الكتاب: الاجتهاد والتقليد
المؤلف: السيد الخميني
الجزء:
الوفاة: ١٤١٠
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤١٨ - ١٣٧٦ ش
المطبعة: مطبعة مؤسسة العروج
الناشر: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني
ردمك:
ملاحظات:

الاجتهاد والتقليد
تأليف
الإمام الخميني قدس سره
مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني (قدس سره)
تعريف الكتاب 1

هوية الكتاب
* اسم الكتاب: الاجتهاد والتقليد *
* المؤلف: الإمام الخميني (قدس سره) *
* تحقيق ونشر: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني (قدس سره) *
* سنة الطبع: تير 1376 - صفر المظفر 1418 *
* الطبعة: الأولى *
* المطبعة: مطبعة مؤسسة العروج *
* الكمية: 3000 نسخة *
جميع الحقوق محفوظة ومسجلة
لمؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني (قدس سره)
تعريف الكتاب 2

مقدمة التحقيق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، الصلاة والسلام على سيدنا
محمد وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين
مرت فكرة الانتظار منذ غيبة ولي العصر - أرواحنا فداه - وحتى القرن
الحاضر بمراحل عديدة، تبعا للفهم السلبي أو الإيجابي الذي يغير من تفسيرها
بشكل جوهري.
حتى إذا ظهر الإمام الخميني رضوان الله عليه في النصف الثاني من القرن
الرابع عشر الهجري ومن ثم بداية الغليان الشعبي، تكون فكرة الانتظار قد
تبلورت نهائيا في تفسيرها الإيجابي الذي يعني ولاية الفقيه والنيابة العامة
عن المعصوم (عليه السلام).
وهذا الكتاب الذي بين يديك - عزيزي القارئ - أثر مشرق من آثار الإمام
الراحل (قدس سره)، وهو كما يتضح من عنوانه الاجتهاد والتقليد يدور حول محور
حيوي هام في حياة المسلمين.
وقد ظهر هذا الأثر منذ نصف قرن تقريبا، وبالتحديد سنة 1370 ه‍. ق،
مقدمة التحقيق 1

عندما كان الإمام الراحل يلقي دروسه في الدورة الأولى من بحوث الخارج في
علم الأصول، وذلك في مدينة قم المقدسة.
وفي كتابه هذا يطرح الإمام محاور عديدة في بحوث الاجتهاد والتقليد:
أولا: ما يتعلق بشؤون الفقيه والمجتهد الجامع للشرائط. وللإمام في هذا
بحوث مماثلة في رسالته القيمة: بدائع الدرر في قاعدة نفي الضرر، وقد تناول
فيها وبشكل إجمالي مقامات وشؤون النبي الأكرم والولي الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)
وهي تنتقل بصورة عامة إلى الفقهاء في عصر الغيبة إلا ما ثبت بالدليل.
وللإمام أيضا بحوث مفصلة في ولاية الفقيه كان رضوان الله عليه قد ضمنها
في كتابه الجليل البيع.
ثانيا: ما يتعلق بشروط الاجتهاد، والعلوم الفاعلة فيه، وقد اقتصر إمامنا
الراحل (قدس سره) في بحثه على العلوم المنضوية في إطار الاجتهاد المطلق الذي هو من
شروط الافتاء.
أما الفقيه الذي يمارس الولاية العامة وزعامة المسلمين فله شروطه الأخرى،
وقد بحثها الإمام (قدس سره) بتفصيل قبل وبعد انتصار الثورة الاسلامية، وفي طليعتها
التدبير والإحاطة بظروف العصر، والتي يجدها الباحث في كتبه ومحاضراته.
ثالثا: بحوثه التي يتناول فيها (قدس سره) مسألة بالغة الحساسية ألا وهي مسألة
القضاء، فهل الاجتهاد المطلق شرط في تسنم منصب القضاء؟ وهل يجوز
للقاضي المجتهد أن يوكل هذه المهمة إلى فرد آخر غير مجتهد؟
رابعا: بحوثه (قدس سره) في مسألة المرجعية، وهل أن التقليد كما عليه اليوم كان
مقدمة التحقيق 2

معروفا لدى العالم الشيعي في عصر الأئمة الطاهرين (عليهم السلام)؟ وهل للاجتهاد
السائد حاليا نفس مفهومه في عصر أئمة أهل البيت (عليهم السلام)؟ أم توجد اختلافات
وفروق في ذلك؟ وعندما يكون تقليد المجتهد جائزا فهل يجوز تقليد غير
الأعلم من المجتهدين؟
خامسا: وأخيرا يبحث الإمام الراحل (قدس سره) وفي ختام رسالته الجليلة قضية
تقليد المجتهد الميت، فيتحدث عن ذلك بالتفصيل.
وبودنا ونحن نقدم لهذا الكتاب الفائق الأهمية، أن نطلع قراءنا الكرام عموما
وطلبة الدراسات الاسلامية في الحوزة العلمية بشكل خاص، على مسألتين
حيويتين في مضمار الاجتهاد والتقليد لهما أهمية خاصة، هما: مسألة الاجتهاد
لدى الشيعة الإمامية، خصائصه وأبعاده، ومسألة الشروط التي يجب توافرها لدى
المرجع الديني في ضوء المذهب الشيعي، والمؤهلات التي ينبغي أن يتحلى بها،
مستلهمين في كل ذلك أفكار ورؤى إمامنا الراحل (قدس سره)، المبثوثة هنا وهناك في
كتبه وخطبه وتعاليمه.
المسألة الأولى
الاجتهاد لدى الشيعة... المعالم والمزايا
يعد الاجتهاد لدى الشيعة الإمامية في طليعة المعالم الأساسية التي تفتقدها
سائر المذاهب الاسلامية الأخرى... والاجتهاد لدى أتباع أهل البيت (عليهم السلام)
يتحرك في إطار الاستفادة من ميراثهم الحديثي الواسع والعميق الذي ورثوه من
مقدمة التحقيق 3

أئمتهم (عليهم السلام) حيث يكمن في طواياها التفسير الحقيقي للقرآن الكريم والسنة
النبوية الشريفة.
وفي أتباع أهل البيت (عليهم السلام) وهم العترة الطاهرة استجابة مخلصة وكاملة
لحديث سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في قوله: (إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي
أهل بيتي) وقد تظافرت الروايات لدى جميع الفرق الاسلامية على أنهما لن
يفترقا حتى يردا عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) الحوض. ولم يكن أهل البيت (عليهم السلام) وهم مفسروا
الوحي الحقيقيون ليقتصروا في علمهم على الفقه، بل كانوا في الطليعة، وكانوا
المثال الخالد والنبع الثر والطريق المضئ في علوم الاسلام الأخرى، من تفسير
وكلام وأخلاق.
ومن غير الممكن أبدا أن يؤدي الاجتهاد في الفقه، ومن دون استلهام علوم
الإمامين الطاهرين الباقر والصادق (عليهما السلام) إلى نتائج ذات قيمة.
والاجتهاد لن يؤتي ثماره أبدا إلا في ظلال أهل البيت (عليهم السلام)، وفي هدي
تعاليمهم التي هي امتداد لتعاليم سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
وفي هذا الإطار نرى إمامنا الراحل (قدس سره) يصدر وصيته الإلهية بقوله: نحن
نفتخر أن باقر العلوم الذي هو أعظم شخصية في التاريخ وهو الذي لم يدرك ولن
يدرك أحد مقامه غير الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومين (عليهم السلام)، نحن
نفتخر بأن هذا الإمام منا.
كما نحن نفتخر أن مذهبنا جعفري منسوب إلى الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)،
وأن فقهنا الذي هو بحر لا نهاية له هو أحد آثاره (عليه السلام).
مقدمة التحقيق 4

ويعد الاجتناب عن تبني طريقة القياس والاستفادة من المصالح المرسلة
معلم بارز آخر يمتاز به الفقه الشيعي، فيما يزخر الفقه لدى أهل السنة بالاستدلال
وفقا لطرق القياس والاستحسان والمصالح المرسلة.
ومن هنا نجد أئمتنا من أهل البيت (عليهم السلام)، وفي مناسبات متعددة، وفي
مقاطع زمنية مختلفة، يشددون على أتباعهم على ضرورة اجتناب القياس
والاستحسان، فوضعوا بذلك تلامذتهم ومريديهم في الطريق الصحيح والجادة
الصواب، فالأحكام الإلهية يجب أن لا تخضع لمقاييس العقل البشري، ومن أجل
هذا روي عنه صلوات الله عليهم: (أن السنة إذا قيست محق الدين) و (أن دين الله
لا يصاب بالعقول).
ولا ننكر وجود بعض التناغم مع المباني الفقهية لدى أهل السنة في كتب
كبار علماء الشيعة، وبالتحديد لدى المتقدمين منهم، كشيخ الطائفة الطوسي
والعلامة الحلي.
إذ يبدو من خلال آثار الفقيهين العظيمين أنهما كانا يرميان إلى إقناع فقهاء
أهل السنة فاستعمال طرق استنباط مماثلة لما هو موجود لدى أهل السنة لا يعني
تبنيا لها، بقدر ما يكون محاولة لردم هوة الاختلاف بين الفريقين.
ولذا فإننا نجد - وبعد تنامي الكيان السياسي الشيعي وبالتحديد في العصر
الذي أعقب عصر الشهيد الأول - نجد طرق الاستدلال الشيعي متمحضة وفق
مباني المدرسة الإمامية وفي ضوء تعاليم أهل البيت (عليهم السلام)، أما متبنيات أهل السنة
في طرق الاستدلال فقد اختفت تماما لتحل مكانها آثار الأئمة الأطهار.
مقدمة التحقيق 5

وقد استمر هذا الأسلوب حتى يومنا هذا، إذ نجد في آثار إمامنا الراحل (قدس سره)
وفي مضمار الفقه اهتماما فائقا بهذا الاتجاه كما سنوضح ذلك فيما بعد.
وعلى هذا فإن من أبرز معالم الفقه الشيعي هو ابتعاده عن أسلوب القياس
وطريقة الاستحسان، واهماله ما يدعى بالمصالح المرسلة، والتقدم بفن الاستنباط
خطى واسعة نحو الأمام.
وتعد حيوية الفقه الشيعي ومسايرته لروح العصر معلما ثالثا، فالاجتهاد في
ضوء القواعد الفقهية الإمامية يحتم على الفقيه الشيعي، متابعة مستجدات القضايا
واستنباط أحكامها الشرعية.
ولقد كان للمجتمع المسلم واهتمامه بموقف الشريعة إزاء المسائل الطارئة
ومراجعته لفقهاء العصر الأثر البالغ في تقدم الفقه الشيعي وتبحر الفقهاء في مختلف
العلوم، ومن ثم تضاعف أعداد المجتهدين، من أجل أن تكون هناك أجوبة جاهزة
لمختلف المسائل والقضايا التي تهم المجتمع الاسلامي. وقد كان للحضور الفاعل
والواسع للفقهاء في الحوزات والمحافل العلمية الشيعية آثاره الكبيرة في نمو
وتقدم طرق الاستدلال، وفي ترشيد الرؤى والأفكار الفقهية، وأن يكتسب
الاجتهاد بشكل عام - فيما بعد - ملامح مدرسته المتحركة.
ومن خلال اتباع سنة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وآله (عليهم السلام)، فقد استمر الشيعة في مواصلة
طريق الاجتهاد، فكان نبعا متدفقا فياضا بالخير، وكان بحق وما يزال يمد الثقافة
الاسلامية بالأفكار المتجددة والنظريات العلمية الرائدة التي أسهمت ولا ريب في
إغناء حضارة الاسلام وإثراء ثقافته.
مقدمة التحقيق 6

والاجتهاد الإمامي مدين في حيويته وتدفقه إلى آراء الشيعة في علمائهم
ومراجعهم، وأنهم مهما بلغت منزلتهم وسمت مرتبتهم ليسوا بفوق أن يخطئوا، وإن
هم إلا أبناء الدليل وأتباع البرهان، فهم في نصب مستمر وجهد واجتهاد وتعب في
استنباط النصوص الشرعية، وتوظيف الأدلة، وقبلها في التأسيس عقليا وشرعيا
لصحة أدلتهم، ومع كل هذا فهم ليسوا في مأمن من الخطأ مهما بلغوا من الشأو، وإن
العصمة لأهل البيت (عليهم السلام) الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
ومن هنا فقد حطم الشيعة عقدة القداسة... قداسة الرجال غير المعصومين،
والجمود على رأي عالم معين مهما عظم شأنه، فبقي المجتمع الشيعي ينبض
بالحياة، ما دام لا يجيز فقهاؤه تقليد المجتهد الميت، حتى لو كان أعلم من الأحياء
إلا في نطاق ضيق محدود. فالحياة شرط حيوي في جواز اتباع رأي المفتي
ومرجع التقليد.
يقول الإمام (قدس سره) في هذا المضمار: اختلفوا في اشتراط الحياة في المفتي
على أقوال، ثالثها الفصل بين البدوي والاستمراري، ولا إشكال في أن الأصل
الأولي حرمة العمل بما وراء العلم خرج عنه العمل بفتوى الحي، وبقي غيره فلا بد
من الخروج عنه، ولما كان عمدة ما يمكن أن يعول عليه هو الاستصحاب فلا بد من
تقريره وتحقيقه.
ويخلص الإمام رضوان الله عليه إلى نتيجة خلاصتها انتفاء جواز تقليد
الميت إلا في حالات استثنائية، يقول (قدس سره) في هذا المضمار: وغاية ما يستدل به
لتقليد الميت هو بناء العقلاء، فالمباني العقلية تفصل بين التقليد الابتدائي للميت
مقدمة التحقيق 7

