عرفه بأنه الحكم على إبقاء ما كان، ومن عرفه بأنه الإبقاء العملي ويكون فعلا للمكلف يجعله من المسائل الأصولية ويبحث عن حجيته وهذه مناقضات وقعت في كلامهم وعليك بالتأمل التام في المقام.
وقد اتضح أيضا مما ذكرنا انه لا يمكن تعريفه بشيء يكون موردا للنقض والإبرام على جميع المسالك لعدم الجامع بينها، فان من جعله أصلا عمليا لا بد وان يجعل الشك موضوعا ويقول انه وظيفة للشاك عند قصور اليد عن الواقع، ومن جعله أمارة للواقع لا بد وان لا يعتبر الشك على نحو الموضوعية وهما مما لا يجتمعان، وكذا لا جامع بين القول بالطريقية والأمارية عن الواقع وبين القول بأنه حجة على الواقع وأصل كأصل الاحتياط، فمن أراد تعريفه بجامع يجتمع عليه الأقوال المتقابلة فقد أخطأ الغرض الا ان يراد بالجامع الغرض منه على بعض الاعتبارات.
في الاحتمالات التي في الباب
وينبغي التنبيه على امرين:
أحدهما انه يحتمل بحسب التصور ومقام الثبوت ان يكون الاستصحاب أصلا عمليا كأصالة الحل والطهارة، ويحتمل ان يكون أصلا شرعيا للتحفظ على الواقع
72

ويكون حجة عليه ويحتمل ان يكون أمارة شرعية كخبر الثقة بناء على ان يكون اعتباره من قبل الشرع، ويحتمل ان يكون أمارة عقلائية كخبر الثقة بناء على كون اعتباره من بناء العقلاء، ويحتمل ان يكون أصلا عقلائيا يكون بناء العقلاء على العمل به لا لأجل طريقيته عن الواقع بل لحكمة دفع الحرج كأصالة الصحة بناء على كونها من الأصول العقلائية التي شرعت عندهم لأجل حكمة دفع الحرج لا لأجل الطريقية العقلائية ويحتمل ان يكون دليلا عقليا من العقليات الغير المستقلة أي التي تنتهي إلى الحكم الشرعي لا بالاستقلال بل بضم مقدمة شرعية كالحكم بالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته.
واما احتمال كونه من العقليات المستقلة فممنوع لأنها هي القضايا العقلية المنتهية إلى الحكم الشرعي بلا توسط شيء آخر وراء الحكم العقلي كالحكم بان الظلم قبيح وتجويزه على الشارع قبيح والقبيح محال عليه فينتج ان الظلم حرام بحسب حكم الشرع، ولا يخفى ان الاستصحاب بناء على أخذه من العقل لم يكن من العقليات المستقلة لاحتياجه إلى خطاب شرعي جعل صغرى للكبرى العقلية.
ثم اعلم ان القائل بان الاستصحاب أصل عملي يمكن ان يأخذه من الاخبار وهو واضح، ويمكن ان يأخذه من بناء العقلاء لإمكان ان يكون أصلا عقلائيا بنى العقلاء على العمل به لمصالح، كدفع الحرج ورغدة العيش، اللهم الا ان ننكر الأصل العقلائي مطلقا ونقول ما عند العقلاء لا يكون الا الطرق كما هو المعروف ولكنه غير مسلم والقائل بأنه دليل اجتهادي يمكن ان يأخذه من بناء العقلاء أو حكم العقل، ويمكن ان يأخذه من الاخبار بادعاء ان مفادها هو اعتباره من حيث طريقيته وكاشفيته عن الواقع. ومن بعض ما ذكرنا يظهر النظر في بعض ما أفاده الشيخ الأنصاري في هذا المقام (1) فراجع.

(1) وهو ما يتراءى من خلال كلماته من الملازمة بين كون الاستصحاب أصلا ودليل اعتباره الاخبار وبين كونه أمارة ودليل اعتباره بناء العقلاء (م - ط).
73

الاستصحاب ليس من الأدلة الأربعة
الأمر الثاني ان الاستصحاب بناء على ما عرفناه ليس من الأدلة الأربعة إذا أخذت حجيته من الاخبار لأن الأدلة الأربعة أي الكتاب والسنة والإجماع والعقل هي الأدلة التي أقيمت منها على الحكم الفرعي لا الأعم منها ومما أقيمت على الحكم الأصلي أي المسألة الأصولية، مثلا إذ أقام خبر الثقة على حرمة العصير العنبي ودل ظاهر الكتاب على اعتباره يكون الدليل على حرمة العصير هو خبر الثقة لا ظاهر الكتاب، وكذا لو دلت الاخبار على اعتبار خبر الثقة وقام خبر الثقة على حرمة العصير يكون الخبر القائم على حرمته من الأدلة الأربعة لا الاخبار الدالة على اعتباره.
فالاستصحاب بناء على ما ذكرنا من انه عبارة عن نفس الكون السابق الكاشف عن بقائه في اللاحق أو اليقين السابق الملحوق بالشك في البقاء أو الشك المسبوق باليقين هو الدليل أو الحجة على الحكم الفرعي الكلي، وليس هو من الأدلة الأربعة، اما الإجماع والكتاب فظاهر، واما العقل فلان المفروض انه أخذ من الاخبار، واما السنة فلان قوله: لا تنقض اليقين بالشك، دليل اعتبار الاستصحاب كدلالة آية النبأ على اعتبار خبر الثقة، فكما ان الآية دليل على الدليل ويكون الدليل على الفرع الفقهي هو خبر الثقة لا آية النبأ فكذلك الدليل في الفقه أو الحجة في الفقه هو نفس الاستصحاب، ولا تنقض اليقين بالشك دليل على اعتباره فليس الاستصحاب بناء على أخذه من الاخبار من الأدلة الأربعة بل هو دليل برأسه.
ولعل السر في ذهاب القدماء من أصحابنا إلى انحصار الأدلة في الأربعة ان العامة الذين هم الأصل في تدوين الأصول عدوا الاستصحاب من الأدلة العقلية كالقياس والاستقراء، وقدماء أصحابنا إلى زمن والد شيخنا البهائي لم يعهد تمسكهم بالأدلة النقلية في حجية الاستصحاب على ما حكى واما المتأخرون ممن قارب عصرنا أنكروا العقلية في حجية الاستصحاب على ما حكى والمتأخرون ممن قارب عصرنا أنكروا كون موضوع علم الأصول هو الأدلة بما هي أو ذاتها، وزعموا انه لو جعل الموضوع هو الأدلة، تصير مسألة حجية الخبر الواحد والاستصحاب ونحوهما من المبادي التصديقية،
74

وقد مر في مباحث الألفاظ تحقيق الحال في موضوع الأصول والمسائل الأصولية فراجع.
وبما ذكرناه تكون مسألة حجية الاستصحاب وخبر الثقة من المسائل الأصولية، وإلى ما ذكرنا يرجع قول بعض السادة الفحول (1) حيث جعل الاستصحاب دليلا على الحكم في مورده وجعل قوله: لا تنقض اليقين بالشك، دليلا على الدليل نظير آية النبأ بالنسبة إلى خبر الثقة على ما نقل عنه العلامة الأنصاري واستشكل عليه بما هو غير وارد عليه (2) بعد التأمل فيما ذكرنا فراجع.
تنبيه
يظهر من العلامة الأنصاري هاهنا، ان المناط في كون المسألة أصولية ان يكون إجرائها في مواردها مختصا بالمجتهد، وان لا يكون للمقلد حظ فيه، وبنى عليه كون الاستصحاب في الشبهات الحكمية مسألة أصولية، ولا يخفى ما فيه فان كثيرا من المسائل الفقهية والقواعد الفرعية لا يكون كذلك كقاعدة، ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده وعكسها فان الاطلاع على حدود تلك القاعدة ومقدار سريانها لا يمكن الا للمجتهد ولاحظ للمقلد فيها فالمستفاد من قاعدة ما لا يضمن هو ان كل معاملة لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده وبعد تتميم هذه القاعدة يحتاج في تشخيص

(1) هو العلامة بحر العلوم في فوائده - هذا لفظه: «ان استصحاب الحكم المخالف للأصل في شيء دليل شرعي رافع لحكم الأصل ومخصص لعمومات الحل (إلى ان قال): وليس عموم قولهم عليهم السلام: لا تنقض اليقين بالشك بالقياس إلى افراد الاستصحاب وجزئياته الا كعموم آية النبأ بالقياس إلى آحاد الاخبار المعتبرة - انتهى» (م - ط)
(2) وهو ان معنى الاستصحاب الجزئي في الموارد الخاصة كاستصحاب نجاسة الماء المتغير ليس الا الحكم بثبوت النجاسة في ذلك الماء النجس سابقا وهل هذا إلا نفس الحكم الشرعي وهل الدليل عليه الا قولهم عليهم السلام: لا تنقض اليقين بالشك وبالجملة فلا فرق بين الاستصحاب وسائر القواعد المستفادة من العمومات (انتهى) ولكن يمكن ان يقال: بناء على كون الاستصحاب أصلا عمليا ووظيفة عملية عند الشك كما هو الموافق لتعريفه بإبقاء ما كان يكون الاستصحاب (ح) من المسائل الفقهية - تأمل (م - ط)
75

ان اية معاملة لا تضمن بصحيحها وأيتها تضمن إلى اجتهاد، وبما ذكرنا من المناط في أصولية المسألة في مباحث الألفاظ يظهر ان الاستصحاب مسألة أصولية سواء أخذ من الاخبار أم لا،
فصل
حال جريان الاستصحاب في الأحكام العقلية
قد فصل العلامة الأنصاري (ره) بين الأحكام الشرعية المستفادة من الدليل الشرعي والمستفادة من الدليل العقلي فذهب إلى عدم الجريان في الثانية ومحصل كلامه تقريبا ان موضوع الأحكام العقلية بجميع قيوده معلومة مفصلة لدى العقل ولا يعقل طرو الشك في موضوع حكمه، ويكون تمام الحيثيات حتى عدم الرافع، من قيود الموضوع، وتكون مناطات أحكامه معلومة مفصلة والأحكام الناشئة من أدرك تلك المناطات مفصلة مبينة لا يحوم حولها الشك الا من حيث الشك في عنوان الموضوع، فالشك وإن كان في الواقع يرجع إلى الشك في تبدل عنوان الموضوع، وبالجملة حكم العقل بحسن عنوان أو قبحه مما لا يتبدل مع حفظ ذاك العنوان ومع الشك في تبدل العنوان لا يكون للعقل حكم جزما، فاستصحاب حكم العقل مع القطع بعدمه لا معنى له وكذا لا يجري استصحاب الحكم الشرعي المستكشف منه لأن الحكم المستكشف له أيضا يكون للعنوان الذي أدرك العقل مناطه فيه فيكون الحكم الشرعي التابع للحكم العقلي متعلقا بعين العنوان الذي يكون الحكم العقلي متعلقا به فلا يمكن طرو الشك مع بقاء الموضوع فلا بد فيه من الشك في تبديله فلا يبقى موضوع الاستصحاب. هذا في الأحكام العقلية والشرعية المستفادة من حكم العقل، واما المستفادة من الأدلة الشرعية فجريان الاستصحاب بناء على كونه دليلا ظنيا ممتنع لعين ما ذكرنا، واما بناء على أخذه من الاخبار فلا مانع منه فإنه تابع لتحقق موضوعه ومعروضه عرفا فقد يحكم الشارع على حرمة شيء وشك في الآن الثاني في بقاء مناطه مع بقاء الموضوع عرفا
76

فيستصحب الحكم الشرعي انتهى.
حول الإشكالات الواردة على الشيخ الأنصاري وجوابها
وأورد عليه جل من تأخر عنه تارة بأنه لا نسلم لزوم مبينية موضوع حكم العقل ومناطه لإمكان ان يكون العقل قاطعا بوجود المناط في موضوع مركب من أمور أو مقيد بقيود على سبيل الإجمال والإهمال ولم يكن ما تعلق به المناط مفصلا عنده فإذا زال قيد أو جزء غير مقوم له يشك في بقاء ما هو المناط فلا يجري استصحاب نفس الحكم العقلي ولكن جريان الحكم المستكشف منه مما لا مانع منه مع بقاء الموضوع عرفا لاحتمال بقاء المناط في الناقص، وأخرى بان الملازمة بين حكم الشرع والعقل موضوعا ومناطا انما هو في مقام الكشف والدلالة لا بحسب الواقع فيحتمل ان يكون هناك ملاك آخر بحسب الثبوت قائم بالناقص، غير المناط القائم بالكامل وثالثة بان مناط الحكم الشرعي يمكن ان يكون قائما بالأعم مما قام به مناط الحكم العقلي فيكون دائرة حكمه أوسع أي يكون مناط الحكم العقلي في الواجد للخصوصية، ومناط الحكم الشرعي في الأعم من الواجد والفاقد، ومع فقد الخصوصية الغير المقومة للموضوع عرفا يستصحب لاحتمال بقاء الحكم الشرعي.
أقول: لا يخلو شيء من الإشكالات من نظر:
اما الأول فلعدم تعقل كون العقل جازما بالمناط في موضوع مركب على سبيل الإجمال والإهمال لأن من شأن العقل ان يحلل المركب والمقيد إلى الاجزاء والقيود البسيطة فيلاحظ كل جزء من غير انضمامه بالاخر والمقيد والقيد من غير انضمام كل مع الاخر، فإذا لاحظ جزءا فاما ان يدرك فيه الملاك أولا، فان أدرك فيه فاما ان يدرك فيه تمام الملاك أو بعضه، فعلى الأول يحكم بان هذا الجزء تمام الموضوع وساير الاجزاء كالحجر جنب الإنسان، وعلى الثاني يلاحظ الاجزاء واحدا بعد واحد حتى يطلع على ما هو تمام مناط حكمه منضما مع هذا الجزء، وان لم يدرك فيه الملاك يقطع بان حكمه بالحسن أو القبح غير ناش منه، فان الملاك المشكوك
77

فيه لا ينتج الحكم المقطوع به بالبداهة فالإجمال في حكم العقل مما لا يعقل وبعبارة أخرى ان حكم العقل دائما انما يتعلق بالعناوين الكلية المبينة عنده وعروض التركيب الخارجي لا يوجب الإهمال والإجمال في موضوعه تأمل (1) واما الثاني فلان الناقص إذا كان له ملاك آخر تام يكون موضوعا مستقلا لحكم مستقل شرعي، كما ان التام مع وجود الملاك التام فيه يكون موضوعا لحكم آخر مستقل، لأن موضوعات الأحكام تلاحظ مجردة عن اللواحق الغريبة في مقام تعلق الأحكام بها، فالناقص بما انه شيء بحياله قائم به الملاك ملحوظ في مقام الموضوعية ويتعلق به حكم والتام أيضا كذلك فلا يجري الاستصحاب فيه للعلم بزوال الحكم الأول والشك في وجود حكم آخر، وجريان استصحاب الحكم الكلي في المقام ممنوع ولو على تسليم جريانه في الجملة لأن الجامع بين الحكمين غير مجعول، بل المجعول هو كل واحد منهما مستقلا متعلقا بموضوعه والجامع امر انتزاعي عقلي غير متعلق للجعل ولا موضوعا لأثر شرعي وفي مثله لا يجري الاستصحاب.
ومما ذكرنا يتضح الإشكال في الثالث، فان العقل إذا أدرك المناط التام لموضوع، يدرك ان حكم الشرع تعلق بهذا الموضوع بما هو مع قطع النظر عن كلية اللواحق ومع التجريد عنها، وإذا كان بحسب الواقع مناط قائم بعنوان أعم منه لا بد وان يتعلق به حكم آخر مستقل غير مربوط بالحكم المتعلق بالعنوان الأخص، فالإشكال الوارد على الثاني وارد عليه أيضا هذا.
في تحقيق الحال في المقام
والتحقيق في المقام ان يقال: انه لو سلمنا ان العناوين المبينة المفصلة التي يدرك العقل مناط الحسن أو القبح فيها، انما تكون في نظر العقل مع التجرد عن

(1) وجهه ان العقل لا يحيط بجميع وجوه الأشياء وجميع المناطات (فحينئذ) يمكن الحكم بحسن موضع مركب من عدة أمور من باب القدر المتيقن ومع ذهاب بعض الاجزاء أو الحيثيات يستصحب الحكم الشرعي المستنبط من العقلي كما أفاد المشايخ رحمهم الله (منه)
78

كافة اللواحق والعوارض الخارجية حسنة أو قبيحة حسنة أو قبيحة ذاتا، لا يمكن ان يشك العقل في حكمه المتعلق بذلك العنوان المدرك مناطه، ولكن تلك العناوين الحسنة والقبيحة قد تتصادق على موضوع خارجي، لأن الوجود الخارجي قد يكون مجمع العناوين المتخالفة، فالعناوين المتكثرة الممتازة في الوجود العقلي التحليلي قد تكون متحدة غير ممتازة في الوجود الخارجي ويكون الوجود الخارجي بوحدته مصداقا للعناوين الكثيرة وتحمل عليه حملا شايعا، فإذا تصادق عليه العناوين الحسنة والقبيحة، يقع التزاحم بين مناطاتها ويكون الحكم العقلي في الوجود الخارجي تابعا لما هو الأقوى بحسب المناط، مثال ذلك، ان الكذب بما انه كذب مع قطع النظر عن عروض عنوان آخر عليه في الوجود الخارجي قبيح عقلا، وإنجاء المؤمن من الهلكة حسن، وكل من الحسن والقبح ذاتي بالنسبة إلى عنوانه بما انه عنوانه، وقد يقع التزاحم بينهما في الوجود الخارجي إذا تصادقا عليه، فيرجح ما هو أقوى ملاكا وهو الإنجاء، فيحكم العقل بحسن الكلام الخارجي المنجي مع كونه كذبا، وكذا إيذاء الحيوان بما انه حيوان قبيح عقلا، ودفع المؤذي حسن لازم عقلا، وفي صورة التصادق على الموجود الخارجي يكون الحسن أو القبح تابعا لما هو أقوى مناطا.
إذا عرفت ذلك فاعلم انه قد يصدق عنوان حسن على موجود خارجي من غير ان يصدق عليه عنوان قبيح، فيكون الموضوع الخارجي حسنا محضا حسنا ملزما فيكشف العقل منه الوجوب الشرعي ثم يشك في صدق عنوان قبيح عليه مما هو راجح مناطا، فيقع الشك في الموضوع الخارجي بأنه حسن أو قبيح، وقد يكون بعكس ذلك.
مثال الأول ان إنقاذ الغريق حسن عقلا، فقد يغرق مؤمن فيحكم العقل بلزوم إنقاذه ويكشف الحكم الشرعي
بوجوبه، ثم يشك في تطبيق عنوان الساب لله ورسوله عليه في حال الغرق. حيث يكون تطبيق هذا العنوان عليه مما يوجب قبح إنقاذه ويكون هذا المناط أقوى من الأول، أو دافعا له فيشك العقل في حسن الإنقاذ الخارجي وقبحه ويشك في حكمه الشرعي.
79

مثال الثاني انه قد يكون حيوان غير مؤذ في الخارج فيحكم العقل بقبح قتله ثم يشك بعد رشده في صيرورته مؤذيا، فيشك في حكمه الشرعي، فاستصحاب الحكم العقلي في مثل المقامات مما لا مجال له، لأن حكم العقل مقطوع العدم، لأن حكمه فرع إدراك المناط والمفروض انه مشكوك فيه، واما الحكم الشرعي المستكشف منه قبل الشك في عروض العنوان المزاحم عليه فلا مانع من استصحابه إذا كان عروض العنوان أو سلبه عن الموضوع الخارجي لا يضر ان ببقاء الموضوع عرفا كالمثالين المتقدمين، فان عنوان الساب والمؤذي من الطواري التي لا يضر عروضها وسلبها ببقاء الموضوع عرفا فتلخص مما ذكرنا جواز جريان الاستصحاب في الأحكام المستكشفة عن الحكم العقلي.
فصل
حول التفصيل بين الشك في الرافع والمقتضى
ما ذكرنا في الفصل السابق أحد تفصيلي العلامة الأنصاري في الاستصحاب وثانيهما هو التفصيل بين الشك في المقتضى والشك في الرافع، فاختار عدم الجريان في الأول، ولما كانت هذه المسألة مهمة بحسب الآثار الفقهية ومن مطارح إنظار المحققين المتأخرين عنه، لا بد من بسط الكلام فيها حتى يتضح ما هو الحق.
فنقول الظاهر من كلمات الشيخ، ان مراده من المقتضى في مقابل الرافع هو ما يكون معروفا بين الاعلام من ان المستصحب إذا كان له استعداد بقاء واستمرار واقتضاء دوام وقرار وشك في حدوث أمر رافع له يكون من الشك في الرافع، واما إذا شك في مقدار استعداد بقائه وقابلية دوامه ويكون الشك في زواله من ناحية ذلك، يكون من الشك في المقتضى، ولا يكون مراده من المقتضى هو مناطات الأحكام، ولا المقتضى في باب الأسباب والمسببات الشرعية كالعقد المقتضى للملكية والوضوء المقتضى للطهارة.
وما ذكرنا هو الظاهر من كلامه في موارد والمعروف من مذهبه، وان يوهم خلافه ما صرح في ذيل قول المحقق في المعارج في حجة القول التاسع، بان كلام المحقق يرجع إلى مختاره لو كان مراده من دليل الحكم في كلامه بقرينة تمثيله
80

بعقد النكاح هو المقتضى ويكون حكم الشك في وجود الرافع حكم الشك في رافعية الشيء، فان مراد المحقق من المقتضى هو الذي في باب الأسباب والمسببات الشرعية كعقد النكاح المقتضى للحلية ومراده من الرافع هو رافع هذا الاقتضاء كما هو صريح ذيل كلامه، وهذا الذيل يمكن ان يكون قرينة على ان مراده من دليل الحكم في الصدر هو المقتضى كما أفاد الشيخ، فحينئذ لو رجع كلام المحقق إلى مختار الشيخ يكون مراده أيضا من المقتضى هو الذي في باب الأسباب والمسببات، ولكن الظاهر من كلامه في ذيل اخبار الاستصحاب ما هو المعروف من مذهبه، فبناء عليه لا يرجع كلام الشيخ إلى كلام المحقق، فان المحقق ذهب اما إلى إنكار الاستصحاب مطلقا، ان كان مراده من دليل الحكم هو إطلاق الأدلة، أو عمومها، ومن الشك في الرافعية هو الشك في التقييد أو التخصيص، أو كان مراده من المقتضى والرافع هو قاعدة المقتضى والمانع كما حمل الشيخ كلامه عليه أولا، أو إجراء الاستصحاب فيما إذا كان المقتضى أي السبب الشرعي اقتضى المسبب مطلقا كعقد النكاح الذي اقتضى الحلية مطلقا وشك في ألفاظ انها رافعة له أم لا فيستصحب حكم المقتضى إلى ان يعلم الرافع، ولا يرجع شيء مما ذكر إلى ظاهر كلام الشيخ وما هو المعروف من مذهبه.
فما أفاده بعض أعاظم العصر رحمه الله من ان التأمل في كلام المحقق والشيخ يعطى ان مرادهما من المقتضى هو مقدار استعداد المستصحب، ناش من عدم التأمل في كلام المحقق فراجع كلامه المنقول من المعارج، اللهم الا ان يكون مراده من المحقق هو الخوانساري، لكنه خلاف ظاهر كلامه ثم انه توهم امرا آخر وهو انه لو كان المراد من المقتضى هو ملاك الأحكام أو المقتضى في باب الأسباب والمسببات بحسب الجعل الشرعي تأسيسا أو إمضاء يلزم مع عدم جريان الاستصحاب في الشك في المقتضى سد باب جريان الاستصحاب مطلقا، وهو مساوق القول بعدم الحجية مطلقا، فإنه لا طريق إلى إحراز وجود ملاك الحكم أو إحراز بقاء المقتضيات الشرعية في باب الأسباب والمسببات لمن لا يوحى إليه الا من
81

طريق الأدلة الشرعية، فإنه لا يمكن إثبات كون الوضوء المتعقب بالمذي والنكاح المتعقب بقول الزوج «أنت خلية» مقتض لبقاء الطهارة وعلقة الزوجية، فما من مورد إلا ويشك في المقتضى بأحد الوجهين «انتهى».
وأنت خبير بما فيه، فان الاقتضاء بالمعنى المعروف من الشيخ لا طريق إلى إحرازه في الأحكام الشرعية أيضا الا من قبل الدليل الشرعي كما اعترف به فيما بعد، فلو دل الدليل الشرعي على ان الحكم الفلاني مستمر ذاتا لو لا الرافع إلى الأبد، أو إلى غاية كذائية يستكشف منه المقتضى بمعنى الملاك، فلا يكون الشك حينئذ في بقائه من قبيل الشك في المقتضى، لا بالمعنى المعروف ولا بمعنى الملاك، وبالجملة لما لا يكون حكم الا عن ملاك، فاصل الحكم يكشف عن أصل الملاك، واستمراره عن استمراره، وكذا الاقتضاء في باب الأسباب والمسببات انما يستكشف من الأدلة الشرعية، فكما ان إحراز المقتضى للبقاء ومقدار استعداد المستصحب في الأحكام يحتاج إلى الدليل، كذلك إحرازه بالمعنيين الآخرين، فتحصل مما ذكرنا ان المقتضى بأي معنى كان لا يوجب سد باب الاستصحاب لو قيل بعدم جريانه الا في الشك في الرافع، كما اتضح ان المقتضى في كلام المحقق غير ما هو المعروف من مذهب الشيخ.
في ذكر اخبار الاستصحاب
إذا عرفت ما ذكرنا فالذي اعتمد عليه الشيخ في التفصيل المذكور هو دعوى ظهور اخبار الباب فيه، فلا بد من ذكرها وتذييل كل منها بما يناسبه وما يمكن ان يكون مستندا إليه.
فمنها
ما عن محمد بن الحسن بإسناده عن الحسين بن سعيد عن حماد عن حريز عن زرارة «قال قلت له الرجل ينام وهو على وضوء أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء، فقال: يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن، وإذا نامت العين والاذن
82

والقلب وجب الوضوء قلت: فان حرك إلى جنبه شيء ولم يعلم به؟ قال: لا حتى يستيقن انه قد نام، حتى يجيء من ذلك امر بين، والا فإنه على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين أبدا بالشك، وانما ينقضه بيقين آخر» (1).
والظاهر ان لزرارة كانت أولا شبهة حكمية ولم يعلم ان الخفقة والخفقتين تنقضان الوضوء، اما للشك في مفهوم النوم وانه هل يشمل الخفقة والخفقتين أم لا، واما للشك في كونهما ناقضتين مستقلتين مع علمه بعدم دخولهما تحت عنوان النوم، واما للشك في ان النوم الناقض هل هو النوم الغالب على الحواس أو الأعم منه ومن الخفقة
والخفقتين اللتين هما من المراتب الضعيفة للنوم مع القطع بدخولهما تحت عنوانه، فعلى هذا يكون معنى قوله: الرجل ينام، اما انه تحقق منه النوم حقيقة ولكن لا يعلم ان النوم الناقض ما هو، واما انه يدخل في فراش النوم ويضطجع فيه ويتهيأ له فإنه يقال انه ينام.
وبالجملة تكون الشبهة في الفقرة الأولى حكمية وأجاب الإمام عليه السلام بان النوم الغالب على العين والقلب والاذن موجب للوضوء، ثم حدثت شبهة أخرى له بان النوم الغالب على تلك الحواس مما لا سبيل إليه الا بالأمارات، فذكر بعض الأمارات الظنية مثل حركة شيء إلى جنبه وانها أمارة شرعية على النوم في صورة الشك في تحقق النوم أولا، فأجاب بأنه لا حتى يستيقن انه قد نام ويجيء من ذلك امر بين.
قوله: والا فإنه على يقين من وضوئه (إلخ) فيه احتمالات:
أحدها ان الجزاء محذوف، أي ان لم يستيقن انه قد نام فلا يجب عليه الوضوء، وقوله: فإنه على يقين (إلخ) صغرى وكبرى وتعليل للجزاء، وهذا أظهر الاحتمالات ويستفاد منها (ح) قاعدة كلية بدعوى ان الظاهر منه كونه بصدد بيان قاعدة كلية، وذكر الوضوء انما هو لكونه مورد السؤال لا لدخله في موضوع الحكم بل يمكن ان يقال مع الشك في قيديته لا يرفع اليد عن ظاهر قوله ولا تنقض اليقين أبدا بالشك.

(1) الوسائل - كتاب الطهارة - الباب 1 - من أبواب نواقض الوضوء.
83

ويمكن الخدشة في الدعويين بان إلقاء القاعدة الكلية المستفادة من اختلاف المعلول والعلة في المقام لا يقتضى السراية بغير باب الوضوء ويصح التعليل والقياس بعد كون المورد ناقضا واحدا هو النوم فإلقاء القاعدة الكلية لإفادة تمام موارد باب الوضوء واما الدعوى الثانية فغير وجيهة لأن الكلام المحفوف بما يصلح للقرينية لا يمكن فهم القاعدة الكلية منه وان شك في قرينية الموجود وبالجملة لا يمكن الأخذ بالإطلاق مع الشك في قرينية ما يحف بالكلام واما إلغاء الخصوصية بمناسبة الحكم والموضوع فهو حق سيأتي بيانه على جميع التقادير.
ولكن هاهنا شبهة (1) وهي ان الظاهر على هذا الاحتمال ان قوله: فإنه على يقين من وضوئه، يكون صغرى لقوله: ولا ينقض اليقين بالشك، فأراد الإمام عليه السلام إجراء استصحاب الوضوء، مع انه محكوم استصحاب عدم النوم الناقض، لأن الشك في الوضوء ناش من الشك في حصول الناقض وأصالة عدم حصوله مقدم على استصحاب الوضوء، كما ان الظاهر من قوله: حتى يستيقن انه قد نام، انه تمسك بأصالة عدم النوم، مع ان جريان الأصل المحكوم مقدما على الحاكم أو في عرضه خلاف التحقيق.
ويمكن ان يجاب بأنه عليه السلام كان بصدد بيان جواب المسألة، أي شبهة نقض الوضوء وعدمه لا بنحو الصناعة العلمية، وان نكتة عدم وجوب الوضوء بعد كونه على يقين من وضوئه ويقين من عدم نومه هي جريان الأصل الحاكم أو المحكوم «نعم» أفاد زائدا على جواب الشبهة بان هذا ليس مختصا بباب الوضوء، بل الميزان هو عدم نقض اليقين بالشك، وهذا كجواب المفتي للمستفتي في نظير المسألة، مع إرادة المفتي إلقاء قاعدة كلية تفيده في جميع الموارد، لا بيان المسألة العلمية وكيفية جريان الأصول وتميز حاكمها من محكومها، فلا محيص (ح) إلا من بيان نتيجة المسألة وان الوضوء المتيقن لا ينقض بالشك في النوم، لكن كون عدم نقضه هل هو لجريان

(1) قد دفعنا تلك الشبهة بما هو الموافق للتحقيق في باب تقدم الأصل السببي على المسببي وبيان سر تقدمه فراجع (منه)
84

أصالة بقاء الطهارة أو أصالة عدم الناقض للوضوء انما للوضوء انما هو امر غير مربوط بالمستفتي، فان منظوره بيان تكليفه من حيث لزوم الإعادة وعدمه، لا الدليل عليه موافقا للصناعة.
لا يقال: ان النوم والوضوء ضدان. وأصالة عدم الضد لا يثبت الضد الاخر فلا محيص الا من إجراء استصحاب الوضوء.
فإنه يقال: ان النوم من النواقض الشرعية للوضوء، لا من الأضداد التكوينية، فالتعبد بعدم تحقق الناقض للوضوء تعبد ببقاء الوضوء شرعا ويرفع الشك عن بقاء الوضوء «تأمل» (1) فتحصل من ذلك ان معنى الرواية على هذا الاحتمال، انه ان لم يستيقن انه قد نام لا يجب عليه الوضوء لأنه على يقين منه، وكل من كان على يقين من شيء لا ينقض يقينه بالشك أبدا.
الاحتمال الثاني ولعله أقرب الاحتمالات: ان يكون الجزاء المقدر غير ما ذكره الشيخ، فيكون قوله: والا راجعا إلى قوله لا حتى يستيقن ويكون المقدر وان وجب قبل الاستيقان لزم نقض اليقين بالشك، وقوله فإنه على يقين، قرينة على المقدر وبيان لفساد نقض اليقين بالشك ولزومه أيضا، وعليه يكون استفادة الكلية أقرب وأوفق بفهم العرف.
الاحتمال الثالث ان الجزاء هو قوله: فإنه على يقين من وضوئه فحينئذ لا بد من تقدير، كقوله: فيجب البناء على يقين من وضوئه أو يجري على يقين منه، أو يكون ذلك كناية عن لزوم البناء العملي على اليقين، واما القول بان الجزاء هو نفس قوله:
فإنه على يقين من وضوئه من غير تقدير بتأويل الجملة الخبرية إلى الإنشائية، فهو في غاية الضعف، فان قوله: فإنه على يقين من وضوئه لو صدر بداعي الإنشاء يصير المعنى، انه فليحصل اليقين بالوضوء مع ان البعث إلى تحصيله خلاف المقصود، أو يكون المراد إنشاء تحقق اليقين في زمان الشك اعتبارا وتعبدا فلا يناسب مع قوله: ولا تنقض اليقين

(1) وجهه ما يأتي في باب الاستصحاب في باب الأصل السببي والمسببي.
85

بالشك. لأن اعتبار إلغاء الشك مع اعتبار بقائه متضادان، وتأويل هذه الاخبارية إلى الإنشائية لا يوجب ان يكون المعنى انه يجب بناء العمل على طبق اليقين بالوضوء كما يظهر بالتأمل إلى أمثالها من الجمل الخبرية الصادرة بداعي الإنشاء.
فما ادعى بعض أعاظم العصر قائلا انه لا ينبغي الإشكال في كون الجزاء هو نفس قوله: فإنه على يقين من وضوئه، بتأويل الجملة الاخبارية إلى الإنشائية مع جعل الاحتمال المتقدم ضعيفا غايته لا ينبغي ان يصغى إليه، فإنه مع كونه خلاف الظاهر يرد عليه الإشكال المتقدم. وعلى أي حال لو جعلنا الجزاء ما ذكر بنحو التقدير أو بجعل الخبرية إنشائية لا يمكن استفادة الكبرى الكلية من الرواية، فان قوله: لا ينقض اليقين بالشك (ح) يصير عطفا على الجزاء ولا يفيد الا مفاده، أي يكون عبارة أخرى من قوله:
فيجب البناء على طبق اليقين بالوضوء، ولا يصح جعله كبرى كلية للخروج عن قانون المحاورة وطرز الاستدلال.
فان قانون الاستدلال على نحوين: «أحدهما» ذكر المقدمتين ثم الاستنتاج، فيقال: الخمر مسكر، وكل مسكر حرام، فالخمر حرام، ويقال: انه على يقين من وضوئه فشك، وكل من كان على يقين من شيء فشك يجب البناء على يقينه فيجب عليه البناء على يقينه من وضوئه «وثانيهما» ذكر النتيجة أولا ثم الاستدلال عليه، و (ح) لا بد من تخلل كلمة «لأن» وأمثالها فيقال الخمر حرام لأنه مسكر، ويقال: يجب البناء على اليقين بالوضوء لأنه من كان كذلك لا ينقض يقينه بالشك، فلو جعلنا قوله: فإنه على يقين من وضوئه جزاء، يكون المعنى انه لا يجب عليه الوضوء أو يجب عليه البناء العملي على يقينه السابق من وضوئه، وهذه نتيجة البرهان، فقوله: ولا ينقض اليقين بالشك، لو كان برهانا عليها لا بد وان يصدر بما تفيد العلية، فجعل قوله: فإنه
على يقين صغرى للكبرى لا يجتمع مع جعله جزاء للشرط وجملة إنشائية، فإنه على الإنشائية يصير نتيجة للبرهان لا الصغرى له.
86

والعجب من المحقق المتقدم حيث جمع بين القولين غفلة عما يلزمه، وأعجب منه انه جعل ما قواه الشيخ ضعيفا للزوم التكرار في الجواب من غير تكرر السؤال، مع ان هذا الإشكال انما يلزم على احتماله، فان مقتضى إنشائية الجملة ان يكون المعنى انه لا يجب عليه الوضوء وهذا تكرار بلا موجب، واما على احتمال الشيخ فلم يذكر الجواب وذكر قوله «والا» توطئة لإقامة البرهان وبيان القاعدة الكلية، وكيف كان فالاحتمال المذكور أسوأ الاحتمالات وأضعفها.
الاحتمال الرابع ان يكون الجزاء قوله: ولا ينقض اليقين أبدا بالشك، ويكون قوله: فإنه على يقين توطئة للجواب، وهذا الاحتمال أقوى من الثاني وأسلم من الإشكالات ولا يرد عليه ما تقدم من إجراء الأصل المسببي مع وجود الأصل السببي، لأن قوله:
لا ينقض اليقين أبدا بالشك لا يكون (ح) كبرى لقوله: فإنه على يقين من وضوئه، بل لقوله: فان لم يستيقن انه قد نام، المقدر المفهوم منه انه على يقين من عدم النوم مع كونه مفروضا تأمل هذا.
ولكنه أيضا خلاف الظاهر لخلو الجزاء عن الفاء، وتصدير قوله: فإنه على يقين بها بلا وجه، وكون التوطئة خلاف الأسلوب الكلامي واحتياج ارتباط الشرط وهو قوله: وان لم يستيقن انه قد نام مع الجزاء إلى التأويل.
ثم انه على هذين الاحتمالين وان لم يحمل قوله: ولا ينقض، على الكبرى الكلية كما أشرنا إليه لكن يمكن استفادة الكلية بإلغاء الخصوصية عرفا ومناسبة الحكم والموضوع، ضرورة ان العرف يرى ان اليقين لكونه مبرما مستحكما لا ينقض بالشك الذي لا إبرام فيه ولا استحكام، واما ما قيل في مقام التأييد، بان الظاهر من الكبرى ورودها لتقرير ما هو المرتكز في أذهان العقلاء واستقرت عليه طريقتهم فسيأتي ما فيه.
87

حول تقريبات الأعلام في اختصاص حجية الاستصحاب
بالشك في الرافع
ثم اعلم انه يظهر من الشيخ ومن تبعه في اختصاص حجية الاستصحاب بالشك في الرافع تقريبات في كيفية استفادته منها:
أحدها ما هو ظاهر كلامه في موضعين من الرسائل تبعا للمحقق الخوانساري، من ان حقيقة النقض هي رفع الهيئة الاتصالية كما في نقض الحبل، والأقرب إليه على فرض المجازية هو رفع الأمر الثابت الذي له استعداد البقاء والاستمرار، وقد يطلق على مطلق رفع اليد عن الشيء ولو لعدم المقتضى له، فالأرجح هو الحمل على رفع اليد عن الأمر المستمر، فعلى هذا يتقيد اليقين بما تعلق بالأمر المستمر، والمراد من اليقين هو الطريقي لا وصفه، فمحصل المعنى انه لا ينقض المتيقن الثابت كالطهارة السابقة أو أحكام اليقين الطريقي أي أحكام المتيقن الكذائي المستمر شأنا كنفس المتيقن، وكيف كان فالمراد اما نقض المتيقن وهو رفع اليد عن مقتضاه، واما نقض أحكام اليقين أي الثابتة للمتيقن من جهة اليقين والمراد (ح) منه رفع اليد عنها.
وثانيها ما أفاد بعض المحققين (1) في تعليقته على الرسائل، وهو ان النقض ضد الإبرام، ومتعلقه لا بد وان يكون له اتصال حقيقة أو ادعاء، ومعنى إضافة النقض إليه رفع الهيئة الاتصالية، فإضافته إلى اليقين والعهد باعتبار ان لهما نحو إبرام عقلي ينتقض ذلك الإبرام بعدم الالتزام بالعهد وبالترديد في ذلك الاعتقاد، (فحينئذ) نقول:
قد يراد من نقض اليقين بالشك، رفع اليد عن آثار اليقين السابق حقيقة في زمان الشك، وهذا المعنى انما يتحقق في القاعدة، واما في الاستصحاب فليس إضافة النقض إلى اليقين بلحاظ وجوده في السابق بل هو باعتبار تحققه في زمان الشك بنحو

(1) هو المولى الحاج آقا رضا الهمداني قدس سره.
88

من المسامحة والاعتبار، إذ لا يرفع اليد عن اليقين السابق في الاستصحاب أصلا وانما يرفع اليد عن حكمه في زمان الشك وليس هذا نقضا لليقين، كما ان الأخذ بالحالة السابقة ليس عملا به بل هو أخذ بأحد طرفي الاحتمال، فلا بد من تصحيح إضافة النقض إليه بالنسبة إلى زمان الشك من اعتبار وجود تقديري له بحيث يصدق بهذه الملاحظة ان الأخذ بالحالة السابقة عمل باليقين ورفع اليد عنه نقض له، ومعلوم ان تقدير اليقين مع قيام مقتضية هين عرفا، بل لوجوده التقديري (ح) وجود تحقيقي يطلق عليه لفظ اليقين كثيرا في العرف، الا ترى انهم يقولون: ما عملت بيقيني وأخذت بقول هذا الشخص الكاذب ورفعت اليد عن يقيني بقوله، واما تقدير اليقين في موارد الشك في المقتضى فبعيد جدا بل لا يساعد عليه استعمال العرف أصلا، فتعميم اليقين في قوله: اليقين لا ينقض بالشك بحيث يعم مثل الفرض بعيد في الغاية انتهى كلامه.
وثالثها ما ذكره بعض أعاظم العصر على ما في تقريرات بحثه وملخصه مع طوله بعد الإشكال على الشيخ بان المراد باليقين ليس هو المتيقن، هو ان المراد من نقض اليقين نقضه بما انه يستتبع الحركة على وفقه، فأخذ اليقين في الاخبار باعتبار كونه كاشفا لا صفة، فعناية النقض انما تلحق اليقين من ناحية المتيقن، ولهذا تكون إضافته إلى اليقين شايعا دون العلم والقطع، وليس ذلك الا لأنهما يستعملان غالبا في مقابل الظن والشك، بخلاف اليقين فان إطلاقه غالبا بلحاظ ما يستتبعه من الجري على ما يقتضى المتيقن، فيختص اخبار الباب بما إذا كان المتيقن مما يقتضى الجري العملي على طبقه، بحيث لو خلى وطبعه لكان يبقى العمل على وفق اليقين ببقاء المتيقن، وهذا المعنى يتوقف على ان يكون للمتيقن اقتضاء البقاء. فإنه في مثل ذلك يصح ورود النقض على اليقين بعناية المتيقن ويصدق عليه نقض اليقين بالشك بخلاف غيره.
فان الجري العملي فيه بنفسه ينتقض ولا يصح هذه العناية فيه، وبتقريب آخر يتوقف صدق نقض اليقين بالشك على ان يكون زمان الشك مما تعلق به اليقين في زمان حدوثه، بمعنى ان الزمان الذي يشك في بقاء المتيقن فيه كان متعلق اليقين عند
89

حدوثه، وهذا انما يتم إذا كان المتيقن مرسلا بحسب الزمان لكي يكون اليقين بوجوده من أول الأمر محدودا بزمان خاص ومقيدا بوقت مخصوص، والا ففيما بعد ذلك الحد يكون المتيقن مشكوك الوجود من أول الأمر فلا يكون من نقض اليقين بالشك.
تحقيق الحق في الشك في الرافع والمقتضى
أقول: قبل بيان وجه النظر في كلام الاعلام نذكر ما هو التحقيق في المقام.
فاعلم ان اليقين قد يلاحظ بما انه صفة قائمة بالنفس كالعطش والجوع والخوف والحزن، من الصفات القائمة بها من غير لحاظ إضافته إلى الخارج وقس عليه الشك والظن، وقد تلاحظ بما انها مضافة إلى الخارج وان اليقين كاشف كشفا تاما عن متعلقه والظن ناقصا والشك غير كاشف أصلا بل يضاف إلى الخارج إضافة ترديدية.
لا إشكال في ان اليقين بحسب الملاحظة الأولى لا يكون ممتازا عن الظن والشك بالإبرام والاستحكام وعدمهما، بل الإبرام والاستحكام بحسب هذه الملاحظة انما يكون في كيفية قيامها بالنفس بحسب مباديها المحصلة لها فيها،
فقد تكون مبادئ حصول الشك قوية بحيث لا يزول بسهولة وتكون مبادئ حصول القطع واليقين ضعيفة بحيث يزول بتشكيك ما وقد يكون الحال بخلاف ذلك.
وبالجملة سهولة زوال تلك الأوصاف عن النفس وعسر زوالها تابعان لمبادئ حصولها، فلا يكون اليقين في هذه الملاحظة أبرم من الشك ولا الظن من الشك، واما بحسب الملاحظة الثانية أي إضافتها إلى الخارج، فاليقين مبرم محكم ذاتا دون الشك والظن فكأن اليقين حبل مشدود، أحد طرفيه على النفس وطرفه الآخر على المتيقن ويكون حبلا مبرما مفتولا مستحكما وان كانت مبادئ حصوله ضعيفة غير مستحكمة، بخلاف الظن والشك فإنهما بحسب هذه الإضافة غير محكمين ولا مبرمين وان كانت مبادئ حصولهما قوية مستحكمة.
90

وبالجملة امتياز اليقين عن الشك في كونه كالحبل المبرم دون الشك انما هو بحسب تعلقهما بالخارج وهذا واضح، واما الجري العملي على طبق اليقين فهو خارج عن حقيقته بل يكون من آثاره وأحكامه العقلية أو العقلائية، فلا يكون إبرامه واستحكامه متفرعين على الجري العملي بل هو تابع لهما، وكذا إبرامه واستحكامه، وكونه كالحبل المشدود دون الشك لا ارتباط لها بالمتيقن بل هي من مقتضيات ذاته سواء تعلق بأمر مبرم أو غيره، كما ان الشك غير مبرم بأي شيء تعلق.
فتحصل مما ذكرنا ان الإبرام والاستحكام من مقتضيات ذات اليقين، وان مقابلهما من مقتضيات ذات الشك في حال ملاحظتهما متعلقين بالخارج ومضافين إلى المتعلق، ولا يكون الإبرام والاستحكام عارضين له من المتيقن ولا من وجوب الجري العملي على طبقه، كما ان اليمين المؤكد يتوهم له أحكام وإبرام باعتبار نفس ذاته المضافة إلى المتعلق. ففي قوله تعالى: «ولا تنقضوا الإيمان بعد توكيدها»، انما نسب النقض إليها، لا باعتبار كونها من الكيفيات المسموعة القائمة بنفس المتكلم، ولا باعتبار كونه متعلقها امرا مستمرا مبرما، ولا باعتبار الجري العملي على طبقها، بل باعتبار ذاتها المضافة إلى متعلقاتها فكأن اليمين بواسطة هذه الإضافة حبل مبرم مشدود، أحد جانبيه على عنق الحالف والآخر على متعلقه، فبهذه الملاحظة نسب إليه النقض كما ان اليقين انما نسب إليه النقض بهذه الملاحظة.
فما أفاده الشيخ العلامة من ان نسبة النقض باعتبار كون متعلقه مبرما، كما أفاده ثاني العلمين المتقدمين من كون النسبة باعتبار الجري العملي (ممنوع) خصوصا ثانيهما، وفي كلامه مواقع للنظر كافتراقه بين العلم والقطع وبين اليقين مما هو واضح البطلان وسيأتي النظر في تقريبه الثاني.
في بيان جواب تقريب المولى الهمداني (ره)
واما ما أفاد أول العلمين من ان نسبة النقض باعتبار اليقين التقديري في زمان
91

الشك لا اليقين المتعلق بالحالة السابقة، ففيه مضافا إلى عدم لزوم هذا التقدير في صحة نسبته إليه فان اليقين المحقق في زمان الشك وان تعلق بالحالة السابقة لكن تصح نسبة النقض إليه ويقال هذا اليقين المتعلق بالطهارة السابقة لا ينتقض بالشك ويبنى عليه في زمان الشك: ان الظاهر من الروايات هو نسبة النقض إلى هذا اليقين الفعلي لا التقديري، لأن قوله في الصحيحة المتقدمة: وإلا فإنه على يقين من وضوئه، مرتبط بالكبرى التي بعده أي قوله: ولا ينقض اليقين أبدا بالشك. سواء جعل صغرى لها كما هو الظاهر أو توطئة لذكرها، ولا شبهة في ان المراد باليقين في انه على يقين من وضوئه هو اليقين المتعلق بالوضوء في الزمان السابق لا اليقين المقدر المعتبر، فلا بد ان يراد من اليقين في الكبرى هو هذا اليقين لا التقديري، لعدم صحة التفرقة بينهما، ضرورة عدم صحة ان يقال: انه على يقين حقيقة من وضوئه في الزمان السابق ولا ينقض اليقين التقديري بالشك. هذا.
مضافا إلى ان مناسبة الحكم والموضوع انما تقتضي ان لا ينتقض اليقين الواقعي الذي له إبرام واستحكام بالشك لا اليقين التقديري الاعتباري وأيضا ان قوله: أبدا، لتأبيد الحكم المتقدم أي عدم نقض اليقين بالشك مستمر ومؤبد، فلا بد أولا من جعل الحكم ثم إفادة تأبيده بلفظ أبدا الذي هو قائم مقام الإطلاق، فينحل عرفا هذا الحكم المتقيد بالتأبيد إلى امرين: أصل الحكم القابل للتأبيد وعدمه، وتأبيده واستمراره، فلو اعتبر اليقين في تمام ظرف الشك أي من أول وجوده إلى آخره يقدر اليقين فنسب إليه النقض فلا مصحح للتأبيد، فان الأمر المستمر الوجود إذا اعتبر من أول وجوده إلى آخره لا يصح اعتبار الاستمرار فيه ثانيا، فان الشيء المستمر لا يقع فيه استمرار آخر، هذا إذا اعتبر اليقين في تمام ظرف الشك، وان اعتبر في أول زمان الشك وأريد بيان تأبيد حكمه بلفظ أبدا، لا مصحح لنسبة النقض إلى ما بعد ظرف التقدير بناء على تحققه.
فتلخص مما ذكرنا ان الظاهر من تأبيد الحكم، ان اليقين المتعلق بأمر سابق على الشك لا ينقض في ظرف الشك من أول زمانه إلى آخره، وأيضا قوله في ذيل الصحيحة: وانما
92

ينقضه بيقين آخر، ليس حكما مجعولا، ضرورة امتناع جعل إيجاب العمل على طبق اليقين، فإنه بمنزلة جعل الحجية والكاشفية له، فلا محالة تكون هذه الجملة لتعيين الغاية للحكم المتقدم، فيكون تأكيدا لاستمرار الحكم إلى زمان يقين آخر أو لإفادة استمراره حتى مع وجود الظن ان أريد بالشك ما هو المصطلح، لا عدم العلم، فيفهم من هذه الغاية ان المتكلم اعتبر ثلاثة أمور: اليقين السابق، والشك المستمر، واليقين المتأخر، فقال: ان حكم اليقين بالأمر السابق مستمر في زمان الشك ولا يرفع اليد عنه إلى زمان اليقين بخلافه، فاعتبار اليقين في ظرف الشك مما لا يساعد هذه الاعتبارات.
وبالجملة ان التأمل في الصحيحة صدرا وذيلا مما يشرف الفقيه بالقطع، بان اليقين في الكبرى هو اليقين المحقق الفعلي المتعلق بالشيء في الزمان السابق، لا المقدر المفروض في زمان الشك.
وبما ذكرنا يظهر النظر في كلام بعض أعاظم العصر في تقريبه الثاني، من ان صدق نقض اليقين بالشك يتوقف على ان يكون زمان الشك مما تعلق به اليقين في زمان حدوثه وهو منحصر في الشك في المقتضى. لما عرفت من ان الظاهر من الرواية، هو اليقين المتعلق بالحالة السابقة المتحقق فعلا لا اليقين الآخر، مضافا إلى ان ما ذكره غير تام في نفسه، لأن اليقين في الشك في الرافع قد لا يتعلق في أول حدوثه بما تعلق به الشك، وفي الشك في المقتضى قد يكون كذلك.
تقريب آخر لشمول الأدلة للشك في المقتضى
وهاهنا بيان آخر لشمول الأدلة للشك في المقتضى، وهو ان الكبرى الكلية المجعولة في باب الاستصحاب ظاهرة في ان اليقين من حيث هو بلاد خالة شيء آخر لا ينقض بالشك من حيث هو شك كذلك، ضرورة ظهور أخذ كل عنوان في حكم في انه تمام الموضوع له بنفسه من غير دخالة شيء آخر ورائه، ورفع اليد عن هذا الظهور
93

لا يجوز إلا بصارف، (فحينئذ) نقول الأمر دائر بين أمور: «الأول» ان يكون عدم انتقاض اليقين بالشك باعتبار مبادئ حصولهما في النفس «الثاني» ان يكون باعتبار المتيقن «الثالث» ان يكون باعتبار الجري العملي على طبقه «الرابع» ان يكون باعتبار نفس اليقين والشك من حيث ذاتهما، وفي غير الاحتمال الأخير
يكون عدم نقض اليقين بالشك باعتبار غير ذاتهما، وقد عرفت ان الظاهر نفسيتهما في ذلك. تأمل.
في تأييد اختصاصه بالشك في الرافع والجواب عنه
ثم انه قد أيد القول باختصاص الاستصحاب بالشك في الرافع، بان أدلة الاستصحاب انما وردت على طبق ارتكاز العقلاء وبنائهم على العمل على طبق الحالة السابقة، ولا إشكال في اختصاص بنائهم على العمل على طبقها في الشك في الرافع دون المقتضى.
فهاهنا مقامات من البحث «أحدها» في أصل بناء العقلاء «وثانيها» في وجه بنائهم «وثالثها» في ان وجه بناءهم هل هو مطابق لوجه التعبد بالاستصحاب في الاخبار أم لا، اما أصل بنائهم في الجملة مما لا إشكال فيه، واما كون بنائهم على العمل من حيث نفس اليقين بالحالة السابقة والشك في بقائها، أو من حيث ان نفس الكون السابق موجب للحكم بالبقاء عملا فممنوع فان اليقين بالحالة السابقة بمجرده لا يكون منشئا لبنائهم لعدم كاشفية اليقين بالحالة السابقة عن الحالة الحاضرة التي تكون ظرف الشك كما هو المفروض كما ان نفس الكون السابق بما هو لا يكشف عن بقائه ولا يوجب عملهم على طبقه، بحيث لو فرضنا موردا لا يكون في البين الا اليقين بالكون السابق والشك في البقاء بحيث لا يحصل لهم وثوق واطمئنان ولا يكون عملهم مطابقا للاحتياط يكون بنائهم على العمل، وبالجملة لا أظن وجود بنائهم على طبق الحالة السابقة من حيث هي و «دعوى» ذلك لا يخلو من مجازفة والقول بان ذلك امر ارتكازي وعادي لهم من غير حصول الوثوق والاطمئنان لهم «ممنوع» بل رجوع الحيوانات إلى أو كارها لا يكون الا من جهة حصول الوثوق بالبقاء، ولا دليل على عدم حصول الوثوق للحيوانات لو لا الدليل على خلافه، فان حصوله ليس من مختصات العقل بل قد يحصل للنفس الحيواني أيضا لحصوله في الأمور الجزئية المدركة للحيوان،
94

فتلك الحالات النفسانية كما تحصل للإنسان تحصل لكثير من الحيوانات، أو لأجل العادة الجارية كما قد تكون في الإنسان أيضا، ولا ريب في انه لم يكن لأجل عدم نقض اليقين بالشك ولا يكون عودهم إلى محالهم غفلة كما قيل فإنه واضح الفساد أيضا.
وبالجملة الظاهر ان بناء العقلاء لا يكون الا لحصول الوثوق والاطمئنان لهم وهو حاصل لهم من ندرة حصول الرافع للشيء الثابت المقتضى للبقاء، نظير أصالة السلامة الناشئة عن ندرة حصول العيب في الأشياء وغلبة سلامتها بحيث يحصل الوثوق على طبقها، فالاستصحاب العقلائي لا يكون الا العمل على طبق الوثوق الحاصل مما ذكرنا، وليس هذا مطابقا للاستصحاب المدعى حجيته.
واما كون الاخبار واردة على طبق الارتكاز العقلائي فممنوع غاية المنع، لأن الظاهر من الكبرى المتلقاة منها ان ما هو موضوع لوجوب العمل هو اليقين بالحالة السابقة والشك في بقائها من غير دخالة شيء آخر فيه، وهذا امر تعبدي غير ارتكازي للعقلاء كما عرفت ان العلم بالحالة السابقة غير كاشف عن الحالة اللاحقة، والتعبير بأنه ليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك أبدا لا يدل على إرجاعه إلى ارتكازه كما توهم. ضرورة ان عدم نقض اليقين بالشك في مثل الوضوء مع حصول مقدمات النوم كالخفقة والخفقتين وتحريك شيء إلى جنبه مع عدم التفاته إليه، وفي مثل الظن بإصابة دم الرعاف فيمن حصل له الرعاف، ليس ارتكازيا للعقلاء، لأنهم في مثل تلك الموارد التي تكون في مظان حصول منافيات الحالة السابقة يتفحصون عنها، كما ترى ان في الصحيحة الثانية يقول: فان ظننت انه قد اصابه ولم أتيقن فنظرت فلم أر شيئا، فلم يكتف بالحالة السابقة حتى نظر إليه فصلى، مضافا إلى ان هذا التعبير كثيرا ما وقع في الاخبار فيما لا يكون على طبقه ارتكاز كما يظهر بالتتبع فيها، مع انك قد عرفت ان العمل على طبق اليقين المتعلق بحالة مع انقلابه إلى الشك في حالة أخرى لا يكون ارتكازيا، والحال ان مفاد الروايات هو ان لا ينقض اليقين بالشك من حيث ذاتهما من غير ان يحصل وثوق أو اطمئنان على البقاء.
فتحصل من جميع ما ذكرنا ان دعوى ان نكتة اعتبار الاستصحاب هي مطابقته
95

لارتكاز العقلاء، غير مسموعة. فمفادها أعم من الشك في الرافع والمقتضى، ومخالف لما هو سيرة العقلاء بحسب الكبرى المجعولة والموارد المنطبقة عليها تلك الكبرى في الاخبار، ومن هنا يعلم ان التمسك بالسيرة العقلائية وبناء العقلاء على حجية الاستصحاب في غير محله، كما اتضح مما ذكرنا عدم كون الاستصحاب أمارة مجعولة شرعية.
ومنها
ما عن الشيخ بإسناده عن زرارة مضمرا وعن الصدوق في العلل متصلا بأبي جعفر عليه السلام قال: قلت له: أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء من مني، فعلمت اثره إلى ان أصيب له الماء، فأصبت وحضرت الصلاة ونسيت ان بثوبي شيئا وصليت، ثم انى ذكرت بعد ذلك قال: تعيد الصلاة وتغسله قلت: فان لم أكن رأيت موضعه وعلمت انه قد اصابه فطلبته فلم أقدر عليه فلما صليت وجدته قال: تغسله وتعيد (1) قلت: فان ظننت انه قد اصابه ولم أتيقن ذلك فنظرت فلم أر شيئا ثم صليت فيه، فرأيت فيه قال: تغسله ولا تعيد الصلاة قلت: لم ذلك؟ قال: لأنك كنت على يقين من طهارتك ثم شككت، فليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك أبدا (2) قلت: فانى قد علمت انه قد اصابه ولم أدر أين هو فاغسله قال تغسل من ثوبك الناحية التي ترى انه قد أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك (3) قلت: فهل على ان شككت في انه أصاب شيء ان انظر فيه، قال: ولكنك انما تريد ان تذهب الشك الذي وقع في نفسك (4) قلت: ان رأيته في ثوبي وانا في الصلاة قال: تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته، وان لم تشك ثم رأيته

(1) إلى هنا أورده في الوسائل - كتاب الطهارة - الباب 42 - من أبواب النجاسات - الرواية 2 -.
(2) إلى هنا أورده في الوسائل - كتاب الطهارة - الباب 42 - من أبواب النجاسات - الرواية 2 -.
(3) إلى هنا أورده في الوسائل - كتاب الطهارة - الباب 7 - من أبواب النجاسات - الرواية 2 -.
(4) إلى هنا أورده في الوسائل - كتاب الطهارة - الباب 37 - من أبواب النجاسات - الرواية - 1.
96

رطبا قطعت الصلاة وغسلته ثم بنيت على الصلاة، لأنك لا تدري، لعله شيء أوقع عليك، فليس ينبغي ان ينقض اليقين بالشك (1).
مورد الاستدلال بالرواية واحتمالاته
مورد الاستدلال بالرواية فقرتان: إحداهما قوله: فان ظننت انه قد اصابه (إلى آخره)، ثانيهما قوله: وان لم تشك إلى آخرها.
اما الأولى منهما ففيها احتمالات «أحدها» انه بعد الظن بالإصابة والنظر وعدم الرؤية صلى من غير حصول علم أو اطمئنان له من النظر، فإذا صلى رأى في ثوبه النجاسة وعلم بأنها هي التي كانت مظنونة فعلم ان صلاته وقعت في النجس «ثانيهما» هذه الصورة أي عدم حصول العلم له من النظر لكن مع احتمال حدوث النجاسة بعدها واحتمال وقوع صلاته فيها «ثالثها» انه حصل له العلم من النظر بعدم النجاسة فإذا صلى تبدل علمه بالعلم بالخلاف أي بأن النجاسة كانت من أول الأمر «رابعها» هذه الصورة مع احتماله بعد الصلاة: حدوث النجاسة بعدها واحتمال وقوع الصلاة فيها هذا.
ولكن تعليل الجواب ينافي إرادة الثالثة، والاحتمال الرابع المنطبق على قاعدة اليقين بعيد، لأنه لو حصل له العلم كان عليه ذكره في السؤال، لوضوح احتمال دخالته في الحكم فعدم ذكره دليل على عدم حصوله، والغفلة في
مقام السؤال عن موضوعه خلاف الأصل، مضافا إلى ظهور قوله: وليس ينبغي لك ان تنقض اليقين، في فعلية الشك واليقين تأمل، مع ان الظاهر ان الكبرى في هذا المورد وذيل الرواية واحدة، ولا إشكال في ان الكبرى في ذيلها منطبقة على الاستصحاب لا القاعدة، ضرورة ان قوله: وان لم تشك، معناه انه ان كنت غافلا وغير متوجه إلى النجاسة ثم رأيته رطبا واحتملت كونها من أول الأمر وحدوثها فيما بعد، وليس معناه اليقين بعدم الطهارة، فالاحتمال الرابع غير مقصود فبقي الاحتمالان

(1) إلى هنا أورده في الوسائل - كتاب الطهارة - الباب 44 - من أبواب النجاسات الرواية 1 - وتام الخبر في الاستبصار - كتاب الطهارة باب الرجل يصلى في ثوب فيه نجاسة قبل ان يعلم (109) من أبواب تطهير الثياب والبدن من النجاسات - الرواية 13.
97

وهما مشتركان في إفادة حجية الاستصحاب، فلو كانت الرواية مجملة من هذه الجهة لا يضر بها.
في الإشكال على أقوى الاحتمالات والجواب عنه
واما الاحتمالان فلا يبعد دعوى ظهورها في الأول منهما فحينئذ يشكل بان تعليل عدم وجوب إعادة الصلاة بعد العلم بوقوعها في النجس بقوله: لأنك كنت على يقين من طهارتك «إلى آخره» كيف يصلح مع كون الإعادة من النقض باليقين «نعم» انما يصلح عدم نقض اليقين بالشك علة لجواز الدخول في الصلاة لا لعدم الإعادة.
وتوضيح الإشكال، ان الظاهر من الرواية ان تمام العلة لعدم وجوب الإعادة هو عدم جواز نقض اليقين بالشك من غير دخالة شيء آخر فيه كاقتضاء الأمر الظاهري للاجزاء أو كون إحراز الطهارة شرطا للصلاة لا نفسها، أو كون إحراز النجاسة مانعا لها لا نفسها فالاستناد إلى شيء آخر غير التعليل المذكور في عدم وجوبها خروج عن ظهورها، ومما ذكرنا يظهر ان الأجوبة التي تمسكوا بها في المقام لا تدفع الإشكال.
وغاية ما يمكن ان يقال في المقام: ان وجه اختصاص زرارة هذه الفقرة بالسؤال عن علته، ان الإعادة في الفقرتين السابقتين أي في صورة النسيان والعلم الإجمالي كانت موافقة للقاعدة، لأن مقتضاها ان النجاسة بوجودها الواقعي مانعة وكذا الطهارة شرط بوجودها الواقعي على فرض شرطيتها لها، فرأى جواب الإمام على وفق القاعدة فلم يسأل عن علتها، ولا ينافي ذلك سؤاله عن أصل المسألة، لاحتمال كون حكم الله في الموردين مخالفا للقاعدة.
واما الفقرة الثالثة أي صورة الظن بالإصابة وإتيان الصلاة بعد النظر والفحص ثم العلم بأنها وقعت في النجس، فلما كان الحكم فيها بعدم الإعادة مخالفا للقاعدة سئل عن علته وحاصل اشكاله، ان المأتي به لما كان غير مطابق للمأمور به فلا بد من الإعادة فما وجه الحكم بعدمها، فأجاب بان حكم الشارع بعدم نقض اليقين بالشك عملا موجب لموافقة المأتي به للمأمور به فلا تجب الإعادة، ووجهه ان استصحاب الطهارة موجب للتوسعة
98

في الشرط فيكون حاكما على إطلاق الأدلة الأولية فيكون الجواب موافقا للسؤال، وهذا الوجه وان يرجع إلى بعض الوجوه المذكورة لكن مع هذا التقريب ينطبق التعليل على المورد من غير تكلف.
وان شئت قلت: ان وجه الإشكال هو ان التعليل لا يناسب لعدم الإعادة، والجواب ان التعليل لا يرجع إليه، بل الحكم بعدم الإعادة إرشاد إلى موافقة المأتي به للمأمور به، لعدم إمكان كون الإعادة وعدمها موردا للتعبد من غير تصرف في المنشأ، فالتعليل راجع إلى المنشأ فلا إشكال حينئذ.
هذا على الشرطية، واما بناء وعلى مانعية النجس فقد يقال: ان التعليل أيضا صحيح سواء أخذ العلم بالنجاسة من حيث كونه طريقا مانعا أو من حيث كونه منجزا، وسواء كان التعليل مجموع المورد والاستصحاب أو خصوص الثاني، لأن مرجع التعليل بهما إلى ان النجاسة لم تكن لها منجز فالصلاة تكون صحيحة ولا تجب الإعادة، لأن وجوبها ينافي عدم جواز نقض اليقين بالشك (1).
وفيه انه بعد فرض كون المانع هو النجاسة المعلومة، فمع عدم العلم يحرز عدم المانع فلا يحتاج إلى إحراز عدمه بالأصل بعد إحرازه وجدانا، فإذا كان المنظور إفادة عدم المنجز لا يصح التعليل بما يحرز العدم، ويكفي في ذلك قوله انك شاك، فلا وجه للتعليل بالاستصحاب، و «احتمال» ان التشبث به لأجل إلغاء الشك لاحتمال كون الشك منجزا ولا بد من دفعه «غير وجيه» لأن الاستصحاب شأنه إحراز الموضوع وهذا امر زائد على إلغاء الشك فلا وجه للتعليل به، بل لا بد في إلغائه من التعبير بمثل لا يعتد بالشك.
وغاية ما يمكن ان يقال: ان المانع هو النجس المعلوم ومع الشك يحرز عدم جزء من الموضوع ومع الاستصحاب يحرز جزئه الاخر، فكأنه أراد أن يفيد ان النجاسة المعلومة بكلا جزئيها مفقودة مع إفادة امر زائد هو جريان الأصل في جزء الموضوع

(1) القائل هو المحقق النائيني رحمه الله.
99

أيضا تأمل (1) ثم لا يخفى ان الإشكال المتقدم وارد على الاحتمال الثاني من الاحتمالات المتقدمة أيضا ولا يختص بالأول.
إشكال آخر على الاحتمال المتصور
ثم ان هاهنا إشكالا ثانيا على هذا الاحتمال وهو لزوم التفرقة بين وقوع تمام الصلاة في الثوب النجس وبين وقوع بعضها فيه، حيث حكم في الأول بعدم الإعادة دون الثاني كما هو ظاهر قوله بعد ذلك تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه، ولذا حمل بعضهم هذه الفقرة على العلم الإجمالي وهو خلاف الظاهر من وجوه، وأيضا إشكال آخر على ذيل الرواية، وهو عدم فرق واضح بين وقوع بعض الصلاة في النجاسة مع الجهل بها، وبين احتمال حدوث النجاسة في الأثناء، حيث تمسك الإمام عليه السلام في الثاني بالاستصحاب دون الأول.
توضيحه ان للمصلي العالم بالنجاسة في الأثناء سواء احتمل طروها في الحال أو علم الآن بوجودها من الأول يكون ثلث حالات: حالة الجهل بالنجاسة، وحالة العلم بها والاشتغال بتطهيرها، وحالة الصلاة مع الطهارة الواقعية وهي بعد تطهيرها وإتمام الصلاة، والاستصحاب انما ينفع بالنسبة إلى حال الجهل لا حال العلم بالنجاسة والطهارة، فبناء على حمل الفقرة المتقدمة من الرواية على الاحتمال الأول أي حصول العلم بعد الصلاة بوجود النجاسة من أولها وإجراء الاستصحاب لتصحيح الصلاة بالبيان المتقدم لا يبقى فرق بين الفقرتين الأخيرتين لجريان الاستصحاب فيهما، فكما يجري مع احتمال حدوث النجاسة في الأثناء لتصحيح الاجزاء السابقة على العلم بها كذلك يجري مع العلم في الأثناء بوجودها من أول الأمر، فان ظرف الجهل بالنجاسة مع الشك في حدوثها

(1) لعله إشارة أولا إلى ان المانع إذا كان مركبا من جزءين لا يلزم في ارتفاعه ارتفاع كلا جزئيه بل يكفي في ارتفاعه ارتفاع أحد جزئيه كمالا يخفى، وثانيا إلى ان ما يحرز بالاستصحاب غير ما هو جزء المانع اللهم الا ان يجاب عن الثاني بان العرف لا يرى فرقا بين الطهارة وعدم النجاسة (م - ط)
100

في موضع من ثوبه ظرف جريان الاستصحاب، والعلم اللاحق لا يضره، كما لم يكن مضرا في الفقرة الأولى أي الاستصحاب بعد تمام الصلاة، واما حالة العلم بالنجاسة فلا يفيدها الاستصحاب بل لا بد من دليل آخر في تصحيحها وهو الأدلة الدالة على انه إذا رعف في الأثناء غسل أنفه ويبنى على صلاته، حيث يستفاد منها ان التلبس بالنجاسة في الزمان الذي يشتغل بتطهير النجاسة لا يضر بالصلاة، ومن هنا قد يرجح الاحتمال الثاني في الفقرة الأولى فيقال: ان تطبيق الاستصحاب في الفقرتين الأخيرتين على الثانية منهما دون الأولى يرفع الإجمال عن الفقرة الأولى المتقدمة، بحملها على احتمال حدوث النجاسة بعد الصلاة، فيكون ذيل الرواية شاهدا على صدرها، مضافا إلى ان التعبير بلفظ «فرأيت فيه» دون «فرأيته فيه» يكاد ان يستشم منه ذلك، كما ان التعبير بقوله:
وليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك، ظاهر في ان الشك كان فعليا بعد الصلاة، والا كان ينبغي ان يقول:
وما كان ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك، الاحتمال الثاني مع تلك المؤيدات وان لا يخلو من قرب.
في الذب عن الإشكال
ولكن يمكن الذب عن أصل الإشكال على الاحتمال الأول بان يقال ان التمسك بالاستصحاب فيما إذا صلى ثم رأى النجاسة مع الشك والالتفات في حال الصلاة والعلم بعدها بأنها كانت موجودة حالها مما لا مانع منه، كما عرفت تقريبه، واما إذا رأى في الأثناء سواء كان علم بوجودها من أول الصلاة أو احتمل حدوثها في البين فلا يمكن التمسك بالاستصحاب لتصحيح الصلاة، لأن ما يمكن التمسك فيه به هو حالة الشك واما حال العلم فلا بد من تصحيح الصلاة بشيء آخر، وإلا فأدلة إثبات المانعية للنجاسة أو اشتراط الطهارة تدل على إثباتها في الصلاة التي هي حقيقة واحدة ولها هيئة اتصالية والأكوان الغير المشغولة بالأذكار أيضا أكوان صلاتية بحسب ارتكاز المتشرعة ودلالة ظواهر الأدلة، فالصلاة مشروطة من أولها إلى آخرها بالستر، والنجاسة مانعة لها كذلك فلا بد من الخروج عن ظاهر أدلة الاشتراط أو الأدلة الدالة على المانعية من دليل مخرج
101

وغاية ما تدل على عدم الاعتبار هو الاخبار الواردة في الرعاف وهي واردة فيما إذا حدث الرعاف في الأثناء، ودعوى إلقاء الخصوصية لعدم الفرق عرفا بين حدوث النجاسة في الأثناء، وكونها من الأول مع الالتفات والعلم في الحال ممنوعة، لاحتمال ان يكون لحدوثها من باب الاتفاق دخل في رفع المانعية، ولهذا لا يمكن الالتزام بجواز التنجيس عمدا والاشتغال بتطهير الثوب فورا ثم البناء على الصلاة، فحينئذ نقول: إذا علم في الأثناء بان النجاسة كانت من الأول لا يمكن تصحيح صلاته، لأن الاستصحاب كما عرفت لا يفيد بالنسبة إلى حال العلم بالتلبس، والأدلة الدالة على اشتراط الصلاة بالطهارة أو مانعية النجاسة مما لا مخرج لها، فلا محيص عن نقض الصلاة وإعادتها بعد تطهير الثوب.
واما إذا احتمل عروضها في البين فيمكن التشبث بالاستصحاب لتصحيحها، لا لأن أصالة عدم عروض النجاسة إلى الآن يثبت حدوثها حتى يدخل المورد تحت أدلة حدوث الرعاف لتصحيح حال العلم بالتلبس بالنجاسة لأجلها، ضرورة مثبتية هذا الأصل، بل أصالة عدم عروض النجاسة إلى الآن انما هي لتصحيح حال الجهل بها، وحال العلم لأن بالتلبس يكون المصلى شاكا في كون هذه النجاسة الموجودة حادثة حتى لا تكون مانعة، أو باقية من الأول حتى تكون مانعة فيكون شاكا في مانعيتها فتجري أصالة البراءة العقلية والشرعية كما في اللباس المشكوك فيه.
فان الأظهر من الأدلة على كثرتها هو مانعية النجاسة من الصلاة لا شرطية الطهارة كما يظهر لمن تدبرها وان كان بعضها يوهم الشرطية مثل هذه الصحيحة، لكن المانعية هي الأقوى بحسب مفاد الأدلة، واستصحاب الطهارة في صدر هذه الصحيحة لعله من باب كون الطهارة وعدم النجاسة امرا واحدا بحسب نظر العرف، والمقصود كون اللباس خاليا عن القذارة المانعة، وهو حاصل بإجراء أصل الطهارة وإجراء أصالة عدم عروض النجاسة.
هذا إذا كان المراد من الأصل في ذيل الصحيحة هو أصالة عدم عروض النجاسة إلى الآن، كما انه ربما يستأنس من قوله: لا تدري لعله شيء أوقع عليك، والا فيمكن ان يقال ان المراد من الأصل أصالة عدم عروض المانع في الصلاة، فان النجاسة الواقعية
102

لم تكن مانعة مع الجهل بها والنجاسة المعلومة يمكن ان تكون حادثة غير مانعة فقبل العلم بها يكون عدم عروض المانع في الصلاة التي بيده متيقنا فيستصحب إلى زمان العلم فيغسل الثوب ويبنى على الصلاة، ولو فرض عدم جريان أصالة عدم المانع فأصالة بقاء الهيئة الاتصالية أيضا جارية كما هو المقرر في محله، فتحصل من جميع ما ذكرنا ان بين الصورتين فرقا بحسب الأصول والقواعد كما فرق بينهما الإمام عليه الصلاة والسلام.
في الصحيحة الثالثة
ومنها صحيحة ثالثة لزرارة عن أحدهما عليهما السلام قال: قلت له: من لم يدر في ربع هو أو في ثنتين، وقد أحرز الثنتين قال يركع ركعتين وأربع سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب ويتشهد ولا شيء عليه (1) وإذا لم يدر في ثلث هو أو في أربع وقد أحرز الثلاث، قام فأضاف إليها أخرى ولا شيء عليه، ولا ينقض اليقين بالشك ولا يدخل الشك في اليقين ولا يخلط أحدهما بالاخر، ولكنه ينقض الشك باليقين ويتم على اليقين فيبنى عليه ولا يعتد بالشك في حال من الحالات (2).
يظهر من هذه الصحيحة آثار التقية مع عناية الإمام عليه السلام ببيان المذهب الحق في سترة وحجاب كما سنوضحه، و «ما قيل» ان صدورها على وجه التقية ينافي صدرها حيث حكم بتعين الفاتحة وهو ظاهر في انفصال الركعة «ممنوع» لأن الحكم بتعين الفاتحة لا يدل عليه أي على انفصال الركعة، وليس على خلاف التقية، لما حكى عن الشافعي وأحمد والأوزاعي القول بتعين الفاتحة في الركعات كلها، فالظاهر منها هو إتيان

(1) إلى هنا أورده في الوسائل - كتاب الصلاة - الباب 11 - من أبواب الخلل الواقع في الصلاة -
(2) ومن قوله: وإذا لم يدر في ثلاث هو - إلى هنا أورده في الوسائل - كتاب الطهارة - الباب 1 - من أبواب الخلل الواقع في الصلاة - وتمام الخبر في التهذيب كتاب الصلاة - باب أحكام السهو في الصلاة وما يجب منه إعادة الصلاة - (10) الرواية 41 -
103

الركعتين في الفرع الأول وإضافة الركعة في الفرع الثاني متصلة، كما هو قضية قوله: يركع ركعتين وأربع سجدات (إلى آخره)، وقوله: قام فأضاف إليها أخرى ولا شيء عليه ثم انه عليه السلام بعد ما أفتى بما هو ظاهر في خلاف المذهب الحق تقية أراد بيانه في حجاب التقية فأتى بالجمل الآتية لبيان عدم اختلاط المشكوك فيه بالمتيقن كما يأتي بيانه (1).
في بيان احتمالات الرواية
ثم ان في الرواية احتمالات:
منها ان قوله لا ينقض اليقين بالشك، يعنى به لا يبطل الركعات المحرزة بسبب الشك في الزائدة بان يستأنف الصلاة، بل يعتد بالمتيقنة، ولا يدخل الشك في اليقين، أي لا يعتد بالمشكوك فيها بان يضمها إلى المحرزة ويتم بها الصلاة من غير تدارك، ولا يخلط أحدهما بالاخر، عطف تفسير للنهي عن الإدخال، ولكنه ينقض الشك باليقين أي الشك في الركعة الزائدة بان لا يعتد بها بل يأتي بالزيادة على الإيقان، ويتم على اليقين، أي يبنى على المتيقن فيها، وعلى هذا لم يتعرض لذكر فصل الركعة ووصلها في الفرعين، وهذا الاحتمال مما أبداه المحدث الكاشاني قدس سره.
ومنها ان قوله لا ينقض اليقين بالشك كما أفاده المحقق المحدث المتقدم، ولكن قوله: لا يدخل الشك في اليقين وقوله: لا يخلط أحدهما بالاخر يعنى بهما فصل الركعتين أو الركعة المضافة للاحتياط بان يراد بهما عدم إدخال المشكوك فيها في المتيقنة وعدم اختلاط أحدهما بالاخر فيكون المراد بالشك واليقين المشكوك فيها والمتيقنة أي أضاف الركعتين إلى الركعتين المحرزتين والركعة إلى الثلث المحرزة لكن لا يدخل المشكوك فيها في المتيقنة ولا يخلط إحداهما بالأخرى بان يأتي

(1) ان قلت: ان الراوي ممن يميز بين الأحكام التي صدرت عن تقية وما لا يكون كذلك فكيف يروى ما لا يكون حكما شرعيا؟ قلت: لعل اشتمال ذيل الرواية على الضابط الكلي الموافق للمذهب الحق دعاه إلى ذلك مع احتمال موافقة الصدر للمذهب الحق أيضا -
104

بالركعة والركعتين منفصلة لا متصلة لئلا يتحقق الاختلاط وإدخال المشكوك فيها في المتيقنة.
ولا يخفى ان هذا الاحتمال أظهر من الاحتمال الأول، حيث ان الظاهر من النهي عن الإدخال والاختلاط انهما تحت اختيار المصلى، فيمكن له الإدخال والاختلاط وتركهما، والركعة المشكوك فيها اما هي داخلة بحسب
الواقع في المتيقنة أولا وليس إدخالها فيها واختلاطها بها باختياره بخلاف الركعة التي يريد إضافتها إليها، فان له الإدخال والاختلاط بإتيانها متصلة وعدمهما بإتيانها منفصلة، كما انه على هذا الاحتمال يكون ظهور قوله: ولا يدخل الشك في اليقين ولا يختلط أحدهما بالاخر، محكما على ظهور الصدر في ان الركعة أو الركعتين لا بد ان يؤتى بها متصلة، فكأنه قال قام فأضاف إليها أخرى من غير اختلاط الركعة المضافة المشكوك في كونها الرابعة أو الخامسة بالركعات المتيقنة، ولا يكون هذا من قبيل تقييد الإطلاق كما أفاده المحقق الخراساني رحمه الله وتبعه غيره، بل من قبيل صرف الظهور البدوي.
ومنها ان قوله: لا ينقض اليقين بالشك، يعنى به لا ينقض اليقين بعدم الركعة المشكوك فيها بالشك، ويأتي في الجملتين المتأخرتين الاحتمالان المتقدمان، فتكون الرواية دليلا على الاستصحاب في المورد ومخالفا للمذهب تقية على احتمال وموافقا له على آخر.
ومنها ما احتمله الشيخ الأنصاري قدس سره وهو أردأ الاحتمالات لأن قوله لا ينقض اليقين بالشك، لا ينطبق على تحصيل اليقين بالركعات بالاحتياط المقرر في المذهب الحق، ولا يدور الأمر بين الاحتمالين المشار إليهما في كلامه حتى إذا كان أحدهما خلاف التقية يحمل على الاخر اضطرارا ولو كان مخالفا للظاهر في نفسه كما أفاده رحمه الله.
ولا يخفى انه على جميع هذه الاحتمالات لا بد من ارتكاب خلاف ظاهر وهو تفكيك الجمل المشتملة على الشك واليقين، بان يراد في جملة من اليقين والشك نفسهما، وفي جملة يراد من اليقين اليقين بالركعات المحرزة أو عدم الركعة الرابعة، وفي جملة يراد بالشك المشكوك فيها أي الركعة المضافة، وفي الأخرى الركعة المشكوك في
105

إتيانها كما يظهر بالتأمل في الجمل والاحتمالات.
في بيان أظهر الاحتمالات في الرواية
وهاهنا احتمال آخر لعله الأظهر منها مع كونه سليما عن هذا التفكيك المخالف للظاهر، وهو ان يراد من اليقين والشك في جميع الجمل نفس حقيقتهما الجامعة بين الخصوصيات والافراد كما هو ظاهر هما، ولا ينافي ذلك لاختلاف حكمهما باختلاف الموارد فيقال ان طبيعة اليقين لا تنقض بالشك، ولعدم نقضهما به فيما نحن فيه مصداقان: أحدهما عدم نقض اليقين بالركعات المحرزة وعدم إبطالها لأجل الشك في الركعة الزائدة، والثاني عدم نقض اليقين بعدم الركعة الرابعة بالشك في إتيانها وكلاهما داخلان تحت حقيقة عدم نقض اليقين بالشك وعدم إدخال حقيقة الشك في اليقين وعدم اختلاط أحدهما بالاخر، له أيضا مصداقان: أحدهما عدم الاكتفاء بالركعة المشكوك فيها من غير تدارك وثانيهما عدم إتيان الركعة المضافة المشكوك فيها متصلة بالركعات المحرزة.
هذا إذا لم نقل بظهور النهي عن الإدخال والاختلاط في الفصل الاختياري، وإلا يكون له مصداق واحد ولكنه ينقض الشك باليقين بالإتيان بالركعة المتيقنة وعدم الاعتداد بالمشكوك فيها ويتم على اليقين بإتيان الركعة اليقينية وعدم الاعتداد بالمشكوك فيها ولا يعتد بالشك في حال من الحالات، وعدم الاعتداد به فيما نحن فيه هو البناء على عدم الركعة المشكوك فيها والإتيان بالركعة، وعلى هذا تكون الرواية مع تعرضها للمذهب الحق أي الإتيان بالركعة منفصلة، تتعرض لعدم إبطال الركعات المحرزة ولاستصحاب عدم الركعة المشكوك فيها، وتكون على هذا من الأدلة العامة لحجية الاستصحاب.
وهذا الاحتمال أرجح من ساير الاحتمالات.
اما أو لا فلعدم التفكيك حينئذ بين الجمل، لحمل الرواية على بيان قواعد كلية هي عدم نقض اليقين بالشك، وعدم إدخال الشك في اليقين ونقض الشك باليقين، وعدم الاعتداد بالشك في حال من الأحوال، وهي قواعد كلية يفهم منها حكم المقام لانطباقها عليه.
106

واما ثانيا فلحفظ ظهور اللام في الجنس وعدم حملها على العهد وحفظ ظهور اليقين بإرادة نفس الحقيقة لا الخصوصيات والافراد.
واما ثالثا فلحفظ الظهور السياقي، فان الظاهر ان قوله: لا ينقض اليقين بالشك في جميع الروايات، يكون بمعنى واحد هو عدم رفع اليد عن اليقين بمجرد الشك، والاستصحاب أحد مصاديق هذه الكلية «تأمل» نعم لا يدخل الشك الساري فيها، لأن الظاهر فعلية الشك واليقين كما في الاستصحاب وفي الركعات الغير المنقوضة بالركعة المشكوك فيها، واما في الشك الساري فلا يكون اليقين فعليا.
ومنها:
موثقة إسحاق بن عمار عن أبي الحسن قال: إذا شككت فابن علي اليقين قلت: هذا أصل؟ قال: نعم (1).
والظاهر ان هذه الموثقة وردت في الشك في الركعات الذي كان محل الخلاف بين المسلمين، في انه هل يجب فيه البناء على الأقل وإتيان المشكوك فيها متصلة، أو الأكثر وإتيانها منفصلة، فتكون كسائر الروايات الواردة بهذا المضمون من البناء على النقصان والبناء على اليقين والجزم، والتعبير بمثله لعله من باب التقية.
ويمكن ان يقال: انه لا منافاة من جهة بين البناء على اليقين أي الأقل والبناء على الأكثر وهي عدم جواز الاكتفاء بالأقل كما اتفقت عليه الروايات، وهذا معنى البناء على اليقين وعلى الجزم وعلى النقصان، وانما الاختلاف بينها في الإتيان بالسلام، وانفصال الركعة أو عدمه واتصالها فالرواية الدالة على البناء على الأكثر تدل على الفصل بالسلام، والدالة على البناء على الأقل ظاهرة في الإتيان متصلة، فهما متحدة المضمون من جهة الإتيان بالركعة وعدم الاكتفاء بالمشكوك فيها ومختلفته في الاتصال والانفصال، فالتعبد على الأكثر من جهة وجوب الانفصال لا ينافي الاستصحاب من جهة عدم إتيان الركعة، فالبناء على اليقين يدل على استصحاب عدم الإتيان وظاهره الإتيان متصلة، ولكن يرفع اليد عنه بالأدلة الدالة على الإتيان منفصلة.
اللهم الا ان يقال: ان الاخبار الدالة على البناء على الأكثر والإتيان بالركعة

(1) الوسائل - كتاب الصلاة - الباب 8 - من أبواب الخلل الواقع في الصلاة -
107

المنفصلة تدل على الإتيان بها انما يكون من باب الاحتياط لا من باب الاستصحاب، فتنافى الاخبار الدالة على البناء على اليقين فلا محمل لها الا التقية، واما الحمل على اليقين بالبراءة فهو محمل بعيد كما لا يخفى.
هذا إذا خصصنا الموثقة بالشك في الركعات، واما لو قلنا بالتعميم وان مضمونها أصل كلي في جميع الأبواب خرج منه الشك في الركعات، فدلالتها على الاستصحاب ظاهرة، لظهورها في فعلية الشك واليقين مع وحدة المتعلق فلا ينطبق الأعلى الاستصحاب.
ومنها
ما عن الخصال (1) بسنده عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه: من كان على يقين فشك فليمض على يقينه فان الشك لا ينقض اليقين وفي رواية أخرى من كان على يقين فأصابه شك فليمض على يقينه فان اليقين لا يدفع بالشك.
والظاهر منهما ان من كان على يقين بشيء في الزمن السابق كالطهارة مثلا، فشك في اللاحق فيها، فليمض
على يقينه في زمن الشك، فتدلان على الاستصحاب من جهتين «إحداهما» ان متعلق اليقين لا يكون متقيدا بالزمان فمعنى قوله: من كان على يقين أي يقين بشيء، لا بشيء متقيد بالزمان، فعلى هذا يكون الشك أيضا في الزمن اللاحق متعلقا بهذا الشيء من غير تقييده بالزمان، فكأنه قال: إذا كنت في الزمن السابق متيقنا بعدالة زيد، ثم أصابك شك فيها في الزمن اللاحق، فلتمض على يقينك، ولا إشكال في ظهور هذا الكلام في الاستصحاب، لا الشك الساري، واحتماله مخالف للظاهر المتفاهم عرفا «وثانيتهما» من جهة ظهور اليقين والشك المأخوذين في الرواية في الفعلي منهما أي لا يدفع بالشك الفعلي اليقين الفعلي، مع ان الظهور السياقي أيضا يقتضى الحمل عليه، والإنصاف انهما ظاهرتان في الاستصحاب ولا إشكال في دلالتهما على القاعدة الكلية.
ومنها
مكاتبة علي بن محمد القاساني (2) قال كتبت إليه وانا بالمدينة عن اليوم

(1) راجع الوسائل - كتاب الطهارة - الباب 4 - من أبواب نواقض الوضوء.
(2) الظاهر انه بالشين المعجمة لا السين المهملة، والرجل لم يوثق بل ضعفه الشيخ وغيره وقد يشتبه هذا الرجل بعلي بن محمد بن شيرة الذي وثقه النجاشي والشيخ وغيرهما لاتحاد،
، عصر هما وهما من أصحاب الهادي عليه السلام قال في نقد الرجال: وما نقله العلامة رحمه الله عن الشيخ قدس سره من ان علي بن محمد القاشاني وعلي بن شيرة كانا من أصحاب أبي جعفر الثاني الجواد عليه السلام محمول على السهو إذ لم نجدهما الا في أصحاب الهادي عليه السلام (انتهى) فالتميز بينهما مشكل الا بما يروى عنهما وان خلط صاحب جامع الرواة من يروى عن القاشاني بمن يروى عن علي بن محمد بن شيرة القاساني ولذا قال العلامة المامقاني في ذيل ترجمة الرجل: وقد اشتبه الأمر على جامع الرواة أيضا فخلط من يروى عن القاشاني بمن يروى عن القاساني وذكر الجميع هنا والحال ان الذي يروى عن القاشاني بالمعجمة وهو محمد بن الحسن الصفار والذي يروى عن القاساني بالمهملة محمد بن أحمد بن يحيى والحسن بن محمد وإبراهيم بن هاشم وأحمد بن أبي عبد الله وسهل بن زياد وينبغي المداقة التامة في السند الذي فيه أحدهما لكثرة اشتباه أحدهما بالاخر (انتهى) (م - ط)
108

الذي يشك فيه من رمضان هل يصام أم لا؟ فكتب: اليقين لا يدخله الشك صم للرؤية وأفطر للرؤية (1).
قال الشيخ قدس سره: والإنصاف ان هذه الرواية أظهر ما في هذا الباب من اخبار الاستصحاب، وأنكر بعضهم (2) دلالتها عليه فضلا عن أظهريتها، والحق ان دعوى الأظهرية كدعوى عدم الدلالة ممنوعة، بل هي ظاهرة في الاستصحاب، لكن بعض الروايات المتقدمة مثل صحيحة زرارة الأولى أظهر منها، اما أصل دلالتها عليه، فلان الظاهر من قوله: صم للرؤية وأفطر للرؤية، انهما تفريعان لقوله: اليقين لا يدخله الشك، فحينئذ يحتمل ان يكون مقصود السائل من يوم الشك مطلق يوم الشك، سواء كان من آخر شعبان أو آخر رمضان، ويحتمل ان يكون المراد، يوم الشك بين شعبان ورمضان، أو بين

(1) والرواية هكذا - كتبت إليه وانا بالمدينة أسأله عن اليوم الذي يشك فيه من رمضان هل يصام أم لا؟ فكتب: اليقين لا يدخل فيه الشك (إلخ) راجع الوسائل - كتاب الصوم - الباب 3 - من أبواب أحكام شهر رمضان - الرواية 13 -
(2) هو المحقق النائيني رحمه الله.
109

رمضان وشوال، الظاهر بعد الاحتمال الثالث (1) فبقي الاحتمالان، وعلى أيهما يكون الجواب بملاحظة التفريعين المذكورين عن مطلق يوم الشك في أول رمضان كان أو في آخره، فحينئذ لا ينطبق قوله: اليقين لا يدخله الشك، الا على الاستصحاب، فيتفرع عليه استصحاب عدم دخول رمضان وعدم دخول شوال إلى زمان الرؤية.
واحتمال كون المراد من اليقين هو اليقين بدخول رمضان، بمعنى ان اليقين بدخوله الذي يعتبر في صحة الصوم لا يدخله الشك في دخوله لا يجوز صوم يوم الشك من رمضان الذي تواترت الاخبار على اعتبار اليقين بدخوله أي في صحة الصوم (2) مع كمال بعده لا يناسب تفريع كل من الصوم والإفطار للرؤية عليه، كما ان احتمال كون المراد من قوله: اليقين لا يدخله الشك، ان اليقين بالتكليف لا يدخله الشك فيكون المراد ان الاشتغال اليقيني لا بد له من البراءة اليقينية غير صحيح، لأن لازمه لزوم صوم يوم الشك ولو كان من آخر شعبان فلا يناسب التفريعين، كما لا يناسبهما احتمال كون المراد منه ان اليقين بأيام رمضان لا يدخله الشك أي لا بد ان يكون أيام رمضان محرزة باليقين ولا يجوز الصوم مع الشك في كون اليوم من رمضان، لأن لازمه عدم جواز صوم يوم الشك بين رمضان وشوال، فالأظهر من بين الاحتمالات هو الاحتمال الأول المنطبق على الاستصحاب.
هذه هي الاخبار الواردة في الباب مما يستفاد منها حجية الاستصحاب.

(1) يمكن ان يقال: ان الاحتمال الثالث أقرب من الثاني لما فيه من مزيد اهتمام بالسؤال عنه حيث كان امره دائرا بين وجوب الصوم وحرمته بخلاف الاحتمال الثاني لأن امره دائر بين الوجوب والإباحة (م - ط)
(2) ومن احتمله هو المحقق النائيني رحمه الله وامر بعد ذكر هذا الاحتمال بالتأمل راجع ص 217 - من تقريراته -
110

تذييل
حول الاستدلال بأدلة قاعدتي الحلية والطهارة
على الاستصحاب والجواب عنه
ربما يستدل على اعتبار الاستصحاب بقوله: كل شيء طاهر حتى تعلم انه قذر، وقوله: الماء كله طاهر حتى تعلم انه نجس، وقوله: كل شيء حلال حتى تعرف انه حرام (1).

(1) لا بأس بنقل ما يوجد في كتب الاخبار بعين ألفاظها.
فالرواية الأولى ما عن الشيخ بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن أحمد بن الحسن، عن عمرو بن سعيد، عن مصدق بن صدقة، عن عمار، عن أبي عبد الله عليه السلام (في حديث) قال: كل شيء نظيف حتى تعلم انه قذر فإذا علمت فقد قذر، وما لم تعلم فليس عليك - راجع الوسائل - كتاب الطهارة الباب 37 - من أبواب النجاسات - الرواية 4 - والرواية الثانية ما عن الشيخ بإسناده عن سعد بن عبد الله، عن محمد بن الحسين بن أبي - الخطاب، عن أبي داود المنشد، عن جعفر بن محمد، عن يونس، عن حماد بن عثمان، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: الماء كله طاهر حتى يعلم أنه قذر - ورواها الكليني بسند آخر مثله وكذا الشيخ رحمه الله - راجع الوسائل كتاب الطهارة - الباب 1 - من أبواب الماء المطلق - الرواية 5 - والرواية الثالثة ما عن الكليني عن علي بن إبراهيم، عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: كل شيء هو لك حلال حتى تعلم انه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك (إلخ) راجع الوسائل - كتاب التجارة - الباب 4 - من أبواب ما يكتسب به - الرواية 4 - ولعل اختلاف عبائر القوم في المضامين الثلاث مع ما هو الموجود في جوامع الحديث كان من باب النقل بالمعنى الجائز في الرواية -
111

فان المحقق الخراساني رحمه الله ذهب في الكفاية إلى دلالة الصدر على الحكم الواقعي ودلالة الغاية على الاستصحاب وفي تعليقته إلى دلالة الصدر على الحكم الواقعي وقاعدة الطهارة والحلية والغاية على الاستصحاب فقال في بيان الأول ما حاصله: ان الصدر ظاهر في بيان حكم الأشياء بعناوينها الأولية لا بما هي مشكوك الحكم، والغاية تدل على استمرار ما حكم على الموضوع واقعا من الطهارة والحلية ظاهرا ما لم يعلم بطرو ضده أو نقيضه، وفي الثاني ان الصدر بعمومه يدل على الحكم الواقعي وبإطلاقه على المشكوك بل يمكن ان يقال: بعمومه يدل على الحكم الواقعي وعلى المشكوك فيه فان بعض الشكوك اللازمة للموضوع داخل في العموم ونحكم في البقية بعدم القول بالفصل والغاية تدل على الاستصحاب كما ذكر.
وفيما أفاده نظر:
اما أولا - فلان الطهارة والحلية الواقعيتين ليستا من الأحكام المجعولة الشرعية، للزوم إمكان كون شيء بحسب الواقع لا طاهرا ولا نجسا، ولا حلالا ولا حراما، لأن النجاسة والحرمة مجعولتان بلا إشكال وكلام، فلو فرض جعل النجاسة والحرمة لأشياء خاصة وجعل الطهارة والحلية لأشياء أخر خاصة يلزم ان تكون الأشياء الغير المتعلقة للجعلين لا طاهرا ولا نجسا ولا حلالا ولا حراما، وهذا واضح البطلان في ارتكاز المتشرعة مضافا إلى ان الأعيان الخارجية على قسمين: أحدهما ما يستقذره العرف والثاني ما لا يستقذره، وانما يستقذر الثاني بملاقاته للأول وتلوثه به، والتطهير عرفا عبارة عن إزالة التلوث بالغسل وإرجاع الشيء إلى حالته الأصلية الغير المستقذرة، لا إيجاد شيء زائد على ذاته فيه يكون طهارة، والظاهر ان نظر الشرع كالعرف في ذلك الا في إلحاق بعض الأمور الغير المستقذرة عرفا بالنجاسات وإخراج بعض المستقذرات عنها، وكذا الحلية لم تكن مجعولة فان الشيء إذا لم يشتمل على المفسدة الأكيدة يكون حلالا وان لم يشتمل على مصلحة، فلا تكون الطهارة والحلية من المجعولات الواقعية.
نعم الطهارة والحلية الظاهريتان مجعولتان، فحينئذ نقول: ان قوله كل شيء حلال أو طاهر لو حمل على الواقعيتين منهما يكون اخبارا عن ذات الأشياء، لا إنشاء الطهارة
112

والحلية، فالجمع بين القاعدة والحكم الواقعي يلزم منه الجمع بين الاخبار والإنشاء في جملة واحدة وهو غير ممكن.
واما ثانيا - فلان معنى جعل الطهارة والحلية الظاهريتين هو الحكم بالبناء العملي عليهما حتى يعلم خلافهما، ومعنى جعل الواقعيتين منهما هو إنشاء ذاتهما، لا البناء عليهما، والجمع بين هذين الجعلين مما لا يمكن.
واما ثالثا - فلان الحكم الظاهري مجعول للمشكوك، بما انه مشكوك والحكم الواقعي مجعول للذات مع قطع النظر عن الحكم الواقعي، ولا يمكن الجعل بين هذين اللحاظين المتنافيين.
واما رابعا - فلان في قاعدة الطهارة والحلية يكون الحكم للمشكوك فيه فلا محالة تكون غايتهما العلم بالقذارة والحرمة، فجعل الغاية للحكم المغيا بالغاية ذاتا مما لا يمكن، اللهم الا ان يقال: ان الغاية انما تكون للطهارة والحلية الواقعيتين لأجل القرينة العقلية وهي عدم إمكان جعل الغاية للحكم الظاهري، فيكون المعنى ان الطهارة
والحلية الواقعيتين مستمرتان إلى ان يعلم خلافهما، لكن جعل الغاية للطهارة والحلية الواقعيتين لازمه استمرار الواقعيتين منهما في زمن الشك، لا الظاهريتين، ويرجع حينئذ إلى تخصيص أدلة النجاسات والمحرمات الواقعية، فتكون النجاسات والمحرمات في صورة الشك فيهما طاهرة وحلالا واقعا، وهو كما ترى باطل لو لم يكن ممتنعا.
فتحصل مما ذكرنا ان الجمع بين الحكم الواقعي والقاعدة والاستصحاب مما لا يمكن فلا بد من إرادة واحد منهما، ومعلوم ان الروايات ظاهرة في قاعدة الحل والطهارة بل مع فرض إمكان الجمع بينها أو بين الاثنين منها يكون ظهورها في القاعدتين محكما، وليس كل ما يمكن يراد.
113

فصل
حول الأحكام الوضعية وتحقيق مهيتها
لا بأس بصرف الكلام إلى بيان حال الوضع تبعا للمحقق الخراساني وتحقيق المقام يتم برسم أمور:
الأول انه لا إشكال في تقسيم الحكم إلى التكليفي والوضعي،
والظاهر انه ينقسم إليهما بالاشتراك المعنوي فلا بد من جامع بينهما، والظاهر انه هو كونهما من المقررات الشرعية، لأن كل مقرر وقانون من مقنن نافذ في المجتمع يطلق عليه الحكم فيقال حكم الله تعالى بحرمة شرب الخمر، ووجوب صلاة الجمعة، وحكم بضمان اليد والإتلاف، وحكم بنجاسة الكلب والخنزير، وحكم بان المواقيت خمسة أو ستة وكذا يقال حكم السلطان بان جزاء السارق كذا وسعر الأجناس كذا وكذا، وبالجملة كل مقرر وقانون عرفي أو شرعي ممن له أهلية التقرير والتقنين حكم تكليفا كان أو وضعا، ولا يخرج المقررات الشرعية أو العرفية من واحد منهما ولا ثالث لهما، فمثل الرسالة والخلافة والإمامة والحكومة والأمارة والقضاوة من الأحكام الوضعية قال تعالى:
وكلا جعلنا نبيا (1) وقال تعالى: انى جاعل في الأرض خليفة (2) وقال تعالى: انى جاعلك للناس إماما قال: ومن ذريتي قال: لا ينال عهدي الظالمين (3) فقد نصب رسول الله صلى الله عليه وآله أمير المؤمنين عليه السلام إماما وأميرا على الناس يوم الغدير، وجعل القضاة من ناحية السلطان كجعل الأمير والحاكم معروف ومعلوم.
وبالجملة لا إشكال في كون النبوة والإمامة والخلافة من المناصب الإلهية التي جعلها الله وقررها، فهي من الأحكام الوضعية أو من الوضعيات وان لم يصدق عليها

(1) سورة مريم - الآية 50 -
(2) سورة البقرة - الآية 28 -
(3) سورة البقرة - الآية 118 -
114

الأحكام، فاستيحاش بعض أعاظم العصر رحمه الله من كون أمثال ذلك من الأحكام الوضعية في غير محله، الا ان يرجع إلى بحث لغوي وهو عدم صدق الحكم عليها وهو كما ترى، كاستيحاشه من كون الماهية المخترعة كالصلاة والصوم منها فإنها قبل تعلق الأمر بها وان لم تكن من الأحكام الوضعية لكنها لم تكن قبله من الماهيات المخترعة أيضا لعدم كونها حينئذ من المقررات الشرعية وانما تصير مخترعات شرعية بعد ما قررها الشارع في شريعته بجعلها متعلقة للأوامر و «ح» تصير كالجزئية والشرطية والمانعية للمأمور به من الأحكام الوضعية، ولا فرق بين الجزئية والكلية من كونهما امرين منتزعين عن تعلق الأمر بالطبيعة فيكون نحو تقررهما في الشريعة بكونهما منتزعين عن الأوامر المتعلقة بالطبائع المركبة، فمن جعل الجزئية للمأمور به من الأحكام الوضعية مع اعترافه بكونها انتزاعية فليجعل المأمور بهية أيضا كذلك، وكذا لا مانع من جعل الماهيات الاختراعية من الأحكام الوضعية أي من المقررات الشرعية والوضعيات الإلهية، نعم إطلاق الحكم عليها كإطلاقه على كثير من الوضعيات يحتاج إلى التأويل نعم نفس الصلاة والصوم كنفس الفاتحة والركوع والسجود مع قطع النظر عن تعلق الأمر بهما وصيرورتهما من المقررات الشرعية لا تعدان من الأحكام الوضعية ولا من الماهيات المخترعة.
فالتحقيق ان جميع المقررات الشرعية تنقسم إلى الوضع والتكليف ولا ثالث لهما، نعم صدق الحكم على بعضها أوضح من صدقه على الاخر بل في بعضها غير صادق، لكن كلامنا ليس في صدق الحكم وعدمه بل في مطلق الوضعيات، صدق عليها أولا.
في بعض موارد الخلط بين التكوين والتشريع
الثاني انه كثيرا ما يقع الخلط بين الأمور التكوينية والتشريعية فيرى الغافل الحكم من التكوين إلى التشريع فمن ذلك انه لما قرع بعض الأسماع ان الأمور الانتزاعية يكون جعلها ورفعها بمناشئ انتزاعها فلا يمكن جعل الفوقية والتحتية من الجسمين الا بجعلهما بوضع خاص يكون أحدهما أقرب إلى المركز والاخر إلى المحيط فبعد ذلك ينتزع الفوقية والتحتية منهما قهرا ولا يمكن جعلهما ورفعهما استقلالا فجعل هذا الحكم
115

التكويني مقياسا للأمور التشريعية فقايس الأمور التشريعية بالأمور التكوينية، فذهب إلى امتناع جعل الجزئية والشرطية والمانعية للمأمور به ورفعها عنه استقلالا، وزعم ان جعلها بجعل منشأ انتزاعها كالأمور التكوينية، مع ان القياس مع الفارق.
وتوضيح ذلك ان الأمور الاعتبارية تابعة لكيفية اعتبارها وجعلها، فقد يتعلق الأمر القانوني على طبيعة أولا على نحو الإطلاق لاقتضاء في ذلك، ثم حدثت مصلحة بان يجعل لها شرط أو يجعل لها قاطع ومانع بلا رفع الأمر القانوني الأول، فلو قال المولى:
أقيموا الصلاة، ثم قال: إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق أو قال يشترط في الصلاة الوضوء أو القبلة، أو قال: لا تصل في وبر ما لا يؤكل لحمه أو لا تصل في الثوب النجس، ينتزع منها الشرطية والمانعية، فهل ترى انه يلزم ان يرفع الأمر الأول وينسخه ثم يأمر بالصلاة مع التقيد بالشرط أو عدم المانع، وأي مانع من جعل الوجوب للطبيعة المطلقة بحسب الجعل الأولى ثم يجعلها مشروطة بشيء بجعل مستقل أو يجعل شيئا مانعا لها بنحو الاستقلال لاقتضاء حادث كما غير الله قبلة المسلمين إلى المسجد الحرام، فهل كان قوله: قد نرى تقلب وجهك في السماء إلى قوله: فول وجهك شطر المسجد الحرام (1) من قبيل نسخ حكم الصلاة رأسا وإبداء حكم آخرا وكان الجعل متعلقا، ومجرد كون المنتزعات التكوينية تابعة لمناشى انتزاعها لا يوجب ان تكون الشرائط والموانع التشريعية كذلك وكذا الكلام في إسقاط شرط أو مانع، وبالجملة تلك الأمور الاعتبارية والجعلية كما يمكن جعلها بتبع منشأ انتزاعها يمكن جعلها مستقلا بلا إشكال وريب كما يمكن إسقاطها كذلك.
نعم ان الإرادة الواقعية إذا تعلقت بطبيعة لا يمكن ان تنقلب عما هي عليه من زيادة جزء أو شرط أو مانع أو إسقاطها مع بقائها على ما هي عليه لأن تشخصها بتشخص المراد فلا يمكن بقاء الإرادة مع تغير المراد، بخلاف الأمور القانونية فإنها تابعة لكيفية تعلق الجعل بها، هذا حال الشروط والموانع وكذا حال إسقاط الجزئية فلو قال المولى: أسقطت جزئية الحمد للصلاة، يصير ساقطا مع بقاء الأمر القانوني.

(1) سورة البقرة - الآية 139.
116

واما حال جعل الجزئية فتوضيحه ان الأوامر المتعلقة بالطبائع المركبة انما تتعلق بها في حال لحاظ الوحدة، ولا
يكون الأمر بها متعلقا بالاجزاء بحيث ينحل الأمر إلى الأوامر، ولا الأمر الذي هو بسيط مبسوطا على الاجزاء، بل لا يكون في البين الا امر واحد متعلق بنفس الطبيعة في حال الوحدة، وهذا لا ينافي كون الطبيعة هي نفس الاجزاء في لحاظ التفصيل، فإذا امر المولى بالصلاة لا يلاحظ إلا نفس طبيعتها وتكون الاجزاء مغفولا عنها فحينئذ نقول ان الأمر بالطبيعة يدعو إلى نفس الطبيعة بالذات وإلى الاجزاء بعين دعوته إلى الطبيعة فإذا جعل المولى جزءا للطبيعة فقال: لا صلاة الا بفاتحة الكتاب أو اقرأ في الصلاة أو جعلت الفاتحة جزءا لها يدعو الأمر المتعلق بالطبيعة إليها بنفس دعوته إلى الطبيعة، كما إذا أسقط جزءا منها يكون دعوة الأمر إلى الطبيعة دعوة إلى بقية الاجزاء، وبالجملة لا أرى وجها لامتناع تعلق الجزء الاستقلالي على ما ذكر الا توهم كون التشريع كالتكوين، والا فلو لم يرد من المولى الا الأمر بطبيعة ثم صدر منه امر آخر يدل على اشتراطها بشيء أو جعل شيء جزءا منها، فهل يجوز للعبد ترك الشرط أو الجزء قائلا بأنه لا بد من صدور امر متعلق بالطبيعة المتقيدة أو المركبة من هذا الجزء ولم يصدر منه على القطع الا الأمر بالطبيعة والدليل الدال على الاشتراط أو الجزئية وذلك لا يكفي في الدعوة والبعث وهل هذا إلا كلام شعري مخالف للحجة القطعية.
ومن الخلط بين التكوين والتشريع ان السببية غير قابلة للجعل
ومن موارد الخلط بين التكوين والتشريع ما يقال ان السببية مما لا تقبل الجعل لا تكوينا ولا تشريعا، لا أصالة ولا تبعا، بل الذي يقبله هو ذات السبب ووجوده العيني، واما السببية فهي من لوازم ذاته كزوجية الأربعة، فان السببية عبارة عن الرشح والإفاضة القائمة بذات السبب التي تقتضي وجود المسبب، وهذا الرشح والإفاضة من لوازم الذات لا يمكن ان تنالها يد الجعل التكويني فضلا عن التشريعي، بل هي كسائر لوازم الماهية تكوينها انما يكون بتكوين الماهية، فعلية العلة وسببية السبب كوجوب الواجب وإمكان الممكن انما تكون من خارج المحمول تنتزع عن مقام الذات ليس لها ما بحذاء لا في
117

وعاء العين ولا في وعاء الاعتبار، فالعلية لا تقبل الإيجاد التكويني فضلا عن الإنشاء التشريعي.
هذا ما ذكره بعض أعاظم العصر رحمه الله في وجه عدم إمكان جعل السببية وفيه مضافا إلى خلطه بين لوازم الماهية ولوازم الوجود، وخلطه بين المحمول بالضميمة وخارج المحمول، وخلطه بين السببية أي الخصوصية التي يصير المبدأ بها مبدأ فعليا للمسبب وبين الرشح والإفاضة أي المسبب بما انه مسبب: انه خلط بين الأسباب التكوينية والأسباب التشريعية وقاس التشريع بالتكوين بلا وجه، فان نحو السببية التكوينية سواء كانت بمعنى مبدئية الإفاضة أو نفس الرشح والإفاضة لا يكون في التشريعيات مطلقا فلا يكون العقد مترشحا منه الملكية أو الزوجية والتحرير مترشحا منه الحرية، كما لا تكون في العقود والإيقاعات خصوصيات بها تصير منشئا لحقائق المسببات، اما عدم المنشئية لأمر حقيقي تكويني فواضح.
واما عدم صيرورتها منشئا حقيقيا للاعتبار، فلان الاعتبارات القائمة بنفس المنشأ أو العقلاء أو الشارع، لها مناشئ تكوينية لا تكون العقود والإيقاعات أسبابا لتكونها فيها، فالسببية للأمور التشريعية والاعتبارات العقلائية انما هي بمعنى آخر غير السببية التكوينية، بل هي عبارة عن جعل شيء موضوعا للاعتبار، فالمقنن المشرع إذا جعل قول الزوج: هي طالق، مع الشرائط المقررة في قانونه سببا لرفع علقة الزوجية يرجع جعله وتشريعه إلى صيرورة هذا الكلام مع الشرائط موضوعا لاعتبار فسخ العقد ورفع علقة الزوجية، ولأجل نفوذه في الملة يصير نافذا، فقبل جعل قول الزوج سببا لحل العقد لا يكون قوله: أنت طالق، سببا له وموضوعا لإنفاذ الشارع المقنن، وبعد جعل السببية له يصير سببا وموضوعا لاعتباره القانوني المتبع في ملته وقومه من غير تحقق رشح وإفاضة وخصوصية، فالسببية من المجعولات التشريعية «نعم» للشارع والمقنن ان يجعل المسببات عقيب الأسباب، وان يجعل نفس سببية الأسباب للمسببات، والثاني أقرب بالاعتبار في المجعولات القانونية - فتدبر.
118

في ان الملكية ليست من المقولات حقيقة
الثالث ان تلك الأمور التشريعية في القانون الشرعي أو القوانين العرفية لا يكون لها نحو تحقق إلا في عالم الاعتبار، وليس لما يعتبر من الملكية والزوجية والحرية والرقية وأمثالها الا وجود اعتباري، فلا يندرج واحد منها تحت مقولة من المقولات اندراجا حقيقيا، فلا تكون الملكية من مقولة الجدة ولا من مقولة الإضافة نعم نفس مفهوم الملكية مفهوم إضافي لكن لا يوجب ذلك اندراج الملكية الاعتبارية تحت مقولة الإضافة كما هو المعلوم عند أهله، فقول بعضهم: ان مقولة الجدة لها مراتب: أحدها الملكية الاعتبارية حتى عد مالكية الله تعالى أيضا من مراتبها لا ينبغي ان يصغى إليه «نعم» الملكية تشبه بمقولة الإضافة من وجه، وبمقولة الجدة من وجه آخر، لكن البحث في شباهتها بهما وعن وجهها مما لا يرجع إلى محصل.
في أقسام الوضعيات
إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم ان الأحكام الوضعية عبارة عن كلية المقررات الشرعية ما عدى الأحكام التكليفية، حتى ان الإباحة الواقعية لو كان لها جعل، تكون من الوضعيات، والأحكام الوضعية بعد اشتراك كلها في إمكان جعلها استقلالا وليس حكم وضعي لا يمكن ان يتطرق إليه الجعل الاستقلالي، على أنحاء:
منها - ما يكون مجعولا بتبع التكليف بمعنى انتزاعه منه كالجزئية للمكلف به غالبا والشرطية والمانعية له.
ومنها - ما يكون مجعولا بتبع اشتراط التكليف به أي ينتزع من اشتراطه به كقوله تعالى: لله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا، فان الاستطاعة لم تكن قبل هذا الجعل شرطا للتكليف وبعد تقييد التكليف به انتزع منه الشرطية، ويمكن ان يكون دلوك الشمس من هذا القبيل، كما يمكن ان يكون من قيود المكلف به كما هو الأظهر فان الصلاة كما انها مشروطة بالستر، مشروطة بوقوعها من دلوك الشمس إلى غسق الليل.
119

ومنها - ما يكون مجعولا أصالة وهو على أنحاء: «منها» ما يكون متعلق الجعل ابتداء من غير تخلل واسطة تكويني أو تشريعي، كالخلافة والنبوة والإمامة والقضاوة والسببية والشرطية والمانعية والقاطعية أحيانا، ومن ذلك جعل المواقيت والموقفين وجعل الصفا والمروة والمسعى من شعائر الله وأمثال ذلك، وان يمكن ان يقال بانتزاع بعضها من الحكم التكليفي «ومنها» ما يكون مجعولا عقيب شيء اعتباري أو تكويني كضمان اليد والإتلاف، وكحق السبق والتحجير، وكحق الرهان في باب السبق والرماية وكالملكية عقيب الاحياء والحيازة، ومن قبيله جميع الحدودات الشرعية وأحكام القصاص والديات «ومنها» ما يكون مجعولا عقيب امر تشريعي قانوني، كالعهدة عقيب عقد الضمان، ومن ذلك مفاد العقود والإيقاعات، فان كل ذلك من التشريعيات والجعليات الشرعية والعرفية التي أنفذها الشارع، والمراد من الأحكام التشريعية أعم من العرفيات التي أنفذها الشارع أو لم يردع عنها.
ثم اعلم ان في العقود والإيقاعات وساير الوضعيات ذوات الأسباب يمكن ان يلتزم بجعل السببية، فيقال: بان الشارع جعل الحيازة سببا للملكية، واليد سببا للضمان، وعقد البيع والنكاح سببين لمسببهما، ويمكن ان يلتزم بجعل المسبب عقيب السبب، والأول هو الأقرب بالاعتبار وأسلم من الإشكال، لكن في كل مورد لا بد من
ملاحظة مقتضى دليله.
فقد اتضح مما ذكرنا النظر في كثير مما أفاده المحقق الخراساني وغيره في المقام.
منه ما أفاده رحمه الله في النحو الأول من الوضع، فإنه مع تسليم عدم تطرق الجعل التشريعي مطلقا إلى شيء لا وجه لعده من الأحكام الوضعية، فان الأحكام الوضعية أي الأحكام الجعلية والمقررات الشرعية فلا معنى لعد ما لا يتطرق إليه الجعل منها، مع انه قد عرفت النظر في عد السببية للتكليف مما لا يتطرق إليه الجعل، فان السببية كالمانعية والشرطية والرافعية لأصل التكليف أيضا من الوضعيات المتطرقة إليها الجعل. فان نفس دلوك الشمس إلى غسق الليل أو سببيته للجعل وان لم يكن مجعولا، لكن سببيته للوجوب يمكن ان يكون مجعولا ومقررا شرعيا كما ان الاضطرار وان لم يكن مجعولا لكن يمكن
120

جعل السببية لرفع التكليف له كما يمكن رفع التكليف عقيبه كما هو ظاهر قوله: رفع ما اضطروا إليه، الرافع لحرمة الخمر في صورة الاضطرار العرفي هذا، كما ان عد بعضهم الكاشفية والطريقية والحجية وأمثال ذلك من الوضعيات في غير محله، فان الحجية سواء كانت بمعنى منجزية التكليف أو بمعنى قاطعية العذر ليست من المجعولات، كما ان الطريقية والكاشفية للكاشف والطريق ليستا بمجعولتين كما مر ذكره في محله.
تنبيهات: الأول
حول اعتبار فعلية اليقين والشك في الاستصحاب
وأخذهما في موضوعه على نعت الموضوعية
يعتبر في الاستصحاب فعلية الشك واليقين بناء على أخذهما موضوعا وركنا فيه كما سيأتي التعرض لذلك، وليس المراد من فعليتهما تحققهما في خزانة النفس ولو كان الإنسان ذاهلا عنهما بل بمعنى الالتفات إلى يقينه السابق وشكه اللاحق لأن الاستصحاب كالأمارات انما اعتبر لأجل تنجيز الواقع وإقامة الحجة عليه والتحفظ على الواقع في زمن الشك أي يكون حجة من المولى على العبد في بعض الاستصحابات ومن العبد على المولى في بعضها، والحجة لا تصير حجة الا مع العلم والالتفات فقوله: لا ينقض اليقين بالشك أو صدق العادل وان كان لهما وجود واقعي علم المكلف أولا لكنهما لا يصيران حجة على الواقعيات بوجودهما الواقعي.
فلو دل دليل على حرمة الخمر مطلقا ودل دليل آخر على حلية قسم منها ولم يصل المخصص إلى المكلف وارتكب هذا القسم وكان بحسب الواقع محرما أي كان المخصص مخالفا للواقع يكون المكلف معاقبا على الواقع وليس له الاعتذار بان لهذا العام مخصصا واقعا لأن وجوده الواقعي لا يكون حجة لا من العبد ولا عليه، فقوله: لا ينقض اليقين بالشك انما يصير حجة على الواقع أو عذرا منه إذا كان المكلف متوجها وملتفتا إلى الموضوع والحكم فلا معنى لجريان الاستصحاب مع عدم فعلية الشك واليقين هذا مضافا
121

إلى ظهور أدلته في فعليتهما أيضا، فحينئذ لو كان المكلف قبل الصلاة شاكا في الطهارة مع العلم بالحدث سابقا وصار ذاهلا وصلى، ثم بعد صلاته التفت إلى شكه ويقينه لا يكون مجرى للاستصحاب بالنسبة إلى قبل شروعه في الصلاة للذهول عن الشك واليقين.
واما جريان قاعدة الفراغ بالنسبة إليه أيضا فمشكل لظهور اخبارها في حدوث الشك بعد العمل وهذا الشك ليس حادثا بل كان باقيا في خزانة النفس ويكون من قبيل إعادة ما سبق أو الالتفات إلى ما كان موجودا، فتجب إعادة الصلاة اما لأجل استصحاب الحدث بعد الصلاة بان يقال: ان استصحاب الحدث في حال الصلاة مما يوجب الإعادة وهو وان كان حكما عقليا لكنه من الأحكام التي تكون للأعم من الحكم الواقعي والظاهري واما لأجل قاعدة الاشتغال لو سلمت مثبتية الاستصحاب.
ثم ان اشتراط فعلية الشك واليقين انما هو فيما إذا قلنا بأخذهما في الاستصحاب على نحو الموضوعية أي إذا كان الشك واليقين ركنين فيه، واما إذا قلنا بان المعتبر فيه هو الكون السابق والشك اللاحق كما هو مختار الشيخ الأنصاري قدس سره أو قلنا بان الاستصحاب عبارة عن جعل الملازمة التعبدية بين الكون السابق وبقائه كما يظهر من المحقق الخراساني رحمه الله في التنبيه الثاني فلا يبقى مجال للبحث عن فعلية اليقين على كلا المسلكين وعن فعلية الشك أيضا على المسلك الثاني، ومن هنا يرد إشكال على المحقق الخراساني وهو وقوع التهافت بين ما اختاره في التنبيه الأول من اعتبار فعلية الشك واليقين في الاستصحاب وبين ما اختاره في التنبيه الثاني من الاكتفاء في صحة الاستصحاب بالشك في بقاء شيء على تقدير ثبوته وان لم يحرز ثبوته بل الظاهر منه في أواخر التنبيه ان الاستصحاب عبارة عن جعل الملازمة التعبدية بين ثبوت الشيء وبقائه وذلك لأن لازم القول باعتبار فعلية اليقين والشك هو أخذهما في موضوعه ولازم ما اختاره في التنبيه الثاني هو عدم أخذ هما فيه أو لا أقل من عدم أخذ اليقين فيه ليكون مطابقا لاختيار الشيخ كما ربما يظهر من أوائل التنبيه الثاني فيقع التهافت بينهما ولا مهرب منه (1).

(1) ولعل ما أوقعه في هذا التهافت هو الذب عن الإشكال على جريان الاستصحاب في مؤديات الأمارات، وسيأتي بيانه عن الأستاذ دام ظله والجواب عنه فانتظر -
122

ثم ان في اعتبار الشك واليقين في الاستصحاب على نعت الموضوعية أو عدم اعتبارهما، أو اعتبار الشك دون اليقين أو العكس، وجوها واحتمالات، من ان الظاهر من أخذ العناوين في الأحكام هو الموضوعية والدخالة، ومن ان العناوين المرآتية كاليقين والعلم وأمثالهما لو أخذت في موضوع حكم بكون الظاهر منها هو كون الموضوع هو المرئي بها لا المرآة، وان الشك في قوله: لا ينقض اليقين بالشك لم يؤخذ موضوعا بل الظاهر إسقاط الشك وعدم صلاحيته لنقض اليقين ومن ان اليقين غير مأخوذ في الموضوع لما ذكر في الوجه الثاني، ولكن الظاهر من الأدلة هو التعبد بالبقاء في زمان الشك ومن هنا يظهر وجه الاحتمال الاخر.
والأقوى هو الأول فان الظاهر من جميع أدلة الاستصحاب هو ان اليقين المقابل للشك لأجل كونه امرا مبرما لا ينقض بالشك وان العناية في التعبد في زمان الشك انما تكون لأجل مسبوقيته باليقين، وبالجملة لا يجوز رفع اليد عن اليقين والشك بعد ظهور الأدلة في كون العناية بهما، وانه لا ينبغي رفع اليد عن اليقين الذي هو حجة مبرمة بالشك الذي هو غير حجة وغير مبرم، ولا ينافي موضوعيتهما كون الاستصحاب ناظرا إلى ترتيب آثار الواقع ومعتبرا لأجل التحفظ عليه كما هو كذلك في باب أداء الشهادة فان العلم مع كونه تمام الموضوع له يعتبر لأجل التحفظ على الواقع، وذلك لأن أخذ اليقين موضوعا انما هو جهة تعليلية لحفظ الواقع من غير تقيد بإصابته أو تركيب بينه وبين الواقع في الموضوعية أو كون الواقع تمام الموضوع.
حول الإشكال على جريان الاستصحاب
في مؤديات الأمارات وجوابه
فتحصل مما ذكرنا ان اليقين والشك مأخوذ ان فيه على جهة الموضوعية لكن اليقين بما انه طريق وكاشف، وأيضا قد عرفت في ذيل الصحيحة الأولى ان صحة نسبة عدم نقض اليقين بالشك انما هي في اليقين بما انه كاشف عن الواقع «فحينئذ» يقع الإشكال الذي أورده المحقق الخراساني في التنبيه الثاني في باب مؤديات الطرق والأمارات سواء في الأحكام
123

أو في الموضوعات: من ان الاستصحاب متقوم باليقين والأمارات مطلقا لا تفيد اليقين فينسد باب الاستصحاب
في جل الأحكام الوضعية والتكليفية وكثير من الموضوعات، والشيخ العلامة الأنصاري والمحقق الخراساني رحمهما الله في فسحة من هذا الإشكال لعدم كون اليقين معتبرا عندهما في موضوع الاستصحاب لكن قد عرفت الإشكال في مبناهما.
واما على المبنى المنصور فيمكن ان يجاب عنه بان الظاهر من الأدلة بمناسبة الحكم والموضوع هو ان الشك باعتبار عدم حجيته ومحرزيته عن الواقع لا ينقض اليقين الذي هو حجة ومحرز له فإنه لا ينبغي ان يرفع اليد عن الحجة بغير الحجة، وبعبارة أخرى ان العرف لأجل مناسبة الحكم والموضوع يلقى الخصوصية ويحكم بان الموضوع في الاستصحاب هو الحجة في مقابل اللا حجة فيلحق الظن المعتبر باليقين والظن الغير المعتبر بالشك، ويؤيد ذلك بل يدل عليه قوله في صحيحة زرارة الثانية: لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت وليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك أبدا، الظاهر منه إجراء استصحاب طهارة اللباس ولا بد ان تحمل الطهارة على الواقعية منها، لعدم جريان الاستصحاب في الطهارة الظاهرية لما ذكرنا سابقا، ومعلوم ان العلم الوجداني بالطهارة الواقعية مما لا يمكن عادة بل العلم انما يحصل بالأمارات كأصالة الصحة واخبار ذي اليد وأمثالها فيرجع مفاده إلى انه لا يرفع اليد عن الحجة القائمة بالطهارة بالشك.
بل يمكن ان يؤيده بصحيحته الأولى أيضا فان اليقين الوجداني بالوضوء الصحيح أيضا مما لا يمكن عادة بل الغالب وقوع الشك في الصحة بعده ويحكم بصحته بقاعدة الفراغ بل الشك في طهارة ماء الوضوء يوجب الشك فيه فاليقين بالوضوء أيضا لا يكون يقينا وجدانيا غالبا - تأمل.
ويؤيده أيضا بعض الروايات التي يظهر منها جريان الاستصحاب في مفاد بعض الأمارات كما دل على جواز الشهادة والحلف مع الاستصحاب في الغائب المنقطع خبره إذا وصل موته بعد ثلثين سنة وشك في احداث الحدث في أمواله وحدوث وإرث جديد له وكلف القاضي الشهادة بان أمواله منه ووراثه منحصرون في الموجودين (1) و

(1) والرواية هكذا - محمد بن يعقوب الكليني عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن،
، إسماعيل بن مرار، عن يونس، عن معاوية بن وهب قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: الرجل يكون في داره ثم يغيب عنها ثلاثين سنة ويدع فيها عياله ثم يأتينا هلاكه ونحن لا ندري ما أحدث في داره ولا ندري ما حدث له من الولد الا انا لا نعلم نحن انه أحدث في داره شيئا ولا حدث له ولد ولا يقسم هذه الدار بين ورثته الذين ترك في الدار حتى يشهد شاهدا عدل ان هذه الدار دار فلان بن فلان مات وتركها ميراثا بين فلان وفلان أفنشهد على هذا؟ قال: نعم (إلخ) راجع فروع الكافي كتاب الشهادات ص - 387 - ج 7 - الطبعة الحديثة والوسائل كتاب الشهادات الباب 17 -
124

لو لا جريان الاستصحاب في مفاد الأمارات لما يجوز الشهادة بان أمواله له لامتناع حصول اليقين الوجداني بان المال ما له فجريان الاستصحاب في مفاد الأمارات وبعض الأصول كأصالة الصحة مما لا مانع منه.
واما ما ادعى بعض أعاظم العصر من توسعة اليقين بالأعم من الوجداني وما هو بمنزلته بناء على مسلكه من قيام الطرق والأمارات مقام القطع الطريقي لحكومة أدلتها على دليله قد عرفت في مبحث القطع ما فيه: من ان الأمارات المتداولة المعتبرة في الشريعة أمارات عقلائية أمضاها الشارع لا تأسيسية وليس بناء العقلاء في العمل على طبق الأمارات لأجل تنزيلها منزلة القطع بل هي أمارات مستقلة معمول بها، كان القطع أو لم يكن «نعم» مع وجود القطع في مورد لا يبقى محل للعمل بالأمارة، وبالجملة لا دليل في باب حجية الأمارات يكون حاكما على دليل الاستصحاب ويجعل اليقين أعم من الوجداني وغيره وهذا واضح جدا.
الثاني
في أقسام استصحاب الكلي (1)
المتيقن السابق إذا كان كليا في ضمن فرده وشك في بقائه فاما ان يكون الشك

(1) المتيقن السابق اما ان يكون فردا مشخصا كوجود زيد مثلا فلا إشكال في جريان
، الاستصحاب فيه وترتيب آثاره عليه واما ان يكون فردا مرددا كما إذا رأينا شبحا من بعيد وترددنا فيه بين زيد وعمرو ثم شككنا في بقائه وكذا لا إشكال في جريان الاستصحاب فيه وترتيب آثاره المشتركة بين زيد وعمرو عليه لا الآثار المختصة بهما واما استصحاب الفرد المنتشر المعبر عنه بكلى الخارجي كما مثل له بصاع من الصبرة فيرجع إلى استصحاب الكلي الذي سيأتي بيان حكمه من الأستاذ دام ظله العالي لأن الكلي إذا قيد بقيود متعددة لا يخرج عن الكلية بل توجب ضيق دائرته ولم تكن واسطة بين الجزئي والكلي حتى يسمى فردا منتشرا -
125

من جهة الشك في بقاء ذلك الفرد، واما ان يكون من جهة الشك في تعيين الفرد وتردده بين ما هو باق جزما وبين ما هو مرتفع كذلك، واما من جهة الشك في تحقق فرد آخر مع الجزم بارتفاع الفرد المتحقق.
اما الأول
فلا إشكال في جريان استصحاب الكلي والفرد فيه وترتيب آثار كل منهما عليه كما انه لا إشكال في ان جريان استصحاب الكلي لا يغنى عن استصحاب الفرد لأن بقاء الكلي يستلزم عقلا كونه في ضمن هذا الفرد لانحصاره به فرضا، وهل يغنى استصحاب الفرد عن الكلي أم لا؟ أو يفصل بين ما كان الكلي بنحو صرف الوجود وبين ما كان بنحو الوجود الساري لأن الكلي اعتبر في النحو الثاني متحدا مع الافراد فجريانه في الفرد يغنى عنه لأنه متحد معه لا مستلزم إياه والتحقيق عدم إغنائه عنه مطلقا لأن حيثية الكلي غير حيثية الخصوصيات الفردية في عالم الاعتبار ومقام تعلق الأحكام بالموضوعات، فاعتبار إيجاب إكرام كل إنسان غير اعتبار إيجاب إكرام زيد وعمرو فان الحكم قد تعلق في الأول بحيثية إنسانية كل فرد وهو غير خصوصيات الفردية عرفا فإسراء الحكم من أحد المتحدين في الوجود والمختلفين في الحيثية بالاستصحاب لا يمكن الا بالأصل المثبت (1).

(1) وقد يقال: ان استصحاب الفرد يغنى عن استصحاب الكلي في الأحكام دون الموضوعات لأن الاستصحاب في الأحكام عبارة عن جعل الحكم المماثل للأول في زمن الشك فإذا علمنا بوجود الطلب الكلي في ضمن الوجوب سابقا فاستصحاب الفرد هنا عبارة عن جعل الشارع وجوبا مماثلا للأول في زمن الشك ومعلوم ان الوجوب متحد مع الطلب خارجا فيترتب عليه آثار،
، الطلب في زمن الشك أيضا واما الموضوعات حيث ان الاستصحاب فيها عبارة عن التعبد بآثار الموضوع لا جعله فاستصحاب الفرد فيها لا يغنى عن استصحاب الكلي لأن التعبد بآثار الزيدية في زمن الشك غير التعبد بآثار الإنسانية وان اتحدا خارجا.
ولكن يقال: ان دليل الاستصحاب لم يكن ذا لسانين حتى يفصل بين الأحكام والموضوعات - مضافا إلى ان الكلية في الأحكام لم يكن لها أصل بداهة ان قوله: أكرم زيدا أو أكرم إنسانا أو أكرم كل إنسان على حد سواء في إنشائه الإكرام، وان اختلاف المتعلق بالجزئية والكلية لا يرتبط بالحكم -
126

واما الثاني
فالأقوى جريان استصحاب الكلي فيه أيضا (1) لأن المعتبر فيه هو وحدة القضية المتيقنة والمشكوك فيها عرفا وهو حاصل لأنه مع العلم بوجود فرد من الحيوان يعلم وجود الحيوان ومع الشك في كونه طويل العمر يشك في بقاء عين الحيوان المتيقن فما هو مشكوك البقاء عين ما هو متيقن الحدوث.
لا يقال: ان المتيقن السابق مردد بين الحيوانين والكلي متكثر الوجود في الخارج فالبق غير الفيل وجودا وحيثية حتى ان حيوانية البق أيضا غير حيوانية الفيل على ما هو التحقيق في باب الكلي الطبيعي وما هو مشكوك البقاء ليس هذا المتيقن المردد بينهما فلا تتحد القضيتان.
فإنه يقال: انما يرد ذلك بعد تسليم كون الطبيعي مع الافراد كذلك عرفا لو أردنا استصحاب الفرد المردد دون ما إذا أردنا استصحاب الكلي فان المعلوم هو حيوان خارجي متشخص يكون الكلي موجودا بوجوده وشك في بقاء ذاك الحيوان بعينه فلا إشكال في جريان الأصل فيه.
لكن الإنصاف انه لو أغمض النظر عن وحدتهما عرفا فلا يمكن التخلص عن الإشكال سواء أريد إجراء استصحاب الكلي المعرى واقعا عن الخصوصية أو استصحاب الكلي المتشخص بإحدى الخصوصيتين أو الكلي الخارجي مع قطع النظر عن الخصوصية،

(1) ولا يخفى ان ما مثل الاعلام في هذا المقام لهذا القسم من استصحاب الكلي بالاحكام الوضعية والتكليفية غير وجيه لعدم وجود جامع كلي وذي أثر شرعي بين الأحكام حتى يستصحب الا ان كلما يتصور هو جامع انتزاعي عقلي.
127

بدعوى ان الموجود الخارجي له جهتان: جهة مشتركة بينه وبين غيره من نوعه أو جنسه في الخارج وجهة مميزة، والعلم بوجود أحد الفردين موجب لعلم تفصيلي بجهة مشتركة خارجية بينهما وذلك لاختلال ركني الاستصحاب أو أحدهما على جميع التقادير.
اما على التقدير الأول فللعلم بعدم وجود الكلي المعرى واقعا عن الخصوصية لامتناع وجوده كذلك فيختل ركناه.
واما على الثاني فلان ذلك عين العلم الإجمالي بوجود أحدهما لأن الكلي المتشخص لكل خصوصية يغاير المتشخص بالخصوصية الأخرى فتكون القضية المتيقنة العلم الإجمالي بوجود أحدهما وقضية اعتبار وحدتها مع المشكوك فيها ان يشك في بقاء المعلوم بالإجمال وفي المقام لا يكون الشك في بقاء المعلوم بالإجمال بل يعلم في الزمان الثاني إجمالا اما ببقاء الطويل أو ارتفاع القصير وانما يكون الشك في البقاء إذا احتمل ارتفاع ما هو المعلوم طويل العمر كان أو قصيره فاختل الركن الثاني منه.
واما على التقدير الثالث فلان الجهة المشتركة بما هي مشتركة غير موجود في الخارج الأعلى رأي الرجل الهمداني الذي يلزم منه مفاسد كما حقق في محله وعلى المسلك المنصور تكون الطبيعة في الخارج طبيعتين فكما
لا علم تفصيلي بإحدى الخصوصيتين لا علم تفصيلي بإحدى الطبيعتين لامتناع حصول العلم التفصيلي الا مع وحدة الطبيعة المعلومة فحينئذ يأتي فيه الإشكال المتقدم فالتخلص عن الإشكال هو ما أشرنا إليه من وحدة القضيتين عرفا وهي المعتبرة في الاستصحاب والدليل على عرفية القضية ما ترى من عدم قبول النفوس خلافها الا بالبرهان وحكم قاطبة أهل العرف ببقاء النوع الإنساني وساير الأنواع من بدو الخلقة إلى انقراضها واشتهار القول بان المهملة يوجد بوجود ما وينعدم بعدم جميع الافراد وغيرها مما هي من لوازم قول الهمداني.
لا يقال يرد: على هذا الاستصحاب ما يرد على استصحاب بقاء النهار في الشبهة المفهومية في ان النهار ينتهى إلى سقوط قرص الشمس أو يبقى إلى زوال الحمرة لأن الاستصحاب غير جار فيه لعدم الشك في الخارج لأن سقوط القرص معلوم وعدم زوال الحمرة معلوم أيضا فالامر دائر بين المعلومين وانما الشك في انطباق مفهوم النهار على
128

إحدى القطعتين وكذا الحال فيما نحن فيه لدوران الأمر بين المقطوعين لأن الحيوان الخارجي اما باق قطعا أو مرتفع كذلك فلا شك في الخارج وانما الشك في انطباق عنوان الفيل أو البق عليه.
فإنه يقال: قياس ما نحن فيه على الشبهة المفهومية مع الفارق لأن الشك في الشبهة المفهومية ليس الا في المعنى اللغوي أو العرفي أي يشك في ان لفظ النهار موضوع إلى هذا الحد أو ذلك وهو ليس مجرى الاستصحاب بخلاف ما نحن فيه فان الشك انما هو في بقاء الحيوان الخارجي ومنشأ الشك انما هو الشك في طول عمره وقصره ومثل ذلك لا إشكال في جريان الاستصحاب فيه الا من جهة الشك في المقتضى وقد فرغنا من جريانه فيه، واما الإشكال من جهة ان الشك في بقاء الكلي مسبب عن الشك في حدوث الفرد والطويل المنفي بالأصل فواضح الفساد (1).
في الجواب عن الشبهة العبائية
ثم انه لا إشكال في انه لا يترتب على استصحاب الكلي أثر الفرد ولا أثر غيره من لوازمه وملزوماته، ضرورة ان بقاء الكلي مستلزم عقلا لوجود الفرد الطويل، وهذا هو الجواب عن الشبهة العبائية المعروفة (2) فإنه مع تطهير أحد طرفي الثوب لا يجري استصحاب

(1) وقد بين الشيخ الأعظم فساده في الفرائد ولا يهمنا نقله فراجع ولكن هاهنا شبهة أخرى وهي ان من المعلوم ان وجود الطبيعي بوجود الفرد وانعدامه بانعدام الافراد وان أحد الفردين فيما نحن فيه معلوم الزوال وجدانا والأصل يقتضى عدم تحقق الفرد الاخر فبانضمام الأصل إلى الوجدان نعلم عدم وجود الطبيعي في الخارج فلا مجرى لاستصحابه - واما الجواب عنها ان هذا الأصل لا يثبت كون الجامع وجد بوجود الفرد القصير حتى يقطع بارتفاعه الا بالأصل المثبت -
(2) هذه الشبهة منسوبة إلى الفقيه الجليل السيد إسماعيل الصدر رحمه الله وإليك بيانها:
وهي انه لو علمنا بإصابة النجاسة أحد طرفي العباء عمن الأسفل أو الا على ثم طهرنا الطرف الأسفل فطهارته يورث الشك في بقاء النجاسة في العباء لاحتمال ان تكون النجاسة المعلومة قد أصابت،
، الطرف الأعلى فيجري فيه استصحاب بقاء النجاسة ويلزمه القول بنجاسة الملاقى لجميع أطراف العباء مع انه لم يلتزم به أحد لأن الطرف الأسفل مقطوع الطهارة وان الطرف الأعلى مشكوك النجاسة للشك في إصابة النجاسة له وإذا قلنا بنجاسة ملاقى مستصحب النجاسة يلزم في المثال المذكور القول بنجاسة ملاقى مقطوع الطهارة ومشكوك النجاسة وهو باطل بالضرورة هذا -
129

الفرد المردد ولكن جريان استصحاب النجاسة وان كان مما لا مانع منه لأن وجود النجاسة في الثوب كان متيقنا ومع تطهير أحد طرفيه يشك في بقائه فيه الا انه لا يترتب على ملاقاة الثوب أثر ملاقاة النجس، فان استصحاب بقاء الكلي أو الشخص الواقعي لا يثبت كون ملاقاة الثوب أثر ملاقاة النجس، فان استصحاب بقاء الكلي أو الشخص الواقعي لا يثبت كون ملاقاة الأطراف ملاقاة النجس الا بالأصل المثبت لأن ملاقاة الأطراف ملاقاة للنجس عقلا.
وليس لأحد ان يقول انه بعد استصحاب نجاسة الثوب يكون الملاقاة معها وجدانية لأن ما هو الوجداني هو الملاقاة مع الثوب لا مع النجس واستصحاب بقاء النجاسة بالنحو الكلي وكذا استصحاب النجس الذي كان في الثوب أي الشخص الواقعي لا يثبت ان الملاقاة مع الثوب بجميع أطرافه ملاقاة للنجاسة الا بالاستلزام العقلي، وفرق واضح بين استصحاب نجاسة طرف معين من الثوب وبين استصحاب نجاسة فيه بنحو غير معين فان ملاقاة الطرف المعين المستصحب النجاسة ملاقاة للنجس المستصحب وجدانا، فإذا حكم الشارع بان هذا المعين نجس ينسلك في كبرى شرعية هي: ملاقى النجس نجس، واما كون ملاقاة جميع الأطراف ملاقيا للنجس الكلي أو الواقعي يكون بالاستلزام العقلي.
الا ترى انه لو وجب عليه إكرام عالم وكان في البيت شخصان يعلم كون أحدهما عالما فخرج أحدهما من البيت وبقي الاخر يجري استصحاب بقاء العالم في البيت ويترتب عليه اثره لو كان له لكن لا يثبت كون الشخص الموجود عالما يكون إكرامه عملا بالتكليف، بخلاف ما لو كان زيد عالما وشك في بقاء علمه فان استصحاب كونه عالما يكفي في كون إكرامه مسقطا للتكليف كما انه لو شك في زوال النجاسة المعلومة بالإجمال بان يشك في ان الثوب الذي علم كون أحد طرفيه نجسا هل غسل أم لا؟ يجري استصحاب الكلي ولا يثبت كون ملاقى جميع أطرافه نجسا لما عرفت.
لكن هاهنا استصحاب آخر هو استصحاب الفرد المردد واثره نجاسة ملاقى جميع
130

الأطراف فان التعبد بنجاسة هذا الطرف أو هذا الطرف بنحو الفرد المردد يكون اثره نجاسة ملاقى الطرفين من غير شبهة المثبتية فهو كاستصحاب نجاسة الطرف المعين من حيث ان ملاقيه محكوم بالنجاسة والفرق بينه وبين استصحاب الكلي واضح فان استصحاب أصل النجاسة في الثوب لا يثبت ان هذا الطرف أو هذا الطرف نجس وكذا استصحاب الشخص الواقعي، واما استصحاب الفرد المردد كالمعين فلا إشكال في جريانه وترتيب أثر النجاسة على ملاقيه (1).
وما يقال: ان الفرد المردد لا وجود له حتى يجري الاستصحاب فيه، ليس بشيء، ضرورة جواز التعبد به وترتيب الأثر عليه كالواجب التخييري، لكنه محل إشكال، والقياس بالواجب التخييري مع الفارق لأن الواجب التخييري نحو وجوب على نعت التخيير ولا يكون له واقع معين عند الله مجهول عندنا بخلاف ما نحن فيه فان النجس له واقع معين ومجهول عندنا فالمعلوم هو النجس الواقعي المعين فيجري الاستصحاب فيه لا في الفرد المردد ولازمه عدم نجاسة ملاقى الأطراف ولا بأس به، اللهم الا ان يقال في المثال: انى عالم بان الشارع حكم بنجاسة هذا الطرف المعين أو ذاك، والملاقى لهما ملاق لمستصحب النجاسة وجدانا، وهذا هو الفارق بينه وبين الشبهة العبائية المدفوعة بما تقدم - تدبر.
واما ما ادعى بعض أعاظم العصر رحمه الله في مقام الجواب عن الشبهة العبائية بالمنع من جريان استصحاب الكلي فيما إذا كان الترديد في محل المتيقن لا في نفسه، كما لو علم بوجود حيوان في الدار وتردد بين ان يكون في الجانب الشرقي أو الغربي منها ثم انهدم الجانب الغربي واحتمل تلف الحيوان، أو علم بإصابة العباء نجاسة خاصة وتردد محلها بين الطرف الأسفل والأعلى ثم طهر طرفها الأسفل، فلا يجري الاستصحاب ولا يكون من الاستصحاب الكلي لأن المتيقن امر جزئي حقيقي لا ترديد فيه وانما الترديد في المحل

(1) ويؤيد ما ذكرنا ما قال المحققون في كتاب الوديعة: انه لو قال عندي ثوب لفلان ومات ولم يكن في تركته إلا ثوب واحد وشك الورثة في بقاء الوديعة عنده لا يحكم بكون الثوب وديعة فان استصحاب بقاء الوديعة لا يثبت كون الثوب وديعة (منه دام ظله)
131

فهو أشبه باستصحاب الفرد المردد عند ارتفاع أحد فردي الترديد وليس من الاستصحاب الكلي ومنه يظهر الجواب عن الشبهة العبائية المشهورة.
ففيه ما لا يخفى، فان استصحاب الفرد المردد عبارة عن استصحابه على ما هو عليه من الترديد وهو غير جار في المقام وليس المقام شبيها به، بل المراد بالاستصحاب في المقام هو استصحاب بقاء الحيوان في الدار من غير تعيين محله، وكذا استصحاب بقاء النجاسة في الثوب من غير تعيين كونها في هذا الطرف أو ذاك ومن غير إرادة الجريان في الفرد المردد، ضرورة انه مع تطهير الطرف الأسفل من الثوب ينقطع الترديد ولا مجال لاستصحاب المردد، بل ما يراد استصحابه هو بقاء الحيوان في الدار والنجاسة في العباء وهذا استصحاب الكلي وكون الحيوان الخاص فردا جزئيا حقيقيا لا ينافي استصحاب الكلي كما لا يخفى، كما ان استصحاب الشخص
الخاص والجزئي الحقيقي كاستصحاب بقاء زيد في الدار وبقاء النجاسة المتحققة الخارجية الجزئية في الثوب مما لا إشكال فيه فإنه استصحاب الفرد المشكوك فيه ولا شباهة له باستصحاب الفرد المردد فسبيل الجواب عن مثل الشبهة العبائية هو ما عرفت.
في القسم الثالث من الكلي
واما الثالث - وهو ما إذا كان الشك في بقاء الكلي لاحتمال قيام فرد آخر مقام الفرد المعلوم ارتفاعه فيتصور على وجهين:
أحدهما - ما إذا كان منشأ الشك احتمال مقارنة فرد لوجود الفرد المعلوم بحيث احتمل اجتماعهما في الوجود.
وثانيهما - ما إذا كان منشأه احتمال حدوث فرد مقارنا لزوال الفرد المعلوم سواء كان الفرد الاخر من الجواهر أو الاعراض، فإذا احتمل مقارنة فرد من السواد في جسم مع الفرد الاخر في جسم آخر علم زواله فهو من القسم الأول، وإذا احتمل حدوث فرد منه مقارنا لزوال ذلك الفرد فهو من القسم الثاني، كما انه إذا احتمل تبدل الفرد الزائل بفرد آخر مباين له في الوجود فهو من القسم الثاني أيضا.
132

واما احتمال تبدل مرتبة من العرض الذي فيه عرض عريض ونقض وكمال بمرتبة أخرى فهو ليس من القسم الثالث رأسا، لأن شخصية الفرد وهويته باقية في جميع المراتب عقلا وعرفا فالحمرة الشديدة إذا صارت ضعيفة ليس تبدله من الكمال إلى النقص تبدل فرد بفرد آخر اما عقلا فواضح عند أهله، واما عرفا فلان المراتب عندهم في أمثالها من قبيل الحالات والشئون للشيء، فشدة الحمرة وضعفها من حالات نفس الحمرة مع بقائها ذاتا وتشخصا، فالاستصحاب في مثلها من القسم الأول لا الثالث «نعم» فيما إذا علم بوجوب شيء وقطع بزواله واحتمل تبدله بالاستحباب يكون من القسم الثالث لأنه من قبيل تبدل فرد من الطلب بفرد آخر مغاير له عرفا وعقلا.
ومما ذكرنا يتضح ان استثناء الشيخ الأنصاري من عدم جريان الاستصحاب في القسم الثاني من القسم الثالث ما يكون من قبيل السواد الضعيف والشديد من الاستثناء المنقطع كما ان التفصيل بين القسمين المتقدمين الذي اختاره مما لا وجه له، لأن مقارنة الفرد لفرد آخر وعدمها لا دخل لهما في بقاء الكلي وعدمه كما لا يخفى.
ثم انه قد يقال: بعدم جريان الاستصحاب فيه لأن العلم بوجود الفرد في الخارج انما يلازم العلم بوجود حصة من الكلي في ضمن الفرد الخاص، لا العلم بوجود الكلي والحصة الموجودة في ضمن الفرد الخاص تغاير الحصة الأخرى في ضمن فرد آخر ولذا قيل نسبة الكلي إلى الافراد نسبة الآباء المتعددة إلى الأبناء، ولا يخفى ان هذا ناش من عدم تعقل الكلي الطبيعي وكيفية وجوده وعدم الوصول إلى مغزى مراد القوم من ان نسبة الكلي إلى الافراد نسبة الآباء، ضرورة ان الكلي الطبيعي لدى المحققين موجود بتمام ذاته مع كل فرد من الافراد، فكل فرد في الخارج بتمام هويته عين الكلي، لا انه حصة منه ولا يعقل الحصص للكلي، فزيد إنسان لا نصف إنسان، أو جزء إنسان، أو حصة منه، فلا معنى للحصة أصلا، وبالجملة هذا الإشكال بمكان من الضعف يغنى تصور الكلي عن رده، والعجب ان بعض أعاظم العصر ادعى البداهة لما اختاره من الحصص للكلي مع كونه ضروري الفساد.
واما ما أفاده المحقق الخراساني رحمه الله من تعدد الطبيعي بتعدد الفرد وان الكلي
133

في ضمن فرد غيره في ضمن فرد آخر ولذا اختار عدم الجريان مطلقا فهو حق في باب الكلي الطبيعي عقلا كما حقق في محله، لكن جريانه لا يتوقف على الوحدة العقلية بل الميزان وحدة القضية المتيقنة والمشكوك فيها عرفا، ولا إشكال في اختلاف الكليات بالنسبة إلى افرادها لدى العرف.
وتوضيحه ان الافراد قد تلاحظ بالنسبة إلى النوع الذي هي تحته كزيد وعمرو بالنسبة إلى الإنسان، وقد تلاحظ بالنسبة إلى الجنس القريب كزيد وحمار بالنسبة إلى الحيوان، وقد تلاحظ بالنسبة إلى الجنس المتوسط أو البعيد، وقد تلاحظ بالنسبة إلى الكلي العرضي كأفراد الكيفيات والكميات التي هي مشتركة في العروض إلى المحل، ولا يخفى ان الافراد بالنسبة إلى الكليات مختلفة عرفا فإذا شك في بقاء نوع الإنسان إلى الف سنة يكون الشك في البقاء عرفا مع تبادل الافراد لكن العرف يرى بقاء النوع مع تبدل افراده، وقد يكون الجنس بالنسبة إلى افراد الأنواع كذلك، وقد لا يساعد العرف كأفراد الإنسان والحمار بالنسبة إلى الحيوان فان العرف لا يرى الإنسان من جنس الحيوان وقد لا يساعد في افراد الأجناس البعيدة وقد يساعد، وبالجملة الميزان وحدة القضية المتيقنة والمشكوك فيها عرفا ولا ضابط لذلك.
ولا يبعد ان يقال: ان الضابط في حكم العرف بالبقاء في بعض الموارد وعدم الحكم في بعض انه قد يكون المصداق المعلوم امرا معلوما بالتفصيل أو بالإجمال لكن بحيث يتوجه ذهن العرف إلى الخصوصيات الشخصية ولو بنحو الإشارة ففي مثله لا يجري الاستصحاب لعدم كون المتيقن الكلي المشترك، وقد يكون المعلوم على نحو يتوجه العرف إلى القدر الجامع ولا يتوجه إلى الخصوصيات كما إذا علم ان في البيت حيوانات مختلفة ويحتمل مصاديق اخر من نوعها أو جنسها، ففي مثله يكون موضوع القضية هو الحيوان المشترك وبعد العلم بفقد المقدار المتيقن واحتمال بقاء الحيوان بوجودات أخر يصدق البقاء، ففي مثل الحيوان المردد بين الطويل والقصير في القسم الثاني لعله كذلك لأجل توجه النفس بواسطة التردد إلى نفس الطبيعة المشتركة بزعمه فيصدق البقاء.
واما ما في ظاهر كلام الشيخ الأعظم وصريح بعض الأعاظم من ان الفرق بين القسم
134

الثاني والثالث ان في الثالث لا يحتمل بقاء عين ما كان دون الثاني لاحتمال بقاء عين ما كان موجودا، فخلط بين احتمال بقاء ما هو المتيقن بما انه متيقن الذي هو معتبر في الاستصحاب وبين احتمال بقاء الحيوان المحتمل الحدوث، ففي الآن الثاني وان احتمل بقاء حادث لكن هو احتمال بقاء ما هو محتمل الحدوث لا معلومه «نعم» لو أضيف الحدوث والبقاء إلى نفس الطبيعة بلا إضافة إلى الخصوصيات يكون الشك في بقاء المتيقن في كلا المقامين الا ان يتشبث بحكم العرف بنحو ما ذكرنا آنفا، والمسألة محتاجة إلى مزيد تأمل لعدم الخلو من الخدشة والإشكال والنقض، وبما ذكرنا يجمع بين ما قلنا مرارا بان كثرة الإنسان بكثرة الافراد عرفي كما هو عقلي، وبين ما قلنا من جريان الاستصحاب في القسم الثاني وفي بعض موارد القسم الثالث وعليك بالتأمل التام في موارد الجريان وعدمه (1)

(1) وقد يتخيل انه على فرض صحة جريان الاستصحاب في القسم الثالث يلزم منه الحكم بعدم جواز مس كتابة القرآن لمن احتمل الجنابة في حال النوم وتوضأ بعد الانتباه لأنه لو قلنا بجريان استصحاب الحدث في حقه كان اللازم ترتيب الأحكام المشتركة بين الحدث الناشئ من النوم والجنابة عليه ما دام لم يغتسل كعدم جواز مس المصحف مع انه لا يمكن الالتزام به واما إذا قلنا بعدم جريانه فيه جاز له فعل كل مشروط بالطهارة ولا يجب عليه الغسل هذا.
ولكنه يندفع بان الجامع بين الحدثين لم يكن مجعولا من قبل الشارع ولم يكن موضوعا ذا أثر شرعي حتى يستصحب ويترتب الآثار المشتركة بينهما عليه بل كلما يتصور انما هو جامع انتزاعي عقلي ولا يترتب عليه أثر شرعي، ومن هذا يدفع توهم استصحاب الوجوب الجامع بين وجوب صلاة الظهر ووجوب صلاة الجمعة لعدم جعل الشارع وجوبا جامعا بين الوجوبين ولم يكن للجامع الانتزاعي أثر شرعي حتى يستصحب كما لا يخفى، واما اشتراك الحدث الأصغر والأكبر في بعض الأحكام لا يوجب الحكم بان الحدث الجامع بين الحدثين موضوع للحكم الشرعي الا ترى ان ما ورد في روايات باب الوضوء من عد البول والغائط والريح والنوم عللا أربع مع اشتراكهم في الأثر.
وقد يقال في دفعه: ان في المثال خصوصية تقتضي عدم وجوب الغسل وجواز فعل كل مشروط بالطهارة، لا ان الاستصحاب في المثال ليس من القسم الثالث وذلك لأن قوله تعالى:
إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم إلى قوله: وان كنتم جنبا فاطهروا - يدل على وجوب الوضوء على من كان نائما ولم يكن جنبا، فقد أخذ في موضوع وجوب الوضوء قيد وجودي وهو النوم وقيد عدمي وهو عدم الجنابة وهذا القيد العدمي وان لم يذكر في الآية الشريفة صريحا الا انه من مقابلة الوضوء للغسل والنوم للجنابة يستفاد منها ذلك فان التفصيل بين النوم والجنابة والوضوء والغسل قاطع للشركة - بمعنى انه لا يشارك الغسل للوضوء ولا الوضوء للغسل كما يستفاد نظير ذلك من آية الوضوء والتيمم فان قوله تعالى: وان لم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا - يدل على ان وجدان الماء قيد في موضوع وجوب الوضوء وان لم يذكر في آية الوضوء صريحا الا انه من مقابلة الوضوء للتيمم يستفاد ذلك لأن التفصيل قاطع للشركة - إلى ان قال: انه يستفاد من الآية الشريفة كون الموضوع لوجوب الوضوء مركبا من النوم وعدم الجنابة فيكون المثال المتقدم من صغريات الموضوعات المركبة التي قد أحرز بعض اجزائها بالوجدان وبعضها الاخر بالأصل فان النائم الذي احتمل الجنابة قد أحرز جزئي الموضوع لوجوب الوضوء وهو النوم بالوجدان وعدم الجنابة بالأصل فيجب عليه الوضوء لما عرفت من انه لا يجتمع على المكلف وجوب الوضوء والغسل معا لأن سبب وجوب الوضوء لا يمكن ان يجتمع مع سبب وجوب الغسل فان من اجزاء سبب وجوب الوضوء عدم الجنابة فلا يعقل ان يجتمع مع الجنابة التي هي سبب وجوب الغسل فإنه يلزم اجتماع النقيضين.
ولكنه يقال أولا: ان ما قاله من ان التفصيل بين النوم والجنابة والوضوء والغسل في الآية الشريفة قاطع للشركة في غير محله لأن من الواضح ان التفصيل في قولنا: إذا جاءك زيد فأكرمه وإذا جاءك عمر وفأهنه لا يدل على ان المجيء الذي سبب في وجوب إكرام زيد مقيد بعدم مجيء عمرو - أو ان موضوع الإكرام مركب من مجيء زيد وعدم مجيء عمرو وهكذا،
، الأمر بالنسبة إلى إهانة عمرو بل التفصيل هنا يدل على ان مجيء زيد سبب مستقل لوجوب إكرامه وان مجيء عمرو سبب مستقل آخر لوجوب إهانته فإذا اجتمع السببان يؤثر كل منهما في مسببه و (عليه) فمجرد ذكر الغسل عقيب الوضوء والجنابة عقيب النوم لا يدل على ما ذكره رحمه الله، على ان العطف في الآية الشريفة بالواو لا ب (أو) شاهد على ما قلنا فعلى هذا لو لم يكن دليل غير هذه الآية على اكتفاء الغسل عن الوضوء لكنا نحكم بان الواجب عند اجتماع النوم والجنابة بالجمع بين الوضوء والغسل - وثانيا - ان ما استفاده من مقابلة آية الوضوء والتيمم من ان وجدان الماء قيد في موضوع وجوب الوضوء غير وجيه لأنه لا يمكن إيجاد الوضوء بدون الماء عقلا لا بدلالة الآية.
وثالثا - لو سلمنا ان عدم الجنابة أخذ في موضوع وجوب الوضوء وانه مركب من جزءين وان أحد جزئي الموضوع في المثال قد أحرز بالوجدان والجزء الاخر بالأصل ولكن لا نسلم ان اجتماع النقيضين في المثال يوجب عدم جريان استصحاب الحدث في حقه لأن امتناع اجتماع النقيضين انما يكون في الأمور الواقعية لا الأمور التعبدية والاعتبارية كيف وقد استصحبوا الجامع في القسم الثاني من استصحاب الكلي مع ان أحد الفردين محكوم بالزوال وجدانا والاخر بالأصل، على ان الحكم بوجود الجامع وعدم الحكم بخصوصية أحد الفردين يكون حكما باجتماع النقيضين لأن الجامع لا يخلو منهما فعلى هذا لا يلزم من استصحاب الحدث تناقض بحسب مقام التعبد فتأمل - فالحق في الجواب ما ذكرناه -
135

تذييل
حول أصالة عدم التذكية
انا وان استقصينا البحث في مبحث البراءة في أصالة عدم التذكية التي تمسك بها الاعلام في نجاسة الحيوان الذي شك في تذكيته وحرمة لحمه لكن لما بقي بعض
136

الفوائد المهمة التي لا بد من تحقيقها فلا محيص عن التعرض لها تبعا للشيخ قدس سره.
فنقول: قد ذكرنا سابقا ان الشبهة اما حكمية أو موضوعية والحكمية اما ان تكون لأجل الشك في قابلية الحيوان
للتذكية لأجل الشبهة المفهومية كما لو شك في صدق مفهوم الكلب على حيوان أو لأمر آخر كالشك في قابلية المتولد من الحيوانين، واما ان تكون للشك في شرطية شيء للتذكية أو مانعية شيء عنها كالجلل أو غير ذلك، وللشبهة الموضوعية أقسام كالشك في كون حيوان كلبا أو غنما لأجل الشبهة الخارجية أو الشك في تحقق التذكية أو كون لحم مأخوذا مما هو معلوم التذكية أو معلوم عدمها إلى غير ذلك، وقلنا ان التذكية بحسب التصور يمكن ان تكون امرا بسيطا متحصلا
137

من الأمور الخمسة أو منتزعا عنها، ويمكن ان تكون مركبة خارجية بمعنى كون نفس الأمور الخمسة أو الستة هي التذكية، ويمكن ان تكون مركبة تقييدية أو غير ذلك فحينئذ إذا شك في التذكية لأجل الشك في قابلية الحيوان لها فهل تجري أصالة عدم القابلية وتحرز الموضوع أم لا؟ قد يقال: بجريانها لأن القابلية من العوارض التي تعرض الحيوان في الوجود الخارجي وليست من عوارض الماهية أو لوازمها قبل تحققها فيمكن ان يشار إلى الحيوان الموجود بان هذا الحيوان قبل وجوده لم يكن قابلا للتذكية وبعد تلبسه بالوجود شك في صيرورته قابلا لها فيستصحب عدمها، وكذا الحال في المرأة التي يشك في قرشيتها وكذا ساير الاعدام الأزلية مما يكون الحكم لموضوع مفروض الوجود، هذا محصل ما أفاده شيخنا العلامة أعلى الله مقامه.
في تحقيق القضايا السالبة
والتحقيق عدم جريان الأصل المذكور وتوضيحه يحتاج إلى تحقيق القضايا السلبية من جهتين إحداهما ما مر سالفا من الفرق بين القضايا الموجبة والسالبة والمعدولة من ان القضية الموجبة المركبة تكون حاكية عن موضوع ومحمول ونسبة منتزعة من حصول المحمول للموضوع ولها نحو تحقق ولو بتبع الطرفين، وكذا المعدولة المحمول حاكية عن موضوع محقق ومحمول له نحو تحقق كالأعدام والملكات ولنسبته إلى الموضوع نحو تحقق في خصوص المركبات منها، وفي حكم القضية المعدولة القضية الموجبة السالبة المحمول كقولنا زيد هو الذي ليس له القيام مما لو حظ اتصاف الموضوع بالمحمول الذي هو قضية سالبة تحصيلية وكذا السالبة المحصلة لسلب المحمول فقط، لا الأعم منه ومن سلب الموضوع ولا بسلب الموضوع.
هذا كله في القضايا الحملية المؤولة كقوله: زيد على السطح أو له القيام، واما الحمليات الغير المؤولة الحاكيات عن الهوهوية فلا نسبة فيها ولا كون رابط لا واقعا وفي نفس الأمر لعدم إمكان النسبة والربط بين الشيء وما هو هو، ولا في القضية المعقولة
138

والملفوظة لكونهما حاكيتين عن الواقع منطبقتين عليه نعلا بالنعل، كما حققنا ذلك في مباحث الألفاظ فراجع واما القضية السالبة البسيطة المحصلة سواء كانت بنحو الهلية البسيطة كزيد ليس بموجود، أو المركبة السالبة بسلب الموضوع كالعنقاء ليس بأبيض، فليس لموضوعها ومحمولها ونسبتها تحقق أصلا أي لا تحكى القضية عن موضوع ومحمول ونسبة بل يدرك العقل بطلان الموضوع ولا شيئيته بتبع صورة إدراكية موجودة في الذهن فيحكم ببطلانه أو بطلان اتصافه بشيء بحسب الواقع من غير ان يكون كشف عن واقع محقق، وسيأتي بيان مناط الصدق والكذب في القضايا.
والجهة الأخرى ان النسبة السلبية ليست نسبة برأسها مقابلة للنسبة الإيجابية كما عليه المتأخرون من أهل النظر، لأن حرف السلب آلة لسلب المحمول عن الموضوع لا لنسبته إليه، فمفاد السوالب ليس الا سلب المحمول عن الموضوع وحرف السلب ليس إلا آلة لسلبه عنه، فإذا لو حظ الواقع يرى انه ليس بين المحمول والموضوع نسبة أي لا يكون المحمول حاصلا للموضوع فلا نسبة بينهما فإنها منتزعة من حصوله له، والقضية المعقولة أيضا تتعقل على نعت الخارج أي يكون مفادها سلب الربط بينهما، لا ربط السلب، ولا ربط هو السلب، وكذا مفاد القضية الملفوظة، فالقضية السلبية لا تشتمل على النسبة رأسا كما انه في الواقع ليس بين الموضوع والمحمول ربط ونسبة، فالقضية السالبة مفادها سلب الربط والا فان كان مفادها ربط السلب تصير معدولة، وان كان مفادها الربط بينهما بالنسبة السلبية أي يكون السلب هو الربط يخرج حرف السلب عما هو عليه من كونه آلة لسلب المحمول عن الموضوع مع ان لازم ذلك أي الانتساب السلبي اتصاف الموضوع والمحمول بالسلب، فيكون مفاد القضية معنونية الموضوع بسلب المحمول عنه ومعنونية المحمول بسلبه عنه، فتصير القضية السالبة مشتملة على نسبة إيجابية مع انه خلاف الضرورة وخلاف الواقع الذي تكون القضية كاشفة عنه، مع ان القضية موجبة كانت أو سالبة لا بد وان تكون حاكية عن نفس الأمر كاشفة عن الواقع فإذا لم يكن في الواقع ونفس الأمر ربط ونسبة بين الموضوع والمحمول لا بد وان تكون
139

القضية حاكية عن سلب الربط والنسبة، ولا معنى لاشتمالها على ربط حتى يقال ان النسبة السلبية نسبة أيضا.
فان قلت: لازم ما ذكرت عدم ورود الإيجاب والسلب على شيء واحد لأن لازمه ورود السلب على النسبة الإيجابية، فمفاد القضية الموجبة إثبات المحمول للموضوع ومفاد القضية السالبة قطع هذه النسبة، فالإثبات يرد على المحمول والسلب على النسبة وهو كما ترى، وأيضا لازم ذلك خلو القضية عن النسبة مع انها متقومة بها ولا تكون القضية قابلة للصدق والكذب الا بالنسبة.
قلت: إماما ذكرت من عدم ورود الإيجاب والسلب على شيء واحد وورود السلب على النسبة الإيجابية فممنوع جدا لما عرفت من ان مفاد القضية الموجبة المؤولة إثبات المحمول للموضوع أو لا وبالذات ولازمه الاخبار بتحقق النسبة بينهما، وان شئت قلت إثبات المحمول للموضوع ملحوظ باللحاظ الاسمي، وتحقق النسبة بينهما ملحوظ باللحاظ الحرفي، وكذا في القضية السالبة يكون سلب المحمول عن الموضوع أولا وبالذات ولازمه قطع الربط، والاخبار عن سلب النسبة بينهما لا إثبات النسبة التي هي العدم، ولا نسبة الشيء العدمي فإنهما خلاف الضرورة والوجدان مع ان العدم ليس بشيء حتى يقع به الربط بين الشيئين ويخبر المتكلم به.
نعم يمكن لحاظ العدم بتبع الوجود والاخبار عنه لكن ليس مفاد القضية السالبة كون العدم ربطا أو الموضوع متصفا به وهو عنوان له، وبالجملة ليس معنى وقوع السلب على الربط ان مفاد القضية أولا وبالذات هو سلب النسبة حتى تكون النسبة ملحوظة بالمعنى الاسمي بل المراد منه ان حرف السلب يسلب المحمول عن الموضوع ولازمه سلب الانتساب وقطع الربط، كل ذلك بحسب مقام الاخبار والإثبات، فلا يلزم ان يكون الربط موردا، للسلب حتى يكون الاعتبار في القضية السالبة مخالفا للقضية الموجبة بل مفاد القضية السالبة نفي المحمول عن الموضوع كما ان مفاد القضية الموجبة ثبوته له.
ومما ذكرنا يتضح انه لا يلزم في القضية السالبة لحاظ ثبوت المحمول للموضوع ثم سلبه عنه «نعم» لا بد من لحاظ المحمول والموضوع في سلبه عنه كما في إثباته له واما لزوم
140

خلو القضية عن النسبة فليس بتال فاسد فان القضية على التحقيق لا تتقوم بالنسبة وما يقال في مقام الفرق بين الاخبار والإنشاء: بان الاخبار ما يكون لنسبته خارج تطابقه أو لا تطابقه كلام مسامحي معلوم البطلان حتى في كثير من القضايا الموجبة فضلا عن السوالب كالهليات البسيطة فإنه في قولنا زيد موجود أو الوجود موجود أو زيد زيد لا يمكن ان يكون للنسبة خارج للزوم تحقق الماهية في قبال الوجود ولزوم توسط النسبة بين الشيء
ونفسه وكذا في الحمليات الغير المؤولة التي يكون مفادها الهوهوية، وفي القضايا السالبة مطلقا لا تكون نسبة ولا للنسبة خارج بالضرورة لما عرفت ان مفادها قطع النسبة وسلب الربط، فما اشتهر بينهم ان القضية متقومة بالنسبة مما لا أصل له وان وقع في كلام أهل التحقيق والنظر لا بد وان يحمل على قسم من الهليات المركبة الموجبة فالقضية قول مفادها اما الهوهوية أو ثبوت شيء لشيء أو سلبه عنه وذلك في بعض الهليات المركبة، وثبوت الشيء وسلبه، وهو في البسائط، ومناط قابليتها للصدق والكذب هو هذا الإثبات والسلب، فنفس تصور الموضوع أو المحمول أو النسبة أو سلبها لا يوجب صيرورة القضية قضية، واما التصديق بان هذا هذا أو ليس بهذا موجب لتحقق القضية المعقولة واللفظ الحاكي عنه الدال عليه هو القضية اللفظية وقد عرفت كيفية حكايتها عن الواقع.
في بيان مناط الصدق والكذب في القضايا
ان قلت: فما المناط في صدق القضايا وكذبها إذا لم تكن للسالبة نسبة وواقعية فهل الصدق الا المطابقة للواقع والكذب عدمها؟ قلت: نعم الصدق هو المطابقة للواقع والكذب عدمها لكن لا يلزم منه ان يكون للكواذب واقعية وللأعدام حقائق، ولا لقطع النسبة الواقعية حكاية عن واقع محقق في الخارج، وتوضيحه: ان الواقع عبارة عن نظام الوجود ذهنا وخارجا بحيث لا يشذ عنه حقيقة من الحقائق وموجود من الموجودات فإذا أخبر بان زيدا قائم فاما ان يكون مطابقا لصفحة الكون ونظام الوجود فهو صدق والا فلا وإذا قيل شريك الباري ليس بموجود يكون مطابقا للواقع لأن صفحة الكون خالية عنه والاخبار مطابق له، وإذا
141

قيل انه موجود يكون مخالفا للواقع لأن صفحة الكون وصحيفة الوجود خالية عنه وقد أخبر بوجوده فلا بد لتشخيص الصدق والكذب من مقايسة الخبر لصفحة الوجود ونظام الكون من مبدأ الوجود إلى منتهاه ذهنا وخارجا، فكل اخبار يكون مطابقا لصفحة الكون وصحيفة الوجود بان يكون الاخبار عن تحقق شيء موجود فيها أو عدم شيء معدوم فيها يكون صدقا مطابقا للواقع والا فلا، حتى ان مثل قولنا الإنسان حيوان ناطق الحاكي عن ذاتيات الماهية يكون مناط صدقه مطابقته لنظام الوجود ذهنا أو خارجا، فان الإنسان في تقرره الذهني وتحققه الخارجي حيوان ناطق وما ليس بموجود مطلقا ليس بشيء حتى يثبت له لازم أو جزء ولا يمكن ان يخبر عنه مطلقا وما أخبر عنه يكون له نحو تحقق ولو ذهنا.
فتحصل مما ذكرنا انه ليس مناط الصدق في القضايا السالبة مطابقتها للواقع بمعنى ان يكون في الواقع شيء مطابق له بل المناط هو ما ذكرنا، وقد تكون القضية الموجبة في حكم القضية السالبة لخصوصية في محمولها كقولنا زيد معدوم وشريك الباري ممتنع أو باطل فإنها ترجع إلى السوالب ويكون حكمها حكمها، فقولنا شريك الباري ممتنع في قوة شريك الباري ليس بموجود بالضرورة. إذا عرفت ما ذكرنا يتضح لك عدم جريان استصحاب عدم قابلية الحيوان فيما إذا شك في قابليته للتذكية واستصحاب عدم القرشية فيما إذا شك فيها، فان الموضوع لعدم ورود التذكية على الحيوان هو الحيوان الغير القابل بنحو الإيجاب العدولي أو الحيوان المسلوب عنه القابلية بنحو السالبة المحصلة مع فرض وجود الموضوع وكون السلب بسلب المحمول أو الموجبة السالبة المحمول، واما السلب التحصيلي الأعم من السلب بسلب الموضوع فليس موضوعا للحكم، فان عدم كون الحيوان قابلا صادق في حال معدوميته لكنه ليس موضوعا لحكم بالضرورة فموضوع الحكم لا يخلو من أحد الاعتبارات الثلث المتقدمة وكذا الحال في المرأة التي شك في قرشيتها فان ما ليست بقرشية بنحو السلب التحصيلي الأعم من سلب الموضوع ليست موضوعة للحكم بالحيضية فحينئذ نقول: ان الحيوان قبل تحققه لا يمكن ان يتصف بشيء سواء كان معنى عدميا أو وجوديا لما
142

عرفت ان القضية السالبة لا يكشف عن حيثية واقعية وهي سلب محض لا اتصاف بالسلب ولا يمكن ان يكون السلب نعتا للمعدوم لأن المعدوم لا شيئية له حتى يتصف بشيء فأصالة عدم القرشية والقابلية كأصالة عدم كون المرأة الموجودة قرشية والحيوان الموجود قابلا للتذكية مما لا أصل لها لأن الشيء قبل وجوده لا يتصف بشيء وجودي أو عدمي ولا يسلب منه بنحو السالبة المحققة الموضوع شيء، بل هذا الحيوان وهذه المرأة قبل وجودهما ليسا بشيء وليس ذاتهما ذاتهما الا في عالم التخيل ووعاء الوهم، فالقضية المتيقنة والمشكوك فيها ليستا بواحدة ومع فرض وحدتهما لا يكون الموضوع عدم الحيوان قابلا بالسلب التحصيلي الأعم من سلب الموضوع كما عرفت وأصالة عدم الحيوان قابلا بالسلب التحصيلي الأعم لا يثبت كون هذا الحيوان غير قابل ولا هو الذي لا يكون قابلا بنحو الاتصاف بالسلب وهذا واضح بل ولا هذا الحيوان ليس بقابل بنحو السلب التحصيلي مع فرض وجود الموضوع لأن السلب التحصيلي أعم والموضوع للحكم أخص منه والأعم في حال الوجود وان كان منحصرا مصداقه بالأخص لكن إثبات الأخص من استصحاب الأعم مثبت.
لا يقال: يمكن ان يكون الموضوع مركبا من وجود الحيوان وعدم قابليته بنحو العدم المحمولي لا الرابط فيكون من الموضوعات المركبة المحرزة بالوجدان والأصل فيقال: هذا الحيوان موجود بالوجدان وعدم قابليته بنحو العدم المحمولي محرز بالاستصحاب.
فإنه يقال: مضافا إلى انه مجرد فرض لا واقعية له: ان العدم بهذا المعنى لا يعقل ان يكون جزء للموضوع فإنه بطلان صرف ولا شيئية محض ولا يمكن تعقله الا بالحمل الأولى. وما كان حاله كذلك لا يمكن ان يجعل موضوعا أو يؤخذ فيه، فموضوع رؤية الدم إلى خمسين سنة لا يمكن ان تكون المرأة الموجودة وعدم محض يعبر عنه بعدم القرشية عدما محموليا فلا بد وان تكون السالبة المحصلة المحققة الموضوع لا نفس السلب بما انه سلب ولا الأعم من سلب الموضوع لأنه يؤدى إلى اعتبار المتناقضين في موضوع الحكم فان اعتبار وجود المرأة وعدم قرشيتها الأعم من سلب الموضوع
143

اعتبار النقيضين.
ثم ان ما ذكرنا من عدم جريان أصالة عدم القابلية انما يصح إذا قلنا ان القابلية كالقرشية من الحيثيات الواقعية التكوينية واما إذا قلنا بأنها من الأحكام الوضعية الجعلية يمكن إجراء أصالة عدم جعل القابلية للحيوان فإذا شك في قابلية الذئب للتذكية تجري أصالة عدم جعل الشارع القابلية لهذا العنوان بنحو القضية الحقيقية فيحرز عدم قابليته.
ثم ان أصل عدم القابلية على فرض جريانه يغنى عن أصل عدم التذكية ويكون حاكما عليه وان قلنا بان التذكية امر بسيط محصل من الأمور الستة، لأنه على هذا الفرض تكون محصلية الأمور الستة ومسببيتها لها شرعية فيكون الترتب شرعيا، ولا إشكال في ان الآثار الشرعية تترتب على المحصلات بالتعبد بوجود محصلاتها ويحكم بعدم الترتب مع التعبد بعدم المحصلات من غير شائبة المثبتية - تأمل.
هذا كله حال أصالة عدم القابلية ومع عدم جريانها لا بد من التمسك في حرمة لحم الحيوان ونجاسته بأصالة عدم التذكية.
في حال أصالة عدم التذكية
فنقول: ما ذكرنا من الاعتبارات في عدم القابلية يأتي في عدم التذكية مع شيء زائد فان عنوان المذكى المأخوذ في موضوع الحلية والطهارة أو الطهارة فقط انما هو امر وجودي هو إزهاق الروح بكيفية خاصة أي فري الأوداج الأربعة متوجها إلى القبلة ذاكرا عليه اسم الله وكون الذابح مسلما وآلة الذبح حديدا. ومقابل هذا العنوان الذي هو موضوع الحرمة والنجاسة يمكن ان يكون عنوانا وجوديا هو زهوق الروح بكيفية أخرى غير الكيفية المأخوذة في التذكية اية كيفية كانت، ويمكن ان يكون عنوانا إيجابيا بنحو الإيجاب العدولي أو الموجبة السالبة المحمول أو سلبيا بنحو السالبة المحصلة الأعم من سلب الموضوع أو السالبة بسلب المحمول، ويمكن ان يكون مركبا من زهوق الروح وعدم تحقق الكيفية الخاصة بنحو العدم المحمولي.
144