والبقاء على تقليد مجتهد كان حيا ثم توفي فيما بعد، فالعقلاء وبعد تقليد مجتهدهم
الحي الذي هو الأعلم بالأحكام لا يرون ضرورة الرجوع إلى مجتهد حي، وأقصى
ما يستفاد من الروايات هو جواز تقليد المجتهد الحي والبقاء على تقليده، ولا
توجد في أي من الروايات عن الأئمة الأطهار، ما يدعو المكلفين إلى تقليد أفراد
على أساس شرط الحياة، وكل ما يمكن استنتاجه: بأن المجتهد إذا كان واجب
التقليد على المكلفين، فإن أولئك المكلفين يمكنهم حينئذ البقاء على تقليده، وفي
غير هذه الصورة فلا يصح تقليد الميت والانصراف عن تقليد المجتهد الحي.
وقد حظيت هذه المسألة بدعاوى إجماع، وهو أنه لا يجوز للمكلف بأي
وجه من الوجوه تقليد الميت ابتداء.
وقد كان لهذا بطبيعة الحال أثره الفاعل في بث الحيوية والروح في الفقه
الشيعي ومن ثم نموه وازدهاره، ليبقى في مأمن من التأثر بمجمل التغيرات العالمية
وبالتالي حيازته المكانة اللائقة به في العصر الحديث، بما ينطوي عليه من قوانين
تلبي متطلبات الانسان في الحياة المعاصرة.
فالإمام الخميني الكبير مع تبحره في الفقه والأصول، وحضوره الواسع في
ميادين السياسة العالمية، وتشكيله حكومة العدل الاسلامية، ومع دقته وثاقب
رأيه وفي إيمانه العميق بحاكمية الاسلام في الحياة الانسانية، وبسط القوانين
الإلهية لتشمل كل شؤون الحياة البشرية، مع كل هذا فقد التفت إلى نقطة جوهرية
للغاية، وعدها من مزايا هذا الفقه.
يقول الإمام الراحل في هذا المضمار: إنني أؤمن بالفقه الجواهري، غير أن
مقدمة التحقيق 8

الفقه الجواهري هو فقه متحرك، ومعنى هذا أن لعاملي الزمان والمكان أثرهما
الفاعل في حركة الفقه، والاجتهاد الجواهري يتغير بتغير هذين العنصرين (1)،
ويوضح ذلك قائلا: إن موضوعا ما في الفقه، قد يتخذ في الظاهر حكما معينا من
الأحكام، ولكن بمرور الزمن، وتغير الأمكنة يخرج ذلك الموضوع - وتحت تأثير
الظروف الزمانية والمكانية، والعلاقات الاقتصادية والسياسية العالمية - من
عنوانه السابق، ليدخل تحت عنوان جديد، ومن المحتم عندئذ أن يكون للموضوع
الجديد حكم جديد.
ويسوق - رضوان الله عليه - أمثلة لذلك، فقد كان حمل السلاح في عصر
النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة الأطهار (عليهم السلام) جائزا شائعا، ولكن في عالم اليوم،
تغيرت ماهية الموضوع إلى الحد الذي لا يجرؤ فيه أي من الفقهاء في الافتاء
بجواز حمل السلاح، ثم يعد فتواه هذه مطابقة للموازين الفقهية.
وينسحب الأمر أيضا على مسألة بيع واستهلاك المخدرات، فقد أجاز عدد
كبير من الفقهاء ذلك فيما مضى، أما اليوم، ومع هذا الوجود الهائل لعصابات
التهريب، وما يكمن وراء ذلك من أهداف استعمارية، لا يوجد فقيه واحد يمكنه
إباحة ذلك وتجويزه.
لقد أورد الإمام الراحل - رضوان الله عليه - أمثلة عديدة في هذا المضمار
وكلها تؤكد بما لا يقبل الشك بأن مسألة الفقه المتحرك لا تنحصر في طرقه الحديثة

1 - صحيفة النور 21 / 98.
مقدمة التحقيق 9

والجديدة في الفقه الشيعي فقط، بل إن ذلك يتعدى ليكون الفقه الاسلامي بأسره
فقها متحركا، وإن كل الفقهاء الآن وفيما مضى يتبعون ذات الطريقة.
وهذه الخصوصية في الفقه، تكشف بوضوح تام عن حاجة المقلدين إلى
المجتهد الحي... المجتهد الذي يحيط بظروف عصره وزمانه.
وعلى هذا فإن فتوى مجتهد ما في زمن ومكان معينين، لا يمكن أن تكون
لها دائما حجيتها على المقلدين في عصور أخرى.
الاجتهاد ومؤثرات الزمان والمكان
يعد استنباط الحكم الشرعي من مصادره، عملية خطيرة، ومسؤولية كبيرة،
انطلاقا من تحديد أحكام الله عز وجل كحدود للشريعة، وبما أن المقدمات تسفر
عن نتيجة من صميمها، فإن الاجتهاد - كعلم وفن - تلزمه مقدمات تكفل له انتهاج
الطريق الصحيح الذي يقيه مواطن الزلل ومزالق الخطأ.
ومع ما أسلفنا ذكره يتضح أن القضايا العالمية ومسائل العصر لها دورها
المؤثر في اجتهاد المجتهدين، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن من خصائص
الاجتهاد لدى الشيعة هو ابتعاده عن الرأي، والقياس والمصالح المرسلة
والاستحسان في عملية الافتاء، فهل هناك من طريق للمصالحة بين هذين
الطريقين؟ وهل توجد نظرية يمكن أن توفق بين الجانبين، أم أن نظرية تأثير
مقدمة التحقيق 10

الزمان والمكان في الفقه تعني عقلنة (1) الفقه؟
وفي معرض الإجابة عن هذا السؤال الذي يطرح اليوم في المحافل العلمية
والحوزة الشيعية وبشكل جاد، ينبغي أن نلتفت إلى المخاطر التي تهدد الفقه
الشيعي في ظل هذه النظرية (2)، لأن فهما مغلوطا لتأثير نظرية تدخل الزمان
والمكان في الفقه، سيقود إلى عقلنة الفقه، ومن المؤكد - بل من البديهي - أن هذا
سيحدث تناقضا مع ذات الشريعة المقدسة، كما يتنافى وتعاليم أئمتنا
الأطهار (عليهم السلام)، وبالتالي يؤدي إلى انحراف الفقه عن مهمته وسقوطه. وما أكثر
الموارد والأمثلة في عصرنا الحاضر، التي يجنح فيها بعض الفقهاء باعتماد
الاستدلالات المعقلنة إلى تغيير الموضوعات الفقهية وإصدار الأحكام انطلاقا من
إثبات عناوين وملازمات كانت تنطبق في عصر الأئمة (عليهم السلام).
ومن خلال هذه الطريقة نجد كثيرا من الأحكام الشرعية تتسع أو تضيق
وفقا لأسلوب أولئك الفقهاء.
غير أنا نجد في آثار الإمام الراحل وملاحظات ذلك الفقيه الكبير دقة عالية
جدا، إذ نجده - رضوان الله عليه - حذرا للغاية في اجتنابه الخلط (3) بين الطريقين،
إذ نراه يتحرى في تشخيص موضوعات الأحكام ملتزما دائرة الآيات والروايات.

1 - هيمنة العقل في عملية الافتاء.
2 - نظرية تأثير الزمان والمكان.
3 - الخلط بين نظرية تأثير الزمان والمكان وعقلنة الفقه الذي يؤدي إلى تهميش النصوص
الشرعية.
مقدمة التحقيق 11

ومن هنا فإننا لن نواجه أبدا في كتب الإمام الراحل (قدس سره) الفقهية موردا من
هذا القبيل دون استنطاق للآيات والروايات ونصوصها، سواء في بيان معاني
الأحكام أو تعزيزها باستدلال عرفي وعقلي، فالإمام - رضوان الله عليه - لا
يستبدل موضوعا جاهزا من قبل وإحلاله مكان موضوع آخر إلا في ضوء ما
أسلفنا ذكره.
إن مسألة تأثير الزمان والمكان في الفقه والتي حظيت باهتمام الإمام -
رضوان الله عليه - هي: أن الموضوع التي يتخذ في الظاهر حكما لا مناص منه،
يكون بمرور الزمن وتغير الظروف العامة قد خرج عن حكمه الخاص في ظروفه
الخاصة، وبالتالي يستلزم حكما آخر بعد أن دخل في موضوع آخر، وبالتالي
استلزامه بطبيعة الحال لحكم جديد.
والمسألة بعد التغير هي كسائر المسائل المستحدثة تحتاج إلى حكم فقهي
ينسجم مع الموازين الفقهية ويتوجب خضوعه للقواعد الفقهية.
وبالتالي فإنه لا يعني عندما يفقد موضوع ما حكمه، يكون قابلا وخاضعا
لحكم العقل على أساس القياس والاستحسان، ومن ثم اعتبار ذلك فقها متحركا.
وفرق شاسع بين البحث عن حكم جديد لموضوع فقد حكمه السابق بسبب
تغير الزمان والمكان ومجمل الظروف، وبين استغلال هذا الفقدان لاصدار حكم
جديد انطلاقا من اعتبارات القياس والاستحسان والرأي التي تتناقض مع مدرسة
أهل البيت (عليهم السلام) الفقهية.
مقدمة التحقيق 12

المسألة الثانية
مؤهلات المرجعية العليا والزعامة الدينية
أولى الإمام الراحل (قدس سره) اهتماما فائقا في بحوثه، وأفرد في رسالته الجليلة
فصولا لبحث العلوم المختلفة التي تؤدي دورا حيويا في فهم أحاديث وفقه أئمتنا
من أهل البيت (عليهم السلام)، مشددا على ضرورتها في طريق تحصيل الاجتهاد المطلوب.
وسيدنا الإمام (قدس سره) وهو يكتب في هذا الموضوع الحيوي ينتهج أسلوبا
تربويا ينأى به عن الأساليب الجافة، فهو يبحث من أجل أن يدل الآخرين،
ويقود الجيل القادم إلى جادة الصواب بعيدا عن مزالق الخطر ومهاوي السقوط،
مؤكدا على الاقتصار في العلوم على ما ينفع وعدم تضييع الوقت في قضايا لا
طائل من ورائها.
فيشدد مثلا على تعلم العربية وسبر أغوارها وينبه على مخاطر عدم
استيعابها قائلا: كثيرا ما يقع المحصل في خلاف الواقع لأجل القصور في مهم
اللغة وخصوصيات كلام العرب.
وعندما يشترط الإمام الراحل (قدس سره) الأنس بالمحاورات العرفية ينهى عن
التعمق في معرفة مواضيع الأحكام بطريقة الفلسفة التي تتعمد الدقة في تحديد
المواضيع، ويعلل ذلك قائلا: إن أحكام الدين منصبة على المواضيع كما يعرفها
العرف العام، والرائج عند هذا العرف عدم الدقة في تحديده لتلك المواضيع.
ويحذر الإمام (قدس سره) وهو يشترط الالمام بعلم الأصول من هدر الوقت في
مقدمة التحقيق 13

بحوث لا طائل من ورائها ولا تسفر عن نتيجة علمية، ذلك أن علم الأصول غير
مطلوب لذاته، بل هو وسيلة لمعرفة أحكام الدين وشرائع الاسلام، ومن هنا
يتوجب الاقتصار على ما ينفع منه.
ولا ينسى (قدس سره) أن يغتنم الفرصة فيعتذر - بأسلوب أخلاقي رفيع - عن
الأخباريين، فيحمل آراءهم على محمل حسن قائلا: وظني أن تشديد نكير
بعض أصحابنا الأخباريين على الأصوليين في تدوين الأصول، وتفرع الأحكام
عليها، إنما نشأ من ملاحظة بعض مباحث كتب الأصول مما هي شبيهة - في كيفية
الاستدلال والنقض والابرام - بكتب العامة، فظنوا أن مباني استنباطهم الأحكام الشرعية أيضا، شبيهة بمبانيهم من استعمال القياس والاستحسان والظنون.
ومن هنا فهو (قدس سره) يحاول تبرير موقفهم المتطرف على أساس رد الفعل في
قبال إفراط الأصوليين في الاستغراق بعلم الأصول بلا حدود يقول (قدس سره):
والانصاف أن إنكارهم في جانب الافراط كما أن كثرة اشتغال بعض طلبة
الأصول والنظر إليه استقلالا، وصرف العمر في المباحث التي لا يحتاج إليها في
جانب التفريط.
وبهذا الأسلوب الهادئ يبحث الإمام الراحل مقدمات الاجتهاد واضعا
إياها في إطار ثمانية شروط هي:
أولا: الالمام بعلوم العربية إلى الحد الذي يكفل للمتعلم فهم كتاب الله
والسنة.
ثانيا: الاطلاع على المحاورات العرفية، وفهم المواضيع العرفية مع الابتعاد
مقدمة التحقيق 14

عن المنحى الفلسفي الذي يعتمد الدقة في فهم الموضوع خلافا للعرف، والبقاء في
دائرة العرف.
ثالثا: تعلم المنطق وقواعده لتوقي السقوط في الاستدلالات المغلوطة.
رابعا: الإحاطة بالمهمات من مسائل أصول الفقه والقواعد التي يمكن
بواسطتها فهم واستنباط الأحكام الشرعية.
خامسا: الإحاطة بعلم الرجال إلى الحد الذي ينفع في معرفة أحوال الرواة.
سادسا: معرفة الكتاب والسنة وسبر غور الآيات والروايات وتحري الدقة
في فهمهما، ويعد هذا الشرط من أهم الشروط على الاطلاق، لأنه يواكب الفقيه في
جميع مراحل استنباط الحكم الشرعي.
سابعا: التمرن في عمليات تفريع الفروع وإعادتها إلى الأصول لتعزيز
ملكة الاستنباط.
ثامنا: دراسة فتاوى المتقدمين واستنباطاتهم، ومعرفة ما اشتهر بينهم وما
أجمعوا عليه لقربهم من عصر الروايات.
هذه هي مقدمات الاجتهاد لدى الإمام الراحل (قدس سره)، وهي الشروط التي
تؤهل الفقيه ليكون في موقع الافتاء فقط.
أما الزعامة الدينية والمرجعية العليا التي تؤهل المجتهد إلى قيادة الأمة
والمجتمع، فتوجد شروط أخرى تضاف إلى ما ذكر آنفا، فالذي يريد زعامة
المذهب، وتكون فتواه هي السائدة، ويتدخل في شؤون المجتمع ثقافيا وسياسيا
واقتصاديا، يتوجب عليه أن يتحلى بصفات أخرى وشروط أخرى، لم يتعرض لها
الإمام في حديثه الموجز هذا.
مقدمة التحقيق 15