هذا بحسب التصور لكن بعض الفروض باطل ككون الموضوع عدم التذكية أو عدم الزهوق بنحو السالبة المحصلة ولو بسلب الموضوع، ضرورة ان هذا الأمر السلبي لا يمكن ان يكون موضوعا للحكم ولو في حال وجود الحيوان فالموضوع للحرمة والنجاسة هو الحيوان المتحقق الذي زهق روحه لا بكيفية خاصة، لا سلب زهوق الروح بكيفية خاصة ولو بسلب تحقق الحيوان أو السلب الصادق على الحيوان في حال حياته، فالمذكى ومقابله هو الحيوان الذي زهق روحه اما بكيفية خاصة فيكون موضوعا للحكم بالطهارة والحلية أو بغيرها فيحكم بالنجاسة وعدم الحلية، فعدم تذكية الحيوان أو عدم كون الحيوان مذكى أي هذا العنوان السلبي بما انه عنوان سلبي ليس موضوعا لحكم لا الحرمة والنجاسة ولا عدم الحلية وعدم الطهارة.
نعم ليس له الحلية والطهارة بنحو الليس الأزلي والقضية السالبة الموضوع، ومعلوم ان هذا ليس بحكم، بل عدم حكم وتشريع، وقد عرفت حال العدم المحمولي بنحو جزء الموضوع في احتمالات أصالة عدم القابلية فلا محيص الا ان يكون الموضوع للحرمة والنجاسة هو الحيوان الذي زهق روحه، فحينئذ اما ان يعتبر عدم الكيفية الخاصة بنحو الإيجاب العدولي أي زهوقا بغير الكيفية الخاصة أو بنحو الموجبة السالبة المحمول أي زهوقا متصفا بأنه لم يكن بالكيفية الخاصة أو سالبة محصلة بسلب المحمول مع فرض وجود الموضوع وهذه الاحتمالات مع كونها معقولة معتبرة عند العقلاء على إشكال في الأخير تعرضنا له في العام والخاص يمكن تنزيل الآيات والاخبار على واحد منها.
فحينئذ نقول ان أصالة عدم التذكية غير جارية مطلقا، اما إذا كان الموضوع زهوق الروح بكيفية وجودية أخرى أو بنحو الإيجاب العدولي أو الموجبة السالبة المحمول فواضح، ضرورة ان أصالة عدم زهوق الروح بالكيفية الخاصة لا يثبت العنوان الثبوتي ولا الاتصاف بأمر سلبي أو بسلب المحمول عنه فان كل ذلك عناوين يكون إثباتها للموضوع من اللوازم العقلية لأصالة عدم التذكية، واما إذا كان عدم التذكية زهوق الروح مسلوبا عنه الكيفية الخاصة بنحو السالبة المحصلة بسلب المحمول فلان نفس هذا العنوان
145

أي الزهوق مع سلب الكيفية الخاصة بسلب المحمول مع فرض وجود الموضوع لم تكن له حالة سابقة وعدم الزهوق بكيفية خاصة بنحو السلب التحصيلي الأعم من سلب الموضوع أو عنوان السلب المحمولي فليس موضوعا للحكم بل الموضوع هو الزهوق المفروض الوجود بلا كيفية خاصة، واستصحاب عدم الزهوق بالكيفية الخاصة لا يثبت ان الزهوق المتحقق ليس بالكيفية الخاصة.
وبالجملة ان الحيوان في حال حياته ليس مذكى ولا ما يقابله أي الموضوع الذي تعلق به النجاسة والحرمة وان صدق عليه انه ليس بمذكى ولو بسلب الموضوع الذي هو زهوق الروح ولكن هذا الأمر السلبي ليس موضوعا للحكم لا في حال حياته ولا بعد زهوق روحه بل الموضوع هو زهوق روحه بلا كيفية خاصة بنحو سلب المحمول وعدم زهوق الروح بالكيفية الخاصة وان كان صادقا عليه حال الحياة وبعد الموت لكن لا يثبت به زهوق الروح بلا كيفية خاصة بنحو السلب عن الموضوع المفروض الوجود الا بالأصل المثبت.
ومما ذكرنا يتضح النظر في كلمات كثير من الأعاظم منهم الشيخ الأعظم قدس سره حيث يظهر منه التفصيل بين ما إذا رتبت الأحكام على مجرد عدم التذكية بنحو السالبة المحصلة وبين كونه بنحو الموجبة السالبة المحمول، ومنهم المحقق الخراساني رحمه الله حيث يظهر منه في تعليقته الفرق بين كون المذكى ومقابله من قبيل الضدين أو من قبيل العدم والملكة فذهب إلى ان أصالة عدم التذكية جارية حينئذ وموجبة للحكم بان الحيوان غير مذكى فيكون من قبيل الموضوعات المركبة أو المقيدة المشكوك فيها بجزئها أو قيدها فيحرز بالأصل.
كلام المولى الهمداني وجوابه
ومنهم المولى الهمداني في مصباحه وتعليقته حيث فصل بين الآثار التي رتبت على عدم كون اللحم مذكى كعدم الحلية وعدم جواز الصلاة فيه وعدم طهارته من الأحكام العدمية المنتزعة من الوجوديات التي تكون التذكية شرطا في ثبوتها فيقال:
146

الأصل عدم تعلق التذكية بهذا اللحم الذي زهق روحه فلا يحل أكله ولا الصلاة فيه ولا استعماله فيما يشترط بالطهارة، وبين الآثار المترتبة على كونها غير مذكى كالاحكام الوجودية الملازمة لهذه العدميات كحرمة أكله ونجاسته وتنجيس ملاقيه وغيرها من الأحكام المتعلقة على عنوان الميتة أو غير المذكى، وقال في خلال كلامه في تقريب مدعاه ما يظهر من الشيخ أيضا وهو: ان الحلية وسائر الأحكام الوجودية مما تكون مترتبة على سبب حادث تصير منتفية بانتفاء سببها فالموت المقرون بالشرائط امر مركب سبب للأحكام وهو امر حادث مسبوق بالعدم فأصالة عدمه مما يترتب عليها عدم الحلية والطهارة، فعدم حلية اللحم من الذي زهق روحه من آثار عدم حدوث مما يؤثر في حليته بعد الموت لا من آثار كون الموت فاقدا للشرائط حتى لا يمكن إحرازه بالأصل انتهى بتوضيح وتلخيص منا.
وفيه مغالطة خفية، لأن سلب الموت المقرون بالشرائط الأعم من سلب الحيوان وسلب الموت وسلب الاقتران بالشرائط لازمه سلب حلية اللحم وطهارته الأعم من سلب اللحم كما في حال عدم الحيوان بل في حال حياته، لأن اللحم غير الحيوان ومن سلب الحلية والطهارة عنه، وهذا سلب بنحو السلب المحمولي ولازمه العقلي سلب الرابط في حال تحقق اللحم أي بعد زهوق روح الحيوان، فأصالة عدم سبب حلية اللحم لا يثبت ان اللحم ليس بحلال الا بالأصل المثبت لأن لازم أصالة عدم سبب الحلية أي عدم الموت المقرون بالشرائط انتفاء حلية لحم الحيوان الأعم من انتفاء الحيوان واللحم وإذا استمر هذا العدم الأزلي إلى زمان وجود اللحم يكون لازمه صدق السالبة المحصلة بسلب المحمول وهو لازم عقلي.
هذا مضافا إلى إمكان منع كون الطهارة والحلية وجواز الصلاة في شيء من الأحكام المجعولة المسببة عن زهوق الروح بالكيفية الخاصة بل المجعول المحتاج إلى السبب هو النجاسة والحرمة ومانعية الميتة من الصلاة في اجزائها على إشكال في حلية الأكل، الا ترى ان الحيوان القابل للتذكية حين حياته يكون طاهرا بلا إشكال ويجوز الصلاة معه لو فرض حمله بل التلبس به، ولا دليل على عدم حلية أكله
147

من جهة كونه غير مذكى بل الحرمة لو كانت تكون من جهة كونه مما لا يؤكل ومن الخبائث مع ان الموت المقرون بالشرائط مسلوب منه، ومن هنا قد يقوى في النظر أن التذكية ليست سببا للطهارة وحلية الأكل وجواز
الصلاة فيه بل انما هي دافعة لما هو سبب للنجاسة والحرمة وعدم جواز الصلاة فيه، كما يشهد له الأدلة المتفرقة في أبواب النجاسات وموانع الصلاة.
وبالجملة ليست التذكية سببا للطهارة والحلية وجواز الصلاة، بل عدم التذكية المساوق لكون الحيوان ميتة أي زهوق الروح بخصوصية غير الخصوصيات المعهودة سبب لمقابلاتها، فأصالة عدم سبب الطهارة والحلية وجواز الصلاة مما لا أصل لها بل لنا ان نقول: انه على فرض كون تلك الأحكام مجعولة مسببة عن سبب، يمكن إجراء أصالة بقاء جامع السبب المؤثر في الطهارة وحلية الأكل وجواز الصلاة فيه تأمل (1).
ومنها ما ذكره بعض أعاظم العصر رحمه الله وقد مر في مباحث البراءة كلامه وما يرد عليه. هذا حال الشبهات الحكمية من جهة الشك في القابلية ولا يهمنا التعرض لسائر الشبهات الحكمية لوضوح حكمها غالبا.
في الشبهات الموضوعية
واما الشبهات الموضوعية فلها صور كثيرة يرد على جميعها الشبهة السيالة التي مر ذكرها، واختص بعضها بشبهة زائدة.
فمنها الشك في تذكية حيوان من جهة الشك في حصول ما هو المعتبر في التذكية كفري الأوداج وغيره، وهذه هي الصورة التي جرت فيها أصالة عدم التذكية ولا شبهة فيها الا الشبهة المتقدمة السيالة.
ومنها ان يكون الشك في جزء من الحيوان بأنه من معلوم التذكية أو المعلوم عدمها، فجريان أصالة الحل والطهارة في الجزء مما لا مانع منه بناء على كون التذكية

(1) لعله إشارة إلى ان جريان أصالة بقاء جامع السبب المؤثر مبنى على القول بجريان استصحاب القسم الثالث من الكلي واما إذا قلنا بعدم جريانه فيه فلا مجرى لجريانها.
148

وعدمها من صفات الحيوان لا من صفات الاجزاء، وتكون طهارة الاجزاء وحليتها من آثار تذكية الحيوان لا الجزء، لأن السبب انما يرد على الحيوان وكذا السبب المقابل، فتذكية الحيوان موجبة لطهارة الاجزاء وحليتها بناء على سببيتها لهما، والموت بغير التذكية سبب لحرمتها ونجاستها وان كانت التذكية واردة على الحيوان وكذا عدمها، فحينئذ يكون الأصل بالنسبة إلى الحيوانين مما لا مجرى له لمعلومية حالهما، وجريان أصالة عدم التذكية بالنسبة إلى الجزء لا معنى له لما ذكرنا ولا أصل يحرز كون الجزء من أي الحيوانين، وأصالة عدم تذكية ما أخذ منه الجزء لا معنى له لأن هذا العنوان الانتزاعي ليس موضوعا لحكم والحيوان الخارجي غير مشكوك فيه فلا إشكال في جريان أصل الحل والطهارة.
هذا من غير فرق بين كون الحيوانين أو أحدهما في محل الابتلاء أولا كما في الاجزاء التي علم انها اما مأخوذة من الحيوان المعلوم التذكية في بلاد الإسلام أو من الحيوان المحكوم بعدمها الذي في بلاد الكفر فبناء عليه لا تجري أصالة عدم التذكية في الجلود المصنوعة التي نقلت إلينا من بلاد الكفر وتكون مشتبهة بين الجلود التي نقلت من بلاد المسلمين إليهم وصنعوا بها ما صنعوا وردت بضاعتهم إليهم وبين غيرها من جلود ذبائح الكفار، لأن الأمر دائر بين أخذها من معلوم التذكية ومعلوم عدم تذكيتها فلا جريان للأصل بالنسبة إلى الحيوانين لكونهما معلومين وانما الشك في أخذها من أيهما ولا محرز لأخذها من غير المذكى، وقد عرفت عدم إجراء الأصل بالنسبة إلى الاجزاء بناء على كون التذكية واللا تذكية من صفات الحيوان كما لا يبعد «نعم» لو بنينا على جريان الأصل بالنسبة إلى كل جزء فلا إشكال فيه من هذه الجهة.
ومنها ما لو علم أخذ الجزء من أحد الحيوانين الذين علم إجمالا بتذكية أحدهما وعدم تذكية الاخر وكان الحيوانان في محل الابتلاء، فحينئذ ان قلنا بجريان الأصل في كلا الطرفين حيث لم يلزم منه المخالفة العملية فأصالة عدم التذكية فيهما تحرز حرمة الجزء ونجاسته وعدم حلية الصلاة فيه، وان منعنا جريانهما مطلقا أو قلنا بتعارضهما فهل يكون حال الجزء كحال ملاقى بعض أطراف العلم الإجمالي فيجري فيه أصل الحل والطهارة أولا
149

فيكون الجزء والمأخوذ منه طرفا للعلم وأصلهما يكون معارضا للأصل الاخر فيكون حاله نظير إناءين مشتبهين قسم أحدهما قسمين؟ الظاهر هو الثاني لأن التذكية وان كانت واردة على الحيوان لكن أثرها حلية الحيوان وطهارته لجميع اجزائه في عرض واحد وكذا الحال في عدم التذكية فلا يكون الشك في حلية الجزء وطهارته مسببا عن الشك في حلية الكل وطهارته بل يكون شكهما مسببا عن التذكية وعدمها فيكون العلم الإجمالي بحرمة الجزء وكله أو الطرف الاخر منجزا.
ولو كان الحيوانان خارجين عن محل الابتلاء وقلنا بتأثير الخروج عن محل الابتلاء في عدم منجزية العلم وأغمضنا عن الإشكال الذي مر في باب الاشتغال فأصالة عدم التذكية في الحيوان المأخوذ منه الجزء لا معارض لها، لأن الطرف لخروجه عن محل الابتلاء لا يجري فيه الأصل، واما الحيوان المأخوذ منه الجزء يجري فيه الأصل بلحاظ الجزء الذي هو محل الابتلاء كما مر في باب الملاقى، ولو كان أحدهما محل الابتلاء دون الاخر، فان كان الحيوان المأخوذ منه محل الابتلاء فأصالة عدم التذكية فيه تحرز حرمة الجزء ونجاسته ولا معارض لها، وان كان الاخر، فالأصلان متعارضان لجريانه في الخارج عن محل الابتلاء بلحاظ جزئه الذي هو محل الابتلاء. ولكن العلم الإجمالي بحرمة هذا الجزء ونجاسته أو حرمة الحيوان ونجاسته منجز، ومما ذكرنا يتضح حال الفروض الاخر المتصورة، هذا مقتضى الأصول من حيث الجريان وعدمه فيؤخذ بها الا ان يدل دليل على خلافها.
التنبيه الثالث في حال استصحاب المتصرمات
ربما يقال: ان مقتضى تعريف الاستصحاب واخبار الباب من اعتبار الشك في البقاء فيه عدم جريانه في الزمان والزمانيات المتصرمة المتقضية لعدم تصور البقاء فيها، فأنكر شيخنا العلامة رحمه الله اعتبار الشك في البقاء قائلا ان الميزان فيه هو مفاد الاخبار
150

والمعتبر فيها هو صدق نقض اليقين بالشك وهو صادق في التدريجيات وغيرها ضرورة انها ما لم تنقطع وجود واحد حقيقي وان كان متصرما فلو شك في تحقق الحركة أو الزمان بعد العلم بتحققه فقد شك في تحقق عين ما كان متحققا سابقا فلا يحتاج في التمسك بالأخبار إلى المسامحة العرفية «نعم» لو كان المعتبر في الاستصحاب الشك في البقاء أمكن ان يقال مثل الزمان والزمانيات المتصرمة خارج عن العنوان المذكور لعدم تصور البقاء لها الا بالمسامحة العرفية لكن ليس هذا العنوان في الأدلة «انتهى» ويظهر ذلك من الشيخ الأنصاري أيضا حيث تفصى عن الإشكال بأحد الوجهين:
أحدهما - ان التعبير بالبقاء في تعريف الاستصحاب بلحاظ صدقه في الزمانيات وان لم يصدق في نفس الزمان، وثانيهما - ان البقاء أعم من الحقيقي كما في الزمانيات والمسامحي كما في الزمان والا فالعبرة بالشك في وجوده، العلم بتحققه قبل زمان الشك وان كان تحققه بنفس تحقق زمان الشك هذا.
في تحقيق المقام
والتحقيق ان الشك في البقاء معتبر في الاستصحاب ومستفاد من الأدلة ومع ذلك لا إشكال في جريانه في الزمان والزمانيات المتصرمة، اما استفادة اعتباره منها فلان مقتضى الكبرى المجعولة وهي قوله لا ينقض اليقين بالشك ان اليقين الفعلي لا ينقض بالشك الفعلي ولازمه ان يكون هنا شك فعلى متعلق بعين ما تعلق به اليقين
الفعلي ولا يتصور ذلك الا بان يكون الشك في بقاء ما علم وجوده سابقا فقوله: لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت وليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك أبدا، عبارة أخرى عن الشك في بقاء الطهارة فكيف يقال لا يستفاد ذلك من الاخبار؟ واما مع اعتباره يكون الاستصحاب جاريا في الزمان والحركة فلبقاء هويتهما الشخصية ووجودهما الخارجية البسيطة.
151

اما عند العقل فلما هو المقرر في محله من وجود الحركة القطعية أي الوجود المستمر المتدرج وان كان نحو وجودها متصرما متقضيا فما دام المتحرك متحركا تكون الحركة متحققة باقية بعين شخصيته المتدرجة ولكل موجود نحو وجود خاص به يكون عدمه بعدم هذا الوجود لا الوجود الغير اللائق به فالحركة والزمان يكون نحو وجودهما اللائق بهما هو الوجود المتصرم المتجدد لا الوجود الثابت، فالنافي لوجود الحركة القطعية والزمان ان نفي عنهما الوجود الثابت فقد نفي عنهما ما لا يكون وجودا لهما وان نفي الوجود المتصرم المتجدد عنهما فقد التزم بما هو خلاف الضرورة فالحركة امر ممتد مستمر باق بالامتداد التصرمى والبقاء التجددي والاستمرار التغيرى وليس لأحد ان يقول ما هو الموجود هو الحركة التوسطية لا القطعية، لأن الحركة التوسطية لو كانت موجودة بمعنى انقطاع كل حد وآن عن سابقه ولا حقه ووجود الحد الاخر والآن الاخر بعده منقطعا عن الحد والآن الاخر، فلازمه إنكار الحركة أولا فان تبادل الآنات لا يوجب وجود الحركة، والجزء اللا يتجزأ وتتالي الآنات ثانيا ولهذا تكون الحركة بمعنى التوسط والآن السيال مما لا وجود لهما بل ما هو الموجود هو الحركة القطعية والزمان لكن نحو وجودهما يكون بالامتداد التصرمى والاستمرار التجددي (1).
واما عند العرف فلأنهم يرون ان اليوم إذا وجد يكون باقيا إلى الليل، والليل باقيا إلى اليوم ولا ينافي ذلك اعتبار الساعات والحدود لهما فلعل ارتكاز العرف يساعد العقل في البقاء التصرمى والاستمرار التجددي، وكيف كان لا إشكال في صدق البقاء عرفا على استمرار النهار والليل وكذا الحركات فإذا تحرك شيء تكون حركته موجودة باقية عرفا إلى انقطاعها بالسكون ولا يكون الحركة مجموع دقائق وساعات منضمة بعضها ببعض.
هذا مما لا إشكال فيه انما الإشكال في مقامين: «أحدهما» ما أفاده الشيخ الأنصاري

(1) وتوهم ان الحركة بمعنى القطع لو وجدت في الخارج لزم وجود الكل بدون الجزء «مدفوع» بان الكل قسمان قسم قار الاجزاء وقسم ليس كذلك وهذا القسم يكفي في وجوده وجود اجزائه على التعاقب فوجود الكل في الخارج وجود تدريجي.
152

وتبعه غيره من ان استصحاب بقاء النهار أو الليل لا يثبت كون الجزء المشكوك فيه متصفا بكونه من النهار أو من الليل حتى يصدق على الفعل الواقع فيه انه واقع في الليل أو النهار الأعلى القول بالأصل المثبت مطلقا أو على بعض الوجوه الآتية «ثانيهما» انه يعتبر في الموقتات إحراز وقوعها في الزمان الذي أخذ ظرفا لامتثالها فيعتبر في الصيام وقوعه في الظرف المعتبر وقوعه فيه وهو شهر رمضان وكذا في الصلاة اليومية لا بد من إحراز وقوعها في الليل أو النهار فاستصحاب بقاء النهار أو الليل أو شهر رمضان على فرض إثبات كون هذا الزمان من الليل أو النهار أو من شهر رمضان لا يثبت وقوع الفعل فيه، فان كون الفعل متقيدا بوقوعه في هذا الزمان من اللوازم العقلية لكون الزمان من الليل أو النهار - هذا.
ولا يخفى وهن الإشكال الثاني فان وقوع الفعل في هذا الزمان وجداني فإذا حكم الشارع بالاستصحاب ان هذا الزمان نهار لا يحتاج إلى امر آخر الا إتيان الصلاة فيه أو الصيام فيه كما إذا شك في عالمية زيد فيستصحب كونه عالما لوجوب إكرامه فإنه إذا ثبت بالاستصحاب ان هذا الشخص الخارجي عالم لا يكون إثبات وجوب إكرامه أصلا مثبتا هذا، مضافا إلى إمكان ان يقال: ان قوله يجب صوم شهر رمضان أو الصلاة من دلوك الشمس إلى غسق الليل لما كان من القضايا الحقيقية يصير مفادها ان كل ما وجد في الخارج وكان شهر رمضان يجب الصوم فيه وكلما وجد في الخارج وكان نهارا يجب الصلاة فيه، فإذا وجد زمان في الخارج وحكم بالاستصحاب انه شهر رمضان يكون حكمه ان الصوم فيه واجب وكذا الصلاة فوجوب الصوم في شهر رمضان من أحكام كون هذا الزمان شهر رمضان المحرز بالاستصحاب ووجوب الصلاة فيه من أحكام بقاء النهار أو الليل كما ان وجوب إكرام هذا الشخص الموجود من أحكام كونه عالما وطهارة ما غسل بالماء الخارجي من أحكام كونه كرا ولا إشكال في عدم كون أمثال ذلك من الأصل المثبت، فالعمدة هو الجواب عن الإشكال الأول ويمكن ان يجاب عنه أولا بان الزمان عبارة عن الهوية الخارجية المستمرة الباقية بالبقاء التصرمى كما عرفت، فإذا علم وجود النهار فقد علم ان هذه الهوية المستمرة متصفة بكونها نهارا، وإذا شك في بقاء النهار يكون الشك في زوال تلك الصفة عنها فالمعلوم
153

في الزمان السابق كون هذه الهوية المستمرة نهارا أو المشكوك فيه هو بقائها على صفة النهارية، ولا تسمع بما قيل ان الزمان الحاضر حدث اما من الليل أو من النهار فلا يقين بكونه منهما حتى يستصحب حالته السابقة لأن ذلك مساوق لإنكار بقاء الزمان والليل والنهار وقد عرفت ان ما هو باق من الحركة أو الزمان نفس ما كان متحققا سابقا لأن الزمان أو الحركة ليسا مركبين من القطعات، والماضي والحال والاستقبال ليست إجزاء للزمان بحسب الهوية الخارجية لا عقلا ولا عرفا، بل التقطيع انما هو بالوهم فيكون هوية الزمان والحركة امرا بسيطا باقيا.
وثانيا - ان التعبد ببقاء النهار في الحال عبارة أخرى عن كون هذا الحال نهارا، فان الزمان لا يكون في الزمان حتى بنظر العرف. فإذا قيل تعبد بكون النهار موجودا في الحال عند الشك في بقائه يفهم العرف منه ان هذا الزمان الحاضر هو النهار، لا ان النهار شيء والزمان الحاضر شيء آخر، وليس هذا من الأصل المثبت، وليس كاستصحاب الكلي لإثبات الفرد لأن الكلي ليس عبارة أخرى عن الفرد في نظر العرف، واما كون النهار موجودا في هذا الزمان عبارة أخرى عن كون الزمان الحاضر نهارا.
وثالثا - يمكن إجراء الاستصحاب التعليقي على نحو التعليق في الموضوع بان - يقال: لو صليت في الزمان السابق المعلوم كونه نهارا لكان صلاتي في النهار فشككت في بقاء هذا الأمر. فيستصحب ان صلاتي لو وجدت يكون في النهار، فأيجادها وجداني، وكونها واقعة في النهار على فرض الوجود انما هو بحكم الأصل لكن جريان الأصل التعليقي بنحو التعليق في الموضوع محل إشكال - هذا حال استصحاب نفس الزمان أو ما هو مثله كالحركة.
في حال استصحاب الزمانيات
واما غير الحركة من الزمانيات المتصرمة المتقضية فهو على أقسام:
منها - اما يكون تصرمه وتقضيه مما لا يرى العرف بل يكون بنظرهم ثابتا كسائر الثابتات كشعلة السراج التي يراها العرف باقية من أول الليل إلى آخرها من غير تصرم
154

وتغير مع ان الواقع خلافه، وكشعاع الشمس الواقع على الجدار الذي يرونه ثابتا غير متغير.
ومنها ما يرى العرف تصرمه وتغيره لكن يكون نحو بقائه كبقاء نفس الزمان والحركة مما يكون واحدا عقلا وعرفا وان كانت وحدته وبقائه بعين تصرمه وتقضيه كصوت ممتد مثل الرعد وأمثاله.
ومنها ما تكون وحدته وبقائه بنحو من الاعتبار مثل ما فرضه الشيخ الأنصاري رحمه الله بالنسبة إلى الزمان والزمانيات مطلقا، ولعل هذا الاعتبار محتاج إليه في هذا القسم وهو مثل التكلم وقرعات النبض والساعة.
ولا إشكال في جريان الاستصحاب في الأول منها سواء جرى في الزمان والحركة أم لا، والقسم الثاني حاله حال نفس الزمان والحركة، وقد عرفت جريانه فيهما من غير احتياج إلى الاعتبار الذي اعتبره الشيخ الأعظم، والقسم الثالث أسوأ حالا من الزمان والحركة وان كان الأقوى جريانه فيه أيضا لمساعدة العرف في صدق البقاء وان رفع اليد عنه هو نقض اليقين بالشك، وهذا مما لا شبهة فيه لكن الظاهر انه من قبيل القسم الثاني من القسم الثالث من الكلي لا القسم الأول أو الثالث من الثالث كما اختاره الشيخ الأعظم وتبعه بعض الأعاظم ضرورة ان العرف يرى كل كلمة وكلام في خطابة واحدة أو مجلس وعظ واحد من التحميد والتهليل والشعر والنثر وغيرها موجودا غير ما يلحقه، والواحدة بينها اعتبارية حتى في نظر العرف فمع الاشتغال بأوله يرى وجود الموجود الاعتباري بوجه من المسامحة لا على سبيل الحقيقة فلم يصدق نقض اليقين بالشك بالنسبة إلى المجموع الا بالمسامحة والتأول وقد ذكرنا في محله ان موضوعات الأحكام تؤخذ من العرف لكن لا على وجه المسامحة بل على نحو الحقيقة والدقة العرفية وان لم يكن على نحو الدقة العقلية، فصدق عدم نقض اليقين بالشك ليس الا بالنسبة إلى مهية الكلام والخطابة كصدق البقاء بالنسبة إلى نوع الإنسان وعدم نقض اليقين بالشك فيه.
ثم ان اختلاف الدواعي لا يصير موجبا لاختلاف شخصية الكلام غالبا لأن المتكلم
155

المتشاغل بالكلام كالخطيب والواعظ قد تعرض له الدواعي المختلفة في كلامه مع انه ما دام متشاغلا به يكون وحدة كلامه محفوظة عرفا فوحدة الكلام وعدمها لا تتقومان بوحدة الداعي وعدمها لا طردا ولا عكسا كما يظهر بالتأمل في موارده.
فما أفاده بعض أعاظم العصر من انه إذا شك في بقاء الزماني لأجل احتمال قيام مبدأ آخر يقتضى وجوده فالأقوى عدم الجريان لرجوعه إلى الوجه الثاني من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي فان وحدة الكلام عرفا انما تكون بوحدة الداعي، ليس على إطلاقه بصحيح لأن الميزان في وحدة الكلام هو نفس شخصيته ووجوده، لا الدواعي الموجبة لإيجاده، واما القسم الثالث وهو ما يكون الزمان قيدا لأمر مستقر فجريان الاستصحاب فيه كجريانه في نفس الزمان إشكالا وجوابا.
ولا يخفى ان مناط الإشكال في الأقسام الثلاثة واحد، وهو ان التقضي والتصرم في المستصحب هل يوجب عدم جريانه أم لا؟ فكما إذا شك في بقاء النهار يكون استصحاب النهار موردا للبحث كذلك إذا قيد الجلوس بالنهار يكون محل البحث ما إذا شك في بقاء النهار، وان الجلوس المتقيد بأمر متصرم هل يجري الاستصحاب فيه أم لا؟ واما استصحاب نفس وجوب الجلوس بعد مضي النهار فليس موردا للبحث هاهنا ومناط الإشكال فيه ليس مناطه في الزمان والزمانيات حتى يقال: ان الزمان إذا أخذ قيدا لا يجري الاستصحاب بعده وإذا أخذ ظرفا يجري بعده، لأن ذلك خروج عن محط البحث ومورد النقض والإبرام.
وهذا خلط واقع من الشيخ الأعظم وتبعه غيره
في شبهة النراقي
ومما ذكرنا يعلم ان ذكر كلام الفاضل النراقي رحمه الله في ذيل هذا المبحث غير مناسب، لأن اشكاله انما هو معارضة استصحاب الوجودي بالعدمي في الأحكام بعد مضي الزمان الذي أخذ ظرفا للواجب أو الوجوب وليست شبهة مربوطة بالشبهة التي في الزمان والزمانيات وكيف كان فمحصل اشكاله ان استصحاب الوجود دائما معارض باستصحاب العدم الأزلي في الأحكام، تكليفية كانت أو وضعية، فاستصحاب وجوب
156

الجلوس بعد الزوال معارض باستصحاب عدم وجوب الجلوس المتقيد بكونه بعد الزوال فان عنوان الجلوس المتقيد بما بعد الزوال من العناوين التي يمكن ان تكون مستقلة في الحكم فهو غير محكوم بالوجوب في الأزل فيستصحب عدم الوجوب الأزلي ويعارض باستصحاب وجوب الجلوس الثابت قبل الزوال.
وإشكال عدم اتصال زمان الشك باليقين «مدفوع» بان قبل مجيء يوم الجمعة ان الشك واليقين حاصل ومتصل أحدهما بالاخر، وهذا الجواب منه مجمل أو مخدوش والتحقيق في الجواب ان يقال: ان زمان الشك باليقين متصل بالنسبة إلى هذا الموضوع المقيد فإنه قبل وجود الحكم من الشارع أو قبل بلوغ المكلف معلوم عدم وجوبه وبعد ورود الحكم وبلوغه صار مشكوكا فيه حتى قبل الزوال الذي هو ظرف وجوب نفس الجلوس، وبعبارة أخرى المتخلل بين زمان الشك واليقين هو العلم بوجوب الجلوس، لا بوجوب الجلوس المتقيد بما بعد الزوال، والمضر هو الثاني دون الأول، فإنه غير مناف للشك بوجوب الجلوس المتقيد، وبعبارة ثالثة انه قبل ورود امر الشارع كان وجوب الجلوس قبل الزوال، ووجوب الجلوس المتقيد بما بعد الزوال معلوم العدم وبعد وروده صار وجوب الجلوس قبل الزوال معلوم التحقق، وجوب الجلوس المتقيد بما بعد الزوال مشكوكا فيه حتى في ظرف العلم بوجوب الجلوس قبل الزوال لعدم التنافي بينهما فيستصحب وجوب الجلوس وعدم وجوب المتقيد وهما متعارضان.
ثم قرر الإشكال في الأحكام الوضعية بنحو آخر مذكور في رسائل الشيخ وأجاب عنه الأعاظم بأجوبة غالبها مخدوش فيه.
في جواب الشيخ عن الشبهة وما فيه
منها ما أفاده الشيخ الأعظم قدس سره ومحصل اشكاله الأول عليه: ان الزمان ان أخذ ظرفا للجلوس فلا يجري استصحاب العدم لأنه إذا انقلب العدم إلى الوجود المردد بين كونه في قطعة خاصة من الزمان وكونه أزيد والمفروض تسليم حكم الشارع بان المتيقن في زمان لا بد من إبقائه فلا وجه لاعتبار استصحاب العدم السابق، والحاصل
157

ان العدم انتقض بالوجود المطلق وقد حكم عليه بالاستمرار بمقتضى أدلة الاستصحاب فلا يجري استصحاب العدم، وان أخذ قيدا للحكم أو المتعلق فلا يجري الا استصحاب العدم لأن انتقاض عدم الوجود المقيد لا يستلزم انتقاض المطلق والأصل عدم الانتقاض - هذا.
والإنصاف عدم ورود هذا الإشكال عليه لأن فرض قيدية الزمان للجلوس أو الحكم ليس في كلامه ولا يكون دخيلا في مدعاه، لأن دعواه تعارض استصحاب الوجود بالعدم دائما لا جريان استصحاب الوجود دائما حتى يرد عليه انه قد لا يجري استصحاب الوجود وذلك فيما إذا أخذ الزمان قيدا، وهذا نظير ادعاء ان استصحاب المسببي محكوم لاستصحاب السببي دائما فان المدعى ليس جريان الاستصحابين دائما بل المدعى انه على فرض الجريان يكون أحدهما محكوما، وبالجملة منظوره عدم جواز التمسك بالاستصحاب لإثبات الأحكام لأنه على فرض جريانه معارض باستصحاب العدم الأزلي الثابت لعنوان مقيد بالزمان المتأخر عن ظرف الحكم، ففرض عدم جريان استصحاب الوجودي غير مناف لدعواه، واما على فرض ظرفية الزمان فجريان استصحاب العدم الأزلي للعنوان المتقيد مما لا مانع منه، لأن الموضوع المتقيد غير الموضوع الغير المتقيد، فلا يكون ثبوت الوجوب للجلوس نقضا لعدم وجوب الجلوس المتقيد بما بعد الزوال لإمكان ان يكون نفس الجلوس واجبا والجلوس المتقيد غير واجب، وبالجملة عنوان الجلوس بنحو الإطلاق غير الجلوس المتقيد بالزمان فلا يكون
الحكم المتعلق نقضا للمقيد بما انه مقيد.
واما قوله: ان المفروض تسليم حكم الشارع بان المتيقن في زمان لا بد من إبقائه وجعل هذا الحكم دافعا لاستصحاب العدم الأزلي فهو غريب، لأن هذا بيان الاستصحاب الوجودي المعارض باستصحاب العدم الأزلي فالتسليم لجريان استصحاب الوجودي لا يوجب الحكم بتقدمه على استصحاب العدم الأزلي، اللهم الا ان يكون منظوره حكومة الاستصحاب الوجودي على العدمي لكنه خلاف ظاهر كلامه، لأن الحكومة انما هي بعد فرض جريان المحكوم في نفسه وهو يدعى عدم اتصال زمان الشك باليقين في استصحاب
158

العدم الأزلي، هذا مع انه على فرض انتقاض العدم لا يجري الاستصحاب ولو مع عدم تسليم حكم الشارع بان المتيقن في زمان لا بد من إبقائه فكلامه لا يخلو من خلل بل تناقض.
في جواب المحقق الخراساني ورده
ومنها ما ذكره المحقق الخراساني رحمه الله، وحاصله - بتوضيح منا - ان أدلة الاستصحاب لا يمكن ان تعم هذين الاستصحابين لأن الجمع بين لحاظ الزمان قيدا وظرفا مما لا يمكن لكمال التنافي بينهما فلا يكون هناك الا استصحاب واحد وهو استصحاب الثوب فيما إذا أخذ الزمان ظرفا واستصحاب العدم فيما إذا أخذ قيدا.
وفيه ان إطلاق دليل الاستصحاب يشملهما من غير لزوم الجمع بين اللحاظين، لأن معنى الإطلاق ليس لحاظ الحالات الطارية والحيثيات العارضة والحكم عليها والا يرجع إلى العموم بل معناه جعل الماهية تمام الموضوع للحكم من غير تقييده بشيء فينطبق قهرا على الكثرات من غير لحاظها بوجه، فقوله أحل الله البيع، مطلق معنا ان البيع تمام الموضوع للحلية والنفوذ وليست حيثية أخرى وقيد آخر دخيلا في حليته، فإذا كان البيع تمام الموضوع فكلما تحقق مع أية حيثية أو قيد يكون موضوعا للحل بما انه بيع ومن غير دخالة قيد ولا لحاظه فقوله: لا تنقض اليقين بالشك، يكون مطلقا بهذا المعنى أي يكون اليقين والشك تمام الموضوع للحكم بعدم الانتقاض من غير لحاظ خصوصية معهما فهو بوحدته يشمل جميع الاستصحابات بما انها عدم نقض اليقين بالشك، وكذا إطلاق المادة عبارة عن كون النقض بما انه نقض ملحوظا من غير لحاظ امر آخر معه، هذا، مضافا إلى انه لو فرض لزوم الجمع بين اللحاظين في دليل الاستصحاب لا بد وان لا يشمل الا واحدا منهما دائما لا انه على فرض النظر فيه يشمل أحدهما وعلى فرض القيدية يشمل الاخر، الا ان يكون مراده ذلك بتأويل في ظاهر كلامه بإرجاع القيدية أو الظرفية إلى أدلة الاستصحاب وهو كما ترى والحق عدم ورود هذا الإشكال عليه رأسا.
159

في جواب المحقق النائيني والإشكال عليه
ومنها ما في تقريرات بعض أعاظم العصر رحمه الله من عدم جريان استصحاب العدم الأزلي مطلقا ولو لم يجر استصحاب الوجود لأن العدم الأزلي هو العدم المطلق وانتقاضه انما يكون بحدوث الحادث وإذا ارتفع بعد الحدوث لم يكن العدم الثاني هو العدم الأزلي والعدم المقيد بقيد خاص من الزمان أو الزماني متقوم بوجود القيد ولا يعقل تقدمه على قيده، فإذا وجب الجلوس إلى الزوال فالعدم الأزلي انتقض إلى الوجود قطعا فإذا فرض ارتفاع الوجوب بعد الزوال لأخذه قيدا فعدم الوجوب بعد الزوال لا يكون العدم الأزلي لكونه مقيدا ببعد الزوال، والعدم المقيد غير العدم المطلق المعبر عنه بالعدم الأزلي، فالمستصحب بعد الزوال ليس هو العدم المطلق بل هو العدم المقيد ببعد الزوال وهو متقوم بما بعد الزوال فلا يمكن استصحابه الا إذا آن بعد الزوال ولم يثبت الوجود ففي الآن الثاني يستصحب العدم، والمفروض غير ذلك لأن آن بعد الزوال يكون العدم مشكوكا فيه فالعدم الأزلي المطلق قد انتقض بالوجوب قبل الزوال والعدم المقيد لم يكن قبل الزوال متحققا الا بنحو السالبة بانتفاء الموضوع «نعم» لا مانع من استصحاب عدم جعل الوجوب للموضوع المقيد لأن الجعل واللا جعل أزليان فإذا جعل الزمان قيدا يختص كل من الجلوس قبل الزوال وبعده بجعل خاص فيستصحب عدم جعل الوجوب للجلوس بعد الزوال لكن عدم الجعل ليس له أثر الا بلحاظ المجعول، وإثبات عدم المجعول بعدم الجعل مثبت، هذا مضافا إلى ان استصحاب البراءة الأصلية المعبر عنه باستصحاب حال العقل لا يجري مطلقا لأن العدم الأصلي عبارة عن اللا حكمية واللا حرجية وهذا المعنى بعد وجود المكلف واجتماع الشروط فيه قد انتقض قطعا ولو إلى الإباحة لأن اللا حرجية في الإباحة بعد اجتماع شرائط التكليف غير اللا حرجية قبل وجود المكلف إذ الأول مستند إلى الشارع دون الثاني - انتهى ملخصا.
ولا يخفى ما فيه اما أو لا فلان العدم الأزلي وان كان هو العدم المطلق الغير المسبوق
160

بالوجود لكنه يلاحظ بالنسبة إلى كل عنوان مستقلا فوجوب الجلوس المطلق عدمه الأزلي هو عدم وجوب الجلوس المطلق ووجوب الجلوس المقيد بما بعد الزوال عدمه الأزلي هو عدم وجوب هذا المقيد، كما ان العدم الأزلي للإنسان هو عدم الإنسان من غير تقيد بكونه في زمان كذا أو مكان كذا والعدم الأزلي للإنسان العالم هو عدم هذا العنوان من غير تقييد بالقيود المذكورة فوجوب الجلوس بعد الزوال عدمه الأزلي بعدم هذا الوجوب المتعلق بالموضوع المقيد بما بعد الزوال وهذا العدم عدم مطلق للوجوب المقيد إذا كان بعد الزوال قيدا للهيئة وللوجوب المتعلق بالموضوع المقيد إذا كان قيدا للمادة ولا يكون هذا العدم منتقضا، ضرورة ان انتقاضه انما يكون بوجوب الجلوس بعد الزوال لا بوجوب الجلوس المطلق بحيث يكون الجلوس تمام الموضوع للوجوب من غير تقيده بقيد، ولا بوجوب الجلوس قبل الزوال، ومعلوم ان عدم وجوب الجلوس المتقيد بما بعد الزوال سواء كان القيد للوجوب أو الجلوس غير معلوم الانتقاض فلا مانع من جريان استصحابه، واما ما كرره من ان العدم المتقيد بقيد كونه بعد الزوال ليس له تحقق قبل الزوال فغير مربوط بكلام الفاضل النراقي، ضرورة ان العدم ليس متقيدا بكونه بعد الزوال بل العدم المطلق والوجوب أو الجلوس متقيد والفرق بينهما أظهر من ان يخفى والظاهر ان منشأ اشتباهه هو هذا الخلط وبعد ذلك نسج على منواله ما نسج.
واما ثانيا فلان ما ذكره من ان الجعل المتعلق بوجوب الجلوس قبل الزوال غير الجعل المتعلق بالوجوب بعد الزوال لأنه بناء على القيدية يحتاج وجوب الجلوس بعد الزوال إلى جعل آخر مغاير لجعل الوجوب قبل الزوال وحيث انه يشك في جعله بعده فالأصل عدمه دليل على استقلال المجعول أيضا لأنه تابع للجعل في الوحدة والكثرة والاستقلال وعدمه فحينئذ كما يستصحب عدم جعل الوجوب بعد الزوال يستصحب عدم وجوب الجلوس بعده فلا وجه للتفكيك بين الجعل والمجعول.
واما ثالثا فلان إنكاره استصحاب عدم الوجوب الأزلي قائلا بان البراءة الأصلية عبارة عن اللا حكمية واللا حرجية وهذا المعنى قد انتقض قطعا ولو إلى الإباحة، ليس بشيء
161

لأنه مضافا إلى جواز استصحاب عدم الوجوب قبل البلوغ ومضافا إلى عدم العلم بانتقاض اللا وجوب الأزلي إلى الوجوب ولو سلم انتقاض عدم الحكم إلى الحكم لعدم المنافاة بين انتقاض عدم الحكم بالحكم وبين عدم انتقاض اللا وجوب إلى الوجوب: لنا ان تمنع انتقاض اللا حرجية واللا حكمية إلى الحكم في كل موضوع من الموضوعات لأن بعض الموضوعات التي لا اقتضاء فيها لشيء من الأحكام لا بد وان يبقى على اللا حرجية
واللا حكمية ولا يلزم ان يكون لكل موضوع اقتضاء ولو للإباحة، وعدم الاقتضاء للأحكام الأربعة لا يستلزم اقتضاء الإباحة فيمكن ان يكون موضوع خاليا من مطلق الاقتضاء فيبقى على اللا حكمية الأزلية، فدعوى القطع بانتقاض اللا حكمية واللا حرجية إلى الحكم والحرج في غير محلها، بل دعوى القطع بخلافها ليست ببعيدة.
في جواب شيخنا العلامة وما فيه
ومنها ما أفاده شيخنا العلامة أعلى الله مقامه في مجلس بحثه من ان الاستصحاب الوجودي حاكم على استصحاب العدم الأزلي لأن الشك في المقيد ناش عن بقاء الوجوب السابق وأصالة بقائه ترفع شكه، واما أصالة عدم الوجوب للموضوع المقيد مضادة لحكم الأصل الوجودي ورافعيته له للتضاد الواقع بينهما لا لرافعيته لشكه.
وفيه إشكال اما أولا فلان الشك في وجوب الجلوس المتقيد بما بعد الزوال ليس منشأه الشك في بقاء وجوب الجلوس الثابت قبله بل منشأه اما الشك في ان الوجوب المجعول هل هو ثابت لمطلق الجلوس أو للجلوس قبل الزوال، فليس شكه ناشئا عن البقاء بل عن كيفية الجعل، واما الشك في جعل وجوب مستقل للموضوع المتقيد بما بعد الزوال فلا يكون استصحاب وجوب الجلوس رافعا لشكه تأمل.
واما ثانيا فلان شرط حكومة الأصل السببي على المسببي ان يكون جريان الأصل الحاكم موجبا لرفع الشك عن المسبب تعبدا بمعنى ان يكون المستصحب في الأصل المسببي من الآثار الشرعية المترتبة على المستصحب في الأصل السببي كاستصحاب كرية
162

الماء الحاكم على استصحاب نجاسة الثوب المغسول به، واما لو كان الشك مسببا لكن لا يكون كذلك فلا يكون الأصل حاكما، الا ترى ان الشك في نبات لحية زيد مسبب عن الشك في حياته ولكن استصحاب الحياة ليس حاكما على استصحاب عدم نباتها وما نحن فيه من هذا القبيل، فاستصحاب وجوب الجلوس إلى بعد الزوال لا يثبت كون الجلوس المتقيد بما بعد الزوال واجبا الا بالأصل المثبت بل حاله أسوأ من الأصل المثبت كما يظهر بالتأمل - هذا.
في الجواب عن الشبهة
والتحقيق في الجواب عن الإشكال ان يقال: ان من فرض معارضة الاستصحاب الوجودي والعدمي يلزم عدم المعارضة بينهما لأن المعارضة بين الأصلين انما تتحقق إذا كان موضوع حكمهما واحدا ويكون أحد الأصلين يقتضى حكما منافيا للآخر «نعم» قد تكون المعارضة بالعرض كما في أطراف العلم الإجمالي لكن منظورنا في المقام هو المعارضة بالذات ولا بد فيه من وحدة الموضوع بل ساير الوحدات التي تتوقف عليها المعارضة، فحينئذ نقول: ان الاستصحاب الوجودي والعدمي اما ان يكون موضوعهما واحدا أولا فعلى الأول تقع المعارضة بينهما لو فرض جريانهما، لكن فرض وحدة الموضوع موجب لسقوط أحدهما لأن الموضوع اما نفس الجلوس فلا يجري الاستصحاب العدمي لأن عدم وجوب الجلوس انتقض بوجوبه الثابت له قبل الزوال فلا يكون بين الشك واليقين اتصال، واما الجلوس المتقيد ببعد الزوال فلا يجري الاستصحاب الوجودي لعدم اليقين بوجوب الجلوس المتقيد بما بعد الزوال.
وعلى الثاني بان يكون مفاد أحد الأصلين ثبوت الوجوب لنفس الجلوس ومفاد الآخر عدم وجوب الجلوس المتقيد بما بعد الزوال فلا منافاة بينهما لإمكان حصول القطع بان الجلوس بعد الزوال واجب بما انه جلوس أي يكون نفس الجلوس تمام الموضوع للوجوب والجلوس المتقيد بما بعد الزوال غير واجب بحيث يكون الجلوس بعض الموضوع وبعضه الاخر تفيده بكونه بعد الزوال، كما ان الإنسان بما انه إنسان ناطق
163

لا بما انه ماش مستقيم القامة فيصح ان يقال ان الإنسان ليس بناطق من حيث كونه ماشيا مستقيم القامة بل بما انه إنسان وفيما نحن فيه يصح ان يقال ان الجلوس بعد الزوال واجب بما انه جلوس وليس بواجب بما انه متقيد بما بعد الزوال ويرجع ذلك إلى ان الجلوس تمام الموضوع لا بعضه.
لا يقال: ان المطلق إذا كان واجبا يقتضى إطلاقه وجوب الجلوس في جميع الحالات ومنها الجلوس بعد الزوال فيصير معارضا لعدم وجوب الجلوس بعد الزوال.
فإنه يقال: ليس معنى إطلاقه ان الجلوس بعد الزوال بما انه جلوس بعد الزوال واجب بل معناه ان الجلوس بعد الزوال واجب بما انه جلوس فلا منافاة بين وجوب الجلوس بعد الزوال بما انه جلوس وعدم وجوبه بما انه متقيد كما هو واضح، ولقد أشار إلى بعض ما ذكرنا شيخنا العلامة في «درره» فليكن ما ذكرنا تقريرا أو توضيحا لما أفاده.
التنبيه الرابع في الاستصحاب التعليقي
هل يجري الاستصحاب التعليقي مطلقا أو لا يجري كذلك؟ أو يفصل بين التعليق في الحكم والموضوع أو بين ما كان التعليق شرعيا وغيره؟ وجوه يتضح الحق ببيان أمور:
الأول
ان محط البحث والنقض والإبرام في الاستصحاب التعليقي هو ان تعليقية الحكم أو الموضوع هل توجب خللا في أركان الاستصحاب وشرائط جريانه أم لا؟ وعلى الثاني هل يكون الاستصحاب التعليقي مفيدا ومنتهيا إلى العمل أو لا لابتلائه بالمعارضة دائما، فلا بد من تمحض البحث في ذلك، واما قضية بقاء الموضوع وعدمه أو إرجاع القضية التعليقية إلى القضية التنجيزية فهي خارجة عن محط البحث ومورد الإبرام والنقض فما أفاده الشيخ الأنصاري رحمه الله من استصحاب سببية الشرط للمشروط وان كان حقا على إشكال ويدفع به الإشكال بوجه، لكنه خروج عن موضوع البحث ومع ذلك لا محيص عن التعرض له تبعا لهم.
164

الثاني
ان التعليقات الواقعة في لسان الشرع والقضايا المشروطة كقوله: إذا بلغ الماء قدر كر لا ينجسه شيء، وقوله: إذا نش العصير أو غلا حرم، تحتمل ثبوتا لأمور منها جعل لحكم متعلقا بموضوعاتها على تقدير شيء فيكون المجعول في قوله إذا غلا العصير حرم، هو حرمته على تقدير الغليان، وفي قوله: إذا بلغ الماء قد كرر لم ينجسه شيء هو الاعتصام على تقدير الكرية ومنها جعل الحكم متعلقا على موضوع متقيد بعنوان فيكون المجعول فيهما هو الحرمة المتعلقة على العصير المغلي والاعتصام على الماء البالغ حد الكر فيكون قوله: إذا بلغ الماء قد كر لم ينجسه شيء، عبارة أخرى عن ان الكر لا ينجسه شيء فيكون التعبير بذلك تفننا في البيان أو التنبيه على ان السر في نجاسة المعنى هو غليانه، وفي اعتصام الماء هو كريته، وعلى هذا يكون الموضوع مركبا من ذات وقيد ومنها جعل سببية المعلق عليه للمعلق فيكون مفاد القضيتين ان الغليان سبب للحرمة والكرية للاعتصام ومنها جعل الملازمة بين الكرية والاعتصام والحرمة والغليان.
كل ذلك محتمل بحسب مقام الثبوت اما الأولان فلا كلام فيهما، واما الأخير ان فقد مر التحقيق في مثلهما في الأحكام الوضعية وقلنا ان السببية والملازمة وأمثالهما قابلة للجعل وان المنكر لإمكانه فيهما خلط بين التكوين والتشريع وبين السببية الحقيقية التكوينية والاعتبارية القانونية فراجع، واما بحسب مقام الإثبات والاستظهار من
الأدلة فهو خارج عما نحن بصدده والأدلة مختلفة بحسب المقامات ومناسبات الأحكام والموضوعات.
الثالث
ان التعليق قد يكون في كلام الشارع كأمثال ما ذكرنا وقد لا يكون في كلامه لكن العقل يحكم به، مثلا لو ورد ان الماء البالغ حد الكرية لا ينجسه شيء وان العصير المغلي يحرم، يحكم العقل بان الماء إذا بلغ قدر كر لا ينجسه شيء وان العصير إذا غلى يحرم، لكن ليس هذا من التعليق الشرعي بل هو تعليق عقلي يدركه العقل من القضية المنجزة وهذا التعليق العقلي قد يكون في الأحكام كما عرفت وقد يكون في الموضوعات كما يحكم بان الماء إذا بلغ مساحته ثلاثة أشبار ونصف طولا وعرضا وعمقا فهو كر ويحكم على الماء الناقص من الكر بمن بأنه إذ أزيد عليه من يصير كرا، وهذا تعليق عقلي في الموضوع كما ان ما مر تعليق عقلي في الحكم، ويمكن ان يقع التعليق في الموضوع في كلام الشارع
165

ويرجع إلى التعبد بوجود موضوع الحكم على تقدير كذائي وترتيب آثاره عليه على فرض تحققه.
الرابع
إذا أخذ عنوان في موضوع حكم يكون ظاهرا في الفعلية فإذا قيل الكر يعتصم والمستطيع يجب عليه الحج يكون ظاهرا في ان الكر الفعلي معتصم والمستطيع الفعلي يجب عليه الحج وهكذا، وهذا واضح لكن يقع الكلام في قوله لا تنقض اليقين بالشك ان الميزان فعلية اليقين والشك أو فعلية المتيقن فعلى الأول لا ينظر إلى المتيقن هل هو متحقق فعلا أم لا بخلاف الثاني وقد مر الكلام فيه سابقا، وقلنا ان الحق بحسب النظر إلى أدلة الاستصحاب ومناسبة الحكم والموضوع وان اليقين لإبرامه لا ينقض بالشك لعدم إبرامه ان الموضوع هو نفس اليقين والشك بما ان اليقين طريق وكاشف فلا يعتبر فيه الا فعلية الشك واليقين «نعم» لا بد وان يكون المستصحب مما يترتب على التعبد به أثر عملي فلو فرض ان اليقين بأمر تعليقي يترتب عليه أثر عملي لو تعبد ببقائه يجري الاستصحاب بلا إشكال لفعلية الشك واليقين وعدم اعتبار امر آخر سواء كان المتيقن وجوديا أم لا وفعليا أم لا لعدم الدليل على كونه كذلك، فإذا تعلق اليقين بقضية تعليقية وفرضنا ان بقائها في زمن الشك يكون ذا أثر شرعي كما لو فرض ان نفس القضية موضوعة لحكم في زمان الشك يجري الاستصحاب فيها بلا إشكال وريب لفعلية اليقين والشك وكون المتيقن ذا أثر شرعي في زمن الشك أو منتهيا إليه، واما لزوم كون المتيقن وجوديا فعليا فلا يعتبر. إذا عرفت ما ذكرنا نقول: ان التعليق إذا ورد في دليل شرعي كما لو ورد ان العصير العنبي إذ غلا يحرم ثم صار العنب زبيبا فشك في ان عصيرة أيضا يحرم إذا غلا أو لا فلا إشكال في جريان استصحابه من حيث التعليق لما عرفت من ان المعتبر في الاستصحاب ليس الا اليقين والشك الفعليين وكون المشكوك فيه ذا أثر شرعي أو منتهيا إليه وكلا الشرطين حاصلان، اما فعليتهما فواضح واما الأثر الشرعي فلان التعبد بهذه القضية التعليقية اثره فعلية الحكم لدى حصول المعلق عليه من غير شبهة المثبتية لأن التعليق إذا كان شرعيا معناه التعبد بفعلية الحكم لدى تحقق المعلق عليه وإذا كان الترتب بين الحكم والمعلق عليه شرعيا لا ترد شبهة المثبتية فتحقق الغليان وجدانا
166

بمنزلة تحقق موضوع الحكم الشرعي وجدانا.
حول كلام بعض الأعاظم وما فيه
والعجب من بعض أعاظم العصر حيث فسر الاستصحاب التعليقي بما إذا تعلق الحكم على موضوع مركب من جزءين عند فرض وجود أحد جزئيه وتبدل بعض حالاته قبل فرض وجود الجزء الاخر ثم ناقض كلامه هذا بقوله بعبارة أوضح ثم نسج على هذا المنوال وأورد على الاستصحاب التعليقي تارة بان الحكم المترتب على الموضوع المركب انما يكون وجوده وتقرره بوجود الموضوع بماله من الاجزاء والشرائط لأن نسبة الموضوع إلى الحكم نسبة العلة إلى المعلول ولا يعقل تقدم الحكم على الموضوع فلا معنى لاستصحاب ما لا يكون موجودا ومقررا لأن في الاستصحاب الوجودي لا بد من وجود المستصحب إذ لا يعقل التعبد ببقاء وجود ما لا وجود له، وأخرى بأنه ليس للجزء الموجود من المركب أثر الا انه إذا انضم إليه الجزء الاخر فليس للعصير العنبي أثر الا إذا انضم إليه الغليان وهذا مما لا شك فيه فلا معنى لاستصحابه، وثالثة بان هذه القضية التعليقية عقلية لأنها لازم جعل الحكم على الموضوع المركب.
وأنت خبير بما فيه اما أولا فلان ما هو مورد النقض والإبرام بين الاعلام في الاستصحاب التعليقي هو ما إذا وردت قضية شرعية تعليقية كقوله: العصير إذا نش وغلا حرم أي العصير العنبي ثم شك في بقاء الحكم عند عروض حالة على الموضوع كصيرورة العنب زبيبا لا فيما إذا كان الحكم متعلقا بموضوع مركب ويكون التعليق من حكم العقل، والفرق بينهما أظهر من الشمس لأن الترتب بين المعلق والمعلق عليه في الأولى شرعي دون الثانية، وبهذا تنحل الشبهة الثالثة لأن الترتب بينهما إذا كان شرعيا ليس الأصل مثبتا «وتوهم» رجوع القضية التعليقية إلى التنجيزية لبا ورجوع الشرط إلى قيدية الموضوع «فاسد» ان أريد الرجوع عرفا ضرورة ان الموضوع والحكم في التعليقية مخالف لهما في التنجيزية فان الموضوع في الأولى نفس الذات والشرط واسطة في ثبوت الحكم للموضوع والحكم غير فعلى وأين إحداهما من الأخرى، وان أريد الرجوع
167

عقلا فهو على فرض تسليمه حتى في مثل المقام لا يفيد بعد كون الميزان في مثل المقام هو النظر العرفي.
واما ثانيا فلان ما ذكره من ان الحكم المرتب على الموضوع المركب لا وجود له الا بوجود جميع اجزائه ولا يعقل التعبد بوجود ما لا وجود له فلا معنى لاستصحابه (ففيه) مضافا إلى ان المفروض في المقام هو ورود القضية التعليقية كما عرفت والحكم المعلق على شيء لا يكون عدما محضا ضرورة تعلق الجعل به وانه متعلق لليقين، انه ليس المعتبر في الاستصحاب الا فعلية الشك واليقين وكون المتيقن في زمن الشك ذا أثر شرعي أو منتهيا إليه فلو فرض تعلق اليقين على امر معدوم يكون ذا أثر شرعي في زمان الشك يجري الاستصحاب فيه بلا إشكال والمفروض فيما نحن فيه ان اليقين متعلق بقضية تعليقية شرعية موضوعها العنب يشك في بقائها بعد صيرورته زبيبا والتعبد ببقاء هذه القضية الشرعية يكون أثرها الشرعي هو حرمة عصيرة إذا غلى، بل في مثل المثال حكم شرعي تعليقي يصير فعليا بتحقق ما علق عليه.
واما ثالثا فلان ما ذكره من انه ليس أثر للجزء الموجود من المركب الا انه لو انضم إليه الجزء الاخر لثبت له الحكم (ففيه) انه يكفي في الاستصحاب كون الشيء جزءا لموضوع مركب فإذا فرض ان العنب المغلي كان موضوعا لحكم ويكون العنب قبل غليانه جزءا للموضوع ويترتب عليه الأثر لو انضم إليه الغليان فصار زبيبا فشك في بقاء حكمه أي كونه جزءا للموضوع فيستصحب تأمل، واما قوله وهذا مما لا شك فيه فلا معنى لاستصحابه فلا يخفى ما فيه من الخلط بين العنب والزبيب فراجع كلامه، فتحصل مما ذكرنا ان جريان الاستصحاب التعليقي مما لا إشكال فيه.
ثم ان ما أفاده الشيخ الأعظم قدس سره من إجراء أصالة بقاء سببية الغليان للحرمة أو أصالة بقاء الملازمة بين الغليان والحرمة وان كان خروجا عن محل البحث لكنه متين في ذاته لو فرض استفادة جعل السببية الشرعية أو
الملازمة الشرعية ليكون الترتب بين السبب والمسبب وبين أحد المتلازمين مع الاخر شرعيا والا يصير الأصل مثبتا، لكنه مع ذلك مشكل لأن جعل الملازمة والسببية ولو كان شرعيا لكن وجود اللازم والمسبب عند
168

وجود صاحبهما عقلي فيكون مثبتا وإرجاعهما إلى جعل اللازم والمسبب عقيب صاحبهما إنكار للمبنى.
واما «ما أورد» عليه الفاضل المتقدم على ما في تقريرات بحثه تارة بان السببية والملازمة لا يعقل ان تنالهما يد الجعل، وأخرى بان الملازمة بين العنب المغلي وبين نجاسته وحرمته ملازمة بين تمام الموضوع والحكم والشك في بقاء الملازمة بين تمام الموضوع والحكم لا يعقل الا بالشك في نسخ الملازمة فيرجع إلى استصحاب عدم النسخ وهو غير الاستصحاب التعليقي «فغير وارد» اما الأول منهما فلما عرفت في مباحث الأحكام الوضعية من انهما قابلتان للجعل فراجع (1) واما الثاني منهما فلان الشك ليس في بقاء الملازمة بين تمام الموضوع والحكم، ضرورة عدم الشك في حرمة العصير العنبي المغلي وانما الشك في العصير الزبيبي وليس منشأه الشك في نسخ الحكم الأول بل في ان العنبية هل هي واسطة في الثبوت أو العروض، وبعبارة أخرى ان سببية الغليان للحرمة هل هي مجعولة بنحو تدور مدار العنبية أم لا؟ وفي مثله لا يكون الشك في النسخ ولعمري ان هذا بمكان من الوضوح، تدبر.
تذنيب في حال معارضة الاستصحاب التعليقي مع التنجيزي
بناء على جريان الاستصحاب التعليقي قد يقال انه معارض دائما باستصحاب تنجيزي ففي المثال المتقدم بعد عروض الغليان على العصير الزبيبي يكون استصحاب الحرمة المعلقة على الغليان اثره الحرمة الفعلية بعد الغليان وهو معارض باستصحاب الحلية الثابتة للعصير قبل الغليان لأنه إذا غلى يشك في حليته وحرمته فيتعارض الأصلان.
فأجاب عنه الشيخ الأعظم قدس سره بحكومة الاستصحاب التعليقي على الاستصحاب

(1) أضف إلى ذلك انا لو فرضنا عدم تعلق الجعل بهما مستقلا ولكن مجعوليتهما بمنشأ هما غير قابلة للإنكار وهذا المقدار من الجعل يكفي في جريان الاستصحاب فلا إشكال في جريانه فيهما لكون وضعهما ورفعهما بيد الشارع ولو تبعا -
169

التنجيزي ولم يذكر وجهها ولذا وقع الكلام فيه.
فقال المحقق الخراساني رحمه الله في تعليقته ما محصله: ان الشك في الإباحة بعد الغليان مسبب عن الشك في حرمته المعلقة قبله فاستصحاب حرمته كذلك المستلزم بنفي إباحته بعد الغليان يكون حاكما على استصحاب الحلية والترتب وان كان عقليا لكن الأثر العقلي المترتب على الأعم من الحكم الواقعي والظاهري يترتب على المستصحب فيكون استصحاب الحرمة حاكما عليه بهذه الملاحظة، وبالجملة ان استصحاب الحرمة التعليقية يترتب عليه الحرمة الفعلية بعد الغليان وينفي الإباحة بعده لأن نفي الإباحة لازم عقلي للحكم بالحرمة الفعلية أعم من ان تكون واقعية أو ظاهرية فيرتفع الشك المسببي.
وقد فصل هذا الوجه بعض أعاظم العصر مع تطويل وتفصيل وتناقض صدر وذيل ولم يأت بشيء زائد عليه.
وقريب منه ما في الكفاية وحاصله بتوضيح منا: ان الغليان لما كان شرطا للحرمة لا بد وان يكون غاية للحلية فيكون العصير حراما بشرط الغليان وحلالا إلى ان يغلي ولا منافاة بين الحرمة بعد الغليان والحلية المغياة به، ضرورة ان ثبوتهما كذلك لو كان قطعيا لا يضر أحدهما بالاخر فضلا عن كونهما مستصحبين فإذا شك في حرمته المعلقة بعد صيرورة العنب زبيبا شك في حلية المغياة أيضا فيكون الشك في حليته وحرمته فعلا بعده متحدا خارجا مع الشك في بقائه على ما كان عليه من الحلية والحرمة بنحو كانتا عليه أي من كون الحرمة معلقة والحلية مغياة فاستصحاب حرمته المعلقة الملازم لاستصحاب الحلية المغياة يثبت حرمته الفعلية بعد الغليان وانتفاء حليته لأن هذا لازم أعم للحكم الواقعي والظاهري فيترتب عليه.
والظاهر انه يرجع إلى ما في التعليقة مع تعبير مخل وتغيير مضر وحاصل الوجهين ان الحكومة تتقوم بأمرين أحدهما كون الشك سببيا ومسببيا وثانيهما نفي حكم المسبب لجريان الأصل في السبب وكلا الأمرين حاصلان في المقام لأن الشك في الحلية بعد الغليان مسبب عن الشك في بقاء الحرمة المعلقة قبله بعد عروض حالة موجبة للشك، وجريان الأصل فيه يثبت الحكم بوجود المعلق عليه ويدفع الحكم المضاد له أي الحلية لأن جعل
170

الحرمة ظاهرية كانت أو واقعية لازمه استحالة جعل حكم مضاد له.
(وفيه) انه لا بد في الحكومة من ان الأصل الجاري في السبب يرفع الشك تعبدا عن المسبب أي يكون التعبد ببقاء السبب اثره الشرعي هو التعبد بحكم المسبب كالتعبد ببقاء الكر حيث ان اثره الشرعي طهارة الثوب المغسول به كما سيأتي تفصيله مع سر تقدم الأصل السببي على المسببي في محله، والتعارض أولا وبالذات واقع بين استصحاب نجاسة الثوب والتعبد بطهارته لا بين استصحاب النجاسة وبين كرية الماء لعدم التضاد بينهما الا بلحاظ هذا الأثر الشرعي فجريان استصحاب الكرية لو لم يكن اثره الشرعي هو التعبد بطهارة الثوب المغسول به لما يرفع الشك عن المسبب كما انه لو فرض حجية الأصل المثبت يتعارض الأصل المسببي مع السببي لأن كلا منهما يرفع موضوع الاخر بالتعبد بلازمه فتقدم الأصل السببي لرفعه الشك عن المسبب دون العكس.
واما لو فرض ان الأصل الجاري في السبب يكون لازمه العقلي الأعم من الواقعي والظاهري نفي حكم المسبب للتدافع والتضاد بين الحكمين فلا وجه لتقدم أحدهما على الاخر.
لأن استصحاب الحرمة والتعبد ببقائها كما انه مضاد للحلية كذلك استصحاب الحلية والتعبد ببقائها مضاد للحرمة بالذات وللاستصحاب التعليقي لأجله فلا وجه لحكومة أحدهما على الاخر.
هذا مضافا إلى ان ما أفاده في الكفاية من عدم المعارضة بين بقاء الحلية المغياة والحرمة المشروطة في صورة القطع فضلا عن استصحابهما.
ففيه أولا ان القطع بالحلية المغياة يوجب القطع بانتفاء الحلية ما بعد الغاية لأنه لازم عقلي لثبوت الحكم المغيا، واما استصحاب الحلية المغياة لا يثبت الحرمة بعد الغاية فاستصحاب الحلية المغياة مما لا يجري لأن إجرائه ان كان لإثبات الحلية قبل الغليان فهي قطعية وان كان لإثبات الحرمة ونفي الحلية بعد الغليان فلا يثبتهما الا بالأصل المثبت لأن الحرمة بعد الغاية ليست من الآثار الشرعية للحلية المغياة ولا من اللوازم الأعم.
وثانيا ان كلامنا انما يكون في الحلية والحرمة بعد الغليان لا قبله وفي استصحاب
171

الحلية إلى ما بعد الغليان للشك في ان الغاية ثابتة للعصير الزبيبي كما هي ثابتة للعنبي أولا ثم ان شيخنا العلامة أعلى الله مقامه سلك مسلكا آخر بعد الإشكال على الحكومة وهو ان الأصل السببي يتقدم على الأصل المسببي طبعا وهذا وجه آخر لتقدمه عليه غير الحكومة قال رحمه الله في وجه تقدمه: ان الشك الثاني معلول للأول ففي رتبة وجود الأول لم يكن الثاني موجودا وانما هو في رتبة الحكم المرتب على الأول فالأول في رتبة وجوده ليس له معارض فيحرز الحكم من دون معارض وإذا ثبت الحكم في الأول لم يبق للثاني موضوع، وجعل هذا وجه تقدم الاستصحاب التعليقي على التنجيزي.
وفيه أولا ان تقدم العلة على المعلول انما هو تقدم عقلي يدركه العقل من صدور المعلول عن العلة فيحكم بان العلة وجدت فوجد المعلول، واما في الخارج فالعلة مع المعلول لا يتقدم أحدهما على الاخر ولا إشكال في ان
مثل لا تنقض اليقين بالشك يكون موضوعه الشك بوجوده الخارجي ولا تأثير للتقدم العقلي والرتبى في موضوعية الموضوع فلا يتقدم موضوع أحدهما على الاخر بحسب موضوعيته للحكم وهو الوجود الخارجي مع انه لو فرض تقدم أحدهما على الاخر في الخارج لا يتقدم في جريان الأصل.
وثانيا ان التعارض بالذات انما هو بين التعبد بالأثر الشرعي للأصل الحاكم مع مفاد الأصل المحكوم وهما في رتبة واحدة، مثلا لو شك في نجاسة الثوب المغسول بماء لأجل الشك في كريته لا يكون بين أصالة بقاء الكرية وأصالة بقاء نجاسة الثوب تعارض بالذات بل التعارض انما هو بين التعبد بطهارة الثوب المغسول بالكر وبين التعبد بنجاسة الثوب وهما في رتبة واحدة لأن الشك في نجاسته وطهارته موضوع لهما فاستصحاب النجاسة والتعبد بالطهارة المتأخر عن التعبد بالكرية برتبة متعارضان في رتبة واحدة ونتيجة ذلك: ان الماء كر لكن لا يكون مطهرا للثوب المغسول به فيترتب على الكرية ساير آثارها كعدم الانفعال ولو قيل بان استصحاب الكرية يعارض استصحاب بقاء نجاسة الثوب بلحاظ اثره وهو طهارة المغسول به يصير التعارض في رتبة واحدة فلا تكون أصالة الكرية بلا معارض ولو في رتبة ذاته.
172

في بيان حكومة الاستصحاب التعليقي على التنجيزي
والتحقيق في المقام ان يقال: ان استصحاب الحرمة التعليقية حاكم على استصحاب الإباحة كسائر الحكومات لأن شرط حكومة أصل على آخر كما أشرنا إليه أمران:
«أحدهما» كون أحد الشكين مسببا عن الاخر «والثاني» ان يكون جريان الأصل في السبب رافعا للشك عن المسبب تعبدا فاستصحاب كرية الماء يكون حكمه طهارة الثوب المغسول به بحسب الكبرى الشرعية من ان الكر مطهر فيرفع الشك في ان الثوب طاهر أولا، لأن الشك في الطهارة والنجاسة متقوم بطرفي الترديد فإذا وقع التعبد بالبناء على أحد طرفي الترديد يرفع الشك قهرا فحكومة أصالة بقاء الكرية في الماء على أصالة بقاء نجاسة الثوب ليست لأجل دافعية الحكم بالكرية لبقاء النجاسة بواسطة ان التعبد بالطهارة ولو ظاهرا ينافي التعبد بالنجاسة ولو ظاهرا بل لأجل ان التعبد بطهارة الثوب المغسول بالماء المشكوك فيه يرفع الشك المتقوم بطرفي الترديد.
وان شئت قلت: ان الشك في الطهارة والنجاسة شك واحد وحالة ترديدية واحدة يكون أحد طرفيها الطهارة والأخرى النجاسة فان قيست هذه الحالة الترديدية بالنسبة إلى وجود الطهارة وعدمها تكون شكا في الطهارة وعدمها وبالنسبة إلى وجود النجاسة وعدمها تكون شكا في النجاسة وعدمها وان قيست بالنسبة إلى الطهارة والنجاسة تكون شكا فيهما فلا تكون في النفس إلا حالة واحدة ترديدية يكون أحد طرفيها الطهارة والأخرى النجاسة فإذا كان مفاد أصل هو الطهارة بلسان الأصل السببي يكون رافعا للشك المتقوم بطرفي الترديد فيصير حاكما على الأصل المسببي وسيأتي قريبا سر تقدم الأصل السببي بما لا مزيد عليه فانتظر.
وفيما نحن فيه يكون الحال كذلك لأن الشك في بقاء الإباحة الفعلية للعصير الزبيبي المغلي مسبب عن بقاء القضية الشرعية التعليقية بالنسبة إلى الزبيب قبل غليانه ولما كان التعليق شرعيا تكون فعلية الحرمة مع فعلية الغليان بحكم الشرع كما أشرنا إليه سابقا فترتب الحرمة على العصير المغلي ليس بعقلي بل شرعي فحينئذ يكون
173

استصحاب الحرمة التعليقية حاكما بان الحرمة متحققة بالفعل عند الغليان ومترتبة على الغليان الفعلي فيرفع الشك في الحرمة والإباحة الفعليتين لأن الشك في الحرمة والإباحة متقوم بطرفي الترديد، فإذا كان لسان جريان الأصل في السبب هو التعبد بحرمة المغلي يرفع الترديد بين الحرمة والحلية فيصير الأصل السببي حاكما على المسببي؟ فالقائل بالفرق بين الأصل التعليقي السببي والتنجيزي المسببي وبين الأصل السببي والمسببي في موارد اخر ان كان من جهة تعليقية الأصل وان صيرورة التعليق فعليا عقلي فقد عرفت بطلانه، وان كان من جهة ان الحلية والحرمة متضادتان فإثبات أحد الضدين يدفع الضد الاخر بحكم العقل وهذا اللازم وان كان مترتبا على المستصحب لكن لا يصحح الحكومة فقد عرفت بطلانه أيضا لما ذكرنا من ان جريان الأصل في التعليقي يدفع الشك المتقوم بطرفي الترديد لأجل التعبد بأحد طرفي الترديد معينا وهو الحرمة، الا ترى ان أصالة بقاء الكرية أيضا لا تدفع نجاسة الثوب بل ترفع الترديد بالتعبد بطهارته.
وان شئت قلت: ان استصحاب الحرمة على تقدير الغليان جار قبل حصوله فيتعبد لأجله ببقاء المستصحب وهو الحرمة على تقدير غليان عصير الزبيب مثلا وهذا الحكم التعليقي قبل الغليان وان كان ثابتا على عصير الزبيب الذي شك في حكمه لكن لسان المستصحب هو حرمة العصير على فرض الغليان لا حرمة المغلي المشكوك فيه فإذا حصل الغليان يكون لسان الدليل الاجتهادي المستصحب بضميمة الوجدان هو حرمة المغلي لا المغلي المشكوك فيه واستصحاب الحلية المنجزة متقوم بالشك فيكون لسانه إثبات الحلية للمغلي المشكوك فيه بما هو كذلك ولا ريب في تقديم الأول على الثاني وحكومته عليه لأنه بإثبات الحرمة لذات المغلي يرفع الشك الذي هو موضوع استصحاب الحلية.
وبهذا يدفع ما قد يمكن ان يتوهم بان المغلي المشكوك فيه موضوع لكلا الاستصحابين وكل منهما بنفس التعبد به يرفع الشك وهما متعارضان قبل رفع موضوع الاخر، لما عرفت من ان استصحاب الأول يجري قبل الغليان، وبعد الغليان يكون المستصحب أي الحكم التعليقي الذي يصير فعليا متعلقا بذات الموضوع ورافعا للشك
174

فلا يبقى مجال لاستصحاب الحلية التنجيزية، والحلية التعليقية لا أصل لها، ولو فرض يكون مثبتا لأن التعليق عقلي لا شرعي فتدبر فيه فإنه جدير به.
فالإنصاف انه لا فرق بين الحكومة في المقام مع مقامات أخر ولعل عدم تعرض الشيخ الأعظم قدس سره بوجه الحكومة لذلك، ونحن لسنا الآن بصدد بيان وجه تقدم الأصل السببي وما هو التحقيق عندنا بل بصدد ان المقامات كمقامات أخر بلا افتراق بينهما.
التنبيه الخامس حول استصحاب أحكام سائر الشرائع
هل يجري استصحاب الأحكام الثابتة في الشرائع السابقة كما يجري في أحكام شريعتنا إذا شككنا في نسخها أم لا وهذه المسألة وان لم تكن لها ثمرة ظاهرة لكن نتعرض لها اقتفاء لأثر القوم.
فنقول: اختار الشيخ الأعظم ومن بعده الجريان قائلا بان المقتضى موجود وهو إطلاق أدلة الاستصحاب وليس ما يصلح للمانعية الا أمور يمكن الذب عنها: «منها» ان الحكم الثابت في حق جماعة لا يمكن إثباته في حق الآخرين لتغاير الموضوع.
وأجابوا عنه أولا بالنقض باستصحاب عدم النسخ في أحكام شريعتنا، وثانيا بالحل فان الأحكام ثابتة للعناوين الكلية على نحو القضايا الحقيقية لا للأشخاص على نحو الخارجية فإذا ثبت حكم للمستطيع أو الغنى أو الفقير فلا مانع من استصحاب بقائه عند الشك في نسخه فان موضوع القضية المتيقنة والمشكوك فيها هو هذه العناوين بنحو القضية الحقيقية فتتحد القضية المتيقنة والمشكوك فيها وزاد الشيخ رحمه الله امرا آخر رد عليه من بعده.
فالعمدة هو الجواب الحلي الذي ارتضاه المحققون وهو ان يدفع الإشكال المتقدم لكن هاهنا شبهة أخرى لا يدفعها
هذا الجواب وهو انه من الممكن ان يكون المأخوذ في موضوع الحكم الثابت في الشرائع السابقة عنوان على نحو القضية الحقيقية
175

لا ينطبق ذلك العنوان على الموجودين في عصرنا كما لو أخذ عنوان اليهود والنصارى فان القضية وان كانت حقيقية لكن ينطبق عنوان موضوعها على غير مصاديقه ففي قوله تعالى: وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما «إلخ» (1) كانت القضية حقيقية لكن إذا شك المسلمون في بقاء حكمها لهم لا يجري الاستصحاب كما لو ثبت حكم للفقراء وشك الأغنياء في ثبوته لهم لا يمكن إثباته لهم بالاستصحاب وهذا واضح جدا.
ان قلت: فكيف يستصحب الحكم الثابت للعصير العنبي إذا شك في ثبوته للعصير الزبيبي وهل هذا الا إسراء حكم من موضوع إلى موضوع آخر.
قلت: فرق واضح بين ما ذكرنا وبين مورد النقض لأن كل زبيب مسبوق بالعنبية بحسب وجوده الخارجي فإذا وجد العنب في الخارج وثبت الحكم له وصار يابسا يجري استصحاب حكمه لأن العنب الخارجي إذا يبس لا يرى العرف الا بقائه مع تغيير حال فالقضية المتيقنة والمشكوك فيها واحدة فيستصحب الحكم، واما المسلمون فلم يكن كل واحد منهم مسبوقا بالتهود أو التنصر خارجا ثم صار مسلما ولو كانوا كذلك لجرى في حقهم الاستصحاب كاستصحاب حكم العنب للزبيب، ومما ذكرنا ظهر الفرق بين استصحاب عدم النسخ في أحكام هذه الشريعة وأحكام الشرائع السابقة.
ولا يخفى ان مجرد احتمال أخذ عنوان غير منطبق على المسلمين كفى في المنع للزوم إحراز وحدة القضيتين ولا دافع للاحتمال في حكم من الأحكام المشكوك في نسخها لأن ظواهر الكتب المنسوخة الرائجة بينهم ليست قابلة للتمسك بها مع ورود الدس والتغيير عليها وأصلها الغير المتغير ليس عندهم ولا عندنا حتى يعلم ان الحكم ثابت للعنوان الكذائي والقرآن المجيد لم يحك العناوين المأخوذة في موضوع أحكامهم الكلية كما يظهر بالتأمل فيما جعلوه ثمرة للنزاع تبعا للمحكي عن تمهيد القواعد.
فتحصل مما ذكرنا عدم جريان استصحاب أحكام الشرائع السابقة، هذا مضافا إلى ان الشك فيها من قبيل الشك في المقتضى لعدم الدليل على إحرازه ونحن وان

(1) سورة الانعام - الآية 147.
176

ذهبنا إلى جريانه معه لكن يرد هذا الإشكال على الشيخ رحمه الله ومن تبعه في عدم الجريان مع الشك في المقتضى.
التنبيه السادس في الأصول المثبتة
قد اختلف كلمة أهل التحقيق في وجه اعتبار مثبتات الأمارات دون الأصول أي اللوازم والملزومات والملازمات العادية والعقلية إذا انتهت إلى الأثر العملي الشرعي بل في الملزومات والملازمات الشرعية سواء كان ترتب الأثر مع الواسطة أو بلا واسطة.
فذهب المحقق الخراساني إلى ان وجهه إطلاق أدلة الأمارات دون الأصول لوجود القدر المتيقن في مقام التخاطب فيها - وهو آثار نفس المستصحب بلا توسط شيء.
وذهب شيخنا العلامة رحمه الله إلى ان وجهه انصراف أدلة الأصول عن الآثار مع الواسطة.
وقال بعض أعاظم العصر: ان وجهه اختلاف المجعول في باب الأمارات والأصول فان المجعول في الأول هو الطريقية والكاشفية ولازمه حجية المثبتات وفي الثاني هو مجرد تطبيق العمل على مؤدى الأصل وهو لا يقتضى حجيتها.
وقال الشيخ الأعظم: ان الوجه في عدم اعتبار مثبتات الأصول ان اللوازم العقلية والعادية ليست تحت جعل الشارع ووجوب ترتيب الآثار المستفاد من دليل الاستصحاب لا يعقل الا في الآثار القابلة للجعل الشرعي فالمعقول من حكم الشارع بحياة زيد وإيجابه ترتيب آثار الحياة في زمان الشك هو الحكم بحرمة تزويج زوجته والتصرف في ما له لا حكمه بنموه ونبات لحيته لأن هذه غير قابلة لجعل الشارع.
وما أفاده الشيخ وان كان أسد ما قيل في الباب لكنه لا يحسم به مادة الإشكال خصوصا في الآثار الشرعية مع الوسائط العديدة وستعرف الإشكال فيها.
والتحقيق في المقام ان يقال: اما وجه حجية مثبتات الأمارات ان جميع الأمارات
177

الشرعية انما هي أمارات عقلائية أمضاها الشارع وليس فيها ما تكون حجيتها بتأسيس من الشرع كظواهر الألفاظ وقول اللغوي على القول بحجيته، وخبر الثقة واليد وقول ذي اليد على القول بحجيته وأصالة الصحة على القول بأماريتها فإنها كلها أمارات عقلائية لم يردع عنها الشارع فراجع أدلة حجية خبر الثقة ترى انها ليست بصدد التأسيس بل جميعها بصدد الإمضاء لبناء للعقلاء هذه آية النبأ وظاهرها الردع عن العمل بقول الفاسق فيظهر منها ان بنائهم هو العمل بقول الثقة مطلقا أو خصوص غير الفاسق ولا يعلمون فسق الوليد فأخبر الله تعالى به.
وبالجملة يظهر منها ان العمل بخبر الثقة كان مورد بنائهم وارتكازهم وكذا الحال في غيرها من الاخبار التي بلغت حد الاستفاضة أو التواتر، هذا حال الخبر الواحد الوارد فيه الآيات والاخبار فكيف بغيره مما هي خالية غالبا عن الدليل اللفظي وما ورد فيها بعض الروايات تكون إمضائية أيضا كاليد.
فلا إشكال في ان الأمارات مطلقا عقلائية أمضاها الشارع ومعلوم ان بناء العقلاء على العمل بها انما هو لأجل إثباتها الواقع لا للتعبد بالعمل بها فإذا ثبت الواقع بها تثبت لوازمه وملزوماته وملازماته بعين الملاك الذي لنفسه، فكما ان العلم بالشيء موجب للعلم بلوازمه وملزوماته وملازماته مطلقا فكذلك الوثوق به موجب للوثوق بها وكذا الحال بالنسبة إلى احتجاج الموالي للعبيد وبالعكس، فكما يحتج العقلاء بقيام الأمارة على الشيء كذلك يحتجون على لوازمه وملزوماته وملازماته مع الواسطة أو بلا واسطة شيء، ولو حاولنا إثبات حجية الأمارات بالأدلة النقلية لما أمكن لنا إثبات حجية مثبتاتها بل ولا لوازمها الشرعية إذا كانت مع الواسطة الشرعية كما سيأتي التعرض له إن شاء الله.
في حال مثبتات الأصول
هذا حال الأمارات واما الأصول وعمدتها الاستصحاب فالسر في عدم حجية مثبتاتها وحجية لوازمها الشرعية ولو مع الوسائط إذا كان الترتب بين الوسائط كلها شرعية يتضح بعد التنبيه على امرين:
178

أحدهما ان اليقين إذا تعلق بشيء يكون له لازم وملازم وملزوم ويكون لكل منها أثر شرعي يصير تعلق اليقين به موجبا لتعلق يقين آخر على لازمه ويقين آخر على ملازمه ويقين آخر على ملزومه فتكون متعلقات أربعة كل واحد منها متعلق ليقين مستقل وان كان ثلاثة منها معلولة لليقين المتعلق بالملزوم لكن يكون لزوم ترتيب الأثر على كل متعلق لأجل استكشافه باليقين المتعلق به لا اليقين المتعلق بغيره من ملزومه أو لازمه أو ملازمه، فإذا تيقنت بطلوع الفجر وعلمت منه خروج الليل ودخول يوم رمضان وكان لطلوع الفجر أثر ولخروج الليل أثر
ولدخول يوم رمضان أثر لا يكون لزوم ترتيب الأثر على كل موضوع إلا لأجل تعلق العلم به لا لأجل تعلقه بغيره من لازمه أو ملزومه أو ملازمه.
وكذا إذا تيقنت بحياة زيد وحصل منه يقين بنبات لحيته ويقين آخر ببياضها ويكون لكل منها أثر شرعي يجب ترتيب أثر حياته للعلم بها ونبات لحيته للعلم به لا للعلم بحياته وترتيب أثر بياضها للعلم به لا بنبات اللحية أو الحياة، فالعلم بكل متعلق موضوع مستقل لوجوب ترتيب اثره وان كان بعض العلوم معلولا لبعض آخر ثانيهما ان الكبرى الكلية في الاستصحاب وهي قوله: لا ينقض اليقين بالشك، اما ان يكون المراد منها هو إقامة المشكوك فيه مقام المتيقن في ترتيب الآثار فيكون المفاد وجوب ترتيب آثار المتيقن على المشكوك فيه كما هو الظاهر من الشيخ ومن بعده من الاعلام، واما ان يكون المراد منها إبقاء اليقين في اعتبار الشارع وإطالة عمره وعدم نقضه بالشك لكونه امرا مبرما لا ينقض بما ليس كذلك فيكون معنى عدم نقض اليقين بالشك هو التعبد ببقاء اليقين الطريقي في مقام العمل ولا يلزم منه صيرورة الاستصحاب طريقا وأمارة كما ذهبنا إليه سالفا.
لما عرفت في محله ان اليقين السابق لا يمكن ان يكون طريقا وأمارة على الشيء المشكوك في زمان الشك فلا يمكن ان يكون اعتبار بقاء اليقين الا إيجاب العمل على طبق اليقين الطريقي أي التعبد ببقاء المتيقن فتصير نتيجة الاعتبارين واحدة وهي وجوب ترتيب الآثار في زمان الشك وان كان الاعتبار ان مختلفين وطريق التعبد بوجوب
179

ترتيب الأثر مختلفا كما سيأتي الإشارة إليه.
إذا عرفت ذلك فنقول: ان قوله: لا ينقض اليقين بالشك، ان كان بمعنى تنزيل المشكوك فيه منزلة المتيقن في الآثار لا يترتب عليه بهذا الدليل الا آثار نفس المتيقن دون آثار الآثار أي لوازم اللوازم الشرعية وان كان الترتب شرعيا فضلا عن آثار اللوازم والملزومات والملازمات العقلية والعادية وذلك لوجهين:
الأول ان آثار المتيقن ليست الا ما يترتب عليه ويكون هو موضوعا لها، واما أثر الأثر فيكون موضوعه الأثر لا المتيقن كما ان أثر اللازم أو الملزوم أو الملازم مطلقا يكون موضوعه تلك الأمور لا المتيقن ومعنى لا ينقض اليقين بالشك بناء عليه انه رتب آثار المتيقن على المشكوك فيه والغرض انه لم يتعلق اليقين الا بنفس المتيقن فإذا تعلق اليقين بحياة زيد دون نبات لحيته وشك في بقائها يكون التعبد بلزوم ترتيب الأثر بلحاظ أثر المتيقن وهو ما يترتب على الحياة المتيقنة لا ما ليس بمتيقن كنبات اللحية فان التنزيل لم يقع الا بلحاظ المتيقن والمشكوك فيه، وذلك من غير فرق بين الآثار المترتبة على الوسائط الشرعية والعادية والعقلية وليس ذلك من جهة انصراف الأدلة بالنسبة إلى الآثار الغير الشرعية أو عدم إطلاقها أو عدم تعقل جعل ما ليس تحت يد الشارع كما ذهب إلى كل ذاهب، بل المقصود الأدلة وخروج تلك الآثار موضوعا وتخصصا وهذا الوجه يظهر من كلام الشيخ أيضا.
والثاني ان دليل الأصل لا يمكن ان يتكفل آثار الآثار وآثار الوسائط ولو كانت شرعية لأن الأثر انما يكون تحققها بنفس التعبد ولا يمكن ان يكون الدليل المتكفل للتعبد بالأثر متكفلا للتعبد بأثر الأثر لأن أثر المتيقن متقدم ذاتا واعتبارا على اثره أي أثر الأثر لكونه موضوعا له فلا بد من جعل الأثر والتعبد به أولا وجعل أثر ذلك الأثر والتعبد به في الرتبة المتأخرة عن الجعل الأول ولا يمكن ان يكون الجعل الواحد والدليل الفارد متكفلا لهما للزوم تقدم الشيء على نفسه وإثبات الموضوع بالحكم.
وبالجملة يرد في المقام الإشكال الذي ورد على أدلة حجية خبر الثقة بالنسبة إلى الاخبار مع الواسطة ولا يمكن الذب عنه بما يذب عن الإشكال هناك لإمكان ان يقال
180

هناك: ان قوله صدق العادل قضية حقيقية تنطبق على كل مصداق وجد منها ولو كان مصداقا تعبديا أو ان يقال ان العرف يحكم بإلقاء الخصوصية أو يدعى العلم بالمناط وان المصداق المتحقق بنفس دليل التعبد لا بد وان يترتب عليه الأثر ولا يأتي واحد منها في المقام لأن التعبد بعدم نقض اليقين بالشك لا يوجب حصول مصداق تعبدي من الشك واليقين حتى ينطبق عليه عدم نقضه به، فإذا علم بعدالة زيد وشك فيها يجب ترتيب آثار العدالة عليه لقوله لا ينقض اليقين بالشك فيحكم بجواز الاقتداء به وجواز شهادته في الطلاق فإذا كان جواز الاقتداء والشهادة فيه موضوعا لأثر شرعي لا يمكن ان يكون دليل لا ينقض حاكما بوجوب ترتبه عليهما لعدم تكفل هذا التعبد لإيجاد مصداق تعبدي لقوله لا ينقض اليقين حتى يقال: انه قضية تشمل ما وجد بنفس التعبد كما لا يمكن دعوى إلقاء الخصوصية عرفا أو العلم بالمناط بعد عدم كونه مصداقا للكبرى ولو تعبدا وبعد كون ترتب الأثر على الموضوع لأجل تعلق اليقين وهو مفقود، فدعوى وحدة المناط أو إلقاء الخصوصية مجازفة محضة.
ومما ذكرنا يعلم انه لو كان معنى لا ينقض اليقين بالشك هو التعبد بإبقاء اليقين وإطالة عمره لما ينفع في ترتب آثار الوسائط الشرعية فضلا عن غيرها لعين ما ذكرنا من الوجهين.
ومما ذكرنا يتضح أيضا انه لو كان دليل حجية الأمارات هو الأدلة التعبدية من الكتاب والسنة لكانت مثبتاتها أيضا غير حجة لأن جعل الكاشفية والطريقية أو ما شئت فسمه للأمارات تعبدا ليس الا ترتيب أثرها مع ان أثر كشف كل موضوع هو لزوم ترتيب اثره لا غير، واما أثر موضوع آخر لازم له أو ملزوم له أو ملازم انما هو لأجل كشفه الخاص به لا أثر كشف ملزومه أو لازمه أو ملازمه فلا يشمله دليل التعبد، فالتحقيق في الفرق بين الأمارات والأصول في حجية مثبتات الأولى دون الثانية هو ما عرفت.
في بيان الفرق بين الآثار الشرعية وغيرها
ان قلت: بناء على ما ذكرت لم يبق فرق بين الآثار المترتبة على الوسائط الشرعية وغيرها.
181

قلت: نعم لا فرق بينهما من حيث الاستفادة من دليل الأصل كقوله لا ينقض اليقين بالشك لكن هاهنا امر آخر موجب للزوم الأخذ بآثار اللوازم الشرعية وان كانت مع الف واسطة شرعية دون غيرها وهو انه لو فرض سلسلة مترتبة من اللوازم والملزومات الشرعية فصار مبدأ السلسلة أي الملزوم الأول مشمولا لدليل الأصل كقوله لا ينقض اليقين بالشك ينسلك المستصحب في صغرى كبرى كلية مجعولة شرعية لأجل تحقق مصداقها بالأصل فإذا انطبق عليه الكبرى المجعولة يتحقق لأجله موضوع لكبرى كلية مجعولة أخرى وبعد انطباقها عليه يتحقق موضوع لكبرى مجعولة ثالثة وهكذا إلى آخر السلسلة.
مثلا لو فرضنا ان عدالة زيد كانت معلومة فشك في بقائها فدليل لا ينقض يحكم بأنه عادل تعبدا فهذا الدليل يحرز مصداقا تعبديا لقوله: يجوز شهادة العادل فإذا شهد برؤية هلال شوال لدى الحاكم وضم إليه شاهد آخر يصير موضوعا لقوله إذا شهد عدلان برؤية الهلال لدى الحاكم يحكم بان الغد عيد فبحكم الحاكم يثبت عيدية الغد فيحرز مصداق قوله يجب أو يستحب صلاة العيد، وهكذا فدليل لا ينقض لا يتكفل الا التعبد بتحقق مبدأ السلسلة دون غيره فإذا ترتبت السلسلة من اللوازم والملزومات الشرعية تترتب أحكام جميع السلسلة لا لدليل الأصل بل للكبريات المترتبة المحرزة المصاديق بما ذكرنا، ومن ذلك يعلم ان التعبد بالملزوم الشرعي ينفع بالنسبة إلى ترتيب آثار اللازم ولازم اللازم إذا كانت شرعية إلى آخر السلسلة.
واما التعبد باللازم فلا ينفع بالنسبة إلى ملزومه ولا الملازم بالنسبة إلى ملازمه لعدم إيجاب التعبد باللازم أو
الملازم اندراج ملزومه أو ملازمه تحت كبرى مجعولة وكذا يعلم ان اللوازم العادية أو العقلية إذا كانت لها آثار شرعية لا يمكن ترتيب آثارها لأجل جريان الأصل في ملزومها لا للانصراف أو عدم الإطلاق أو عدم تعقل التعبد لكونها تكوينية أو كون المجعول فيها على نحو لا يمكن ترتب الآثار فان كل ذلك خلاف التحقيق بل لأن ترتيب الأثر موقوف على كبرى شرعية يندرج الموضوع فيها كما عرفت، وليس بالنسبة إلى الأمور العادية أو العقلية كبرى شرعية فإذا حكم الاستصحاب بحياة زيد يترتب عليه ما هو آثار الحياة بحسب الكبريات الشرعية واما انه إذا كان حيا نبتت لحيته فلم يقع في
182

دليل شرعي حتى يترتب عليه اثره لأجل تحقق مصداق الكبرى المجعولة فلو فرض وجود دليل شرعي يكون مفاده التعبد بنبات اللحية على فرض الحياة لقلنا بترتيب آثار نباتها باستصحاب الحياة من دون شبهة الامتناع أو المثبتية، فتأمل في أطراف ما ذكرنا فإنه يليق بذلك.
تتميم حول الوسائط الخفية
إذا كانت الواسطة بين المستصحب والأثر الشرعي خفية يجري الاستصحاب ويترتب عليه الأثر ولا يكون من الأصول المثبتة، والمراد من خفاء الواسطة ان العرف ولو بالنظر الدقيق لا يرى وساطة الواسطة في ترتب الحكم على الموضوع ويكون لدى العرف ثبوت الحكم للمستصحب من غير واسطة وانما يرى العقل بضرب من البرهان كون الأثر مترتبا على الواسطة لبا وان كان مترتبا على ذي الواسطة عرفا مثاله ان الشارع إذا قال حرم عليكم الخمر يكون الموضوع للحرمة هو الخمر عرفا لكن العقل يحكم بان ترتب الحرمة على الخمر لا يمكن إلا لأجل مفسدة قائمة به تكون تلك المفسدة علة واقعية للحرمة ثم لو فرض ان العقل اطلع على جميع الخصوصيات الواقعية للخمر وحكم بالدوران والترديد ان العلة الواقعية للحرمة هي كونه مسكرا مثلا فيحكم بان إسكار الخمر علة لثبوت الحكم بالحرمة ثم حكم بان موضوع الحرمة ليس هو الخمر بحسب الملاكات الواقعية بل الموضوع هو المسكر بما انه مسكر ولما كان هو متحدا في الخراج مع الخمر حكم بحرمته بحسب الظاهر ولكن الموضوع الواقعي ليس الا حيثية المسكرية لأن الجهات التعليلية هي الموضوعات الواقعية لدى العقل، فإذا علم ان مائعا كان خمرا سابقا وشك في بقاء خمريته فلا إشكال في جريان استصحاب الخمرية وثبوت الحرمة له.
ولا يصح ان يقال ان استصحاب الخمرية لا يثبت المسكرية التي هي موضوع الحكم
183

لدى العقل الا بالأصل المثبت لأن ترتب الحرمة انما يكون على المسكر أولا وبالذات وعلى الخمر ثانيا وبالواسطة، وذلك لأن الواسطة عقلية خفية لا يراها العرف واسطة وليس المراد بخفاء الواسطة ان العرف يتسامح وينسب الحكم إلى الموضوع دون الواسطة مع رؤيتها لأن الموضوع للأحكام الشرعية ليس ما يتسامح فيه العرف بل الموضوع للحكم هو الموضوع العرفي حقيقة ومن غير تسامح، فالدم الحقيقي بنظر العرف موضوع للنجاسة فإذا تسامح وحكم بما ليس بدم عنده انه دم لا يكون موضوعا لها كما انه لو حكم العقل بالبرهان بكون شيء دما أو ليس بدم لا يكون متبعا لأن الموضوع للحكم الشرعي ما يكون موضوعا لدى العرف.
والسر في ذلك ان الشارع لا يكون في إلقاء الأحكام على الأمة الا كسائر الناس ويكون في محاوراته وخطاباته كمحاورات بعض الناس بعضا فكما ان المقنن العرفي إذا حكم بنجاسة الدم لا يكون موضوعها الا ما يفهمه العرف مفهوما ومصداقا فلا يكون اللون دما عنده وليس موضوعا لها كذلك الشارع بالنسبة إلى قوانينه الملقاة إلى العرف، فالمفهومات عرفية وتشخيص مصاديقها أيضا كذلك.
«فما وقع» في كلام المحقق الخراساني رحمه الله وتبعه بعضهم من ان تشخيص المفاهيم موكول إلى العرف لا تشخيص مصاديقها فإنه موكول إلى العقل «منظور فيه» ضرورة ان الشارع لا يكون في خطاباته الا كأحد من العرف ولا يمكن ان يلتزم بان العرف في فهم موضوع أحكامه ومصاديقه لا يكون متبعا بل المتبع هو العقل.
وبالجملة الشرع عرف في خطاباته لا ان الموضوعات متقيدة بكونها عرفية فإنه ضروري البطلان فحينئذ يكون قوله لا ينقض اليقين بالشك قضية عرفية فإذا رأى العرف ان القضية المتيقنة عين المشكوك فيها وان عدم ترتب الحكم على المشكوك فيه من نقض اليقين بالشك يجري الاستصحاب ولو لم يكن بنظر العقل من نقضه به لعدم وحدة القضيتين لديه هذا كله واضح.
184

في حال الأمثلة التي ذكرها الشيخ
وانما الكلام في الأمثلة التي ذكرها الشيخ الأعظم قدس سره ولا يخفى ان كلها من قبيل الوسائط الغير الخفية ويكون الأصل فيها مثبتا.
اما قضية استصحاب رطوبة النجس لإثبات تنجس ملاقيه فلان العرف هو الذي يستفيد من الأدلة الشرعية الواردة في النجاسات ان التنجس لا يكون إلا لأجل سراية النجاسة إلى الملاقى فملاقاة الثوب للرطب لا يكون موضوعا للحكم بالغسل عند العرف بل الموضوع هو الثوب المتأثر عن النجاسة الرطبة فاستصحاب الرطوبة لا يثبت هذا العنوان وقد عرفت ان الوسائط الخفية ما تكون الواسطة عقلية لا يراها العرف واسطة، كما ان استصحاب عدم الحاجب للحكم بتحقق الغسل مثبت لأن الواسطة عرفية لا عقلية وكذا استصحاب عدم هلال شوال أو بقاء شهر رمضان لإثبات كون الغد عيدا مثبت بلا إشكال وريب لأن العيد هو اليوم الأول من شوال والأولية عبارة عن مبدئية سلسلة أيام الشهر وهو امر بسيط لا يثبت باستصحاب عدم حدوث شوال أو بقاء شهر رمضان «نعم» لو كان الأول مركبا من وجود يوم وعدم يوم مثله أو ضده قبله يمكن إثباته بالوجدان والأصل، لكن على فرض تسليمه لا يفيد ذلك بالنسبة إلى إثبات عنوان ساير الأيام فإثبات ثامن ذي الحجة وتاسعه وعاشره باستصحاب عدم هلال ذي الحجة أو بقاء ذي القعدة مثبت، فان كون اليوم الثامن بعد مضي سبعة أيام من اليوم الأول عقلي لا شرعي.
فما ادعى بعض أعاظم العصر من ثبوت جميع أيام الشهر بالأصل إذا قلنا بان الأول مركب فيه ما فيه تأمل (1) هذا مضافا إلى ان كون الأول مركبا مما ذكر واضح الفساد.
فحينئذ بقي الإشكال في الأحكام المترتبة على اليوم الأول أو العيد أو اليوم الثامن والتاسع والعاشر في إعمال الحج وكذا ساير الأحكام المتعلقة بعناوين الأيام في قالبه.

(1) وجهه انه يمكن ان يقال: ان الثاني مركب من وجود يوم وكونه مسبوقا بالأول فإذا ثبت الأول بالأصل والوجدان يثبت الثاني بهما وبالوجدان وهكذا (منه دام ظله العالي)
185

ولقد تصدى لدفع الإشكال المحقق المتقدم ذكره بما لا يخلو عن غرابة وهو الالتزام بان اليوم الأول في موضوع الأحكام غير اليوم الأول الواقعي فإنه عبارة عن يوم رؤية الهلال أو اليوم الواحد والثلثين من الشهر الماضي فالمراد من ثامن ذي الحجة هو الثامن من رؤية الهلال أو بعد انقضاء ثلثين يوما من ذي القعدة سواء كان مطابقا للواقع أو لا «ولا يخفى ما فيه» فإنه مخالف للضرورة عند جميع المسلمين فما من مسلم الا ويعلم بالضرورة ان يوم عيد الفطر هو اليوم الأول من شوال ويوم عيد الأضحى هو اليوم العاشر من ذي الحجة وهكذا مع مخالفة ما ذكر للأدلة الشرعية كما يظهر بالتتبع والمراجعة إلى الاخبار لكن الذي يسهل الخطب ان بناء المسلمين من صدر الإسلام إلى الآن على ترتيب آثار العيدية على يوم رؤية الهلال ويجعلون يوم الرؤية أو يوم بعد يوم الشك
أو بعد انقضاء ثلثين يوما من الشهر السابق يوم الأول وثانيه الثاني وهكذا الا من جهة ان موضوع الحكم الشرعي غير الموضوع الواقعي فإنه ضروري البطلان، بل لأن هذا حكم ظاهري ثابت من الصدر الأول إلى الآن من غير إشكال في جميع الطبقات.
بل يظهر ذلك من الأدلة اللفظية أيضا بعد التتبع، فما نقل عن رسول الله صلى الله عليه وآله انه قال إذا خفي الشهر فأتموا العدة شعبان ثلثين يوما وصوموا الواحد وثلثين (1) وعن أبي جعفر أو أبي عبد الله عليهما السلام قال شهر رمضان يصيبه ما يصيبه الشهور من النقصان فإذا صمت تسعة وعشرين يوما ثم تغيمت السماء فأتم العدة ثلثين يوما (2) لا يراد منها الا ان الحكم الظاهري هو تكميل العدة فأمره بتكميل العدة بعد قوله شهر رمضان يصيبه النقصان كسائر الشهور كالنص في ان تكميل العدة عند احتمال الزيادة والنقصان حكم ظاهري، وجعل الواحد وثلثين يوم الصوم أو يوم الفطر أيضا حكم ظاهري.
وبالجملة لا إشكال في ان الشهر والعيد ويوم النحر وغير ذلك من الأيام في موضوع الأحكام ليس الا الأيام الواقعية كما لا إشكال في ان بناء المسلمين والأئمة عليهم السلام على العمل بالظاهر وترتيب آثار الواقع على اليوم الواحد والثلثين من رؤية هلال

(1) راجع الوسائل - كتاب الصوم - الباب 5 - من أبواب احكام شهر رمضان - الرواية 16.
(2) راجع الوسائل - كتاب الصوم - الباب 5 - من أبواب احكام شهر رمضان - الرواية 1.
186

شهر شعبان أو شهر رمضان وترتيب آثار الأول عليه والثاني على ما بعده وهكذا
تذييل
في ان استصحاب العنوان المنطبق على الخارج ليس بمثبت
ويذكر فيه أمور:
الأول
انه قد عرفت سابقا ان استصحاب الفرد لا يغنى عن الكلي وبالعكس فإذا تعلق حكم على الإنسان فاستصحاب بقاء زيد لا يثبت آثار الإنسان، لا لأن الفرد مقدمة للكلي فإنه خلاف التحقيق، بل لأن حيثية الإنسانية في عالم الاعتبار وتقدير موضوعية الموضوع للأحكام غير حيثية الفردية وان كان الفرد متحدا مع الطبيعي خارجا لكن لما كان العناوين الطبيعية موجودة بوجود الفرد لدى العرف فإذا تعلق حكم بعنوان يسرى إلى مصداقه الخارجي فإذا شك في بقاء العنوان للمتشخص الخارجي يمكن استصحابه وترتيب الأثر عليه فإذا شك في بقاء عنوان الخمر المنطبق على الموجود الخارجي يستصحب بقاء الخمر ويترتب عليه اثره، وبالجملة فرق بين استصحاب الفرد لترتيب آثار الكلي وبين استصحاب العنوان المنطبق على الخارج لترتيب اثره عليه فان ذلك استصحاب نفس العنوان المتحقق في الخارج فهو كاستصحاب نفس الكلي لترتيب آثاره.
والحاصل ان هاهنا أمورا ثلاثة أحدها عنوان الكلي بما انه كلي، والثاني عنوان الفرد الذي متحد معه خارجا ومختلف اعتبارا وحيثية، والثالث عنوان الكلي المتحقق في الخارج المتشخص في العين ويجري الاستصحاب في الأول والثالث لترتيب آثار العنوان دون الثاني اما في الأول فلا كلام فيه واما في الثالث فلا ينبغي الإشكال فيه لأن الفرق بين العنوان الكلي والخارجي بالتشخص واللا تشخص والا فنفس العنوان محفوظ فإذا تعلق حكم بعنوان الكر يكون هذا الحكم متعلقا بكل ما هو كر في الخارج بعنوان انه كر فترتيب آثار الكرية باستصحاب كرية الماء الخارجي مما لا مانع منه، واما
187

استصحاب وجود المائع الخارجي أو الوجود الخارجي المتحد مع الكر لترتيب آثار الكرية فلا يجري الأعلى القول بالأصل المثبت.
ومما ذكرنا يتضح حال العناوين المتحدة مع المستصحب في الخارج مما هي من قبيل الخارج المحمول كاستصحاب الوجود لترتيب الوحدة أو التشخص فان ذلك مثبت أيضا فضلا عما هو من قبيل المحمول بالضميمة كالملكية والغصبية والسواد والبياض، فان كل ذلك من قبيل المحمول بالضميمة الا ان الضميمة في الأوليين من الاعتبارات العقلائية بخلاف الأخيرين فإنهما من الاعراض الخارجية. فما ادعى المحقق الخراساني رحمه الله من الفرق بين المحمول بالضميمة والخارج المحمول، ففيه ما لا يخفى، كما ان في تمثيله للخارج المحمول بالملكية والغصبية مناقشة بل قد يكون في بعض المحمولات بالضميمة مما لا يكون بنظر العرف كذلك يجري الاستصحاب لكونه من الوسائط الخفية.
حول استصحاب الأحكام الوضعية
الثاني لا إشكال في جريان الاستصحاب في الأحكام الوضعية كجريانه في الأحكام التكليفية لما تقدم من ان الوضعيات بأقسامها مما يتعلق بها الجعل مستقلا ولو فرض عدم تعلقه بها الا بمنشئها فلا إشكال أيضا في جريانه فيها لكون وضعها ورفعها بيد الشارع، انما الإشكال في ان استصحاب وجود الشرط أو عدم المانع أو عدم الشرط أو وجود المانع هل يجري لإحراز وجود قيد المكلف به أو عدمه؟ فاستصحاب الوضوء يحرز كون الصلاة متقيدة بالطهارة؟ واستصحاب عدم لا بسية غير المأكول يحرز كون الصلاة بلا مانع؟ واستصحاب عدم الشرط أو وجود المانع يحرز ان الصلاة وجدت غير مقيدة بوجود الشرط أو وجدت مع المانع أو لا؟ أو يفصل بين استصحاب الشرط وعدم المانع فيحرز الأول دون الثاني، وما النكتة في ان جريان استصحاب الوضوء وطهارة الثوب مما لم يقع فيه إشكال
188

واما استصحاب عدم لا بسية غير المأكول صار موردا للنقض والإبرام مع ان الطهارة الحدثية من قيود الصلاة كما ان الطهارة الخبثية من قيودها أو النجاسة من موانعها.
ولا يمكن ان يقال: ان الطهارة من شرائط المصلى لا الصلاة، وعدم المأكولية من موانع الصلاة بحسب الأدلة فإحراز طهارة المصلى بالاستصحاب يكفي لصحة صلاته لكن استصحاب عدم لا بسية المصلى غير المأكول لا يثبت تقيد الصلاة بعدم كونها مع المانع الا بالأصل المثبت، وذلك لأن الصلاة لو لم تتقيد بالطهارة يلزم ان تصح مع عدم الطهارة ولو عمدا ولم يلتزم به أحد، ولو كان الطهارة عنوان المصلى كالاستطاعة لزم عدم وجوب الصلاة مع عدم التطهير.
هذا مضافا إلى ان ظاهر الأدلة أيضا يقتضى اشتراط الصلاة بها كقوله لا صلاة الا بطهور، وظاهر الأدلة الواردة في النهي عن الصلاة في النجس كالأدلة الواردة في عدم جوازها في غير المأكول من غير فرق بينهما.
والذي يمكن ان يقال: ان الميزان في التخلص عن الأصل المثبت كما ذكرنا ان يصير المستصحب مندرجا تحت كبرى شرعية فإذا استصحبت الطهارة الخبثية أو الحدثية يصير الموضوع مندرجا تحت الكبرى المستفادة من قوله: لا صلاة الا بطهور، فان المستفاد منه ان الصلاة متحققة بالطهور بعد حفظ ساير الجهات فإذا قال الشارع:
ان الصلاة تتحقق بالطهور، وقال في دليل آخر: ان الطهور متحقق، يحكم بصحة الصلاة المتحققة مع الطهور الاستصحابي ويجوز الاكتفاء بالصلاة معه، وكذا فيما إذا كان لابسا لغير المأكول يحرز فساد صلاته، فان استصحاب لا بسية وبر غير المأكول مما يندرج الموضوع به في قوله: الصلاة في وبر غير المأكول فاسدة.
واما استصحاب عدم لا بسية غير المأكول مما لا يندرج به الموضوع تحت كبرى شرعية لعدم ورود دليل شرعي بان الصلاة متحققة إذا لم تكن في غير المأكول، وانما هو امر عقلي ينتزع من قوله: الصلاة في كل شيء من غير المأكول فاسدة، فيحكم العقل بان الصلاة إذا وجدت في غير ذلك لا تكون فاسدة.
هذا غاية ما يمكن ان يفرق بينهما ولكن مع ذلك لا يخلو من نظر لإمكان ان
189

يقال: ان مثل قوله: لا صلاة الا بطهور، انما هو بصدد جعل شرطية الطهور للصلاة أو الإرشاد إليها ومثل قوله: الصلاة في وبر ما لا يؤكل فاسدة، أو لا تصل فيه، انما هو بصدد جعل المانعية أو الإرشاد إليها، واما صحة الصلاة أو تحققها مع وجود الشرط أو فسادها وعدم تحققها مع وجود المانع عقلي لا شرعي.
اللهم الا ان يقال: ان قوله لا تصل في وبر ما لا يؤكل لحمه وان يستفاد منه الوضع لكن ليس مفاده الا النهي عن الصلاة فيما لا يؤكل ولا شك في انه كبرى شرعية متلقاة من الشارع ينتزع العقل منها الشرطية، فإذا ضم إليها ان هذا الملبوس مما لا يؤكل يستنتج منهما ان لا تصل فيه وان الصلاة فيه فاسدة، وكذا قوله: لا صلاة الا بطهور، الظاهر في ان الصلاة مع الطهور صلاة وان ينتزع منه الشرطية لكن لا تكون هذه الكبرى ساقطة وليست الشرطية فيها ولا المانعية في السابقة مفاد الأولى منهما، بل مفاد ذلك ان الصلاة مع الطهور صلاة فإذا ضم إليه قوله: لا تنقض اليقين بالشك المستفاد منه ان الطهور متحقق يستنتج منهما ان الصلاة مع هذا الطهور صلاة فيستفاد من الدليلين توسعة نطاق الشرط وكذا في جانب المانع، وبالجملة لا معنى لرفع اليد عن قول الشارع ان الصلاة في هذا الوبر الاستصحابي فاسدة أو الصلاة مع الطهور الاستصحابي صلاة بمجرد ان الدليلين يستفاد منهما الشرطية أو المانعية.
في جريان الأصل بلحاظ الأثر العدمي
الثالث قد مر في مطاوي المباحث السالفة ان الظاهر من الكبرى المجعولة في باب الاستصحاب أي قوله لا تنقض اليقين بالشك هو اعتبار بقاء اليقين وانه لما كان امرا مبرما كأنه حبل مشدود بين المتيقن والمتعلق لا ينقص بالشك الذي لا استحكام فيه لكونه حالة ترديدية فلا ينبغي ان ينقض الأمر المستحكم المبرم بالأمر الغير المبرم ولعل هذا سر التعبير بقوله في صحيحة زرارة: ولا ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك، وبالجملة الظاهر هو اعتبار بقاء اليقين في عالم التشريع ويحكم العقل تخلصا عن اللغوية بان الجعل الشرعي لا بد له من أثر يكون تحت يد الشارع ويترتب على هذا الاعتبار لكن لا يلزم ان يكون
190

الأثر امرا وجوديا ولا أثرا عمليا بل لو ترتب عليه عدم لزوم العمل أو جواز ترك الإتيان لا مانع منه، وليس في أدلة الاستصحاب لفظ العمل ومثله حتى يقال انه ظاهر في الأثر الوجودي وترك العمل ليس عملا وعدم ترتيب الأثر ليس أثرا.
وما قد يقال: ان المراد بالنقض هو النقض العملي ان كان المراد منه ان مفهوم العمل مأخوذ في الدليل، فهو ظاهر الفساد وان كان المراد انه لا بد في الجعل من أثر يكون تحت يد الشارع لئلا يلزم اللغوية فهو حق لكن رفع الكلفة عن المكلف وعدم إلزام العمل وأمثال ذلك مما تخرج الجعل عن اللغوية، فاستصحاب عدم التكليف والوضع وكذا استصحاب عدم الموضوعات لرفع الآثار المجعولة لها مما لا مانع منه - تأمل
الرابع
قد اشتهر بين الاعلام ان الأثر الغير الشرعي والشرعي بواسطة امر غير شرعي لا يترتب على المستصحب إذا كان له واقعا، واما إذا كان للحكم الأعم من الواقعي والظاهري فيترتب عليه لتحقق موضوعه الحقيقي وجدانا فوجوب الموافقة وحرمة المخالفة واستحقاق العقوبة من الآثار العقلية التي تترتب على الحكم الاستصحابي لكونها من آثار الحكم كان بخطاب استصحابي أو خطاب واقعي، ولا يخفى ما فيه من التسامح لأن حرمة المخالفة ووجوب الموافقة واستحقاق العقوبة كلها من آثار الحكم الواقعي عقلا، واما الأحكام الظاهرية فليست في موافقتها ولا مخالفتها من حيث هي شيء، لأنها أحكام طريقية للتحفظ على الواقع، فخطاب لا تنقض كخطاب صدق العادل مثلا ليس من الخطابات النفسية التي يحكم العقل بوجوب موافقتها وحرمة مخالفتها من حيث هي ولا يكون في موافقتها ثواب ولا في مخالفتها عقاب الا انقيادا أو تجريا وانما يحكم العقل بلزوم الإتيان بمؤدياتها لكونها حجة على الواقع فيحكم العقل من باب الاحتياط بلزوم موافقتها لا لكونها أحكاما ظاهرية بل لاحتمال انطباقها على الواقع، فاستحقاق العقوبة انما هو على مخالفة الواقع لا الحكم الظاهري.
191

التنبيه السابع في مجهولي التاريخ
لا إشكال في جريان الاستصحاب مع الشك في أصل تحقق شيء ولا في جريانه مع الشك في تقدمه وتأخره بالنسبة إلى اجزاء الزمان، فإذا شك في تحققه يوم الخميس أو الجمعة يحكم بعدم وجوده إلى يوم الجمعة إذا كان الأثر مترتبا على عدمه كذلك لا على حدوثه فيه أو تأخره عن يوم الخميس وهذا واضح.
انما الإشكال والكلام فيما إذا لو حظ بالنسبة إلى حادث آخر كما إذا علم حدوث الكرية والملاقاة وشك في المتقدم منهما ومجمل الكلام فيه ان الحادثين اما ان يكونا مجهولي التاريخ أو أحدهما كذلك، فعلى الأول لا إشكال في جريانه إذا كان الأثر مترتبا على عدم تقدم أحدهما على الاخر أو مقارنته له بنحو كان التامة فاستصحاب عدم تحقق عنوان تقدم دخول زيد على عمرو في البيت جار كاستصحاب ساير العناوين المضايفة معه كذلك، وكذا لا إشكال في جريانه إذا كان الأثر مترتبا على سلب اتصاف أحدهما بأحد العناوين على نحو كان الناقصة، فاستصحاب ان زيدا لم يكن مقدما على عمرو في دخول البيت مما لا مانع منه لتمامية أركانه فإنه قبل دخولهما يصدق ان زيدا لم يكن مقدما على عمرو في الدخول بنحو السلب المحصل الصادق مع نفي الموضوع، وكذا إذا كان الأثر مترتبا على تقدم دخول زيد على عمرو بنحو كان الناقصة فيستصحب عدم كون زيد مقدما على عمرو لسلب الأثر.
نعم لا يجري الأصل إذا كان الأثر مترتبا على الثبوت المتصف بالعدم في زمان حدوث الآخر فإذا كان الأثر مترتبا على الكرية المتصفة بعدم حدوثها في زمان الملاقاة لا يمكن إثبات هذا العنوان بأصالة عدم حدوثها إلى زمان الملاقاة الا بالأصل المثبت لأن الكرية الكذائية ليست لها حالة سابقة وإذا كان الأثر مترتبا على نفس عدم كل منهما في زمان حدوث الاخر فالظاهر جريانه، فاستصحاب عدم عقد الجد على الصغيرة في زمان
192

عقد الأب جار ومعارض مع استصحاب عدم عقد الأب عليها في زمان عقد الجد.
واختار المحقق الخراساني رحمه الله عدم الجريان في هذه الصورة لعدم إحراز اتصال زمان الشك باليقين، وقبل تقرير كلامه لا بد من بيان ضابط عدم اتصال زمان الشك باليقين المانع من جريان الاستصحاب.
في ضابط اتصال زمان الشك باليقين
فنقول: ان المناط في اتصال زمانه به ان لا يتخلل بين اليقين المتعلق بشيء وبين الشك في بقائه يقين آخر مضاد له فان مع تخلل اليقين المضاد لا يعقل الشك في البقاء فعدم جريان الاستصحاب لعدم اتصال زمان الشك باليقين ولعدم صدق نقض اليقين بالشك بالنسبة إلى اليقين الأول بل يصدق نقض اليقين باليقين.
ثم انه لا يعقل الشك في عدم اتصالهما بحيث يصير الإنسان شاكا في تخلل يقين بالضد بين اليقين السابق والشك اللاحق فعلا لأن الملاك ان يكون حين الجريان شاكا ومتيقنا ومتصلا زمان شكه بيقينه بحسب حاله فعلا ولا يمكن ان يكون الإنسان شاكا في ان له يقينا بأمر كذائي أولا، اللهم الا بعض أهل الوسوسة الشاك في وجدانياته وهو خارج عن محل الكلام.
فان قلت: لو علم المكلف بأنه كان مجنبا في أول النهار وصار متطهرا منها جزما ثم رأى في ثوبه منيا وعلم إجمالا بأنه اما من جنابته التي قطع بارتفاعها بالغسل أو من جنابة جديدة، يكون إجراء استصحاب الجنابة المقطوعة الموجبة لتلويث الثوب ممنوعا لعدم إحراز اتصال زمان الشك باليقين لأن الجنابة امرها دائر بين التي قطع زوالها وبين التي قطع بقائها فيحتمل الفصل بين زمان الشك واليقين بحصول الجنابة بيقين بزوالها فهذا من قبيل عدم إحراز الاتصال، وكذا لو علم تفصيلا بكون غنم معين موطوء وآخر غير موطوء وعرض له الشك بواسطة ظلمة وشبهها فاستصحاب عدم الموطوئية المعلوم سابقا قبل عروض الوطء لا يجري لعدم إحراز اتصال زمان الشك باليقين لاحتمال تخلل اليقين بالضد في كل منهما (وان شئت قلت): تكون أمثاله من قبيل الشبهة المصداقية لدليل الاستصحاب للشك في
193

انها من نقض اليقين بالشك أو باليقين.
قلت: لا يكون شيء ما ذكر من قبيل ذلك.
اما الأول فلان عدم إجراء الاستصحاب فيه ليس لعدم إحراز الاتصال بل لعدم اليقين السابق لا تفصيلا ولا إجمالا اما الأول فواضح، واما الثاني فلان كون هذا المني في الثوب من جنابة معلومة بالتفصيل أو الإجمال مما لا أثر له بل الأثر مترتب على العلم بكون المكلف كان جنبا تفصيلا أو إجمالا فشك في بقائها والمفروض انه يعلم تفصيلا بحصول جنابة له أول النهار وزوالها بالغسل بعده ويشك بدوا في حصول جنابة جديدة له فأين العلم الإجمالي حتى يستصحب؟ فعلمه الإجمالي مما لا أثر له وما له أثر فلا يعلم به.
ان قلت: انه يعلم بكونه جنبا بعد خروج الأثر المردد ولم يعلم بارتفاعها.
قلت: لا يجري الاستصحاب الشخصي فيه لدوران الشخص بين جنابة أول النهار وجنابة بعد الزوال والأولى مقطوعة الزوال والثانية محتملة الحدوث، فعدم الجريان لعدم تمامية أركانه في شيء منهما، ولا الكلي، للعلم بعدم الاتصال في المثال.
نعم لو احتمل حدوث جنابة عند ارتفاع الأولى يكون من القسم الثالث ولو اشتهى أحد ان يمثل لعدم إحراز الاتصال فله ان يقول في المثال: لو احتمل حدوث جنابة واحتمل كون المحتمل حادثا عند زوال الأولى بلا فصل واحتمل الفصل فان عدم جريان الكلي في الفرض لعدم إحراز الاتصال بمعنى لا بالمعنى المتقدم فتدبر وتأمل.
وعلى ذلك يعتبر في الاستصحاب مضافا إلى ما مر من الاتصال إحراز كون الشك في البقاء وقد سبق منا اعتبار ذلك واستفادته من أدلته لكن يرد عليه ان ما هو المعتبر فيه هو إحراز كون الشك في البقاء لا إحراز البقاء فإنه مناف للاستصحاب ومع احتمال فيه هو إحراز كون الشك في البقاء لا إحراز البقاء فإنه مناف للاستصحاب ومع احتمال حدوث مصداق آخر مقارنا يحرز الشك في البقاء وان احتمل الانفصال أيضا كما لا يخفى واما المثال الثاني فلان كل واحد من الغنمين ما دام بقاء الظلمة يكون الشك في وطيه متصلا باليقين بعدم وطيه ولا يحتمل المكلف في الحال وجود يقين فعلى فاصل بين اليقين السابق والشك اللاحق وان شئت قلت ان يقينه التفصيلي ارتفع بواسطة عروض الجهل وحدث علم إجمالي ويكون كل من طرفيه شكا محضا لا يحتمل فيه اليقين
194

ومما ذكرنا يتضح النظر فيما أتعب بعض أعاظم العصر نفسه في ضابط عدم اتصال زمان الشك باليقين وتمثل بإناء شرقي وغربي علم تفصيلا نجاستهما وأصاب أحدهما المطر وفصل بين ما إذا علم إجمالا بإصابة المطر أحدهما فاختار جريان الاستصحاب وبين ما علم تفصيلا بإصابته خصوص ما كان في الطرف الشرقي ثم عرض له الاشتباه فاختار عدم الجريان لعدم الاتصال قائلا انه لا يعقل اتصال زمان الشك في كل منهما بزمان اليقين بنجاستهما لأن المفروض انه قد انقضى على أحد الإناءين زمان لم يكن زمان اليقين بالنجاسة ولا زمان الشك فيها فكيف يعقل اتصال زمان الشك في كل منهما بزمان اليقين فلا مجال لاستصحاب بقاء النجاسة في كل منهما لأنه في كل إناء منهما يحتمل ان يكون هو الإناء الذي تعلق العلم بطهارته ففي كل منهما يحتمل انفصال الشك عن اليقين «انتهى» وذلك لأن العلم التفصيلي الحاصل في زمان مع تبدله بالشك في زمان آخر لا يضر بالاستصحاب فان الميزان ان يكون زمان الشك متصلا باليقين في حال جريانه لا قبله وفي حاله لا يكون للمكلف بالنسبة إلى الإناء المشتبه الا العلم بالنجاسة سابقا والشك في اصابته المطر ولا يحتمل في حاله تخلل اليقين بإصابته المطر بين العلم والشك وليس معنى اتصال زمان الشك باليقين ان لا يمر على المشكوك فيه زمان يكون متعلقا للعلم ولو انقلب بالجهل، ضرورة ان المناط بحال إجراء الأصل فلو حصل للمكلف الف علم بضد الحالة السابقة ولم يكن في حال الجريان الا العلم والشك من غير تخلل علم بالضد أو احتماله مع ان الاحتمال في المقام لا يمكن كما عرفت يكون جريانه بلا مانع ويكون من عدم نقض اليقين بالشك وهذا واضح جدا.
فتحصل مما ذكرنا ان الضابط في اتصال زمان الشك باليقين هو ان المكلف في حال إجراء الأصل يكون على يقين متعلق بشيء وشك في بقائه ولا يكون في هذا الحال له يقين آخر مضاد ليقينه فاصل بينه وبين شكه ولا احتماله، واعتباره في الاستصحاب أوضح من ان يخفى، لأنه إذا كان له يقينان كذلك ينتقض يقينه السابق باليقين اللاحق فلا يكون شاكا في بقاء ما تعلق به اليقين الأول، إذا عرفت ذلك يتضح ان جريان الأصل في مجهولي التاريخ لا مانع منه إذا كان الأثر مترتبا على عدم كل منهما في زمان و
195

وجود الاخر ولا يكون زمان اليقين منفصلا عن زمان الشك بيقين مضاد لليقين السابق ولا يحتمل ذلك أيضا كما عرفت.
إشكال المحقق الخراساني في مجهولي التاريخ وجوابه
وما أفاده المحقق الخراساني رحمه الله في بيان عدم اتصال زمان الشك باليقين من فرض زمانين بعد زمان العلم بعدم حدوثهما، أحدهما زمان حدوث واحد منهما والثاني زمان حدوث الاخر والشك في الآن الأول منهما وان كان شكا في وجود كل منهما بالإضافة إلى اجزاء الزمان ولكن لا يكون شكا فيه بالإضافة إلى الاخر الا في الآن الثاني لأن الشك في المتقدم والمتأخر منهما لا يمكن الا بعد العلم بوجودهما فزمان الثالث زمان الشك في المتقدم والمتأخر أو الشك في وجود أحدهما بالإضافة إلى زمان وجود الاخر وهو ظرف العلم الإجمالي بوجود كل منهما اما في الزمان المتقدم أو في الزمان المتأخر، ولما شك في ان أيهما مقدم وأيهما مؤخر لم يحرز اتصال زمان الشك باليقين «انتهى ملخصا» فيه انه ان أراد بعدم الاتصال ان الزمان الثاني لا يكون ظرفا للشك ولا لليقين بل الزمان الأول ظرف لليقين بعدمهما وزمان الثاني ظرف للشك في وجود كل منهما بالنسبة إلى اجزاء الزمان لا بالنسبة إلى الاخر الذي هو مضايفه فلا يكون ظرفا للشك بالنسبة إليه كذلك الا الزمان الثالث فانفصل الزمان الثالث عن الأول بزمان لا يكون ظرفا للشك ولا لليقين فلا يكون زمان اليقين متصلا بزمان الشك، فيرد
عليه مضافا إلى ان المفروض في هذا القسم عدم أخذ الإضافة إلى الاخر قيدا له فيكون الزمان الثاني ظرفا للشك أيضا وان كان الأثر لا يترتب الا على عدمه في زمان وجود الاخر لا على عدمه في الزمان الثاني: أنه لا دليل على اعتبار هذا النحو من الاتصال فلا مانع من فصل زمان اليقين عن زمان الشك بزمان لا يكون ظرفا للشك ولا لليقين وانما المانع فصل يقين متعلق بضد ما يتعلق به اليقين الأول أو احتمال فصله، وهذا الاحتمال وان كان بعيدا من مساق كلامه لكن ذكرناه تتميما للفائدة.
196

وان أراد من عدم الاتصال بينهما ما هو ظاهر كلامه من ان العلم الإجمالي بحدوثه مقدما أو مؤخرا موجب لعدم إحراز الاتصال لاحتمال انفصال زمان الشك عن اليقين بحدوث ما يستصحب عدمه، فيرد عليه ان احتمال انفصال ذات المعلوم بالإجمال بين زمان اليقين والشك مما لا يضر بالاستصحاب لأن ذلك محقق نفس الشك واحتمال انفصال العلم بالحدوث بينهما مقطوع البطلان لأن ذلك مساوق لاحتمال كون المشكوك فيه متيقنا وكون الشك يقينا وكون المعلوم بالإجمال معلوما تفصيليا وكل ذلك ضروري البطلان، ولعل منشأ هذا الاشتباه شدة اتصال اليقين بالمتيقن فيكون احتمال انفصال المتيقن بين زمان اليقين والشك موجبا لزعم احتمال انفصال اليقين مع ان الأول غير مضر والثاني غير واقع بل غير معقول.
فتحصل مما ذكر ان جريان الأصل في مجهولي التاريخ مما لا مانع منه.
تقرير إشكال شيخنا العلامة في مجهولي التاريخ وجوابه
ان قلت: ان الاستصحاب في مجهولي التاريخ غير جار لا لعدم إحراز الاتصال بل لعدم إحراز كونه من نقض اليقين بالشك واحتمال كونه من نقض اليقين باليقين، وبعبارة أخرى ان جريانه فيهما من التمسك بعموم دليل الاستصحاب في الشبهة المصداقية، بيانه: انه لو فرض اليقين بعدم الكرية والملاقاة في أول النهار وعلمنا بتحقق أحدهما في وسطه وتحقق الاخر في الجزء الأول من الليل فالجزء الأول من الليل ظرف اليقين بتحقق كليهما وظرف احتمال حدوث كل منهما للعلم الإجمالي بحدوث كل منهما اما في وسط النهار أو في أول الليل، فاستصحاب عدم كل منهما إلى زمان الوجود الواقعي للآخر محتمل ان يكون من نقض اليقين باليقين لاحتمال حدوثه في الجزء الأول من الليل وهو ظرف العلم بتحقق كليهما اما سابقا واما في هذا الجزء فاستصحاب عدم الملاقاة إلى زمان الوجود الواقعي للكرية يحتمل ان يجري إلى الجزء الأول من الليل الذي هو ظرف احتمال حدوث الكرية لأنها يحتمل ان تكون حادثة في وسط النهار أو أول الليل والجريان إلى الليل من نقض اليقين باليقين لأن ذلك الجزء ظرف اليقين بحصول الملاقاة
197

اما فيه واما قبله وكذا الحال بالنسبة إلى الحادث الاخر ومن شرائط جريان الأصل إحراز ان يكون المورد من نقض اليقين بالشك.
قلت: هذا الإشكال مما أفاده شيخنا العلامة أعلى الله مقامه في مجلس بحثه واختار عدم جريان الأصل في مجهولي التاريخ لأجله ولعله أحد محتملات الكفاية وان كان بعيدا من سوق عبارتها.
وجوابه انه فرق واضح بين استصحاب عدم الملاقاة إلى الجزء الأول من الليل وبين استصحاب عدم الملاقاة إلى زمان الوجود الواقعي للكرية. فان مفاد الأول عدم حصول الملاقاة في اجزاء الزمان إلى الجزء الأول من الليل الذي هو ظرف اليقين بتحقق الملاقاة واما الثاني فمفاده أو لازمه تأخر الملاقاة عن الكرية ولهذا لو أخبرت البينة بان الملاقاة لم يحصل إلى الجزء الأول من الليل بحيث كانت الغاية داخلة في المغيا نكذبها للعلم بخلافها، واما لو أخبرت بان الملاقاة لم تحصل إلى زمان الكرية نصدقها ونحكم بان الكرية المرددة بين كونها حادثة في وسط النهار أو الجزء الأول من الليل حدثت في وسط النهار والملاقاة حدثت متأخرة عنها في الجزء الأول من الليل، وكذا لو كان لوازم الاستصحاب حجة فاستصحاب عدم حصول الملاقاة إلى الجزء الأول من الليل بحيث تكون الغاية داخلة في المغيا غير جار للعلم بخلافه بخلاف استصحاب عدم الملاقاة إلى زمان حصول الكرية فان استصحابه مساوق لتقدم حصول الكرية على الملاقاة وحدوث الكرية في وسط النهار وحدوث الملاقاة في الجزء الأول من الليل، وهذا دليل على ان مفاد هذا الاستصحاب ليس جزء المستصحب إلى الجزء الأول من الليل حتى يكون من نقض اليقين باليقين بل مفاده عدم حصول المستصحب في زمان تحقق الاخر ولازمه تأخره عن صاحبه.
وبعبارة أخرى ان احتمالي حدوث الحادثين متبادلان بمعنى ان احتمال حدوث الكرية في الجزء الأول من الليل بديل لاحتمال حدوث الملاقاة في وسط النهار وبالعكس واحتمال عدم حدوث الكرية إلى زمان الملاقاة مساوق لاحتمال حدوث الملاقاة في وسط النهار، فأصالة عدم الكرية إلى زمان الملاقاة ترجيح لهذا الاحتمال ولازمه تأخر
198

الكرية عن زمان الملاقاة لا عدم تحقق الكرية إلى الجزء الأول من الليل.
وان شئت قلت: لازم عدم الكرية في زمن الملاقاة تحققها في الجزء الأول من الليل لا عدم تحققها إليه فلو كان الأصل المثبت حجة نحكم بتأخرها عنه وحصولها في الجزء الأول من الليل وحصول الملاقاة في وسط النهار لكن مقتضى عدم حجية الأصل المثبت ان لا يترتب الأثر الا على نفس عنوان عدم وجود الملاقاة في زمن الكرية أو عدم الكرية في زمن الملاقاة وليس ذلك الا من نقض اليقين بالشك ولا يلزم منه جر عدم الملاقاة إلى زمان العلم به فتدبر جيدا.
هذا حال مجهولي التاريخ، واما لو كان تاريخ أحدهما معلوما فاستصحاب مجهول التاريخ منهما جار، واختار المحقق الخراساني الجريان فيه قائلا ان زمان اليقين فيه متصل بالشك «وفيه» انه لو كان المراد من عدم الاتصال في مجهولي التاريخ أحد الوجهين الأولين فلا فرق بين مجهولي التاريخ وبين ما نحن فيه لأن المانع لو كان العلم الإجمالي أو كون الزمان الأول من الزمانين غير ظرف الشك يكون ما نحن فيه أيضا كذلك (نعم) بناء على كون مراده من عدم الاتصال هو الذي أفاده شيخنا العلامة كان بينهما فرق فان استصحاب عدم مجهول التاريخ إلى زمان وجود معلوم التاريخ ليس الا عدم نقض اليقين بالشك ولا يأتي فيه الشبهة التي عرفتها وعرفت دفعها، فتحصل من جميع ما تقدم ان الاستصحاب في مجهول التاريخ مطلقا لا إشكال فيه واما في معلوم التاريخ فلا يجري الا على بعض الوجوه المتقدمة.
تكميل فروض ترتب الأثر على وجود الحادثين
ربما يكون الأثر مترتبا على وجود الحادثين في زمان الشك وشك في المتقدم منهما كما لو تيقن الحدث والطهارة وشك في المتقدم أو تيقن إصابة النجس بثوبه وغسله وشك في المتقدم فحينئذ تارة يكون كل منهما مجهول التاريخ وتارة يكون أحدهما معلوم التاريخ وعلى التقديرين تارة تكون الحالة السابقة على عروض الحالتين معلومة وأخرى تكون
199

غير معلومة، فان كانت معلومة فتارة تكون الحالة السابقة على الحالتين مساوية في الأثر مع إحدى الحالتين العارضتين وأخرى تكون زائدة في الأثر وثالثة تكون ناقصة، فان لم تكن الحالة السابقة معلومة فاستصحاب بقاء
كل من الحادثين جار ومعارض بمثله من غير فرق بين معلوم التاريخ ومجهوله.
وما عن بعض متأخري المتأخرين من التفصيل بينهما فذهب إلى التعارض في مجهولي التاريخ وحكم في معلوم التاريخ بأصالة تأخر الحادث ففيه ما لا يخفى، وان كانت الحالة السابقة على عروض الحادثين معلومة وكانت مساوية لإحدى الحالتين العارضتين كما لو تيقن الحدث والطهارة وكانت الحالة السابقة عليهما الحدث أو الطهارة فعن المشهور في خصوص الفرع هو الحكم بلزوم التطهير لمعارضة استصحاب الحدث لاستصحاب الطهارة وحكم العقل بتحصيل الطهارة للصلاة لقاعدة الاشتغال.
وعن المحقق في المعتبر لزوم الأخذ بضد الحالة السابقة لأنها ارتفعت يقينا وانقلبت إلى ضدها وارتفاع الضد غير معلوم، قال علي ما حكى عنه: يمكن ان يقال ينظر إلى حاله قبل تصادم الاحتمالين فان كان حدثا بنى على الطهارة لأنه تيقن انتقاله عن تلك الحالة إلى الطهارة ولم يعلم تجدد الانتقاض فصار متيقنا للطهارة وشاكا في الحدث فيبنى على الطهارة وان كان قبل تصادم الاحتمالين متطهرا بنى على الحدث لعين ما ذكرنا من التنزيل «انتهى» ونسب هذا التفصيل إلى مشهور المتأخرين.
ولقد تصدى لرده جمع من المحققين كالشيخ الأعظم، وصاحب مصباح الفقيه، وبعض أعاظم العصر بما لا داعي لنقل كلامهم.
في تحقيق الحال في المقام
والتحقيق عندي هو قول المحقق في مجهولي التاريخ والتفصيل في معلومه بأنه ان كان معلوم التاريخ هو ضد الحالة السابقة فكالمحقق والا فكالمشهور وان ينطبق المسلكان نتيجة أحيانا.
اما في مجهولي التاريخ فلان الحدث امر واحد له أسباب كثيرة وتكون سببية
200

الأسباب الكثيرة للشيء الواحد سببية اقتضائية بمعنى ان كل سبب يتقدم في الوجود الخارجي صار سببا فعليا مؤثرا في حصول المسبب وإذا وجد ساير الأسباب بعده لم تتصف بالسببية الفعلية، ضرورة ان الحدث إذا وجد بالنوم لا يكون نوم آخر بعده أو بول أو غيرهما موجبا لحدوثه ولا يكون شيء منها سببا فعليا بل سببيتها الفعلية موقوفة على حدوثها لدى كون المكلف متطهرا لم يسبقه ساير الموجبات، فإذا كان المكلف متيقنا بكونه محدثا في أول النهار فعلم بحدوث طهارة وحدث بين النهار وشك في المتقدم والمتأخر يكون استصحاب الطهارة المتيقنة مما لا إشكال فيه ولا يجري استصحاب الحدث لعدم تيقن الحالة السابقة لا تفصيلا ولا إجمالا، فان الحدث المعلوم بالتفصيل الذي كان متحققا أول النهار قد زال يقينا وليس له علم إجمالي بوجود الحدث اما قبل الوضوء أو بعده لأن الحدث قبل الوضوء معلوم تفصيلي وبعده مشكوك فيه بالشك البدوي وما يقال: ان وجود الحدث بعد تحقق السبب الثاني معلوم وان لم يعلم انه من السبب الثاني أو الأول ورفع اليد عنه نقض اليقين بالشك.
مدفوع بان هذا خلط بين العلم التفصيلي والشك البدوي وبين العلم الإجمالي، فان وجود الحدث قبل الوضوء معلوم بالتفصيل ولا إجمال فيه أصلا ووجوده بعده احتمال بدوي فدعوى العلم الإجمالي في غير محلها، والقول بأنا نعلم ان الحدث بعد السبب الأول موجود اما بهذا السبب أو بسبب آخر، عبارة أخرى عن القول بأنا نعلم ان الحدث بعد السبب الثاني موجود اما قبل الوضوء أو بعده وقد عرفت انه ليس علما إجماليا.
وان شئت قلت: ان المعلوم بالإجمال هو السبب الثاني لا بوصف السببية الفعلية بل الأعم من ذلك فانا نعلم إجمالا وجود النوم اما قبل الوضوء أو بعده وهو ليس مجرى الاستصحاب واما الحدث فليس معلوما بالإجمال بل معلوم بالتفصيل قبل الوضوء ومحتمل بدوي بعده، وهذا نظير العلم الإجمالي بان الأثر الحاصل في ثوبه اما من الجنابة التي غسل منها أو من جنابة جديدة حيث ان العلم الإجمالي بان هذا اما من تلك الجنابة أو من هذه حاصل ولكنه ليس منشئا للأثر، واما نفس الجنابة فليست معلومة بالإجمال بل الجنابة قبل الغسل معلومة تفصيلا ورفعها معلوم أيضا وبعده مشكوك فيها بالشك
201

البدوي وليست طرفا للعلم الإجمالي، والفرق بين هذا المثال وما نحن فيه ان العلم الإجمالي فيما نحن فيه يكون في تحقق السبب الأعم من الاقتضائي والفعلي وهو مما لا أثر له ولا يجري فيه الاستصحاب وفي المثال يكون في ان الأثر من تلك الجنابة أو من هذه، وهذا أيضا لا أثر له، واما نفس الجنابة والحدث فليستا معلومتين بالإجمال بل كل منهما معلوم بالتفصيل قبل التطهر ومشكوك فيه بعده.
وان شئت توضيح ما ذكرنا نقول: ان العلم الإجمالي بالنوم اما قبل الوضوء أو بعده فيما نحن فيه كالعلم الإجمالي بوجود الخفقة والخفقتين قبل الوضوء أو النوم لأن النوم قبل الوضوء أي في زمان الحدث ليس سببا له كما ان الخفقة والخفقتين ليستا كذلك فكما ان العلم الإجمالي في المثال لا يؤثر شيئا كذلك فيما نحن فيه وان صح ان يقال في المثال: علم إجمالا بتحقق الحدث بعد هذا الأمر الحادث اما من جهة السبب الأول واما من جهة السبب الحادث فان هذا الحادث ان وجد قبل الوضوء كان الحدث موجودا بعده بالسبب الأول وان وجد بعده كان موجودا بسببه مع انه لا أظن بأحد ان يستصحب هذا الحدث وليس ذلك الا لأجل وضوح عدم العلم الإجمالي وان الحدث المعلوم بالتفصيل ليس طرفا للترديد ومصححا للإجمال المعتبر في العلم الإجمالي، ولا فرق بالضرورة بين النوم بعد الحدث والخفقة والخفقتين في عدم سببيتهما فعلا للحدث، وكون النوم سببا لو لا سبقه بالحدث لا يوجب فرقا كما هو واضح.
وبتقريب آخر ان الحدث في المثال مردد بين فردين أحدهما مقطوع الزوال والاخر محتمل الحدوث فإنه ان وجد السبب قبل الوضوء يكون محدثا بالسبب الأول وهو مصداق من الحدث وان وجد بعده يكون الحدث مصداقا حادثا من السبب الثاني فحينئذ ان أريد استصحاب الفرد فلا يجري لاختلال أركانه فان المصداق الأول مقطوع الزوال والمصداق الثاني محتمل الحدوث وان أريد استصحاب الكلي فلا يجري لعدم الاتصال بين زوال الفرد الأول واحتمال حدوث الفرد الاخر وفي مثله لا يكون شكا في البقاء ولا أظنك بعد التأمل فيما ذكرنا ان تشك فيه.
202

فيما إذا كان أحدهما معلوم التاريخ
هذا حال مجهول التاريخ واما إذا جهل تاريخ الحدث وعلم تاريخ الطهارة مع كون الحالة السابقة هو الحدث فاستصحاب الحدث لا يجري لعين ما ذكرنا في مجهولي التاريخ من عدم العلم الإجمالي بالحدث فلا تكون حالة سابقة متيقنة للحدث ولكن استصحاب الطهارة لا مانع منه، فإذا علم كونه محدثا في أول النهار وعلم انه صار في أول الظهر متطهرا وعلم بحدوث حدث اما بعد الطهارة واما قبلها لا يجري استصحاب الحدث للعلم بزوال الحدث المعلوم تفصيلا وعدم العلم بتحقق حدث غيره، واما استصحاب الطهارة المتحققة في أول الظهر فجار للعلم بوجودها والشك في زوالها ففي هذه الصورة نحكم بكونه متطهرا وإذا جهل تاريخ الطهارة مع العلم بالحدث سابقا وعلم تاريخ الحدث فاستصحاب الحدث المعلوم التاريخ يعارض استصحاب الطهارة المعلومة بالإجمال ونحكم بلزوم التطهر عقلا لقاعدة الاشتغال.
فتحصل من جميع ما ذكرنا ان مقتضى القاعدة هو الأخذ بضد الحالة السابقة في مجهولي التاريخ لأجل استصحاب الحالة المضادة من غير معارض له وكذا فيما إذا علم تاريخ ما هو ضد للحالة السابقة لعين ما ذكر.
واما فيما إذا علم تاريخ ما هو مثل للحالة السابقة كما إذا تيقن الحدث في أول النهار وتيقن بحدث آخر في الظهر وتيقن بطهارة اما قبل الظهر أو بعده فيجب تحصيل الطهارة لتعارض استصحاب الحدث المعلوم في الظهر للعلم به والشك في زواله لاستصحاب الطهارة المعلومة بالإجمال للعلم بوجودها اما قبل الظهر أو بعده والشك في زوالها.
(وما قيل): من ترددها بين ما هو مقطوع الزوال وما هو مشكوك الحدوث فلا يجري فيه الاستصحاب (مردود) بان ذلك محقق الشك ورفع اليد عن العلم الإجمالي باحتمال الزوال نقض اليقين بالشك، ضرورة انا نعلم بتحقق طهارة عقيب الغسل أو الوضوء وشككنا في زوالها واحتملنا بقاء المتيقن فلا يكون رفع اليد عنه الا نقض اليقين بالشك ان قلت: لا فرق بين معلوم التاريخ في الفرض ومجهوله فان الحدث المعلوم في
203

أول الزوال مردد بين ما هو باق من أول النهار أو حادث في الحال والأول متيقن الزوال والاخر مشكوك الحدوث.
قلت: نعم لكن استصحاب الكلي لا مانع منه لأن الكلي في أول الزوال معلوم التحقق ومحتمل البقاء من غير ورود إشكال مجهول التاريخ عليه لأن الفرد المعلوم منفصل بالطهور جزما عن الفرد المحتمل في مجهوله دون معلومه وهذا هو المائز بينهما فتدبر لئلا يختلط الأمر عليك.
ومما ذكرنا يعلم حال جميع الصور المتصورة في الباب وكذا حال عروض النجاسة والطهور على الثوب فيما كانت الحالة السابقة على عروض الحالتين مساوية للحالة العارضة في الأثر أو زائدة عليها كما إذا علم بتنجس ثوبه أول النهار بالدم وعلم بعروض دم آخر وعروض طهارة على الثوب أو علم بعروض نجاسة بولية عليه أول النهار وعلم بعروض نجاسة دمية وطهارة عليه مع الجهل بتاريخهما أو بتاريخ أحدهما، فان حكم هذه الصور حكم ما ذكرنا في الحدث والطهارة واما إذا كانت الحالة السابقة دونها في الأثر فاستصحاب النجاسة المعلومة بالإجمال يجري ويعارض استصحاب الطهارة سواء جهل تاريخهما أو تاريخ أحدهما وبعد التعارض يرجع إلى أصل الطهارة، وعليك بالتأمل التام في أطراف ما ذكرناه فإنه حقيق بذلك.
حول كلام بعض العلماء وما فيه
ثم ان بعض أعاظم العصر ذهب إلى عدم جريان أصالة عدم الملاقاة إلى زمان الكرية حتى فيما إذا علم تاريخ الكرية فحكم فيما إذا كان الماء مسبوقا بعدم الكرية والملاقاة فتيقنهما بنجاسة الماء مطلقا سواء جهل تاريخهما أو علم تاريخ أحدهما لعدم جريان أصالة عدم الملاقاة إلى زمان الكرية لأن الظاهر من قوله: إذا بلغ الماء قدر كر لا ينجسه شيء، هو انه يعتبر في العاصمية وعدم تأثير الملاقاة الملاقاة سبق الكرية ولو آنا ما، وكل موضوع لا بد وان يكون مقدما على الحكم فيعتبر في الحكم بعدم التأثير من سبق الكرية وأصالة عدم الملاقاة إلى زمان الكرية لا تثبت سبق الكرية على
204

الملاقاة - إلى ان قال -: فظهر انه لا بد من الحكم بالنجاسة في المثال مطلقا نعم لو لا كون التعليق على الأمر الوجودي يقتضى إحرازه لكان ينبغي في المثال الرجوع إلى قاعدة الطهارة عند العلم بتاريخ الكرية انتهى.
وفيه ان موضوع الانفعال هو الماء الذي لم يبلغ كرا بحسب الواقع فأصالة عدم الملاقاة إلى زمان الكرية يترتب عليها عدم الانفعال فإنها تنفي الملاقاة إلى زمان الكرية وعدم ملاقاة الماء المفروض للنجس إلى زمان الكرية يكفى في الحكم بطهارته ولا يلزم إحراز سبق كريته «نعم» لا بد من إثبات أحكام سبق الكر من إحرازه ولا نحتاج في الحكم بالطهارة إلى إحرازه بل يكفى فيه التعبد بعدم الملاقاة إلى زمانها، وما ذكره من ان تعليق حكم على امر وجودي يقتضى إحرازه فهو أيضا مما لا دليل عليه سوى الدعوى.
التنبيه الثامن في موارد التمسك بالعموم واستصحاب حكم المخصص
إذا ورد عموم افرادى يتعقبه دليل مخرج لبعض افراده عن حكمه في زمان بحيث لا يكون للدليل المخرج إطلاق أو عموم بالنسبة إلى غير ذلك الزمان فهل يتمسك باستصحاب حكم دليل المخرج أو بعموم العام أو إطلاقه أو يفصل بين المقامات الأقوى هو الأوسط، ويتضح المرام بعد التنبيه على أمور:
الأول
انه يتصور ورود العام على أنحاء: فتارة يلاحظ المتكلم الأزمنة مستقلة على نحو العام الأصولي مثل أكرم العلماء في كل يوم وحينئذ قد يكون الظرف متعلقا بالهيئة أي يجب في كل يوم إكرام العلماء وقد يكون متعلقا بالمادة أي الإكرام في كل يوم واجب وقد يكون متعلقا بالموضوع بنحو من التأويل أي يجب إكرام العلماء الكائنين في كل يوم، وقد يكون متعلقا بالنسبة الحكمية أي ثبوت وجوب إكرام العلماء في كل يوم وهذه التراكيب وان كانت متصورة لكنها مجرد تصور والا فالظاهر
205

من القضايا لو خليت عن القرائن هو كون الظرف متعلقا للنسبة الحكمية فقوله: أكرم العلماء في يوم الجمعة كقوله: جاءني العلماء في يوم الجمعة، الظاهر منه ان يوم الجمعة ظرف إكرامهم ومجيئهم أعني الإكرام والمجيء المنتسبين إليهم بما انهما منتسبان إليهم، وتارة يلاحظها بنحو العام المجموعي، وثالثة يلاحظ الزمان مستمرا على نحو تحققه الاستمراري كقوله أوفوا بالعقود مستمرا أو دائما، لا بمعنى وجوب الوفاء في كل يوم مستقلا ولا بنحو العام المجموعي حتى لو فرض عدم الوفاء في زمان سقط التكليف بعده بل بنحو يكون المطلوب وجوبه مستمرا بحيث لو وفي المكلف إلى آخر الأبد يكون مطيعا إطاعة واحدة ولو تخلف في بعض الأوقات تكون البقية مطلوبة لا بطلب مستقل أو مطلوبية مستقلة بل بالطلب الأول الذي جعل الحكم كلازم الماهية للموضوع، فلو قال المولى لا تهن زيدا فترك العبد إهانته مطلقا كان مطيعا له إطاعة واحدة ولو أهانه يوما عصاه ولكن تكون إهانته محرمة عليه بعده أيضا لا بنحو المطلوبية المتكثرة المستقلة بل بنحو استمرار المطلوبية وتأتي فيه وفيما قبله التصورات المتقدمة أي كون القيد للهيئة أو المادة أو الموضوع أو النسبة، ورابعة يستفاد الاستمرار والدوام بنحو الاستمرار المتقدم من مقدمات الحكمة وصون كلام الحكيم عن اللغوية كقوله: أوفوا بالعقود، بناء على استفادة هذا النحو من الاستمرار منه كما أشار إليه المحقق الكركي وتبعه غيره.
الثاني
ان العموم الزماني أو الاستمرار الزماني المستفادين من قوله: في كل يوم أو مستمرا، متفرع على العموم الأفرادي كان القيد للحكم أو للنسبة الحكمية، وكذا إذا كان مستفادا من مقدمات الحكمة فقوله أكرم العلماء في كل يوم يكون كقوله أكرم العلماء ويقول بدليل منفصل فليكن وجوب إكرامهم في كل يوم، وكذا قوله أكرمهم مستمرا بمنزلة قوله فليكن وجوب إكرامهم مستمرا، وأولى بذلك ما إذا كان الاستمرار مستفادا من دليل الحكمة ومعنى تفرع ما ذكر على العموم الأفرادي ان الحكم المتعلق بالعموم الأفرادي موضوع للعموم والاستمرار الزمانيين وكذا للإطلاق المستفاد من دليل الحكمة.
206

الثالث
لازم تفرع ما ذكرنا على العموم الأفرادي هو ان التخصيص الوارد على العموم الأفرادي رافع لموضوع العموم
والاستمرار الزمانيين وكذا لموضوع الإطلاق فلا يكون مخالفا لظهورها: فقوله لا تكرم الفساق من العلماء مخصص لقوله أكرم العلماء ورافع لموضوع العموم الزماني والاستمرار المستفادين من الدليل اللفظي أو مقدمات الإطلاق وليس تخصيصا لعمومه أو تقييدا لإطلاقه كما لو ورد أكرم العلماء وكانت طائفة منهم خارجة من العلماء موضوعا وبالجملة رفع موضوع العموم أو الإطلاق ليس مخالفا لظهورهما، وليست أصالة الإطلاق والعموم حافظة لموضوعهما.
وكذا لو ورد تخصيص على العموم الزماني أو تقييد على إطلاق دليل العام لا يكون مخالفا لظهور العام لأن مفاد العام ليس إلا دخول كل فرد تحت الحكم واما كونه دائما أو في كل زمان أو مستمرا بدليل الإطلاق فليس شيء منها بمفاد للعقد العمومي الأفرادي وان شئت قلت:
ان هاهنا عموما فوقانيا وعموما تحتانيا لكل منهما ظهور والتخصيص في كل منهما غير التخصيص في الاخر وكذا حال العموم والإطلاق، فان التخصيص في العموم غير التقييد في إطلاقه فإذا ورد أكرم العلماء وتقتضي مقدمات الحكمة وجوب إكرامهم دائما فتارة يرد لا تكرم الفساق منهم فيكون مخصصا للعموم ومفنيا لموضوع الإطلاق فيكون مخالفا لأصالة العموم لا أصالة الإطلاق وتارة يرد لا تكرم الفساق منهم يوم الجمعة فيكون مقيدا لإطلاقه لا مخصصا لعمومه فلا يكون مخالفا لأصالة العموم بل لأصالة الإطلاق. إذا عرفت ما ذكرنا فنقول إذا ورد عام افرادى يتضمن العموم أو الاستمرار الزماني بدلالة لغوية أو بمقدمات الحكمة وورد دليل مخرج لبعض افراده عن حكم العموم في زمان معين كقوله أكرم العلماء في كل يوم أو مستمرا وانعقد الإجماع على عدم وجوب إكرام زيد يوم الجمعة أو قوله أوفوا بالعقود، وانعقد الإجماع على عدم وجوب الوفاء عند ظهور الغبن ساعة وشك بعد يوم الجمعة وبعد الساعة في حكم الفرد المخرج لا يجوز التمسك بالاستصحاب مطلقا سواء لو حظ الزمان افرادا وعلى نحو العام الأصولي أو ذكر القيد لبيان استمرار الحكم أو المتعلق أو دلت مقدمات الحكمة على ذلك.
اما إذا لو حظ الزمان مستقلا فواضح لأن خروج الفرد في يوم تصرف في العموم
207

الأفرادي التحتاني فأصالة العموم محكمة بالنسبة إلى التخصيص الزائد، واما إذا جعل مستمرا أو دائما أو أبدا ظرفا للحكم فلان خروج بعض الافراد في بعض الأيام ليس تخصيصا في العموم الأفرادي بل تقييد وتقطيع للاستمرار الذي قامت الحجة عليه وتردد امره بين الأقل والأكثر ولا بد من الاكتفاء بالأقل ويكون ظهور الاستمرار في البقية حجة.
وان شئت زيادة توضيح فاعلم انه إذا ورد أكرم العلماء ولا يكون له إطلاق بالنسبة إلى الزمان وورد دليل منفصل بان وجوب إكرام العلماء مستمر فحينئذ قد يدل دليل على عدم وجوب إكرام زيد فيكون مخصصا لقوله أكرم العلماء ولا يكون تصرفا في قوله: وجوب إكرام العلماء مستمر، لما عرفت في المقدمات ان إخراج الموضوع عن الموضوعية ليس تصرفا في العموم أو الإطلاق، وقد يدل على عدم وجوب إكرام زيد في يوم الجمعة فيكون تصرفا في قوله وجوب إكرامهم مستمر، لا في قوله أكرم العلماء، لأن المفروض ان قوله: أكرم العلماء متعرض للعموم الأفرادي لا الاستمرار الزماني فتقطيع زمان من وجوب إكرامهم تصرف فيما يتعرض للاستمرار الزماني فإذا كان ذلك في كلام واحد ودليل متصل كقوله أكرم العلماء مستمرا ينحل إلى عموم افرادى يدل عليه الجمع المحلى باللام وإلى استمرار الحكم الذي يدل عليه ظهور القيد الذي قام مقام مقدمات الحكمة في بعض المقامات فيكون قوله لا تكرم زيدا تخصيصا للعموم الأفرادي ولا تكرمه يوم الجمعة تقطيعا لاستمرار الحكم، وكما يكون العموم حجة في البقية لدى العقلاء يكون ظهور القيد في استمرار الحكم حجة فيما عدى مورد التقطيع القطعي لديهم.
ومما ذكرنا يعلم حال الإطلاق المستفاد من دليل الحكمة فلو فرض ان قوله أوفوا بالعقود كما يدل بالعموم اللغوي على الشمول الأفرادي يدل على الاستمرار الزماني بمقدمات الحكمة أو مناسبة الحكم والموضوع بمعنى ان لزوم الوفاء بكل عقد مستمر لا من قبيل العام المجموعي بل بحيث تكون المخالفة في بعض الأزمان لا يوجب سقوط المطلوبية بالنسبة إلى البقية ثم دل دليل على عدم وجوب الوفاء بعقد كالعقد الربوي يكون
208

مخصصا للعموم الأفرادي ولا يكون مقيدا للإطلاق بل رافعا لموضوعه.
واما لو دل دليل على عدم وجوب الوفاء بعقد في زمان كما لو انعقد الإجماع على عدم وجوب الوفاء بالعقد إذا ظهر الغبن إلى ساعة مثلا يكون هذا تقييدا لإطلاقه لا تخصيصا لعمومه لأن التخصيص عبارة عن إخراج ما يشمله العموم إخراجا حكميا والعموم اللغوي يدل على دخول تمام افراد العقود في وجوب الوفاء من غير تعرض لحالات الافراد وأزمانها ودليل المخرج لا يدل على خروج فرد من العام رأسا حتى يكون تخصيصا بل يدل على خروجه في زمان وهذا مخالف لظهور الإطلاق في الاستمرار فإذا شك فيما بعد الساعة في لزوم العقد يرجع إلى الشك في زيادة القيد لا التخصيص، فالمرجع هو أصالة الإطلاق.
فقول الشيخ الأعظم قدس سره: انه لا يلزم من ذلك زيادة تخصيص إذا خرج الفرد في ساعة أو بعد الساعة مستمرا، خلط بين التخصيص والتقييد لأن خروج الفرد في ساعة تقييد لا تخصيص وخروجه في الزائد عن الساعة تقييد زائد يدفع بالأصل.
فان قلت: فرق بين المطلق في ساير المقامات وهاهنا فان الأول يشمل ما تحته من الجزئيات في عرض واحد، والحكم انما تعلق به بلحاظ الخارج فاستقر ظهور القضية في الحكم على كل ما يدخل تحته بدلا أو استغراقا فإذا خرج منفصلا شيء بقي الباقي بنفس ظهور الأول المستقر وفي المقام ان الزمان في حد ذاته امر واحد مستمر ليس جامعا لافراد كثيرة الا ان يقطع بالملاحظة وجعل كل قطعة ملحوظا في القضية، واما إذا لم يلحظ كذلك كما إذا كان الاستمرار بمقدمات الحكمة فلازمه الاستمرار من أول وجود الفرد إلى آخره فإذا انقطع الاستمرار بخروج فرد يوم الجمعة مثلا فليس لهذا العام دلالة على دخول ذلك الفرد يوم السبت إذ لو كان داخلا لم يكن هذا الحكم استمرارا للحكم السابق.
قلت: نعم هذا ما أفاده شيخنا العلامة أعلى الله مقامه «وفيه أولا» ان المطلق في ساير المقدمات أيضا لا يفيد الحكم للافراد ولا يكون الحكم بلحاظ الافراد الخارجية استغراقا أو بدلا ولم يكن المطلق بعد تمامية مقدمات الإطلاق كالعام مفادا بل ليس مقتضى الإطلاق بعد
209

تمامية المقدمات إلا ان ما أخذ في الموضوع تمام الموضوع للحكم كما هو المقرر في محله «وثانيا» ان كون الزمان امرا مستمرا واحدا لا يلازم كون مقتضى الإطلاق وحدة الحكم بحيث إذا انقطع في زمان انقطع مطلقا فان لازم ذلك ان يكون موضوع الحكم كالعام المجموعي ولازمه عدم لزوم الإطاعة لو عصاه في زمان مع ان الواقع في أشباه أوفوا بالعقود خلاف ذلك بل فرض مثل العموم المجموعي المقتضى لانتفاء الحكم بانتفاء جزء من الزمان خروج عن محط البحث فحينئذ لو خرج جزء من الزمان لا مانع من التمسك بالإطلاق بالنسبة إلى سائر الأزمنة، بل لنا ان نقول: ان الزمان وان كان واحدا مستمرا تتقدم اجزائه الفرضية بعضها على بعض لكن
الحكم المستفاد من الإطلاق بالنسبة إلى اجزائه عرضي لكن لا بمعنى كون مقتضى الإطلاق شمول المطلق للاجزاء بل بمعنى لزوم الوفاء بالعقد مثلا من غير تقييد بزمان فيجب الوفاء عليه بالنسبة إلى الاجزاء الغير الآتية في الحال أيضا.
فان قلت: ان استمرار الحكم ودوامه فرع وجود الحكم لأن الحكم بمنزلة الموضوع بالنسبة إليه فإذا قيل الحكم مستمر أو يستفاد ذلك من مقدمات الحكمة لا يمكن التمسك بظهور القيد أو أصالة الإطلاق لكشف حال الحكم فإنه من قبيل إثبات الموضوع بالحكم وهو محال فالعموم الزماني إذا كان مصبه نفس الحكم يكون دائما مشروطا بوجود الحكم ولا يمكن ان يدل قوله الحكم مستمر في كل زمان على وجود الحكم مع الشك فيه، وكذا لو كان استمراره مقتضى مقدمات الحكمة فان الإطلاق أيضا فرع الحكم ومع الشك فيه لا يمكن ان يرجع إليه لكشف حاله لأنه من قبيل إثبات الموضوع بالحكم الا ترى انه إذا قال أكرم العلماء وشك في وجود العالم لا يمكن إثباته بعمومه لأن إثبات الموضوع بالحكم كتحققه به محال كذلك إذا قال المولى الحكم مستمر أو كان ذلك مقتضى مقدمات الحكمة، وهذا بخلاف ما إذا كان مصب العموم الزماني متعلق الحكم كقوله أكرم العلماء في كل زمان إذا كان ظرفا للمتعلق فان التمسك بالعموم فيه في مورد الشك لا مانع منه لأن العموم الزماني فيه تحت دائرة الحكم كما انه في الأول يكون فوق دائرة الحكم وهذا هو المناط لجواز التمسك ولا جوازه.
210

قلت: نعم هذا ملخص ما فصله بعض أعاظم العصر رحمه الله (وفيه) ان عدم جواز كشف الموضوع بالحكم وإثباته به انما هو فيما إذا تعلق الحكم على موضوع مفروض الوجود كالقضايا الحقيقية مثل أكرم العلماء الذي كان حاصل مفاده كلما وجد في الخارج وكان عالما يجب إكرامه فلا يمكن في مثل تلك القضايا إثبات الموضوع بالحكم، واما إذا كان المحمول بدلالة لغوية يدل على وجود الحكم في جميع الأزمان استقلالا أو على نحو الاستمرار فيكشف عن حاله، فلو قال المولى ان وجوب إكرام العلماء مستمر إلى الأبد فقد يشك في أصل تعلق وجوب الإكرام على الفساق مثلا أي يشك في التخصيص فلا يكون قوله مستمر رافعا لهذا الشك بل الرافع له قوله أكرم العلماء واما إذا شك في وجوب إكرامه في يوم كذائي بعد العلم بأصل وجوب الإكرام أي يشك في استمرار الحكم فيكون قوله حكمي مستمر كاشفا عن استمراره وتحققه في اليوم المشكوك فيه (1).
والسر فيه ان أصل الحكم بالنسبة إلى المحمول أي قوله مستمر أخذ مفروض الوجود كما في القضايا الحقيقية واما بالنسبة إلى استمراره فلا يمكن ان يؤخذ كذلك لأنه يلزم ان ترجع قضية «حكمي مستمر» إلى قضية ضرورية بشرط المحمول أي حكمي المفروض استمراره مستمر وهو كما ترى.
وان شئت قلت: ان موضوع قوله الحكم مستمر هو طبيعة الحكم بنحو الإهمال ويكون المحمول دالا على استمراره وبقائه، فإذا شك في مهملة الحكم الذي هو موضوع

(1) ولا يخفى ان ما قاله المحقق المذكور في صدر كلامه من انه إذا كان العموم الزماني قيدا للحكم فلا يمكن ان يتكفل بيانه نفس دليل الحكم بل لا بد من بيانه بدليل منفصل (غير وجيه) لأنه إذا قال أكرم العلماء في كل يوم أو مستمر أو جعل العموم الزماني قيدا للحكم لا يلزم منه محظور أصلا بداهة ان للمتكلم قبل تمامية كلامه ان يقيده بقيد أو قيود متعددة سواء كانت راجعا إلى الموضوع أو الحكم (نعم) في المثال قبل ان يذكر كلمة (العلماء) لم يتصف قوله: أكرم، بكونه حكما لأنه لا معنى للحكم بدون الموضوع وكذلك قبل اتصاف قوله:
أكرم بكونه حكما لا يمكن تقيده واما بعد تمامية الكلام ينعقد له ظهور ويفهم منه أمران:
أصل الحكم وقيده مع انه بيان واحد -
211

للقضية فلا يمكن إثباته بالمحمول لأن الحكم بنحو الإهمال أخذ مفروض الوجود، واما إذا علم أصل وجود الحكم وشك في بقائه واستمراره فلا يكون ذلك شكا في الحكم بل في استمراره، ولا يكون استمرار الحكم موضوعا لاستمراره بالضرورة فما كشف عن حاله هو استمرار الحكم وهو ليس بموضوع وما هو موضوع وهو نفس الحكم ليس هو كاشفا عنه ومثبتا له.
فتحصل من جميع ما ذكرناه ان الحق هو التمسك بإطلاق دليل العام أو عمومه كلما شك في خروج ما زاد من القدر المتيقن عن حكم العام في الزمان المتأخر.
في تقرير التفصيل بين الخروج من الأول والأثناء
نعم قد يقال: ان مقتضى ما ذكرت من ان العموم والإطلاق الزمانيين سواء كان مستفادا من مثل قوله أكرم العلماء في كل زمان أو أوفوا بالعقود مستمرا أو من مقدمات الحكمة متفرع على العموم الأفرادي وان محط التخصيص الأفرادي غير محط التخصيص والتقييد الزمانيين: هو التفصيل بين ما إذا خرج فرد في أول الزمان وشك في خروجه مطلقا أو في زمان، وبين ما إذا خرج في الأثناء مع العلم بدخوله قبل زمان الخروج فيتمسك بالاستصحاب في الأول وبعموم الدليل أو إطلاقه في الثاني لأن الأمر في الأول دائر بين التخصيص الفردي وبين التخصيص الزماني أو تقييد الإطلاق فيكون من قبيل العلم الإجمالي بورود تخصيص، اما في العام الفوقاني فلا يكون مخالفة للعام التحتاني، واما في العام التحتاني فلا يكون مخالفة للعام الفوقاني أو يكون من قبيل العلم الإجمالي بورود تخصيص في العام مع بقاء الإطلاق على ظاهره لأن الإخراج الموضوعي ليس مخالفة للإطلاق أو تقييدا في الإطلاق مع حفظ ظاهر العموم لأن تقييد إطلاق دليل العام ليس تخصيصا حتى يخالف أصالة العموم فبعد تعارض الأصلين يتمسك بالاستصحاب ويلحق به ما إذا علم خروجه من الأثناء في الجملة ولا يعلم انه خارج مطلقا أو من الأثناء فقط فيدور الأمر بين التخصيص الفردي والزماني أو التخصيص والتقييد.
واما الخارج من الأثناء مع العلم بدخوله تحت حكم العام قبل زمان القطع
212

بخروجه كخيار التأخير وخيار الغبن بناء على كون ظهور الغبن شرطا شرعيا له فيتمسك بالعموم أو الإطلاق للقطع بعدم التخصيص الفردي بل الأمر دائر بين قلة التخصيص وكثرته أو قلة التقييد وكثرته فيؤخذ بالقدر المتيقن ويتمسك في المشكوك فيه بأصالة العموم أو الإطلاق، وهذا التفصيل تقريبا عكس التفصيل الذي اختاره المحقق الخراساني وشيخنا العلامة في مجلس بحثه.
ويمكن ان يقال: ان أصالة العموم جارية في العموم الأفرادي الفوقاني ولا يعارضها أصالة العموم في العام التحتاني الزماني ولا أصالة الإطلاق لأن التعارض فرع كون المتعارضين في الرتبة الواحدة والعموم الأفرادي في رتبة موضوع العموم والإطلاق الزمانيين ففي الرتبة المتقدمة تجري أصالة العموم من غير معارض فيرجع التخصيص أو التقييد إلى الرتبة المتأخرة اللهم الا ان يقال: ان العقلاء في إجراء الأصول لا ينظرون إلى أمثال هذه التقدمات والتأخرات الرتبية، مضافا إلى إمكان ان يقال: ان لزوم كون المتعارضين في الرتبة الواحدة في التعارض بالعرض في حيز المنع فان العلم الإجمالي بوقوع خلاف ظاهر اما في العام الفوقاني أو في العام التحتاني موجب لسقوط الأصلين العقلائيين لدى العقلاء.
ويمكن ان يقال: انه بعد ورود قوله أكرم العلماء في كل يوم الذي هو الحجة على مفاده إذا ورد دليل على عدم وجوب إكرام زيد وكان المتيقن منه هو عدمه يوم الجمعة مثلا فرفع اليد عن العموم أو الإطلاق في غير يوم الجمعة رفع اليد عن الحجة من غير حجة لدى العقلاء فالمورد من قبيل دوران التخصيص أو التقييد بين الأقل والأكثر فلا بد من الاكتفاء بالأقل في رفع اليد عن الحجة الفعلية، والعلم الإجمالي المدعى كالعلم الإجمالي بين الأقل والأكثر المنحل عند العقلاء وبالرجوع إلى الوجدان وبناء العقلاء يظهر صدق ما ادعيناه.
لكنه أيضا محل إشكال بل منع لأن مورد الأقل والأكثر انما هو فيما علم ورود التخصيص على أحد العامين وشك في الأقل والأكثر في افراده، واما مع العلم بورود التخصيص آنا في الفوقاني أو التحتاني فلا، لأن افراد كل منهما يباين الافراد الاخر
213

فلا معنى للأقل والأكثر.
والتحقيق عدم جريان أصالة العموم والإطلاق في التحتاني لما حققناه في العام والخاص من ان مورد جريانهما فيما إذا شك في المراد لا فيما علم المراد ودار الأمر بين التخصيص والتخصص، مضافا إلى ان هذه الأصول انما جرت في مورد يترتب عليها أثر عملي لا مطلقا فحينئذ نقول ان جريانهما في التحتاني غير ذي أثر للعلم بخروج يوم الأول مثلا فلا يعقل جريانهما لإدخال ما علم خروجه ولو أجرى الأصل لإثبات لازمه وهو ورود التخصيص على الفوقاني فمع بطلانه في نفسه لأن إثبات اللازم فرع إثبات الملزوم الممتنع في المقام يلزم من إثبات اللازم عدم الملزوم لأنه موضوعه ومع رفعه يرفع الحكم فيلزم من وجوده عدم الوجود، وأيضا انا نعلم بعدم جريان الأصل في التحتاني اما لورود التخصيص به أو بالفوقاني الرافع لموضوعه فتدبر جيدا.
فتحصل من جميع ما ذكرناه ان الحق في جميع الموارد مما هو محط البحث هو الرجوع بدليل العام أو المطلق ولو فرض عدم جريان أصالة العموم والإطلاق في المقام فالتمسك باستصحاب حكم المخصص أو المقيد فرع وحدة القضية المتيقنة والمشكوك فيها وتحقق ساير شرائط جريانه ولا تأثير لدليل العام في جريانه ولا جريانه، فما ظهر من الشيخ الأعظم مما هو خلاف ذلك وتبعه بعض أعاظم العصر منظور فيه.
التنبيه التاسع في ان المراد بالشك في الأدلة ما ذا؟
المراد بالشك المقابل لليقين في أدلة الاستصحاب ليس الاحتمال المساوي بالنسبة إلى البقاء واللإبقاء بل هو خلاف اليقين (اما أولا) فلأنه موافق للعرف العام واللغة واما كونه الاحتمال المساوي مقابل الظن وغيره فهو اصطلاح خاص بين المنطقيين وتبعهم غيرهم من أرباب الاصطلاح (واما ثانيا) فلان ذلك مقتضى مقابلته باليقين في الاخبار ومناسبة الحكم والموضوع وقد عرفت سابقا ان المراد باليقين فيها ببعض المناسبات
214

المغروسة في أذهان العرف هو الحجة فمقابله اللاحجة فكأنه قال: لا ينبغي رفع اليد عن الحجة بغير الحجة، ولقد ذكرنا في باب جواز استصحاب مؤدى الأمارات بعض المؤيدات والشواهد لذلك فراجع.
هذا بناء على ما ذكرنا من ان المأخوذ في موضوع الاستصحاب هو اليقين والشك، واما بناء على ما أفاده الشيخ الأعظم قدس سره من ان الموضوع هو الكون السابق والشك اللاحق، وما أفاده المحقق الخراساني رحمه الله من ان مفاد الأدلة جعل الملازمة بين الكون السابق والكون اللاحق فلا مجال للاستدلال للمدعى بما ذكرناه لعدم المقابلة بين الشك واليقين «تأمل» وكيف كان فلا إشكال في أصل المسألة، وتدل عليه صحيحتا زرارة كما أفاد الشيخ.
واما الاستدلال بالإجماع التقديري فلا يرجع إلى محصل لأن المناط في حجية الإجماع هو الكشف عن دليل معتبر ولا معنى للكشف التقديري أو الدليل المعتبر التقديري، ولقد تعرضنا لعاشر التنبيهات في مبحث البراءة وهو استصحاب صحة العبادة عند الشك في طرو مفسد، وكذا حاله فيما إذا تعذر بعض اجزاء المركب فلا داعي للتكرار.
خاتمة في اعتبار وحدة القضية المتيقنة والمشكوك فيها
يعتبر في جريان الاستصحاب أمور:
الأول وحدة القضية المتيقنة والمشكوك فيها
وتوضيحه: انه لا إشكال في ان اليقين والشك وكذا الظن لا تتعلق بالأمور التصورية بل لا يمكن ان يتعلق بها فلا معنى لتعلق اليقين بزيد والقيام والنسبة بمعانيها التصورية بل المتعلق لها ليس الا مفاد القضايا فمعنى اليقين بالطهارة ليس الا اليقين بان الطهارة موجودة على نعت الكون المحمولي أو انى متطهر على نعت الكون الرابط كما ان معنى اليقين بوجود زيد أو بزيد اليقين
215