ويقول الإمام الراحل في نداء له في هذا المضمار إلى مراجع الشيعة وعموم
العلماء: على المجتهد أن يكون ملما بمسائل عصره محيطا بها، فلم يعد بمستساغ
للشباب والناس عموما أن يقول مرجعهم ومجتهدهم: إنني لا أبدي رأيا في قضايا
السياسة، فالتعرف على أسلوب التعامل في مواجهة الألاعيب والدسائس السائدة
في الثقافة العالمية، وعمق الرؤية الاقتصادية، وكيفية التعامل مع النظام
الاقتصادي العالمي، والتعمق في السياسة وحتى معرفة السياسيين والساسة،
والمعادلات الحاكمة، وتفهم نقاط القوة والضعف لدى القطبين الرأسمالي
والشيوعي، ودرك دورهما الاستراتيجي في إدارة العالم، إن كل هذا هو من
خصائص المجتهد الجامع للشرائط.
كما ينبغي على المجتهد أن يتحلى بالفطنة والذكاء والفراسة، وهو يتصدى
لتوجيه المجتمع الاسلامي الكبير بل والمجتمع العالمي بأسره.
فإضافة إلى الاخلاص والتقوى والزهد الذي هو من شأن المجتهد، فإن
عليه أن يكون مديرا ومدبرا حقيقيا.
فالحكومة في رأي المجتهد الحقيقي هي الفلسفة العملية لمجموع الفقه في
نواحي الحياة البشرية. ذلك أن الحكومة هي التطبيق العملي الذي يجسد موقف
الفقه تجاه المشكلات الاجتماعية، والسياسية، والعسكرية، والثقافية. ولأن الفقه
هو النظرية الواقعية الحقيقية الكاملة والشاملة لإدارة الانسان والمجتمع من المهد
إلى اللحد (1).

1 - صحيفة النور 21: 98.
مقدمة التحقيق 16

والإمام الراحل وهو يطرح شروط المرجعية العليا، فإنه يحدد ملامح
شخصية الزعيم الديني، الذي ينبغي أن يكون ذا رؤية سياسية رشيدة، وعقلية
اقتصادية عميقة تمكنه من فهم قوانين الاقتصاد العالمي، من أجل أن يتعرف على
مواطن الضعف في النظم غير الاسلامية، فالزعيم الذي يطرح نفسه عالميا لا ينبغي
له أن يكون خاويا من ثقافة عصره.
وكاتب هذه السطور لا يدعي أبدا انتفاء اجتهاد من لا يلم بثقافة زمانه،
وبالعكس فلا يثبت اجتهاد فرد ما باطلاعه على ثقافة عصره فحسب، وبالتالي
يحق له إبداء رأيه في القضايا الاسلامية.
إننا في صدد توضيح آراء الإمام الراحل (قدس سره) التي تتلخص في أنه لا يحق
لمجتهد ما زعامة الأمة والتسلط على مقدراتها والتدخل في شؤونها السياسية
بمجرد اجتهاده، بل ويجب أن لا يقتصر الفقيه على الفقه في أطره القديمة.
عليه أن يتوسع في مساره الفقهي ليشمل رقعة الحياة العامة، بكل ما تنطوي
عليه الحياة من هموم في السياسية والاقتصاد والثقافة، حيث يجب على الفقيه
الزعيم أن يكون قديرا في بيان الأحكام الشرعية، والقوانين العامة للفروعات
والمسائل المستحدثة في ميادين السياسة والاقتصاد، معتمدا بذلك القواعد
الفقهية المنقحة في الحوزات العلمية والحس الفقهي المنبثق من فهم الآيات
القرآنية والروايات.
مقدمة التحقيق 17

أسلوبنا في تحقيق الكتاب:
سبق وأن أشرنا إلى أن هذه الرسالة الموسومة بالاجتهاد والتقليد قد
ألفت في عام 1370 ه‍. ق. وذلك في الدورة الأولى من دروس الأصول.
غير أن الإمام (قدس سره) قد أضاف إليها فصلين آخرين أحدهما ملحق ببحثه حول
تقليد الأعلم الأفضل، والآخر لاحق بالبحث حول تقليد الميت، أضافهما (قدس سره) في
دورته الأصولية الثانية عند تدريسه لهذين المبحثين.
ومن هنا فقد جاء الفصلان متأخرين عن موضعيهما المناسبين، بسبب
انتقال الكتاب إلى صيغته النهائية في سنة الاعداد والتدريس في الدورة الأولى.
وإننا إذ نوضح ذلك للقراء الكرام ليستبين هدفنا من إنهاء الكتاب في الفصل
الثالث، ولنؤكد التزامنا الأمانة في المحافظة على تسلسله في طبعته الأولى التي
أعدها سماحة آية الله الحاج الشيخ مجتبى الطهراني حفظه الله.
عملنا في الكتاب:
وقد جاء منهجنا في تصحيح الكتاب وتخريج نصوصه وأقواله وإعداده
للطبع ثانية محققا منقحا وفقا لما هو معهود ومتبع في مؤسسة تنظيم ونشر آثار
الإمام الخميني (قدس سره)، فالمراحل التي يمر بها الكتاب كالآتي:
أولا: مقابلة المطبوع على النسخة المصححة أو المخطوطة بقلم المصنف.
والكتاب الذي بين يديك - عزيزي القارئ - حيث لم نعثر على نسخته
مقدمة التحقيق 18

الأصلية، بل ضاعت بعد الطبعة الأولى، فجعلنا النسخة المتداولة مصدرا وصححنا
بعض العبائر وغيرنا بعضا وقد أشير في المواضع المهمة إلى ذلك.
ثانيا: عنونة الفصول والبحوث، وفي هذا الكتاب فإن بعض عناوين طبعته
الأولى تعود إلى المصنف نفسه وبعضها الآخر إلى منقحه. وقد قامت المؤسسة
بتغيير بعضها وإضافة عناوين جديدة رأتها ضرورية مع التأكيد على صيانة النص
من التصحيف.
ثالثا: ضبط مصادر الآيات والروايات والأقوال سواء صرح بقائلها أم لا.
رابعا: ترجمة الأعلام الذين ورد ذكرهم في الكتاب - علماء ورجالا -
انطلاقا من أهمية آثار الإمام وانتشارها في رقعة واسعة من بلدان العالم
الاسلامي، ومثل هذه التراجم ستكون ولا شك ضرورية في رأي القراء، للإحاطة
بموجز عن سيرة هذا أو ذاك من الفقهاء والرواة، ممن اعتمدهم الإمام في الرواية
أو أعرض عنهم.
خامسا: وضع فهرسة عامة لخدمة العلماء والباحثين.
وفي الختام نتقدم إلى الله العلي القدير أن يمن علينا بالموفقية في طريق
نشر أفكار الزعيم الديني الأعظم، وداعية الاسلام الأكبر، الذي كان منارا للدين،
ومشعلا وهاجا في طريق الحضارة الاسلامية، الإمام الخميني (قدس سره).
مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني (قدس سره)
فرع قم المقدسة.
خرداد 1376 - محرم الحرام 1418
مقدمة التحقيق 19

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين،
والصلاة والسلام على محمد
وآله الطاهرين، ولعنة الله
على أعدائهم أجمعين
2

الاجتهاد والتقليد
ونذكر مهمات مباحثهما،
ونترك ما لا ثمرة مهمة فيه،
ونتم في ضمن فصول
3

الفصل الأول
ذكر شؤون الفقيه
نريد أن نبين فيه من لا يجوز له أن يرجع إلى غيره في تكاليفه الشرعية،
ومن يجوز له العمل على طبق رأيه ويكون معذورا أو مثابا لو عمل به، ومن يجوز
له الافتاء، ومن له منصب القضاء ويكون حكمه فاصلا للخصومة، ومن تكون له
الولاية والزعامة في الأمور السياسية الشرعية، ومن يكون مرجعا للفتيا ويجوز أو
يجب لغيره الرجوع إليه.
ولما كانت ديانة الاسلام كفيلة بجميع احتياجات البشر، من أموره السياسية
واجتماعاته المدنية إلى حياته الفردية - كما يتضح ذلك بالرجوع إلى أحكامه في
فنون الاحتياجات، وشؤون الاجتماع وغيرها - فلا محالة يكون لها في كل ما
أشرنا إليه تكليف، فلنذكر العناوين الستة في أمور:
5

الأمر الأول
حكم من له قوة الاستنباط فعلا
إن الموضوع لعدم جواز الرجوع إلى الغير في التكليف، وعدم جواز تقليد
الغير، هو قوة استنباط الأحكام من الأدلة وإمكانه، ولو لم يستنبط شيئا منها
بالفعل. فلو فرض حصولها لشخص من ممارسة مقدمات الاجتهاد، من غير
الرجوع إلى مسألة واحدة في الفقه - بحيث يصدق عليه أنه جاهل بالأحكام غير
عارف بها - لا يجوز له الرجوع إلى غيره في الفتوى مع قوة الاستنباط فعلا
وإمكانه له، من غير فرق بين من له قوة مطلقة، أو في بعض الأبواب، أو الأحكام
بالنسبة إليها، لأن الدليل على جواز رجوع الجاهل إلى العالم، هو بناء العقلاء
- ولا دليل لفظي يتمسك بإطلاقه -، ولم يثبت بناؤهم في مثله، فإن من له قوة
الاستنباط، وتتهيأ له أسبابه، ويحتمل في كل مسألة أن تكون الأمارات والأصول
الموجودة فيها، مخالفة لرأي غيره بنظره، ويكون غيره مخطئا في اجتهاده،
6

وتكون له طرق فعلية إلى إحراز تكليفه، لا يعذره العقلاء في رجوعه إليه.
وبالجملة: موضوع بناء العقلاء ظاهرا، هو الجاهل الذي لا يتمكن من
تحصيل الطريق فعلا إلى الواقع، لا مثل هذا الشخص الذي تكون الطرق
والأمارات إلى الواقع وإلى وظائفه، موجودة لديه، ولم يكن الفاصل بينه وبين
العلم بوظائفه وتكاليفه، إلا النظر والرجوع إلى الكتب المعدة لذلك، فيجب عليه
عقلا الاجتهاد، وبذل الوسع في تحصيل مطلوبات الشرع، وما يحتاج إليه في
أعمال نفسه.
وما قد يتراءى من رجوع بعض أصحاب الصناعات أحيانا إلى بعض في
تشخيص بعض الأمور، إنما هو من باب ترجيح بعض الأغراض على بعض، كما لو
كان له شغل أهم من تشخيص ذلك الموضوع، أو يكون من باب الاحتياط وتقوية
نظره بنظره، أو من باب رفع اليد عن بعض الأغراض، لأجل عدم الاهتمام به،
وترجيح الاستراحة عليه وغير ذلك، وقياس التكاليف الإلهية بها مع الفارق.
نعم، يمكن أن يقال: إن رجوع الجاهل في كل صنعة إلى الخبير فيها، إنما
هو لأجل إلغاء احتمال الخلاف، وكون نظره مصيبا فيه نوعا، ومبنى العقلاء فيه هو
المبنى في العمل على أصالة الصحة، وخبر الثقة، واليد، وأمثالها، وهذا محقق في
الجاهل الذي له قوة الاستنباط وغيره.
نعم، الناظر في المسألة إذا كان نظره مخالفا لغيره، لا يجوز له الرجوع إليه،
لتخطئة اجتهاده في نظره، وأما غيره فيجوز له الرجوع إليه، بمناط رجوع الجاهل
إلى العالم، وهو إلغاء احتمال الخلاف.
7

لكنه محل إشكال، خصوصا مع ما يرى من كثرة اختلاف نظر الفقهاء في
الأحكام، ولهذا يحتمل أن يكون للانسداد دخالة في ذلك الرجوع.
ويحتمل أن يكون مبنى المسألة سيرة المتشرعة، والقدر المتيقن منها غير ما
نحن فيه، والمسألة مشكلة، وسيأتي مزيد توضيح إن شاء الله (1).