بان زيدا موجود، وبالجملة لا يتعلق اليقين والشك الا بمفاد القضايا والأمور التصديقية فحينئذ لا بد في الاستصحاب من قضية متعلقة لليقين والشك ولا بد وان يتعلق الشك بعين ما تعلق به اليقين فلا بد من وحدة القضية المتيقنة والمشكوك فيها موضوعا ومحمولا فإذا تعلق اليقين بوجود زيد تكون القضية المتيقنة زيد موجود فإذا شك في ان زيدا موجود في الزمان اللاحق يستصحب نفس القضية المتيقنة لوحدة الموضوع والمحمول، وإذا تعلق اليقين بقيامه يمكن ان يكون الموضوع للأثر هو كون زيد قائما فتكون القضية المتيقنة كونه قائما بنحو الهلية المركبة فإذا شك فيها يستصحب لوحدة الموضوع والمحمول، ويمكن ان يكون الموضوع للأثر كون قيامه موجودا على نعت الكون المحمولي فتكون القضية المتيقنة ان: قيامه كان موجودا فإذا شك فيها تستصحب.
في الإشكال على الشيخ الأعظم في مسألة بقاء الموضوع
فتلخص مما ذكرنا ان المستصحب هو نفس القضية لا موضوعها أو محمولها واتضح النظر في ظاهر كلام الشيخ الأعظم قدس سره.
اما أولا فلان ما أفاده من ان المستصحب هو عارض الموضوع والموضوع معروضه ولا بد من إحراز بقائه، ففيه مسامحة ظاهرة لأن المستصحب هو متعلق اليقين وليس ذلك الا مفاد القضية لا محمولها الذي هو عارض فإذا تعلق اليقين بان زيدا قائم ليس المستصحب قيام زيد لأن قيام زيد في تلك القضية ليس متعلق اليقين فان قيام زيد الذي هو عارض له امر تصوري غير متعلق لليقين فما هو المتعلق لليقين هو قضية ان زيدا قائم على نحو الكون الرابط والهلية المركبة، ففي مثل صحة الائتمام وشهادة الطلاق يكون موضوع الأثر كون الإمام والشاهد عادلا على نحو الوجود الرابط والهلية المركبة لا عدالتهما فقوله:
لا تنقض اليقين بالشك، معناه لا تنقض اليقين المتعلق بقضية بالشك فيها، فالمستصحب نفس القضية لا المحمول العارض للموضوع.
واما ثانيا فلان إحراز بقاء الموضوع في الاستصحاب ليس لازما بل ليس ممكنا
216

في بعض القضايا فان معنى إحراز بقاء الشيء ان العلم تعلق بان هذا الشيء باق لما ذكرنا من ان العلم انما يتعلق بمفاد القضية لا بالمعاني التصورية ففي مثل قولنا زيد موجود أو وجود زيد محقق سابقا إذا أريد استصحابه في زمان الشك في وجوده لا يمكن إحراز بقاء موضوعه في زمان الشك لأن معناه ان زيدا باق في حال الشك يقينا وهو كما ترى، ولا يمكن ان يقال: ان المحرز هو بقائه في التقرر الذهني لأن الموضوع ليس زيدا المقرر في الذهن لأنه لا يمكن ان يوجد في الخارج فالموضوع في مثل تلك القضايا هو نفس زيد عاريا عن لحاظ شيء معه وغير متقيد بالتقرر الخارجي أو الذهني وهو لا يتصف بالبقاء والمحرزية الا بتبع الوجود الذهني أو الخارجي.
فالإنصاف ان ما أفاده رحمه الله في المستصحب والموضوع وبقائه تبعيد للمسافة وإخلال بما هو شرط في الاستصحاب إذ ليس شرطه على ما ذكرنا من حقيقة المستصحب إحراز بقاء الموضوع ولا نحتاج إليه فيه بل الشرط وحدة القضية المتيقنة والمشكوك فيها فلا فرق فيه بين بسائط القضايا ومركباتها فلا ملزم لاشتراطه بشرط غير لازم بل مخل حتى نقع في حيص بيص في مثل القضايا البسيطة، ومما ذكرنا يتضح الدليل على الشرط المتقدم أي وحدة القضية المتيقنة والمشكوك فيها لأن صدق نقض اليقين بالشك يتوقف عليها.
في تمسك الشيخ الأعظم بالدليل العقلي لمدعاه وما فيه
واما ما أفاده الشيخ من الاستدلال على ما ادعاه بالدليل العقلي وهو انه مع عدم العلم بتحقق الموضوع لا حقا إذا أريد إبقاء المستصحب العارض له المتقوم به فاما ان يبقى في غير محل وموضوع وهو محال، واما ان ينتقل إلى موضوع آخر وهو أيضا محال لاستحالة انتقال العرض، واما ان يحدث مثله في موضوع آخر وهذا ليس إبقاء فيخرج عن الاستصحاب.
ففيه ما عرفت من ان المستصحب ليس العرض القائم بالموضوع بل هو القضية المتيقنة فإذا كان الأثر مترتبا على القضية التي مفادها الهلية المركبة مثل كون زيد عادلا ليس المتيقن المترتب عليه الأثر عدالة زيد بنحو الهلية البسيطة، والوجود المحمولي وان
217

كانت عدالة زيد بنحو الهلية البسيطة أيضا متيقنة ومشكوكا فيها لكن استصحابها لا يثبت كون زيد عادلا بنحو كان الناقصة الا بالأصل المثبت، فإذا كان الأثر مترتبا على عدالة زيد بنحو الكون الرابط تكون القضية المستصحبة المترتب عليها الأثر ان زيدا عادل لا عدالة زيد موجود، واستصحاب القضية الثانية لإثبات ان زيدا عادل من الأصل المثبت، فلو فرض جواز قيام العرض بذاته وجواز انتقال العرض وقامت العدالة في زمان الشك بذاتها أو انتقلت إلى موضوع آخر لا يوجب ذلك جواز ترتيب أثر عدالة زيد أي ان زيدا عادل بنحو الكون الرابط ضرورة ان الأثر المترتب على كون زيد عادلا لا يترتب على العدالة القائمة بالذات أو القائمة بوجود عمرو.
نعم لو فرض جواز قيام العرض بلا موضوع وجواز انتقال العرض وتكون نفس العدالة بوجودها المحمولي موضوعا للأثر يكون منشأ الشك في بقائها زائدا على الشك في زوالها بالشك في سلب الموضوع أو المحمول الشك في انتقالها أو بقائها بذاتها مع القطع بعدم موضوعها وهذا امر آخر، وبالجملة ما استدل به الشيخ من الدليل العقلي مضافا إلى عدم وقعه في المقام الذي كان نظر العرف متبعا ومحط التعبد الشرعي الذي يرجع إلى لزوم ترتيب الأثر غير تام في نفسه، والظاهر ان منشأ هذا الخلط انما هو الخلط في المستصحب والذهاب إلى ان المستصحب نفس العرض القائم بالموضوع وموضوعه هو معروضه مع ان المستصحب على ما عرفت هو نفس القضية من غير فرق بين الهليات البسيطة والمركبة.
وبالتدبر فيما ذكرنا يتضح المقام منقحا وينحل الإشكال من أساسه في الهليات البسيطة ويتضح لزوم وحدة القضية المتيقنة والمشكوك فيها من غير احتياج إلى التشبث بالدليل العقلي حتى يرد عليه ما أورده المحقق الخراساني رحمه الله من ان الاستصحاب عبارة عن وجوب ترتيب آثار العرض لا وجود العرض بلا موضوع والمحال هو الثاني لا الأول، وهذا الجواب وان كان منظورا فيه لأجل ابتنائه على ان المستصحب هو العرض لكنه متين في ذاته، فلو فرض ان الأثر كان لنفس العدالة أو البياض بوجود هما المحمولي وكان وجودهما متيقنا لأجل تحققهما في موضوعهما وشك في الزمان اللاحق في
218

بقائهما لأجل الشك في بقاء موضوعهما يجري الاستصحاب ويترتب عليهما آثار بقائهما في زمان الشك وموضوع العدالة والبياض تكوينا غير موضوع القضية المستصحبة فان موضوع الثانية نفس العدالة والبياض كما هو ظاهر بعد التدبر فيما أسلفناه، بل للشارع ان يحكم بوجود العرض وعدم المعروض في عالم التشريع والتعبد لأن معناه إيجاب ترتيب آثار وجود هذا وعدم ذاك وهو بلا محذور هذا (1)

(1) وقد استشكل المحقق الخراساني على مقالة الشيخ الأعظم (على ما في تعليقته على الفرائد) بوجه آخر وهو ان دليله أخص من المدعى فان المستصحب ليس دائما من مقولات الاعراض بل ربما يكون هو الوجود وليس هو من إحدى المقولات العشر فلا جوهر بالذات والعرض وان كان بالعرض (ان قلت): نعم لكنه مما يعرض على الماهية كالعرض (قلت): نعم الا ان تشخصه ليس بمعروضه فيستحيل بقائه مع تبدله بل يكون القضية بالعكس ويكون تشخص معروضه به كما حقق في محله بحيث لا ينثلم وحدته وتشخصه بتعدد الموجود وتبدله من نوع إلى نوع آخر فينتزع من وجود واحد شخصي ماهيات مختلفة حسب اختلافه نقصا وكما لا وضعفا وشدة فيصح استصحاب هذا الوجود عند الشك في بقائه وارتفاعه ولو مع القطع بتبدل ما انتزع عنه سابقا من الماهية إلى غير ما ينتزع عنه الآن لو كان هذا (انتهى).
وأجاب عنه العلامة الحائري رحمه الله بان الوجود وان لم يتشخص بالماهية ولكنه يتشخص بحدوده الخاصة لأن وجود زيد ووجود عمرو وجودان متعددان قطعا و (ح) لو انتزع عنوان السواد الضعيف من حد خاص من وجود السواد وعنوان السواد الشديد من حده الاخر يكشف ذلك عن اختلاف الوجودين اللذين انتزع العنوانان المختلفان منهما إذ لا يعقل اختلاف العنوان المنتزع من دون الاختلاف في منشأ الانتزاع (إلى ان قال): ومن هنا ظهر ان استصحاب بقاء السواد فيما قطع تبدله على تقدير البقاء مبنى على أحد امرين اما جواز استصحاب الكلي الذي يكون من القسم الثالث واما القول بوحدة هذين الوجودين بنظر العرف وان كانا متعددين في نظر العقل (انتهى).
ولا يخفى ما فيما أجابه عن الإشكال لما أفاده الأستاذ دام ظله في استصحاب الكلي من القسم الثالث من ان استصحاب مثل السواد والبياض المتبدل من مرتبة إلى مرتبة أخرى كالضعيف والشديد ليس من القسم الثالث لأن شخصية الفرد وهويته باقية في جميع المراتب عقلا وعرفا والاستصحاب فيه شخصي لا كلي فلا يصح مقايسته بوجود زيد وعمرو لأنهما حقيقتان متباينتان وان السواد أو البياض في جميع المراتب امر واحد شخصي -
219

حول توجيه شيخنا العلامة كلام الشيخ وما يرد عليه
ولكن تصدى شيخنا العلامة أعلى الله مقامه لدفع الإشكال عن الشيخ الأعظم فقال ما محصله: ان القضايا الصادرة من المتكلم إنشاء كانت أو اخبارا مشتملة على نسب ربطية متقومة بالموضوعات الخاصة فقولنا أكرم زيدا مشتمل على إرادة إيقاعية مرتبطة بإكرام زيد وكذا زيد قائم مشتمل على نسبة تصديقية قائمة بالموضوع والمحمول الخاص وحال هذه النسب في الذهن حال الاعراض الخارجية في الاحتياج إلى المحل وامتناع الانتقال فلو فرض ان المتيقن هو وجوب الصلاة فالجاعل للحكم في الزمان الثاني اما ان يجعل الوجوب للصلاة وهو المطلوب من لزوم اتحاد الموضوع، واما ان ينشأ هذه الإرادة الربطية من غير موضوع وهو محال، واما ان ينشئها لغير الصلاة وهو محال لامتناع انتقالها، واما ان ينشأ إرادة جديدة وهذا ممكن لكن ليس إبقاء لما سبق، وكذا الحال في الشبهة الموضوعية فان المتيقن إذا كان خمرية مائع فاما ان ينشأ النسبة التصديقية بلا محل أو في محل غير المائع وهما محالان، أو ينشأ إرادة جديدة فليس بإبقاء، أو ينشأ في نفس المائع وهو المطلوب «انتهى».
وفيه مضافا إلى كونه مخالفا لظاهر كلام الشيخ أو صريحه: ان الاستصحاب عبارة عن حكم ظاهري مجعول بقوله لا تنقض اليقين بالشك لترتيب آثار المتيقن في زمان الشك فقد يوافق للواقع فيكون منجزا له وقد يتخلف عنه فإذا وافقه فلا تكون في البين الا إرادة حتمية متعلقة بالصلاة وليس في زمان الشك إرادة أخرى متعلقة بالصلاة نعم تكون هاهنا إرادة أخرى متعلقة بعنوان عدم نقض اليقين بالشك وإذا تخلف الاستصحاب عن الواقع فليست إرادة متعلقة بالصلاة بحسب الواقع فلا مجال لهذه التشقيقات.
وان شئت قلت: ان الصلاة التي علم وجوبها سابقا وشك في بقائه ان كانت واجبة بحسب الواقع في زمان الشك فلا يمكن ان يتعلق بها إرادة أخرى غير الإرادة المتعلقة بها وان لم تكن واجبة فاما ان تنتقل الإرادة المتعلقة بها في زمان اليقين إلى
220

زمان الشك فهو محال، واما ان يحدث فيها إرادة أخرى فهو ليس بإبقاء، واما ان تبقى الإرادة بلا موضوع فهو مع كونه محالا ليس بإبقاء أيضا، فتحصل مما ذكرنا ان الإرادة الواقعية المتعلقة بالموضوعات الواقعية لا تتخلف عنها والاستصحاب لا يوجب بقاء تلك الإرادات، فإنها ان كانت باقية لا يوجب الاستصحاب الا تنجيزها في زمان الشك كما كانت منجزة في زمان اليقين لأجل تعلق اليقين بها والا فلا يمكن بقائها.
وبعبارة أخرى ان الجاعل في الزمان الثاني لا يجعل الوجوب للصلاة فان الصلاة اما واجبة في زمان الشك بحسب الواقع فلا معنى لجعله ثانيا فيكون الاستصحاب كسائر المنجزات منجزا له بمعنى ان المكلف إذا تركها مع الاستصحاب تصح عقوبته على ترك الوجوب الواقعي، وان لم تكن واجبة فلا تصير واجبة بالاستصحاب، ولو فرض صيرورتها واجبة بالاستصحاب ليس الوجوب الاستصحابي إبقاء للوجوب المتعلق بها في الزمن السابق بالضرورة.
في ان الاستصحاب لا يجدى
في إحراز موضوع القضية المستصحبة
ثم انه بعد ما علم لزوم اتحاد القضية المتيقنة والمشكوك فيها موضوعا ومحمولا فلا بد من إحرازه وجدانا كما في الهليات البسيطة، فإذا كان زيد مسبوقا بالوجود أو العدم فشك فيه يستصحب وجوده أو عدمه لإحراز الاتحاد وجدانا وكالهليات المركبة التي كانت موضوعاتها عرفا نفس الماهية ويكون الوجود أو الحياة مثلا فيها من الوسائط التعليلية لعروض لعوارض عليها مثل زيد متنفس أو متحرك، أو من قبيل القضايا الحينية كقولنا زيد
عادل أو عالم حيث تكون العادلية والعالمية من أوصاف زيد عرفا ويكون الموضوع للقضية نفس زيد في حال الحياة والوجود فإذا علمنا ان زيدا كان عالما أو عادلا أو قائما وشككنا في بقائها يجري الاستصحاب لوحدة القضية المتيقنة والمشكوك فيها «وتوهم» ان الموضوع زيد الموجود أو زيد الحي فلا يكون محرزا «مردود» بان الموضوع لدى العرف في مثل تلك القضايا لا يكون إلا ماهية وزيد والحياة والوجود من الجهات التعليلية
221

أو أخذا على نحو القضية الحينية لدى العرف.
نعم لو فرض في الهليات المركبة أخذ بعض الأوصاف في موضوعها قيدا وتكون القضية وصفية مأخوذة فيها الأوصاف على نحو العنوانية والقيدية كأن يقال إذا كان زيد الحي بما انه حي عاد لا يجب إكرامه أو إذا كان زيد العادل بما انه عادل اعلم يجوز أو يجب تقليده فحينئذ تارة تكون تلك الأوصاف المأخوذة في الموضوع محرزة بالوجدان فلا إشكال في جريان الاستصحاب، فإذا أحرز حياة زيد وجدانا وشك في كونه عادلا مع اليقين بعدالته السابقة لا إشكال في جريانه بان يقال: كان زيد الحي عادلا وشككت في بقاء عدالته لاتحاد القضيتين.
وتارة تكون تلك الأوصاف مشكوكا فيها كما لو شككنا في المثال في حياة زيد وعدالته ففي هذه الصورة هل يمكن إحراز موضوع القضية الوصفية بالاستصحاب أولا فموضوع البحث ومحل النقض والإبرام ما إذا كانت قضيتان متيقنتان يكون محمول إحداهما موضوعا للأخرى فتستصحب القضية الأولى لإحراز موضوع القضية الأخرى لتستصحب القضية الثانية، وبعبارة أخرى محل الكلام فيما كانت وحدة القضية المتيقنة والمشكوك فيها غير محرزة وأردنا إحرازها باستصحاب قضية أخرى يكون محمولها موضوعا لتلك القضية كما إذا ورد ان زيدا العالم بما انه عالم إذا كان عادلا يجب إكرامه فشككنا في علمه وفي عدالته فأردنا إحراز علمه بالاستصحاب لإحراز موضوع القضية الثانية أي كونه عادلا.
فنقول: تارة يكون الشك في القضية الثانية مسببا عن الشك في الأولى وتارة لا يكون كذلك، وعلى الأول تارة يكون التسبب شرعيا وتارة تكون عقليا، ففي جميع الفروض لا يمكن إحراز موضوع القضية المستصحبة بإجراء استصحاب القضية الأولى إذا فرض ان الوصف أخذ في موضوع القضية الثانية مفروض الوجود كما هو محل الكلام، لأن الاستصحاب لا يحرز الموضوع وجدانا ولا تكون وحدة القضيتين من الآثار الشرعية حتى يترتب عليه فاستصحاب كون زيد حيا لا يترتب عليه الا الآثار الشرعية المترتبة على كونه حيا كنفقة زوجته، واما صيرورة الشك في عدالة زيد شكا في ان
222

زيد الحي عادل حتى تتحد القضية المتيقنة والمشكوك فيها فليست أثرا شرعيا، وكذا لو شكنا في تغير الماء فلا يحرز استصحاب بقاء التغير موضوع استصحاب نجاسة المتغير بما انه متغير ولو فرض ان المتغير بما انه متغير موضوع للنجاسة ويكون التسبب شرعيا لأن إحراز وحدة القضيتين ليس من الآثار الشرعية (نعم) باستصحاب التغير يترتب على الماء اثره الشرعي أي النجاسة وهو غير استصحاب نجاسة المتغير الذي كلامنا فيه، فتحصل مما ذكر ان إحراز وحدة القضيتين مما لا يمكن بالاستصحاب مطلقا ولو في الآثار الشرعية والتسببات التعبدية.
في الخلط الواقع في كلام بعض الأعاظم
وإذ قد عرفت محل الكلام في المقام يتضح لك الخلط الواقع في كلام بعض أعاظم العصر رحمه الله حيث تفصى عن الإشكال بان الموضوع لجواز التقليد مركب من الحياة والعدالة وهما عرضان لمحل واحد فيجوز إحرازهما بالاستصحابين كما يجوز إحراز أحد جزئي الموضوع المركب بالاستصحاب والاخر بالوجدان، فإذا كان زيد العالم الحي موضوعا لجواز التقليد وشككنا في الوصفين نستصحب كلا الوصفين للموضوع الذي هو زيد ونرتب الأثر على الموضوع المحرز كلا جزئيه بالأصل (انتهى) وهذا كما ترى خروج عن محل البحث لأن الكلام ليس في ان الأوصاف المتعددة لموضوع واحد إذا كانت موضوعة لحكم شرعي هل يمكن إثباتها بالأصل أم لا، بل الكلام في انه هل يمكن إثبات موضوع القضية المستصحبة ووحدة القضية المتيقنة والمشكوك فيها بالأصل أم لا، لأن الشيخ الأعظم بعد ما قال ان المعتبر في الاستصحاب هو العلم ببقاء الموضوع ولا يكفي احتمال البقاء أشكل عليه إحرازه بالاستصحاب إذا كان محتمل البقاء ففصل في الجواب بما فصل، فموضوع البحث ما إذا كان عنوان موضوعا للقضية المستصحبة وشك فيه وأريد إثباته بالاستصحاب، فما أفاده المحقق المعاصر خارج عن موضوع البحث كما ان كلام الشيخ أيضا لا يخلو من خلط فراجع وتدبر.
223

في ان الموضوع هل يؤخذ من العرف أو لا؟
ثم بعد ما علم لزوم وحدة القضية المتيقنة والمشكوك فيها فهل الموضوع فيها يؤخذ من العقل أو من الدليل أو من العرف؟ وبعبارة أخرى ان الميزان في وحدة القضية المتيقنة والمشكوك فيها ان يكون موضوعهما واحدا بحكم العقل وتشخيصه أو بحكم العرف وتشخيصه أو ان الموضوع في القضية المشكوك فيها لا بد وان يكون هو الذي أخذ في الدليل الدال على الحكم في القضية المتيقنة، والفرق بين الأخذ من العقل وغيره واضح لأن العقل فلما يتفق أولا يتفق ان لا يشك في بقاء الموضوع في استصحاب الأحكام حتى في باب النسخ لأن الشك في الحكم لا يكون الا من جهة الشك في تغيير خصوصية من خصوصيات الموضوع وجميع الجهات التعليلية ترجع إلى الجهات التقييدية لدى العقل وتكون دخيلة في موضوعية الموضوع، فإذا ورد حكم على موضوع لا يكون تعلقه عليه جزافا بحكم العقل فلا بد من خصوصية في الموضوع لأجلها يكون متعلقا للحكم ومع بقاء تلك الخصوصية الموجبة أو الدخيلة في المتعلق مع ساير الخصوصيات لا يمكن رفع الحكم عن الموضوع، فإذا علم تعلق حكم على موضوع وشك في نسخه فلا يمكن ان يشك فيه مع العلم ببقاء جميع الخصوصيات الموضوع الدخيلة في تعلق الحكم عليه من القيود الزمانية والمكانية وغيرها لأن ذلك يرجع إلى الجزاف المستحيل وكثيرا ما يقع الإشكال في الاستصحابات الموضوعية أيضا كاستصحاب الكرية واما الفرق بين الأخذ من العرف أو موضوع الدليل هو ان الحكم في الدليل قد يثبت العنوان أو موضوع متقيد بقيد بحيث كان الدليل قاصرا عن إثبات الحكم لغير العنوان أو غير مورد القيد فإذا ارتفع العنوان أو القيد يرتفع موضوع الدليل كما إذا قال التراب أحد الطهورين وعصير العنب إذا غلى يحرم فانطبق الحكم على الموضوع الخارجي فيشار إلى تراب خارجي انه أحد الطهورين وإلى رطل من العنب ان عصيرة إذا غلى يحرم، فإذا صار التراب الخارجي آجرا أو خزفا والعنب زبيبا وشككنا في طهورية الأول وحرمة عصير الثاني إذا غلى فلا إشكال في قصور الأدلة الواقعية لشمول غير العناوين المأخوذة في موضوعها
224

لتغير موضوعها فلا يمكن التمسك بدليل طهورية التراب وحرمة مغلي عصير العنب لإثبات الحكم لهما ولو بنينا على أخذ موضوع القضية المتيقنة والمشكوك فيها من الدليل لا يجري الاستصحاب أيضا لتغير الموضوع وعدم اتحاد القضية المتيقنة والمشكوك فيها.
واما لو كان الاتحاد بنظر العرف فجريانه مما لا مانع منه لأن هذا الآجر والخزف الخارجيين كانا معلومي الحكم قبل طبخهما وبواسطة طبخهما لم يتغيرا الا تغيرا عرضيا وكذا العنب الخارجي إذا يبس وصار زبيبا يكون عين
الموضوع المتيقن وليست اليبوسة مغيرة له الا في حاله وعرضه، وهذه التغيرات العرضية لا تنافي وحدة الموضوع الخارجي وان لم تصدق معها على الموضوع العناوين الكلية، فالتراب غير الآجر بحسب العنوان الكلي المأخوذ في الدليل والعنب غير الزبيب كذلك، لكن التراب والعنب الخارجيين إذا طبخ ويبس لا يتغير ان الا في الحالات الغير المضرة ببقاء موضوع القضية المتيقنة في زمان الشك.
فإذا قال المولى أكرم العلماء والشعراء واحتملنا كون العنوانين واسطة في الثبوت ومن كان عالما وشاعرا في زمان يجب إكرامه مطلقا فلا إشكال في ان الدليل قاصر عن إيجاب الإكرام إذا صار العالم جاهلا والشاعر غير شاعر كما انه لا إشكال في ان موضوع الدليل غير باق فلا مجال لجريان الاستصحاب فيما إذا أخذ موضوع القضية المستصحبة من الدليل، واما لدى العرف يكون زيد وعمرو واجبي الإكرام لكون الأول مصداق العالم والثاني مصداق الشاعر، وعنوان العالم والشاعر وان كانا مختلفي المصاديق مع العنوان المقابل لهما ولكنهما من الحالات العارضة للافراد الخارجية والموضوعات المتحققة فإذا زال عنوان العالمية من زيد والشاعرية من عمرو وشك في إكرامهما للشك في ان العنوانين من الوسائط الثبوتية أو العروضية يجري الاستصحاب فيهما لوحدة القضية المتيقنة والمشكوك فيها لأنك كنت على يقين من إكرام زيد وعمرو لكون الأول مصداق العالم والثاني مصداق الشاعر ومع زوال العنوانين نشك في بقاء وجوب إكرامهما ولا ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك بخلاف ما لو أخذ موضوع القضية من الدليل لعدم صدق عنوان العالم والشاعر على غيرهما.
225

وقد اتضح مما ذكرنا ان كلمات الشيخ الأعظم قدس سره ومن بعده من المحققين لا يخلو من خلط وخلل حتى كلمات شيخنا العلامة رحمه الله مع ان ما ذكرناه من إفادات مجلس بحثه.
حول كلام المحقق الخراساني وما يرد عليه
فما أفاده المحقق الخراساني رحمه الله في المقام الأول من ان موضوع الدليل قد يكون بحسب المتفاهم العرفي عنوانا ولكن العرف يتخيلون بحسب ارتكازهم ومناسبات الحكم والموضوع ان الموضوع أعم من ذلك لكن لا بحيث يصير ذلك الارتكاز وتلك المناسبة موجبين لصرف الدليل عما هو ظاهره المتفاهم عرفا كما إذا دل الدليل على ان العنب إذا غلى يحرم وفهم العرف منه ان الموضوع هو العنب بحسب الدليل لكن يتخيل بحسب ارتكازه تخيلا غير صارف للدليل ان الموضوع أعم من الزبيب وان العنبية والزبيبية من حالاته المتبادلة بحيث لو لم يكن الزبيب محكوما بما حكم به العنب يكون عندهم من ارتفاع الحكم عن موضوعه، فالفرق بين أخذ الموضوع من العرف وبين أخذه من الدليل بحسب ما ذكر ان موضوع الدليل هو العنوان حقيقة ولكن العرف تخيل موضوعا آخر غير موضوع الدليل بل أعم منه ويكون الموضوع الحقيقي غير باق والموضوع التخيلي باق (انتهى محصله بتوضيح).
وهو كما ترى، لأن بقاء الموضوع التخيلي لا يفيد في الاستصحاب ولا يجوز ان يكون موضوع القضية المتيقنة ما يتخيل العرف خلاف ما يدل عليه الدليل، فإذا دل الدليل على ان العنب بخصوصه موضوع الحكم تكون القضية المتيقنة ان العنب إذا غلى يحرم ولا يمكن تعلق اليقين على امر أعم من غير دلالة دليل فضلا عن دلالته على خلافه.
ولقد عدل بعض أعاظم العصر رحمه الله عما ذكر والتزم بان موضوع الدليل عين الموضوع العرفي وانه لا وجه للمقابلة بينهما فان مفاد الدليل يرجع بالآخرة إلى ما يقتضيه نظر العرف لأن المرتكز العرفي يكون قرينة صارفة عما يكون الدليل ظاهرا فيه ابتداء ولو كان الدليل ظاهرا بدوا في قيدية العنوان وكانت مناسبة الحكم والموضوع
226

تقتضي عدمه فاللازم هو العمل على ما تقتضيه مناسبة الحكم والموضوع لأنها بمنزلة القرينة المتصلة فلم يستقر للدليل ظهور على الخلاف، فالمقابلة بين العرف والدليل انما هو باعتبار ما يكون الدليل ظاهرا فيه ابتداء مع قطع النظر عن المرتكز العرفي والا فبالأخرة يتحد ما يقتضيه مفاد الدليل مع ما يقتضيه المرتكز العرفي انتهى.
ولعله إليه يرجع كلام الشيخ الأعظم في ذيل الأمر الأول، وهذا الكلام كما ترى خلاف مفروض كلام المحقق الخراساني لأن مفروضة ما إذا لم تصر المناسبة موجبة لصرف الكلام عن ظاهره والحق في الجواب عنه ان يقال: ان المناسبة ان لم تصر موجبة لصرف ظاهر الكلام فلا يعقل ان تكون القضية المتيقنة موضوعها ما هو مرتكز العرف تخيلا وان صارت موجبة لذلك فلا يرجع الفرق إلى محصل هذا مضافا إلى ان ما أفاده المحقق المعاصر رحمه الله يرجع بالآخرة إلى العجز عن تصور الفرق بين الأخذ من العرف والدليل وأنت إذا تأملت فيما ذكرنا من أخذ الموضوع من العرف أو الدليل لاتضح لك النظر في كلام هؤلاء الاعلام وان ما أفاد هذا المحقق من ان المقابلة بينهما في غير محلها منظور فيه وان المقابلة بينهما في محلها.
في ان المراد من العرف ليس العرف المسامح
ثم ان المراد بالعرف في مقابل العقل ليس هو العرف المسامح حتى يكون المراد بالعقل العرف الغير المسامح الدقيق ضرورة ان الألفاظ كما انها وضعت للمعاني النفس الأمرية تكون مستعملة فيها أيضا عند إلقاء الأحكام فالكر والميل والفرسخ والدم والكلب وساير الألفاظ المتداولة في إلقاء الأحكام الشرعية لا تكون مستعملة الا في المعاني الواقعية الحقيقية فالكر بحسب الوزن الف ومائتا رطل عراقي من غير زيادة ونقيصة لا الأعم منه وما يسامح العرف وكذا الدم ليس الا المادة السيالة في العروق التي تكون بها الحياة الحيوانية لا الأعم منها وما يطلق عليه اسم الدم مسامحة.
وليس التسامح العرفي في شيء من الموارد ميزانا لا في تعيين المفاهيم ولا في تشخيص المصاديق بل المراد من الأخذ من العرف هو العرف مع دقته في تشخيص المفاهيم والمصاديق وان تشخيصه هو الميزان مقابل تشخيص العقل الدقيق البرهاني، مثلا
227

شبهة في ان الدم عبارة عن المائع المعهود الجاري في القلب والعروق والمسفوح منه موضوع للحكم بالنجاسة وليس ما يتسامح فيه العرف ويطلق عليه الدم تسامحا موضوعا لها لكن العرف مع كمال دقته في تشخيص مصاديقه يحكم بان اللون الباقي بعد غسل الثوب ليس بدم ويكون لون الدم لكن البرهان العقلي قام على امتناع انتقال العرض فيحكم العقل لأجل ذلك على ان اللون هو الاجزاء الصغار من جوهر الدم والكلب ليس عند العرف الا الجثة الخارجية والحياة من حالاتها وميتة الكلب كلب عندهم حقيقة وعند العقل البرهاني لما كانت شيئية الشيء بصورته وصورة الكلب نفسه الحيوانية الخاصة به فإذا فارقت جثته سلب منها اسم الكلب وتكون الجثة جمادا واقعة تحت نوع آخر غير النوع الكلبي بل يسلب عنها اسم جثة الكلب وبدنه أيضا ويكون إطلاق بدن الكلب على الجثة المفارقة عنها الروح مسامحة لدى العقل كما هو المقرر في مقاره من العلوم العالية مع انها كلب لدى العرف حقيقة.
وبالجملة ليس المراد من كون تشخيص المفاهيم ومصاديقها موكولا إلى العرف هو التسامح العرفي فالتسامح العرفي في مقابل الدقة العقلية البرهانية لا في مقابل دقة العرف نعم قد يكون بين المتكلم والمخاطب في عرف
التخاطب وتعارف التكلم بعض المسامحات التي تكون مغفولة عنها لديهم حال التكلم ويحتاج التوجه إليها إلى زيادة نظر ودقة ومع الدقة والنظرة الثانية يتوجه المتكلم والمخاطب إلى التسامح ففي مثل ذلك يكون المعنى المتفاهم ابتداء موضوعا للحكم، فإذا قال المولى إذا قمت إلى الصلاة فول وجهك شطر المسجد الحرام لا يفهم المخاطب من هذا الكلام الا استقبال المسجد بنحو المتعارف وان كانت الدقة العرفية أيضا تقتضي كونه أضيق مما هو المتفاهم عرفا فالمناط في أمثاله هو التفاهم العرفي لا الدقة العقلية ان قلنا بان الميزان هو العرف.
ثم انه لا إشكال في ان الميزان في تشخيص جميع المفاهيم ومصاديقها وكيفية صدقها عليها هو العرف لأن الشارع كأحد من العرف في المخاطبات والمحاورات وليس له اصطلاح خاص ولا طريقة خاصة في إلقاء الكلام إلى المخاطب فكما يفهم أهل المحاورات
228

من قول بعضهم: اجتنب عن الدم أو اغسل ثوبك من البول، يفهم من قول الشارع أيضا وليس مخاطبة الشارع مع الناس الا كمخاطبة بعضهم بعضا فإذا قال: اغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق، لا يكون المراد منه الا الغسل بنحو المتعارف لا الغسل من الأعلى فالأعلى بنحو الدقة العقلية فكما ان العرف محكم في تشخيص المفاهيم محكم في صدقها على المصاديق وتشخيص مصاديقها فما ليس بمصداق عرفا ليس بمصداق للموضوع المحكوم بالحكم الشرعي، فما أفاده المحقق الخراساني من ان تشخيص المصاديق ليس موكولا إلى العرف وتبعه غيره ليس على ما ينبغي فالحق ما ذكرنا تبعا لشيخنا العلامة أعلى الله مقامه.
الأمر الثاني في ان اخبار الباب هل تختص بالاستصحاب أو تعم غيره؟
مما يعتبر في جريان الاستصحاب هو ان يكون اليقين بالقضية المستصحبة فعليا بان يكون حال إجراء الأصل متيقنا لوجود المستصحب في السابق حتى يكون شكه في البقاء وهذا مما لا إشكال فيه ولا كلام، انما الإشكال في ان الاخبار الواردة في الباب هل يكون مفادها مختصا بالاستصحاب أو يعم قاعدة اليقين أو يعم مع ذلك امرا ثالثا وهو ترتيب آثار البقاء مع الشك في الحدوث بمجرد تعلق اليقين بحدوثه وزواله.
وبعبارة أخرى ان الكبرى الكلية الواردة في الاخبار كما تشمل عدم نقض اليقين المتحقق فعلا المتعلق بالأمر السابق مع الشك في بقائه وهو المعبر عنه بالاستصحاب تشمل قاعدة اليقين وهي ما إذا تعلق اليقين بأمر في زمان ثم زال اليقين وشك في كونه في ذلك الزمان متحققا أو لا فيترتب عليه آثار المتيقن في ذلك الزمان وتشمل أيضا امرا ثالثا وهو ما إذا تعلق اليقين بأمر سابق وشك في بقائه مع زوال اليقين فيحكم بترتب آثار البقاء مع سراية الشك إلى اليقين.
والكلام يقع في المقامين (أحدهما) في إمكان الجمع بين القاعدتين أو
229

القواعد الثلث في مثل قوله لا ينقض اليقين بالشك أو قوله من كان على يقين فشك فليمض على يقينه (وثانيهما) في ان الظاهر من اخبار الباب ما ذا؟
اما الكلام في أول المقامين
فهو ان الحق إمكان الجمع بين القواعد الثلث فضلا عن الجمع بين القاعدتين وما جعل محذورا فيه ممكن الدفع.
حول إشكال الشيخ الأعظم على إمكان الجمع بين القاعدتين
اما ما أفاده الشيخ الأعظم فمحصله ان المناط في القاعدتين مختلف غير ممكن الجمع في لحاظ واحد لأن مناط الاستصحاب اتحاد متعلق اليقين والشك مع قطع النظر عن الزمان ومناط القاعدة اتحاد متعلقهما من جهة الزمان ولا يمكن الجمع بينهما في مثل قوله فليمض على يقينه لأن المضي في الاستصحاب بمعنى ترتيب آثار البقاء من غير نظر إلى الحدوث وفي القاعدة بمعنى ترتيب آثار الحدوث من غير نظر إلى البقاء وهما نظران مخالفان ومعينان غير مجتمعين في الإرادة واللحاظ (ولو قيل) بان المضي معنى واحد وهو فرض الشك كعدمه ويختلف باختلاف المتعلق فالمضي مع الشك في الحدوث بمعنى الحكم بالحدوث ومع الشك في البقاء بمعنى الحكم به (يقال): هذا يصح إذا كان هنا فردان من اليقين يكون أحدهما متعلقا بالحدوث والاخر بالبقاء وليس كذلك لأن اليقين بعدالة زيد يوم الجمعة ليس فردين من اليقين بل هو يقين واحد ويكون تعدده بالاعتبار ويكون عموم افراد اليقين حقيقة باعتبار الأمور الواقعية كعدالة زيد وفسق عمرو لا باعتبار ملاحظة اليقين بشيء واحد حتى ينحل اليقين بعدالة زيد إلى فردين يتعلق بكل منهما شك فحينئذ ان اعتبر المتكلم في كلامه الشك في هذا المتيقن من دون تقييده بيوم الجمعة فالمضي على اليقين حكم باستمراره وان اعتبر مقيدا فالمضي هو الحكم بالحدوث من غير تعرض للبقاء وهذان لا يجتمعان في الإرادة (انتهى ملخصا).
أقول: يرجع محصل كلامه بان اليقين إذا كان بالنسبة إلى عدالة زيد في قاعدة اليقين والاستصحاب من قبيل العموم بالنسبة إلى افراده يمكن ان يشملهما وان كان المضي بالنسبة إلى كل فرد ينتج امرا مغايرا لفرد آخر لكن ليس الأمر كذلك لأن عدالة
230

زيد امر واحد في القاعدتين وانما اختلافهما بالاعتبار وليست الكثرة الاعتبارية من افراد العام حتى يشملهما بل لا بد من اعتبارهما ولا يجتمع الاعتبار ان في لحاظ واحد.
تقرير بعض الأجلة كلام الشيخ وإقامة البرهان عليه
ونسج على هذا المنوال بعض أعاظم العصر رحمه الله وأقام برهانا على عدم تغاير اليقين في الاستصحاب والقاعدة بحسب الافراد فقال: ان تغاير افراد اليقين انما يكون بتغاير متعلقاته كاليقين بعدالة زيد وقيام بكر والا فاليقين من حيث نفسه لا يتعدد ومتعلق اليقين في القاعدة والاستصحاب غير متعدد لأن متعلقه في كل منها هو عدالة زيد وعدم انحفاظ اليقين في القاعدة دون الاستصحاب لا يوجب التغاير الفردي فان الانحفاظ وعدمه من الطواري اللاحقة لليقين بعد وجوده وذلك لا يقتضى تعدد افراد اليقين مع وحدة المتعلق بداهة ان تعدد افراد الطبيعة الواحدة انما يكون لأجل اختلاف المشخصات الفردية حال وجود الافراد والخصوصيات اللاحقة بعد الوجود لا تكون مفردة «انتهى».
في الجواب عنهما
وأنت خبير بما في كلامهما لأن اليقين المتعلق بشيء واحد من شخص واحد في زمان واحد وان كان امرا واحدا كيقين زيد وقت ظهر يوم السبت بعدالة عمرو في ظهر يوم الجمعة وليس اختلافه من حيث التقيد واللا تقيد ومن حيث الانحفاظ واللا انحفاظ من المشخصات والمكثرات الفردية لكن ليس خطاب لا تنقض اليقين بالشك متوجها إلى شخص واحد مع تلك القيود بل هو خطاب مطلق شامل لكل يقين من كل متيقن تعلق بكل متعلق وشك فيما تيقن سواء كان شكه ساريا كقاعدة اليقين أولا كالاستصحاب فلو فرضنا عدة افراد تيقن بعضهم بعدالة زيد وبعضهم بفسق عمرو وبعضهم بقيام بكر ثم شك الطائفة الأولى في عدالة زيد بنحو الشك الساري والطائفة الثانية في فسق عمرو بنحو الشك في البقاء والثالثة في قيام بكر بنحو الشك الساري مع الشك في قيامه في الزمان المتأخر فلا إشكال في كون يقين كل من هذه الافراد فردا من عنوان اليقين سواء في ذلك الطائفة
231

التي تعلق يقينهم بشيء واحد كعدالة زيد مثلا أو الطائفة التي تعلق يقينهم بأشياء مختلفة اما الثانية فواضح، واما
الأولى فلتعدد المحل القائم به اليقين فاليقين القائم بنفس كل إنسان فرد من اليقين غير الفرد الاخر القائم بنفس شخص آخر وان كان متعلقهما شيئا واحدا.
وليت شعري انه ما الداعي في فرض يقين واحد من شخص واحد بالنسبة إلى متعلق واحد حتى لا يكون التعدد الا اعتباريا بل لا معنى لاعتبار ذلك بل لا يعقل، لأن مورد قاعدة اليقين لا يعقل ان يكون متداخلا لمورد الاستصحاب فلكل منهما افراد خاص بهما فان المعتبر في الاستصحاب بقاء اليقين وفي القاعدة زواله.
فحينئذ نقول: ان المأخوذ في الكبرى في اخبار الباب هو عنوان اليقين والشك والنهي عن نقض الأول بالثاني وهذه الكبرى الكلية لها مصاديق كثيرة جملة منها تكون من قبيل الشك الساري وجملة منها لا من قبيله فمن تيقن بعدالة زيد يوم الجمعة ثم شك في عدالته في ذاك اليوم يمكن ان يكون مخاطبا بقوله لا تنقض اليقين بالشك، ومن شك في بقاء عدالته يوم السبت مع اليقين بعدالته يوم الجمعة يمكن ان يخاطب بهذا الخطاب من غير استعمال لفظ اليقين أو الشك أو النقض أو النهي في معنيين ومن دون لحاظ امرين مختلفين بل المتكلم بقوله لا تنقض اليقين بالشك لا يعقل ان يلاحظ في إلقاء هذه الكبرى غير عنوان الشك واليقين المأخوذين في موضوع حكمه وغير متعلق نهيه فلا يكون متعلقات اليقين والشك مطلقا منظورا إليها فيشمل جميع مصاديق اليقين والشك كانت من قبيل قاعدة اليقين أو الاستصحاب أو القاعدة الثالثة التي تكون من جهة كقاعدة اليقين ومن جهة كالاستصحاب، لأن عنوان اليقين والشك شامل لكل شك ويقين لا بجهات الكثرة بل بجهة اليقين والشك ومعنى المضي وعدم النقض ليس الا ترتيب الآثار تعبدا وفرض الشك كلا شك أو فرض تحقق اليقين في عالم التشريع ولا يلزم منه محذور.
هذا لو فرض الكبرى في الاستصحاب كليا ذا مصاديق فان الكلي أيضا يشمل كثرة الافراد لا بخصوصياتها الممتازة، واما لو كانت الكبرى من قبيل المطلقات كما هو كذلك فالإشكال أو هن لأن الحكم فيها على نفس العناوين من غير نظر إلى الخصوصيات
232

كما هو المقرر في محله.
حول كلام العلامة الحائري (قده) وجوابه
ومما ذكرنا يتضح النظر فيما أفاده شيخنا العلامة أعلى الله مقامه من ان المتكلم بقضية «إذا تيقنت بشيء ثم شككت فيه» اما لاحظ الشيء المتيقن مقيدا بالزمان واما لاحظ الزمان ظرفا للمتيقن واما أهمل ملاحظة الزمان رأسا ولا تخلو القضية عن تلك الحالات الثلاث، وينطبق بعضها على قاعدة اليقين وبعضها على الاستصحاب ولا يمكن الجمع بين تلك الحالات أي ملاحظة الزمان قيدا وظرفا أو ملاحظته وعدم ملاحظته (انتهى ملخصا) وذلك لأن المتعلق مطلقا لم يؤخذ في الكبرى الكلية ولم يلاحظ مطلقا حتى يقال ان يوم الجمعة أخذ قيدا أو ظرفا ومعنى كون اليقين طريقا في موضوع الكبرى ليس لحاظ المتيقنات باليقين فان اليقين المأخوذ في الكبرى عنوان لليقين الطريقي الذي للمكلفين لا طريق إلى المتعلقات ففي مثل قوله لا تنقض اليقين بالشك لا ينقدح في ذهن المتكلم غير نفس تلك العناوين المأخوذة فيه ولا عين ولا أثر من متعلق اليقين والشك حتى يطالب متعلق هذا المتعلق مثل يوم الجمعة بأنه أخذ قيدا أو ظرفا فقوله: لا تنقض كقوله: أوفوا بالعقود، يشمل كل عقد ولو كانت متخالفة الاعتبار وغير ممكنة الجمع في اللحاظ لكنها مجتمعة في عنوان العقد فلا تنقض نهى عن نقض كل يقين بالشك وان كانت مصاديقها باعتبار المتعلقات ممتنعة اللحاظ في لحاظ واحد.
ومما ذكرنا يظهر الإشكال في ما جعل محذورا آخر من الجمع بين القاعدتين في هذه الكبرى وهو: ان اليقين في الاستصحاب أخذ طريقا ويراد منه المتيقن ومعنى عدم نقض اليقين في الاستصحاب ان ما ثبت يدوم ويكون اليقين طريقا لإحرازه فذكر اليقين في القضية على هذا التقدير ليس الا لكونه طريقا لإحراز متعلقه من دون ان يكون له مدخلية في الحكم فيكون مفاد القضية على هذا التقدير انه إذا كان شيء موجودا في السابق واحتمل زواله لا يعتنى بهذا الاحتمال واما اليقين في القاعدة أخذ
233

موضوعا لوجوب المضي وملحوظا بذاته فالموضوع في الاستصحاب هو المتعلق وفي القاعدة نفس اليقين ولا يمكن الجمع بين هذين اللحاظين.
وقد يقرر ذلك بان طريقية اليقين في القاعدة لا يمكن بعد تبدله بالشك واما في الاستصحاب فيكون طريقا لكونه موجودا.
أقول: قد ذكرنا سابقا في باب لزوم فعلية الشك واليقين في الاستصحاب ان اليقين الطريقي أخذ موضوعا وان الظاهر من الأدلة ان العناية فيها بان اليقين لكونه امرا مبرما مستحكما لا ينبغي ان ينقض بالشك فالموضوع في الاستصحاب هو اليقين الطريقي وكذا في القاعدة فعنوان اليقين المأخوذ في القاعدتين مرآة لليقين الطريقي لكل مكلف كان على يقين فشك، وقد ذكرنا سالفا ان النقض لا يناسب الا مع اليقين الطريقي الذي يكون في اعتبار العقلاء كأنه حبل مشدود أحد جانبيه على المتيقن والآخر على المتعلق فلا إشكال في ان اليقين في الاستصحاب هو اليقين الطريقي لكن هذا اليقين الطريقي أخذ موضوعا.
فالقول بان معنى لا تنقض انه إذا كان شيء موجودا واحتمل زواله لا يعتنى بهذا الاحتمال، بعيد عن الصواب وأجنبي عن اخبار الباب، وكذا اليقين في القاعدة بما انه طريق إلى الواقع أخذ موضوعا لا بما انه صفة قائمة بالنفس وقوله ان اليقين في القاعدة ملحوظ من حيث نفسه لبطلان كاشفيته بعد تبديله إلى الشك فيه ان اليقين في ظرف وجوده كان كاشفا عن متعلقه والمطابقة للواقع وكون الكشف كشفا صادقا لا دخل له في ذلك فلا إشكال في ان قوله من كان على يقين في عدالة زيد يوم الجمعة فشك بعده في عدالته يوم الجمعة لا يريد باليقين فيه الا ما يريد بقوله من كان على يقين في عدالة زيد يوم الجمعة فشك في بقائها يوم السبت من غير تفاوت في النظر والاعتبار.
فتحصل مما ذكرنا ان الجمع بين القاعدتين بل القواعد الثلث في قوله لا تنقض اليقين بالشك مما لا مانع منه، فما قد يقال: من عدم إمكان الجمع بينهما في اللحاظ من جميع الجهات لا من جهة اليقين ولا من جهة المتيقن ولا من جهة النقض ولا من جهة الحكم مما لا يرجع إلى محذور بعد التأمل فيما ذكرنا.
234

وقد يقال (1) في وجه الامتناع: ان إرجاع الضمير في الاستصحاب إلى ما تعلق به اليقين يكون بنحو من المسامحة لعدم وحدة متعلقهما دقة بخلاف الإرجاع في القاعدة فهما نظر ان مختلفان لا جامع بينهما (وفيه) مضافا إلى ان الكبرى هو عدم نقض اليقين بالشك من غير نظر إلى المتعلقات، واختلاف الخصوصيات فيها غير منظور والعناوين قابلة للانطباق على كل من الخصوصيتين ولو لم يكن اجتماعهما في اللحاظ، أن الجمع بين المصداق الحقيقي والمسامحي التأولى بمكان من الإمكان لما حقق في محله من ان الادعاء في المجازات انما هو في تطبيق العناوين الحقيقية على الافراد لا في الاستعمال مع ان المقام أجنبي عن ذاك المضمار.
واما المقام الثاني أي مقام الاستظهار من الأدلة
فلا ينبغي الإشكال في ان اخبار الباب كلها تحوم حول كبرى كلية هي لا ينقض اليقين بالشك فالمجعول هي هذه الكبرى مع اختلاف التعبيرات ولا إشكال في ان الظاهر منها كون اليقين متحققا فعلا فمعنى قوله لا ينقض اليقين
بالشك ان اليقين المتحقق بالفعل لا ينقض ولا يشمل اليقين الزائل وهذا مما لا ريب فيه.
نعم يمكن ان يتوهم ان الظاهر من رواية الخصال هو القاعدة لأن قوله من كان على يقين فشك فليمض على يقينه ظاهر في ان اليقين كان متحققا فزال وقام مقامه الشك (لكنه فاسد) فان هذا التعبير عين التعبير الوارد في صحيحة زرارة الثانية وهو قوله: لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت، مع انها واردة في مورد الاستصحاب والسر في هذا التعبير هو ان الغالب ان يكون حصول الشك في البقاء متأخرا عن اليقين بالحدوث وقد مر في ذيلها عند ذكر اخبار الباب ما يؤيد ذلك مع ان في ذيلها شهادة بان المجعول فيها عين المجعول في صحيحتي زرارة (2) وبالجملة لا تكون اخبار الاستصحاب

(1) القائل هو المحقق العراقي رحمه الله.
(2) يمكن ان يقال: لو سلم دلالة الصدر على القاعدة ولكن ذيله يدل على خلافها فيتساقطان بعد التعارض فلا يبقى ظهور للخبر حتى يتمسك به لا على الاستصحاب ولا على القاعدة (تأمل).
235

دالة على القاعدة فضلا عن القاعدتين بل ليس لها دليل رأسا وتوهم كون اخبار التجاوز والفراغ دالة عليها في غير محله لأن مفادها غير القاعدة موضوعا وملاكا كما سيجيء.
الأمر الثالث
حول تقدم الأمارات على الاستصحاب
مما يعتبر في الاستصحاب ان يكون المستصحب مشكوك البقاء فلا يجري مع إحراز بقائه أو ارتفاعه وهذا مع الإحراز الوجداني واضح، وانما الكلام فيما إذا قامت أمارة معتبرة شرعية أو عقلائية ممضاة شرعا على طبق الحالة السابقة أو على خلافها حيث ان الشك الوجداني لا يزول معه، ولكن لا إشكال في تقدمها عليه وانما الإشكال في وجه التقدم وانه هل هو لأجل الحكومة أو الورود أو غيرهما؟ فلا بد قبل الورود في المقصود من بيان الفرق بين تلك العناوين التي يمكن ان تكون وجه التقدم وبيان الضابط فيها وقد مر شطر من الكلام فيها في مباحث البراءة ونزيدك هاهنا إيضاحا فنقول: لم ترد تلك العناوين ولا شيء منها في لسان دليل أو معقد إجماع حتى نبحث فيها وفي حدودها وانما هي اصطلاحات في لسان الأصوليين وبعضها في السنة متأخري المتأخرين وقد جعلها الشيخ الأعظم تحت الضابط وتعرض لها في شتات إفاداته خصوصا في أول باب التعادل والتراجيح.
والذي يمكن ان يقال: انه قد نرى ان العقلاء وأرباب المحاورات قد يقدمون دليلا على دليل من غير ملاحظة النسبة بينهما ومن غير ملاحظة أظهرية أحدهما من الآخر وقد يتوقفون في تقديم أحد الدليلين مع كون النسبة بينهما كالسابقة، مثلا لو ورد يجب إكرام العلماء وورد في دليل منفصل يحرم إكرام الفساق فيعرض الدليلان على أهل المحاورات والعرف تريهم يتوقفون في الحكم ولا يحاولون ترجيح أحدهما على الاخر، ولو بدل قوله:
يحرم إكرام الفساق بقوله: ما أردت إكرام الفساق، أو ما حكمت بإكرامهم، أو ما جعلت إكرامهم، أو لا خير في إكرامهم أو، لا صلاح في إكرامهم، أو لا أرى إكرامهم، أو ليس منظوري
236

إكرامهم أو ليس الفساق أهلا للإكرام، أو إكرامهم خطأ، أولا أقول بإكرامهم أو أمثالها تصير تلك الألسنة قرينة على صرف قوله يجب إكرام العلماء عن وجوب إكرام الفساق منهم مع ان النسبة بينه وبينها عموم من وجه ولا فرق بين ما ذكر وبين ما تقدم الا في كيفية التأدية والتعبير وكذا الحال في قوله: لا سهو لمن أقر على نفسه بالسهو، بالنسبة إلى أدلة الشكوك وقوله ما جعل عليكم في الدين من حرج، أو لا ضرر ولا ضرار، أو ما يريد الله بكم العسر، بالنسبة إلى أدلة الأحكام مع ان النسبة بينهما عموم من وجه وليس هذا النحو من التقديم بلحاظ مقام الظهور وترجيح الأظهر على الظاهر أو النص على الظاهر.
ومن ذلك يعلم ان غير التقديم الظهوري الذي يكون معولا عليه عند العقلاء يكون ترجيح وتقديم آخر وهو ان يكون أحد الدليلين بمدلوله متعرضا لحيثية من حيثيات الدليل الآخر التي لم يتعرضها ذلك الدليل.
وتوضيح ذلك: ان الدليلين اما ان يكون كل منهما متعرضا بمدلوله لما يتعرضه الدليل الآخر ويكون الفرق بينهما بعد اشتراكهما في ذلك في جهات اخر كالإيجاب والسلب مثل أكرم العلماء ولا تكرم العلماء أو مع أخصية أحدهما عن الآخر مثل أكرم العلماء ولا تكرم فساقهم، أو مع كون النسبة عموما من وجه مثل أكرم العلماء ولا تكرم الفساق وكاختلافهما في زيادة قيد مع الاتفاق في الكيف مثل ان ظاهرت أعتق رقبة وان ظاهرت أعتق رقبة مؤمنة ففي جميع تلك الموارد ترى ان كلا من الدليلين يتعرض لما يتعرضه الاخر فكما ان أحدهما تعرض وجوب إكرام العلماء تعرض الآخر عدم وجوب إكرامهم وكما ان أحدهما تعرض لعتق رقبة تعرض الاخر لعدم عتق كافرتها أو لعتق مؤمنتها فما لمدلول اللفظي من أحدهما هو المدلول الآخر مع اختلاف في الكيف أو في زيادة أو مثلهما.
وان شئت قلت: في الأدلة اللفظية ان التصادم بينهما في مرحلة الظهور مع اتحادهما في جميع المراحل من الأصول العقلائية فإذا كان الدليلان كذلك يكون تقديم أحدهما على الاخر تقديما ظهوريا ومناطه أظهرية أحدهما من الآخر فتقديم لا تكرم الفساق من العلماء على أكرم العلماء ليس الا من جهة تقديم الأظهر على الظاهر
237

وجميع الأصول اللفظية كأصالة العموم وأصالة الإطلاق وأصالة الحقيقة (1) ترجع إلى أصالة الظهور عند العقلاء فما هو المعتبر عندهم والحجة لديهم هو الظهور اللفظي، فأكرم العلماء حجة لظهوره في العموم بعد تحقق المقدمات الأخرى من الأصول العقلائية وليس ظهوره معلقا على عدم مجيء المخصص بل ظهوره منجز وبناء العقلاء على العمل به من غير تعليقه على شيء ولكن مع ورود دليل أخص منه يقدم مقتضاه عليه لقوة ظهوره وأظهريته من ظهور العام في مضمونه، وكذا الحال في المطلق والمقيد فان مناط تقديمه على المطلق ليس الا أقوائية ظهور القيد في القيدية من المطلق في الإطلاق.
فما أفاده الشيخ الأعظم قدس سره من ان مناط تقديم الخاص على العام هو الحكومة أو الورود فان أصالة الحقيقة أو العموم معتبرة إذا لم يعلم هناك قرينة على المجاز، والمخصص القطعي وارد على أصالة العموم والمخصص الظني حاكم عليها لأن معنى حجية الظن جعل احتمال مخالفة مؤداه للواقع بمنزلة العدم في عدم ترتب ما كان يترتب عليه من الأمور لو لا حجية هذه الأمارة وهو وجوب العمل بالعموم عند احتمال وجود المخصص وعدمه، ويحتمل ان يكون الخاص الظني واردا بناء على كون العمل بالظاهر عرفا وشرعا معلقا على عدم التعبد بالتخصيص انتهى (فمنظور فيه).
لأن مناط العمل بالظواهر والاحتجاج عند العقلاء هو نفس الظهور فأصالة الإطلاق والعموم والحقيقة ليست أصولا متكثرة بمناطات مختلفة بل المناط هو الظهور فإذا كان الظهور ظنيا يلقى احتمال خلافه عند العقلاء من غير فرق بين العام والخاص فالعام الظني كالخاص الظني يلقى احتمال خلافه وليس ظهور العام أو البناء على العمل به معلقا على شيء، بل يكون تقديم الخاص على العام من قبيل تقديم أقوى الدليلين وأظهر الظاهرين، و

(1) في رجوع أصالة الإطلاق إلى أصالة الظهور وفي وجه تقدم المقيد على المطلق كلام يأتي في بعض المباحث الآتية والتحقيق ان الإطلاق ليس ظهورا لفظيا ولا تقدم المقيد على المطلق من قبيل تقدم الأظهر على الظاهر كما سيأتي وكذا مناط تقدم الخاص على العام ليس الأظهرية بل شيء آخر سنشير إليه في بعض المباحث الآتية (منه دام ظله).
238

كذا الحال في تقديم المقيد على المطلق وقرينة المجاز على ذيها وليس مناط الحكومة في شيء من ذلك كما سيتضح لك «فتلخص مما ذكرنا» ان تصادم الدليلين في الظهور مع تعرض كل منهما لما يتعرضه الاخر مقسم للتخصيص والتقييد وتقديم قرينة المجاز وكذا لتقديم أحد المتباينين والعامين من وجه على شقيقه لو فرض أظهريته منه.
في بيان ضابط الحكومة
هذا حال التصادم والتقديم الظهوريين، واما ضابط الحكومة فهو ان يتعرض أحد الدليلين بنحو من التعرض ولو بالملازمة العرفية أو العقلية لحيثية من حيثيات اخر مما لا يتعرضها ذلك، كان التعرض في موضوعه أو محموله أو متعلقه أو المراحل السابقة على الحكم أو اللاحقة له مثلا لو قال المولى أكرم العلماء فلا يكون ذلك متعرضا الا لوجوب إكرام كل عالم ولا يتعرض لشيء آخر سواه، فلم يتعرض لتحقق موضوعه أو دخول فرد فيه أو عدم دخوله فيه ولا لحدود متعلقه وحكمه ولا لكونه مرادا أو مجعولا أو صادرا على نحو الجد أو التقية، وبالجملة لم يتعرض للجهات المتقدمة على الحكم والمتأخرة عنه، فلو تعرض دليل لشيء من تلك الحيثيات يكون مقدما لدى العقلاء من غير ملاحظة النسبة بينهما ولحاظ أظهرية أحدهما من الاخر.
فلو تعرض أحد الدليلين لتوسعة دائرة موضوع الآخر أو تضييقه أو لحدود محموله أو متعلقه أو حكمه يكون مقدما وحاكما عليه مثل قوله: لا سهو لمن أقر على نفسه بالسهو، بالنسبة إلى أدلة الشكوك، فقوله زيد عالم أو ليس بعالم أو الضيافة إكرام أو ليس بإكرام وأمثاله حاكم على قوله أكرم العلماء لتعرضه لما لا يتعرضه الاخر، وكذا قوله:
ما جعل عليكم في الدين من حرج، حاكم على أدلة الأحكام لتعرضه بمدلوله للجعل الذي لا تتعرضه الأدلة وان كانت مجعولة بالضرورة لأنها لما لم تتعرض لمجعوليتها، فإذا تعرض دليل بان الجعل لم يتعلق بأمر حرجي يقدم عرفا على تلك الأدلة لا لأقوائية ظهوره بل هذا نحو آخر من التقدم في مقابل التقدم الظهوري ولهذا لا تلاحظ النسبة بين الدليلين فيقدم العام من وجه على معارضه فأدنى الظواهر يقدم على أقواها، فلو قال أكرم
239

العلماء ودل دليل على انه ما أريد إكرام الفساق أو ما حكمت بإكرامهم أو ما جعلت ذلك يكون مقدما عليه من غير لحاظ النسبة والظهور، وليس هذا الا لتعرض الحاكم لما لا يتعرضه الاخر، فان الدليل المحكوم ليس بمدلوله متعرضا لكون إكرامهم مرادا أو مجعولا أو محكوما به فإنها معلومة من الخارج أو لأجل الأصل العقلائي ومن هذا القبيل تقديم «لا تعاد» على أدلة الاجزاء والشرائط لأنها لا تتعرض للحيثيات اللاحقة أي الإعادة واللا إعادة وانما يحكم العقل بان التارك للجزء أو الشرط يعيد.
ثم ليعلم ان نتيجة حكومة دليل على دليل قد تكون تخصيصا مثل ليس الفساق من العلماء بالنسبة إلى إكرام العلماء فإنه خروج حكمي بلسان الحكومة، وقد تكون تقييدا كتقدم دليل رفع الحرج على إطلاق أدلة الأحكام، وقد تكون توسعة في الحكم بلسان توسعة الموضوع كقوله: (الطواف بالبيت صلاة)، وقد تكون ورودا كتقدم أدلة الاستصحاب على أدلة الأصول الشرعية بناء على كون المراد من العلم الذي أخذ غاية في أدلتها هو الحجة في مقابل اللا حجة فان قوله: (لا تنقض اليقين بالشك) حاكم على أدلتها لأن لسانه بقاء اليقين وإطالة عمره فيكون متعرضا لتحقق العلم الذي جعل غاية للأصول، وأدلة الأصول ليست متعرضة لذلك فيكون حاكما عليها ونتيجة حكومته الورود، وان كان المراد من العلم هو العلم الوجداني يكون دليل الاستصحاب حاكما عليها ونتيجته إعدام الموضوع تعبدا وحكما.
فالورود والتخصيص والتقييد وغيرها كثيرا ما تكون من نتائج الحكومة وثمراتها وليس الورود في عرضها، فان حيثية تقدم دليل على دليل آخر ليست الا على نحوين (أحدهما) التقدم الظهوري (والثاني) التقدم على وجه الحكومة سواء كانت نتيجتها رفع الموضوع حكما أو رفعه حقيقة فالورود ليس من أنحاء تقديم دليل لفظي على دليل آخر في مقابل التخصيص والحكومة.
وان شئت قلت: تقسيم تقدم دليل على آخر بين التقدم الظهوري وعلى نحو الحكومة حاصر دائر بين النفي والإثبات فلا يعقل قسم آخر في الأدلة اللفظية يسمى ورودا، فان أحد الدليلين اما ان يتعرض لما يتعرضه الدليل الاخر أو يتعرض لما لا يتعرضه ولا ثالث
240

لهما «نعم» يتصور ثالث هو عدم التعرض رأسا وهو خارج عن المقسم فأدلة الأمارات بناء على أخذها من الأدلة اللفظية حاكمة على أدلة الأصول والاستصحاب لأن مفادها التصرف في موضوعها إعداما وهو حيثية لا تتعرضها تلك الأدلة فنتائج الحكومة أمور كثيرة كالتخصيص والتقييد والورود وإعدام الموضوع تعبدا، أو إيجاده كذلك وتوسعة دائرة الموضوع حكما أو الحكم على عكس التخصيص والتقييد، فالورود ليس من أنحاء التقديم في الأدلة اللفظية ولا مشاحة في الاصطلاح.
نعم لا بأس بتسمية تقديم بعض الأدلة اللبية على بعض كتقدم بناء العقلاء على العمل بخبر الثقة على قبح العقاب بلا بيان بالورود، كما انه لا بأس بتسمية تقدم بعض الأدلة اللفظية كأدلة الأمارات والاستصحاب على قبح العقاب بلا بيان بالورود، فتحصل مما ذكرنا الفرق بين التخصيص والحكومة.
واما تقسيم الحكومة بالظاهرية والواقعية كما صنعه بعض أعاظم العصر فمما لا ملاك له كما لا يخفى، لأن تقديم دليل على دليل آخر إذا كان على نحو الحكومة وتحت الضابط المتقدم فلا يكون مختلفا حتى يكون التقسيم صحيحا، واختلاف النتيجة لا يصحح التقسيم فتقدم (لا شك لكثير الشك) على أدلة الشكوك كتقدم (لا تنقض) على أدلة الأصول وتقدم مفهوم آية النبأ عليها من حيث تعرض الأدلة الحاكمة لما لا يتعرضه الأدلة المقابلة لها، وبالجملة لا يكون نحو تقدم الأدلة الحاكمة في الأحكام الواقعية مخالفا لنحو تقدم الأدلة الحاكمة في الأحكام الظاهرية حتى يصح التقسيم. إذا عرفت ما ذكرنا فلا بأس بصرف عنان الكلام إلى حال أدلة الاستصحاب مع ساير الأدلة والأدلة بعضها مع بعض، فيقع الكلام فيها في مقامات:
في حال الاستصحاب مع الأمارات
الأول في حال أدلة الاستصحاب مع أدلة الأمارات،
وملخص الكلام فيها انا قد ذكرنا في مبحث استصحاب مؤدى الأمارات ان المستفاد من الأدلة ولو بمناسبة الحكم والموضوع وبعض المؤيدات الخارجية والداخلية انه لا خصوصية لليقين ويكون المراد
241

منها انه لا ينتقض الحجة بغير الحجة، لا بمعنى ان عنوان اليقين والشك استعملا في الحجة وغير الحجة فإنه واضح البطلان بل هما مستعملان في معناهما، لكن العرف لا يرى لخصوصية العنوان دخالة في الحكم كما ان في قوله: رجل شك بين الثلاث والأربع، لا يكون الرجل مستعملا في مطلق المكلف بل العرف يلقى خصوصية الرجل ويرى ان ذكره من باب المثال.
فحينئذ يكون تقدم أدلة حجية خبر الثقة على أدلة الاستصحاب بناء على أخذها من الأدلة اللفظية مثل مفهوم آية النبأ ومثل قوله (ما يؤدى عني فعني يؤدى) على نحو الحكومة على إشكال ونتيجتها الورود لأن مفاد أدلة حجية الخبر ولو التزاما إلقاء الشك فان مفهوم الآية بناء على المفهوم ان نبأ العادل لا يتبين لكونه متبينا وليس العمل به إصابة القوم بجهالة وهو رافع للشك، واما لو قلنا بان دليل حجية خبر الثقة ليس الأبناء العقلاء وسيرتهم على العمل به والأدلة اللفظية كلها إرشادات إليها كما هو التحقيق فتقدمها على الاستصحاب يكون بالتخصص أو الورود بل هذا في الحقيقة ليس تقدما لأن الخروج الموضوعي ليس من التقدم لأن العقلاء لا يرون
العمل بخبر الثقة عملا بغير الحجة فلا يكون العمل على طبق الأمارة نقضا لليقين بالشك لديهم، وان اشتهيت ان تسمى هذا النحو من التقدم ورودا ببعض المناسبات فلا مشاحة فيه، ومما ذكرنا يظهر حال ساير الأمارات.
الثاني وجه تقدم الأمارات على أدلة البراءة الشرعية
هو الحكومة ان كان التمسك في الأمارات بالأدلة اللفظية لأن قوله (رفع ما لا يعلمون) أو (الناس في سعة ما لا يعلمون) محكوم مفهوم آية النبأ وساير الأدلة لأن مفادها إلقاء الشك فتعرض لموضوع أدلة البراءة وهي لا تتعرض له، فان قلنا بان المراد مما لا يعلم هو عدم الحجة كما هو التحقيق تكون نتيجة الحكومة هي الورود والا تكون النتيجة إعدام الموضوع تشريعا وتعبدا والتخصيص لبا وهو من أقسام الحكومة كما عرفت.
الثالث وجه تقدم أدلة الاستصحاب على أدلة الحل والبراءة الشرعيتين
هو الحكومة ونتيجتها الورود لأن مفاد «لا تنقض» كما عرفت إطالة عمر اليقين تعبدا وان الشك لا أهلية
242

له لنقضه فيكون اليقين غير منقوض وباقيا تعبدا، وهذا من أظهر أنحاء الحكومة واما كون النتيجة هي الورود لما عرفت من ان المراد مما لا يعلمون عدم الحجة لا عدم العلم وجدانا، وان كان مفاد الأدلة إلقاء الشك حكما والتعبد بعدم الاعتناء به فتكون حاكمة أيضا على ما جعل الحكم على عنوان الشك وعدم العلم وان كان مفادها عدم نقض الحجة بلا حجة فتكون حاكمة أيضا لأن المراد بعدم الحجة في مقابل الحجة هو عدم الحجة على الواقع وقد مر ان المراد بما لا يعلمون في أدلة البراءة هو ما لم يقم حجة على الواقع فغاية الأصول عدم قيام الحجة على الواقع ومفاد أدلة الاستصحاب بقاء الحجة قبل قيام حجة على الواقع فان معنى عدم نقض الحجة بغير الحجة عرفا هو بقاء حجيته إلى قيام حجة على الواقع فأدلة الاستصحاب بلسانها حاكمة على حصول غاية أدلة الأصول، واما أدلة الأصول فلم يكن مفادها الا تعيين الوظيفة عند عدم قيام الحجة لا جعل الحجة على الواقع.
واما ما أفاده الشيخ الأعظم في وجه التقدم: ان دليل الاستصحاب بمنزلة معمم للنهي السابق بالنسبة إلى الزمان اللاحق فمجموع قوله (كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهى) ودليل الاستصحاب بمنزلة ان يقول كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهى وكل نهى ورد في شيء فلا بد من تعميمه لجميع أزمنة احتماله فيكون الإطلاق مغيا بورود النهي المحكوم عليه بالدوام فأدلة الاستصحاب حاكمة عليه.
ففيه ان الحكومة خصوصا على مسلكه متقدمة بلسان الدليل فحينئذ لا يتم ما ذكر الا بدعوى ان مفاد أدلة الاستصحاب عدم نقض المتيقن بل لا يكفي ذلك حتى يكون المراد من المتيقن هو العناوين الذاتية الواقعية كالنهي والأمر والوجوب والحرمة وقد مر سابقا الإشكال في كون المراد من اليقين المتيقن ولو سلم ذلك لكن لا يمكن المساعدة معه في كون المراد هو العناوين الأولية (تأمل) ثم ذلك لا يتم بالنسبة إلى ساير أدلة البراءة وهو قدس سره كان متنبها لذلك لكن قال ما كان من الأدلة النقلية مساوقا لحكم العقل فقد اتضح امره والاستصحاب وارد عليه ولعل مراده ما ذكرنا من بيان حكومة أدلة الاستصحاب عليها وان كانت النتيجة الورود.
243

حول تعارض الاستصحابين
الرابع في وجه تقدم الاستصحاب السببي على المسببي ولا بأس بتعرض مطلق تعارض الاستصحابين.
فنقول: ان الشك في أحد المستصحبين اما ان يكون مسببا عن الشك في الآخر واما ان يكون الشك في كليهما ناشئا من ثالث، فعلى الأول اما ان تكون السببية والمسببية لأجل اللزوم العقلي أو العادي كالشك في وجود المعلول للشك في وجود علته وكالشك في نبات لحية زيد لأجل الشك في بقائه، واما ان تكون لأجل الجعل الشرعي كالشك في طهارة الثوب المغسول بالماء المشكوك الكرية فإنه لو لا حكم الشارع بان الغسل بالكر موجب للطهارة لما صار أحد الشكين سببا للشك الاخر، ثم ان السببية قد تكون بلا واسطة كالشك في صحة الطلاق عند رجلين في عدالتهما وقد تكون مع الواسطة كالشك في عدالتهما بالنسبة إلى الشك في لزوم تربص ثلاثة قروء، فان الشك في عدالتهما سبب للشك في صحة الطلاق وهو سبب للشك في لزوم التربص وقد تكون الوسائط كثيرة، وسيأتي أقسام ما إذا كان الشك في كليهما ناشئا من امر ثالث.
ولا إشكال في عدم تقدم الأصل السببي على المسببي إذا كانت السببية عقلية أو عادية وسيأتي بيان وجهه، واما إذا كانت السببية شرعية سواء كانت مع الواسطة أم لا، فسر تقدم الأصل السببي يظهر من التنبيه على امر قد أشرنا إليه سابقا في باب الأصول المثبتة وهو ان قوله (لا ينقض اليقين بالشك) لا يمكن ان يكون كفيلا للآثار مع الواسطة حتى الشرعية منها لأن الآثار مع الواسطة لا تكون آثار نفس المستصحب بالضرورة بل تكون أثر الأثر وأثر أثر الأثر وهكذا. فأثر عدالة شاهدين صحة الطلاق عندهما، ولزوم تربص ثلاثة قروء أثر صحة الطلاق لا أثر عدالة شاهدين فصحة الطلاق إذا ثبت بقوله (لا ينقض اليقين بالشك) لا يمكن ان يترتب عليها أثرها بلا ينقض أيضا لأن الحكم لا يمكن ان يوجد الموضوع ويترتب عليه ولا يكون أثر الأثر مصداق نقض اليقين بالشك تعبدا حتى يقال: ان لا تنقض قضية حقيقية تشملها كما يجاب عن الشبهة في الاخبار مع
244

الواسطة فاستصحاب عدالة زيد لا يمكن ان يترتب عليه الا آثار نفس العدالة، واما آثار الآثار فيحتاج إلى دليل آخر.
فالتحقيق ان ترتب الآثار على الاستصحابات الموضوعية ليس لأجل قوله: لا ينقض اليقين بالشك، بل الاستصحاب منقح موضوع كبرى شرعية مجعولة تعبدا فإذا ورد من الشارع يصح الطلاق عند شاهدين عدلين فاستصحاب عدالتهما ينقح موضوع تلك الكبرى فيحكم بصحته من ضم صغرى تعبدية إلى كبرى شرعية وإذا ورد: المطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء يحرز موضوعه من ضم صغرى إلى كبرى شرعية فيحكم بان هذه مطلقة والمطلقات يتربصن ثلثه قروء فيجب على هذه التربص، فإذا ورد جواز التزويج بعد التربص يحرز موضوعه كذلك فإذا ورد ان المزوجة يجب عليها إطاعة الزوج وعلى الزوج النفقة عليها يحرز الموضوع كما ذكر وهكذا، فلا يكون الاستصحاب الا منقح موضوع الكبرى الشرعية الأولية بل ليس مفاد الاستصحاب لزوم ترتيب الآثار حتى ان ترتب الأثر الأول أيضا يكون بضم الاستصحاب إلى الكبرى الشرعية المجعولة فقوله (لا ينقض) ليس مفاده: رتب الأثر، بل مفاده، إطالة عمر اليقين تعبدا وإحراز للموضوع الذي هو صاحب الأثر.
ويؤيد ذلك بل يدل عليه ان الاستصحاب في الأحكام والموضوعات انما هو بلسان واحد مع ان استصحاب الأحكام ليس معناه ترتيب الآثار بل يكون الاستصحاب منقحا للحكم ومثبتا له تعبدا وكذلك استصحاب الموضوعات معناه تحققه تعبدا وبعد تحققه يترتب عليه اثره لأجل الكبرى المجعولة فاستصحاب الكرية ليس الا التعبد باليقين بها أو بنفسها والكر موضوع للأثر الشرعي فيترتب عليه اثره بدليله لا بالاستصحاب فإذا عرفت ذلك تتضح لك أمور:
الأول وجه عدم حجية الأصول المثبتة لعدم الكبرى الكلية المنطبقة على الموضوع المستصحب فاستصحاب حياة زيد يترتب عليه لزوم نفقة زوجته لأجل الكبرى المجعولة دون أثر طول لحيته لعدم كبرى دلت على ان من كان حيا طالت لحيته.
الثاني وجه ترتب الآثار الشرعية ولو مع الف واسطة لما عرفت من ان الاستصحاب
245

ينقح موضوع الكبرى التي في مبدأ السلسلة ثم يحرز موضوع الكبرى الثانية لأجل الكبرى الأولى وهكذا.
الثالث وجه تقدم الأصل السببي على المسببي وهو ان الأصل السببي يكون حاكما على الكبرى المجعولة التي تتكفل الحكم الواقعي بتنقيح موضوعه أو إعدامه بحسب اختلاف الاستصحابات.
في وجه تقدم الأصل السببي على المسببي
ثم ان الدليل الاجتهادي المنطبق على الصغرى المستصحبة يقدم على الأصل المسببي بالحكومة التي نتيجتها الورود على وجه كما عرفت، فإذا ورد من الشرع ان الثوب المغسول بالكر طاهر أو ان الكر مطهر فاستصحاب الكرية يكون منقحا لموضوعه وحاكما عليه لكونه متعرضا لموضوع الدليل الاجتهادي توسعة وتنقيحا وهو من أنحاء الحكومة كما عرفت فينطبق عليه الدليل الاجتهادي من ان الثوب المغسول به طاهر أو انه مطهر للثوب المغسول به فإذا شك في طهارة ثوب مغسول به يكون الدليل الاجتهادي حاكما بطهارته ولا يعارضه استصحاب النجاسة لكونه حاكما عليه، فلو فرض ماءان يكون أحدهما كرا بالوجدان والاخر بالاستصحاب يكون كلاهما مشمولين لقوله: الكر مطهر أو الثوب المغسول بالكر طاهر، وان كان أحدهما مصداقا وجدانيا والاخر مصداقا تعبديا فكما لا يجري استصحاب النجاسة مع الغسل بالكر وجدانا لتقدم الدليل الاجتهادي على الاستصحاب كذلك لا يجري مع الغسل بما حكم بكريته بالأصل لعين ما ذكر (فتحصل مما ذكرنا) ان تقدم الأصل السببي على المسببي ليس لحكومته عليه بل لحكومته على الدليل الاجتهادي بتنقيح موضوعه وحكومة الدليل الاجتهادي على الأصل المسببي بتنقيح موضوعه أو رفعه فتأمل فإنه دقيق.
ولعل ما ذكرناه هو مراد الشيخ الأعظم من قوله في جواب الإشكال الأول وثانيا ان نقض يقين النجاسة بالدليل الدال على ان كل نجس غسل بماء طاهر فقد طهر وفائدة استصحاب الطهارة إثبات كون الماء طاهرا به (انتهى) لكنه قدس سره لم يستقر على
246

هذا المبنى وكأنه لم ينضجه ولم يتأمل في أطرافه ولذا تراه يجيب عن الإشكال الثاني الذي هو قريب من الأول أو عينه بما هو خلاف التحقيق، وها انا اذكر ملخص الإشكال، والجواب:
نقل كلام الشيخ الأعظم ونقده
قال رحمه الله: قد يشكل بان اليقين بطهارة الماء واليقين بنجاسة الثوب المغسول به كل منهما يقين سابق شك في بقائه وارتفاعه وعموم لا تنقض نسبته إليهما على حد سواء فلا وجه لإجرائه في السبب دون المسبب ويدفع بان نسبة العموم إليهما ليست على حد سواء لكن شموله للسبب بلا محذور ولكن شموله للمسبب مستلزم للدور لأن تخصيص الدليل بالنسبة إلى السبب يتوقف على شمول العام للمسبب وشموله له يتوقف على تخصيصه لأنه مع عدم التخصيص يخرج الشك في الأصل المسببي عن قابلية شمول العام له أو يقال ان فردية الشك المسببي يتوقف على رفع اليد عنه بالنسبة إلى الشك السببي ورفع اليد عنه يتوقف على فردية المسببي له (وان شئت قلت): ان حكم العام والشك المسببي من قبيل لازم الوجود للشك السببي فهما في رتبة واحدة فلا يجوز ان يكون أحدهما موضوعا للآخر أو يقال ان الشك السببي في المرتبة المتقدمة لا محذور لشمول العام له فإنه بلا مزاحم فان الشك المسببي ليس في هذه الرتبة وفي الرتبة المتأخرة يزول الشك بدليل لا تنقض في الأصل السببي فيخرج عن قابلية شمول العام (انتهى بتوضيح منا).
وفيه أولا ان ما أفاده من لزوم الدور غير وارد لأن فردية الشك السببي للعام وجداني لا يتوقف على شيء فالشك السببي والمسببي كلاهما مشمول العام ولو فرض ان يكون مفاد الأصل السببي وجوب ترتيب آثار الكرية ومن آثارها طهارة الثوب المغسول به فكأنه قال (إذا شككت في طهارة الثوب المغسول بالكر فابن علي طهارته) ومفاد الأصل المسببي الذي يكون مصداقا للعام وجدانا انه إذا شككت في طهارة الثوب الكذائي ونجاسته فابن علي نجاسته، وهما حكمان واردان على موضوع واحد هو
247

الشك في طهارة الثوب المغسول بالكر ونجاسته وليس مفاد الأصل السببي منافيا للشك المسببي بالذات لأن الأصل السببي يحكم بكرية الماء والأصل المسببي لا ينفيهما، بل المنافاة انما يكون بين الحكم بطهارة الثوب المشكوك فيه التي هي من أحكام استصحاب الكرية وبين الحكم بنجاسته التي هي مفاد الأصل المسببي وهما وارد ان على موضوع واحد فالثوب المشكوك فيه يكون موردا لاستصحاب النجاسة وللحكم المترتب على استصحاب الكرية فكأنه قال: كن على يقين من طهارة الثوب المغسول بالكر إذا شككت في طهارته ونجاسته وكن على يقين من نجاسته، وهما منافيان وليس المقصود من استصحاب النجاسة للثوب الحكم بعدم كرية الماء حتى يقال انه مثبت، بل المراد به هو الحكم بنجاسة الثوب ليس الا، فاستصحاب الكرية مفاده رتب آثار الكرية مطلقا ومنها طهارة الثوب المغسول به واستصحاب النجاسة مفاده رتب آثار النجاسة ولا وجه لتقدم أحد التعبدين على الآخر ولا حكومة لأحدهما على الاخر.
بل لنا ان نقول: بناء على هذا المبنى ان كثيرا ما يكون الأمر دائرا بين التخصيص في أدلة الاستصحاب إذا رفع اليد عن الأصل المسببي وبين التقييد فيها إذا رفع اليد عن مقتضى الأصل السببي كما في المثال المتقدم، فان رفع اليد عن استصحاب النجاسة تخصيص في أدلة الاستصحاب ورفع اليد عن طهارة الثوب المغسول به تقييد فيها لأن استصحاب الكرية بعض آثاره طهارة الثوب المغسول به وترتيب جميع الآثار انما هو بالإطلاق لا العموم فدار الأمر بين التقييد والتخصيص ولعل التقييد أولى من التخصيص.
وثانيا ان ما أفاده من تقدم الشك السببي طبعا ورتبة على الشك المسببي فيه ما تقدم في جواب شيخنا العلامة أعلى الله مقامه في مبحث الاستصحاب التعليقي بان التقدم العلي والمعلولي مما يكون منشأه صدور أحدهما من الاخر لا يكون منشئا لتقدم ترتب الحكم عليه لأنه امر عقلي خارج عن المحاورات العرفية فقضية لا تنقض قضية عرفية ملقاة إلى العرف والشك السببي يكون مع الشك المسببي في الوجود الخارجي معية زمانية خارجية لا يتقدم أحدهما على الاخر، والترتب العلي العقلي الذي منشأه صدور هذا من هذا أو نحوه لا يصير مناطا لتقدم انطباق الكبرى على العلة وتأخره عن
248

المعلول فكل من العلة والمعلول في عرض واحد بالنسبة إلى عدم نقض اليقين بالشك.
هذا مضافا إلى ان الشك السببي في الرتبة المتقدمة على الشك المسببي وعلى الحكم بالكرية والحكم بطهارة الثوب المغسول به متأخر عن الحكم بالكرية تأخر الحكم عن موضوعه والحكم بالنجاسة متأخر عن الشك في النجاسة والطهارة الذي هو في رتبه الحكم بالكرية وفي عرض الحكم بالطهارة فالحكم بطهارة الثوب في رتب الحكم بالنجاسة فما هو المتقدم ليس معارضا لاستصحاب النجاسة وما هو المعارض وهو التعبد بالطهارة في رتبته.
فتحصل مما ذكرنا ان تقدم الأصل السببي على المسببي ليس لأجل التقدم الرتبي والطبعي ولا لأجل دوران الأمر بين التخصيص والتخصيص بلا وجه أو على وجه دائر بل الوجه في تقدمه عليه هو حكومة الأصل السببي على الكبرى الكلية الاجتهادية بتنقيح موضوعه وتقدم الدليل الاجتهادي المحرز بالتعبد على الأصل المسببي،
فالميزان في كون الأصل السببي مقدما على المسببي على ما ذكرنا هو ان يندرج بالأصل السببي شيء في موضوع كبرى كلية متضمنة للحكم على أحد طرفي الشك المسببي إثباتا أو نفيا، فاستصحاب كرية الماء مقدم على استصحاب نجاسة الثوب واستصحاب قلة الماء مقدم على استصحاب طهارته إذا ورد عليه نجاسة فإنه باستصحاب القلة يندرج الماء المشكوك فيه في موضوع أدلة انفعال الماء القليل فيقدم الدليل الاجتهادي على الاستصحاب.
في الإشكال على ما قالوا في وجه طهارة الملاقى لبعض طرف العلم
ومما ذكرنا يرد إشكال على ما أفادوا في وجه طهارة ملاقى أحد أطراف المعلوم بالإجمال، حيث قالوا: ان الشك في طهارة الملاقى (بالكسر) مسبب عن الشك في طهارة الملاقى وأصالة الطهارة فيه حاكمة على أصالة الطهارة في الملاقى فلا تجري هي الا بعد سقوط الأصل الحاكم بالمعارضة وبعده تجري بلا معارض، وهو ان طهارة الملاقى (بالكسر) ليست من الآثار الشرعية لطهارة الملاقى (بالفتح) فأصالة طهارة الملاقى لا ترفع
249

الشك عن الملاقى فلا تكون حاكمة على أصلها.
وان شئت قلت: ان الميزان في تقدم الأصل السببي هو إحرازه موضوع دليل اجتهادي يحكم بثبوت حكم في مورد الأصل المسببي أو نفيه عنه ولم يرد دليل اجتهادي بأنه كل ما لاقى طاهرا فهو طاهر بل المستفاد من شتات الأدلة ان كل ما لاقى نجسا فهو نجس فاستصحاب نجاسة الملاقى في مورده مقدم على استصحاب طهارة الملاقى أو أصالة طهارته لثبوت الكبرى المتقدمة واما استصحاب طهارته فلا يقدم على استصحاب طهارة ملاقيه وكذا أصالة الطهارة في الملاقى والملاقى تجريان في عرض واحد لا تقدم إحداهما على الأخرى، ولقد ذكرنا وجه جريان أصل الطهارة في الملاقى (بالكسر) من غير معارض في محله فراجع.
في دفع إشكال أوردناه على صحيحة زرارة
كما انه مما ذكرنا يتضح الجواب عن الإشكال الذي أوردناه سابقا في ذيل صحيحة زرارة الأولى من ان الظاهر منها إجراء استصحاب الوضوء لدى الشك في تحقق النوم مع ان الشك في بقاء الوضوء مسبب عن الشك في تحقق النوم فكان ينبغي عليه إجراء استصحاب عدم النوم وأجبنا عنه بوجه مبنى على تسليم حكومة أصالة عدم النوم على أصالة بقاء الوضوء.
والتحقيق في الجواب ان يقال: ان استصحاب عدم النوم لا يثبت بقاء الوضوء الا على القول بالأصل المثبت لما عرفت من ان الميزان في تقدم الأصل السببي على المسببي هو إدراج الأصل السببي المستصحب تحت الكبرى الكلية الشرعية حتى يترتب عليه الحكم المترتب على ذاك العنوان كاستصحاب العدالة لاندراج الموضوع تحت كبرى جواز الطلاق والشهادة والاقتداء والقضاء ونحوها وأنت خبير بأنه لم يرد كبرى شرعية بان الوضوء باق مع عدم النوم وانما هو حكم عقلي مستفاد من أدلة ناقضية النوم كقول أبي عبد الله عليه السلام: لا ينقض الوضوء إلا ما خرج عن طرفيك أو النوم (1) فيحكم العقل

(1) راجع الوسائل - كتاب الطهارة - الباب 2 - من أبواب نواقض الوضوء - الرواية 1.
250

بان الوضوء إذا تحقق وكان نواقضه محصورة في أمور غير متحققة وجدانا الا النوم المنفي بالأصل هو باق فالشك في بقاء الوضوء وان كان مسببا عن الشك في تحقق النوم لكن أصالة عدم النوم لا ترفع ذلك الشك الا بالأصل المثبت وبما ذكرنا في فقه الحديث يمكن الاستدلال به على عدم حجية مثبتات الاستصحاب فتدبر.
ثم اعلم ان الميزان الذي ذكرنا في تقدم الأصل السببي ميزان نوعي غالبي والا فقد يتقدم الأصلي السببي على المسببي لأجل إحرازه موضوع التكليف فينقح المكلف به فيقدم على أصالة الاشتغال عقلية ونقلية أي استصحاب الاشتغال بناء على جريانه، هذا تمام الكلام في القسم الأول من تعارض الاستصحابين.
في القسم الثاني من تعارض الاستصحابين
واما القسم الثاني منه أي ما كان الشك فيهما ناشئا عن امر ثالث فمورده ما إذا علم ارتفاع أحد الحادثين لا بعينه وهو على أقسام لأنه اما ان يلزم من العمل بالاستصحابين مخالفة عملية لتكليف أولا، وعلى الثاني اما ان يقوم دليل على عدم الجمع بين المستصحبين أولا، وعلى الثاني اما ان يكون لكل منهما أثر شرعي في زمان الشك أو يكون الأثر مترتبا على واحد منهما، هذه جملة ما تعرض لها الشيخ الأعظم قدس سره، والصورتان الأخيرتان غير داخلتين في تعارض الاستصحابين فبقيت الصورتان الأوليان، والأولى تمحيص البحث في تعارض الاستصحابين بعد الفراغ عن جريانهما وان مقتضى القاعدة بعد البناء على الجريان هل هو سقوطهما أو العمل بأحدهما مخيرا مطلقا أو بعد فقدان المرجح والا فيؤخذ بالأرجح. واما بعد البناء على عدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي اما للمحذور منه ثبوتا أو لقصور أدلته إثباتا فلا يبقى مجال لهذا البحث وبالجملة ان البحث هاهنا انما هو في تعارض الاستصحابين لا في جريانهما وعدمه في أطراف العلم.
فنقول: بناء على جريان الاستصحاب في أطراف العلم ذاتا وكون المحذور هو المخالفة العملية أو قيام الدليل على عدم الجمع بين المستصحبين هل القاعدة تقتضي
251

ترجيح أحد الأصلين أو سقوطهما أو التخيير بينهما.
اما الترجيح فلا مجال له وذلك يتضح بعد التنبيه على امر، وهو ان ترجيح أحد الدليلين أو الأصلين على الاخر انما هو بعد الفراغ عن تحققهما أولا، وذلك واضح، وبعد الفراغ عن تحقق المرجح مع ذي المزية ومقابله ثانيا فمع عدم تحقق المزية مع ذيها ومقابله لا يمكن الترجيح بها وبعد الفراغ عن كون مضمونهما واحدا ثالثا ضرورة عدم تقوية شيء بما يخالفه أولا يوافقه فحينئذ اما ان يراد ترجيح أحد الاستصحابين على الاخر بدليل اجتهادي معتبر أو بدليل ظني غير معتبر أو بأصل من الأصول الشرعية أو العقلائية المعتبرة أو غير المعتبرة.
في عدم جواز ترجيح ذي المزية بشيء من المرجحات
لا سبيل إلى الترجيح بالدليل الاجتهادي المعتبر لحكومته على الاستصحاب فلا يبقى ذو المزية معه وكذا بالأصول العقلائية المعتبرة لعين ما ذكر ولا بالأصول الشرعية كأصالة الإباحة والطهارة والبراءة، ولا العقلية كأصالة البراءة والاشتغال لأن الاستصحاب مقدم على كل منها فلا تتحقق المزية مع ذيها فلا مجال للترجيح بالشيء المفقود مع ما يراد الترجيح به. ومن ذلك يعلم انه لا مجال لترجيح الأصل الحاكم بالمحكوم وبالعكس فاستصحاب الطهارة لا يرجح بأصلها وبالعكس، واما الترجيح بدليل ظني غير معتبر كترجيح الاستصحاب بالعدل الواحد بناء على عدم اعتباره فلا يمكن أيضا لتخالف موضوعهما ومضمونهما، فمفاد استصحاب الطهارة ترتيب آثار اليقين بالطهارة في زمان الشك أو ترتيب آثار الطهارة الواقعية في زمان الشك ومفاد الدليل الظني كالخبر الواحد هو الطهارة الواقعية فلا يتوافق مضمونهما ولا رتبتهما نعم من ذهب إلى ان الاستصحاب من الأصول المحرزة وان مفاده هو الحكم بوجود المستصحب أو العمل به على انه هو الواقع لا بد من الذهاب إلى ترجيحه بالدليل الظني الغير المعتبر لوحدة مضمونهما بل رتبتهما أيضا، ولذا ذهب صاحب هذا القول إلى عدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي ولو لم يلزم منه مخالفة عملية، قائلا: انه كيف
252

يعقل الحكم ببقاء النجاسة مثلا في كل واحد من الإناءين مع العلم بطهارة أحدهما ومجرد انه لا يلزم من
الاستصحابين مخالفة عملية لا يقتضى صحة التعبد ببقاء النجاسة في كل منهما فان الجمع في التعبد ببقاء مؤدى الاستصحابين ينافي ويناقض العلم الوجداني بالخلاف (انتهى).
فان المناقضة بين العلم الوجداني ومؤدى الاستصحابين لا يمكن الا ان يكون متعلقهما واحدا ومع وحدة المتعلق والمناقضة بين المفادين يتقوى أحدهما بالاخر إذا كانا متوافقي المضمون ولا يكون محذورا آخر، ومتعلق العلم الوجداني عين متعلق الظن الغير المعتبر، فإذا كان مؤدى الاستصحابين مناقضا للعلم يكون مناقضا مع الظن في صورة التخالف وموافقا في غيرها ومع توافق مضمونهما ومتعلقهما لا وجه لعدم تقوى أحدهما بالاخر وعدم ترجيحه به (وبالجملة) ان كان مفاد الاستصحاب هو البناء العملي ولزوم ترتيب أثر الواقع على المؤدى لا يكون مناقضا للعلم الوجداني المتعلق بالواقع فلا وجه لعدم جريانه في أطراف العلم الإجمالي إذا لم تلزم منه مخالفة عملية وان كان مؤداهما الواقع ويكون مناقضا للعلم الوجداني يجب ان يتقوى بالظن الغير المعتبر ويكون الظن مرجحا عند التعارض، فالجمع بين عدم جريان الاستصحابين في أطراف العلم مطلقا لمكان التناقض وبين عدم ترجيح الاستصحاب بالأمارة الغير المعتبرة جمع بين النقيضين.
ان قلت: ان هذا الإشكال وارد عليك أيضا حيث تقول ان مفاد أدلة الاستصحاب إطالة عمر اليقين وهو يقتضى الكشف عن الواقع فلا بد وان يتقوى بالظن.
قلت: قد ذكرنا سابقا ان اليقين لا يعقل ان يكون كاشفا عن الواقع في زمان الشك ضرورة عدم كاشفيته الا عن متعلقه في ظرف تحققه لا مطلقا، فمعنى إطالة عمر اليقين في عالم التشريع ليس الا لزوم ترتيب آثار اليقين الطريقي أي ترتيب آثار الواقع في زمان الشك وهو لا يناقض الواقع وأي تناقض بين كون الشيء نجسا واقعا ولزوم ترتيب آثار الطهارة في ظرف الشك وإطالة عمر اليقين تعبدا ليست الا التعبد ببقائه بحسب الآثار فتدبر، فتحصل مما ذكرنا عدم جواز ترجيحه بالمرجحات.
253

في بيان وجه تساقطهما
واما وجه التساقط بعد فرض جريانهما في أطرافه ذاتا وقلنا المانع منه مخالفة عملية أو قيام الدليل على عدم الجريان كالمتمم، والمتمم ان الكبرى المجعولة في باب الاستصحاب تكون نسبتها إلى جميع الافراد على السواء وشمولها لها شمولا واحدا تعيينا أي تكون شاملة لجميع الافراد على سبيل التعيين لا الأعم من التخيير حتى يكون شمولها لكل فرد مرتين أو مرات غير محصورة مرة معينا ومرة مخيرا بين اثنين اثنين ومرة بين ثلاثة ثلاثة وهكذا، أو في حال معينا وفي حال مخيرا ومعينا وهذا واضح، وحينئذ لا يمكن الأخذ بكل واحد من أطراف العلم للزوم المخالفة العملية ولا بعض الأطراف معينا لعدم الترجيح ولا مخيرا لعدم شمول الكبرى للأفراد مخيرا رأسا فيلزم سقوطهما.
حول وجهي التخيير والجواب عنهما
وما يمكن ان يكون وجها للتخيير امر ان ذكرنا هما في باب الاشتغال ونشير إليهما إجمالا: أحدهما انه بعد سقوط الدليل بما ذكر يستكشف العقل خطابا تخييريا لوجود الملاك التام في الأطراف كما في باب التزاحم فقوله أنقذ الغريق إذا سقط بعد التزاحم يستكشف العقل خطابا تخييريا لوجود الملاك في كل منهما فما هو الملاك لتعلق الخطاب التعييني لكل غريق يكون ملاكا للخطاب التخييري فبعد سقوط الهيئة نتمسك بإطلاق المادة ونستكشف الخطاب التخييري ودعوى ان استكشاف الملاك لا طريق له مع سقوط الهيئة مردودة بان السقوط إذا كان بحكم العقل لا يوجب تقييد المادة ولا سقوط الملاك هذا.
ويرد عليه ان استكشاف الخطاب التخييري لا يمكن فيما نحن فيه لاحتمال ترجح اقتضاء التكليف الواقعي في الاحتياط على اقتضاء اليقين والشك في حرمة النقض ومع هذا الاحتمال لا يمكن كشف الخطاب لعدم إحراز الملاك التام كذا قيل.
والتحقيق ان يقال: ان كشف الخطاب في مثل أنقذ الغريق مما لا مانع منه لوجود
254

الملاك في كل من الطرفين دون مثل لا تنقض لعدم الملاك في الطرفين ولا في واحد منهما لأنه ليس تكليفا نفسيا مشتملا على الملاك بل هو تكليف لأجل التحفظ على الواقع لا بمعنى كونه طريقا إليه بل بمعنى كون ترتيب آثار الواقع بملاك درك الواقع مثل ما إذا أوجب الشارع الاحتياط في الشبهة البدوية فاستصحاب الوجوب والحرمة لا يوجب حدوث ملاك في المستصحب بل يكون حجة على الواقع لو أصاب الواقع وإلا يكون التخلف تجريا لا غير، وأوضح منه الاستصحابات الموضوعية فإذا علم انتقاض الحالة السابقة في بعض الأطراف وسقط الأصلان لا يمكن كشف الحكم التخييري لعدم الملاك في الطرفين.
الثاني ان إطلاق أدلة الاستصحاب يقتضى عدم نقض اليقين بالشك في حال نقض الاخر وعدمه كما ان إطلاق أدلة الترخيص يقتضيه في حال الإتيان بالاخر وعدمه وإطلاق مثل أنقذ الغريق يقتضى إنقاذ كل غريق أنقذ الآخر أولا، ولا يجوز رفع اليد عنه الا بما يحكم العقل وهو ما يلزم منه المخالفة العملية والترخيص في المعصية والتكليف بما لا يطاق ونتيجة ما ذكر هو الأخذ بمقتضى لا تنقض تخييرا وبالأدلة المرخصة كذلك وبمثل أنقذ الغريق، وبالجملة ان المحذور فيها انما هو من إطلاق تلك الأدلة فلا بد من رفع اليد منه لا من أصلها وأجاب عنه بعض أعاظم العصر بوجه ضعيف ولقد تعرضنا لجوابه وبعض موارد الإشكال عليه في ذلك المبحث فراجع.
وأورد عليه شيخنا الأستاذ قدس سره بان لازم رفع اليد عن إطلاق كل طرف هو الترخيص في كل طرف بشرط ترك الاخر ووجوب إنقاذ كل واحد من الغريقين بشرط ترك الاخر وهو مستلزم للترخيص في المعصية إذا تركهما وللتكليف بما لا يطاق إذا ترك إنقاذ الغريقين لتحقق شرط كل من الطرفين وأجاب عنه بان الأحكام لا تشتمل حال وجود متعلقاتها ولا حال عدمها لأن الشيء المفروض الوجود ليس قابلا لأن يتعلق به حكم وكذا المفروض العدم لأنه بعد هذا الفرض يكون خارجا عن تحت قدرة العبد، وهذا الجواب لا يخلو عن إشكال.
255

والتحقيق في الجواب ان يقال: انه ليس في المقام قضيتان شرطيتان حتى يقال مع تحقق شرطهما يلزم المحذور المتقدم بل رفع اليد عن الإطلاق انما هو بحكم العقل فيما يلزم منه محذور التكليف بالمحال أو الترخيص في المعصية.
فنقول: اما في المتزاحمين فيحكم العقل بان العبد إذا اشتغل بإنقاذ كل غريق يكون معذورا في ترك الآخر أو غير مكلف به على اختلاف المسلكين لكونه في حال صرف قدرته لإنقاذه عاجزا عن إنقاذ الاخر فيحكم العقل برفع فعلية التكليف أو كونه معذورا حال صرف قدرته في أحدهما عن الاخر، لا ان التكليف بكل واحد منهما مشروط بعدم الاخر ولازم ما ذكرنا انه مع الإتيان بكل واحد منهما يكون معذورا في ترك الاخر أو غير مكلف به وإذا تركهما لا يكون معذورا في واحد منهما ويكون مكلفا بكل واحد منهما وليس هذا تكليفا بالمحال لأنه غير مكلف بالمجموع لعدم تعلق التكليف الا بالمعينات والمجموع ليس موردا للتكليف فالمكلف التارك لإنقاذ الابن من غير صرف القدرة في إنقاذ الأخ غير معذور في ترك إنقاذه بل مكلف به لكونه قادرا عليه وكذا التارك لإنقاذ
الأخ من غير صرف القدرة في إنقاذ الابن، ولا يتعلق التكليف بمجموعهما حتى يقال: انه غير قادر عليهما (وبالجملة) ان العجز عن كل واحد منهما انما يتحقق بالاشتغال بالآخر والعجز عن المجموع وان كان محققا لكنه غير مكلف به ولا معاقبا عليه بل مكلف بكل واحد ومعاقب عليه إذا تركهما وهو قادر على كل واحد منهما.
واما الترخيص في الترك في الشبهات الوجوبية فالذي يحكم به العقل ان ترخيص تركهما غير جائز، واما الآتي بكل واحد يجوز ان يرخص في ترك الاخر فيحكم العقل بان التارك لكل واحد غير مرخص في الاخر ولازمه ان التارك لهما لا يكون مرخصا في واحد منهما وان فرض انه لو أتى بواحد منهما يكون غير الواجب الواقعي وفي الشبهات التحريمية يحكم العقل بان ترخيص إتيان كل منهما مطلقا غير جائز دون إتيان كل مع ترك الاخر ولازمه انه مع الإتيان بهما لا يكون مرخصا في شيء منهما لكن مع تركهما لا ينقلب حكم العقل عما هو عليه من انه مع فرض ترك كل مرخص في الاخر واما ترك المجموع فليس موضوعا واحدا ومحكوما بحكم حتى يقال مع تركهما يكون مرخصا فيهما.
256

ويمكن ان يقال: انه بعد فرض إطلاق أدلة الترخيص يحكم العقل برفعه في كل واحد مع الإتيان بالآخر فمع فرض الإتيان بهما لا يكون مرخصا في واحد منهما وان فرض انه لو ترك واحد منهما يكون غير الحرام فالترخيص في كل واحد على فرض ترك الآخر لا ينتهى إلى الاذن في المعصية كما هو واضح - هذا.
ولكن الشأن في إطلاق أدلة الاستصحاب ويمكن دعوى الفرق بين أدلة الترخيص وبين أدلة الاستصحاب بان الأولى مطلقة دون الثانية لأن الاستصحاب بما انه مجعول بملاحظة الواقع والتحفظ عليه كالاحتياط في الشبهات البدوية لو فرض جعله يمكن منع إطلاق أدلته بالنسبة إلى أطراف العلم الإجمالي بالانتقاض (تأمل).
الكلام في قاعدة اليد
هذا كله حال الاستصحاب مع الأمارات والأصول، واما حاله مع ساير القواعد مما وقع الكلام في أماريتها وأصليتها فلا بد من بيان أدلتها وحدود دلالتها حتى يتضح الحال فيها فلا بأس بصرف الكلام إليها بنحو البسط تبعا للشيخ الأعظم، فنقول: يقع الكلام فيها في مباحث:
الأول في قاعدة اليد
ولها جهات من البحث:
الأولى مهية اليد فيما نحن فيه
أي ما هو موضوع بناء العقلاء والأدلة الشرعية هي الاستيلاء العرفي والسلطنة الفعلية على الشيء أي نحو من الاستيلاء كان وعلى أي شيء تعلق وهو يختلف بحسب الموارد وبحسب المستولى والمستولى عليه، فالاستيلاء على متاع البيت بنحو، وعلى البيت بنحو، وعلى القرية بنحو، وعلى توابعها بنحو، وعلى مراتعها بنحو وعلى التلال والجبال التي هي من التوابع البعيدة بنحو، كما ان استيلاء السلاطين أو الدول على المملكة بنحو وعلى الحدود والثغور بنحو على البحار التابعة لها بنحو وعلى الجو والمحيط بنحو وهو يختلف حسب اختلاف الأزمنة ففي سالف الزمان لم يكن الجو البعيد نحو ميل أو أكثر وقعر البحار العميقة تحت الاستيلاء والسلطنة الفعلية والآن يكون كل ذلك إلى حدود تحتهما وإذا حدثت آلات أرقى مما هي الآن يتسع نطاق الاستيلاء والسلطنة
257

حسبها، فالاستيلاء امر اعتباري لا مستولى ومنشأ اعتباره مختلف حسب اختلاف الموارد المذكورة.
في الدليل على اعتبارها
الثانية لا إشكال ولا كلام في اعتبار اليد في الجملة واقتضائها الملكية، ويدل عليه بناء العقلاء وسيرتهم في جميع الأعصار والأمصار بل هو من الضروريات لا يشك فيه عاقل ولا يكون في طريقتهم وسيرتهم ما هو أوضح منه لو لم نقل بأنه ليس فيهما ما هو بتلك المثابة من الوضوح، كما انه لا ينبغي الإشكال في انها لدى العقلاء أمارة على الملكية وكاشفة عنها لا أصل عملي يعمل العقلاء على طبقه حفظا للنظام ورغدة العيش، ومبنى أماريتها هل هي الغلبة أو الظن النوعي أو غير ذلك احتمالات، فمن رجع إلى ارتكازات العرف وبناء العقلاء لا يشك في ذلك.
ويدل على اعتبارها بل أماريتها مضافا إلى ذلك اخبار كثيرة في أبواب متفرقة نذكر ما عثرنا عليه فعلا وفيها الكفاية ولعل المتتبع يعثر على أكثر منها وهي طوائف:
(منها) ما تدل على اعتبارها وأماريتها (ومنها) ما تدل على اعتبارها من غير دلالة على الأصلية أو الأمارية (ومنها) ما توهم الأصلية.
فمن الأولى رواية يونس بن يعقوب ذكرها الوسائل في ميراث الزوجين (1) محمد بن الحسن بإسناده (2) عن علي بن الحسن عن محمد بن الوليد (3) عن يونس بن يعقوب

(1) الباب 8 - الرواية 3.
(2) فيه علي بن محمد بن الزبير واستفاد المحقق الداماد وثاقته من قول النجاشي في حقه:
هو علو في الوقت، وهي بعيدة لأن الظاهر من العلو هو علو السند وقلة الواسطة ولا يبعد رجوع الضمير في قول النجاشي إلى أحمد بن عبد الواحد لا الزبيري فراجع لكن لا يبعد وثاقة الزبيري لكثرة رواياته وعمل الأصحاب بها (منه دام ظله) الظاهر رجوع الضمير إلى أحمد بن عبد الواحد لأن النجاشي قال في ترجمته بعد ذكر كتبه: وكان قويا في الأدب قد قرأ كتب الأدب على شيوخ أهل الأدب، وكان قد لقي أبا الحسن علي بن محمد القرشي المعروف بابن الزبير، وكان علوا في الوقت (انتهى).
(3) الخزاز ثقة -.
258

عن أبي عبد الله عليه السلام في امرأة تموت قبل الرجل أو رجل قبل المرأة قال: «ما كان من متاع النساء فهو للمرأة وما كان من متاع الرجال والنساء فهو بينهما، ومن استولى على شيء منه فهو له» والظاهر منها انه في مقام النزاع ورفع الخصومة وتشخيص المدعى والمنكر، إذا رفع الأمر إلى الحاكم ان أحرز استيلاء أحد الزوجين على شيء من متاع البيت فهو له بيمينه وعلى المدعى إقامة البينة، وان لم يحرز فما كان من متاع كل من الزوجين ومختصاته فهو له وما كان من متاعهما ومشتركا بينهما أي لا يكون من مختصات واحد منهما فهو لهما ويعمل على طبق ميزان القضاء فيه، ولا يبعد ان يكون اختصاص المتاع في البيت التي تحت استيلاء الشريكين بكل واحد منهما أمارة عقلائية على يده عليه فيكون الاختصاص أمارة على كونه مستوليا عليه زائدا على الاستيلاء البيتي، فلو فرض عالم ونجار في دار واختلفا في متاعها وكان فيها كتب علمية وآلات صناعة النجارة يكون ذلك الاختصاص أمارة عقلائية على كون الكتب تحت يد العالم والآلات تحت يد النجار فيحكم بملكية كل منهما ما يختص به لأجل اليد والاستيلاء المنكشفة من الاختصاص وتطالب البينة من صاحبه المدعى في مقام الخصومة فيكون الحكم على طبق القاعدة، ولو فرض ان الحكم تعبدي على خلاف القواعد لا يضر بما نحن بصدده وهو استفادة اعتبار اليد من قوله: ومن استولى على شيء منه فهو له، ولا إشكال في ان العرف لا يرى لخصوصية الزوج والزوجة ولا لمتاع البيت ولا للنزاع مدخلية في ذلك بل ما يفهم العرف من ذلك هو ان الاستيلاء على أي نحو كان وعلى أي شيء كان يكون تمام الموضوع للحكم بأنه له فيستفاد منه قاعدة كلية.
ولا يخفى ان الظاهر من قوله: «هو له» كونه أمارة على الملكية فلسانه لسان إلقاء احتمال الخلاف فهو في دلالته على الأمارية أقوى من قوله في باب اعتبار خبر الثقة: ما يؤدى عني فعني يؤدى، فلا إشكال في ذلك لا من حيث الدلالة على القاعدة الكلية ولا من حيث كون اليد أمارة على الملكية.
259

ومنها صحيحتا محمد بن مسلم ذكرهما في الوسائل في كتاب اللقطة (1) (أولاهما) محمد بن يعقوب عن علي عن أبيه عن ابن محبوب عن العلاء بن رزين عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن الدار يوجد فيها الورق (2) فقال ان كانت معمورة فيها أهلها فهي لهم، وان كانت خربة قد جلى عنها أهلها فالذي وجد المال أحق به (ثانيتهما) محمد بن الحسن بإسناده عن الحسين بن سعيد عن فضالة بن أيوب عن
العلاء عن محمد بن مسلم عن أحدهما في حديث قال: وسئلت عن الورق يوجد في دار فقال: «ان كانت معمورة فهي لأهلها، فان كانت خربة فأنت أحق بما وجدت» ونحوهما ما عن دعائم الإسلام (3).
والظاهر اتحادهما ولا تقصر دلالتها عن الموثقة لو لم تكن أدل منها ويستفاد منها قانون كلي وقاعدة سيارة، ضرورة عدم دخالة الورق ولا الدار في ذلك عرفا بل المتفاهم منها ان تمام الموضوع للحكم هو الاستيلاء وكون الورق في الدار تحت يد صاحبها فما هو الموضوع كون الشيء تحت اليد وتستفاد منها الأمارية كما ذكرنا في الموثقة.
ومنها ذيل صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج المنقولة في كتاب الميراث باب ميراث الزوجين (4) محمد بن يعقوب عن علي بن إبراهيم عن أبيه وعن محمد بن إسماعيل عن الفضل بن شاذان جميعا عن ابن أبي عمير عن عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله قال:
«سألني هل يقضى ابن أبي ليلى بالقضاء ثم يرجع عنه (إلى ان قال:) ثم قضى بعد ذلك بقضاء لو لا انى شهدته لم أروه عليه ماتت امرأة منا ولها زوج وتركت متاعا فرفعته إليه فقال:

(1) الباب 5 - الرواية 1 - 2 -
(2) الدراهم المضروبة -
(3) والرواية هكذا: عن أمير المؤمنين عليه السلام انه سئل عن الورق توجد في الدار فقال:
«ان كانت عامرة فهي لأهلها وان كانت خرابا فسبيلها سبيل اللقطة» وعن الصدوق في المقنع وان وجدت لقطة في دار وكانت عامرة فهي لأهلها وان كانت خرابا فهي لك - راجع المستدرك - كتاب اللقطة - الباب 4.
(4) الباب 8 - الرواية 1 -
260

اكتبوا المتاع فلما قرأه قال للزوج: هذا يكون للرجال والمرأة فقد جعلناه للمرأة الا الميزان فإنه من متاع الرجل فهو لك فقال لي: فعلى أي شيء هو اليوم فقلت: رجع إلى ان قال:
بقول إبراهيم النخعي ان جعل البيت للرجل ثم سألته عن ذلك فقلت له: ما تقول أنت فيه؟ فقال: القول الذي أخبرتني انك شهدته وان كان قد رجع عنه فقلت: يكون المتاع للمرأة؟ فقال أرأيت ان أقامت بينة إلى كم كانت تحتاج؟ فقلت: شاهدين فقال: لو سئلت من بين لابتيها - يعنى الجبلين ونحن يومئذ بمكة - لأخبروك ان الجهاز والمتاع يهدى علانية من بيت المرأة إلى بيت زوجها فهي التي جاءت به فان زعم انه أحدث فيه شيئا فليأت عليه البينة».
حيث ان اخبار من بين لا بيتها بان الجهاز للمرأة مستندا بأنه يهدى من بيتها ليس الا من قبل اليد والاستيلاء وقوله: ان متاع البيت للمرأة، مستند إليها وإلى استصحابها والظاهر منها كونها أمارة لقوله: المتاع للمرأة، ولإرجاعه إلى شهادة من بين لا بتيها ولا - يكون اخبارهم الا عن الواقع لقيام الأمارة العقلائية عليه.
ومنها صحيحة جميل بن صالح المنقولة في كتاب اللقطة (1) محمد بن يعقوب عن عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد وأحمد بن محمد جميعا عن ابن محبوب عن جميل بن صالح قال قلت لأبي عبد الله: «رجل وجد في منزله دينارا، قال: يدخل منزله غيره؟ قلت:
نعم كثير قال: هذا اللقطة قلت فرجل وجد في صندوقه دينارا قال: يدخل أحد يده في صندوقه غيره أو يضع فيه شيئا؟ قلت: لا قال: فهو له».
فان الظاهر منها انه سئل عمن وجد في منزله أو صندوقه دينارا ولم يعلم صاحبه وكانت شبهته في ان مجرد وجدانه في منزله أو صندوقه مع جهل صاحب اليد يكفي للحكم بأنه له أو لا؟ فحكم بان ما في الصندوق له وفيما إذا دخل في بيته غيره اشخاص كثيرة بأنه لقطة، وهو موافق للقاعدة لأن المنازل التي هي معرض المراودة كثيرا لا تكون يد صاحبها بالنسبة إلى مثل الدينار الملقى أمارة عقلائية بل الظاهر ان مثله لم يكن تحت يده عرفا (نعم) لو كان الدخول قليلا أو كان الشيء مثل متاع البيت تكون اليد أمارة، ولم يتضح من استفساره

(1) الباب 3 - الرواية 1 -.
261

بان يدخل في داره غيره لو أجاب بأنه يدخل فيها غيره هل يفصل بين القليل والكثير أولا فلم يتعرض لحكم ما إذا دخل في المنزل غيره نادرا فهو على طبق القاعدة (نعم) يمكن ان يقال: ان حكم الصندوق غير الدار فان ادخل أحد يده فيه ووضع فيه شيئا يخرج عن الاختصاص ويصير مشتركا في الاستيلاء فلا يحكم بان الدينار لصاحب الصندوق بمجرد كونه صندوقه، وكيف كان فالصحيحة دالة على اعتبار اليد وأماريتها بالتقريب المتقدم سيأتي التعرض لحكم المسألة.
ومن الثانية أي ما تدل على اعتبار اليد دون الدلالة على أماريتها صحيحة العيص بن القاسم المنقولة في بيع الحيوان (1) محمد بن الحسن بإسناده عن الحسين بن سعيد عن صفوان بن يحيى عن العيص بن القاسم عن أبي عبد الله عليه الصلاة والسلام قال: سألته عن مملوك ادعى انه حر ولم يأت ببينة على ذلك، أشتريه؟ قال: نعم» ومثلها حسنة حمزة بن حمران قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ادخل السوق وأريد اشترى جارية فتقول: انى حرة فقال: اشترها الا ان تكون لها بينة (2) ومنها المكاتبة المنقولة في كتاب إحياء الموات (3) محمد بن يعقوب عن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين (أبي الخطاب) قال: كتبت إلى أبي محمد: رجل كانت له رحى على نهر قرية والقرية لرجل فأراد صاحب القرية ان يسوق إلى قريته الماء في غير هذا النهر ويعطل هذه الرحى، آله ذلك أم لا؟ فوقع: يتقى الله ويعمل في ذلك بالمعروف ولا يضر أخاه المؤمن.
والظاهر ان شبهته انما هي في ان مثل هذه اليد على نهر القرية أي يد استفادة دوران الرحى مع العلم بان الماء لصاحب القرية تكون معتبرة ومثبتة لحق عليه أولا؟ والجواب وان كان بنحو الوعظ لكن يستفاد منه عدم الجواز، ولا يجوز رفع اليد عن هذا الظاهر بمجرد كون البيان مشفوعا بالوعظ مع ان الأمر بالتقوى والنهي عن الإضرار يؤكدان

(1) الباب 5 - الرواية 1 -
(2) راجع المصدر المذكور آنفا - الرواية 2 -
(3) الباب 15 - الرواية 1 -
262

ذلك (تأمل) مع إمكان ان يقال: ان قوله: ويعمل بالمعروف، أي بما هو حكم العقلاء من كون اليد أمارة على ثبوت الحق فيمكن ان يدعى انها من القسم الأول لكن للتأمل فيه مجال.
ومنها ما عن تفسير علي بن إبراهيم بطريق صحيح عن أبي عبد الله المنقول في كتاب القضاء أبواب كيفية الحكم (1) علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عثمان بن عيسى وحماد بن عثمان جميعا عن أبي عبد الله في حديث فدك ان أمير المؤمنين قال لأبي - بكر: «أتحكم فينا بخلاف حكم الله في المسلمين؟ قال: لا قال فان كان في يد المسلمين شيء يملكونه ادعيت انا فيه من تسأل البينة قال: إياك كنت اسئل البينة على ما تدعيه على المسلمين قال فإذا كان في يدي شيء فادعى فيه المسلمون تسألني البينة على ما في يدي وقد ملكته في حياة رسول الله وبعده ولم تسأل البينة على ما ادعوا علي كما سألتني البينة على ما ادعيت عليهم (إلى ان قال): وقد قال رسول الله البينة على من ادعى واليمين على من أنكر».
فان ظهوره في اعتبار اليد واضح لكن في دلالته على الأمارية إشكال وان لا يبعد دعواها بان يقال ان قوله فان كان في يد المسلمين شيء يملكونه أي يملكونه واقعا بدلالة اليد على الملكية أي إذا كان شيء تحت يد المسلمين وكانوا مالكا له لأجل دلالة اليد وادعيت انا من تسأل البينة فالإنصاف انه لا يخلو عن اشعار بل دلالة ما على المقصود.
ومن الثالثة أي ما توهم الأصلية رواية حفص المنقولة في الباب المتقدم، محمد بن يعقوب عن علي بن إبراهيم عن أبيه وعلي بن محمد القاساني (2) جميعا عن القاسم بن يحيى (3)

(1) الباب 25 - الرواية 3 -
(2) وهو ابن شيزة.
(3) الرجل لم يوثق - الظاهر انه قاسم بن محمد الأصبهاني المعروف ب (كاسام) أو (كاسولا) لأنه لم أقف على رواية ذكر في طريقها قاسم بن يحيى وهو يروى عن سليمان بن داود المنقري بخلاف قاسم بن محمد لأن روايته عنه كثير جدا مضافا إلى عدم رواية علي بن محمد بن شيرة القاساني عن قاسم بن يحيى - راجع جامع الرواة للأردبيلي وتنقيح المقال للمامقاني ونقد الرجال للتفرشي في ترجمة الرجلين -
263

عن سليمان بن داود (1) عن حفص (2) بن غياث عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال له رجل إذا رأيت شيئا في يدي رجل يجوز لي ان اشهد انه له قال: نعم قال الرجل اشهد انه في يده ولا اشهد انه له فلعله لغيره
فقال أبو عبد الله أفيحل الشراء منه قال: نعم فقال أبو عبد الله فلعله لغيره فمن أين جاز لك ان تشتريه ويصير ملكا لك ثم تقول بعد الملك هو لي وتحلف عليه ولا يجوز ان تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك ثم قال أبو عبد الله:
لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق.
حيث يتوهم من قوله: لو لم يجز (إلخ) ان اعتبار اليد انما هو من أجل قيام سوق المسلمين وحفظ النظام وإدارة رحى الحياة لا لكشفها عن الملكية الواقعية «لكنه فاسد» يتضح فساده بعد بيان فقه الحديث فنقول: ان قوله: يجوز لي ان اشهد انه له، مراده انه يجوز لي الشهادة بالنسبة إليه كما يجوز لي في ساير الأمور أي كما انى اشهد ان الشمس طالعة والفجر طالع وزيد عالم وعمرو شجاع إلى غير ذلك مما يتعلق به الشهادة هل يجوز لي ان اشهد ذلك أيضا، وبالجملة يجوز لي الشهادة بذلك كالشهادة بسائر الموضوعات، ولا شك ان الشهادة فيها انما تتعلق بالواقع فالسؤال انما هو عن جواز الشهادة بالملكية الواقعية بمحض كون الشيء في يدي رجل فأجاب عليه السلام بقوله: نعم، فقال الرجل: ان ما اشهد انما هو كونه في يده لا انه ملكه فكيف يجوز لي الشهادة بالملكية الواقعية له مع الشك فيه فأرجعه إلى ارتكازه بطريق النقض وانه كما يجوز الشراء منه والحلف على الملكية بعد الشراء مع ان ملكيته لك انما جاءت من قبله ولا يجوز الحلف الا مع الجزم بالملكية كذلك يجوز الشهادة بكونه له، فاستدلاله عليه السلام لم يكن استدلالا بحكم شرعي بل بارتكاز عرفي وبناء عقلائي كما هو واضح فحينئذ قوله لو لم يجز هذا معناه انه لو منع الشارع من هذا الأمر الذي مدار سوق المسلمين عليه يختل النظام لا ان تجويز الشارع ذلك انما هو لقيام السوق حتى يتوهم منه الأصلية فدلالتها حينئذ على الأمارية لا تقصر عن غيرها بعد التأمل فيما ذكرنا.

(1) المنقري ومعه حسن وضعفه ابن الغضائري (منه)
(2) عده الشيخ في العدة ممن عمل الأصحاب برواياته (منه)
264

ثم الظاهر من الرواية انه لو لم يجز الشهادة لم يقم للمسلمين سوق فربما يستشكل عليها بان عدم جواز الشهادة لا يوجب الاختلال كما لا يخفى (وجوابه) ان ترك الشهادة أو عدم جوازها لأجل احتمال كونه لغيره لازمه الاعتناء بهذا الاحتمال وعدم اعتبار اليد وهو مساوق لعدم جواز الشراء وساير ما يترتب على اليد وهو موجب لاختلال سوق المسلمين، فتحصل مما ذكرنا ان الرواية كما تدل على اعتبار اليد تدل على أماريتها.
ومنها رواية مسعدة بن صدقة المنقولة في أبواب ما يكتسب به (1) محمد بن يعقوب عن علي بن إبراهيم عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن صدقة (2) عن أبي عبد الله عليه السلام قال سمعته يقول: كل شيء هو لك حلال حتى تعلم انه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة، والمملوك عندك لعله حر قد باع نفسه، أو خدع قبيع قهرا، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك، والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير هذا أو تقوم به البينة.
وهذه الرواية هي عمدة ما يمكن ان يستدل بها لأصلية اليد حيث ان الظاهر من صدرها وذيلها هو ترتيب آثار الحلية على المشكوك فيه إلى ان يعلم خلافه، ولقد تمثل لذلك بمثل الثوب والمملوك اللذين تحت اليد فيجب ترتيب آثار الملكية عليهما إلى ان يعلم الخلاف وهذا معنى الأصل - هذا.
ولكن الظاهر بل المتعين كون هذه الأمثلة من قبيل التنظير لا بيان المصداق، ضرورة ان قوله: كل شيء هو لك حلال، معناه ان تمام الموضوع للحلية انما هو كون الشيء مشكوكا فيه أي إذا لم يدل دليل على حلية الشيء ولا على حرمته ويكون مشكوكا فيه فهو حلال فموضوع الحلية هي كون الشيء مشكوكا فيه ليس الا، مع انه ليس موضوع الحلية في تلك الأمثلة هو الشك وفقدان الدليل على أحد طرفي الشك، ضرورة ان اليد في قاعدتها دخيلة في الحكم بل هي تمام الموضوع له من غير دخالة الشك فيه والشك انما هو في مورده، وبالجملة ليس الشك في نفسه موضوعا للحكم بحلية ما في اليد سواء قلنا

(1) الباب 4 - الرواية 4 -
(2) قالوا: ان رواياته سديدة متينة يحصل منها الوثوق بوثاقته (منه)
265

بأمارية اليد أو أصليتها وكذا في الشك في كون المرأة رضيعة أو أختا ليس الشك بما انه الشك موضوعا للحكم بالحلية بل الحكم لاستصحاب عدم حصول الرضاع واستصحاب عدم تحقق نسبة الأختية لو قيل بجريانه والا فمن أصالة الصحة في فعل الغير وقاعدة التجاوز والفراغ، وعلى أي حال ليست الأمثلة المذكورة في الرواية مثالا ومصداقا منطبقا عليها قوله كل شيء لك حلال، فلا محيص الا ان يحمل على التنظير بان يقال ان كل شيء مشكوك فيه فهو حلال مثل ما لو دل الدليل على الحلية فكما ان الحلية ثابتة للشيء مع قيام الدليل عليها كذلك للشيء المشكوك فيه بما انه مشكوك فيه.
ولعله عليه السلام كان بصدد رفع وسوسة بعض أصحاب الوسوسة حتى لا يأخذهم الوسواس في المشكوك فيه فذكر أولا قاعدة كلية هي كل شيء هو لك حلال حتى تعلم انه حرام بعينه ولم يكتف بذلك حتى أكده بأنه لا فرق في الحلية بين ان قام الدليل على الحلية أو كان الموضوع مشكوكا فيه فمثل بأمثلة بعضها ارتكازية عقلائية وبعضها شرعية ثم لم يكتف به حتى أكده بقوله والأشياء كلها على ذلك (إلخ) فتحصل مما ذكرنا ان قاعدة اليد أمارة سواء كان مأخذها الاخبار أو بناء العقلاء فاتضح وجه تقدمها على الاستصحاب فإنه بالحكومة ان كان المستند هو الاخبار وبالتخصص ان كان بناء العقلاء.
في حكم اليد على المنفعة
الثالثة ان الاستيلاء على الأعيان معلوم وهل الاستيلاء على المنافع يكون بالاستيلاء على الأعيان، أو يكون الاستيلاء عليها في عرض الاستيلاء على الأعيان أو يكون الاستيلاء على الأعيان فقط لكن مقتضاه ملكية العين ومنافعها أو يكون مقتضاه ملكية العين فقط وتكون ملكية المنافع تبعا لملكية العين أي يكون مقتضى اليد ملكية العين ومقتضى ملكية العين ملكية المنافع إلى ان يعلم خلافه أو ليس اليد على المنافع وليست ظاهرة في ملكية المنافع أيضا مطلقا وجوه.
يمكن ان يقال: ان الأقوى هو الوجه الأول فان الاستيلاء على العين أولا وبالذات
266

وعلى المنافع بتبع العين فتكون اليد على المنافع باليد على العين كما ان تسليم المنافع بتسليم العين في باب الإجارة عند العقلاء لو قلنا بان حقيقة الإجارة عبارة عن تمليك المنافع لا التسليط على العين للانتفاع ولا إضافة بين العين والمستأجر مستتبعة لمالكية المنافع والقول بان المنافع معدومة لا يعقل وقوعها تحت اليد لأن الإضافة بين الموجود والمعدوم غير معقولة فالاستيلاء نحو إضافة بين المستولي والمستولى عليه والإضافة الفعلية لا بد فيها من مضاف ومضاف إليه فعليين فلا تتحقق بين المعدومين ولا بين موجود ومعدوم «مما لا يصغى إليه» في الأمور الاعتبارية والإضافات الحكمية فالميزان فيها هو الاعتبار العقلائي وليست تلك الأمور من الإضافات المقولية حتى يأتي فيه ما ذكر بل هي من الاعتبارات العقلائية، ولا شك في ان ملكية المنافع قبل تحققها مما يعتبرها العقلاء باعتبار تحقق منشأها وكونها في أهبة الوجود فكما ان الملكية معتبرة عند العقلاء في المنافع فكذلك الاستيلاء عليها عقلائي لكنه يتبع الاستيلاء على العين.
ويمكن ان يقال: ان الاستيلاء على العين لكن كما ان مقتضى اليد ملكيتها كذلك مقتضاها ملكية منافعها فتكون كاشفة عن ملكية العين والمنافع في عرض واحد فإذا علم من الخارج ان العين ملك لغير ذي اليد وشك في ان
منافعها له أو لذي اليد يحكم بأنها لذي اليد.
نعم إذا كان النزاع بين ذي اليد وصاحب العين في المنافع يكون ميزان القضاء بحسب طرح النزاع مختلفا فإذا ادعى ذو اليد ان المنافع له لأجل الاستئجار من صاحب العين يكون مدعيا وصاحب العين منكرا ولو ادعى المنافع من غير استناد إليه يكون القول قوله بيمينه ويمكن ان يقال ان اليد كاشفة عن ملكية العين وملكية المنافع انما هي بتبع ملكية العين لا لكشف اليد عنها عرضا أو طولا الا بذلك المعنى ولكن الأقوى مع ذلك هو الوجه الأول بحسب الارتكازات العرفية والاعتبارات العقلائية.
هل اليد معتبرة مع عدم علم ذي اليد واعترافه به؟
الرابعة لا إشكال في اعتبار اليد وكاشفيتها عن الملكية مع دعوى ذي اليد الملكية
267

بل مع عدم انضمامها لدعواها كما لا إشكال في عدم اعتبارها مع اعترافه بعدم الملكية، فهل هي معتبرة مع عدم العلم بالنسبة إلى نفسه ومع اعترافه عدم العلم بالنسبة إلى غيره أم لا؟ اختار ثانيهما المولى النراقي رحمه الله في مستنده وعوائده قائلا ان الأدلة المثبتة لاعتبار اليد قاصرة عن الموارد مضافا إلى رواية جميل بن صالح عن السراد رجل وجد في منزله دينارا الحديث فإنه حكم فيما هو في داره الذي لا يعلم انه له مع كونه مستوليا عليه انه ليس له وأيضا علل كون ما وجد في الصندوق له بما يفيد العلم بأنه ليس لغيره وإلى موثقة إسحاق بن عمار (1) قال: «سئلت أبا إبراهيم عن رجل نزل في بعض بيوت مكة فوجد فيه نحوا من سبعين درهما مدفونة فلم تزل معه ولم يذكرها حتى قدم الكوفة كيف يصنع؟ قال: يسأل عنها أهل المنزل لعلهم يعرفونها، قلت: فان لم يعرفوها قال: يتصدق بها» فإنه لا شك ان الدراهم كانت في تصرف أهل المنزل ولو انهم قالوا لا نعلم انها لنا أو لغيرنا يصدق انهم لا يعرفونها فلا يحكم بملكيتها لهم ومن ذلك يعلم ان اليد لا تكفي في حكم ذي اليد لأجلها لنفسه ان لم يعلم ملكيته (انتهى ملخصا).
وفيه أولا ان دعوى قصور الأدلة يمكن منعها بدعوى إطلاق بعض الأدلة كموثقة يونس وصحيحتي محمد بن مسلم ودعوى منع صدق الاستيلاء في مثل المورد من عجيب الدعاوي.
وثانيا ان ما ادعى من دلالة صحيح جميل على مطلوبه (ففيه) ان الحكم باللقطة انما هو في مورد يدخل في المنزل جماعة كثيرة ولا إشكال في ان مثل تلك المنازل المعدة للمراودة لا يكون مثل الدراهم والدينار الملقى فيه تحت يد صاحبه، مضافا إلى ان الدرهم والدينار لهما خصوصية فان لهما محلا خاصا كالكيس والصندوق فإذا وجد في الدار فان لم تكن معدة لدخول الغير فيها أو يكون الدخول نادرا يكشف ذلك عن كون الشيء الملقى ولو مثل الدينار تحت يد صاحبها بخلاف ما لو كان البيت محل المراودة خصوصا إذا كانت كثيرة كما هو مفروض السائل، واما الصندوق فان ادخل غيره يده فيه ويضع فيه شيئا

(1) راجع الوسائل - كتاب اللقطة - الباب 5 - الرواية 3.
268

فلا إشكال في عدم كونه تحت يد صاحبه مستقلا بل يكون في يدهما والا فيحكم بملكية صاحب الصندوق ولا ريب في ان مفروض السائل انما هو صورة جهل الرجل بان الدرهم له ولا معنى لفرض العلم بذلك فالرواية دالة على خلاف مطلوبه.
ثم ان ما ذكره في سند الرواية انه رواية جميل عن السراد سهو من قلمه لأن السراد هو ابن محبوب وهو رواها عن الجميل بن صالح كما تقدم الحديث بسنده.
واما موثقة ابن عمار فلا دلالة لها على دعواه لأن بيوت مكة التي نزل فيها النزال ليس ما فيها من قبيل الدراهم تحت يد صاحبها خصوصا المدفونة منها، وبالجملة في البيوت التي تكون معدة لنزول الزوار والخلق الكثير وفي الدراهم المدفونة فيها خصوصية ليست لغيرها فليس الحكم بالتصدق أو الاستفسار عن صاحب اليد لأجل عدم اعتبار اليد فيما إذا لم يعلم صاحبها كما لا يخفى.
في حال اليدين على شيء واحد
الخامسة إذا كان شيء في يد اثنين فهل تكون يد كل منهما على تمامه مستقلة تامة، أو يد كل منهما على تمامه ناقصة فيكون كل منهما مستوليا على تمامه استيلاء ناقصا غير تام، أو تكون يد كل منهما على نصفه المشاع مستقلة ويكون مستوليا على النصف استيلاء تاما؟ وعلى الأول فهل تكشف اليد ان عن ملكيته لهما فيكون تمامه ملكا مستقلا لهما من غير تعارض في مقتضى اليدين، أو يكون اليدان متعارضتين ويكون يد كل منها في ذاتها كاشفة عن الملكية المستقلة لصاحبها ومع اجتماعهما تصيران متعارضتين كاجتماع البينتين المتخالفتين على عين واحدة وعلى الثاني أي بناء على كون اليدين على تمام الشيء ناقصة، فهل تكون يد كل كاشفة عن ملكية تمامه على نحو النقص أو ملكية نصفه على نحو التمام والاستقلال؟ والفرق بينهما انه على الأول يكون المالك للعين كليهما مجتمعين كملك الخيار للورثة بناء على كونه واحدا لمجموعهم تأمل (1)

(1) سيأتي وجهه عن الأستاذ دام ظله في الجواب عن مقالة العلامة الطباطبائي قدس سره فانتظر -
269

وعلى الثاني يكون لكل منهما نصفه المشاع، وجوه بل أقوال:
وحيث يكون مبنى الاحتمالين الأولين جواز استقلال اليدين على شيء واحد كما ان مبنى أو لهما جواز اجتماع المالكين المستقلين على ملك واحد فالواجب أولا تحقيقهما حتى يتضح الأمر.
اما جواز استقلال المالكين لمال واحد فلا إشكال في انه خلاف اعتبار العقلاء بل غير معقول عندهم فان الملكية نحو إضافة بين المالك والمملوك يلازمها الاختصاص ولا يعقل ان يكون شيء بتمامه مختصا بشخصين ولا أظن أحدا يشك في ذلك بعد التدبر في اعتبارات العقلاء ونحو إضافة الملكية عندهم.
حول كلام السيد المحقق الطباطبائي (قده) وما يرد عليه
ولكن السيد المحقق الطباطبائي ذهب في كتاب القضاء من ملحقات العروة إلى جواز اجتماع المالكين المستقلين لمال واحد وتشبث في إثبات إمكانه بالوقوع في بعض الموارد مثل كون الشيء ملكا للنوع كالزكاة والخمس والوقف على العلماء والفقراء على نحو بيان المصرف فان كل فرد من النوع مالك لذلك المال قال:
بل لا مانع من اجتماع المالكين الشخصيين أيضا كما إذا وقف على زيد وعمرو أو أوصى لهما على نحو بيان المصرف فإنه يجوز صرفه على كل واحد منهما، فدعوى عدم معقولية اجتماع المالكين على مال واحد لا وجه له مع انه لا إشكال في جواز كون حق واحد لكل من الشخصين مستقلا كحق الخيار وكولاية الأب والجد على مال القصير، ومن المعلوم عدم الفرق بين الحق والملك (إلى ان قال): ودعوى ان مقتضى الملكية المستقلة ان يكون للمالك منع الغير وإذا لم يكن له منعه فلا يكون مستقلا ممنوعة فان هذا أيضا نحو من الملكية المستقلة ونظيره الوجوب الكفائي والتخييري في كونهما نحوا من الوجوب مع كونه جائز الترك «انتهى».
وأنت خبير بما فيه، اما نقضه بمثل الزكاة والخمس والوقف العام فهو غريب لأن
270

المالك في أمثالها هو الجهات لا الافراد ومالكية الجهات عقلائية (1) واما مثل الوقف على زيد وعمرو فهو أيضا كذلك في مفروض كلامه لأن الوقف لهما بوجه يكون كل منهما مصرفا لا يمكن الا بالوقف على جهة قابلة للانطباق على كل منهما لا غيرهما والا فان رجع إلى الوقف على كل منهما وأعقابهما يكون كل منهما موقوفا عليه بالنسبة إلى نصفه وان رجع إلى الوقف على كل منهما بنحو الترديد فهو باطل فلا بد وان يكون على نحو
الأول، ومن ذلك يعلم حال الوصية لهما فإنها ان كانت تمليكية فحالها حال الوقف وان كانت عهدية بمعنى الوصية بإعطاء مال لزيد أو عمرو أو بزيد وعمرو على نحو بيان المصرف فيكون المالك قبل الإعطاء هو الميت وبالإعطاء يصير ملكا للمعطى له فيخرج عما نحن فيه.
واما النقض ببعض الحقوق كحق الخيار وكولاية الأب والجد فغير وارد للفرق الواضح بين الملك ومثل حق الخيار لأن حق الخيار عند العقلاء يرجع إلى إضافة لازمها السلطنة على فسخ العقد من غير اختصاص للعقد أو العين بذي الحق حتى يقال لا يمكن اختصاصان قائمان بشيء واحد ولهذا لا يجوز اجتماع بعض الحقوق التي يكون اعتباره كذلك كحق التحجير وحق الرهن. بل التحقيق ان الخيار عبارة عن ملك فسخ العقد أو ملك إقرار العقد وإزالته فلا يتعلق حق على العقد أو على العين الا بالعرض فإذا قيل ان لفلان حقا على العقد ليفسخه أو على العين ليسترجعها، معناه ان له حق الفسخ والاسترجاع، فالخيار مأخوذ من الاختيار ولا ينسب حقيقة الا إلى الأفعال فلا يطلق على ملك الأعيان والمنافع كما اعترف به السيد رحمه الله في تعليقاته على المكاسب فكل من الشخصين يكون له حق الفسخ مستقلا ولكل واحد منهما اختيار وخيار مستقل ولا يكون

(1) ويحتمل ان يكون المالك لبعض من المذكورات الحكومة الإسلامية الحقة وان الحاكم والولي لتلك الحكومة في زمن الحضور الإمام عليه السلام وفي غيرها من نصبه حاكما لها سواء كان المنصوب شخصا خاصا بتصريحه عليه السلام أو العنوان الذي ينطبق على افراد خاصة من الاجتماع، ومن انطبق عليه العنوان له التصرف فيها بصرفها في مصالحها ومصارفها المعينة المذكورة في محلها فلم يكن الحاكم مالكا لها.
271

متعلق حقهما شيئا واحدا.
واما النقض بولاية الأب والجد أيضا فغير وارد لأن اعتبار الولاية ليس ملازما وملزوما لاعتبار الاختصاص الذي هو معتبر في الملكية حتى لا يمكن استقلالهما على شيء واحد بل الولاية هي السلطنة على تدبير الأمور أو إضافة بين الولي والمولى عليه تستتبعها السلطنة على أموره، ولا إشكال في جواز استقلال الوليين على تدبير أمور شخص واحد فهي نظير الوكالة في الأمور حيث لا مانع من تعدد الوكلاء على امر واحد، فالإنصاف ان استقلال المالكين على ملك واحد مما لا يمكن عند العقلاء ولا يرد النقوض المذكورة واما ما ذكره أخيرا بعد إيراد الإشكال بان مقتضى استقلال الملكية جواز منع الغير وهو مفقود في المقام: ان هذا نحو من الملكية المستقلة كالواجب التخييري والكفائي حيث انهما نحوان من الوجوب (فهو من غريب الكلام) لأن لازم ذلك ان الملكية الغير المستقلة نحو من الملكية المستقلة ضرورة ان معنى الاستقلال في الملكية هو الاستبداد والانفراد بها والواجب التخييري نحو من الواجب كما ان الملكية الغير المستقلة نحو من الملكية لا نحو من الملكية المستقلة، فما ذكره نظير ان يقال: ان الواجب التخييري والكفائي نحو من الواجب العيني والتعييني وهو كما ترى.
هذا حال الملكيتين المستقلتين على شيء واحد، واما اجتماع اليدين المستقلتين على شيء واحد فهو أيضا لا يجوز، ضرورة ان مقتضى استقلال الاستيلاء على شيء جواز منع الغير عن التصرف والدخالة فيه واستبداد اليد المستقلة في تدبيره وتصرفه، الا ترى انه فرق واضح بين كون شيء تحت يد شخص واحد يتصرف فيه بما يشاء ويمنع تصرف غيره أو يجيزه بأي نحو يشاء من إتلاف وإفساد وغيرهما وبين كونه تحت يد شخصين يكون كل منهما متصرفا فيه فان تصرف كل واحد ليس كالأول لعدم جواز منع تصرف الغير مطلقا ولا إجازة غيره كذلك وهل هذا الا أثر استقلال الأولى وعدمه في الثانية، وقياس ذلك بجارين لشخص واحد وصاحبين له ومؤانسين وأخوين مع الفارق، لأن تلك الإضافات لا تتصف بالاستقلال واللا استقلال فإنها تتحقق بنفس مناشئها من غير مزاحمة بينها وبين الإضافة المشابهة لها الا ان يرجع الاستقلال فيها إلى انه لا شريك لها ولا مشابه لها في تلك
272

الإضافة فتصير مثل ما نحن فيه في عدم إمكان استقلالها مع الشركة فإذا بطل اجتماع المالكين المستقلين وكذا اجتماع اليدين المستقلتين على شيء واحد بطل الاحتمالان الأولان.
واما الاحتمالان الآخران أي كون اليدين على تمام الشيء ناقصة أو يدين مستقلتين على نصفه المشاع فلا بد قبل تحقيق الحق فيهما من بيان إمكان الملكية المشاعة واليد المستقلة على النصف المشاع: اما الملكية المشاعة فهي امر عقلائي ومن الاعتبارات الصحيحة العرفية تعرفها كل أحد من غير ابتنائها على بطلان الجزء الذي لا يتجزى فان ابتناء قضية عرفية واعتبار سوقي على مسألة دقيقة حكمية مما لا معنى له.
(فما) يظهر من بعض (1) من ابتناء هذه المسألة على تلك المسألة العقلية (ناش) من الغفلة عن اعتبارات العقلاء، ضرورة ان جميع أهل البلدان من السوقي وغيره يفهم الملك المشاع ويعتبر عنده مع ان مسألة إمكان الجزء وامتناعه مما لا تقرع الا سمع بعض أهل العلم وتحقيقها وإثبات امتناعه من شأن الأوحدي من أهل الفن فأين ابتناء مثل هذه المسألة السوقية الضرورية الاعتبارية على تلك المسألة النظرية الدقيقة التي لا اسم لها ولا رسم عند العقلاء وأصحاب اعتبارات تلك الأمور وبالجملة ان اعتبار الملك المشاع أوضح من ان يحتاج إلى بيان ضرورة انه لو مات أحد عن ولدين يصير كل منهما عند كافة العقلاء مالكا للنصف المشاع ويكون اعتبار الإشاعة معلوما عندهم وجدانا ولو لم يمكن لهم بيان مفهومها وتحديدها كأكثر الحقائق الضرورية فان تحديدها في غاية الإشكال وان كانت معلومة مصداقا فالماء والنار والنور مع كونها في غاية الظهور عند كل أحد لا يمكن للغالب تحديدها وتعريفها وهذا لا يضر بوضوح الحقيقة وجدانا وعيانا.
وان شئت قلت: ان الكسور أمور اعتبارية بنحو اللا تعين في مقابل المفروز والمبعض وظرف الاعتبار وان كان الذهن لكن المعتبر خارجي بمعنى ان العقلاء يعتبرون بعض الأمور في الخارج فيتصف الخارج به اتصافا في نظرهم لا في التكوين، فالملكية وساير

(1) هو المحقق المدقق الحاج الشيخ محمد حسين الأصبهاني رحمه الله -
273

الأمور الاعتبارية العقلائية ظرف اعتبارها الذهن وظرف اتصاف الأشياء بها الخارج فالعين متصفة في الخارج بالمملوكية والشخص بالمالكية من غير ان تكون تلك الأوصاف عارضة لها في الخارج تكوينا، فالكسر المشاع ليس من الأمور العينية التكوينية ولا من الأمور الانتزاعية، ضرورة ان منشأ انتزاعه ان كان العين المعينة الخارجية فلا يعقل ان يكون المنتزع من المعين مشاعا بما هو مشاع (وتوهم) انتزاع الكلي من الجزئيات (فاسد) كما هو المقرر في محله وان كان امرا مبهما فلا يعقل الإبهام في الخارج.
فالتحقيق ان الأعيان مع قطع النظر عن الاعتبار ليس لها الكسور خارجا وهو واضح ولا تكون منشأ لانتزاعها وقابليتها للقسمة ليست منشأ انتزاعها لأنها قابلة للاقسام المعينة والكسر مشاع لا معين بل هي من الاعتبارات الصحيحة العقلائية في الموجود الخارجي تتصف بها الأعيان اتصافا في محيط العقلاء فتكون العين ذات نصف وثلث وربع وهكذا بحسب الخارج كما هي مملوكة خارجا، وهذا بوجه نظير بعض الاعراض التي يقال ان عروضها في الذهن واتصاف الأشياء بها الخارج.
وبما ذكرنا لا يرد الإشكال العقلي المتوهم في الإشاعة بان الإشاعة تنافي الوجود الخارجي والجزئية اما عدم التنافي بينها وبين الوجود الخارجي فظاهر، لأن المنافاة بين الوجود التكويني وبين الإشاعة واللا تعين مسلم لا بينها وبين الوجود الاعتباري، واما بينها وبين الجزئية فلان الإبهام بذاتها لا يلازم الكلية ما لم يقبل الصدق على الكثيرين، والجزء المشاع الخارجي غير قابل لذلك لعدم تعقل صدق الكسر المشاع المعتبر في الخارج على الكثيرين فان العين الخارجية يعتبر فيها نصفان وكل نصف مشاع غير الاخر وثلاثة أثلاث كل غير الاخر «نعم» مفهوم النصف المشاع والثلث المشاع كلي كسائر الكليات وليس الكلام فيه بل الكلام في المشاع الخارجي الذي
تقع عليه المعاملات ويكون ملكا للأشخاص وهو ليس بكلى وغير صادق على الكثير، وما ذكرناه هو الموافق لاعتبار العقلاء من غير لزوم إشكال عليه.
وقد يقال (1) في بيان تصوير الإشاعة ودفع الإشكال عنها: ان الموجود الخارجي على

(1) القائل هو المحقق المذكور آنفا.
274

قسمين موجود بوجود ما بحذائه وموجود بوجود منشأ انتزاعه فمفهوم النصف مثلا ربما يكون موجودا بوجود ما بحذائه وهو النصف المعين في العين وربما يكون عنوانا لموجود بالقوة لتساوي نسبته إلى جميع الإنصاف المتصورة في العين فهذا الموجود بالقوة المتساوي النسبة جزئي بجزئية منشأ انتزاعه وله شيوع وسريان باعتبار قبوله لكل تعين من التعينات الخارجية المفروضة ولأجله تكون القسمة معينة للا متعين من دون لزوم معاوضة بين اجزاء العين وعليه فالمملوك لكل من الشريكين أولا وبالذات هو النصف المشاع والعين الخارجية مورد لمملوكين بالذات فتكون مملوكة بالعرض على عكس من يملك عينا واحدة بالذات فإنه يملك كسور المشاعة بالعرض (انتهى).
وفيه مواقع للنظر منها دعواه ان مفهوم النصف في المعين موجود بوجود ما بحذائه، فإنه ان أراد موجوديته قبل تحقق التقسيم الخارجي أو الوهمي فهو مستلزم للجزء الذي لا يتجزى ان كان النصف ونصف النصف وهكذا متناهيا أو كون غير المتناهي الفعلي محصورا بين الحاصرين، فان أراد انه بالتقسيم يوجد شيء في الخارج هو النصف المعين (ففيه ما لا يخفى) فان التقسيم ان كان وهميا فلا يعقل بتوهم التقسيم حصول شيء موجود في الخارج وان كان خارجيا فكذلك فإنه بعد التقسيم يكون القسمان موجودين مستقلين وليس النصف وصفا ذاتيا لهما، ضرورة ان النصف نصف المجموع فلا يتصور نصف بلا مجموع، ومعلوم ان مجموع شيئين منفصلين ليس موجودا في العين لأن الوجود مساوق للوحدة وما لا وحدة له لا وجود له وما هو متقوم بأمر اعتباري لا يمكن ان يكون من الموجودات الحقيقية، مضافا إلى ان كل حبة في الخارج نصف لحبات غير متناهية أو كغير متناهية وثلث وربع وخمس وهكذا ويكون الكسور فيها غير متناهية فلزم وجود أوصاف خارجية غير متناهية في حبة خشخاش وهو كما ترى.
والتحقيق ان الكسور المعينة أمور اعتبارية أو انتزاعية من منشأ اعتباري ولو لا المعتبر لا يكون المجموع ولا نصفه محققا.
ومنها قوله في المشاع: انه امر انتزاعي وموجود بالقوة متساوي النسبة إلى
275

التقسيمات جزئي بجزئية منشأ انتزاعه وشايع وسار باعتبار قبوله لكل تعين (وفيه) ما عرفت ان المنتزع لا يعقل ان يكون مباينا للمنتزع منه والمتعين واللا متعين متباينان لا يعقل منشئية أحدهما للآخر وقد أشرنا إلى ان الكلي لا يعقل انتزاعه من الجزئي بما انه جزئي بل ليس الكلي والجزئي من قبيل المنتزع والمنتزع منه كما هو المقرر في محله. وأيضا ان القوة التي في الأجسام بها تقبل التقسيمات المتعينة هي الهيولى على مسلك طائفة وهي لا تكون جزء مشاعا بالضرورة ولا امرا انتزاعيا، وأيضا ان التقسيمات الخارجية لا تخرج المشاع عن إشاعته ضرورة ان الشريكين ما لم يتفقا على التقسيم لا يصير المشاع مفروزا ولو قسم المملوك خارجا مع انه اعترف بان ليس في الجسم الا نصفين وبالتقسيم يصير مفروزا، وأيضا ان التقسيم الاعتباري موجب للإفراز والتعيين وليس حامله القوة الموجودة في الجسم وأيضا يجري التقسيم في المنفصلات.
ككر من الحنطة المشاعة مع ان تنصيفه ليس واقعا على القوة، فظهر من ذلك فساد توهم ان النصف المشاع عبارة عن قوة متساوية النسبة إلى التقسيمات، الا ان يكون مراده من القوة امرا اعتباريا ومن التقسيم الإفراز بتراضي المالكين لا التقسيم الخارجي وهو كما ترى مخالف لظاهر كلامه خصوصا كون القوة اعتبارية.
ومنها قوله: القسمة متعينة للا متعين من دون لزوم تبادل بين اجزاء العين فان القسمة وان كانت عنوانا مستقلا مقابل البيع والصلح وغيرهما لكن لا إشكال في ان لازمها التبادل بين مال الشريكين ضرورة ان كل جانب من العين الخارجية كان لهما قبل التقسيم وصار مختصا بعده ولا يمكن ذلك الا بالتبادل لا خروج غير المتعين إلى المتعين بحيث ملك كل منهما حصته الخاصة به في نفس الأمر بلا تبادل فإنه غير معقول في المشاع ومخالف لارتكاز العقلاء.
ومنها التزامه بمملوكية الأمر الانتزاعي وعدم مملوكية العين الخارجي لأحد وانتساب المملوكية إليها لكونها موردا لما هو مملوك، فإنه من غريب الالتزامات.
بل لو لم يكن لما التزمه من الإشاعة الا هذا التالي لكفى في فساده لأن الضرورة قائمة عند العقلاء بان المملوك للشركاء هو نفس الأعيان لا الأمر الانتزاعي وتكون العين
276

غير مملوكة لأحد كما نص عليه في جملة من كلامه، مضافا إلى انه إذا كانت عين مملوكة لأحد فلا إشكال كما اعترف به في انها مملوكة بالذات له والكسور مملوكة بالعرض، فإذا باع نصفها لزم بناء على قوله ان يبيع ما لا يملكه الا بالعرض أي الأمر الانتزاعي ولا يبيع مملوكه وان ملكه صار مسلوبا عن العين بلا سبب ومتعلقا بأمر انتزاعي بلا سبب، ولعمري ان ما توهمه في المقام تحقيقا وتدقيقا من فلتأته التي لا تغفر من مثله وهو من خلط العقليات بالعرفيات والفلسفة بالفقه ومن اللازم على المشتغلين الاحتراز عنه.
فإذا اتضح اعتبار الإشاعة في الأعيان تكون اليد على المشاع أيضا ممكنة، ضرورة ان الشريكين تكون يد كل منهما على ملكه مستقلة ولا تكون له يد على ملك الغير أصلا فان اليد هي الاستيلاء والسلطنة الفعلية على الشيء وكل منهما يكون مستوليا على نصف العين يجوز له النقل وجميع التصرفات التي لا يستلزم منها التصرف في مال الغير وعدم جواز التصرف الخارجي لكل منهما في العين ليس لأجل نقصان يده لملكه بل لاستلزام التصرف في ملك الغير (وبالجملة) ان الشريكين تكون لكل منهما يد مستقلة على ما له دون مال الاخر وليس لواحد منهما يد ناقصة على التمام ولا معنى لذلك لأن لازمه ان يكون كل منهما مسلطا على مال صاحبه وناقص السلطنة على ملك نفسه وهما باطلان، هذا بحسب مقام الثبوت والواقع فإذا كانت يد شخصين على عين كما لو رأينا شخصين يتصرفان في أمتعة بيت أو دكة أو يدبر ان امر ضيعة يحكم العقلاء لأجل يدهما بأنهما شريكان في الأمتعة والضيعة ويكون لكل منهما النصف المشاع وان تصرفهما في الجميع يكون بإذن صاحبه (وبالجملة) تكون اليد كاشفة عن الملكية المشاعة، وقد عرفت ان يد كل منهما في الملكية المشاعة تكون مستقلة على ملكه فقط وليس له اليد على ملك غيره رأسا.
وان شئت قلت: ان يد كل منهما على ماله استقلالية أصلية وعلى ملك غيره غير أصلية تحتاج إلى الاذن فاستيلاء كل منهما على جميع المال لا يمكن ان يكون بالأصالة والاستقلال، فمن قال بان الاستيلاء الناقص يكون على تمام المال فان ذهب إلى ان
277

الاستيلاء الناقص على التمام يكشف عن ملكية النصف المشاع فلا وجه لكشف الاستيلاء على التمام ناقصا عن ملكية نصفه تاما وان ذهب إلى انه يكشف عن الملكية الناقصة للتمام بمعنى ان كل واحد منهما ليس بمالك بل مجموعهما مالك واحد فهو كما ترى، وان ذهب إلى ما قلنا من ان ذلك الاستيلاء على التمام انما يكون استيلاء
على البعض المشاع تاما واستقلالا ويكشف عن ملكية كذلك وعلى البعض الاخر بتبع استيلاء الاخر فلا نزاع هذا حال المتصرفين الذين لا نزاع بينهما ومنه يعلم حال مقام التنازع فإنه إذا كان عين في يد شخصين وكل منهما يدعى انها له وصاحبه غاصب يكون كل منهما بالنسبة إلى نصفه المشاع مدعيا وبالنسبة إلى نصفه الاخر منكرا وتحقيق الحال موكول إلى كتاب القضاء.
في إقامة الدعوى على ذي اليد وفروعها
السادسة إذا كان في مقابل ذي اليد من يدعى الملكية ورفع الأمر إلى الحاكم فلا أثر لعلم الحاكم بملكيته السابقة للمدعى ولا لقيام البينة عليها في انقلاب الدعوى وجعل المدعى منكرا والمنكر مدعيا فان ثبوت الملكية السابقة لا أثر له واستصحاب الملكية لا يعارض اليد لحكومتها عليه، واما إذا اعترف ذو اليد بأنه كان ملكا له سابقا فتارة ينضم إلى ذلك دعوى الانتقال منه إليه وأخرى ينضم إليه دعوى انتقاله إلى ثالث ومنه إليه، وثالثة يعترف مع اعترافه بأنه كان ملكا له بأنه لم ينتقل إلى ثالث لكن مع ذلك ملك له الآن ورابعة لا يضم إلى اعترافه شيئا فيدعى الملكية ويعترف بأنه كان ملكا للمدعى سابقا.
لا إشكال في انقلاب الدعوى في الصورة الأولى ان أنكر ذو اليد دعواه، واما مع عدم إنكاره ودعوى عدم علمه لا تنقلب الدعوى فيكون ذو اليد منكرا لأن مصب الدعوى هو ملكيته في الحال لا انتقاله وعدم انتقاله، ولا تنقلب في الصورة الثانية، أنكر المدعى انتقاله إلى ثالث أولا، اما مع عدم الإنكار فواضح، واما مع إنكاره فلان دعوى الانتقال إلى الثالث وإنكارها لا أثر لهما فلا تكون ميزان فصل الخصومة لأن قيام
278

البينة على انتقاله إلى ثالث والحلف على عدمه لا يفصلان الخصومة إذ لا ربط لتلك الدعوى والإنكار بهما، وفي الصورة الثالثة تنقلب على الظاهر لأن دعوى الملكية الحالية والاعتراف بكونه للطرف سابقا وعدم الانتقال منه إلى ثالث يلازم عرفا لدعوى الانتقال وان لا يخلو عن مناقشة (1) وفي الصورة الرابعة لا تنقلب لعدم الدعوى صريحا ولا بملازمة عقلية أو عرفية (2)
تنبيه في الاحتجاج في أمر فدك
قد يقال: ان احتجاج أمير المؤمنين والصديقة الطاهرة عليهما السلام مع أبي بكر في أمر فدك بان مطالبة البينة من ذي اليد مخالفة لحكم الله ورسوله مع ان فاطمة ادعت انتقاله إليها من رسول الله صلى الله عليه وآله نحلة يخالف ما ذكر من انقلاب الدعوى مع دعوى الانتقال.
والجواب على ما أفاده بعض المحققين ان مجرد دعوى الانتقال لا يوجب الانقلاب ما لم يقابلها الإنكار والقوم لم ينكروا على فاطمة عليها السلام دعواها بل كانوا يقولون إن فدكا فيء المسلمين ولا بد من إقامة البينة على الانتقال مع انها ذو اليد ولم يكن في مقابل يدها الا دعوى انها فيء المسلمين لا إنكار دعواها حتى تنقلب الدعوى.
واما ما أفاده بعض أعاظم العصر رحمه الله في مقام الجواب بان إقرارها لا يوجب انقلاب الدعوى وليس إقرارها كإقرار ذي اليد بان المال كان لمن يرثه المدعى لأن انتقال الملك من النبي صلى الله عليه وآله إلى المسلمين على فرض صحة ما نسب إليه: نحن معاشر الأنبياء لا نورث إلخ، ليس كانتقال الملك إلى الوارث لأن انتقاله إلى الوارث انما هو بتبدل المالك وقيامه مقام المورث وانتقاله منه إلى المسلمين كانتقال المال من الموصى إلى الموصى له

(1) لعدم حجية مثل تلك اللوازم العرفية في باب القضاء -
(2) ومما أفاده الأستاذ دام ظله يظهر عدم تمامية ما ذكره المحقق النائيني رحمه الله في المقام من انقلاب الدعوى في جميع الصور وما ذكره وجها له فراجع كلامه.
279

ومن الواهب إلى المتهب بإعدام إضافة وإيجاد إضافة أخرى لأن تبدل الإضافة قد يكون من طرف المملوك كعقود المعاوضات وقد يكون من طرف المالك كالإرث فان التبدل من قبل المالك مع بقاء المملوك على ما هو عليه فيقوم الوارث مقام المورث في الإضافة، وقد يكون بتبدل نفسها بمعنى انه تنعدم الإضافة القائمة بين المالك والمملوك وتحدث إضافة أخرى لمالك آخر كما في الهبة والوصية وانتقال المال من النبي صلى الله عليه وآله إلى المسلمين بناء على الخبر الموضوع ليس كانتقاله إلى الوارث بل هو أشبه بانتقال المال الموصى به إلى الموصى له فان المال بعد موته يصرف في مصالحهم، ومن المعلوم ان إقرار ذي اليد بان المال كان ملكا لمورث المدعى انما يوجب الانقلاب من حيث ان الإقرار للمورث إقرار للوارث لقيامه مقامه في طرف الإضافة، واما الإقرار للأجنبي فلا يوجب الانقلاب وإقرار الصديقة سلام الله عليها يكون سبيله سبيل الإقرار للأجنبي والموصى له الذي هو أيضا كالأجنبي لا يوجب الانقلاب نعم لو كان المقسمون وراثا لرسول الله صلى الله عليه وآله في ذلك كان الانقلاب حقا لكنه خلاف الواقع (انتهى ملخصا).
فيرد عليه أولا ان كون الإرث كذلك ممنوع لا دليل عليه نقلا ولا في اعتبارات العقلاء، اما نقلا فيظهر بالتتبع في الآيات والاخبار الواردة في الإرث، واما اعتبارا فلان المال ينتقل إلى الوارث في اعتباراتهم لا انه يقوم مقامه، مثلا لو مات أحد عن ابن وبنت وأم وأب وزوجة فهل تجد من نفسك في اعتبارات العقلاء ان تقوم الورثة مقامه بمقدار إرثهم فتقوم الزوجة مقامه في الثمن أو مقام ثمنه والابن مقام ثلثيه من البقية أو مقامه في الثلثين وهكذا وهل هذا إلا أمر مستنكر عقلا ولدى العقلاء ولذا لا يفهم العقلاء من آيات الإرث واخباره الا الانتقال ولو دل ظاهر دليل على ما ادعى يجب صرفه مع انه لا دليل عليه وان يمور به بعض الألسن مورا.
وثانيا ان كون الهبة والوصية من قبيل ما ذكره محل منع، ضرورة ان اعتبار الهبة والوصية التمليكية هو إعطاء المال ونقله لا إعدام إضافة وإيجاد إضافة أخرى، مضافا إلى ان إيجاد الإضافة بين المال وغيره لا بد وان يتأخر عن إعدامها بينه وبين نفسه مع انه بإعدامها يصير المال أجنبيا عنه وتنقطع سلطنته عنه فلا يمكن له إيجاد
280

إضافة بينه وبين غيره، وتوهم ان إيجاد الإضافة في عرض إعدامها، أو ان الإيجاد مقدم على الاعدام كما ترى، ولعمري ان ما ذكره واضح البطلان في أمثال تلك العقود في اعتبارات العقلاء.
وثالثا ان مناط انقلاب الدعوى في باب دعوى الانتقال من مورث المدعى ليس ما ذكره من قيام الورثة مقامه بل المناط فيه هو كون هذه الدعوى والإنكار ذات أثر شرعي ويكون قيام البينة والحلف موجبين لفصل الخصومة وتكون حال هذه الدعوى بالنسبة إلى الدعوى الأولى كالأصل السببي والمسببي في وجه، فإذا ادعى ذو اليدان المال انتقل إليه من مورث المدعى وأنكره المدعى، فان أقام البينة على ذلك فهو وان حلف المنكر على انه لم ينتقل من مورثه إليه يؤخذ المال ويرد إليه لكونه وارثا له وينتقل ما له منه إليه فيثبت الحلف كونه مالا لمورثه وأدلة الإرث انتقاله إليه، وهذا المناط موجود في الوصية، فإذا أوصى أحد بما له لزيد وادعى زيد ان المال الذي في يد عمرو له وادعى عمرو انتقاله من الموصى إليه فتنقلب الدعوى لعين ما ذكرنا وكذا الحال فيما نحن فيه بناء على الخبر الموضوع. فان دعوى الصديقة عليها السلام بانتقال فدك من رسول الله صلى الله عليه وآله إليها لو قابلت بإنكار المسلمين أو ولى أمرهم على زعمهم صارت الدعوى منقلبة ولم تكن هذه الدعوى كدعوى الانتقال من الأجنبي لأن الحلف على عدم الانتقال من الأجنبي إليه لا أثر له بخلاف ما نحن فيه فإنه لو ثبت عدم الانتقال منه إليها صار ملكا للمسلمين، فالحق في الجواب ما ذكرنا أو لا من عدم تقابل دعواها بإنكار كما يظهر من التواريخ الناقلة للقضية فراجع.
في فروع العلم بسابقة اليد
السابعة إذا علم حال اليد وانها حدثت على المال على وجه الغصب أو الأمانة أو العارية أو نحو ذلك فتارة لا يكون في مقابل ذي اليد مدع، وتارة يكون في مقابلة ذلك ولم يرفع الأمر إلى الحاكم، وثالثة رفع الأمر إليه، اما في الصورة الأولى فتارة يدعى ذو اليد الملكية والانتقال من مالكه إليه، وتارة لا يدعى، فان ادعاها فلا يبعد ان يترتب
281

على ما في يده آثار الملكية في غير الغاصب، واما فيه فالظاهر عدمه، وهل ترتيب الآثار في غيره من جهة انه مدع بلا معارض أو من جهة قبول دعوى ذي اليد، أو من جهة اليد المقارنة للدعوى؟ الظاهر انه من جهة إحدى الأخيرتين ولهذا لو عارضه غير المالك الأول يعد مدعيا وتطالب منه البينة واما مع عدم دعوى الملكية أو عمل منه يظهر دعواها فلا يحكم بالملكية كل ذلك من جهة بناء العقلاء وسيرتهم.
وقد يقال (1) بسقوط اليد فيما علم حالها فان اليد أمارة إذا كانت مجهولة الحال غير معنونة بعنوان الإجارة مثلا واستصحاب حالها يوجب رفع موضوعها وتنقيح عنوانها فتسقط عن الحجية برفع الموضوع (وفيه) ان تحكيم الاستصحاب على بعض الأدلة بتنقيح ورفع انما هو في الأدلة اللفظية لا في مثل بناء العقلاء فإنه ان كان غير ثابت أو غير محقق في مورد مسبوقية اليد بالإجارة أو العارية فمعها ساقطة عن الحجية كان استصحاب شرعي أولا أو ثابت معها فلا تأثير للاستصحاب الا ان يدعى رادعيته عن بنائهم وهو أيضا غير صالح لذلك كما قلنا في نظائره وتعليق بنائهم على عدم قيام حجة شرعية كما ترى وبنائهم وان كان في ظرف الشك لكن الاستصحاب لا ينقح الموضوع عند العقلاء بما هم عقلاء فما أفيد في المقام ساقط رأسا.
واما في الصورة الثانية فان كان المعارض غير المالك فلا تسقط يده عن الاعتبار في غير الغاصب وان كان المالك يسقط اعتبارها لدى العقلاء لعدم بنائهم على ترتيب آثارها على ما في يده.
واما في الصورة الثالثة أي صورة رفع الأمر إلى الحاكم ومقام تشخيص المدعى من المنكر فان كان في مقابله المالك الأول تسقط يده عن الاعتبار ويقدم استصحاب حال اليد على قاعدة اليد لأنه أصل موضوعي حاكم عليها سواء كان حال اليد معلومة عند الحاكم وجدانا أو بالبينة أو بإقرار ذي اليد.

(1) القائل هو المحقق النائيني رحمه الله -
282

في كون ما في اليد وقفا سابقا
الثامنة إذا كان المال وقفا سابقا فتارة يعلم حال اليد وانها حدثت على الملك في حال وقفيته واحتمل طرو بعض مسوغات بيع الوقف واشترائه من وليه، وتارة لا يعلم سابقتها واحتمل حدوث اليد بعد طرو مسوغ البيع، وعلى أي حال يسقط اليد عن الاعتبار سواء دفع الأمر إلى الحاكم أم لا، لانصراف أدلة اليد عن مثله وعدم بناء العقلاء على ترتيب آثار الملكية في مثله، ولعل سره ان اعتبار اليد عندهم من أجل الغلبة والنوعية وطرو مسوغ بيع الوقف نادر، وإذا رفع الأمر إلى الحاكم فاما ان يكون في مقابله أرباب الوقف أو يكون غيرهم فعلى الأول يكون ذو اليد مدعيا يطالب بالبينة وينتزع منه الملك لأن اعتبار اليد اما ان يكون معلقا على إحراز قابلية الملك للنقل والانتقال واما ان يكون معلقا على عدم إحراز عدم القابلية فعلى الأول تسقط اليد عن الاعتبار ولو لم يكن في مقابلها الاستصحاب، وعلى الثاني يقدم استصحاب الوقفية على اليد لإحراز عدم القابلية به وعلى أي حال يكون ذو اليد مدعيا وأرباب الوقف منكرا وعلى الثاني أي إذا كان في مقابله غير أرباب الوقف وادعى كل من ذي اليد والمدعى الملكية فلا يبعد ان يكون مثل الدعوى في ملك لا يكون يد عليه لأن اليد الغير المعتبرة كلا يد وللمسألة مقام آخر
المبحث الثاني في حال الاستصحاب مع قاعدة التجاوز والفراغ
ولا إشكال في تقديمها عليه وانما الكلام في وجه التقدم وهو يظهر بعد ذكر مدركها، ولما كانت القاعدة مما تعم بها البلوى لا بأس بصرف عنان القلم إلى تفصيل مهمات مباحثها ويتضح في خلالها ما هو المقصود بالأصالة في المقام ويتم ذلك في ضمن أمور:
283

الأمر الأول
في ذكر الاخبار التي يستفاد منها القاعدة الكلية
وهي كثيرة:
منها الموثقة المنقولة في خلل الصلاة (1) عن محمد بن الحسن بإسناده عن الحسين بن سعيد عن صفوان عن ابن بكير عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: كل ما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو.
ومنها الصحيحة المنقولة فيه عن محمد بن الحسن بإسناده عن أحمد بن محمد عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن حماد بن عيسى عن حريز بن عبد الله عن زرارة قال:
قلت لأبي عبد الله عليه السلام: رجل شك في الأذان وقد دخل في الإقامة قال يمضى قلت رجل شك في الأذان والإقامة وقد كبر قال يمضى قلت: رجل شك في التكبير وقد قرأ قال يمضى قلت شك في القراءة وقد ركع قال يمضى قلت شك في الركوع وقد سجد قال يمضى على صلاته ثم قال يا زرارة إذا خرجت من شيء ثم دخلت في غيره فشككت فليس بشيء (في نسخة الوافي «فشكك ليس بشيء»).
وقريب منها صحيحة إسماعيل المنقولة في أبواب الركوع (2) عن محمد بن الحسن بإسناده عن سعد عن أحمد بن محمد عن أبيه عن عبد الله بن المغيرة عن إسماعيل بن جابر قال قال أبو جعفر عليه السلام (3) ان شك في الركوع بعد ما سجد فليمض وان شك في السجود بعد ما قام فليمض كل شيء شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه.