1 - يأتي في الصفحة 82 - 87.
8

الأمر الثاني
بيان مقدمات الاجتهاد
موضوع جواز العمل على رأيه - بحيث يكون مثابا أو معذورا في العمل به
عقلا وشرعا - هو تحصيل الحكم الشرعي المستنبط بالطرق المتعارفة لدى
أصحاب الفن، أو تحصيل العذر كذلك، وهو لا يحصل إلا بتحصيل مقدمات
الاجتهاد، وهي كثيرة:
منها: العلم بفنون العلوم العربية بمقدار يحتاج إليه في فهم الكتاب والسنة،
فكثيرا ما يقع المحصل في خلاف الواقع، لأجل القصور في فهم اللغة
وخصوصيات كلام العرب لدى المحاورات، فلا بد له من التدبر في محاورات أهل
اللسان، وتحصيل علم اللغة وسائر العلوم العربية بالمقدار المحتاج إليه.
ومنها: الأنس بالمحاورات العرفية وفهم الموضوعات العرفية، مما جرت
محاورة الكتاب والسنة على طبقها، والاحتراز عن الخلط بين دقائق العلوم
9

والعقليات الرقيقة وبين المعاني العرفية العادية، فإنه كثيرا ما يقع الخطأ لأجله، كما
يتفق كثيرا لبعض المشتغلين بدقائق العلوم - حتى أصول الفقه بالمعنى الرائج في
أعصارنا - الخلط بين المعاني العرفية السوقية الرائجة بين أهل المحاورة المبني
عليها الكتاب والسنة، والدقائق الخارجة عن فهم العرف.
بل قد يوقع الخلط لبعضهم بين الاصطلاحات الرائجة في العلوم الفلسفية أو
الأدق منها، وبين المعاني العرفية، في خلاف الواقع لأجله.
ومنها: تعلم المنطق بمقدار تشخيص الأقيسة، وترتيب الحدود، وتنظيم
الاشكال من الاقترانيات وغيرها، وتمييز عقيمها من غيرها، والمباحث الرائجة
منه في نوع المحاورات، لئلا يقع في الخطأ، لأجل إهمال بعض قواعده. وأما
تفاصيل قواعده ودقائقه الغير الرائجة في لسان أهل المحاورة، فليست لازمة، ولا
يحتاج إليها في الاستنباط.
ومنها: - وهو من المهمات - العلم بمهمات مسائل أصول الفقه، مما هي
دخيلة في فهم الأحكام الشرعية. وأما المسائل التي لا ثمرة لها، أو لا يحتاج في
تثمير الثمرة منها إلى تلك التدقيقات والتفاصيل المتداولة، فالأولى ترك التعرض
لها، أو تقصير مباحثها والاشتغال بما هو أهم وأثمر. فمن أنكر دخالة علم الأصول
في استنباط الأحكام (1)، فقد أفرط، ضرورة تقوم استنباط كثير من الأحكام
بإتقان مسائله، وبدونه يتعذر الاستنباط في هذا الزمان، وقياس زمان أصحاب

1 - أنظر روضات الجنات 7: 104 والهامش التالي.
10

الأئمة بزماننا مع الفارق من جهات.
وظني أن تشديد نكير بعض أصحابنا الأخباريين على الأصوليين في
تدوين الأصول، وتفرع الأحكام عليها (1)، إنما نشأ من ملاحظة بعض مباحث كتب
الأصول، مما هي شبيهة في كيفية الاستدلال والنقض والابرام بكتب العام، فظنوا
أن مباني استنباطهم الأحكام الشرعية أيضا شبيهة بهم، من استعمال القياس
والاستحسان والظنون، مع أن المطلع على طريقتهم في استنباطها، يرى أنهم لم
يتعدوا عن الكتاب والسنة والاجماع الراجع إلى كشف الدليل المعتبر، لا المصطلح
بين العامة (2).
نعم، ربما يوجد في بعض كتب الأعاظم لبعض الفروع المستنبطة من
الأخبار، استدلالات شبيهة باستدلالاتهم، لمصالح منظورة في تلك الأزمنة، وهذا
لا يوجب الطعن على أساطين الدين وقوام المذهب.
والانصاف: أن إنكارهم في جانب الافراط، كما أن كثرة اشتغال بعض
طلبة الأصول والنظر إليه استقلالا، وتوهم أنه علم برأسه، وتحصيله كمال
النفس (3)، وصرف العمر في المباحث الغير المحتاج إليها في الفقه لهذا التوهم، في

1 - الفوائد المدنية: 2 و 277 - 278، هداية الأبرار إلى طريق الأئمة الأطهار: 232 - 234.
2 - روضة الناظر وجنة المناظر: 73، المحصول في علم أصول الفقه 2: 3، شرح العضدي على
مختصر ابن الحاجب: 122، شرحا البدخشي والأسنوي على منهاج البيضاوي 2: 377 -
378.
3 - بدائع الأفكار، المحقق الرشتي: 33 سطر 28.
11

طرف التفريط، والعذر بأن الاشتغال بتلك المباحث يوجب تشحيذ الذهن والأنس
بدقائق الفن، غير وجيه.
فالعاقل الضنين بنقد عمره، لا بد] له [من ترك صرفه فيما لا يعني، وبذل
جهده فيما هو محتاج إليه في معاشه ومعاده، وهو نفس مسائل علم الفقه الذي هو
قانون المعاش والمعاد، وطريق الوصول إلى قرب الرب بعد العلم بالمعارف.
فطالب العلم والسعادة لا بد وأن يشتغل بعلم الأصول بمقدار محتاج إليه - وهو ما
يتوقف عليه الاستنباط -، ويترك فضول مباحثه أو يقلله، وصرف الهم والوقت في
مباحث الفقه، خصوصا فيما يحتاج إليه في عمله ليلا ونهارا.
ومنها: علم الرجال بمقدار يحتاج إليه في تشخيص الروايات، ولو
بالمراجعة إلى الكتب المعدة له حال الاستنباط.
وما قيل: من عدم الاحتياج إليه، لقطعية صدور ما في الكتب الأربعة، أو
شهادة مصنفيها بصحة جميعها (1)، أو غير ذلك (2)، كما ترى.
ومنها: - وهو الأهم الألزم - معرفة الكتاب والسنة، مما يحتاج إليه في
الاستنباط ولو بالرجوع إليهما حال الاستنباط، والفحص عن معانيهما لغة وعرفا،
وعن معارضاتهما والقرائن الصارفة بقدر الامكان والوسع، وعدم] التقصير [فيه،
والرجوع إلى شأن نزول الآيات وكيفية استدلال الأئمة (عليهم السلام) بها.
والمهم للطالب المستنبط الأنس بالأخبار الصادرة عن أهل البيت، فإنها

1 - كشهادة الكليني والصدوق (قدس سرهما) في أول الكافي والفقيه.
2 - الفوائد المدنية: 56 - 61، الحدائق الناضرة 1: 15 - 22.
12

رحى العلم، وعليها يدور الاجتهاد، والأنس بلسانهم وكيفية محاوراتهم
ومخاطباتهم، من أهم الأمور للمحصل.
فعن معاني الأخبار بسنده عن داود بن فرقد (1) قال: سمعت
أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا، إن الكلمة لتنصرف
على وجوه، فلو شاء انسان لصرف كلامه كيف شاء ولا يكذب) (2).
وعن العيون بإسناده عن الرضا (عليه السلام) قال: (من رد متشابه القرآن إلى
محكمه فقد هدي إلى صراط مستقيم).
ثم قال (عليه السلام): (إن في أخبارنا محكما كمحكم القرآن، ومتشابها كمتشابه
القرآن، فردوا متشابهها إلى محكمها، ولا تتبعوا متشابهها دون محكمها
فتضلوا) (3).
ومنها: تكرير تفريع الفروع على الأصول، حتى تحصل له قوة الاستنباط

1 - داود بن فرقد: هو الشيخ الثقة الثقة، داود بن أبي يزيد فرقد الأسدي النصري الكوفي.
صحب الصادق والكاظم صلوات الله عليهما، وكان له كتاب روته عنه جماعات كثيرة من
أصحابنا، روى عن عبد الأعلى مولى آل سام، وعمرو بن عثمان الجهني، والمعلى بن
خنيس، وروى عنه الحسن بن علي بن فضال، وصفوان بن يحيى، ومحمد بن أبي عمير.
أنظر رجال النجاشي: 158 / 418، ورجال الشيخ: 189 و 349.
2 - معاني الأخبار: 1 / 1، وسائل الشيعة 18: 84، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي،
الباب 9، الحديث 27.
3 - عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 290 / 39، وسائل الشيعة 18: 82، كتاب القضاء، أبواب
صفات القاضي الباب 9، الحديث 22.
13

وتكمل فيه، فإن الاجتهاد من العلوم العملية، وللعمل فيه دخالة تامة، كما لا يخفى.
ومنها: الفحص الكامل عن كلمات القوم، خصوصا قدماؤهم الذين دأبهم
الفتوى بمتون الأخبار، كشيخ الطائفة (1) في بعض مصنفاته (2)، والصدوقين (3)، ومن

1 - شيخ الطائفة: هو شيخ الطائفة المحقة، ورافع أعلام الشريعة الحقة، إمام الفرقة بعد الأئمة
المعصومين (عليهم السلام)، أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي البغدادي الغروي. ولد بطوس
سنة 385 ه‍، وحينما بلغ الثالثة والعشرين من عمره المبارك هاجر إلى بغداد، فتلمذ عند
الشيخ المفيد نحوا من خمس سنين حتى وفاته، ثم التحق بالسيد المرتضى، فلازمه نحوا من
ثمان وعشرين سنة، ثم استقل بزعامة الطائفة ورئاستها، وصارت داره جامعة تضم أكثر من
ثلاثمائة مجتهد من الخاصة، كالشيخ آدم بن يونس النسفي، والشيخ أحمد بن الحسين
الخزاعي النيسابوري، والشيخ أبو الصلاح الحلبي، والشيخ أبو علي الحسن ابن شيخ الطائفة
نفسه، وغيرهم من علماء الأمة. وقد كان (رحمه الله) ذا إحاطة تامة بمذاهب أهل السنة، لذا عده
السبكي - سهوا - في طبقاته من علماء الشافعية. كما كان خبيرا بعلم الكلام ملما بدقائقه
وخفاياه، ولعل أبرز ما أنجزه الشيخ الطوسي هو أنه أدخل عنصر الاجتهاد على الفقه
الإمامي، ونحا به منحى أصوليا بعد أن كان أخباريا في نزعته، لا يتجاوز نقل الروايات
بألفاظها أو بعبارات أخرى على أحسن تقدير، كما صرح به الشيخ نفسه في مقدمة كتابه
المبسوط.
توفي (رحمه الله) سنة 460 ه‍، ودفن بداره في الغري، التي صارت بعد ذلك مسجدا يعرف باسمه.
أنظر خاتمة المستدرك 3: 505، ومقدمة العلامة الحجة آغا بزرگ الطهراني على تفسير
التبيان.
2 - أي النهاية في مجرد الفقه والفتاوى.
3 - الصدوقان هما: علي بن الحسين بن بابويه القمي، وولده محمد رحمهما الله تعالى:
أما الأب، فهو الشيخ الأقدم، والطود الأشم، العالم الفقيه المحدث، صاحب المقامات الباهرة،
والدرجات الرفيعة، أبو الحسن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي. خاطبه
الإمام العسكري (عليه السلام) - على ما عن الاحتجاج - بقوله: (أوصيك يا شيخي ومعتمدي وفقيهي، أبا
الحسن علي بن الحسين بن بابويه القمي، وفقك الله لمرضاته، وجعل من ولدك أولادا
صالحين...) وكان (رحمه الله) أول من ابتكر طرح الأسانيد، والجمع بين النظائر والآتيان بالخبر مع
قرينه، وذلك في رسالة الشرائع التي ألفها لولده وبعض فقراتها مذكور في الفقيه والهداية
والمقنع لابنه. ونظرا للثقة المطلقة التي منحها الأصحاب إياه، ولاعتمادهم المطلق عليه، لذا
فقد كانوا يأخذون الفتاوى من رسالته إذا أعوزهم النص، وهذا من متفرداته قدس الله نفسه
الزكية. مات (رحمه الله) سنة 329 ه‍.
أنظر رجال النجاشي 261 / 684، وخاتمة المستدرك 3: 527 - 529.
وأما الابن، فهو شيخ من مشايخ الشيعة، وركن من أركان الشريعة، رئيس المحدثين،
والصدوق فيما يرويه عن الأئمة (عليهم السلام)، أبو جعفر محمد بن علي القمي. ولد في حدود سنة 305 ه‍
بدعاء صاحب الأمر (عليه السلام)، ونال بذلك عظيم الفضل والفخر. وصفه الإمام (عليه السلام) في
التوقيع الخارج من ناحيته: بأنه (فقيه خير مبارك ينفع الله به) فكان منذ حداثته أعجوبة
عصره في كثرة حفظه، وكلما روى شيئا تعجب الناس منه قائلين: هذا الشأن خصوصية لك
ولأخيك، لأنكما ولدتما بدعاء الصاحب (عليه السلام). ولا غرو في ذلك فقد ورد الصدوق بغداد وهو
حدث السن، فسمع منه شيوخ الطائفة، كمحمد بن هارون التلعكبري، والمفيد، والحسين
الغضائري، ووالد الشيخ النجاشي، وجعفر بن حسكة القمي، ومحمد بن سليم الحمراني،
وغيرهم من أعاظم الطائفة. له نحو من ثلاثمائة مصنف، أهم ما وصل منها كتاب من لا
يحضره الفقيه، والتوحيد، والخصال، وعلل الشرائع، وغيرها ومنها الهداية والمقنع فكثير من
عبائرهما مطابق لمتون الأخبار. توفي (رحمه الله) بالري سنة 381 ه‍.
أنظر تنقيح المقال 3: 154، وخاتمة المستدرك 3: 524 - 525.
14

يحذو حذوهم، ويقرب عصره] من [أعصارهم (1)، لئلا يقع في خلاف الشهرة

(1) - كالشيخ المفيد (قدس سره) في كتاب المقنعة.
15

القديمة التي فيها - في بعض الموارد - مناط الاجماع (1).
ولا بد للطالب] من [الاعتناء بكلمات أمثالهم، وبطريقتهم في الفقه، وطرز
استنباطهم، فإنهم أساطين الفن، مع قربهم بزمان الأئمة، وكون كثير من الأصول
لديهم مما هي مفقودة في الأعصار المتأخرة، حتى زمن المحقق (2)، والعلامة (3).