(1) الباب 23 - الرواية 3 -
(2) الباب 13 - الرواية 4.
(3) قد روى في الوسائل صحيحة إسماعيل هذه عن أبي جعفر في هذا الباب وقد رواها عن أبي عبد الله في باب نسيان السجدة والسهو في السجود ورواها في الوافي عن أبي عبد الله عليه السلام والظاهر ان الرواية عن أبي جعفر سهو من الناسخ أو من قلمه (منه)
284

ولا ينبغي الإشكال في استفادة الكلية منهما بالنسبة إلى جميع الأبواب ولا وجه لرفع اليد عن ظهور الكلية في ذيلهما بمجرد كون صدرهما مربوطا بباب الصلاة ولا يقصر ظهورهما في إعطاء الكلية عن صحيحة زرارة في باب الاستصحاب بل دلالتهما أقوى منها، اما الثانية فواضح، واما الأولى فلان قوله: يا زرارة إذا خرجت من شيء ودخلت في غيره فشكك ليس بشيء، بعد سؤالات زرارة التي تحيط بجميع اجزاء الصلاة تقريبا كالنص في العموم وانه قانون كلي لجميع الأبواب، فرفع اليد عن إطلاق قوله:
من شيء، لا وجه له بمجرد المسبوقية بباب الصلاة وهل هذا إلا مثل ان يقال: ان لا تنقض اليقين بالشك مخصوص بباب الوضوء لكونه مسبوقا بالسؤال منه؟ والإنصاف ان التفرقة بينهما مما لا وجه له مع ان صحيحة ابن جابر أعطت الكلية بلفظ العموم، والتخصيص بباب دون باب بلا مخصص.
ومنها موثقة ابن أبي يعفور المنقولة في أبواب الوضوء (1) عن محمد بن الحسن عن المفيد عن أحمد بن محمد عن أبيه عن سعد بن عبد الله عن أحمد بن محمد بن عيسى عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن عبد الكريم بن عمرو عن عبد الله بن أبي يعفور عن أبي عبد الله قال: «إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره فليس شكك بشيء انما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه» حيث حصر الشك المعتبر في الشك في الشيء حين الاشتغال به وان الشك إذا لم يكن حادثا حين الاشتغال ليس بشيء وهذه في إعطاء الكلية كصحيحة زرارة
المتقدمة وكصحيحتة في باب الاستصحاب، وسيأتي التعرض لحال الوضوء وفقه الحديث.
ومنها موثقة بكير بن أعين المنقولة في هذا الباب عن محمد بن الحسن بإسناده عن الحسين بن سعيد عن فضالة عن أبان بن عثمان عن بكير بن أعين قال: «قلت له: الرجل يشك بعد ما يتوضأ قال: هو حين يتوضأ اذكر منه حين يشك» دلت على ان الميزان لعدم الاعتناء بالشك هو الأذكرية حين الوضوء، ومعلوم ان العرف يلقى خصوصية الوضوء إذ لا دخالة له في الأذكرية فيفهم منه ان الحيثية التي هي تامة الدخالة وتمام الموضوع للحكم هو نفس الأذكرية حين العمل وان كل عامل حين اشتغاله بعمله اذكر منه

(1) الباب 42 - الرواية 2 -
285

بعد التجاوز منه حيث يكون تمام همه إتيان العمل على ما هو عليه.
ومنها رواية محمد بن مسلم المنقولة في أبواب الخلل (1) عن محمد بن علي بن الحسين بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام انه قال: «إذا شك الرجل بعد ما صلى فلم يدر ثلثا صلى أم أربعا وكان يقينه حين انصرف انه كان قد أتم، لم يعد الصلاة وكان حين انصرف أقرب إلى الحق منه بعد ذلك» والمراد بحين الانصراف حين السلام لأن السلام هو الانصراف في لسان الروايات ويستفاد منها الضابط الكلي وسر التشريع ومعلوم انه حين اشتغاله بكل عمل أقرب إلى الحق منه حين يشك، تأمل.
ومنها صحيحة زرارة والفضيل المنقولة في أبواب المواقيت (2) عن محمد بن يعقوب عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن حماد عن حريز عن زرارة والفضيل عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال: متى استيقنت أو شككت في وقت فريضة انك لم تصلها، أو في وقت فوتها انك لم تصلها صليتها، وان شككت بعد ما خرج وقت الفوت وقد دخل حائل فلا إعادة عليك من شك حتى تستيقن (الحديث) فإنها تؤيد الكلية المستفادة من الروايات لو قلنا بان الشك بعد الوقت من مصاديق قاعدة التجاوز وليس قاعدة برأسها كما لا يبعد، فان المستفاد منها ان سر عدم الاعتناء هو دخول الحائل والخروج عن المحل المقرر الشرعي، لكن فيه تأمل وإشكال وان لا يخلو من تأييد واشعار.
وهاهنا روايات اخر يستفاد منها الكلية في باب الصلاة والطهور أو الصلاة فقط، وتدل على الكلية في جميع الأبواب مرسلة الصدوق في الهداية (3) قال قال الصادق عليه السلام «انك ان شككت ان لم تؤذن وقد أقمت فامض، وان شككت في الإقامة بعد ما كبرت فامض وان شككت في القراءة بعد ما ركعت فامض، وان شككت في الركوع بعد ما سجدت فامض، وكل شيء شككت فيه وقد دخلت في حالة أخرى فامض ولا تلتفت إلى الشك

(1) الباب 27 - الرواية 3.
(2) الباب 60 - الرواية 1 -
(3) باب السهو في الصلاة (49) من أبواب الصلاة - ص 32 - الطبعة الحديثة.
286

الا ان تستيقن» وإرسال مثل الصدوق بنحو الجزم وانه قال الصادق عليه السلام كذا يسلك الرواية عندي في سلك الموثقات، فإنه بمنزلة توثيق رواتها (نعم) يبقى احتمال كون هذه الرواية المرسلة عين صحيحة إسماعيل وزرارة نقلهما بالمعنى أو كونها رواية الفقه الرضوي كما لا يبعد، لكن رفع اليد عن ظهورها الخاص بها لو كان كما سيأتي لا ينبغي بمجرد الاحتمال، وقريب منها عبارة الفقه الرضوي (1) وفي المقنع (2) ومتى شككت في شيء وأنت في حال أخرى فامض ولا يلتفت إلى الشك الا ان تستيقن، وكيف كان لا إشكال في استفادة الكلية من الروايات.
الأمر الثاني في ان المراد من الشك في الشيء هو الشك في الوجود
هل المراد من الشك في الشيء في قوله في موثقة ابن مسلم كل ما شككت فيه وفي صحيحتي زرارة وإسماعيل شك في الأذان أو في القراءة هو الشك في الوجود، والمراد من المضي مضي محله ومن الخروج هو الخروج عن محله المقرر أو المراد الشك في صحة الشيء ومن المضي مضي نفسه ومن الخروج من الشيء الخروج من نفسه، أو المراد من الشك فيه الشك في الشيء من جهة الشك في تحقق جزء أو شرط معتبر فيه ومن المضي والخروج ما ذكر آنفا، وجوه:
ظاهر صدر الروايات أي قوله: شككت فيه أو رجل شك في الأذان، هو الشك في الوجود، وظاهر ذيلها أي قوله: قد مضى وامضه في الموثقة، وقوله:
إذا خرجت من شيء، وقوله: جاوزه في الصحيحتين، هو الخروج والتجاوز عن نفسه

(1) راجع المستدرك - كتاب الصلاة - الباب 20 من أبواب الخلل الواقعة في الصلاة الرواية 2.
(2) كتاب الطهارة - باب الوضوء ص 7 - الطبعة الحديثة -
287

ولا يبعد (1) رفع اليد عن ظهور ذيلها بظهور صدرها فيكون المراد منها المضي والخروج عن المحل المقرر لها فيقال ان الظاهر من ذيل صحيحة زرارة مثلا وكذا صحيحة إسماعيل بعد ظهور صدرها في الشك في الوجود هو إعطاء الكبرى الكلية التي تكون تلك الأمثلة مصاديقها فلا يفهم العرف بعد ذلك الا المضي والخروج عن المحل. وهذا وان لا يخلو عن مناقشة لكن ربما يشهد له بعض الروايات التي ورد فيها الشك في الشيء بمعنى الشك في الوجود أو حمل الإمام عليه السلام كلام السائل عن الشك في الشيء على الشك في الوجود فيظهر منه ان الشك في الشيء هو الشك في الوجود بحسب المتفاهم العرفي ويضعف الاحتمال الاخر فيقدم ظهور الصدر على ظهور الذيل كرواية الصدوق المتقدمة حيث قال: قال الصادق عليه السلام: انك ان شككت ان لم تؤذن وقد أقمت فامض، وهذا صريح في الشك في الوجود فيكون المراد من ساير الفقرات هو الشك في الوجود فترفع الإجمال على فرضه عن صحيحتي زرارة وإسماعيل اللتين يكون التعبير فيهما مشابها لما في المرسلة من الفقرات اللاحقة لهذه الفقرة الصريحة في الشك في الوجود.
وقد عرفت ان إرسال الصدوق في مثل الرواية وانتساب القول إلى الإمام عليه السلام جزما لا يقصر عن توثيق أمثال الكشي والنجاشي والشيخ فلا يجوز رفع اليد عن مثل هذا الظهور باحتمال ان يكون المرسلة عين الصحيحتين نقلت بالمعنى أو عين عبارة الفقه الرضوي تقريبا وعلى فرض صحة الاحتمال يكون فهم الصدوق مؤيدا لما ادعيناه ونعم التأييد.
ويؤيده أيضا ذيل عبارة الفقه الرضوي فإنه بعد بيان حكم الشك في الأذان والإقامة وغيرهما على نحو ساير الروايات قال: ولا تلتفت إلى الشك الا ان تستيقن فإنك

(1) بل هو متعين بعد ما يأتي من عدم تعقل جعل قاعدة الصحة في الأمر الثالث لأن السؤال اما عن الشك في وجود المذكورات كما هو الظاهر أو الأعم منه ومن الشك في الشيء باعتبار الشك فيما يعتبر فيه، أو محتمل للأمرين ولا يحتمل اختصاص السؤال بالثاني لبعده جدا فحينئذ لا محيص عن رفع اليد عن ظاهر الذيل بحمله اما على الخروج عن المحل أو الأعم بناء على ان السؤال أعم منهما أو محتمل للأمرين لترك الاستفصال في الجواب (منه)
288

إذا استيقنت انك تركت الأذان، وهذه الفقرة تجعل صدره كالنص في ان المراد من الشك في الأذان وغيره هو الشك في الوجود.
ويؤيده أيضا رواية محمد بن منصور المنقولة في أبواب السجود (1) قال: سألته عن الذي ينسى السجدة الثانية من الركعة الثانية أو شك فيها، فقال: إذا خفت ان لا تكون وضعت وجهك الآمرة واحدة فإذا سلمت سجدت سجدة واحدة وتضع وجهك مرة واحدة، وليس عليك سهو» حيث فهم المسؤول عن قوله: أو شك فيها، الشك في أصل السجدة فأجاب بما أجاب.
ويؤيده أيضا الروايات الواردة في الشكوك كقوله: سئلت أبا جعفر عليه السلام عن رجل شك في الركعة الأولى قال ليستأنف (2) فإنه عليه السلام فهم من قوله الشك في وجود الركعة إلى غير ذلك من الروايات التي يطلع عليها المتتبع فان مجموع ذلك مما يشرف الفقيه بالقطع بان المراد من الشك في الأذان بعد الدخول في الإقامة وغيره هو الشك في الوجود فيكون المراد من الخروج من الشيء الخروج عن محله المقرر له وسيأتي في الأمر
التالي ما يشهد لما ذكرنا.
الأمر الثالث في ان المستفاد من الروايات قاعدة واحدة وهي التجاوز
هل المستفاد من أدلة الباب ان الشارع أسس قاعدتين مستقلتين كل واحدة منهما بملاك خاص بها (إحداهما) قاعدة الشك بعد تجاوز المحل أي الشك في وجود الشيء بعد التجاوز عن محله المقرر له (وثانيتهما) قاعدة أصالة الصحة بعد الفراغ من العمل؟ أم لا يستفاد منها إلا قاعدة واحدة؟

(1) الباب 14 - الرواية 6 -
(2) راجع الوسائل - كتاب الصلاة - الباب 1 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة الرواية 11 -
289

التحقيق ان يقال: انه قد يراد من القاعدة الثانية ان المجعول هو صحة العمل بعد الفراغ منه أو وجوب البناء على الصحة بعده إذا شك في صحته وفساده من جهة الشك في الإخلال بشيء معتبر فيه.
فيرد عليه أولا ان الصحة والفساد امر ان منتزعان من عمل المكلف إذا طابق المأمور به، وليستا من الأحكام الوضعية الجعلية التي يمكن ان تنالهما يد الجعل فلا يمكن ان يجعل الشارع الصحة للعمل (نعم) له ان يرفع اليد عن الجزء أو الشرط المشكوك فيهما، أو يجعل أمارة على تحققهما، أو أصلا على وجوب البناء على وجودهما لدى الشك، ومع إعمال التعبد بأحد الوجوه ينتزع الصحة من فعل المكلف المنطبق عليه العناوين عقلا ولا يعقل عدم الانتزاع منه ومع عدم التصرف كذلك لا يعقل انتزاعها منه فجعل الصحة مما لا معنى له، ومن ذلك يعلم ان إيجاب البناء على الصحة ابتداء أيضا مما لا يعقل الا بنحو من أنحاء التصرف في منشأ الانتزاع بل ولا يعقل ان تكون أصالة الصحة أمارة عقلائية أيضا لأن الأمارة على امر انتزاعي لا يعقل الا بقيام الأمارة على منشأه ومع قيام الأمارة عليه لا يحتاج إلى قيام أمارة على المنتزع بل لا يعقل، فأصالة الصحة بمعنى جعل الصحة للشيء المشكوك فيه أو البناء على الصحة ابتداء أو إقامة الأمارة عليها كذلك مما لا يعقل.
وثانيا ان قاعدة أصالة الصحة دائما محكومة لقاعدة التجاوز عن المحل لأن الشك في الصحة دائما مسبب عن الشك في الإخلال بشيء مما يعتبر في المأمور به وبعد الفراغ من العمل كما يكون موردا لقاعدة الفراغ يكون موردا لقاعدة التجاوز أيضا والقاعدة الثانية ترفع الشك في الصحة وترفع موضوع القاعدة الأولى فلا يبقى مجال لجريانها.
وان شئت قلت. إذا جرت قاعدة التجاوز يحكم العقل بصحة العمل وينتزع منه الصحة لكونها من اللوازم الأعم من الحكم الظاهري فتغني عن قاعدة أصالة الصحة وإجراء أصالة الصحة لا يغنى عن الثانية الا بالأصل المثبت ولو منعت الحكومة لما ذكرنا في الأصل السببي والمسببي من ميزان الحكومة فلا أقل من ان جعل القاعدة
290

الأولى أي قاعدة الفراغ يكون لغوا مع جعل قاعدة التجاوز لأن قاعدة الفراغ أخص منها مطلقا.
لا يقال: بين القاعدتين عموم من وجه موردا لتصادقهما بعد الفراغ من عمل مركب شك في وجود بعض اجزاء مما تجاوز محله كما عدى الجزء الأخير وتفترق قاعدة التجاوز عن الفراغ فيما إذا شك في وجود جزء بعد تجاوز محله قبل الفراغ من العمل وتفترق هي عنها فيما لو شك بعد الفراغ عن العمل في كون المأتي به واجدا للوصف المعتبر في صحته أو شك في الجزء الأخير الغير المقوم للصدق العرفي حتى يكون منافيا لتحقق الفراغ من العمل فإنه ربما تجري بالنسبة إليه أصالة الصحة دون الشك بعد تجاوز المحل فإنه يقال: بل قاعدة التجاوز أعم مطلقا وما ذكر من موردي الافتراق ممنوع، اما الشك في كون المأتي به واجدا للوصف أو الشرط فلا وجه لإخراجه عن قاعدة التجاوز لأن الوصف أو الشرط شيء شك في وجوده بعد تجاوز محله فيشمله قوله: كل شيء شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه، فإذا شك في تحقق الجهر بعد الدخول في الركوع يكون منطبقا للقاعدة المجعولة فلا وجه لقصرها على الشك في الاجزاء، واما الشك في الجزء الأخير الغير المقوم للصدق العرفي فان كان المراد منه صدق الفراغ عرفا فممنوع لأن السلام مثلا إذا جعل آخر الصلاة فلا يحكم العرف بان المصلى فارغ عن الصلاة قبل السلام ومع الشك فيه يكون الفراغ مشكوكا فيه فلا ينطبق عليه قاعدة الفراغ، وان كان المراد منه صدق الصلاة على الناقص بجزء كما لو نسي السلام ودخل في حائل فهو مسلم لكن لا يلزم منه صدق الفراغ من صلاته قبل السلام فان المصلى قبل السلام داخل فيها غير خارج عنها لكن لو تركه وذهب في شغله يصدق على ما فعل انه صلاة ناقصة بجزء، وبالجملة لو شك في الجزء الأخير من المركب مع بقاء محله لا يكون موردا لقاعدة الفراغ للشك في حصول الفراغ ولا لقاعدة التجاوز لبقاء محله ومع مضي محله يكون موردا لقاعدة التجاوز كما يكون موردا لقاعدة الفراغ.
ولو قيل: ان الدخول في الغير معتبر في قاعدة التجاوز لا الفراغ فتفترق قاعدة
291

التجاوز عن الفراغ فيما إذا فرغ من العمل وشك في وصف جزئه الأخير أو شرطه أو شك في شرط المركب قبل الدخول في غيره فتشمله قاعدة الفراغ لا التجاوز.
يقال له: ان اعتبار الدخول في الغير في قاعدة التجاوز دون الفراغ مما لا وجه له، فان وجه اعتباره في قاعدة التجاوز انما هو ظهور قوله في مثل صحيحتي زرارة وإسماعيل بن جابر: «ودخلت في غيره» في ذلك، وهذا التعبير بعينه بل أصرح وآكد منه موجود في صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام التي تكون مستنده قاعدة الفراغ، وكذا في موثقة ابن أبي يعفور المنقولتين في أبواب الوضوء (1) ففي أولاهما: «فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه وقد صرت في حال أخرى في الصلاة أو غيرها فشككت في بعض ما سمى الله مما أوجب الله عليك وضوئه لا شيء عليك فيه» وفي ثانيتهما: إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره فليس شكك بشيء انما الشك «إذا كنت في شيء لم تجزه» بناء على رجوع ضمير غيره إلى الوضوء، ولا وجه لفهم القيدية في إحدى الطائفتين دون الأخرى وسيأتي التعرض لذلك إن شاء الله.
لا يقال: ان قاعدة الفراغ عامة سيالة في جميع أبواب الفقه دون قاعدة التجاوز فإنها مختصة بباب الصلاة.
فإنه يقال: قصر قاعدة التجاوز بباب الصلاة ممنوع لعموم الدليل وعدم المخصص، اما عمومه فلما عرفت، واما عدم المخصص اللفظي فظاهر، واما عدم المخصص اللبي من إجماع أو شهرة فلعدم ثبوتهما فما ادعى بعض المحققين (2) من اختصاصها بباب الصلاة لم يظهر له وجه.
ولقد أجاد في الجواهر حيث قال: ربما احتمل اختصاص مورد هذه الاخبار في الصلاة لاقتضاء سياقها ذلك وهو ضعيف جدا بل هي قاعدة محكمة في الصلاة وغيرها من الحج والعمرة وغيرهما نعم هي مخصوصة بالوضوء خاصة لما سمعته من أدلته فمن هنا وجب الاقتصار عليه ولا يتعدى منه في هذا الحكم للغسل مثلا بل هو باق على القاعدة

(1) الباب 42 - الرواية 1 - 2.
(2) هو المولى الفقيه الهمداني رحمه الله.
292

من عدم الالتفات إلى الشك في شيء من اجزائه مع الدخول في غيره من الاجزاء نعم لا يبعد إلحاق التيمم به «انتهى».
وهو جيد الا ما ذكره أخيرا من نفي البعد عن إلحاق التيمم بالوضوء فان مجرد بدليته من الوضوء لا يقتضى إلحاقه به في هذا الحكم فان رفع اليد عن العموم يحتاج إلى مخصص مفقود في المقام، هذا كله ان أريد من القاعدة أصالة الصحة.
واما ان أريد منها عدم الاعتناء بالشك في الجزء أو الشرط بعد الفراغ من العمل فيقال: الفرق بين قاعدة الفراغ
والتجاوز ان مفاد قاعدة التجاوز عدم الاعتناء بالشك في الجزء أو الشرط بعد التجاوز عن محله ومفاد قاعدة الفراغ عدم الاعتناء بالشك فيهما بعد الفراغ من العمل فلا يرد عليه الإشكالان المتقدمان من عدم إمكان تطرق الجعل وحكومة قاعدة التجاوز على الفراغ لكن مع عموم قاعدة التجاوز لجميع الأبواب وكونها أعم مطلقا بالنسبة إلى قاعدة الفراغ يكون جعل الثانية لغوا لما عرفت.
ثم لو قلنا بان قاعدة التجاوز مخصوصة بباب الصلاة يقع الكلام في ان المجعول قاعدتان (إحداهما) قاعدة الفراغ بالمعنى المتقدم آنفا وهي سيالة في جميع أبواب الفقه (والثانية) قاعدة التجاوز وهي مخصوصة بباب الصلاة، أو ان المجعول قاعدة واحدة هي قاعدة التجاوز لكن قام الدليل اللفظي في باب الوضوء وغير اللفظي في ساير الأبواب غير باب الصلاة على تقييد التجاوز بكونه عن تمام العمل المركب، بدعوى ان هذا التقييد ليس مستهجنا كالتخصيص الأكثري، والبحث عن ذلك بعد بطلان أصل المبنى ومع فرض عدم بطلانه وعدم ترتب ثمرة مهمة عليه مما لا جدوى له.
فتحصل مما ذكرنا ان التحقيق هو استفادة قاعدة واحدة هي قاعدة التجاوز بعد المحل وهي سيالة في جميع الأبواب ولا وجه لتخصيصها بباب الصلاة بعد عموم الأدلة وعدم المقيد والمخصص.
وبما ذكرناه وفصلناه علم ان مثل قوله في موثقة ابن مسلم: «كل ما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو» ليس معناه كل ما شككت في صحته بعد الفراغ منه، لما عرفت من فساد ذلك بل معناه انه كل ما شككت في وجوده جزءا كان أو شرطا أو نفس العمل مما
293

قد مضى محله المقرر الشرعي فامضه كما هو، فيكون مفاده إعطاء قاعدة التجاوز، كما ان المراد من قول أبي جعفر عليه السلام في صحيحة محمد بن مسلم المنقولة في أبواب الخلل (1):
«كل ما شككت فيه بعد ما تفرغ من صلاتك فامض ولا تعد» هو بيان مورد من موارد قاعدة التجاوز فيكون ملاك الحكم هو التجاوز عن المحل لا الفراغ من العمل ولا محيص عن حملها على ذلك، ضرورة انه مع جريان قاعدة التجاوز في باب الصلاة من غير إشكال لدلالة النصوص الكثيرة عليه لا معنى لجعل قاعدة الفراغ فيه مستقلا ومما ذكرنا يقرب احتمال آخر في قوله: «كل ما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو» وهو انه بصدد بيان مورد من موارد قاعدة التجاوز أي الشك الحادث بعد مضي العمل المتعلق بكل ما اعتبر فيه لا اعتبار به، لا لدخالة الفراغ في ذلك بل بملاك التجاوز عن المحل، فالشك الحادث بعد العمل كالحادث بينه بعد مضي المحل لا اعتبار به لا بملاكين بل بملاك واحد هو التجاوز عن المحل فحينئذ تكون جميع روايات الباب المتقاربة المضمون والتعبير لا عطاء قاعدة كلية هو عدم الاعتناء بالشك بعد تجاوز المحل.
ومما ذكرنا يمكن ان يدعى ان الوضوء باق تحت قاعدة الشك بعد التجاوز لكن الشارع تصرف في التجاوز فيه وقيده في خصوص باب الوضوء بالتجاوز عن تمام العمل وهذا من قبيل تقييد المورد لا تخصيصه حتى يستشكل فيه بالاستهجان نظير آية النبأ إشكالا وجوابا في هذه الحيثية بل المقام خال عن الإشكال ولو قلنا باستهجان تقييد المورد فإنه من قبيل تقييد إطلاق المورد بإخراج بعض الفروض النادرة نسبة، فان عروض الشك بين الوضوء نادر خصوصا بالنسبة إلى أصل الغسل والمسح لا الشرائط والموانع، والظاهر من الدليل المخصص أو المقيد لقاعدة التجاوز بالنسبة إلى الوضوء وهو صحيحة زرارة الآتية هو اختصاص الخارج بالشك فيما سمى الله تعالى وأوجبه على العباد في ظاهر الكتاب لا غيره مما فهم اعتباره بالسنة وهذا بوجه نظير الشك في الركعتين الأوليين من الصلاة حيث لا يدخل فيهما الشك لكونهما فرض الله (وبالجملة) لا دليل على التقييد فيما عدى ما سمى - الله من الغسل والمسح أو مع بعض الخصوصيات المستفادة من ظاهر الكتاب فلو شك في

(1) الباب 27 - الرواية 2 -
294

إطلاق الماء وإضافته أو الغسل منكوسا وأمثال ذلك يكون مشمولا للقاعدة بين الوضوء أو بعده، فتحصل من ذلك ان هذا النحو من التقييد لا استهجان فيه رأسا، وحينئذ تبقى موثقة ابن أبي يعفور المتقدمة على ظاهرها من رجوع ضمير غيره إلى الجزء المشكوك فيه لا إلى الوضوء.
واما ما أفاده الشيخ الأعظم قدس سره من ان الوضوء اعتبر امرا بسيطا للتخلص عن الإشكال (ففيه ما لا يخفى) فان صحيحة زرارة الواردة في باب الوضوء آبية عن ذلك وها هي الصحيحة المنقولة في أبواب الوضوء (1) محمد بن الحسن عن المفيد عن أحمد بن محمد عن أبيه عن أحمد بن إدريس وسعد بن عبد الله عن أحمد بن محمد عن الحسين بن سعيد عن حماد عن حريز عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «إذا كنت قاعدا على وضوئك فلم تدر أغسلت ذراعيك أم لا فأعد عليهما وعلى جميع ما شككت فيه انك لم تغسله، أو تمسحه مما سمى الله ما دمت في حال الوضوء، فإذا قمت من الوضوء، فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه وقد صرت في حال أخرى في الصلاة أو غيرها فشككت في بعض ما سمى الله مما أوجب الله عليك فيه وضوئه لا شيء عليك فان شككت في مسح رأسك فأصبت في لحيتك بللا فامسح بها عليه، وعلى ظهر قدمك، فان لم تصب بللا فلا تنقض الوضوء بالشك وامض في صلاتك وان تيقنت انك لم تتم وضوئك فأعد على ما تركت يقينا حتى تأتي بالوضوء» قال حماد وقال حريز قال زرارة (2) قلت له: رجل ترك بعض ذراعه أو بعض جسده في غسل الجنابة، فقال: إذا شك ثم كانت به بلة وهو في صلاته مسح بها عليه، وان كان استيقن رجع وأعاد عليه الماء ما لم يصب بلة، فان دخله الشك وقد دخل في حال أخرى (3) فليمض في صلاته ولا شيء عليه، وان استبان رجع وأعاد الماء عليه وان رآه وبه بلة مسح عليه وأعاد الصلاة باستيقان وان كان شاكا فليس عليه في شكه شيء فليمض في صلاته».

(1) الباب 42 - الرواية 1 -
(2) راجع الوسائل - كتاب الطهارة - الباب 41 - من أبواب الجنابة - الرواية 2 -
(3) هكذا في الوافي ومرآة العقول لكن في الوسائل بدل (حال أخرى) في صلاته، والظاهر صحة الأولين (منه)
295

فان فيها وجوها من الدلالة على شدة العناية بالاجزاء، ولا يمكن ان يقال بعد هذا التأكيد والمبالغة والتعبير بما سمى الله وأوجب الله عليك فيه وضوئه انه فرض امرا بسيطا بل في موثقة ابن أبي يعفور أيضا دلالة على عنايته بالاجزاء وكون الوضوء امرا مركبا بل الظاهر من آية الوضوء أيضا هو العناية باجزاء الوضوء كما أشارت إليها صحيحة زرارة فلا يمكن الالتزام بما أفاده، ولا محيص الا بما ذكرنا ولا إشكال فيه لأن دلالة صدر موثقة ابن أبي يعفور على عدم الاعتناء بالشك إذا حدث في الأثناء ليس الا - بالإطلاق كمفهوم ذيلها، بل تقييد التجاوز بما بعد الوضوء من أسهل التصرفات لأن حدوث الشك في الأثناء نادر لأنه يحدث نوعا بعده فإخراج الفرد النادر سهل.
ثم انه وقع الإشكال في إلحاق الغسل والتيمم بالوضوء وعدمه ولا دليل على الإلحاق الا ان يقال في توجيه إخراج الوضوء بمقالة الشيخ الأنصاري من كونه على القاعدة لأنه اعتبر امرا بسيطا لوحدة مسببه وان الغسل والتيمم أيضا كذلك مع ان بدلية التيمم عن الوضوء تقتضي ذلك (وهو كما ترى) وقد عرفت ان اعتبار البساطة خلاف الأدلة، أو يقال: ان أدلة التجاوز قاصرة عن إثبات الحكم لغير الصلاة وقد عرفت ضعفه هذا مضافا إلى دلالة ذيل صحيحة زرارة المتقدمة آنفا بإطلاقه على عدم الاعتناء بالشك في غسل الجنابة ولو حدث في الأثناء، فان الظاهر من الفقرة الأولى ان الشك إذا حدث في أثناء الصلاة وكانت به بلة مسح بها عليه، وهذا حكم استحبابي، ومن الفقرة الثانية وهي قوله: «فان دخله الشك وقد دخل في حال أخرى فليمض في صلاته» ان
الشك إذا حدث قبل الصلاة بعد انتقاله إلى حال أخرى فليمض في صلاته، أي المصلى إذا كان دخله الشك في غسل ذراعه أو بعض جسده في غسل الجنابة بعد الانتقال إلى حال أخرى فليمض في صلاته، ولا إشكال في ان المشتغل بغسل الجانب الأيسر إذا دخله الشك في غسل رأسه أو ذراعه اليمنى أو بعض جسده يصدق انه دخله الشك وقد دخل في حال أخرى ولا وجه لحمل الحال الأخرى على حال غير غسل الجنابة فإنه تقييد بلا وجه، وقد عرفت ان مقتضى مقابلة الفقرة الثانية للأولى ان المفروض فيها حدوث الشك قبل الصلاة، وبالجملة ان إلحاق الغسل بل التيمم بالوضوء ضعيف.
296

الأمر الرابع
في ان المراد من المحل هو المحل الشرعي
قد عرفت ان الاخبار كلها منزلة على قاعدة التجاوز فحينئذ يكون المراد من المضي هو مضى محل المشكوك فيه وانما نسب المضي إلى الشيء بنحو من التوسعة والتنزيل كما في مطلق المجازات، لا بتقدير لفظ المحل، فان التحقيق ان المجاز مطلقا حتى مثل: «قوله واسئل القرية» من قبيل الحقيقة الادعائية، وكيف كان يكون المراد من المضي مضى محله والظاهر من المحل هو المحل المقرر الشرعي ولو إنفاذا لا تقيد المحل الشرعي حتى يقال انه تقييد بلا مقيد، بل لأن الشارع المقنن إذا قرر للأشياء محلا فجعل محل القراءة بعد التكبير ومحل الركوع بعد القراءة وهكذا، ثم جعل قانونا آخر بان كل ما مضى محله فامضه، لا يفهم العرف والعقلاء منه الا ما هو المحل المقرر الجعلي، لا ما صار عادة للأشخاص أو النوع، فان العادة انما تحصل بالعمل وهي لا توجب ان يصير المحل العادي محلا للشيء بل المحل بقول مطلق هو ما يكون محلا مقررا قانونيا لا ما صار عادة حتى يختلف باختلاف الأزمنة والأحوال (وبالجملة) إسراء الحكم إلى المحل العادي بدعوى إطلاق الأدلة في غاية الإشكال بل لا يمكن التزامه.
نعم يمكن ان يقال: انه يستفاد اعتبار المحل العادي من صحيحة زرارة المتقدمة الواردة في باب الوضوء والغسل، بدعوى ان الموضوع لعدم الاعتناء بالشك ليس عنوان القيام من الوضوء أو الفراغ منه بل هو عدم الكون في حال الوضوء، لا بالمعنى العدمي بل بمعنى المضي عنه، فان الظاهر ان قوله: «فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه وقد صرت في حال أخرى» بيان مفهوم الصدر، أي قوله: «ما دمت في حال الوضوء» ودعوى ان الحال الأخرى كالصلاة وغيرها المحققة لعنوان التجاوز أعم من الأمر المرتب شرعا على الوضوء وغيره لإطلاق قوله: «وغيرها» ودعوى ان قوله: «مما أوجب الله عليك وضوئه» أعم من الغسل والمسح كما في الحديث أشد الناس حسرة يوم القيامة من يرى وضوئه على
297

جلد غيره» فإنه باعتبار المسح على الخفين، أو بدعوى إلقاء الخصوصية، فإذا شك في مسح الرجل اليسرى وقد دخل في حال أخرى عادية كالتمندل أو غيرها فلا يعتنى بشكه بحسب المفهوم منها ولو مع عدم مضى زمان يخل بالموالاة العرفية، وكذا يمكن ان يقال: ان قوله في ذيلها: «فان دخله الشك وقد دخل في حال أخرى» يدل بإطلاقه على ان من شك في غسل ذراعه أو بعض جسده من الطرف الا يسر وقد دخل في حال أخرى اية حال كانت لا يعتنى بشكه مع ان الموالاة غير معتبرة في الغسل ولا في اجزاء اجزائه.
هذا غاية ما يمكن ان يقال في تقرير دعوى الأعمية من المحل الشرعي، ولكن مع ذلك لا يخلو عن الإشكال لأن قوله: «ما دمت في حال الوضوء» ظاهر في كونه في حال الوضوء واقعا لا اعتقادا كما هو قضية كل عنوان أخذ في موضوع حكم، وإذا لم يمسح الرجل اليسرى وبقيت الموالاة المعتبرة تكون حال الوضوء باقية ومقابل هذا العنوان هو الانتقال إلى حال أخرى أي ما إذا لم تكن الموالاة المعتبرة باقية فإذا شك في مسح الرجل اليسرى وأحرز عدم بقاء الموالاة المعتبرة صدق انه شك ولم يكن في حال الوضوء وصار في حال أخرى، واما مع بقائها أو الشك في بقائها فلا بد من الرجوع ومسح الرجل اما مع بقاء الموالاة فلصدق كونه في حال الوضوء، واما مع الشك فلإحرازه بالأصل، مضافا إلى قاعدة الشغل وهي وان تقتضي الإعادة لكن مقتضى الأدلة عدمها.
ومنه يظهر الجواب عن ذيل الصحيحة، فان الحالة الأخرى ان كانت من الحالات المترتبة على الغسل فلا إشكال فيه، واما مع عدم الترتب فلا يصدق انه في حال أخرى لعدم الانتقال عن الجزء المشكوك فيه لأن الموالاة غير معتبرة في اجزاء الغسل ولا في اجزاء اجزائه فحال الغسل باقية مع عدم غسل الجزء أو جزء الجزء ومع الشك فيه يكون الانتقال إلى حال أخرى مشكوكا فيه.
وليس لأحد أن يقول: انه مع الشك في الجزء الأخير إذا لم يكن من الاجزاء المعظمة كمسح الرجل أو بعضه، وكغسل البعض اليسير من الطرف الأيسر يصدق انه فرغ من العمل وقام عن الوضوء ودخل في حال أخرى ولم يكن في حال الوضوء ولو مع بقاء الموالاة العرفية، فمن اشتغل بالتمندل وشك في مسح رجله اليسرى صدق عليه
298

تلك العناوين كمن خرج من الحمام وشك في غسل بعض جسده من الطرف الأيسر (وذلك) لأن صدق الفراغ مع الشك في مسح الرجل وكذا مع الشك في غسل الطرف الأيسر أو بعضه ممنوع، ضرورة انه مع العلم بعدم المسح والغسل لا يصدق الفراغ الا بالمسامحة فكيف يصدق مع الشك فيهما لامتناع ان يكون الشك مؤثرا فيه.
هذا مضافا إلى ان ما ذكر تقرير لقاعدة الفراغ التي لا أصل لها، لما عرفت ان المجعول بحسب الاخبار هو قاعدة التجاوز وان الوضوء أيضا مشمول قاعدة التجاوز لكنها مقيدة بالنسبة إليه بتجاوز محل جميع الاجزاء، فلا عبرة بصدق عنوان الفراغ بل المعتبر صدق عنوان تجاوز محل اجزاء الوضوء، وكونه في حال الوضوء المقابل لعدم كونه في حاله عبارة أخرى عن بقاء المحل وعدمه وهو بيان للقيد المعتبر في قاعدة التجاوز بالنسبة إلى الوضوء خاصة فحينئذ لا مجال للدعوى المذكورة.
فتحصل من جميع ما ذكرنا انه لا دليل على اعتبار المحل العادي عادة شخصية كانت أو نوعية فتدبر جيدا.
الأمر الخامس هل الدخول في الغير معتبر في القاعدة أم لا؟
هل الدخول في الغير معتبر في قاعدة التجاوز ولو لم يكن محققا له أم لا؟ وعلى فرض اعتباره هل المعتبر هو الدخول في الركن، أم في الأفعال الواجبة، أو في الأفعال مطلقا، واجبة كانت أو مستحبة، أو مطلق الغير المترتب على الجزء المشكوك فيه ولو كان من مقدمات الأفعال كالنهوض إلى القيام والهوي إلى السجود، وجوه بل أقوال:
أوجهها عدم الاعتبار مطلقا الا إذا كان محققا للتجاوز لكن اعتباره حينئذ ليس لأجل دخالته في موضوع الحكم بل لأجل ملازمته مع الموضوع والا فالموضوع هو نفس التجاوز، والدليل على عدم اعتباره يتضح بعد مقدمة وهي ان المستفاد من اخبار الباب ان السر في جعل قاعدة التجاوز ليس هو مجرد
299

التسهيل على العباد لكثرة وقوع الشك بعد العمل بل نكتة الجعل ان الإنسان لما كان حين العمل أقرب إلى الحق واذكر في إتيان العمل على وجهه تعبد الشارع بالبناء على إتيان العمل المشكوك فيه في محله وان الفاعل لم
يتجاوز عن المحل إلا وقد أتى بما هو وظيفته.
ويدل عليه قوله في موثقة بكير بن أعين: «هو حين يتوضأ اذكر منه حين يشك» حيث يظهر منها ان وجه عدم الاعتناء بالشك ان الآتي بالعمل حين اشتغاله به اذكر منه بعده ومع كونه ذاكرا أتى به على وجهه، وقوله في رواية محمد بن مسلم المتقدمة:
«وكان حين انصراف أقرب إلى الحق منه بعد ذلك» والمراد من حين الانصراف حين الاشتغال بالسلام لكون الانصراف هو السلام في لسان الروايات، ويظهر منه ان عدم الاعتناء بالشك بعد العمل انما هو لأجل أقربيته إلى الحق حين العمل فلا محالة أتى به على وجهه، وقوله في صحيحة حماد بن عثمان المنقولة في أبواب الركوع (1) قال: «قلت لأبي عبد الله عليه السلام: أشك وانا ساجد فلا أدري ركعت أم لا فقال قد ركعت امضه» تدل على ان الآتي بالمأمور به قد أتى بوظيفته في محله ويكون هذا نكتة التعبد بعدم الاعتناء بالشك إلى غير ذلك من الروايات (وبالجملة) يستفاد منها ان قاعدة التجاوز ليست مجعولة لمحض التسهيل بل لكون المكلف يأتي بالعمل على طبق وظيفته ويكون حين العمل اذكر منه حين يشك، فحينئذ نقول:
يتضح مما ذكر ان الدخول في الغير غير دخيل في موضوع الحكم وان تمام الموضوع للحكم بعدم الاعتناء بالشك هو ان المكلف الذاكر يأتي بوظيفته حين اشتغاله بالعمل فإذا تجاوز عن المحل يتحقق موضوع القاعدة، دخل في الغير أولا، ولا يكون الدخول في الغير دخيلا في الحكم حتى فيما كان محققا للتجاوز، وبعد التنبيه بما ذكرنا لا يفهم القيدية من قوله في صحيحتي زرارة وإسماعيل بن جابر: (دخلت) أو (دخل في غيره) فيكون ذكر الدخول في الغير لتحقق التجاوز نوعا به لا لدخالته في موضوع الحكم.

(1) الباب 13 - الرواية 2 -
300

ويؤيد ما ذكرنا بل يدل عليه قوله في ذيل موثقة ابن أبي يعفور في مقام إعطاء القاعدة: «انما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه» مع ذكر الدخول في الغير في صدرها فان الظاهر من ذيلها انه بصدد إعطاء كبرى كلية ويكون الصدر مصداقا لها، فحصر لزوم الاعتناء بالشك فيما إذا كان متشاغلا بالشيء ولم يجزه، دليل على ان الموضوع للحكم نفس الخروج عن المحل والتجاوز عنه ولا دخالة لشيء آخر فيه.
واما ما أفاده الشيخ الأعظم من ان الظاهر من الغير في صحيحة إسماعيل بملاحظة كون صدرها في مقام التحديد والتوطئة للقاعدة المقررة في ذيلها ان السجود والقيام حدا للغير الذي يعتبر الدخول فيه وانه لا غير أقرب من السجود والقيام بالنسبة إلى الركوع والسجود إذ لو كان الهوى والنهوض كافيين قبح في مقام التوطئة للقاعدة التحديد بالسجود والقيام ولم يكن وجه لجزم المشهور بوجوب الالتفات إذا شك قبل الاستواء قائما (انتهى).
ففيه ان دعوى كون الصدر في مقام التحديد وانه لا غير أقرب مما ذكر (ممنوعة) لعدم الدليل عليها ويكفي في نكتة ترك ذكر الهوى والنهوض ان الشك لا يعرض غالبا عندهما لقربهما إلى المحل، هذا مضافا إلى منافاة ما ذكره لموثقة عبد الرحمن المنقولة في أبواب الركوع (1) محمد بن الحسن بإسناده عن سعد عن أبي جعفر عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن أبان بن عثمان عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: رجل أهوى إلى السجود فلم يدر أركع أم لم يركع، قال: قد ركع فإنها تدل على ان الدخول في السجود ليس دخيلا في الحكم.
واما جزم المشهور بوجوب الالتفات إذا شك في السجود قبل الاستواء قائما على فرض ثبوته فلعله لموثقة عبد الرحمن الأخرى المنقولة في أبواب السجود (2) بالسند المتقدم عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: «قلت لأبي عبد الله عليه السلام: رجل رفع رأسه من السجود فشك قبل ان يستوي جالسا فلم يدر أسجد أم لم يسجد، قال يسجد، قلت: فرجل

(1) الباب 13 - الرواية 6 -
(2) الباب 15 - الرواية 6 -
301

نهض من سجوده فشك قبل ان يستوي قائما فلم يدر أسجد أم لم يسجد، قال: يسجد» فالقاعدة مخصصة بالنسبة إلى هذه الصورة ولا إشكال فيه بعد قيام الدليل (فتحصل مما ذكرنا) ان الدخول في الغير غير معتبر في القاعدة.
ثم على فرض اعتباره فلا وجه معتد به للاختصاص بأمر خاص كالركن مثلا، بدعوى ان المراد بالمحل هو محل تدارك الاجزاء المنسية، وهو كما ترى، وكالأجزاء الواجبة بدعوى الانصراف إليها بعد عد الواجبات في صحيحة زرارة فإنه أيضا ضعيف، ضرورة عدم صيرورة ذلك موجبا للانصراف، ولا مطلق الاجزاء مستحبة كانت أو غير مستحبة لما أشار إليه الشيخ وقد عرفت ما فيه أو لدعوى الانصراف أيضا بل المراد من الغير على فرض اعتباره مطلق الغير الذي يكون مرتبا وجودا على الفعل المشكوك فيه حتى مثل النهوض والهوى والدليل عليه مضافا إلى إطلاق الأدلة، خصوص موثقة عبد - الرحمن المتقدمة فان الظاهر بل المقطوع ان الحكم بعدم الاعتناء والمضي لكون المورد مندرجا في الكبرى المعهودة لا كونه لقاعدة أخرى مستقلة، واما تقييد القاعدة فلا مانع منه فإنه ليس بعزيز (1).

(1) وقد يقال: في وجه اختصاصه بالاجزاء المستقلة، بالتبويب ان شموله قوله: «كل شيء شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه» للشك في الاجزاء انما كان بعناية التعبد والتنزيل لأن الاجزاء بعد اعتبارها جزء للمركب تسقط عن الاستقلال فدخول الاجزاء في عموم الشيء في عرض دخول الكل لا يمكن الا بعناية التعبد والتنزيل و (ح) لا بد من الاقتصار على مورد التنزيل وهو الاجزاء المستقلة وهي ما يظهر من صدر صحيحة زرارة ورواية إسماعيل بن جابر - ولكنه يقال أولا: مضافا إلى ان الأمثلة المذكورة في الصحيحة من زرارة لا من الإمام ولا معنى لإمضائه عليه السلام الأمثلة: انه لو سلم التنزيل المذكور يلزم منه الحكم بالعود لو شك في جزء من القراءة وقد ركع بخلاف ما إذا شك في أصل القراءة لأن المتيقن من التنزيل تمام القراءة واما اجزائها فلا، مع ان الالتزام بذلك مما ترى - وثانيا ان كان المراد من التنزيل التنزيل في مصداقية الجزء للعنوان عرفا فالامر،
، على عكس ما فرضه لأن ما هو المصداق للعنوان حقيقة هو الجزء واما الكل فليس إلا نفس الاجزاء على هيئة خاصة فلا يصدق العنوان عليه بحيث يصير مصداقا واحدا له الا بعد التنزيل ولحاظ الوحدة فيه كي يصير مصداقا للعنوان بعد ذلك اللحاظ واما الاجزاء حيث كان كل منها شيئا عرفا فلا يحتاج في صدق العنوان عليه إلى ذلك اللحاظ، وان كان المراد منه التنزيل في الحكم الشرعي يعنى ان الشارع نزل الجزء منزلة الكل في حكم عدم الالتفات إلى الشك فيه فلا دليل على هذا العنوان في لسان الشرع بل كلاهما في مقام الموضوعية لهذا الحكم على وزان واحد بل موضوعية الجزء له مقدم على الكل في مقام البيان -
302

ويدل على المطلوب أيضا إطلاق رواية علي بن جعفر المنقولة في أبواب الخلل () عبد الله بن جعفر في قرب الإسناد عن عبد الله بن الحسن عن جده علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام قال: «سألته عن رجل ركع وسجد ولم يدر هل كبر أو قال شيئا في ركوعه وسجوده هل يعتد بتلك الركعة والسجدة؟ قال: إذا شك فليمض في صلاته» فان الظاهر منها عدم الاعتناء بالشك في الذكر بعد الركوع والسجود وان عدم الاعتناء انما هو لأجل الشك، فان الظاهر من قوله: «إذا شك فليمض» ان الإمضاء لقاعدة التجاوز وان كان العدول إلى السجود والركوع غير جائز على فرض العلم بعدم الإتيان بذكر هما لكن لا ينافي ذلك جريان القاعدة فيهما في موردهما واثره عدم وجوب سجدة السهو أو استحبابها على فرض ثبوتها لكل زيادة ونقيصة ولو استحبابا لأن مقتضى استصحاب عدم الإتيان بذكرهما ثبوت سجدة السهو.
الأمر السادس هل المضي على وجه العزيمة أو الرخصة؟
هل المضي وعدم الاعتناء بالشك بعد التجاوز على نحو الرخصة أو العزيمة؟ قيل ظاهر الأوامر يقتضى وجوب المضي وعدم الالتفات فيكون على وجه العزيمة، «ورد» بان الأوامر
303

واردة مورد توهم الحظر فلا يفهم منها أزيد من الجواز.
وقد يقال بعد تسليم أصل الدعوى بان كونه عزيمة لا يتوقف على كون الأمر بالمضي للوجوب بل يكفي في ذلك كونه متفرعا على حكم الشارع بان شكه ليس بشيء فان مقتضى ذلك كون التلافي بقصد المشروعية تشريعا وملحقا بالزيادة العمدية.
وفيه ان غاية ما يستفاد من مثل قوله: «شكك ليس بشيء» انه لا يعتنى به فيأتي الكلام في ان عدم الاعتناء هل هو على وجه العزيمة أو الرخصة، فلو سلم انه لا يستفاد من الأوامر أزيد من الجواز لا وجه لدعوى ان الإتيان بقصد المشروعية تشريع، لأن مقتضى عدم الاعتناء على وجه الرخصة ان المكلف مرخص في ترك هذا الجزء من المركب ومجاز في عدم الاعتناء بشكه كما انه مرخص في إتيانه، فحينئذ لا تكون أدلة التجاوز حاكمة على استصحاب عدم الإتيان بالجزء المشكوك فيه، فمقتضى الاستصحاب وأدلة التجاوز انه لو أتى به
يكون جزء للمركب ولا بأس بتركه ولو قلنا بمحكومية الاستصحاب على فرض دلالة أدلة التجاوز على كون عدم الاعتناء على وجه الرخصة يجوز الإتيان بالجزء أيضا بعنوان الجزئية لا لقاعدة الاشتغال حتى يقال يدور الأمر بين المحذورين، بل للاستفادة من الأدلة الخاصة الواردة في الشك في المحل فإنها بكثرتها تدل على ان الإتيان بعنوان الجزئية لا مانع منه.
والتحقيق ان يقال: ان المستفاد من الأدلة كما عرفت ان المكلف الذي هو اذكر حين العمل وأقرب إلى الحق قد أتى بما هو وظيفته لا محالة كما يفصح عن ذلك قوله في صحيحة حماد قد ركعت امضه وقوله في موثقة عبد الرحمن: قد ركع، فيستفاد من تلك الأدلة التعبد بوجود الجزء اما لقيام الأمارة عليه أو لكون الأصل محرزا له، فمع التعبد بوجوده يكون الإتيان به زيادة عمدية لا من باب التشريع بل كسائر الزيادات العمدية، والفرق ان الزيادة هناك وجدانية وهاهنا من ضم الوجدان إلى الأصل أو الأمارة، وليس الأصل مثبتا لأن مفاد الأصل ليس الا وجود الجزء فإذا أتى المكلف بجزء آخر يندرج الموضوع في عنوان من زاد في صلاته فعليه الإعادة فلو شك في إتيان السورة بعد الدخول في القنوت فأتى بسورة أخرى يكون من القرآن فإنه ليس الا إتيان سورة بعد إتيان سورة،
304

والفرض ان الشارع قد حكم بإتيان سورة فبإتيان الأخرى يندرج تحت قوله: لا قران بين السورتين في ركعة.
نعم لو كان القرآن عنوانا بسيطا انتزاعيا لا يثبت بالأصل لكن لا بأس بالاحتياط في مثل الحمد والأدعية والأذكار فإنه لا مانع منه حتى مع تحقق الأمارة على تحقق الجزء ولا يصدق عليه الزيادة العمدية إذا كان بقصد رجاء المطلوبية والاحتياط وان لا يخلو هاهنا من شوب إشكال، فالأحوط المضي وعدم الاعتناء مطلقا.
الأمر السابع في ان القاعدة من الأمارات أو الأصول
هل المستفاد من الأدلة ان اعتبار القاعدة من باب الطريقية بمعنى ان الشارع جعل الظن الحاصل نوعا من غلبة عمل الفاعل المختار المريد لفراغ ذمته بما هو وظيفته في المحل أمارة على إتيانه وألقى احتمال خلافه، وعلى هذا تكون القاعدة أمارة تأسيسية؟ أو انها أمارة عقلائية وتكون الروايات بصدد إمضاء ما لدى العقلاء؟ أو ان المستفاد منها ان هاهنا قاعدتين إحداهما قاعدة التجاوز وهي أمارة تأسيسية والأخرى قاعدة الفراغ وهي أمارة إمضائية لما في يد العقلاء؟ أو ان قاعدة التجاوز أصل عملي تأسيسي وقاعدة الفراغ أمارة عقلائية؟ والروايات على طائفتين (إحداهما) بصدد تأسيس أصل عملي هو قاعدة التجاوز (والأخرى) بصدد إمضاء ما لدى العقلاء وهو قاعدة الفراغ وهي أمارة عقلائية، أو ان قاعدة الفراغ أصل عقلائي وقاعدة التجاوز أصل شرعي تأسيسي؟ أو انهما أصلان تأسيسيان شرعيان؟ أو ان المستفاد منها ان هاهنا قاعدة واحدة هي قاعدة التجاوز وهي أصل عملي تأسيسي؟ وبناء على أصليتها هل هي أصل عملي محض بلا نظر إلى التعبد بوجود المشكوك فيه؟ بل لسان التعبد فيها هو المضي وعدم الاعتناء بالشك عملا، أو أصل محرز بنحو الإطلاق، فمفادها هو البناء على وجود المشكوك فيه مطلقا كالاستصحاب بناء على كونه أصلا محرزا. أو أصل محرز إضافي في موضوع خاص؟ أي بالنسبة إلى ما
305

تجاوز محله فيكون مفادها فيمن شك في الطهارة بعد الصلاة ان الطهارة موجودة بالنسبة إلى الصلاة المأتي بها لا مطلقا، هذا.
ولقد مر منا بعض الكلام في الأمور السالفة مما هو راجع إلى المقام وأثبتنا ان المستفاد من الأدلة هو جعل قاعدة واحدة هي قاعدة التجاوز وان قاعدة الفراغ لا أصل لها، والآن نقول: اما كون القاعدة أو القاعدتين أمارة عقلائية أو أصلا عقلائيا أو إحداهما أمارة عقلائية والأخرى أصلا عقلائيا، فمما لا وجه له، لعدم ثبوت بناء العقلاء على ذلك مطلقا.
وما يقال: ان قاعدة الفراغ قاعدة عقلائية لا قاعدة التجاوز ففي غاية السقوط لأن المناط لدى العقلاء لبس عنوان الفراغ قطعا بل لو كان مناط لديهم فليس الا الغلبة المشار إليها في صدر المبحث، وهذه الغلبة محققة في التجاوز والفراغ بعنوان التجاوز عن المحل لا الفراغ عن جميع العمل: فمن شك في الركعة الأخيرة في ركوع الركعة السابقة لو بنى العقلاء على إتيانه أو كانت أمارة عقلائية عليه فإنما هو لأجل ان الفاعل المريد لفراغ ذمته انما يأتي بما هو وظيفته في محله فإذا تجاوز عن المحل وشك فيه يكون ما هو المناط محققا، وليس إتيان ساير الاجزاء دخيلا فيه ولا إتيان جميع المركب ولا الفراغ منه.
ولو قيل: ان المناط في عدم الاعتناء هو تحقق الفصل الطويل بين محل المشكوك فيه ومحل حدوث الشك وهو محقق في قاعدة الفراغ دون التجاوز (يقال له): مع كونه ممنوعا منقوض طردا وعكسا، وعلى أي حال لم يثبت بناء العقلاء على عدم الاعتناء بالشك بعد الفراغ أو التجاوز، ولم يثبت إلقاء الاحتمال وترتيب الأثر على هذه الغلبة عند العقلاء.
فلا بد من عطف النظر إلى مفاد الأدلة فنقول: انها على طوائف:
منها - ما يكون مفادها هو مجرد الأمر بالمضي كموثقة محمد بن مسلم وصحيحته المنقولة في الخلل وصحيحة إسماعيل بن جابر ومثلها غيرها.
306

ومنها - ما يكون مفادها نفي الشك تعبدا والتعبد بعدم الاعتناء به كموثقة ابن أبي يعفور.
ومنها - ما جمع بينهما كصحيحة زرارة صدرا وذيلا، وأمثال هذه الروايات ليس مفادها الا الأصل التعبدي وليس معنى (شكك ليس بشيء) الا التعبد بعدم الاعتناء به والمضي، ولذا جمع بينهما في صحيحة زرارة بنحو الكبرى والصغرى حيث ان الظاهر من ذيلها انه بصدد بيان الكبرى الكلية المندرجة تحتها الأمثلة المذكورة في صدرها.
ومنها - ما يتوهم منه الأمارية كموثقة بكير بن أعين «قال: قلت له: الرجل يشك بعد ما يتوضأ، قال: هو حين يتوضأ اذكر منه حين يشك» حيث علل عدم الاعتناء بالشك بالأذكرية حين العمل وهي تناسب الطريقية، وقريب منها رواية محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام وفيها: «وكان حين انصرف أقرب إلى الحق منه بعد ذلك» لكن استفادة الأمارية منها مشكلة لأن مفادها ليس الا تحقق المشكوك فيه لأن قوله: «هو حين يتوضأ اذكر» قام مقام الجواب وجعل كناية عن إتيان المشكوك فيه فيكون مفادها التعبد بتحققه فيوافق مفاد صحيحة حماد «قد ركعت امضه» وموثقة عبد الرحمن قال: «قد ركع» وبالجملة لا يستفاد من الموثقة وكذا رواية محمد بن مسلم الا التعبد بوجود المشكوك لا أمارية الظن وجعل الغلبة طريقا إلى الواقع (1) ولعل مثل قوله: «هو حين

(1) وقد يقال في وجه أماريتها: بان الإرادة المتعلقة بالكل عند الشروع فيه هي التي توجب الإتيان بكل جزء في محله ولا يحتاج غالبا إلى تعلق إرادة مستقلة بكل جزء جزء في محله فان الإرادة الأولية حيث كانت محفوظة في خزانة النفس كان الشخص مقهورا إلى الجري على وفقها ما لم تحدث إرادة أخرى مضارة للإرادة الأولية فالغالب عند تعلق الإرادة بالفعل المركب هو الإتيان باجزائه في محلها والشارع قد اعتبر هذه الغلبة كما يؤمي إليه قوله عليه السلام في بعض اخبار الوضوء: هو حين يتوضأ اذكر منه حين يشك، فتكون القاعدة من الأمارات الكاشفة عن وقوع الفعل المشكوك فيه - ولا يخفى ما فيه أولا: ان ما قاله من عدم احتياج كل واحد من الاجزاء غالبا إلى تعلق إرادة مستقلة به فهو خلاف الضرورة والبرهان، ضرورة ان من يريد الصلاة يريد كل واحد،
، من اجزائها عند إتيانه بإرادة مستقلة وان كانت مبادئ إرادة بعض اجزائها يتحقق سريعا بحيث يزعم انه أتى به بلا إرادة لأن كل واحد من الاجزاء فعل ولا يمكن صدور الفعل من الفاعل المريد بلا إرادة - وثانيا: ان الغلبة لم تكن صالحة للأمارية لأن ما يمكن ان يجعله الشارع حجة من باب الطريقية لا بد وان يكون له جهة كشف فان نفس الغلبة لا تصلح لذلك لعدم كاشفيتها (نعم) الظن الحاصل منها له الكشف ناقصا فيمكن ان يجعله حجة من باب الطريقية ولكن مع ما أفاده الأستاذ دام ظله من عدم استفادة الجعل من الروايات لا يبقى مجال للقول باعتباره.
307

يتوضأ اذكر»، أو «كان حين انصرف أقرب إلى الحق» إشارة إلى نكتة التشريع لا تأسيس الطريقية (وبالجملة) لا يمكن الالتزام به بمثل هذه الإشعارات بعد تظافر الروايات بخلافها.
وان شئت قلت: ان الظاهر منهما إلقاء احتمال الغفلة وهو على فرض تسليمه غير إلقاء احتمال الخلاف أي الاحتمال المقابل للظن والثاني مستلزم لجعل الطريقية دون الأول تدبر.
وقد يقال ان الظاهر من قوله بعد السؤال عن الشك في الركوع بعد ما سجد: «بلى قد ركعت فامضه» هو الطريقية (وله وجه) لو لم يكن مسبوقا بهذا السؤال، واما معه فلا مجال لاستفادتها لتوجه الخطاب إلى الشاك فكأنه قال: إذا شككت في الركوع بعد السجود فقد ركعت وهو مناف للطريقية وإلقاء الشك بل تعبد بالوجود في ظرف الشك وهو عين الأصلية.
وأضعف منه (دعوى) استفادتها من قوله: ليس بشيء، للفرق بين ترتيب الحكم على الشك والحكم بعدم الاعتناء (وفيها) ان لسان عدم الاعتناء بالشك غير لسان الأمارة التي لم يفرض فيها الشك أصلا لأن الحكم بعدم فرض تحققه لكن لضعفه لا يعتنى، كما ان الشك في الاستصحاب مفروض التحقق لكن لا يعتنى به ولا ينقض اليقين ولا يخفى انه لا تنافي بين التعبد بالمضي وعدم الاعتناء بالشك كما هو مفاد الأدلة المتقدمة وبين التعبد بوجود المشكوك فيه كما هو مفاد هذه الروايات ولذا جمع بينهما في صحيحة
308

حماد حيث قال قد ركعت امضه وتوهم الفرق بين باب افعال المضي ومجرده، بعيد في المقام وان يظهر من اللغة ان الإمضاء بمعنى الإنفاذ والمضي بمعنى الذهاب (وبالجملة) لا تنافي بين الأدلة والمستفاد من جميعها ان قاعدة التجاوز أصل شرعي تأسيسي تعبدي مفادها التعبد بوجود المشكوك فيه، وان شئت قلت: انه أصل محرز تعبدي.
بقي الكلام في انه بعد كون القاعدة أصلا محرزا هل تكون أصلا محرزا مطلقا كالاستصحاب بناء على كونه أصلا محرزا، فيكون مفادها تحقق المشكوك فيه مطلقا، أو أصلا محرزا في موضوع خاص وبعبارة أخرى تكون أصلا محرزا حيثيا، والفرق بين كونها أصلا تعبديا محضا من غير نظر إلى التعبد بالوجود وبين كونها أصلا محرزا واضح فإنه على المحرزية يترتب عليه أثر الوجود فلو شك في حال القنوت في إتيان السورة يتحقق القرآن بإتيان سورة أخرى بناء على عدم كون القرآن امرا بسيطا انتزاعيا وبناء على المحرزية دون غيرها، واما الفرق بين المحرزية المطلقة وغيرها انه بناء على الأول يترتب عليه آثار الوجود مطلقا فلو شك بعد صلاة العصر في إتيان الظهر بنى على تحققه ولا يجب إتيانه، وكذا لو شك في الوضوء بعد صلاة الظهر بنى على تحققه مطلقا فيحكم بوجوده لسائر الأمور المشروطة بالوضوء.
واما بناء على المحرزية الحيثية فلا يترتب على المشكوك فيه الا أثر التحقق في الموضوع الخاص ومن الحيثية الخاصة فلا بد من ترتيب آثار وجود الظهر في المثال المتقدم من حيث اشتراط العصر بتقدمه عليه وترتيب آثار وجود الوضوء من حيث اشتراط الصلاة التي شك بعدها فيه لا مطلقا فيجب إتيان الظهر وتحصيل الوضوء لسائر الأمور المشروطة به.
في ان القاعدة أصل محرز حيثي
إذا عرفت ذلك فالذي يستفاد من مجموع الأدلة ان قاعدة الفراغ أصل تعبدي محرز لكن في موضوع خاص وبالنسبة إلى الأمر المتجاوز عنه لا مطلقا، اما كونها أصلا فلقصور الأدلة عن إثبات الأمارية كما عرفت، واما كونه محرزا فلدلالة كثير منها على
309

التعبد بثبوت المشكوك فيه، واما عدم كونه محرزا مطلقا فلقصورها عن إثباته.
ولقد أجاد الشيخ الأعظم في المقام حيث قال لا إشكال في ان معناه البناء على حصول المشكوك فيه لكن بعنوانه الذي يتحقق معه تجاوز المحل لا مطلقا «انتهى».
فإذا علم حال القاعدة وانه أصل محرز حيثي تعبدي يعلم حال الشك في الشروط بالنسبة إلى الفراغ من المشروط وقد اختلفت كلمات الاعلام فيه.
والتحقيق ان يقال: ان الأدلة شاملة بإطلاقها وعمومها للشروط بلا إشكال ولا ريب لكن بالنسبة إلى المشروط الذي تجاوز عنه لا مطلقا.
ثم لا إشكال في عدم الاعتناء بالشك في الشرط بعد الفراغ من المشروط وانما الكلام في الشك الحادث بين العمل بالنسبة إلى الاجزاء الآتية (والتحقيق) ان كل شرط يكون له محل شرعي ويكون محله الشرعي قبل العمل فلا يعتنى بالشك فيه بين العمل لصدق التجاوز والمضي دون ما لا يكون كذلك فمثل الوضوء إذا قلنا بان محله الشرعي قبل العمل اما لدلالة الآية الشريفة أو لدلالة بعض الاخبار كقوله: «افتتاح الصلاة الوضوء» فعليه إذا عرض الشك فيه بعد الدخول في الصلاة يلقى الشك لتجاوز محله بالنسبة إلى الصلاة التي اشتغل بها لا غيرها، لكن في كون المحل الشرعي للوضوء ما ذكر إشكال ومنع لمنع دلالة الآية الا على الإرشاد باشتراط الصلاة بالوضوء وكذا الرواية، ومثل الاستقبال والستر وأمثالهما مما ليس لها محل شرعي بل تكون شروطا معتبرة فيها ولكن العقل يحكم بلزوم إحرازها قبل الصلاة وليس للشارع حكم من هذه الجهة يكون الشك فيها غير مشمول لأدلة التجاوز لعدم تجاوز محلها بالنسبة إلى الاجزاء الآتية.
تنبيه
قد أفرد الشيخ الأعظم قدس سره الشك في صحة المأتي به عن الشك في الشرط قائلا ان محل الكلام في الشك في الصحة ما لا يرجع فيه الشك إلى الشك في ترك ما يعتبر في الصحة ومثل له بالشك في الموالاة في حروف الكلمة أو كلمات الآية، والظاهر ان الفرق بين الموضع الخامس والسادس الذين جعلهما عنوانين ليس باختصاص الكلام
310

في الأول بالشروط الشرعية وفي الثاني بالشروط العقلية كما قيل لمخالفته للمثال بالموالاة لكلمات الآية فإنه بإطلاقه يشمل الموالاة العرفية المعتبرة شرعا بل الموالاة الماحي تركه للصورة والموالاة في كلمات الآية أيضا لا يبعد ان يكون مما اعتبره الشارع لأن الأمر بالقراءة يدعو إلى إيجاد ما هو قراءة عرفا وهي لا تتحقق الا بإتيانها على نحو المتعارف، وهذا ليس من الأمر العقلي المحض كإحراز الستر قبل الصلاة مقدمة لتحقق أول الجزء مع الستر فان هذه المقدمة لم يتعلق بها غرض وامر بخلاف الأمر إلى القراءة وذكر الركوع والسجود، بل الفرق الذي يمكن ان يكون مراده ان الشرائط على قسمين (أحدهما) ما يكون لها نحو وجود مستقل كالطهارة والستر والقبلة (وثانيهما) ما لا تكون كذلك كالموالاة في حروف الكلمة وكلمات الآية فإنها لا تكون موجودة الا بنفس الكلمة والآية وليس لها وجود استقلالي فلا يشملها قوله كلما شككت فيه مما قد مضى ولا ساير العناوين المأخوذة في الأدلة بخلاف الشروط التي من قبيل الأول.
هذا ما وجه به كلامه بعض المحققين وقد جعل من قبيل ما ذكره في المقام الشك في إطلاق الماء وإضافته (وفيه) ان ما اعتبره الشارع في الصلاة ويكون تحت تصرفه وجعله هو كون الصلاة متقيدا بالطهارة أو الستر أو القبلة أو كون المصلى حال صلاته طاهرا مستترا مستقبل القبلة وهذه الأمور من الانتزاعيات أيضا ويكون وجودها بعين منشأ انتزاعها كالموالاة ومع تسليم ما ذكره من الفرق ان دعوى عدم شمول الأدلة لمثل الأمور الانتزاعية ممنوعة جدا مع كونها معتبرة في الصلاة مأخوذة موضوعة للحكم تكون متعلقة للشك فهل مثل الموالاة ليس بشيء عرفا أو عقلا أم ان الشيء أو «ما» الموصولة في الأدلة جعل مرآة للأشياء خاصة مع انه خلاف
التحقيق والواقع في باب الإطلاقات أم انهما منصرفان عن مثل الموالاة مع انه لا منشأ له، فلا إشكال في شمول الأدلة وإطلاقها لمطلق الشرائط وكذا الكلام في مثل الشك في إطلاق الماء وإضافته بعد الوضوء لشمول مثل قوله: «الرجل يشك بعد ما يتوضأ قال هو حين يتوضأ اذكر منه حين يشك» لكل شك يعرض المكلف بعد الوضوء.
311

الأمر الثامن في أنحاء الشكوك العارضة للمكلف
يتصور الشك بعد التجاوز على أنحاء كثيرة نتعرض لمهماتها وتتضح حال غيرها في ضمن ما ذكرناه.
الأول الشك الطاري بواسطة الغفلة عن صورة العمل وهو تارة يكون مع العلم بالحكم والموضوع بحيث يكون الترك على فرضه مستندا بالسهو والغفلة كمن شك في السجود أو الركوع أو غيرهما لاحتمال تركها سهوا مع العلم بهما، وتارة يكون مع الجهل بالحكم أو الموضوع أو كليهما، وهذا على قسمين (أحدهما) ما إذا اعتقد المكلف ضد الحكم أو الموضوع بحيث لو فرض مصادفة المأتي به للواقع كان عن سهو وغفلة كما لو اعتقد المسافر وجوب الإتمام عليه فصلى واحتمل الإتيان قصرا سهوا أو نسيانا فصادف الواقع، أو اعتقد المسافة دون المسافة واحتمل الإتيان قصرا سهوا أو نسيانا (ثانيهما) ما لا يكون كذلك، كما لو اعتقد المسافر كونه مخيرا بين القصر والإتمام فصلى واحتمل الإتيان قصرا من باب التصادف، أو كان بين يديه مائعان يعتقد كونهما ماء مطلقا وكان أحدهما المعين مضافا ثم بعد الوضوء شك في صحته لأجل الشك في وضوئه بالماء صدفة.
إذا عرفت ذلك فهل الروايات كموثقة ابن مسلم: «كل ما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو» وغيرها بإطلاقها شاملة لجميع الصور المتقدمة أو منصرفة إلى القسم الأول فقط أي ما يكون الترك مستندا إلى السهو أو الغفلة مع العلم بالحكم والموضوع، أو منصرفة عن القسم الأول من قسمي الجهل بالحكم أو الموضوع أي ما كان الإتيان بالواقع مستندا إلى السهو والنسيان، ثم على فرض إطلاق الأدلة هل يكون مثل قوله:
«هو حين يتوضأ اذكر» وقوله: «كان حين انصرافه أقرب إلى الحق» مقيدا لها أولا؟ أقول: دعوى الانصراف إلى القسم الأول ليست ببعيدة وذلك لأن ارتكاز العقلاء بان الفاعل المريد لفراغ ذمته إذا أراد إتيان شيء يأتي بما هو وظيفته في محله وان
312

لم يصل إلى حد تطمئن النفس بان بنائهم على عدم الاعتناء بالشك كما ذكرنا في بعض المباحث السالفة لكن يمكن ان يدعى ان هذا الارتكاز صار موجبا لانصراف الأدلة إلى ما يكون مرتكزا لديهم.
وبعبارة أخرى ان الأحكام الصادرة من الشارع قد تكون تعبدية محضة لا طريق للعقلاء لفهم سرها ككثير من التعبديات، وقد تكون إرشادا إلى طريقة العقلاء كأدلة اخبار الثقة أو اليد، وقد تكون معنى متوسطا بينهما أي لا تكون تعبدية محضة لا يعلم العقلاء سره أصلا ولا تكون إرشادية إلى ما لديهم لعدم الحكم الجزمي بينهم لكن تكون من التعبديات التي يكون للعقل إليها سبيل ويكون في ارتكاز العقلاء ما يناسبها، وهذا الارتكاز والمناسبات المعلومة عند العقلاء قد يوجب الانصراف إلى ما ارتكز بينهم وما نحن فيه من هذا القبيل، فإذا سمع العقلاء قوله: «كل ما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو» يصير الأمر الارتكازي موجبا لانصرافه إلى ذلك ويمنع عن فهم الإطلاق فيكون كالقرينة الحافة بالكلام أو ما يصلح للقرينية.
هذا مضافا إلى ان الناظر في الروايات يرى ان السؤال والجواب بين الرواة والأئمة عليهم السلام كانا ممحضين في هذا القسم ولا يكون الجهل بالحكم أو الموضوع في ذهنهم، فارجع الروايات حتى يتضح صدق ما ذكرنا، أضف إلى ذلك كله الشواهد الموجودة في الروايات كقوله: «هو حين يتوضأ اذكر منه حين يشك» وقوله: «وكان حين انصرف أقرب إلى الحق» بل وقوله: «قد ركعت امضه» وبالجملة مدعى الانصراف غير مجازف، ودعوى الإطلاق بالنسبة إلى جميع الصور في غاية الإشكال، ثم على فرض إطلاق الأدلة يشكل رفع اليد عنه لقوله هو حين يتوضأ اذكر لعدم استفادة العلية للمجعول ولا الانحصار منه لإمكان كونه علة للتشريع فلا يجوز رفع اليد عنه لأجله فتدبر.
حول كلام بعض المحققين وما يرد عليه
ثم ان بعض المحققين (1) ادعى الإطلاق لجميع صور الشك وقال في تقريبه ان العمدة في حمل الأعمال الماضية الصادرة من المكلف على الصحيح هي السيرة القطعية وانه

(1) هو المولى الفقيه الهمداني رحمه الله.
313

لو لا ذلك لاختل نظام المعاش والمعاد ولم يقم للمسلمين سوق فضلا عن لزوم العسر والحرج المنفيين في الشريعة إذ ما من أحد إذا التفت إلى أعماله الصادرة منه في الأعصار المتقدمة من عباداته ومعاملاته الا ويشك في كثير منها لأجل الجهل بأحكامها واقترانها بأمور لو كان ملتفتا إليها لكان شاكا فلو لم يحمل عملهم على الصحيح وبنى على الاعتناء بالشك الناشئ من الجهل بالحكم ونظائره لضاق عليهم العيش وهذا الدليل وان كان لبيا يشكل استفادة عموم المدعى عنه الا انه يعلم منه عدم انحصار الحمل على الصحيح بظاهر الحال فلا يجوز رفع اليد عن الاخبار المطلقة بسبب التعليل المستفاد من قوله: «هو حين يتوضأ اذكر منه حين يشك» لأن جعله قرينة على التصرف في ساير الاخبار فرع استفادة العلية المنحصرة منه والمفروض عدم الانحصار هذا مع ان دلالته عليه في حد ذاته لا يخلو عن تأمل فلا ينبغي الاستشكال في جريان القاعدة في جميع موارد الشك (انتهى).
قد اتضح مما ذكرنا النظر فيما أفاد لكن لا بد من رفع شبهته وحسم مادتها فنقول:
ان المكلف قد يعلم حاله حين العمل أي يعلم في زمان الشك انه كان عالما بالحكم والموضوع ويكون شكه متمحضا في انه هل ترك الجزء نسيانا أو سهوا أم لا؟ أو يعلم انه كان جاهلا بهما على النحو الأول من النحوين المتقدمين في صدر المبحث بحيث كان الإتيان بالمأمور به على وجهه من باب السهو والنسيان أو على النحو الثاني منهما بحيث كان الإتيان به على وجهه من باب الصدفة، وقد لا يعلم حاله أصلا بحيث يحتمل ان يكون تركه مستندا إلى السهو والنسيان مع العلم بالموضوع والحكم، ويحتمل ان يكون الإتيان من باب السهو، ويحتمل ان يكون من باب التصادف، ويعلم حال الصور الأخرى من ذكر تلك الصور.
فان بنينا على انصراف أدلة التجاوز إلى الشك في انه ترك سهوا ونسيانا مع العلم بالموضوع والحكم كما هو الحق فحينئذ لو علم المكلف حاله فان كان شكه من قبيل ذلك لا يعتنى به، وان كان من غيره يعتنى به، لكن علم المكلف بالنسبة إلى الأعمال السابقة في غاية الندرة لو لم نقل انه لا يوجد مكلف يعلم حاله تفصيلا وبجميع خصوصيتها فنوع المكلفين لا يعلمون ان تركهم على فرضه كان مستندا إلى السهو أو الجهل بأحد
314

قسميه فالشك في الأعمال السابقة كثير واقع من نوع المكلفين، لكن تشخيص الحال السابقة وانه كان عالما أو لا وعلى الثاني كان جهله بالحكم أو الموضوع وعلى أي نحو من أنحاء الجهل في غاية الندرة فيحتمل نوع المكلفين ان يكون تركهم مستندا إلى السهو حتى يكون شكهم مشمولا لقاعدة التجاوز أو لا حتى لا يكون مشمولا لها فلو حكمنا بلزوم إعادة الأعمال السابقة من العبادات والمعاملات يلزم اختلال النظام معاشا ومعادا ولم يقم للمسلمين سوق كما قرره المحقق المتقدم لكن مقتضى القواعد خلاف ذلك.
في حال الشك في العبادات
توضيحه ان الأعمال السالفة اما ان تكون من قبيل العبادات أو من قبيل المعاملات والعبادات اما موقتات كالصلاة والصوم أولا، لا إشكال في ان غير الموقتات كالزكاة والخمس وأمثالهما يكون الشك فيها نادرا جدا فلا يلزم من الاعتناء بالشك فيها اختلال النظام ولا العسر والحرج ولا غيرهما، وانما الإشكال في الموقتات من قبيل الصلاة وهي العمدة والصوم، لكن الصوم أيضا يكون الشك فيه نادرا فالعمدة هي الشكوك الصلاتية، والشك فيها لا يوجب القضاء لأن القضاء يكون بأمر جديد فلو شك المكلف في صحة صلواته السابقة ولا يعلم حاله واحتمل ان يكون الترك مستندا إلى السهو حتى تشمله قاعدة التجاوز أولا حتى لا تشمله يكون التمسك بكل من دليل القاعدة والاستصحاب غير جائز لأنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية والأصل البراءة من القضاء.
هذا مضافا إلى ان الجهل بالحكم بالنسبة إلى الأركان نادر جدا أو غير متحقق، وفي غير الأركان وان كان كثيرا لكن المكلف لا يعلم حاله وان تركه على فرضه يكون عن جهل أو نسيان كما عرفت، فحينئذ ان قلنا بشمول لا تعاد الصلاة للترك عن جهل كما لا يبعد فمع كون الترك محققا لا يجب الإعادة فضلا عن صورة عدم معلوميته، وان قلنا بعدم شموله للترك عن جهل لما كان حال المكلف مجهولة يحتمل ان يكون مشمولا (لا تعاد) تعاد لاحتمال ان يكون تركه عن سهو فمع العلم بالترك حينئذ أيضا يشك في وجوب القضاء عليه والأصل البراءة منه، مع إمكان ان يقال ان الاستصحاب لا يثبت الفوت فلا يجب القضاء
315

هذا كله مع ان الشاك في جميع أعماله السابقة أو كثير منها يكون من كثير الشك ولا يجب عليه الاعتناء بشكه (تأمل) ولا يلزم منه عدم الاعتناء بالشك في الأعمال الحاضرة إذا لم يكن بالنسبة إليها كثير الشك.
في حال الشك في المعاملات
هذا حال العبادات واما في المعاملات السابقة المشكوك فيها كالبيع والإجارة والصلح وأمثالها فاما ان تكون الأعيان المتعلقة للمعاملة موجودة أو تالفة بتلف سماوي أو بإتلاف من المتعاملين وعلى أي حال لا يجري استصحاب عدم تحقق العقد الجامع للشرائط بنحو الكون الناقص لعدم الحالة السابقة، ولا بنحو الكون التام لعدم ترتب الأثر عليه الا بالأصل المثبت (تأمل) ولو فرض جريانه يكون حاله حال أصالة عدم النقل أو أصالة بقاء العين على ملك صاحبه حيث انه مع جريانهما في حد ذاتهما غير جاريين فيما نحن فيه لأن المتعاملين كما عرفت في العبادات غير عالمين حين الشك بحالهما حال العقد ويحتمل كل منهما ان يكون تركه الشرائط المقررة على فرضه عن سهو مع العلم بالحكم والموضوع حتى يكون شكه مجرى القاعدة ولا يجري الاستصحاب أولا فالمورد من الشبهة المصداقية للدليلين، فحينئذ ان كانت العين المتعلقة للمعاملة موجودة مرددة بين كونها لنفسه أو لصاحبه لا يبعد جريان أصالة الحل، وما قيل: من ان الأصل في الأموال الاحتياط، لا دليل عليه يمكن التمسك به في مثل المورد، وان كانت تالفة فالأصل العقلي والشرعي هو البراءة عن الضمان بعد عدم جريان (من أتلف) و (على اليد) لكون الشبهة مصداقية.
واما باب النكاح والطلاق فالذي يسهل الخطب فيهما هو ان مجراهما غالبا بحيث يشذ تخلفه هو التعبير بالوكالة وأصالة الصحة في فعل الغير جارية في مثله كما سيأتي إن شاء الله (فتحصل مما ذكرنا) ان انحصار جريان القاعدة بما كان الترك مستندا إلى السهو أو النسيان لا يلزم منه اختلال النظام ولا العسر والحرج كما ادعى المحقق المتقدم.
316

واما دعواه ان بناء العقلاء على عدم الاعتناء بمثل هذا الشك مطلقا (فممنوعة) كما ذكرنا سابقا، واما الشك الحاصل من احتمال الترك عمدا فقد ظهر حكمه مما مر من ان سوق الروايات هو اختصاص القاعدة بصورة الشك مع احتمال الترك السهوي لا العمدي، وقوله: «هو حين يتوضأ اذكر» وان كان ظاهره انه لما كان اذكر يأتي به لكن ليس في مقام التعبد بوجود المشكوك فيه ولو مع احتمال الترك العمدي ولا إطلاق فيه من هذه الجهة بل عدم الترك عمدا مفروض بين السائل والمسؤول عنه فلا يستفاد من الروايات الا الشك مع كون الترك على فرضه مستندا إلى السهو والخطاء وأمثالهما.
نعم احتمال الترك التعمدي مما لا يعتنى به العقلاء فان العاقل المريد لإبراء الذمة لا يترك ما يعتبر في المأمور به عمدا مع العلم بان تركه موجب للبطلان بل الترك عمدا منه مع التوجه بكل الخصوصيات حكما وموضوعا ممتنع عادة، وهذا مراد الشيخ الأنصاري من قوله: ان الترك سهوا خلاف فرض الذكر وعمدا خلاف إرادة الإبراء، فنفي الترك السهوي بالقاعدة والعمدي بقاعدة عقلائية هي انه خلاف إرادة الإبراء.
واما الشك الطاري من احتمال وجود الحائل فلا يعتنى به العقلاء مطلقا لا حال العمل ولا قبله ولا بعده، وبعض صوره مشمول القاعدة أيضا، واما الشك في حائلية الموجود فلا شبهة في اعتناء العقلاء به، واما شمول القاعدة له فيما إذا كان احتمال الترك مستندا إلى الغفلة عن رفع الحائل وإيصال الماء إلى البشرة فلا إشكال فيه، كما انه لا إشكال في عدم الشمول فيما إذا احتمل وصول الماء قهرا مع العلم بالغفلة عن رفعه حين العمل وهي الصورة الثانية التي لم يكن غافلا عن صورة العمل، ويظهر حال صورة تردده بين الأمرين مما ذكرنا في صورة الجهل (1)، وبالتأمل فيما ذكرنا

(1) فبما أفاده الأستاذ دام ظله هنا يظهر عدم تمامية ما قواه العلامة الحائري رحمه الله في ذيل كلامه في هذا المقام من إمكان الأخذ بإطلاقات الاخبار والحكم بان الشك الحادث بعد التجاوز مطلقا سواء كان غافلا عن صورة العمل أم كان ملتفتا إليها وسواء كان احتمال تركه مستندا إلى السهو أم كان مستندا إلى العمد لا اعتبار به، ولا يخفى عدم تمامية استدلاله عليه برواية خاصة الواردة في باب وجوب إيصال الماء إلى ما تحت الخاتم - راجع كلامه في الدرر -
317

يظهر حال ساير صور الشك.
الأمر التاسع في اختصاص القاعدة بالشك الحادث
الظاهر من أدلة التجاوز أن الشك الذي لا يعتنى به هو الشك الحادث بعد التجاوز فلو كان باقيا من قبل لا يكون مشمولا للأدلة ويتفرع عليه انه لو شك قبل العمل في الطهارة مع كونه مسبوقا بالحدث فغفل ودخل في العمل ثم تنبه فان احتمل بعد العمل تحصل الطهارة بعد الشك والغفلة قبل العمل فلا إشكال في جريان القاعدة لأنه شك حادث بعد العمل وان لم يحتمل فلا تجري لأنه شك موجود في النفس حاصل قبل العمل وان كان مغفولا عنه ومقتضى قاعدة الاشتغال إعادة الصلاة. ولا يجري الاستصحاب في حال الغفلة عن الشك لأن حجية الاستصحاب متوقفة على الشك الفعلي الذي يكون ملتفتا إليه ليكون الاستصحاب مستندا للفاعل في عمله كما هو الشأن في كلية الحجج عقلا فلا يكون الاستصحاب حجة وجاريا في حال الغفلة عن الشك أو اليقين، ولو شك في الطهارة مع كونه عالما بسبقها فصلى فزال العلم يأتي فيه الوجهان المتقدمان من جريان القاعدة مع احتماله بعد العمل إيجاد الطهارة قبل العمل في حال الشك في الحدث وعدمه مع عدمه.
ويمكن ان يفصل في المقامين بين ما إذا صار الشك ذاهلا رأسا بحيث يقال في الشك الحاصل بعده انه شك حادث فيقال بجريان القاعدة وعدم جريان الاستصحاب وبين ما إذا غفل عن شكه مع كونه موجودا في خزانة النفس نظير عدم العلم بالعلم فيقال بعدم جريان القاعدة وجريان الاستصحاب ومما ذكرنا يظهر النظر في كثير مما ذكره بعض أعاظم العصر رحمه الله.
318

الأمر العاشر في وجه تقدمها على الاستصحاب
بناء على استفادة الأمارية من أدلة التجاوز أو كون القاعدة أمارة عقلائية يكون وجه تقدمها على الاستصحاب هو
الحكومة تنتج الورود على وجه، وبناء على استفادة الأصلية منها فان قلنا بان المستفاد من أدلة الاستصحاب هو جعل الحكم للشاك وان الشك موضوع في الاستصحاب ومفاد (لا تنقض) انه إذا شككت رتب آثار اليقين أو المتيقن أو إذا شككت ابن علي وجود المشكوك فيه وجه تقدمها أيضا الحكومة وتنتج الورود على وجه، لأن الظاهر من قوله: «انما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه» انه مع التجاوز لا يكون الشك محققا فيكون مفاده رفع موضوع الاستصحاب وتعرض دليل القاعدة لما لا يتعرضه دليل الاستصحاب، بل الظاهر من قوله في صحيحة حماد بن عثمان: «قد ركعت امض» هو إلقاء الشك ورفعه بل لا يبعد ان يكون قوله في صحيحة زرارة: «فشكك ليس بشيء» وفي موثقة ابن أبي يعفور: «فليس شكك بشيء» حاكما على أدلة الاستصحاب بناء على أخذ الشك في موضوعه كما هو المفروض.
وان قلنا بان مفاد أدلته هو إبقاء اليقين وإطالة عمره في عالم التشريع كما احتملناه واستظهرناه سالفا فليس وجهه الحكومة بل التخصيص لأخصية دليلها من دليله، وان قلنا بان مفاد أدلة الاستصحاب هو لحاظ الشك واليقين وان الشك لأجل كونه امرا غير مبرم لا ينقض اليقين الذي هو امر مبرم كما هو ظاهر الأدلة وليس مفادها مجرد إطالة عمر اليقين وإلقاء الشك رأسا فحينئذ يكون التقدم بالحكومة أيضا لأن أحد الدليلين يكون مفاده ان الشك المتحقق لا ينقض اليقين ومفاد الآخر أن الشك غير متحقق وانما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه، وان قلنا بان الشك موضوع في القاعدة وان قوله: «فشكك ليس بشيء» ليس معناه عدم تحققه بل كناية عن عدم لزوم الاعتناء به أو عدم جوازه، وقوله: انما الشك إذا كنت (إلخ) بعد كون المفروض
319

في صدره وقوع الشك ليس إلا عدم لزوم الاعتناء به، وان قوله: قد ركعت بعد مسبوقيته بالسؤال عن حال الشك لا يفيد الا البناء على الوجود في حال الشك كان تقدمها عليه بما ذكره الاعلام من حصول اللغوية أو الاستهجان، ولعل هذا الوجه أقوى الوجوه وكيف كان لا إشكال في تقدمها عليه كما لا ثمرة مهمة في تحقيق وجهه.
المبحث الثالث في أصالة الصحة ودليل اعتبارها
في حال الاستصحاب مع أصالة الصحة في فعل الغير، ولا إشكال في تقدمها عليه في الجملة ولا بد من بسط الكلام فيها ثم بيان النسبة بينهما ووجه تقدمها عليه في ضمن أمور:
الأول
قد استدل على اعتبار القاعدة بأمور من الكتاب والسنة والإجماع والعقل مما يمكن الخدشة في جلها لو لا كلها، والدليل عليه هو بناء العقلاء والسيرة العقلائية القطعية من غير اختصاصها بطائفة خاصة كالمسلمين، ولا اختصاص جريانها بفعل المسلم وليس للمسلمين في ذلك طريقة خاصة تكشف عن كون أصالة الصحة ثابتة من قبل شارع الإسلام بل الضرورة قائمة بأنها كانت ثابتة قبل الإسلام من لدن صيرورة الإنسان متمدنا مجتمعا على قوانين إلهية أو عرفية وصارت أنواع المعاملات رائجة بينهم، والإسلام بدء في زمان كانت تلك القاعدة كقاعدة اليد وكالعمل بخبر الثقة معمولا بها بين الناس منتحليهم بالديانات وغيرهم والمسلمون كانوا يعملون بها كسائر طبقات الناس من غير انتظار ورود شيء من الشرع، والآن يحمل المسلمون إعمال ساير الملل في نكاحهم وطلاقهم وعقودهم وإيقاعاتهم على الصحة وهم يحملون إعمال المسلمين عليها من غير كون ذلك في ارتكازهم امرا دينيا، ومن ذلك يعلم ان سيرة المسلمين والإجماع القولي والعملي ليس شيء منها دليلا برأسه بل كلها يرجع إلى هذا الأمر العقلائي الثابت لدى جميع العقلاء وهذا واضح جدا.
وان شئت الاستدلال عليها بدليل لفظي فيمكن ان يستدل عليها بطوائف من الاخبار المتفرقة في أبواب الفقه.
320

منها الروايات الواردة في باب تجهيز الموتى حيث تدل على اكتفاء المسلمين في الصدر الأول على فعل الغير في غسل الموتى وكفنهم وساير التجهيزات وكانوا يصلون عليها من غير التفتيش عن صحة الفعل والكفن مع وجوب الغسل وساير التجهيزات على جميعهم ولم يكن اكتفاؤهم بفعل الغير الا لأجل البناء على الصحة (ودعوى) حصول العلم بصحة الغسل وساير التجهيزات الصادرة عن غيرهم (كما ترى).
ومنها الروايات الواردة في باب الحث على الجماعة والجمعة والأمر بالايتمام خلف من يوثق بدينه وأمانته، وفي هذا الباب روايات كثيرة دالة على ان أصالة الصحة كانت أصلا معتبرا عند رسول الله صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام إذ لا إشكال في ان إحراز صحة صلاة الإمام ولو بالأصل شرط في جواز الائتمام به، ولو لم تكن أصالة الصحة معتبرة لم يكن إحرازها ممكنا مع كون الإمام كثيرا ما مستصحب الحدث لدى المأموم.
ومنها ما دلت على البيع والشراء لرسول الله صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام كرواية عروة البارقي في الفضولي وهذه الطائفة كثيرة يطلع عليها المتتبع.
ومنها ما دلت على توكيل بعض الأئمة عليهم السلام غيرهم للزواج والطلاق كتوكيل أمير المؤمنين عليه السلام العباس في امر أم كلثوم، وتوكيل أبي الحسن عليه السلام محمد ابن عيسى اليقطيني في طلاق زوجته.
ومنها روايات التوكيل.
ومنها الروايات الدالة على تصحيح نكاح الأب والجد بل مطلق روايات جعل الولاية لهما.
ومنها روايات تصحيح التجارة بمال اليتيم.
ومنها ما دل على جعل القاضي والحاكم والإمام، إلى غير ذلك مما يعلم بها علما ضروريا ان مسألة الحمل على الصحة كانت معمولا بها من عصر رسول الله صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام وكان عملهم كسائر العقلاء ولم يكن للشارع تصرف ودخالة فيها، والإنصاف ان الأمر أوضح من ان يحتاج إلى إتعاب النفس فيه.
ثم ان الظاهر ان موضوع بناء العقلاء ليس منحصرا بالعمل الصادر من الفاعل
321

كما يكون موضوع قاعدة الفراغ على القول بها بل هو أعم منه، فان بنائهم على معاملة الصحة مع الفعل الذي سيصدر من الفاعل أو يشتغل به إذا كان منشئا للأثر فيأتمون بالإمام مع الشك في صحة عمله ويوكلون الغير في النكاح والبيع وساير أمورهم مما له صحة وفساد مع الشك في صدوره منه صحيحا، وبعض الاخبار المتقدمة أيضا يدل على ذلك فدائرة أصالة الصحة في فعل الغير أوسع منها في فعل النفس (1).
في ان الصحة هي الواقعية أم لا
الأمر الثاني هل المحمول عليه فعل الفاعل هو الصحة باعتقاد الفاعل أو الصحة الواقعية؟ وقبل تحقيق ذلك لا بد من بيان امر وهو انه قد عرفت ان مبنى أصالة الصحة هو بناء العقلاء ومبنى ذلك البناء يمكن ان يكون أحد امرين:
أحدهما ان ذلك من جهة إلقاء احتمال الخلاف لأجل غلبة صدور الفعل الصحيح من الفاعل المريد لإيجاد فعل لتوقع ترتب الأثر عليه فان الفاعل الكذائي لا يخل بشيء مما هو معتبر في المأتي به عمدا والترك السهوي خلاف الأصل العقلائي (وبالجملة) إيجاد الفعل فاسدا عمدا أو سهوا أو غفلة نادر لا يعتنى به العقلاء بل
احتماله مغفول عنه نوعا لدى العقلاء فالحمل على الصحة لأجل الغلبة وندرة التخلف في فعل الفاعل.
ثانيهما ان مبنى بناء العقلاء في الحمل على الصحة ان سائسي الأقوام والنافذين فيهم من السلاطين والرؤساء في الأزمنة القديمة التي كانت أو ان حدوث التمدن والاجتماع البشري وحدثت الخلطة بين الطوائف ودونت القوانين بينهم وضعوا القوانين المفيدة السهلة لرغدة العيش وسهولة الأمر بينهم ومنها إجراء أصالة الصحة فكانت في أول الأمر

(1) وبما أفاده الأستاذ دام ظله يدفع توهم ان قاعدة الفراغ وأصالة الصحة في فعل الغير فرعان من أصالة الصحة الجارية في الأفعال، الا ان الأول في فعل النفس ويسمى بقاعدة الفراغ وله الدليل اللفظي والثاني في فعل الغير ودليله بناء العقلاء الذي لم يردع عنه الشارع -
322

قانونا مدنيا بينهم حتى صارت مرتكزة معمولا بها فصارت كالطبيعة الثانية لهم، ولعل كثيرا من المرتكزات في الآن كان كذلك في أوان تمدن البشر فأخذ اللاحق من السابق وورث الأبناء من الآباء فصارت مرتكزة بينهم.
إذا عرفت ذلك فاعلم انه إذا كان مبنى أصالة الصحة هو الأمر الأول يكون المحمول عليه هو الصحة في اعتقاده، وان كان الثاني يكون هو الصحة الواقعية ثم على الأول لو فرض الحمل على الصحة الواقعية لا بد وان يدعى امر آخر هو انه عند الشك في اعتقاد الفاعل يحمل اعتقاده على كونه موافقا لاعتقاد الحامل بدعوى ان الحامل لما رأى اعتقاده موافقا للواقع يحمل رأي الفاعل على الصحة فيجري أصالة الصحة في اعتقاده كما يجري في عمله فيحمل عمله على الصحة الواقعية باعتبارهما.
أقول: لا إشكال في عمل العقلاء مع الفعل المشكوك فيه في الجملة عمل الصحة الواقعية ضرورة ترتيبهم آثار الواقع على المعاملات والعبادات الصادرة من الناس كما انه لا إشكال في عدم جريان أصالة تطابق اعتقاد الفاعل لاعتقاد الحامل، ضرورة انه مع كثرة مخالفة الاعتقادات والاجتهادات في الأحكام لا يبقى مجال لذلك الأصل ودعوى ارتكازية هذا الأصل كما ترى، فمن ذلك تصير دعوى كون مبنى أصالة الصحة هو الغلبة المتقدمة مشكلة لأن ما كانت دعوى الغلبة فيه صحيحة هو غلبة إتيان الفاعل العمل على طبق اعتقاده لا على طبق الواقع ولو لم يكن موافقا لاعتقاده، فمن ذلك لا يبعد ان يقال: ان مبنى أصالة الصحة ليس الغلبة بل هو الأمر الثاني، اللهم الا ان يدعى ان الاعتقادات والآراء الاجتهادية وان كانت مختلفة لكن الغالب في مقام العمل مراعاة الاحتياط وتطبيق العمل على الواقع، فجريان أصالة الصحة من هذا الباب، ولا يخلو هو أيضا من إشكال كما ان كون مبنى أصالة الصحة هو الأمر الثاني أيضا في غاية الإشكال.
والذي يسهل الخطب ان بناء العقلاء على جريان أصالة الصحة والحمل على الصحة الواقعية معلوم في موردين أحدهما فيما إذا علم مطابقة رأى العامل للحامل وثانيهما فيما إذا جهل حال العامل، وغالب الموارد يكون من هذا القبيل وغيره نادر، وفيما إذا علم مخالفتهما فقد يكون التخالف بينهما بالتباين كما لو اعتقد أحدهما
323

وجوب القصر في أربعة فراسخ وان لم يرجع ليومه والاخر وجوب الإتمام، ففي هذه الصورة لا تجري أصالة الصحة لأن جريانها مساوق لحمل فعله على السهو والغفلة وهو مخالف للأصل، وقد يكون التخالف بغيره كما لو اعتقد الفاعل التخيير بين الجهر والإخفات في ظهر يوم الجمعة واعتقد الحامل تعين الإخفات فيه، وهذه الصورة مورد الشك في بناء العقلاء فلا بد من العمل في هاتين الصورتين على ساير الأصول ولا يلزم من ترك العمل عليها فيهما محذور اختلال النظام والعسر والحرج لأن غالب موارد الابتلاء بحيث يشذ ما عداه هو صورة الجهل بحال الفاعل وهو المتيقن من جريان الأصل فيه والعمل فيه على الصحة الواقعية.
حول أقسام الشك في العمل وأحكامها
الأمر الثالث الشك في العمل تارة يكون في تحقق ركن مقوم منه بحيث لولاه لم يصدق عليه عنوانه عرفا كالشك في وقوع العقد بلا ثمن أو الشك في مالية العوضين أو في تميز المتعاملين فان الإخلال بكل واحد مما ذكر مخل بتحقق العقد عرفا ولو على القول بالأعم، وأخرى يكون في جهة أخرى بعد استكماله للأركان بالمعنى المتقدم فحينئذ قد يكون الشك في شرائط المتعاملين كالشك في بلوغهما أو كونهما مختارين وقد يكون في شرائط العوضين ككونهما خمرا أو خنزيرا أو مجهولا، وقد يكون في شرائط نفس العقد كالشك في تقدم الإيجاب وعربية العقد وقد يكون في تحقق شرط مفسد بناء على مفسدية الشرط الفاسد، هذه جملة الشكوك الحاصلة في العمل.
لا ينبغي الإشكال في عدم جريان الأصل في الصورة الأولى لأن الشك يرجع إلى تحقق العقد وفي مثله لا تجري أصالة الصحة وان شئت قلت ان أصالة الصحة لا تجري عند العقلاء الا بعد إحراز عنوان العمل ومع الشك فيه لا مجرى لها (وبعبارة أخرى) الصحة واللاصحة الرتبة المتأخرة عن وجود العمل ومع الشك في تحققه لا معنى لإجراء أصالة الصحة سواء كانت الصحة بمعنى التمامية أو معنى انتزاعيا (1).