1 - راجع أنوار الهداية 1: 261 - 265.
2 - المحقق: هو الإمام العلامة المدقق الشيخ، أبو القاسم جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد
الهذلي الحلي. حاله في الفضل والعلم، والثقة والجلالة، والتحقيق والتدقيق، والفصاحة والشعر
والأدب والانشاء، وجميع العلوم والفضائل والمحاسن، أشهر من أن يذكر. ولد سنة 602 ه‍،
وتلمذ لدى والده الشيخ الحسن بن يحيى، والسيد النسابة فخار بن معد الموسوي، والفقيه
محمد بن جعفر بن أبي البقاء وغيرهم، وتخرج به ابن أخته العلامة الحلي، والشيخ الحسن
بن داود صاحب الرجال، والسيد محمد بن علي بن طاوس، والشيخ الحسن بن أبي طالب
المعروف بالفاضل الأبي وآخرون غيرهم. وكان واحد أهل زمانه، وأقومهم بالحجة،
وأسرعهم استحضارا، ولم يكن له نظير في زمانه، حتى وصفه العلامة في بعض إجازاته:
بأنه كان أفضل أهل زمانه في الفقه، ويشهد بذلك أن لقب المحقق عند الاطلاق،
ينصرف إليه خاصة، رغم كثرة المحققين من علماء الطائفة المحقة. وقد جمع في شرائعه لب
نهاية الشيخ التي هي مضامين الأخبار، وعصارة المبسوط والخلاف والسرائر. من مؤلفاته
شرائع الاسلام، المختصر النافع، المعتبر في شرح المختصر، المسلك في أصول الدين،
المعارج في أصول الفقه... توفي (رحمه الله) سنة 676 ه‍.
انظر رجال ابن داود 62 / 304، وتنقيح المقال 1: 214 - 215، وقاموس الرجال 2: 616.
3 - العلامة: هو علامة العالم، وفخر نوع بني آدم، آية الله، أبو منصور الحسن بن يوسف بن
علي بن المطهر الحلي، ولد سنة 648 ه‍، وأخذ عن والده سديد الدين يوسف، وخاله
المحقق الحلي، والمحقق الطوسي، والشيخ مفيد الدين محمد بن الجهم وغيرهم، وعنه أخذ
ولده فخر الدين محمد، والشيخ قطب الدين الرازي، والسيد عز الدين الحسن بن زهرة الحلبي،
وكان فقيها متكلما، حكيما منطقيا، هندسيا رياضيا جامعا لكافة الفنون متبحرا في كل العلوم
العقلية والنقلية، إماما في الفقه والأصول، ملأ الآفاق بتصانيفه، وعطر الأكوان بتآليفه، فقد
وزعت تصانيفه على أيام عمره من ولادته إلى وفاته، فكان قسط كل يوم منها كراسا، هذا مع
ما كان عليه من التدريس والتعليم، والعبادات والزيارات، ورعاية الحقوق والمناظرات. من
تصانيفه تذكرة الفقهاء، ومختلف الشيعة، ومنتهى المطلب في تحقيق المذهب، والجوهر
النضيد في شرح منطق التجريد، وكشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد وغيرها. توفي (رحمه الله)
عام 726 ه‍، ودفن عند أمير المؤمنين (عليه السلام).
أنظر تنقيح المقال 1: 314 - 315، وخاتمة المستدرك 3: 459 - 461.
16

وكذا الفحص عن فتاوى العامة،] ولا [سيما في مورد تعارض الأخبار،
فإنه المحتاج إليه في علاج التعارض، بل الفحص عن أخبارهم، فإنه ربما يعينه في
فهم الأحكام.
فإذا استنبط حكما شرعيا بعد الجهد الكامل وبذل الوسع فيما تقدم، يجوز له
العمل بما استنبط، ويكون معذورا لو فرض تخلفه عن الواقع.
ثم اعلم: أن موضوع جواز الافتاء أيضا عين ما ذكر، فإنه إذا اجتهد
واستنبط الحكم الواقعي أو الظاهري، فكما يجوز له العمل به، يجوز له الافتاء به،
وهذا واضح.
17

الأمر الثالث
البحث حول منصب القضاء والحكومة
موضوع القضاء ليس هو ما تقدم، لأنه لما كان من المناصب المجعولة، فلا بد
من ملاحظة دليل جعله سعة وضيقا، وكذا الحال في الحكومة ونفوذ الحكم في
الأمور السياسية، مما يحتاج إليه الناس في حياتهم المدنية.
فنقول: لا إشكال في أن الأصل عدم نفوذ حكم أحد على غيره، قضاء كان
أو غيره، نبيا كان الحاكم أو وصي نبي أو غيرهما، ومجرد النبوة والرسالة
والوصاية والعلم - بأي درجة كان - وسائر الفضائل، لا يوجب أن يكون حكم
صاحبها نافذا وقضاؤه فاصلا.
فما يحكم به العقل، هو نفوذ حكم الله - تعالى شأنه - في خلقه، لكونه
مالكهم وخالقهم، والتصرف فيهم - بأي نحو من التصرف - يكون تصرفا في ملكه
وسلطانه، وهو تعالى شأنه سلطان على كل الخلائق بالاستحقاق الذاتي، وسلطنة
18

غيره ونفوذ حكمه وقضائه تحتاج إلى جعله.
وقد نصب النبي للخلافة والحكومة مطلقا، قضاء كانت أو غيره، فهو صلى
الله عليه وآله سلطان من قبل الله تعالى على العباد بجعله، قال تعالى:
(النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) (1).
وقال: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم
فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) (2).
وقال: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا
في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) (3).
ثم بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان الأئمة (عليهم السلام) - واحدا بعد واحد - سلطانا وحاكما
على العباد، ونافذا حكمهم من قبل نصب الله تعالى ونصب النبي، بمقتضى الآية
المتقدمة، والروايات المتواترة بين الفريقين عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (4)، وأصول المذهب،

1 - الأحزاب (33): 6.
2 - النساء (4): 59.
3 - النساء (4): 65.
4 - كقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إني تارك فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعدي، الثقلين، أحدهما أكبر من
الآخر، كتاب الله حبل محدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ألا وإنهما لن يفترقا
حتى يردا علي الحوض).
أنظر سنن الترمذي 5: 327 / 3874، والشفا، القاضي عياض (ط. الفارابي) 2: 105، والدر
المنثور، السيوطي 2: 60، ومشكاة المصابيح، التبريزي (ط. المكتب الاسلامي): 6144،
وإتحاف السادة المتقين، الزبيدي (أوفسيت لبنان) 10: 507، والأمالي، الشجري (بيروت) 1:
152، وكنز العمال 1: 173 / 873، والكافي 1: 233 / 3، والأمالي، الشيخ الطوسي: 162
(مع فوارق يسيرة).
وكقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا يزال الدين قائما حتى يكون اثنا عشر خليفة من قريش).
أنظر مسند أحمد بن حنبل 5: 86، ودلائل النبوة، البيهقي (ط. دار الكتب العلمية) 6: 324،
والمعجم الكبير، الطبراني 2: 218 / 1896، وصحيح مسلم 4: 100 - 102، وكنز العمال
12: 33 / 33855، والسلسلة الصحيحة، الألباني (ط. المكتب الاسلامي): 964، والكافي 1:
441 - 449، والخصال: 465 - 480 (مع فوارق يسيرة).
19

هذا مما لا إشكال فيه.
القضاء والحكومة في زمان الغيبة
وإنما الاشكال في أمر القضاء والحكومة في زمان الغيبة، بعد قضاء الأصل
المتقدم، وبعد دلالة الأدلة على أن القضاء والحكومة من المناصب الخاصة للخليفة
والنبي والوصي.
قال تعالى: (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس
بالحق) (1).
دل على أن جواز الحكومة بالحق من متفرعات الخلافة، وغير الخليفة
لا يجوز له الحكم حتى بالحق، فتأمل.
وإنما قلنا: بجوازها، لكون الأمر في مقام رفع الحظر، فلا يستفاد منه إلا
الجواز.

1 - ص (38): 26.
20

وتدل عليه أيضا صحيحة سليمان بن خالد (1)، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:
(اتقوا الحكومة، فإن الحكومة إنما هي للإمام العالم بالقضاء، العادل في
المسلمين، لنبي، أو وصي نبي) (2).
ورواية إسحاق بن عمار (3)، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال أمير المؤمنين
لشريح: (4) يا شريح، قد جلست مجلسا لا يجلسه إلا نبي أو وصي نبي أو شقي) (5)

1 - سليمان بن خالد: هو الثقة الوجيه الفقيه المقرئ، أبو الربيع سليمان بن خالد بن دهقان بن
نافلة. روى عن الباقر والصادق (عليهما السلام)، وكان من خاصة الإمام الصادق (عليه السلام) وبطانته، وثقاته
الفقهاء الصالحين. خرج مع زيد بن علي رضوان الله عليه فقطعت يده، ولذا سمي بالأقطع
وروى عنهما (عليهما السلام) وعن أبي بصير، وروى عنه إسحاق بن عمار وجميل بن دراج، وهشام بن
سالم، مات في حياة الصادق (عليه السلام) فتوجع لفقده، ودعا لولده، وأوصى بهم أصحابه.
أنظر الإرشاد: 288، ورجال النجاشي: 183 / 484، ومعجم رجال الحديث 8: 252.
2 - الكافي 7: 406 / 1، الفقيه 3: 4 / 7، تهذيب الأحكام 6: 217 / 511، وسائل الشيعة 18:
7، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 3، الحديث 3.
3 - إسحاق بن عمار: هو الشيخ الفاضل الثقة، أبو يعقوب إسحاق بن عمار بن حيان الصيرفي
الكوفي، مولى بني تغلب، جمع الله له الدنيا والآخرة، فكان من بيت كبير من بيوت الشيعة،
ثريا ورعا تقيا. روى عن الباقر والصادق والكاظم (عليهم السلام) وعن أبي بصير، وعبد الله بن أبي
يعفور، وعمر بن يزيد... وروى عنه، إبراهيم بن مهزم، وعلي بن رئاب، ويونس بن عبد
الرحمان.
أنظر رجال النجاشي 71: 169، ورجال الكشي 2: 705، ومعجم رجال الحديث 3: 54 - 56.
4 - شريح: هو أبو أمية، شريح بن الحارث (أو ابن شرحبيل، أو شراحيل) ابن قيس الكندي
الكوفي القاضي. أدرك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يلقه، وكان شاعرا محسنا قائفا، استقضاه عمر بن
الخطاب على الكوفة ومن بعده عثمان، ثم أراد أمير المؤمنين (عليه السلام) عزله فلم يتيسر له، لأن
أهل الكوفة قالوا له (عليه السلام): لا تعزله، لأنه منصوب من قبل عمر، وبايعناك على أن لا تغير
شيئا قرره الشيخان ثم ولي القضاء لمعاوية، ويزيد، وعبد الملك، ولما تولى المختار بن أبي
عبيدة الثقفي، نفاه عن الكوفة إلى بانقيا التي لم يكن فيها غير اليهود، فقضى بينهم مدة
شهرين، فلما قتل المختار وتولى الحجاج إمارة الكوفة رده إليها واستقضاه، فاستعفاه شريح،
وكان قد شاخ وهرم، فلم يقض بين اثنين حتى مات في حدود سنة 80 ه‍.
أنظر تهذيب الكمال في أسماء الرجال 12: 435 / 2725، وتنقيح المقال 2: 83، وقاموس
الرجال 5: 405 - 408.
5 - الكافي 7: 406 / 2، الفقيه 3: 4 / 8 المقنع: 395، تهذيب الأحكام 6: 217 / 509، وسائل
الشيعة 18: 6، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 3، الحديث 2.
21

فلا بد في الاخراج من الأصل والأدلة من دليل معتبر.
فنقول: إنا نعلم علما ضروريا، بأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المبعوث بالنبوة الختمية
أكمل النبوات وأتم الأديان، بعد عدم إهماله جميع ما يحتاج إليه البشر حتى آداب
النوم والطعام، وحتى أرش الخدش (1)، لا يمكن أن يهمل هذا الأمر المهم الذي
يكون من أهم ما تحتاج إليه الأمة ليلا ونهارا، فلو أهمل - والعياذ بالله - مثل هذا
الأمر المهم، أي أمر السياسة والقضاء، لكان تشريعه ناقصا، وكان مخالفا لخطبته
في حجة الوداع (2).

1 - ففي الكافي: قلت: جعلت فداك، وما الجامعة؟. قال: (صحيفة طولها سبعون ذراعا بذراع
رسول الله (ص) وإملائه، من فلق فيه، وخط علي بيمينه، فيها كل حلال وحرام، وكل شئ
يحتاج الناس إليه، حتى الأرش في الخدش...). الكافي 1: 186 / 1، وسائل الشيعة 19:
271، كتاب الديات، أبواب ديات الأعضاء، الباب 48، الحديث 1.
2 - أي قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (أيها الناس، والله ما من شئ يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد
أمرتكم به، وما من شئ يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة إلا وقد نهيتكم عنه...).
أنظر الكافي 2: 6 / 2، والمحاسن 278 / 399، وبحار الأنوار 2: 171 / 11 و 67: 96 / 3.
22

وكذا لو لم يعين تكليف الأمة في زمان الغيبة، أو لم يأمر الإمام بأن يعين
تكليف الأمة في زمانها - مع إخباره بالغيبة وتطاولها (1) - كان نقصا فاحشا على
ساحة التشريع والتقنين، يجب تنزيهها عنه.
فالضرورة قاضية بأن الأمة بعد غيبة الإمام (عليه السلام) في تلك الأزمنة المتطاولة،
لم تترك سدى في أمر السياسة والقضاء الذي هو من أهم ما يحتاجون إليه،
خصوصا مع تحريم الرجوع إلى سلاطين الجور وقضاتهم، وتسميته: رجوعا إلى
الطاغوت، وأن المأخوذ بحكمهم سحت ولو كان الحق ثابتا (2)، وهذا واضح
بضرورة العقل، وتدل عليه بعض الروايات (3).
وما قد يقال: من أن غيبة الإمام منا (4)، فلا يجب تعيين السائس بعد ذلك،
غير مقنع، فأي دخالة لأشخاص الأزمنة المتأخرة في غيبته روحي له الفداء،

1 - كقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا بد للغلام من غيبة) فقيل له: ولم يا رسول الله؟ قال: (يخاف القتل). راجع
بحار الأنوار 52: 90 وما بعدها.
2 - راجع الكافي 1: 54 / 10، الفقيه 3: 5 / 2، تهذيب الأحكام 6: 301 / 845، الاحتجاج:
355، وسائل الشيعة 18: 98، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 1.
3 - كقوله (عليه السلام): (فإن قال قائل: ولم جعل أولي الأمر وأمر بطاعتهم؟ قيل: لعلل كثيرة، منها أن
الخلق لما وقفوا على حد محدود... فجعل عليهم فيما يمنعهم من الفساد، ويقيم فيهم
الحدود والأحكام...) والرواية طويلة، راجع علل الشرائع: 253، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2:
99، بحار الأنوار 6: 60، بيع الإمام (قدس سره) 2: 462 وما بعدها.
4 - الغيبة، الشيخ الطوسي: 62.
23

خصوصا مثل الشيعة الذين يدعون ربهم ليلا ونهارا لتعجيل فرجه؟!
فإذا علم عدم إهمال جعل منصب الحكومة والقضاء بين الناس، فالقدر
المتيقن هو الفقيه العالم بالقضاء والسياسات الدينية العادل في الرعية.
خصوصا مع ما يرى من تعظيم الله تعالى ورسول الأكرم والأئمة (عليهم السلام) العلم
وحملته (1) وما ورد في حق العلماء من كونهم (حصون الاسلام) (2)، (أمناء) (3)،
و (ورثة الأنبياء) (4)، و (خلفاء رسول الله) (5)، و (أمناء الرسل) (6)، وأنهم (كسائر
الأنبياء) (7)، و (منزلتهم منزلة الأنبياء في بني إسرائيل) (8)، وأنهم (خير خلق

1 - كقوله تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) فاطر (35): 28.
وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة
لتضع أجنحتها لطالب العلم، رضا به، وإنه ليستغفر لطالب العلم من في السماء ومن في
الأرض، حتى الحوت في البحر، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة
البدر...) الوافي 1: 42، الكافي 1: 26 / 1.
2 - الكافي 1: 30 / 3، علل الشرائع: 462 / 2، وفي رواية: (حصون المسلمين) راجع قرب الإسناد 303 / 1190، بحار الأنوار 79: 177.
3 - مشكاة الأنوار: 59، بحار الأنوار 67: 287 / 11.
4 - الكافي 1: 24 / 2، بصائر الدرجات: 31 / 3، وسائل الشيعة 18: 35، كتاب القضاء، أبواب
صفات القاضي، الباب 8، الحديث 2.
5 - عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 36 / 94، معاني الأخبار: 374 / 1، وسائل الشيعة 18: 66،
كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 8، الحديث 53.
6 - الكافي 1: 37 / 5، نوادر الراوندي: 27، عوالي اللآلي 4: 59 و 77.
7 - جامع الأخبار: 111.
8 - فقه الإمام الرضا (عليه السلام): 338، بحار الأنوار 75: 346 / 4.
24

الله بعد الأئمة إذا صلحوا) (1)، وأن (فضلهم على الناس كفضل النبي على
أدناهم) (2)، وأنهم (حكام على الملوك) (3)، وأنهم (كفيل أيتام أهل البيت) (4)،
و (أن مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله الأمناء على حلاله
وحرامه) (5)... إلى غير ذلك (6)، فإن الخدشة في كل واحد منها سندا أو دلالة
ممكنة، لكن مجموعها يجعل الفقيه العادل قدرا متيقنا، كما ذكرنا (7).

1 - الإحتجاج: 458، تفسير البرهان 1: 118، بحار الأنوار 2: 89.
2 - سنن الترمذي 4: 154 / 2826، بحار الأنوار 61: 245 وفيهما: (فضل العالم على العابد
كفضلي على أدناكم).
3 - كنز الفوائد 2: 33، مستدرك الوسائل 17: 316، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي،
الباب 11، الحديث 17.
4 - مستدرك الوسائل 17: 317، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 22.
5 - تحف العقول: 169، مستدرك الوسائل 17: 315، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي،
الباب 11، الحديث 16.
6 - كالمحكي عن الإمام العسكري (عليه السلام) من قوله: (فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه،
حافظا لدينه، مخالفا على هواه، مطيعا لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه، وذلك لا يكون إلا في
بعض فقهاء الشيعة، لا كلهم) الإحتجاج: 457، تفسير البرهان 1: 118، وسائل الشيعة 18:
94، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 10، الحديث 20.
وما عن صاحب الأمر عجل الله تعالى فرجه الشريف من قوله: (وأما الحوادث الواقعة
فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا، فإنهم حجتي عليكم، وأنا حجة الله) إكمال الدين: 484 / 4،
الغيبة، الشيخ الطوسي: 176، الإحتجاج: 469، وسائل الشيعة 18: 101، كتاب القضاء،
أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 9.
7 - تقدم في الصفحة 22 - 24.
25

في الاستدلال بمقبولة عمر بن حنظلة
ومما يدل على أن القضاء بل مطلق الحكومة للفقيه، مقبولة عمر بن
حنظلة (1) وهي لاشتهارها بين الأصحاب والتعويل عليها في مباحث القضاء (2)،
مجبورة من حيث السند (3)، ولا إشكال في دلالتها، فإنه بعدما شدد أبو عبد الله (عليه السلام)
النكير على من رجع إلى السلطان والقضاة، وأن (ما يؤخذ بحكمهم سحت ولو
كان حقا ثابتا) قال قلت: فكيف يصنعان؟
قال: (ينظران إلى من كان منكم ممن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا
وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكما، فإني قد جعلته عليكم
حاكما...) إلى آخره (4).
دلت على أن الذي نصبه للحكومة هو الذي يكون منا - فغيرنا ليس منصوبا

1 - عمر بن حنظلة: هو أبو صخر، عمر بن حنظلة الكوفي العجلي البكري. صحب
الصادقين (عليهما السلام)، وكان كثير الرواية، فقد روى عن الصادق (عليه السلام) وحمران بن أعين، وروى عنه
الأجلاء من أمثال زرارة، وعبد الله بن مسكان، وصفوان بن يحيى.
أنظر رجال الشيخ: 131 و 251، ومعجم رجال الحديث 13: 27 - 30.
2 - الكافي في الفقه، أبو الصلاح الحلبي: 424 - 425، مسالك الأفهام 2: 284 سطر 7 و 285
سطر 7، مجمع الفائدة والبرهان 12: 10، كفاية الأحكام، المحقق السبزواري: 261 سطر 15.
3 - ووهن سندها من جهة ابن حنظلة، فإنه لم يرد فيه توثيق يعتمد عليه.
4 - الكافي 1: 54 / 10، الفقيه 3: 5 / 2، تهذيب الأحكام 6: 301 / 845، الإحتجاج: 355،
وسائل الشيعة 18: 98، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 1.
26

لها، ولا يكون حكمه نافذا ولو حكم بحكمهم - ويكون راوي الحديث، والناظر في
حلالهم وحرامهم، والعارف بأحكامهم، وهو الفقيه، فإن غيره ليس ناظرا في
الحلال والحرام، وليس عارفا بالأحكام.
بل راوي الحديث في زمانهم كان فقيها، فإن الظاهر من قوله: (ممن روى
حديثنا) أي كان شغله ذلك، وهو الفقيه في تلك الأزمنة، فإن المتعارف فيها بيان
الفتوى بنقل الرواية، كما يظهر للمتتبع (1)، فالعامي ومن ليست له ملكة الفقاهة
والاجتهاد خارج عن مدلولها.
وإن شئت توضيحا لذلك فاعلم: أنه يمكن أن يستدل على الاختصاص
بالمجتهد وخروج العامي، بقوله: (نظر في حلالنا وحرامنا) لا من مفهوم النظر
الذي يدعى أنه بمعنى الاستنباط والدقة في استخراج الأحكام (2)، وإن كان لا
يخلو من وجه.

1 - وتدل عليه رواية عبد الله بن أبي يعفور قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنه ليس كل ساعة ألقاك،
ولا يمكن القدوم، ويجئ الرجل من أصحابنا فيسألني، وليس عندي كل ما يسألني عنه،
فقال: (ما يمنعك من محمد بن مسلم الثقفي، فإنه سمع من أبي، وكان عنده وجيها) رجال
الكشي 1: 383، وسائل الشيعة 18: 105، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11،
الحديث 23.
ورواية معاذ بن مسلم النحوي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (بلغني أنك تقعد في الجامع فتفتي
الناس) قلت: نعم... ويجئ الرجل أعرفه بمودتكم وحبكم، فأخبره بما جاء عنكم... فقال
لي: (اصنع كذا، فإني كذا أصنع). رجال الكشي 2: 524، وسائل الشيعة 18: 108، كتاب
القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 36.
2 - نهاية الدراية 6: 364 - 365.
27

بل لقوله: (حلالنا وحرامنا) فإن الحلال والحرام مع كونهما من الله تعالى لا
منهم، إنما نسبا إليهم لكونهم مبينين لهما، وأنهم محال أحكام الله، فمعنى النظر في
حرامهم وحلالهم، هو النظر في الفتاوى والأخبار الصادرة منهم، فجعل المنصب
لمن نظر في الحلال والحرام الصادرين منهم، أي الناظر في أخبارهم وفتاويهم،
وهو شأن الفقيه لا العامي، لأنه ناظر في فتوى الفقيه، لا في أخبار الأئمة.
ودعوى إلغاء الخصوصية عرفا، مجازفة محضة، لقوة احتمال أن يكون
للاجتهاد والنظر في أخبارهم مدخلية في ذلك، بل لو ادعى أحد القطع بأن منصب
الحكومة والقضاء - بما لهما من الأهمية، وبمناسبة الحكم والموضوع - إنما جعل
للفقيه لا العامي، فليس بمجازف.
ويمكن الاستدلال بقوله: (عرف أحكامنا) من إضافة الأحكام إليهم كما
مر بيانه، ومن مفهوم (عرف) فإن عرفان الشئ لغة (1) وعرفا ليس مطلق العلم به،
بل متضمن لتشخيص خصوصيات الشئ وتمييزه من بين مشتركاته، فكأنه قال:
إنما جعل المنصب لمن كان مشخصا لأحكامنا، ومميزا فتاوينا الصادرة لأجل
بيان الحكم الواقعي وغيرها - مما هي معللة ولو بمؤونة التشخيصات والمميزات
الواردة من الأئمة (عليهم السلام) - لكونها مخالفة للعامة، أو موافقة للكتاب (2) ومعلوم أن
هذه الصفة من مختصات الفقيه، وغيره محروم منها.
وبالجملة: يستفاد من الفقرات الثلاث التي جعلت معرفة للحاكم

1 - مفردات الراغب: 331، المصباح المنير: 481.
2 - راجع التعادل والترجيح، العلامة الإمام الخميني (قدس سره): 181 - 199.
28

المنصوب، أن ذلك هو الفقيه، لا العامي.
ويدل على المقصود قوله فيها: وكلاهما اختلفا في حديثكم، فإن الظاهر
من الاختلاف فيه هو الاختلاف في معناه، لا في نقله، وهو شأن الفقيه، بل
الاختلاف في الحكم الناشئ من اختلاف الروايتين، لا يكون - نوعا - إلا مع
الاجتهاد ورد كل منهما رواية الآخر، وليس هذا شأن العامي، فتدل هذه الفقرة
على أن المتعارف في تلك الأزمنة، هو الرجوع إلى الفقيه.
ويدل عليه أيضا قوله: (الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما)، وقوله فيما
بعد: أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة فإن المستفاد من
جميع ذلك، كون الفقاهة مفروغا عنها في القاضي، ولا إشكال في عدم صدق
الفقيه والأفقه على العامي المقلد.
ويدل قوله: (فإني قد جعلته عليكم حاكما) على أن للفقيه - مضافا إلى
منصب القضاء - منصب الحكومة أية حكومة كانت، لأن الحكومة مفهوما أعم من
القضاء المصطلح، والقضاء من شعب الحكومة والولاية، ومقتضى المقبولة أنه (عليه السلام)
جعل الفقيه حاكما وواليا، ودعوى الانصراف (1)، غير مسموعة، فللفقيه الحكومة
على الناس فيما يحتاجون إلى الحكومة من الأمور السياسية والقضائية، والمورد
لا يوجب تخصيص الكبرى الكلية.
هذا مع منع كون المورد خصوص القضاء المصطلح، فإن قوله في الصدر:

1 - منية الطالب 1: 327 (الهامش).
29

فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة يدل على أعمية المورد مما يكون مربوطا
بالقضاء كباب القضاء، أو إلى السلطان والوالي، فإن ما يرجع إليه غير ما يرجع إلى
القضاة نوعا، فإن شأنهم التصرف في الأمور السياسية، فمع أعمية الصدر من
القضاء، لا وجه لاختصاص الحاكمية به.
فحينئذ مقتضى الاطلاق جعل مطلق الحكومة - سياسية كانت أو قضائية -
للفقيه، وسؤال السائل بعده عن مسألة قضائية، لا يوجب اختصاص الصدر بها،
كما هو واضح.
وقوله: (إذا حكم بحكمنا) ليس المراد الفتوى بحكم الله جزما، بل النسبة
إليهم لكون الفقيه حاكما من قبلهم، فكان حكمه حكمهم، ورده ردهم.
هل الاجتهاد المطلق شرط أم لا؟
ثم إن الجمع المضاف وإن كان يفيد العموم، وكذا المصدر المضاف، ولازمه
جعل المنصب لمن عرف جميع الأحكام، لكن لا يستفاد منهما العموم في المقام:
أما أولا: فلأن وقوع الفقرات في مقابل المنع عن الرجوع إلى حكام الجور
وقضاتهم، يمنع عن استفادة العموم، بل الظاهر أن يكون المنصب - لمن عرف
أحكامهم، ونظر في حلالهم وحرامهم - في مقابل المنحرفين عنهم الحاكمين
باجتهادهم ورأيهم، بل الظاهر صدق قوله: (عرف أحكامنا) وغيره، على من عرف
مقدارا معتدا به منها.
والمراد برواية الحديث ليس هو الرواية للغير، ضرورة عدم مدخليتها
30