(1) يمكن ان يقال: بعد ما فرقنا بين قاعدة الفراغ وأصالة الصحة باختصاص جريان
الأول ببعد العمل فقط بخلاف الثاني حيث تجري قبله وحاله وبعده يمكن القول بجريانها في تلك الصورة تأمل.
324

واما الصور الاخر ما عدى الصورة الأخيرة التي يأتي الكلام فيها فالظاهر جريانها فيها من غير فرق بين الشك في قابلية العوضين للنقل والانتقال شرعا أو قابلية المتعاملين لإجراء العمل كذلك أو غيرهما لاستقرار بناء العقلاء على ذلك، بل لا معنى لاستقرار طريقة العقلاء بما انهم عقلاء على موضوع مع القيود الشرعية، وقد عرفت ان أصالة الصحة من الأصول العقلائية السابقة على شريعة الإسلام فجريانها فيها مما لا مانع لها.
واما ما ادعى بعض أعاظم العصر رحمه الله بعد دعواه إجماعا بنحو الكبرى الكلية على أصالة الصحة في مطلق العمل وإجماعا آخر على خصوص العقود انه لا دليل على أصالة الصحة في العقود سوى الإجماع وليس لمعقده إطلاق يعم جميع الصور، والقدر المتيقن منه ما إذا كان الشك في تأثير العقد للنقل والانتقال بعد الفراغ عن سلطنة العاقد لإيجاد المعاملة من حيث نفسه ومن حيث المال المعقود عليه وبعبارة أوضح، أهلية العاقد لإيجاد المعاملة وقابلية المعقود عليه للنقل والانتقال انما يكون مأخوذا في عقد وضع أصالة الصحة فلا تجري الا بعد إحرازهما (انتهى).
ففيه أولا ان الدليل عليها هو بناء العقلاء مع عدم ورود ردع من الشارع لا الإجماع (وثانيا) بعد فرض الإجماع عليها في مطلق العمل بنحو الكبرى الكلية اللازم منه الأخذ بعموم معقده في جميع الموارد المشكوك فيها لا معنى لإجماع مستقل آخر على خصوص البيع بحيث يكون في مقابل الإجماع المتقدم وعلى فرضه لا يضر عدم إطلاق معقده بعموم معقد الإجماع الأول فيجب الأخذ به في جميع صور الشك في العقود، والإنصاف ان دعوى الإجماع أولا بنحو الكبرى الكلية وثانيا في خصوص العقود بنحو الإجمال ثم دعوى كون أهلية العاقد وقابلية المعقود عليه للنقل أخذا في عقد وضع أصالة الصحة كلها في غير محله، والتحقيق ما عرفت من جريانها في جميع الصور المشار إليها.
ثم انه يظهر من المحقق الثاني ان أصالة الصحة في العقود شيء، والظاهر أي ظهور حال المسلم أو الفاعل في إيجاد العقد صحيحا شيء آخر مستقل في قبال أصل الصحة
325

حيث قال في جواب ان قلت: قلنا ان الأصل في العقود الصحة بعد استكمال أركانها (إلى ان قال): وكذا الظاهر انما يتم مع الاستكمال المذكور لا مطلقا (انتهى).
وكذا يظهر من الشيخ الأعظم ارتضائه بذلك حيث أجاب عن أصالة الصحة مستقلا وعن الظاهر المدعى مستقلا من غير تعرض لعدم كونهما عنوانين مستقلين.
والتحقيق انه ليست أصالة الصحة أصلا مستقلا عقلائيا أو شرعيا وظهور حال المسلم أو الفاعل امرا مستقلا يدل على اعتباره دليل عقلائي أو شرعي بل الذي يكون مورد بناء العقلاء هو معاملة الصحة مع الفعل المشكوك فيه، واما ظهور حال الفاعل فيحتمل ان يكون مبنى هذا العمل كما انه يمكن ان يكون مبناه ما أشرنا إليه في الأمر المتقدم، فكونهما امرين مستقلين مما لا وجه له ولا دليل عليه.
هذا كله حال ما عدى الصورة الأخيرة المتقدمة، واما هي أي ما يكون الشك من ناحية جعل الشرط المفسد، فالكلام فيه انه قد يكون الاختلاف بين المتعاملين في جعل الشرط المفسد وعدمه فيدعى أحدهما اشتراط امر مجهول وينكر الاخر أصل الاشتراط، وقد يكون في جعله وجعل غيره بعد اتفاقهما في أصل الاشتراط فيدعى أحدهما اشتراط خياطة ثوب والاخر اشتراط خياطة ثوب معلوم. ثم انه قد يرجع اختلافهما إلى الأقل والأكثر وقد يرجع إلى المتباينين فعلى الأول قد يقال: انه يكون القول قول منكر أصل الاشتراط لأصالة عدم الاشتراط والشك في صحة العقد وفساده مسبب عن الشك في جعل الشرط المفسد لكن ذلك لو لم نقل بان أصالة الصحة أمارة عقلائية والا فلو جرت في المسبب يرفع موضوع السبب، ومنه يظهر الحال في الاشتراط الراجع إلى الأقل والأكثر، واما مع التباين كما ادعى أحدهما اشتراط خياطة الثوب المعلوم والاخر اشتراط شرب الخمر وقلنا بمفسدية الشرط الفاسد مطلقا فالمرجع بعد تساقط الأصلين أو مطلقا أصالة الصحة.
لا يقال ان أصالة عدم جعل الشرط من قبيل الاعدام الأزلية كأصالة عدم القرشية.
لأنا نقول إنشاء الشرط انما يوجد تدريجا بعد تحقق الإيجاب لكونه في ضمنه فقول البائع بعتك هذا من هذا وشرطت عليك كذا لما وجد تدريجا، يمكن ان يقال:
326

ان الإيجاب معلوم وإنشاء الشرط في ضمنه مشكوك فيه فيدفع بالأصل كاستصحاب عدم عروض المفسد للصلاة لكن في الاستصحاب في المقام سيما أصالة عدم الشرط في ضمن الإيجاب شبهة المثبتية وليس المقام مناسبا للتفصيل والغرض في المقام جريان أصالة الصحة مطلقا لا جريان أصل آخر.
ثم انه يظهر من عبارة المحقق الثاني المنقولة من كتاب الإجارة ان مورد أصالة الصحة انما يكون في ما شك في الشرط المفسد بعد إحراز سائر شرائط العقد، واما إذا شك في شيء مما هو معتبر في العقد أو المتعاقدين أو العوضين فلا مجال لأصالة الصحة لأن الأصل عدم السبب الناقل وهو كما ترى، ولعل ذلك مراده من استكمال الأركان لا الذي ذكرنا سابقا ثم ان تمسكه بأصالة عدم المفسد في عرض أصالة الصحة خلاف الصناعة كما ان إنكار الشيخ الأعظم جريان أصالة الصحة مطلقا محل منع.
في اختصاصها بما إذا شك في تحقق الشيء صحيحا
الأمر الرابع - لا إشكال في ان مورد جريان أصالة الصحة انما هو فيما إذا شك في ان العمل الكذائي هل وجد صحيحا أم فاسدا واما إذا شك في ترتب الأثر على فعل من جهة أخرى سوى الفساد فلا تجري أصالة الصحة لرفع هذا الشك كما انه لو شككنا في عروض البطلان على عمل بعد حدوثه صحيحا لا تنفع أصالة الصحة في بقاء صحته وعدم عروض البطلان عليه، فإذا شككنا في عقد محقق انه وجد صحيحا أو فاسدا تجري أصالة الصحة فيه سواء شك في شرائط العقد أو المتعاملين أو العوضين كما عرفت، واما إذا علم تحقق الإيجاب صحيحا وشك في تعقبه بالقبول أو علم بوجود عقد فضولي وشك في تعقبه بالإجازة فلا معنى لجريان أصالة الصحة لأن الشك لا يكون في فساد العقد أو فساد الإيجاب بل في تحقق الجزء المتمم له وليس القبول من شرائط صحة الإيجاب حتى يكون الشك في صحته بل الشك انما هو في أصل وجود العقد. وقد عرفت ان مجرى أصالة الصحة انما هو العقد بعد تحققه.
وكذا الحال في الشك في تعقب العقد الفضولي للإجازة لأن تعقبه بها ليس من
327

شرائط صحته حتى يكون مورد جريانها فالعقد بلا إجازة صحيح بمعنى انه إذا تعقبه إجازة يترتب عليه الآثار فصحته بهذا المعنى معلومة فالإجازة ليست من شرائط صحته بل من متممات أسباب النقل، وكذا التقابض في بيع الصرف والسلم ليس من شرائط صحة العقد بل من تمام أسباب النقل (نعم) لو تفرق المتعاملان قبله يعرضه البطلان وقد عرفت ان أصالة الصحة لا تتكفل عدم عروض البطلان على العمل فلو صلى صحيحا وشككنا في تعقب صلاته بالرياء بناء على إبطال الرياء المتأخر لا تجري أصالة الصحة لإحراز عدم الرياء أو لصحة الصلاة بل لا بد من التشبث بسائر القواعد والأصول، فأصالة الصحة لا تجري في الشك في عروض المبطل بعد وجود العمل صحيحا (نعم) تجري في الشك في عروض المبطل في الأثناء.
فتحصل مما ذكرنا ان جريان أصالة الصحة في كل شيء بحسبه كما ان صحة كل شيء بحسبه، فإذا شك في صحة الإيجاب من حيث كونه عربيا أو كونه بصيغة الماضي مثلا جرت أصالة الصحة فيه بمعنى انه يترتب الأثر عليه إذا تعقبه القبول الصحيح ولو بالأصل وكذا بالنسبة إلى القبول، واما إذا شك في تعقبه بالقبول أو شك في تحقق الإيجاب مع إحراز القبول فلا.
وكذا الحال فيما إذا شك في صحة العقد من جهة الشك في بلوغ أحد الطرفين وقلنا بعدم جريانها في فعل المشكوك في بلوغه وأردنا إجرائها بالنسبة إلى فعل البالغ وترتيب آثار العقد الصحيح بان يقال: ان صحة فعل البالغ تستلزم صحة فعل الطرف كما صرح به الشيخ وفرق بين ما إذا شك في صحة المعاملة من جهة كون أحد الطرفين بالغا وبين ما إذا شك في وجود الإيجاب أو القبول مع إحراز الاخر فأجري الأصل في الأول دون الثاني، وذلك لأن كون الظاهر من حال المسلم أو الفاعل العاقل البالغ عدم التصرف الباطل واللغو لو ينفع في ترتيب الأثر العقلي كما أفاد في الأمر الثاني، يكون بعينه جاريا فيما إذا شك في أصل الإيجاب مع إحراز القبول، فان القبول بلا إيجاب أيضا، لغو فإذا لم ينفع جريانها في صدور فعل من فاعل آخر لا ينفع في إثبات صحة فعل فاعل آخر فان صحة كل شيء بحسبه كما أفاد، فصحة الإيجاب لا يتوقف
328

على تعقبه بقبول من شخص بالغ كما لا يتوقف على صدور أصله منه، فالفرق بين الأمرين لا وجه معتد به له، والتفرقة بين ظهور الحال وأصالة الصحة قد عرفت حاله مع ان ظهور الحال في المقامين على السواء.
والتحقيق: انه على فرض عدم جريان الأصل مع الشك في البلوغ لا يفيد الأصل في المقامين.
ثم انه قدس سره جعل من مصاديق ما عنون في الأمر الثالث ما لو ادعى بائع الوقف وجود المصحح له، بل جعله أولى بعدم الجريان فيه، وقال: وأولى بعدم الجريان ما لو كان العقد في نفسه لو خلى وطبعه مبنيا على الفساد بحيث يكون المصحح طارئا عليه كما لو ادعى بائع الوقف وجود المصحح له وكذا الراهن أو المشتري من الفضولي إجازة المرتهن والمالك (انتهى).
وأنت خبير بان بيع الوقف مع الشك في عروض المصحح له ليس من قبيل ما نحن فيه لأن الشك فيه انما هو في الصحة والفساد أي في ان البيع هل وقع صحيحا حين حدوثه أو فاسدا، ومنشأ الشك هو الشك في عروض المصحح له وعدمه فان بيع الوقف مع عدم عروض المسوغ له يقع باطلا لا صحيحا تأهليا كبيع الفضولي والراهن فمسألة بيع الوقف داخلة في الأمر السابق مما يكون الشك في قابلية العوض للنقل، وقد عرفت ان
أصالة الصحة جارية في مثله.
واختار السيد الطباطبائي في ملحقات عروته عدم جريان الأصل فيما إذا شك في صحة بيع الناظر أو الموقوف عليه من جهة الشك في عروض المسوغ له قال: فلو لم يثبت المسوغ يجوز للبطون اللاحقة الانتزاع من يد المشتري فهو كما لو باع شخص مال غيره مع عدم كونه في يده ولم يعلم كونه وكيلا منه ودعوى الموقوف عليه أو الناظر وجود المسوغ لا تكفي في الحكم بالصحة ولا يجوز مع عدم العلم به الشراء منهما لأن يدهما ليس كيد الدلال المدعى للوكالة فان يده مستقلة ويدهما غير مستقلة لأنها في الحقيقة يد الوقف المفروض عدم جواز بيعه فيدهما انما تنفع في كيفية التصرفات التي هي مقتضى الوقف لا في مثل البيع الذي هو مناف ومبطل له فهي نظير يد الودعي
329

التي لا تنفع الا في الحفظ لا في البيع، فإذا ادعى الوكالة احتاج إلى الإثبات وان يد الأمانة صارت يد الوكالة والا فالأصل بقائها على ما كانت عليه (انتهى ملخصا).
وفيه ان كون بيعه كبيع مال الغير مع عدم اليد ممنوع لأن يد الناظر والموقوف عليه إذا كان وليا للأمر يد معتبرة عند العقلاء ودعواهما مسموعة فكيف تكون كلا يد، ودعوى كونها غير مستقلة ممنوعة، بل يد هما مستقلة ما دام كون الوقف بحاله يجب عليهما حفظه وأنحاء التصرفات التي مربوطة به وبالانتفاع منه على الوجه المشروع وإذا احتاج إلى التغيير والتبديل مع عروض المسوغ له يكون لهما الولاية على ذلك.
وما ذكره من ان يدهما في الحقيقة يد الوقف (إلخ) مما لا محصل له لعدم اعتبار اليد للوقف على الملك الموقوف عرفا ولو فرض كون يدهما يد الوقف ولا تكون الا لحفظه لا لإبطاله فمع عروض المسوغ لا يجوز لهما البيع لصيرورتهما أجنبيا وهو كما ترى، ولو كان المراد من كون اليد يد الوقف انها يد على المال الموقوف فهو من قبيل المصادرة، ومن ذلك يعلم ان تنظير يدهما بيد الودعي في غير محله.
لا يقال ان الشك في الصحة والفساد في بيع الوقف مسبب عن الشك في عروض المسوغ فأصالة عدمه حاكمة على أصالة الصحة.
فإنه يقال قد عرفت ان مبنى أصالة الصحة هو بناء العقلاء فحينئذ لو قلنا بأنها أمارة عقلائية مبناها ترجيح الغلبة وإلقاء احتمال الخلاف فالأمارة القائمة على المسبب تكون رافعة لموضوع الأصل السببي لأن الأمارة على اللازم أمارة على الملزوم وهل يكون تقدمها عليه على نحو الحكومة أو الورود أو الخروج موضوعا قد سبق الكلام في أمثاله في بابه، ولو قلنا بأنها أصل عقلائي مبناها تقنين أرباب النفوذ في أوائل تمدن البشر لرغدة العيش ثم صارت ارتكازية فلازم ذلك ان يكون الاستصحاب رادعا لأصالة الصحة الجارية في المسبب فلو كان رادعا في مورد يكون رادعا مطلقا وهو كما ترى، وقد عرفت في بعض المباحث السالفة ان الأدلة العامة غير صالحة لردع العقلاء عن ارتكازاتهم خصوصا في مثل هذا الأمر الذي يكون قطب رحى التمدن ولولاه لم يقم للمسلمين سوق، وسيأتي تتمة لذلك
330

عند تعرض الشيخ له إن شاء الله.
في ان جريان أصالة الصحة بعد إحراز نفس العمل
الأمر الخامس قد أشرنا سابقا إلى ان جريان أصالة الصحة انما هو بعد إحراز نفس العمل لأن الشك في صحة الشيء وفساده فرع وجوده، لا أقول: ان جريانها موقوف على الفراغ من العمل لأنها جارية في أثنائه بل وقبله لو كان منشئا للأثر إذا علم انه سيوجد وشك في إيجاده في موطنه صحيحا أو فاسدا، بل أقول: ان جريانها متأخر عن إحراز نفس العمل في موطنه فلو شك في وجود العمل في موطنه لا يكون مجرى الأصل فإذا شك في ان الآتي بصورة الصلاة يأتي بها أو يأتي بصورتها لغرض آخر لا تجري أصالة الصحة لإحراز كونها صلاة. وكذا الحال في باب العقود والإيقاعات مع الشك في قصد عناوينها، فلو قال: بعت وشك في استعماله في المعنى الإنشائي أو الاخباري لا تحرز أصالة الصحة نحو استعماله (نعم) قد يكون في بعض الموارد أصول عقلائية تحرز موضوع أصالة الصحة، فلو اختلف المتعاقدان فادعى أحدهما عدم قصده للإنشاء أو عدم الجد فيه لا يكون مبنى إحراز قصده وجده هو أصل الصحة لأن الشك ليس في الصحة والفساد، ولو كانت الأصول العقلائية الاخر محرزة لأمثالهما لا ربط لها بأصالة الصحة (نعم) بعد إحراز عنوان العمل لو شك في صحته تكون أصالة الصحة محرزة لها.
ومما ذكرنا يتضح حال فعل النائب، فان الشك فيه قد يكون من جهة الشك في إتيانه وقد يكون من جهة الشك في قصده النيابة، وقد يكون من جهة الإخلال بشيء معتبر فيه، فان كان من الجهتين الأولتين فلا إشكال في عدم إحرازهما بأصالة الصحة لعدم الشك في الصحة والفساد فلا بد من إحرازهما بأمر آخر، فهل يقبل قول النائب أم لا؟ فيه وجهان، واما بعد إحراز إيجاد النائب العمل النيابي إذا شك في صحته فلا إشكال في جريان أصالة الصحة من غير فرق بينه وبين ساير الأعمال لأنه فعل صادر من عاقل شك في صحته وفساده وهو موضوع بناء العقلاء.
واما ما أفاده الشيخ الأنصاري من ان لفعل النائب عنوانين: (أحدهما) من حيث
331

انه فعل من أفعاله (وثانيهما) من حيث انه فعل المنوب عنه ولا جريان لأصالة الصحة من هذه الحيثية لأن سقوط التكليف عن المنوب عنه بفعل النائب باعتبار انه فعله لا فعل النائب فلا بد من إحراز الفعل الصحيح عنه ففيه إشكال لا بد من بيان كيفية اعتبار النيابة لدى العقلاء حتى يتضح الأمر، ولا بأس بالإشارة إجمالا إلى اعتبار الوكالة والولاية أيضا.
فنقول: الوكالة لدى العقلاء عبارة عن تفويض الأمر إلى شخص وإيكاله إليه فالفعل باعتبار انه فعل صادر من الوكيل نافذ في حق الموكل لأنه جعله سلطانا عليه فنفوذه عليه باعتبار اذنه وإيكاله الأمر إليه لا باعتبار انه فعل صادر من الموكل لعدم صدوره منه ونسبة الفعل إليه يكون بالتجوز والتوسع.
والولاية عبارة عن نحو سلطنة تكون دائرتها بالنسبة إلى مواردها مختلفة سعة وضيقا، أو امر وضعي لازمه تلك السلطنة، فالولي على الصغير هو السلطان عليه يتصرف في أموره بما هو صلاحه والولي على البلد هو المتصرف فيه بما هو صلاحه ومقتضى سياسته، والولي من قبل الله على الناس هو السلطان عليهم يتصرف فيهم بما هو صلاحهم وبما هو مقتضى السياسة الدينية والدنيوية فالولاية عبارة عن امر وضعي اعتباري لدى العقلاء يتبعها جواز التصرف في حيطتها، فالفعل الصادر من الولي والوالي باعتبار انه فعل صادر من السلطان نافذ على المسلط عليه والمولى عليه، لا باعتبار انه فعله أو بإذنه.
والنيابة عبارة عن قيام شخص مقام شخص آخر في نوع من الأفعال يكون حقها مباشرة المنوب عنه لدى الاختيار، كما لو قام مجلس سلام عام للسلطان تكون وظيفة أركان دولته وشرفاء مملكته الحضور فيه لمراسم السلام واتفق عذر لبعضهم فأرسل شخصا مناسبا لمقام السلطنة قائما مقامه ونائبا منابه في تشريفات السلام فإنه يعد لدى العقلاء مرتبة من حضوره بوجوده التنزيلي ويصير لدى السلطان مقربا ويكون ذاك العمل عند العذر
مقبولا منه.
فالوكالة تكون في العقود والإيقاعات مما لا يكون لخصوص المباشر دخالة في تحققه ولا تكون في العبادات كما لا يقبل مجلس السلام الوكالة، والنيابة تكون في مثل العبادات التي بمنزلة الحضور في مجلس السلطان فلا يجوز الوكالة في الحج والصلاة
332

لأن الإتيان بالعبادات ليس من شؤون سلطنة الشخص ونفوذه بل من قبيل الحضور في مجلس السلطان فالنيابة ليست من قبيل تفويض الأمر بل من قبيل الإطاعة بالوجود التنزيلي، فالفعل الصادر من النائب باعتبار كونه وجودا تنزيليا للمنوب عنه ولو بالتوسع موجب لحصول القرب لدى المولى لا بما ان الفعل فعله، بل بما انه صادر ممن كان نازلا منزلته.
فاتضح مما ذكرنا انه لا إشكال في جريان أصالة الصحة فيما إذا شك في الصحة والفساد بعد إحراز نفس العمل بعنوانه في فعل الوكيل والولي لأنه فعلهما ونفوذه في الموكل باعتبار اذنه وإيكال الأمر إليه وفي المولى عليه باعتبار نحو سلطنة عليه، وكذا الحال في النائب، لأن النيابة وان كان اعتبارها غيرهما لكن لا إشكال في ان الفعل صادر من النائب حقيقة وباعتبار صدوره منه وقيامه مقام المنوب عنه يسقط عنه.
فما ادعى الشيخ من ان فعله لما كان فعلا له يسقط عنه فكأنه قال: لا تجري أصالة الصحة الا في فعل الغير وفعل النائب ليس كذلك (ففيه) ان كون الفعل فعل الغير واضح، ومجرد انه يعد مرتبة من فعل المنوب عنه بالتوسع لا يوجب عدم جريان الأصل فيه مع ان التفكيك بين الحيثيتين كما أفاده رحمه الله كما ترى، فان النيابة ان اقتضت ان يكون الفعل الصادر من النائب فعل المنوب عنه ويكون النائب بما انه نائب غير مستقل في الفاعلية فلا يكون له جهة فاعلية ولا لفعله جهة صدور منه وان اقتضت ان يكون الفعل الصادر من النائب موجبا لسقوطه منه لكونه وجودا تنزيليا له توسعا ويكون فعله بوجه من التوسع فعله فلا وجه لعدم جريان الأصل في فعله.
وبالجملة لا يمكن ان يقال: ان الواقف بالعرفات والمشعر والمطوف بالبيت العتيق والمصلى خلف مقام إبراهيم عليه السلام ليس النائب بل هذه الأفعال المريض المزمن في بلده فلا تجري فيها أصالة الصحة باعتبار انها فعله لا فعل الغير فتفكيك الجهتين مما لا يساعد عليه الاعتبار، بل يكون اعتبار النيابة بما ذكره من صيرورة الفعل بعد قصد النيابة والبدلية قائما بالمنوب عنه لكون الفاعل آلة له مع كونه فعلا من افعال النائب نفسه لا المنوب عنه متنافيين كما لا يخفى.
333

واما لزوم مراعاة النائب تكليف نفسه في بعض الجهات كالجهر والإخفات والستر ومراعاة تكليف المنوب عنه في نوع التكليف مثل القصر والإتمام، والقرآن والتمتع، فليس من أجل انه روعي في الفعل جهتان جهة النيابة وجهة اللا نيابة، فإنه لا وجه لاعتبار اللا نيابة في الفعل الصادر من النائب بما انه نائب بل لأجل انه استنيب لقيامه مقام المنوب عنه فيما يجب عليه، فإذا كان عليه حج التمتع وصلاة التمام لا معنى للإتيان بغيرهما مما لا يكون نائبا فيه ومراعاة تكليف نفسه في الشرائط والموانع لأجل ان الفعل فعله لا فعل المنوب عنه كما تقدم فلا بد من مراعاة ما اشترط عليه (فتحصل مما ذكرنا) ان جريان أصالة الصحة في فعل النائب فيما يكون الشك في الصحة مما لا مانع منه ولا يعتبر فيه عدالة النائب من هذه الحيثية، واعتبارها من حيثية أخرى على فرضه غير مربوط بما نحن بصدده.
في عدم حجية مثبتات أصالة الصحة
الأمر السادس - لا إشكال في عدم حجية مثبتات أصالة الصحة لعدم الدليل عليها لأن بناء العقلاء الذي هو العمدة في الباب غير ثابت بالنسبة إليها فالثابت من بنائهم ليس الا ترتيب آثار صحة الفعل فإذا شك في صحة صلاة من جهة الشك في الطهارة يترتب عليها آثار الصحة فيقتدي بها لكن لا يثبت بها كون المصلى على وضوء أو غسل فلا مانع من إجراء استصحاب الحدث لو كان له أثر، وكذا لو شك في ان الشراء الصادر من الغير كان بما لا يملك أو بعين من أعيان ماله يحكم بصحة الشراء وتملك المشتري المبيع ولا يثبت بذلك تعلق البيع على شيء من أعيان ماله ويجري استصحاب بقاء الأعيان على ملكه ولا إشكال فيه من جهة التفكيك في الآثار ظاهرا وهو ليس بعزيز خصوصا في كتاب القضاء وكيفية تشخيص المدعى والمنكر فراجع.
فالإشكال على الشيخ الأعظم من ان جريان أصالة الصحة مستلزم للحكم بدخول المبيع في ملك المشتري من دون ان يدخل في ملك البائع ما يقابله، وهو كما ترى ليس بشيء إذا اقتضت الأصول في مقام الظاهر كما التزم المستشكل (1) في قاعدة التجاوز

(1) هو المحقق النائيني رحمه الله.
334

مع كونها من الأصول المحرزة عنده، وبالجملة لا إشكال من هذه الجهة (نعم) قد يحصل علم إجمالي في بعض المقامات وهو غير مربوط بما نحن فيه.
فتحصل مما ذكرنا ان مثبتات أصل الصحة ليست بحجة لعدم بناء العقلاء الا على معاملة الصحة مع العمل الصادر من الفاعل واما ترتيب آثار اللوازم فلا، ولا فرق في بناء العقلاء بين اللوازم والآثار الشرعية وغيرها من العقلية والعادية لكن ترتيب الآثار الشرعية ولو مع الواسطة ليس لأجل بناء العقلاء، ولا لإطلاق دليل الأصل أو قيام الإجماع عليه دون غيرها، لعدم الفرق لدى العقلاء، بين لازم ولازم، وليس دليل لفظي يؤخذ بإطلاقه، ولا إجماع في الباب بل لأجل ما ذكرنا في مبحث مثبتات الاستصحاب من ان دليله لا يتكفل الا لإحراز موضوع كبرى شرعية فتنطبق عليه الكبرى وإذا كانت الآثار الشرعية مترتبة يكون كل كبرى سابقة محرزة لموضوع كبرى لا حقه، ففي ما نحن فيه أيضا لا تتكفل أصالة الصحة الا صحة نفس العمل فإذا انسلك تحت كبرى شرعية يترتب عليه الأثر.
فأصالة الصحة في الطلاق مثلا لا تثبت بها الا صحة الطلاق لكن إذا صح الطلاق تنسلك المرأة في قوله: «والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء» فإذا خرجت من العدة تنطبق عليها كبرى شرعية أخرى وهكذا، وهذا التفكيك بين اللوازم الشرعية وغيرها في باب أصالة الصحة مما لا إطلاق دليل فيه ويكون الدليل عليه هو البناء العقلائي مما يؤيد ويؤكد ما ذكرنا في الاستصحاب في وجه ترتيب الآثار الشرعية ولو بألف واسطة دون غيرها فتدبر جيدا.
حول موارد تقدم أصالة الصحة على الاستصحاب ووجهه
الأمر السابع لا إشكال في تقدم أصالة الصحة على استصحاب عدم الانتقال وأمثاله إذا لم يكن في البين أصل موضوعي، واما معه فقد وقع الكلام فيه وكذا وقع الكلام في وجه تقدمها عليه هل هو الحكومة أو التخصيص أو غيرهما؟ والتحقيق انك قد عرفت أن مبنى حجيتها كان بناء العقلاء كما مر مرارا ولا تكون
335

مما انفرد بحجيتها شريعة الإسلام بل ولا ساير الشرائع (وما يتوهم) ان الصحة والفساد لا تكونان بين العقلاء بل هما من الوضعيات الشرعية ففي غاية السقوط لأن الصحة ليست الا اعتبارا من الاعتبارات الوضعية العقلائية يتداول الصحة والفساد بينهم كانوا منتحلين بشريعة أولا (الا ترى) ان أحدا لو سرق مال غيره وباع فاطلع
عليه الحاكم العرفي الغير المنتحل بدين يأخذ العين من المشتري ويردها إلى مالكه ويأخذ الثمن من السارق ويرده إلى مالكه، وليس ذلك الا لحكمه بفساد المعاملة، بخلاف ما لو وقعت المعاملة بين المالكين وليست الصحة والفساد الا ذلك.
وكذا نرى ان لكل قوم نكاحا بقواعد مرسومة بينهم ولو في الطوائف الوحشية ويكون الزنا والنكاح بين جميع الطوائف مختلفين ونكاح امرأة الغير باطل لدى غير المنتحلين بديانة أيضا «نعم» يكون قانون الزواج مختلفا بين الطوائف المختلفة لكن مع اختلافه يكون النكاح الصحيح ما طابق القانون والباطل ما خالفه فتكون الصحة والفساد من الأحكام العقلائية كأصالة الصحة وشريعة الإسلام على صادعها السلام قد بدأت في زمان كانت الصحة والفساد وأصالة الصحة رائجة بينهم.
إذا عرفت ذلك فاعلم: ان اللائق بالبحث هاهنا ان دليل الاستصحاب وهو قوله: «لا ينقض اليقين بالشك» هل يصلح ان يكون رادعا لبناء العقلاء على العمل بأصالة الصحة أم لا؟ وقد أشرنا سابقا إلى عدم صلوح مثله للرادعية، فالعمدة هو ملاحظة نطاق دائرة بناء العقلاء فقد عرفته في بعض الأمور السالفة، فتقدم أصالة الصحة ليس من أجل التعارض بينها وبينه بدوا والتقدم بحكومة أو تخصيص أو غيرهما، بل تكون أدلة الاستصحاب غير صالحة للردع عن بناء العقلاء فيما تحقق بنائهم لأنهم في العمل على أصالة الصحة وترتيب آثار الصحة على المعاملات والعبادات ارتكازا لا يرون أنفسهم شاكين، لا أقول: انهم قاطعون، فإنه خلاف الضرورة، بل أقول: انهم يكونون غافلي الذهن عن ان ترتيب آثار الصحة عمل بالشك فلا بد من صرفهم عن بنائهم من دليل صريح يردعهم عنه، ولا يصلح مجرد إطلاق قوله: «لا ينقض اليقين بالشك» للردع عن طريقتهم المألوفة ولهذا لم تكن هذه الكبريات الملقاة من الأئمة إلى أصحابهم موجبة
336

لانقداح مثل ذلك في أذهانهم والا كانوا يسألون عنه مع انهم كانوا يعملون على أصالة الصحة ليلا ونهارا مع ورود مثل هذه الكبريات وهذا واضح جدا لدى التأمل فإذا تكون أصالة الصحة خارجة عن نقض اليقين بالشك موضوعا لدى العقلاء فما أفادوا في المقام من حكومتها على الاستصحاب أو تخصيص دليل الأصل بها لعله في غير محله والحمد لله أولا وآخرا.
المبحث الرابع في حال الاستصحاب مع قاعدة القرعة
ولا بأس بتعرض بعض الجهات فيها حتى يتضح حالها وحاله معها ويتم ذلك في ضمن أمور:
الأول في ذكر نبذة من الاخبار الواردة فيها وعد بعض موارد ورد فيها النص بالخصوص.
فمن الاخبار العامة ما رواه الشيخ بإسناده عن محمد بن حكيم (1) قال سئلت أبا الحسن عن شيء فقال لي: «كل مجهول ففيه القرعة، قلت له: ان القرعة تخطئ وتصيب، قال:
كل ما حكم الله به فليس بمخطئ» ورواه الصدوق بطريقين صحيحين عنه، والظاهر انه الخثعمي الذي لا يخلو عن الحسن بل لا يبعد وثاقته لكونه صاحب الأصل ولكثرة نقل المشايخ بل أصحاب الإجماع عنه ولو كان فيها ضعف فهو منجبر باعتماد الأصحاب عليها.
قال الشيخ في النهاية: «وكل امر مشكل مجهول يشتبه الحكم فيه فينبغي ان تستعمل فيه القرعة لما روى عن أبي الحسن موسى وعن غيره من آبائه وأبنائه من قولهم: كل مجهول ففيه القرعة، وقلت له: ان القرعة تخطئ وتصيب، فقال: كل ما حكم الله به فليس بمخطئ» وهو كما ترى عين عبارة الحديث، والظاهر منه انه عثر على روايات اخر من ساير الأئمة عليهم السلام بهذا المضمون ولم نعثر عليها، ويمكن ان يكون نظره إلى ساير الروايات الواردة في

(1) راجع الوسائل - كتاب القضاء - الباب 13 - من أبواب كيفية الحكم واحكام الدعوى - الرواية 10 -
337

الأبواب المختلفة فاستفاد منها بإلغاء الخصوصية ان كل مجهول يشتبه فيه الحكم ففيه القرعة.
وعن الخلاف ان القرعة مذهبنا في كل امر مجهول، وادعى في كتاب الوسائل إجماع الفرقة على ان القرعة تستعمل في كل امر مجهول مشتبه، وعن الشهيد في القواعد ثبت عندنا قولهم: كل مجهول فيه القرعة.
يستفاد من كلام الشيخ في الخلاف ان الحكم بهذا العنوان مذهب الخاصة، ومن كلام الشهيد أن هذا الكلام ثابت عند الطائفة من أئمتهم مع عدم رواية بهذه العبارة عند الشهيد قطعا غير رواية محمد بن حكيم (وبالجملة) الرواية موثوق بها وليس في طرقنا ما يستفاد منه العموم غيرها وسيأتي حالها.
ومما يستفاد منه العموم ما روى من طرق العامة، ان القرعة لكل امر مشتبه وفي رواية «لكل امر مشكل» وعن الحلي دعوى الإجماع على ان كل مشكل فيه القرعة، ونقل عنه أيضا انه قال في باب سماع البينات: «وكل امر مشكل يشتبه فيه الحكم فينبغي ان تستعمل فيه القرعة لما روى عن الأئمة عليهم السلام وتواترت به الآثار وأجمعت عليه الشيعة الإمامية» ولعله عثر على روايات بهذا المضمون وان كان المظنون اصطياده الكلية من الموارد المختلفة.
وعن دعائم الإسلام (1) عن أمير المؤمنين وأبي جعفر وأبي عبد الله عليهم السلام انهم أوجبوا الحكم بالقرعة فيما أشكل قال أبو عبد الله عليه السلام: «وأي حكم في الملتبس أثبت من القرعة أليس هو التفويض إلى الله جل ذكره» ثم ذكر قصة يونس ومريم وعبد المطلب.
ويمكن استفادة الكلية في باب القضاء مما في المستدرك (2) عن الشيخ المفيد في الاختصاص بإسناده عن عبد الرحيم قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: ان عليا عليه السلام كان إذا ورد عليه امر لم يجئ فيه كتاب ولم تجر فيه سنة رجم فيه يعنى ساهم فأصاب ثم

(1) راجع المستدرك كتاب القضاء - الباب 11 - من أبواب كيفية الحكم واحكام الدعوى - الرواية 1 -
(2) كتاب القضاء - الباب 11 - من أبواب كيفية الحكم واحكام الدعوى - الرواية 14.
338

قال: يا عبد الرحيم وتلك من المعضلات.
ويمكن استفادة العموم في الجملة مما ورد في ذيل صحيحة أبي بصير برواية الصدوق (1) من قول النبي صلى الله عليه وآله: «ليس من قوم تقارعوا ثم فوضوا أمرهم إلى الله عز وجل إلا خرج سهم المحق وقريب منه ما عن أمير المؤمنين عليه صلوات الله في ذيل رواية العباس بن هلال (2) ومرسلة الصدوق عن الصادق عليه السلام (3) ومرسلة فقه الرضا (4) عنه عليه السلام قال: «أي قضية أعدل من القرعة إذا فوض الأمر إلى الله أليس الله تعالى يقول: فساهم

(1) راجع الوسائل - كتاب القضاء - الباب 13 - من أبواب كيفية الحكم واحكام الدعوى - الرواية 5 -
(2) والرواية هكذا - عن العباس بن هلال عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال:
ذكر ان ابن أبي ليلى وابن شبرمة دخلا المسجد الحرام فأتيا محمد بن علي عليهما السلام فقال لهما: بما تقضيان؟ فقالا بكتاب الله والسنة قال: فما لم تجداه في الكتاب والسنة، قالا نجتهد رأينا، قال: رأيكما أنتما؟ فما تقولان في امرأة وجاريتها كانتا ترضعان صبيين في بيت فسقط عليهما فماتتا وسلم الصبيان؟ قالا: القافة، قال: القافة يتجهم منه لهما قالا: فأخبرنا قال: لا قال ابن داود مولى له: جعلت فداك قد بلغني ان أمير المؤمنين عليه السلام قال: ما من قوم فوضوا أمرهم إلى الله عز وجل وألقوا سهامهم إلا خرج السهم الأصوب فسكت» راجع الوسائل - كتاب الميراث - الباب 4 - من أبواب ميراث الغرقى - الرواية 4 -
(3) والرواية هكذا قال: قال الصادق عليه السلام: «ما تنازع قوم ففوضوا أمرهم إلى الله عز وجل إلا خرج سهم المحق وقال: أي قضية أعدل من القرعة إذا فوض الأمر إلى الله أليس الله يقول: فساهم فكان من المدحضين» راجع الوسائل - كتاب القضاء - الباب 13 - من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى - الرواية 12 -
(4) راجع المستدرك - كتاب القضاء - الباب 11 - من أبواب كيفية الحكم واحكام الدعوى - الرواية 4 -
339

فكان من المدحضين» وكذا رواية أحمد البرقي (1).
واما الموارد التي ورد فيها النص فهي كثيرة:
منها فيما إذا تعارضت البينتان عند فقد المرجح ففي صحيحة داود بن سرحان برواية الصدوق عن أبي عبد الله في شاهدين شهدا على امر واحد فجاء آخران فشهدا على غير الذي شهدا عليه واختلفوا قال يقرع بينهم فأيهم قرع عليه اليمين فهو أولى بالقضاء (2) وفي صحيحة الحلبي (3) قريب منها الا ان في آخرها: «فهو أولى بالحق» بدل «أولى بالقضاء» وفي صحيحة البصري روايته (4) أيضا عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان علي عليه السلام إذا أتاه رجلان بشهود عدلهم سواء وعددهم أقرع بينهم على أيهما تصير اليمين (الحديث).
وهذه الطائفة عامة لكل قضية في باب القضايا المشكلة الواردة على القاضي إذا تعارضت البينات ولا ترجيح فيها أو لم يتهيأ فيه الإشهاد كما يدل عليه الفقه الرضوي.

(1) والرواية هكذا - عن أحمد بن محمد البرقي في المحاسن عن ابن محبوب عن جميل بن صالح عن منصور بن حازم قال: سأل بعض أصحابنا أبا عبد الله عليه السلام عن مسألة فقال: هذه تخرج في القرعة ثم قال: فأي قضية أعدل (الحديث) راجع الوسائل - كتاب القضاء - الباب 13 - من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى - الرواية 16 - وفي عدة روايات: أي قضية أعدل من قضية يجال عليها بالسهام ان الله تبارك وتعالى يقول إلخ - راجع الوسائل - كتاب الميراث - الباب 4 - من أبواب ميراث الخنثى - الرواية 1 - 3 - 4 -
(2) راجع الوسائل - كتاب القضاء - الباب 12 - من أبواب كيفية الحكم واحكام الدعوى - الرواية 6 -
(3) راجع الوسائل - كتاب القضاء - الباب 12 - من أبواب كيفية الحكم واحكام الدعوى - الرواية 11 -
(4) راجع الوسائل كتاب القضاء الرواية 5 - وروى الصدوق عن موسى بن القاسم البجلي وعلي بن الحكم عن عبد الرحمن ابن أبي عبد الله البصري قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: كان علي عليه السلام إذا أتاه رجلان يختصمان بشهود عدتهم سواء وعدالتهم سواء أقرع بينهما على أيها تصير اليمين (الحديث) راجع من لا يحضره الفقيه - باب الحكم بالقرعة (38) الرواية 9 - ج 3 - ص 53 - الطبعة الحديثة -
340

ومن الموارد الخاصة:
1 - قضية الإشهاد على الدابة كموثقة سماعة (1) عن أبي عبد الله عليه سلام الله قال ان رجلين اختصما إلى علي عليه الصلاة والسلام في دابة فزعم كل واحد منهما انها أنتجت على مذوده (2) وأقام كل واحد منهما بينة سواء في العدد فأقرع بينهما سهمين (الحديث) ومثلها غيرها.
2 - ومنها - الإشهاد بالإيداع على الظاهر وهي رواية زرارة (3) عن أبي جعفر قال قلت له: رجل شهد له رجلان بان له عند رجل خمسين درهما وجاء آخر ان فشهدا بان له عنده مائة درهم كلهم شهدوا في موقف، قال أقرع بينهم ثم استحلف الذين أصابهم القرع (الحديث).
3 - ومنها مورد اشتباه الولد بين العبد والحر والمشرك ففي صحيحة الحلبي (4) عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «إذا وقع الحر والعبد والمشرك على امرأة في طهر واحد وادعوا الولد أقرع بينهم وكان الولد للذي يقرع».
4 - ومنها الإشهاد على الزوجية (5)

(1) راجع الوسائل - كتاب القضاء - الباب 12 - من أبواب كيفية الحكم واحكام الدعوى - الرواية 12 -
(2) معتلف الدواب -
(3) راجع الوسائل - كتاب القضاء - الباب 12 - من أبواب كيفية الحكم واحكام الدعوى - الرواية 7 -
(4) راجع الوسائل - كتاب القضاء - الباب 13 - من أبواب كيفية الحكم واحكام الدعوى - الرواية 1 -
(5) عن محمد بن يعقوب الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن فضال عن داود ابن أبي يزيد العطار عن بعض رجاله عن أبي عبد الله عليه السلام في رجل كانت له امرأة فجاء رجل بشهود أن هذه المرأة مرأة فلان وجاء آخران فشهدا انها امرأة فلان فاعتدل الشهود وعدلوا فقال: «يقرع بينهم فمن خرج سهمه فهو المحق وهو أولى بها» راجع الوسائل - كتاب القضاء - الباب 12 - من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى - الرواية 8 -
341

5 - ومنها قضية الشاب الذي خرج أبوه مع جماعة ثم جاؤوا وشهدوا بموته (1).
6 - ومنها قضية الوصية بعتق ثلث العبيد (2).
7 - ومنها عتق ثلثهم (3).
8 - ومنها مورد الاشتباه بين الولد والعبد المحرر (4).

(1) في حكم أمير المؤمنين عليه السلام وفيه قضية داود النبي عليه السلام وفي آخره «ثم ان الفتى والقوم اختلفوا في مال الفتى كم كان؟ فأخذ أمير المؤمنين عليه السلام خاتمه وجميع خواتيم من عنده ثم قال: أجيلوا بهذه السهام فأيكم اخرج خاتمي فهو صادق في دعواه لأنه سهم الله وسهم الله لا يخيب» راجع مرآة العقول ص 221 -
(2) عن محمد بن الحسن بإسناده عن الحسين بن سعيد عن حماد عن حريز عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن الرجل يكون له المملوكون فيوصي بعتق ثلثهم، فقال: كان علي عليه السلام يسهم بينهم - وعنه عن فضالة عن أبان عن محمد بن مروان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ان أبي ترك ستين مملوكا فأقرعت بينهم فأخرجت عشرين فأعتقتهم - وعن الصدوق بإسناده عن محمد بن مروان مثله - راجع الوسائل - كتاب العتق - الباب 65 - الرواية 1 - 2 -
(3) وعن محمد بن علي بن الحسين بإسناده عن أبان بن عثمان عن محمد بن مروان عن الشيخ يعنى موسى بن جعفر عن أبيه عليهما السلام قال:
ان أبا جعفر مات وترك ستين مملوكا فأعتق ثلثهم فأقرعت بينهم وأعتقت الثلث - راجع الوسائل - كتاب الوصايا - الباب 75 - الرواية 1 -
(4) عن محمد بن الحسن بإسناده، عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن محمد بن عيسى، عن زكريا المؤمن، عن يونس، عن أبي حمزة الثمالي قال: ان رجلا حضرته الوفاة فأوصى إلى ولده غلامي يسار هو ابني فورثوه مثل ما يرث أحدكم وغلامي يسار فأعتقوه فهو حر، فذهبوا يسألونه أيما يعتق وأيما يورث فاعتقل لسانه قال: فسألوا الناس فلم يكن عند أحد جواب حتى أتوا أبا عبد الله عليه السلام فعرضوا المسألة عليه (إلى ان قال): تريدون أعلمكم امر الصغير؟ قال: فجعل عشرة أسهم للولد وعشرة أسهم للعبد فقال: ثم أسهم عشرة مرات، قال:
فوقعت على الصغير سهام الولد فقال: أعتقوا هذا وورثوا هذا - راجع الوسائل - كتاب الوصايا - الباب 43 - الرواية 1 -
342

9 - ومنها مورد الاشتباه بين صبيين أحدهما حر والاخر مملوك (1).
10 - ومنها مورد الخنثى المشكل (2).
11 - ومنها مورد عتق أول مملوك (3).
12 - ومنها مورد اشتباه المعتق بغيره (4)

(1) - عن محمد بن الحسن بإسناده عن حماد عن المختار قال: دخل أبو حنيفة على أبي عبد الله عليه السلام فقال له أبو عبد الله عليه السلام ما تقول في بيت سقط على قوم فبقي منهم صبيان أحدهما حر والاخر مملوك لصاحبه فلم يعرف الحر من العبد فقال أبو حنيفة: يعتق نصف هذا ونصف هذا فقال أبو عبد الله عليه السلام: ليس كذلك ولكنه يقرع بينهما فمن اصابته القرعة فهو الحر ويعتق هذا فيجعل مولى لهذا - راجع الوسائل كتاب القضاء - الباب 13 - من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى - الرواية 6 -
(2) عن محمد بن يعقوب الكليني عن عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد وعن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد جميعا، عن ابن محبوب، عن علي بن رئاب، عن الفضيل بن يسار قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن مولود ليس له ما للرجال ولا له ما للنساء قال: يقرع عليه الإمام أو المقرع يكتب على سهم عبد الله وعلى سهم أمة الله (إلى ان قال): ثم تطرح السهام (السهمان) في سهام مبهمة ثم تجال السهام على ما خرج ورث عليه - وقريب منها عدة روايات أخرى - راجع الوسائل - كتاب الميراث - الباب 4 - من أبواب ميراث الخنثى -
(3) محمد بن الحسن بإسناده، عن الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن حماد، عن الحلبي، عن أبي عبد الله عليه السلام في رجل قال: أول مملوك أملكه فهو حر فورث سبعة جميعا، قال: يقرع بينهم ويعتق الذي قرع - وعنه عن فضالة، عن أبان، عن عبد الله بن سليمان قال: سألته عن رجل قال: أول مملوك أملكه فهو حر فلم يلبث ان ملك ستة، أيهم يعتق؟ قال:
يقرع بينهم ثم يعتق واحدا (الحديث) راجع الوسائل كتاب العتق - الباب 57 - الرواية 1 - 2 - وقريب منهما رواية أخرى أوردها في الوسائل - كتاب القضاء - الباب 13 - من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى - الرواية 2 - فراجع -
(4) عن محمد بن يعقوب، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن إسماعيل بن مرار، عن
يونس قال في رجل كان له عدة مماليك فقال: أيكم علمني آية من كتاب الله فهو حر، فعلمه واحد منهم ثم مات المولى ولم يدر أيهم الذي علمه انه قال: يستخرج بالقرعة قال: ولا يستخرجه الا الإمام لأن له على القرعة كلاما ودعاء لا يعلمه غيره» وعن الشيخ بإسناده عن محمد ابن يعقوب مثله - راجع الوسائل - كتاب العتق - الباب 34 - الرواية 1 -
343

13 - ومنها مورد عتق عبيد في مرض الموت ولا مال له (1).
14 - ومنها مورد اشتباه الغنم الموطوءة (2).
15 - ومنها مورد قسمة أمير المؤمنين عليه السلام المال الذي أتى من أصفهان المذكور في كتاب الجهاد (3).

(1) روى ان رجلا من الأنصار أعتق ستة أعبد في مرض موته ولا مال له غيرهم فلما رفعت القضية إلى رسول الله صلى الله عليه وآله قسمهم بالتعديل وأقرع بينهم وأعتق اثنين بالقرعة - أوردها المحقق النراقي في عوائده فراجع -
(2) عن محمد بن الحسن بإسناده، عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن محمد بن عيسى، عن الرجل عليه السلام انه سئل عن رجل نظر إلى راع نزا على شاة، قال: ان عرفها ذبحها وأحرقها وان لم يعرفها قسمها نصفين أبدا حتى يقع السهم بها فتذبح وتحرق وقد نجت سائرها - وعن الحسن بن علي بن شعبة في تحف العقول عن أبي الحسن الثالث عليه السلام في جواب مسائل يحيى بن أكثم قال: واما الرجل الناظر إلى الراعي وقد نزا على شاة فان عرفها ذبحها وأحرقها وان لم يعرفها قسم الغنم نصفين وساهم بينهما فإذا وقع على أحد النصفين فقد نجا النصف الاخر ثم يفرق النصف الاخر فلا يزال كذلك حتى يبقى شاتان فيقرع بينهما فأيهما وقع السهم بها ذبحت وأحرقت ونجا ساير الغنم - راجع الوسائل - كتاب الأطعمة والأشربة - الباب 30 - من أبواب الأطعمة المحرمة - الرواية 1 - 4 -
(3) عن إبراهيم بن محمد الثقفي في كتاب الغارات عن ابن الأصفهاني عن شفيق بن عتيبة عن عاصم بن كليب عن أبيه قال: أتى عليا عليه السلام مال من أصفهان فقسمه فوجد فيه رغيفا فكسره سبع كسر ثم جعل على كل جزء منه كسرة ثم دعا أمراء الأسباع فأقرع بينهم أيهم يعطيه أولا وكانت الكوفة يومئذ أسباعا - راجع الوسائل - كتاب الجهاد - الباب 41 - من أبواب جهاد العدو - الرواية 11 - وقريب منها رواية أخرى في هذا الباب فراجع -
344

16 - ومنها قضية مساهمة رسول الله صلى الله عليه وآله قريشا في بناء البيت (1).
17 - ومنها استعلام موسى النمام بالقرعة بتعليم الله تعالى (2).
18 - ومنها مساهمة رسول الله صلى الله عليه وآله بين أزواجه إذا أراد سفرا (3).
19 - ومنها اقتراعه صلى الله عليه وآله بين أهل الصفة للبعث إلى غزوة ذات السلاسل (4).
20 - ومنها اقتراعه في غنائم حنين (5).
21 - ومنها اقتراع بنى يعقوب ليخرج على واحد فيحبسه يوسف عنده (6)

(1) عن الكليني عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن داود بن سرحان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ان رسول الله صلى الله عليه وآله ساهم قريشا في بناء البيت فصار لرسول الله صلى الله عليه وآله من باب الكعبة إلى النصف ما بين الركن اليماني إلى الحجر الأسود - وفي رواية أخرى كان لبني هاشم من الحجر الأسود إلى الركن الشامي - راجع المستدرك - كتاب القضاء - الباب 11 - من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى - الرواية 10 -
(2) عن أحمد بن محمد بن عيسى في نوادره عن عثمان بن عيسى، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ان الله تبارك وتعالى أوحى إلى موسى عليه السلام ان بعض أصحابك ينم عليك فاحذره فقال: يا رب لا أعرفه أخبرني حتى أعرفه فقال: يا موسى عبت عليه النميمة وتكلفني ان أكون نماما فقال: يا رب وكيف اصنع قال الله تعالى: فرق أصحابك عشرة عشرة ثم تقرع بينهم فان السهم يقع على العشرة التي هو فيهم ثم تفرقهم وتقرع بينهم فان السهم يقع عليه قال: فلما رأى الرجل ان السهام تقرع قام فقال يا رسول الله انا صاحبك لا والله لا أعود - راجع المصدر المذكور آنفا - الرواية 5 -
(3) عن الشيخ المفيد في الاختصاص عن أبي كيسة ويزيد بن رومان قال: لما اجتمعت عائشة على الخروج إلى البصرة أتت أم سلمة رضي الله عنها (إلى ان قال): قالت لها: أتذكرين إذ كان رسول الله صلى الله عليه وآله يقرع بين نسائه إذا أراد سفرا فأقرع بينهن فخرج سهمي وسهمك (الخبر) - راجع المصدر المذكور آنفا - الرواية 13 -
(4) و (5) و (6) وقد تركنا نقل القضايا الثلاثة روما للاختصار.
345

إلى غير ذلك مما يطلع عليه المتتبع.
الأمر الثاني وهو أهم الأمور في هذا الباب
ولا بد من بسط الكلام في تحقيقه لترتب الثمرات الكثيرة العملية عليه وهو انه قد اشتهر في السنة المتأخرين ان عمومات القرعة قد وردت عليها تخصيصات كثيرة بالغة حد الاستهجان فيستكشف منه انها كانت محفوفة بقرائن وقيود لم تصل إلينا فلا يجوز التمسك بها الا في موارد عمل الأصحاب على طبقها وهذا مساوق لسقوط العمومات عن الحجية تقريبا، وقد ظهر لي بعد الفحص الأكيد عن أقوال الفقهاء والتأمل التام في الاخبار الواردة في الموارد المتقدمة غير ذلك.
ومحصل الكلام انه لا إشكال في بناء العقلاء على العمل بالقرعة في موارد تزاحم الحقوق مع عدم الترجيح عندهم سواء كان لها واقع معلوم عند الله أولا (وبالجملة) القرعة لدى العقلاء أحد طرق فصل الخصومة لكن في مورد لا يكون ترجيح في البين ولا طريق لإحراز الواقع.
ويشهد لما ذكرنا مضافا إلى وضوحه: قضية مساهمة أصحاب السفينة التي فيها يونس فعلى نقل كانت المقارعة من قبيل الأول والعثور على العبد الآبق وعلى نقل كانت من قبيل الثاني لأنهم أشرفوا على الغرق فرأوا طرح واحد منهم لنجاة الباقين (1) وهذا أقرب إلى الاعتبار، ومعلوم ان مساهمتهم لم تكن لدليل شرعي بل لبناء عملي عقلائي بعد عدم الترجيح بينهم بنظرهم، وقضية مساهمة أحبار بيت المقدس (2) لتكفل مريم عليها السلام كما أخبر بها الله تعالى إذ قال: «وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون» (3) تدل على ان العقلاء بحسب ارتكازهم يتشبثون بالقرعة عند الاختصام وعدم الترجيح، وهذه من قبيل الثاني كما ان

(1) راجع الوسائل - كتاب القضاء - الباب 13 - من أبواب كيفية الحكم واحكام الدعوى - والمستدرك الباب 11 -
(2) راجع المصدر المذكور آنفا -
(3) سورة آل عمران - الآية 39 -
346

غالب المقارعات العقلائية لعلها من هذا القبيل كالمقارعات المتداولة في هذا العصر.
وكذا يشهد لتعارفها قضية مقارعة بنى يعقوب ومقارعة رسول الله صلى الله عليه وآله قريشا في بناء البيت، بل مقارعته بين نسائه، فان الظاهر انها كانت من جهة الأمر العقلائي لا الحكم الشرعي.
وبالجملة لا إشكال في معروفية القرعة لدى العقلاء من زمن قديم كما انه لا إشكال في انها لا تكون عندهم في كل مشتبه ومجهول بل تتداول لدى التنازع أو تزاحم الحقوق فقط كما انه لا إشكال في انها ليست طريقا عقلائيا إلى الواقع ولا كاشفا عن المجهول بل يستعملها العقلاء لمحض رفع النزاع والخصام وحصول الأولوية بنفس القرعة، ضرورة انها ليس لها جهة كاشفية وطريقية إلى الواقع كاليد وخبر الثقة فكما انها في الموارد التي ليس لها واقع كتقسيم الإرث والأموال المشتركة انما هي لتمييز الحقوق بنفس القرعة لدى العقلاء كذا في الموارد التي لها واقع مجهول لديهم ليست المقارعة لتحصيل الواقع وكشف الحقيقة بل لرفع الخصام والتنازع وهذا واضح.
إذا عرفت ذلك فاعلم ان المتتبع في الموارد المتقدمة التي وردت فيها الاخبار الخاصة وكذا المتأمل في كلمات الأصحاب في الموارد التي حكموا بالقرعة يحصل له القطع بان مصب القرعة في الشريعة ليس الا ما لدى العقلاء طابق النعل بالنعل، فان الروايات على كثرتها بل تواترها - باستثناء مورد واحد سيأتي الكلام فيه - انما وردت في موارد تزاحم الحقوق سواء أكان لها واقع معلوم عند الله مجهول لدى الخصمين أولا، اما مورد تعارض البينات والدعاوي كالإشهاد على الدابة، والإيداع والاختلاف في الولد والزوجة فمعلوم، واما موارد الوصية بعتق ثلث العبيد أو عتق أول مملوك وأمثالهما فهو أيضا واضح، لأن العبيد كلهم سواء في التمتع بالحرية فتزاحم حقوقهم وحيث لا ترجيح في البين يقرع بينهم، وكذا الحال في الخنثى المشكل وغيرها من
الموارد (وبالجملة) ليس في جميع الموارد المنصوصة الا ما هو الأمر العقلائي.
نعم يبقى مورد واحد هو قضية اشتباه الشاة الموطوءة مما لا يمكن الالتزام بها في أشباهها
347

فلا بد من الالتزام فيه بالتعبد في المورد الخاص لا يتجاوز منه إلى غيره، ولذا ترى الفقهاء كما سيأتي نقل فتاواهم يفتون في أشباه الموارد المتقدمة في جميع أبواب الفقه الا ما ورد فيه نص خاص ولا يفتون بل ولا أفتى فقيه معتبر كلامه في الفقه في الموارد المجهولة والمشتبهة بكثرتها في غيرها الا في قضية الشاة الموطوءة لورود النص فيها.
ويمكن ان يقال: ان التعبد في هذا المورد أيضا انما يكون لأجل تزاحم حقوق الشياه لنجاة البقية كما أشار إليه في النص بقوله: «فان لم يعرفها قسمها نصفين أبدا حتى يقع السهم بها فتذبح وتحرق وقد نجت سائرها» وفي رواية تحف العقول «فأيهما وقع السهم بها ذبحت وأحرقت ونجا سائر الغنم والتعبير بنجاة سائرها لعله إشارة إلى ان هذا المورد أيضا من قبيل تزاحم حقوق الشياه في بقاء حياتها، وربما يحتمل ان يكون مورده من قبيل تزاحم حقوق أرباب الغنم فان قطيع الأغنام يكون من أرباب متفرقة غالبا فيتزاحم حقوقهم.
وبالجملة من تتبع موارد النصوص والفتاوى يظهر له ان مصب القرعة ليس الا ما أشرنا إليه مضافا إلى إمكان استفادة ذلك من أشارت الاخبار وكلمات الأصحاب، ففي مرسلة الفقيه: «ما يقارع قوم فوضوا أمرهم إلى الله الا خرج سهم المحق» وقريب منها بعض آخر، ويستفاد منها ان مصبها ليس مطلق المجهول والمشتبه بل في باب التنازع وإخراج سهم المحق وعن الفقيه أيضا: «أي قضية أعدل من القرعة إذا فوض الأمر إلى الله أليس الله تعالى يقول فساهم فكان من المدحضين» وفيها أيضا إشارة إليه وفي مرسلة ثعلبة ابن ميمون في قضية المولود الذي ليس بذكر ولا أنثى (1) قال: «وأي قضية أعدل من

(1) والرواية هكذا عن محمد بن يعقوب، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال والحجال، عن ثعلبة بن ميمون عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
سئل عن مولود ليس بذكر ولا أنثى ليس له إلا دبر كيف يورث، قال؟ يجلس الإمام ويجلس عنده ناس من المسلمين فيدعو الله وتجال السهام عليه على أي ميراث يورث، على ميراث الذكر أو ميراث الأنثى؟ فأي ذلك خرج عليه ورثه ثم قال: وأي قضية أعدل من قضية تجال عليها السهام يقول الله تعالى: فساهم فكان من المدحضين، وقال: ما من امر يختلف فيه اثنان إلا وله أصل
في كتاب الله ولكن لا تبلغه عقول الرجال - راجع الوسائل - كتاب الميراث - الباب 4 - من أبواب ميراث الخنثى - الرواية 3 -
348

قضية يجال عليها السهام يقول الله تعالى: فساهم فكان من المدحضين» وقال: «ما من امر يختلف فيه اثنان إلا وله أصل في كتاب الله ولكن لا تبلغه عقول الرجال» تدل على ان أصل قضية «القرعة ما هو في كتاب الله ومعلوم انها فيه في باب التنازع ومزاحمة الحقوق لا غير فكذا ما ينشعب من هذا الأصل، وفي مرسلة حماد (1) المروية عن التهذيب عن أحدهما قال: «القرعة لا يكون الا للإمام» وفي صحيحة معاوية بن عمار في باب النزاع في الولد قال: أقرع الوالي بينهم (2) وفي رواية يونس (3) في قضية تحرير من علمه آية من كتاب الله قال: «ولا يجوز ان يستخرجه أحد الا الإمام».
فحصر القرعة بالإمام ليس الا لاختصاصها بموارد الخصومة وتزاحم الحقوق التي يرفع الأمر فيها إلى الإمام والوالي ولو كانت في كل قضية مجهولة كاشتباه القبلة ومثله من الموضوعات المشتبهة لم يكن وجه للحصر المذكور، مع ان موارد الاشتباه في غير باب الموضوعات المشتبهة لم يكن وجه للحصر المذكور، مع ان موارد الاشتباه في غير باب التنازع أكثر بكثير فلا يمكن ان يحمل على الحصر الإضافي لاستهجان الحصر فيما إذا كان الخارج كثيرا بل أكثر من الداخل فيعلم ان القرعة انما تكون في موارد يكون الأمر راجعا إلى الإمام والوالي (نعم) لو فرض خروج بعض الموارد النادرة منه لا يكون الحصر مستهجنا بخلاف ما لو كانت لمطلق المجهولات والمشتبهات.
بقي الكلام في رواية محمد بن حكيم المتقدمة قال: سئلت أبا الحسن موسى عن شيء

(1) راجع الوسائل - كتاب القضاء - الباب 13 - من أبواب كيفية الحكم واحكام الدعوى - الرواية 8 -
(2) والرواية هكذا: عن الصدوق بإسناده عن الحكم بن مسكين عن معاوية بن عمار عن أبي - عبد الله عليه السلام قال: إذا وطئ رجلان أو ثلاثة جارية في طهر واحد فولدت فادعوه جميعا أقرع الوالي بينهم فمن قرع كان الولد ولده ويرد قيمة الولد على صاحب الجارية (الحديث) راجع المصدر المذكور آنفا - الرواية 13 -
(3) قد مضى نقلها عند نقل الروايات الواردة في الموارد الخاصة فراجع -
349

فقال: «كل مجهول ففيه القرعة» حيث يتوهم منها العموم وفيه أولا ان صدرها غير مذكور ضرورة ان السؤال لم يكن بهذا العنوان العام المجهول بل لم يذكر المسؤول عنه في النقل فلعل السؤال كان على نحو كان قرينة على صرف الجواب إلى مجهول خاص. وثانيا ان كون القرعة عقلائية مرتكزة في ذهن العرف موجب لصرف كل مجهول إلى المجهول في باب القضاء وتزاحم الحقوق لا مطلقا وفي كشف كل مجهول خصوصا مع ورود تلك الروايات الكثيرة في ذلك بخصوصه كما ان الفقهاء على ذلك أيضا.
فهذا شيخ الطائفة شيخنا أبو جعفر الطوسي رضي الله عنه قال في كتاب القضاء من النهاية في باب سماع البينات وكيفية الحكم بها وأحكام القرعة في ذيل بعض القضايا المشكلة: «وكل امر مشكل مجهول يشتبه الحكم فيه فينبغي ان يستعمل فيه القرعة لما روى عن أبي الحسن موسى وعن غيره من آبائه وأبنائه، ثم ذكر رواية محمد بن حكيم، ومعلوم ان مراده من كل امر مشكل مجهول يشتبه فيه الحكم هو الحكم في موارد القضاء ورفع الأمر إلى القاضي في التنازع وتزاحم الحقوق لا مطلق الحكم الشرعي كما هو واضح بأدنى تأمل.
وفي الخلاف في تعارض البينات بعد اختياره القرعة قال: دليلنا إجماع الفرقة على ان القرعة تستعمل في كل امر مجهول مشتبه، وفيه أيضا دعوى الإجماع ظاهرا على ان القرعة في كل امر مجهول حيث قال في مسألة ما إذا حضر اثنان عند الحاكم معا في حالة واحدة: ان القرعة مذهبنا في كل امر مجهول، ومراده من كل امر مجهول هو ما ذكرنا لا مطلقا لقضاء الإجماع، بل الضرورة، بان القرعة ليست في مطلق المجهولات كالجهل بالاحكام الشرعية في مقام الفتوى وكاشتباه الموضوعات كالإناءين المشتبهين واشتباه القبلة وأشباهها، فدعوى كون القرعة مذهبنا في كل امر مجهول تدل بالضرورة على ما ادعيناه.
وعن قواعد الشهيد رحمه الله: ثبت عندنا قولهم كل امر مجهول فيه القرعة،
350

وذلك لأن فيها عند تساوى الحقوق والمصالح ووقوع التنازع دفعا للضغائن والأحقاد والرضا بما جرت به الإقدار وقضاء الملك الجبار، وهذا التعليل ظاهر في ان الشهيد فهم من قوله: «كل مجهول ففيه القرعة» اختصاصه بباب تساوى الحقوق وتزاحمها ووقوع النزاع، وعليه يحمل ما نقل عن طريق العامة: «القرعة لكل امر مشتبه أو مشكل» كما نقل عن ابن إدريس في باب سماع البينات انه قال: وكل امر مشكل يشتبه فيه الحكم فينبغي ان تستعمل فيه القرعة لما روى عن الأئمة عليهم السلام وتواترت به الآثار وأجمعت عليه الشيعة الإمامية، ضرورة ان الروايات المتواترة انما هي في الموارد المتقدمة وكذا إجماع الشيعة في مثلها لا في مطلق المشتبه وهذا واضح جدا.
وبالجملة المتتبع لكلمات الأصحاب يرى إسرائهم الحكم من الموارد المنصوصة التي عددناها في الأمر الأول إلى غيرها مما هو من قبيلها أي في موارد تزاحم الحقوق والتداعي والتنازع والحال ان فقيها منهم ممن هو معتبر فتواه لا يرى الإفتاء في سائر المشتبهات والمجهولات بالقرعة وليس ذلك الا من جهة ما ذكرنا لا لاحتفاف الاخبار بقرائن وقيود لم تنقل إلينا فإنه بعيد جدا، بل مقطوع البطلان، فان الرواية العامة التي تكون أعم من سائر الروايات من طرقنا هي رواية محمد بن حكيم وهي كانت عند الصدوق والشيخ من متقدمي أصحابنا بهذه الألفاظ من غير زيادة ونقيصة وانهم لم يفهموا منها الا ما ذكرنا كما أشرنا إليه، وما ذكر من قضية التخصيص الكثير انما هو امر أحدثه بعض متأخري المتأخرين وتبعه غيره وما رأينا في كلام القدماء من أصحابنا له عينا ولا أثرا، والمظنون انه حصل من الاغترار بظاهر رواية محمد بن حكيم والروايتين من طرق العامة فأخذ اللاحق من السابق حتى انجر الأمر إلى ذلك واشتهر بين المتأخرين ولو لا مخافة التطويل الممل لسردت عبارات القوم في الموارد المفتي بها من غير نص خاص حتى يتضح لك الأمر، فراجع أبواب التنازع في الكتب،
وموارد فرض الاشتباه والتشاح في كتاب النكاح، والطلاق، والتجارة واللقطة، والقضاء، والإجارة، والصلح والوصية، والميراث، والعتق، والصيد والذباحة، والإقرار، والغصب وإحياء الموات والشفعة، وغيرها مما لا نص فيها ترى ان الفقهاء عملوا فيها بالقرعة.
351

فتحصل مما ذكرنا ان مصب اخبار القرعة العامة والخاصة ليس الا المشتبهات والمجهولات في باب التنازع وتزاحم الحقوق وليس التخصيص فيها كثيرا بل هي بعمومها معول عليها معمول بها، بل يمكن ان يقال: ان التخصيص في اخبارها أقل من تخصيص نحو أوفوا بالعقود والمؤمنون عند شروطهم فالمسألة بحمد الله خالية عن الإشكال.
الأمر الثالث
الظاهر ان القرعة ليست أمارة على الواقع لا لدى العقلاء وذلك واضح، ولا لدى الشرع.
اما أولا فلان الظاهر ان الشارع لم يتخذ في باب القرعة طريقا غير طريق العقلاء كما لعله يظهر من ذيل مرسلة ثعلبة حيث جعل الأصل فيها قوله تعالى: «فساهم فكان من المدحضين» ومعلوم ان مساهمة أصحاب السفينة قضية عقلائية قررها الكتاب الكريم واستشهد بها الأئمة عليهم السلام بل الناظر في الاخبار المتكثرة الواردة في القرعة يرى ان مواردها هي الموارد التي يتداول أشباهها لدى العقلاء الا المورد الذي مر الكلام فيه.
واما ثانيا فلان جعل الطريقية لما ليس له كشف عن الواقع ولو ضعيفا مما لا يمكن بل قد قرر في محله بطلان جعل الطريقية والكاشفية مطلقا، والقرعة ليست كاشفة عن الواقع بل تكون مطابقتها للواقع من باب الاتفاق لا بمعناه المحال كما قرر في محله، وما كان حاله كذلك لا معنى لطريقيته وكاشفيته، والتصادف الدائمي أو الأكثري بإرادة الله تعالى والأسباب الغيبية وان كان ممكنا لكنه بعيد غايته، بل لا يمكن الالتزام به.
واما ثالثا فلان لسان عمومات باب القرعة مثل قوله: «كل مجهول ففيه القرعة» وقوله: «القرعة لكل امر مشتبه أو مشكل، أو فيما أشكل» لسان الأصل والوظيفة لدى الجهل والاشتباه لا أمارة فهي نظير قوله: «كل شيء نظيف حتى تعلم انه قذر» وقوله: «كل شيء حلال حتى تعرف انه حرام بعينه» واما قوله: «ما يقارع قوم فوضوا أمرهم إلى الله إلا خرج سهم المحقق» فلعل المراد منه ما في روايات اخر كصحيحة الحلبي: «فأيهم قرع فعليه اليمين وهو أولى بالحق» وصحيحة داود بن سرحان: «فهو أولى بالقضاء» أي خرج سهم من هو أولى بالحق والقضاء أي يكون الحق معه فعليه اليمين وعلى صاحبه
352

الإثبات، ومثل هذا التعبير متداول في باب القضاء، أو المراد منه خرج سهم المحق إذا حلف وهو عبارة أخرى عما في صحيح البصري عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان علي عليه السلام إذا أتاه رجلان بشهود عدلهم سواء وعددهم أقرع بينهم على أيهما تصير اليمين وكان يقول: اللهم رب السماوات السبع ورب الأرضين السبع أيهم كان له الحق فأده إليه ثم يجعل الحق للذي يصير عليه اليمين إذا حلف (1) وعليه أو على الأول يحمل ما في مرسلة داود في الاختلاف في الزوجة قال: يقرع بين الشهود فمن خرج سهمه فهو المحق وهو أولى بها (2) فمن تدبر في الروايات حقه وفي تعبيرات كتاب القضاء عن الذي عليه اليمين وعن صاحبه لا يستبعد هذا الحمل كما تشهد عليه روايات باب القرعة فراجع وتدبر.
واما قضية بحث الطيار وزرارة كما في صحيحة جميل (3) قال قال الطيار لزرارة:
«ما تقول في المساهمة أليس حقا فقال زرارة: بلى هي حق فقال الطيار أليس قد ورد أنه يخرج سهم المحق؟ قال: بلى قال: فتعال حتى ادعى انا وأنت شيئا ثم نساهم عليه وننظر هكذا هو؟ فقال زرارة: انما جاء الحديث بأنه ليس من قوم فوضوا أمرهم إلى الله ثم اقترعوا إلا خرج سهم المحق فاما على التجارب فلم يوضع على التجارب فقال الطيار: أرأيت ان كانا جميعا مدعيين ادعيا ما ليس لهما من أين يخرج سهم أحدهما فقال زرارة. إذا كان كذلك جعل معه سهم مبيح (4) فان كانا ادعيا ما ليس لهما خرج سهم المبيح فليس فهمهما حجة ولهذا ترى ان زرارة أجاب أخيرا عن إشكال الطيار جوابا

(1) راجع الوسائل - كتاب القضاء - الباب 12 من أبواب كيفية الحكم واحكام الدعوى - الرواية 5 -
(2) تقدمت بتمامها فراجع -
(3) راجع الوسائل - كتاب القضاء - الباب 13 من أبواب كيفية الحكم واحكام الدعوى - الرواية 4 -
(4) يحتمل ان يكون منيح بالنون وهو أحد سهام الميسرة العشرة مما لا نصيب له (منه)
353

إقناعيا غير صحيح في نفسه ولا معمول به لدى الأصحاب مع انه من أين يعلم القاضي بطلان دعواهما حتى يجعل سهم المبيح، ولو علم لا معنى لجعل ذلك، وبالجملة هذا الجواب فرار عن الإشكال مع ان جواب الطيار على فرض صحة ما فهم من اخبار القرعة ان خروج سهم المحق انما هو فيما كان محق ومبطل والا فالقرعة لا تجعل غير المحق محقا والحق عدم ورود الإشكال رأسا لما ذكرنا في معنى الحديث ثم ان الظاهر من قوله: «ما يقارع قوم فوضوا أمرهم إلى الله الا خرج سهم المحق» ان القرعة ليست أمارة على الواقع بل الله تعالى إذا فوض الأمر إليه يحرج سهم المحق بإرادته وأسباب غيبية وهذا غير أماريتها كما لا يخفى، لكن القول الفصل ما تقدم. ثم ان مثل قوله: ما يقارع قوم (إلى آخره) لا يكون بصدد بيان موضوع القرعة وموردها، فموضوعها وموردها الأمر المجهول والمشتبه والمشكل في باب تزاحم الحقوق والتنازع.
ومما ذكرنا يتضح تقدم أدلة الاستصحاب على أدلتها فيكون تقدمها عليها كتقدمها على أدلة أصالة الحل والطهارة فتكون أدلته حاكمة عليها كحكومتها عليهما وقد مر كيفية الحكومة فيما تقدم، فبين الدليلين وان كان عموم من وجه لاختصاص أدلة القرعة بباب تزاحم الحقوق والمنازعات كما عرفت لكن يتقدم أدلة الاستصحاب عليها بالحكومة، فما أفاد المحقق الأنصاري وتبعه المحقق الخراساني من أعمية أدلة القرعة من أدلة الاستصحاب فيجب تخصيصها بها (كما ترى) هذا كله بناء على ان المراد من المجهول والمشتبه والمشكل الواردة في أدلة القرعة هو ذلك بحسب الواقع ويكون معنى قوله: «كل مجهول ففيه القرعة» ان كل ما تعلق الجهل بواقعه ففيه القرعة فإذا دار الأمر بين كون مال لزيد أو عمرو ولم يعلم انه من أيهما ففيه القرعة وكذا الحال في المشتبه والمشكل.
وهاهنا احتمال آخر قريب بعد الدقة في مجموع الأدلة والتتبع في كلمات الأصحاب وان كان مخالفا لظاهر بعض الروايات الخاصة وهو: ان المراد منها ان كل امر مشكل في مقام القضاء ومشتبه على القاضي ومجهول فيه ميزان القضاء ففيه القرعة فيرجع محصل المراد إلى ان الأمور المرفوعة إلى القاضي إذا علم فيها ميزان القضاء
354

أي كان لديه ما يشخص المدعى والمنكر ككون إحداهما ذا اليد أو قوله مطابقا لأصل عقلائي أو شرعي فليس الأمر مجهولا عنده ولا القضاء مشتبها ومشكلا لأن البينة على المدعى واليمين على المدعى عليه، واما إذا كان الأمر الوارد عليه مجهولا بحسب ميزان القضاء لا بد من التشبث بالقرعة لتشخيص من عليه اليمين وتميز ميزان القضاء لا لتشخيص الواقع، اما قوله: «القرعة لكل امر مشكل» فيمكن دعوى ظهوره في ذلك لأن الظاهر من المشكل ان الحكم فيه مشكل لا انه مجهول واقعه فلا يقال للأمر المجهول.
انه مشكل.
وتدل عليه رواية الدعائم ان الأئمة أوجبوا الحكم بالقرعة فيما أشكل وقال أبو - عبد الله «أي حكم في الملتبس أثبت من القرعة أليس هو التفويض إلى الله جل ذكره ثم ذكر قصة يونس ومريم وعبد المطلب (1) فان الظاهر
منه انهم أوجبوا ان يحكم القاضي إذا أشكل عليه الأمر أي في القضايا المشكلة بالقرعة، ويؤيده بل يدل عليه تمسكه بقصة مريم ويونس، فان الأمر فيهما مشكل بحسب الحكم والقضاء لا مجهول لعدم واقع فيهما.
ويشهد له ما عن الاختصاص (2) بإسناده عن عبد الرحيم قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: «ان عليا عليه الصلاة والسلام كان إذا ورد عليه امر لم يجئ فيه كتاب ولم تجر فيه سنة رجم فيه يعنى ساهم ثم قال: «يا عبد الرحيم وتلك من المعضلات» فان الظاهر من ورود الأمر عليه رفع الأمر إليه للحكومة ومعنى عدم مجيء كتاب وإجراء سنة فيه عدم ورود ميزان القضاء والحكم فيه والا فليس من موضوع إلا وله حكم من الكتاب أو السنة، فالمساهمة ميزان القضاء حيث لا ميزان من الكتاب والسنة، ولعل المراد من عدم إجراء السنة فيه مع ان القرعة أيضا سنة كما نص عليه في رواية سبابة وإبراهيم هو انه لم تجر عليه السنة الابتدائية لأن القرعة عقلائية قد أمضاها الشارع وقوله في ذيلها: «وتلك من المعضلات» بمنزلة التفسير لما ورد ان القرعة لكل امر مشكل وقوله: «أوجبوا الحكم بالقرعة فيما أشكل» فالحاصل

(1) راجع المستدرك - كتاب القضاء - الباب 11 - من أبواب كيفية الحكم واحكام الدعوى - الرواية 2 - 3 -
(2) راجع المصدر المذكور آنفا - الرواية 14 -
355

ان المشكل والمعضل الذي هو موضوع القرعة انما هو من قبيل الأمر الوارد على الحاكم ولم يأت فيه كتاب ولم تجر فيه سنة للقضاء والحكم تأمل.
ويدل عليه معقد إجماع الحلي المتقدم حيث قال: «وكل امر مشكل يشتبه فيه الحكم فينبغي ان يستعمل فيه القرعة» فان الظاهر منه ان المشكل والمشتبه ما يكون الحكم فيه مشتبها ومشكلا، واما قوله: «كل مجهول ففيه القرعة» فلم ينقل لنا صدرها ولعل فيه قرينة على ما ذكرنا، وعبارة الشيخ في النهاية تدل على انه فهم منها ما ذكرنا حيث قال: «وكل امر مشكل مجهول يشتبه الحكم فيه فينبغي ان يستعمل فيه القرعة لما روى عن أبي الحسن موسى» وروى الرواية المتقدمة، فان الظاهر من جمعه بين المشكل والمجهول والمشتبه في عبارة واحدة والتمسك بالرواية التي ليس فيها الا عنوان المجهول دليل على ان المشكل والمجهول والمشتبه عنده موضوع واحد.
فعلى هذا الاحتمال يكون تقدم الاستصحاب على القرعة أوضح لأن الاستصحاب يرفع الإشكال في مقام القضاء لأنه إذا كان قول أحد المدعيين مطابقا للاستصحاب يقضى له ويصير اليمين إليه لكن هذا الاحتمال وان كان قريبا بالنسبة إلى جمع من الروايات لكن لا ينطبق على جميعها فراجع.
والمدعى هو تطبيق الأدلة العامة على ذاك الاحتمال وهو قريب جدا ولك ان تقول بأوسعية نطاقها من رفع الأمر إلى القاضي ومن رفع الأمر إلى الوالي بل ومن موارد التشاح بين الرعية مع حفظ ان يكون المراد من الأمر المشكل الإشكال في حل العقدة سواء كان الإشكال لأجل قضاء القاضي أو الحاكم السياس أو قضاء المتخاصمين في حل القضية لعدم الترجيح وعدم طريق إلى الحل وعلى ذلك تنطبق عليه جميع الأدلة فتدبر جيدا.
وعلى أي حال لا إشكال في تقدم دليل الاستصحاب على أدلة القرعة، ومما ذكرنا من اختصاص مصب القرعة واخبارها العامة بباب مشكلات القضاء أو الأعم منها ومن موارد تزاحم الحقوق يتضح عدم تماسها مع أدلة البراءة والاحتياط والتخيير والحل والطهارة.
ثم ان بعض الأعاظم ذكر في المقام شيئا لا يخلوا من غرابة وهو انه: انه لا يمكن
356

اجتماع الاستصحاب والقرعة في مورد حتى تلاحظ النسبة بينهما لأنها مختصة بموارد اشتباه موضوع التكليف وتردده بين الأمور المتباينة ولا محل لها في الشبهات البدوية فإنه ليس فيها الا الاحتمالان في موضوع واحد والقرعة انما تكون في الشيئين أو الأشياء فموارد الاستصحاب كالبراءة: والحل خارجة عن عموم اخبار القرعة بالتخصص لا بالتخصيص (انتهى ملخصا).
وفيه نظر واضح ضرورة ان أدلة الاستصحاب لا تختص بالشبهات البدوية وموارد اجتماع الاستصحاب والقرعة كثيرة إلى ما شاء الله خصوصا في موارد الجهل بتاريخ أحد الحادثين كما لو عقد الوكيلان المرأة للرجلين وجهل تاريخ أحدهما فبناء على تقدم الاستصحاب على القرعة يحكم بصحة عقد معلوم التاريخ كما أفتى به وبنظائره هذا المحقق في حواشيه على العروة، واما لو قيل بعدم تقدمه عليها فيكون من موارد القرعة وله أمثال كثيرة في باب التنازع والقضاء - تدبر.
الأمر الرابع
لا إشكال في ان الأحكام التي ثبتت بالقرعة للموضوعات مخالفة للأصول والقواعد فيجعل بها ما شك في ولديته ولدا يرث أباه وتترتب عليه سائر أحكام الولدية، وما شك في حريته حرا أو عبدا يترتب عليه جميع آثارهما، فإذا شك في جهة من جهات القرعة واعتبار شيء فيها من مقرع خاص أو كلام أو دعاء مخصوص ولم يدل إطلاق دليل أو دليل خاص من إجماع وغيره على عدمه فلا بد من الأخذ بالمتيقن.
فهل للأدلة العامة إطلاق من جميع الجهات حتى يتمسك به لدفع الشكوك أولا؟ فيه إشكال، لأن رواية محمد بن حكيم: «كل مجهول ففيه القرعة» تدل بعمومها على ان القرعة ثابتة لكل مورد مجهول مع قطع النظر عن صدرها ولكن ليس لها إطلاق من جهات آخر فلو شككنا في اعتبار مقرع خاص كالوالي والقاضي لا يرفع الشك بإطلاقها مضافا إلى ان عدم ذكر صدرها موهن لإطلاقها لاحتمال كون الكلام محفوفا بما يضر بالإطلاق والعموم وهذا الاحتمال الناشئ من تقطيع الرواية غير الاحتمال البدوي الذي لا يعتنى به.
هذا كله مضافا إلى ما رجحنا من ان كل مجهول فيه القرعة كقوله القرعة لكل امر
357

مشكل راجع بباب القضاء والحكومة أعم من حكومة القاضي في باب الدعاوي أو حكومة الوالي في المنازعات السياسية فحينئذ كانت القرعة من شأن القاضي كسائر شؤون فصل الخصومات وإذا رفع النزاع في الثاني إلى الوالي فالظاهر ان القرعة أيضا من شؤونه.
وتدل عليه في الجملة جملة من روايات الباب كالتي وردت في المولود الذي ليس له ما للرجال ولا ما للنساء وكمرسلة حماد، ورواية يونس بل وصحيحة محمد بن مسلم عن أبي - جعفر عليه الصلاة والسلام في الرجل يكون له المملوكون فيوصي بعتق ثلثهم قال: «كان علي عليه السلام يسهم بينهم» حيث يظهر منها انه كان المتعارف في مثله الرجوع إليه في زمان حكومته نعم الظاهر جواز التراضي بالقرعة في بعض الموارد كباب القسمة والتزاحم في المشتركات كما يجوز التصالح بغيرها، والتفصيل كسائر مباحث القرعة وفروعها موكول إلى محله والحمد لله أولا وآخرا وظاهر أو باطنا قد فرغ من تسويده مؤلفه الفقير روح في ابن مصطفى الموسوي الخميني تاسع شهر رمضان المبارك سنة الف وثلاثمائة وسبعين في بلدة محلات حامدا مصليا على النبي وآله الطاهرين.
358