في جعل المنصب، بل المراد أن تكون فتواه على طبق الرواية، ولما كان المتعارف
في تلك الأزمنة الافتاء بصورة الرواية (1)، قال: (روى حديثنا).
وأما ثانيا: فلأن الظاهر من قوله: (عرف أحكامنا) هو المعرفة الفعلية، وهي
غير حاصلة بجميع الأحكام لغير الأئمة، بل غير ممكنة عادة، فجعل المنصب له
لغو فليس المراد معرفة جميع الأحكام، وصرفها إلى قوة المعرفة وملكة
الاستنباط، مما لا وجه له، فيجب صرفها - على فرض الدلالة - إلى معرفة
الأحكام بمقدار معتد به.
وأما ثالثا: فعلى فرض إمكان المعرفة الفعلية بجميع الأحكام،
لا طريق لتشخيص هذا الفقيه، فمن أين علم أنه عارف فعلا بجميع
الأحكام؟! فلا معنى للأمر بالرجوع إليه، فلا بد من الحمل على غيره، لكن
يجب أن يكون بحيث يصدق عليه أنه ممن روى الحديث، وعرف أحكامهم
وهو من عرف مقدارا معتدا به منها، وعليه تحمل صحيحة أبي خديجة (2)

1 - أنظر الصفحة 27.
2 - أبو خديجة: هو الشيخ الصالح الثقة الثقة، سالم بن مكرم بن عبد الله الكناسي، صاحب الغنم،
مولى بني أسد الجمال. كان يكنى، بأبي خديجة فكناه الصادق (عليه السلام) أبا سلمة وكان سالم
أولا من أصحاب أبي الخطاب، فبعث والي الكوفة إليهم رجلا فقتلهم جميعا، ولم يفلت منهم
إلا أبو خديجة، فقد سقط على الأرض جراء الجراحات التي أصابته، فلما جنه الليل خرج
من بينهم وتاب. روى عن الصادق والكاظم (عليهما السلام) وعن سعد الإسكاف، والمعلى بن خنيس،
وروى عنه أحمد بن عائذ، وعبد الرحمان بن أبي هاشم، وعبد الرحمان بن محمد الأسدي.
أنظر رجال النجاشي 188 / 501، ورجال الكشي 2: 641، ومعجم رجال الحديث 8: 26 - 27.
31

الآتية (1).
فاعتبار الاجتهاد المطلق سواء كان بمعنى الملكة أو بمعنى العلم الفعلي، مما
لا دليل عليه، بل الأدلة على خلافه، نعم لا إشكال في اعتبار علمه بجميع ما وليه.
ثم إن الرواية لما كانت في مقام التحديد وبيان المعرف للمنصوب، يجب
أخذ جميع القيود فيها قيدا إلا ما يدل العقل أو يفهم العرف عدم دخالته كما أشرنا
إليه، وفقه الحديث كملا وبيان الأحكام المستفادة منه، موكول إلى كتاب القضاء.
الاستدلال بروايتي القداح وأبي البختري
ومما يمكن الاستدلال عليه للمطلوب صحيحة القداح (2) وضعيفة أبي
البختري (3).

1 - تأتي في الصفحة 34 - 38.
2 - القداح: هو الشيخ الثقة، عبد الله بن ميمون بن الأسود المكي، مولى بني مخزوم. كان يبري
القداح (أي السهام قبل أن تراش وتركب نصولها) فعرف بالقداح. وقد ورد أن الإمام الصادق (عليه السلام) وصفه بأنه (نور في ظلمات الأرض) روى عنه (عليه السلام) وعن أبي عبيدة الحذاء،
وروى عنه جعفر بن محمد الأشعري، والحسن بن علي بن فضال، وعبد الله بن المغيرة.
أنظر رجال النجاشي: 213 / 557، ورجال الكشي 2: 514 و 687، ومعجم رجال الحديث
10: 356 - 357.
3 - أبو البختري: هو وهب بن وهب القاضي القرشي المدني، روى عن الصادق (عليه السلام)، وكان من
أكذب أهل البرية عاميا، إلا أن له عنه (عليه السلام) أحاديث كلها يوثق بها، كما عن ابن الغضائري،
وله أحاديث مع الرشيد في الكذب، وكان الصادق (عليه السلام) قد تزوج بأم وهب، روى عنه الحسن
بن محبوب، وعثمان بن عيسى، ومحمد بن أبي عمير.
أنظر رجال النجاشي: 430 / 1155، ورجال الكشي 2: 597، ورجال الشيخ: 327 / 19،
ومجمع الرجال 6: 198.
32

ففي الأولى: (وإن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا
درهما، ولكن ورثوا العلم، فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر) (1).
وفي الثانية قال: (إن العلماء ورثة الأنبياء، وذلك أن الأنبياء لم يورثوا
درهما ولا دينارا وإنما أورثوا أحاديث من أحاديثهم، فمن أخذ بشئ منها فقد
أخذ حظا وافرا...) الحديث (2).
بأن يقال: إن مقتضى إخباره ب‍ (أن العلماء ورثة الأنبياء) أن لهم الوراثة في
كل شئ كان من شأن الأنبياء، ومن شأنهم الحكومة والقضاء، فلا بد وأن تكون
الحكومة مطلقا مجعولة لهم، حتى يصح هذا الاطلاق أو الأخبار.
وتذييلهما بقوله: (ولكن ورثوا العلم) أو (إنما أورثوا أحاديث) لا يوجب
تخصيص الوراثة بهما، لعدم استفادة الحصر الحقيقي منهما حتى الثانية:
أما أولا: فلأنهما في مقابل عدم وراثة الدرهم والدينار، فالحصر إضافي.
وأما ثانيا: فلأن الحمل على الحقيقي موجب لمخالفة الواقع، لأن ميراث
الأنبياء لا ينحصر بهما، فالزهد والتقوى وسائر الكمالات من ميراث الأنبياء، كما
أن الولاية والقضاء منه.

1 - الكافي 1: 26 / 1.
2 - الكافي 1: 24 / 2، وسائل الشيعة 18: 53، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 8،
الحديث 2.
33

ولكن للنظر فيه مجال واسع، فإن قوله: (العلماء ورثة الأنبياء) ليس انشاء،
بل إخبار، ويكفي في صدقه كونهم ورثة في العلم والحديث، ولا يلزم الأخبار عن
وراثتهم كونهم وراثا في جميع شؤونهم.
نعم، لو كان في مقام الانشاء والجعل لأمكن دعوى إطلاقه على إشكال،
لكنه ليس كذلك كما لا يخفى.
بحث حول مشهورة أبي خديجة وصحيحته
ومن الروايات الدالة على المطلوب مشهورة أبي خديجة، وهي ما روى
الشيخ، عن محمد بن علي بن محبوب (1) - وطريقه إليه صحيح في المشيخة (2)

1 - محمد بن علي بن محبوب: هو شيخ القميين في زمانه، الفقيه الثقة العين، أبو جعفر محمد بن
علي بن محبوب الأشعري القمي. كان صحيح المذهب، كثير الرواية. روى عن أحمد بن محمد
ابن عيسى، وأحمد بن محمد بن خالد، وعلي بن السندي، ومحمد بن الحسين بن أبي الخطاب،
ويعقوب بن شعيب، وروى عنه أحمد بن إدريس، وابن بطة، ومحمد بن يحيى العطار.
أنظر رجال النجاشي 349 / 940، وفهرست الشيخ 145 / 613، ومعجم رجال الحديث 17:
8 - 10.
2 - قال (قدس سره): وما ذكرته في هذا الكتاب (يعني التهذيب) عن محمد بن علي بن محبوب، فقد
أخبرني به الحسين بن عبيد الله، عن أحمد بن محمد بن يحيى العطار، عن أبيه محمد بن
يحيى، عن محمد بن علي بن محبوب. مشيخة التهذيب: 72.
والظاهر وثاقة من عدا أحمد المزبور، وأما هو فلم ينص الرجاليون على توثيقه، ولكن يمكن
استفادة وثاقته من اعتماد المشايخ عليه، وبعض القرائن الأخرى.
أنظر تنقيح المقال 1: 95 - 96، وقاموس الرجال 1: 584.
34

والفهرست (1) - عن أحمد بن محمد، أي ابن عيسى (2)، عن الحسين بن سعيد (3)،

1 - قال طاب ثراه: أخبرنا بجميع كتبه ورواياته الحسين بن عبيد الله، وابن أبي جيد، عن أحمد
بن محمد بن يحيى، عن أبيه، عن محمد بن علي بن محبوب. وأخبرنا بها أيضا جماعة، عن
أبي المفضل، عن ابن بطة، عنه وأخبرنا بها أيضا جماعة، عن محمد بن علي بن الحسين،
عن أبيه ومحمد بن الحسن، عن أحمد بن إدريس، عنه. الفهرست: 145 / 613.
ولا ريب في صحة طريقة الثالث، والأول عين ما في المشيخة المتقدم، وأما الثاني فضعيف
بأبي المفضل وابن بطة. راجع رجال النجاشي: 396 / 1059 و 372 / 1019، الفهرست:
140 / 600.
2 - الوجه في تعين ابن عيسى تصريح الشيخ (قدس سره) في المشيخة (72 - 73) بوقوع محمد بن علي
بن محبوب في طريقه إلى ابن عيسى، وظاهره وقوع ابن عيسى في طريقه لابن سعيد فراجع.
بل صرح في الفهرست (59) بوقوع ابن عيسى في هذا الطريق.
وأحمد بن محمد بن عيسى: هو شيخ القميين في زمانه، ووجيههم، وفقيههم الأوحد الثقة، أبو
جعفر أحمد بن محمد بن عيسى بن عبد الله الأشعري القمي. صحب الرضا والجواد والهادي
والعسكري (عليهم السلام) وكان الرئيس الذي يلقى السلطان، وذا نفوذ وهيمنة.
روى عن أبناء عمير وفضال ومحبوب، وروى عنه أحمد بن إدريس، وسعد بن عبد الله
الأشعري، ومحمد بن يحيى العطار...
أنظر رجال النجاشي: 81 / 198، ورجال الشيخ: 366 و 397 و 409، وقاموس الرجال 1: 637.
3 - الحسين بن سعيد: هو العالم الفقيه الشيخ الثقة، الحسين بن سعيد بن حماد الأهوازي،
صحب الرضا والجواد والهادي (عليهم السلام) وكان من أوسع أهل زمانه علما بالفقه والآثار والمناقب،
وغيرها من علوم أهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين، وكانت له كتب حسنة معتمد عليها،
عول عليها الأصحاب، وعملوا بها، وكثيرا ما كانوا يقولون: بأن لفلان كتبا ككتب الحسين
ابن سعيد وما هذا إلا للمكانة العلمية المرموقة التي حظيت بها كتبه عند الأصحاب. انتقل
ابن سعيد في أخريات أيامه إلى قم، فنزل على الحسن بن أبان حتى وافته المنية. روى عن
أخيه، وعن أحمد بن محمد بن أبي نصر، وصفوان بن يحيى، وروى عنه أحمد بن محمد بن
عيسى، وأحمد بن محمد بن خالد، والحسين بن الحسن بن أبان، ومحمد بن عيسى
العبيدي....
أنظر فهرست ابن النديم: 277، ورجال النجاشي: 58 / 136 و 137، ورجال الشيخ: 372
و 399 و 412، ومعجم رجال الحديث 5: 245 - 248.
35

عن أبي الجهم (1)، وهو بكير بن أعين، وقد مات في حياة أبي عبد الله (عليه السلام) (2)، وهو
ثقة على الأظهر (3).
لكن إدراك الحسين إياه بعيد، بل الظاهر عدم إدراكه، وكذا من في طبقته،
كما يظهر بالرجوع إلى طبقات الرواة، ففي الرواية إرسال على الظاهر.

1 - هذه الكنية مشتركة بين أبي الجهم بن الحرث الذي قيل: بأن اسمه عبد الله، وأبي الجهم
الكوفي، أي ثوير بن أبي فاختة، وأبي الجهم الشيباني، بكير بن أعين. مجمع الرجال 7:
20 - 21.
أما الأول فهو صحابي، والثاني من أصحاب الإمام السجاد (عليه السلام)، فيتعين الثالث. لو لم يستظهر
أنه شخص رابع اسمه هارون بن الجهم بن ثوير بن أبي فاختة، كما يظهر من المحاسن:
368 / 121 ومستدرك الوسائل 8: 143، باب 20 من أبواب آداب السفر، حديث 3. وما فيه
: عن ثوير بن فاختة فهو سهو والصحيح بن بدل عن.
2 - ففي رجال الكشي مسندا: أن أبا عبد الله (عليه السلام) لما بلغه وفاة بكير بن أعين قال: (أما والله، لقد
أنزله الله بين رسول الله وبين أمير المؤمنين صلوات الله عليهما) وفيه أيضا عن الصادق (عليه السلام)
أنه قال: (رحم الله بكيرا وقد فعل)... رجال الكشي 2: 419.
وممن صرح بوفاته في حياته (عليه السلام) الشيخان، الصدوق والطوسي (رحمهما الله)، فراجع مشيخة الفقيه:
33، ورجال الشيخ: 157 / 43.
3 - لصحة سند الرواية الأولى المذكورة في الهامش السابق، والمتضمنة لثناء عظيم دال على
التوثيق.
36

وأبو الجهم يروي عن أبي خديجة، سالم بن مكرم، وهو ثقة، فلا إشكال فيها
إلا من جهة الظن بالارسال، ولو ثبت اشتهار العمل بها - كما سميت مشهورة (1) -
فيجبر ضعفها من جهته.
قال: بعثني أبو عبد الله إلى أصحابنا فقال: (قل لهم إياكم إذا وقعت بينكم
خصومة أو تدارى في شئ من الأخذ والعطاء، أن تحاكموا إلى أحد من هؤلاء
الفساق، اجعلوا بينكم رجلا قد عرف حلالنا وحرامنا، فإني قد جعلته عليكم قاضيا،
وإياكم أن يخاصم بعضكم بعضا إلى السلطان الجائر) (2).
دلت على جعله منصب القضاء لرجل عارف بحلالهم وحرامهم، وتقريب
الدلالة يظهر مما مر في المقبولة، إلا أنها أظهر دلالة من المشهورة بجهات، كما أن
المستفاد منها جعل الحكومة مطلقا للفقيه، دون هذه.
بل يمكن أن يقال: بدلالتها على الحكومة أيضا، فإن صدرها عام في
مطلق الخصومات، سواء كانت راجعة إلى القضاة أو إلى الولاة، والقاضي أعم
لغة (3) وعرفا عاما من الاصطلاحي، وذيلها يؤكد التعميم، فإن التخاصم إلى
السلطان ليس في الأمور القضائية، بحسب التعارف في جميع الأزمنة، ولا سيما

1 - المكاسب: 154 سطر 6، الاجتهاد والتقليد، المحقق الأصفهاني، ضمن بحوث في الأصول: 7.
2 - تهذيب الأحكام 6: 303 / 846، وسائل الشيعة 18: 100، كتاب القضاء، أبواب صفات
القاضي، الباب 11، الحديث 6.
3 - لسان العرب 11: 209، وفيه: القضاء في اللغة على وجوه، مرجعها انقطاع الشئ
وتمامه....
37

في تلك الأزمنة.
ومن ذلك يمكن التمسك بالصحيحة] الآتية [، فإن (أهل الجور) هم الولاة،
والقاضي حاكم بالجور، والظاهر من (أهل الجور) هم المتصدون له، وهم الولاة.
وقريب منها صحيحة أبي خديجة على الأصح (1)، قال: قال أبو عبد الله،
جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام): (إياكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور، ولكن
انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا (2)، فاجعلوه بينكم، فإني قد جعلته
قاضيا، فتحاكموا إليه) (3).
وهاهنا روايات أخر استدلوا بها للمطلوب (4)، قاصرة سندا أو دلالة أو
كليهما، لا بأس بذكرها تأييدا، وقد أشرنا إلى مضامينها في أوائل هذا البحث (5).
فتحصل مما ذكرنا: أن القضاء بل الحكومة مطلقا، من مناصب الفقهاء،
وهذا مما لا إشكال فيه بالنسبة إلى منصب القضاء، فإن الاجماع (6)، بل الضرورة
قاضيان بثبوته للفقيه في زمن الغيبة، كما أن الأقوى ثبوت منصب الحكومة

1 - من جهة الوشاء كما يأتي في الصفحة 42.
2 - كذا في التهذيب والوسائل، والموجود في الكافي والفقيه: قضائنا بدل قضايانا.
3 - الكافي 7: 412 / 4، الفقيه 3: 2 / 1، تهذيب الأحكام 6: 219 / 516، وسائل الشيعة 18:
4، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 1، الحديث 5.
4 - عوائد الأيام: 536، ملحقات العروة 3: 6 - 7، (واستدلال السيد اليزدي (قدس سره) إنما هو في
خصوص باب (القضاء).
5 - تقدم في الصفحة 24 - 25.
6 - مفتاح الكرامة 10: 3 سطر 23، جواهر الكلام 40: 31.
38

والولاية له في الجملة، وبيان حدودها ومتفرعاتها موكول إلى محل آخر.
فيما استدل به على استقلال العامي في القضاء وجوابه
إنما الاشكال في جواز القضاء للمقلد مستقلا، أو بنصب الحاكم، أو وكالته،
واستدل على استقلاله بأمور:
منها: قوله تعالى في سورة النساء: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى
أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به) (1).
فإن إطلاقه شامل للمقلد العامي، ومعلوم أنه إذا أوجب الله تعالى الحكم
بالعدل بين الناس، فلا بد من إيجاب قبولهم ومن نفوذه فيهم، وإلا لصار لغوا.
وفيه: أن الخطاب في صدر الآية متوجه إلى من عنده الأمانة، لا إلى مطلق
الناس، وفي ذيلها إلى من له الحكم وله منصب القضاء أو الحكومة، لا إلى مطلق
الناس أيضا، كما هو ظاهر بأدنى تأمل، فحينئذ يكون المراد: أن من له حكم بين
الناس، يجب عليه أن يحكم بينهم بالعدل.
هذا مضافا إلى أنها في مقام بيان وجوب العدل في الحكم، لا وجوب
الحكم، فلا إطلاق لها من هذه الحيثية.
ويدل على أن الأمر متوجه إلى من له الأمر - مضافا إلى ظهور الآية -: ما
روى الصدوق، بإسناده عن المعلى بن خنيس (2)، عن الصادق (عليه السلام) قال قلت له:

1 - النساء (4): 58، وقد استدل بها في جواهر الكلام 40: 15.
2 - المعلى بن خنيس: هو أبو عبد الله، المعلى بن خنيس البزاز المدني. كان مولى للإمام الصادق (عليه السلام)، ومن قوامه، ممدوحا عنده (عليه السلام)، وإنما قتله داود بن علي بسبه، حتى مضى على
منهاجه، وقد توجع (عليه السلام) لقتله، حتى قال لداود بن علي: (يا داود، على ما قتلت مولاي وقيمي
في مالي وعلى عيالي؟! والله، إنه لأوجه عند الله منك) هكذا أفاد الشيخ الطوسي في غيبته،
ولكن عن ابن الغضائري أن سبب قتله هو دعوته إلى محمد بن عبد الله المعروف بالنفس
الزكية ولعله لذا ضعفه النجاشي. وعلى أي حال فقد روى عن الصادق والكاظم (عليهما السلام) وعن
أبي الصامت، والمفضل بن عمر، ويونس بن ظبيان، وروى عنه إسحاق بن عمار، وداود بن
فرقد، وجميل بن دراج، وهشام بن سالم وغيرهم.
أنظر الغيبة، الشيخ الطوسي: 210، ورجال النجاشي: 417 / 1114، وتنقيح المقال 3: 230 -
232، ومعجم رجال الحديث 18: 235 - 236.
39

قول الله عز وجل: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين
الناس أن تحكموا بالعدل).
فقال: (عدل الإمام أن يدفع ما عنده إلى الإمام الذي بعده، وأمر الأئمة أن
يحكموا بالعدل، وأمر الناس أن يتبعوهم) (1).
وليس هذا تفسيرا تعبديا خلاف ظاهر الآية، بل هو ظاهرها، لأن الحكومة
بين الناس لما كانت في جميع الطوائف، شأن الأمراء والسلاطين، لا يفهم العرف
من الآية إلا كون الخطاب متوجها إليهم، لا إلى الرعية الذين ليس لهم أمر وحكم.
ومنها: مفهوم قوله في المائدة: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم
الكافرون) (2).

1 - الفقيه 3: 2 / 2، تهذيب الأحكام 6: 223 / 533، وسائل الشيعة 18: 4، كتاب القضاء،
أبواب صفات القاضي، الباب 1، الحديث 6.
2 - المائدة (5): 44. وانظر جواهر الكلام 40: 15.
40

وفي آية: (هم الظالمون) (1) وفي ثالثة: (هم الفاسقون) (2).
دلت بمفهومها على وجوب الحكم بما أنزل الله، وإطلاقه شامل للعامي
المقلد.
وفيه: أن الآيات الكريمة في مقام بيان حرمة الحكم بغير ما أنزل الله، ولا
يستفاد منها جواز الحكم أو وجوبه لكل أحد، لعدم كونها في مقام البيان من هذه
الجهة.
والانصاف: أن هذه الآيات وغيرها مما استدل بها المحقق صاحب
الجواهر (قدس سره) (3)، ليس لها إطلاق يمكن أن يتمسك به للمطلوب، مضافا إلى أنه لو
كان لها إطلاق، ينصرف إلى من كان صاحب الأمر والحكم، دون غيره.

1 - المائدة (5): 45.
2 - المائدة (5): 47.
3 - المحقق صاحب الجواهر: هو فقيه الإمامية الكبير، مربي العلماء، وشيخ الفقهاء، الشيخ
محمد حسن ابن الشيخ باقر النجفي: أخذ عن الشيخ كاشف الغطاء، وولده الشيخ موسى
وعن صاحب مفتاح الكرامة وعن صاحب الرياض قليلا، وتتلمذ عليه الميرزا حبيب الله
الرشتي، والسيد حسين الكوه كمري، والشيخ حسن المامقاني وغيرهم، وانتهت إليه رئاسة
الطائفة في منتصف القرن الثالث عشر، فصار مرجعا للتقليد في سائر الأقطار، وأذعن
معاصروه بفضله وتقدمه. وهو صاحب الموسوعة الفقهية العظيمة (جواهر الكلام) التي قضى
في تأليفها ثلاثين عاما وله رسالة عملية سماها نجاة العباد مع مقالات أصولية ورسائل
شتى، وهو الذي سن الخروج إلى مسجدي الكوفة والسهلة في خصوص ليلة الأربعاء للدعاء
والابتهال والتضرع إليه سبحانه. توفي (رحمه الله) سنة 1266 ه‍.
أنظر معارف الرجال 2: 225 / 326، وأعيان الشيعة 9: 149.
41

ومنها: ما روى الصدوق بسنده عن أحمد بن عائذ (1)، وليس في طريقه (2)
إليه من يمكن القدح فيه إلا الحسن بن علي الوشاء، وقد قال فيه النجاشي (3): كان

1 - أحمد بن عائذ: هو الشيخ الثقة، أبو علي أحمد بن عائذ بن حبيب الأحمسي العبسي
البجلي الكوفي. صحب الباقر والصادق والكاظم (عليهم السلام) ولازم أبا خديجة، سالم بن مكرم،
وأخذ عنه، وعرف به، كما روى عن الحسين بن المختار، وعمر بن أذينة، وروى عنه أحمد
بن محمد بن أبي نصر، والحسن بن علي بن فضال، والوشاء، ومحمد بن عمر بن بزيع.
أنظر رجال النجاشي 98 / 246، ورجال الشيخ: 107 و 143، ومعجم رجال الحديث 2:
129 - 130.
2 - قال الصدوق (قدس سره) في المشيخة: وما كان فيه عن أحمد بن عائذ، فقد رويته عن أبي رضي
الله عنه، عن سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن علي الوشاء،
عن أحمد بن عائذ. مشيخة الصدوق: 128 - 129.
3 - النجاشي: هو الشيخ الجليل الأقدم، العالم المضطلع الخبير، أبو العباس أحمد بن علي بن
أحمد بن العباس النجاشي الأسدي. ولد سنة 372 ه‍. وتلمذ عند أبيه، وأحمد بن علي
السيرافي المعروف بابن نوح وأحمد بن الحسين الغضائري، ومحمد بن النعمان المعروف
بالشيخ المفيد والسيد المرتضى وغيرهم، وروى عنه جماعة من أصحابنا، منهم السيد
ذو الفقار بن معبد الحسيني المرزوي، أحد مشايخ ابن شهرآشوب، كان (رحمه الله) أحد المشايخ
الثقات، والعدول الأثبات، ومن أعظم أركان الجرح والتعديل، وأعلم علماء هذا السبيل،
أجمع علماؤنا على الاعتماد عليه، وأطبقوا على الاستناد في أحوال الرجال إليه. وكان (رحمه الله)
لا يأخذ عن غير ثقة في الحديث، ولا يعتمد في النقل على المنحرف الضعيف، بل اقتصر على
الثقات الأجلة من الرواة. له كتاب الرجال المعروف برجال النجاشي، وكتاب الجمعة وما ورد
فيه من الأعمال، وكتاب الكوفة وما فيها من الآثار والفضائل... توفي (رحمه الله) بمطير آباد
سنة 450 ه‍.
أنظر رجال النجاشي: 101 / 253، ورجال العلامة الحلي: 20 / 53، وروضات الجنات 1:
60 - 63، وخاتمة المستدرك 3: 501 - 504.
42

من وجوه هذه الطائفة، وقال: كان هذا الشيخ عينا من عيون هذه الطائفة (1).
وقد روى عنه الأجلة (2)، كابن أبي عمير (3)، أحمد بن محمد بن عيسى،

1 - رجال النجاشي: 39 / 80.
2 - لم يعهد رواية ابن أبي عمير عن الوشاء إلا ما ذكره تنقيح المقال 1: 295 سطر 22. أما
الباقون:
1 - أحمد بن محمد بن عيسى: معجم رجال الحديث 2: 129، 302 و 4: 291 و 5: 27، 34،
35، 37، 65، 72 و 23: 166.
2 - أحمد البرقي: معجم رجال الحديث 2: 267 و 5: 72 و 23: 166.
3 - محمد بن عيسى: معجم رجال الحديث 5: 72 و 17: 87 - 88 و 23: 166.
4 - يعقوب بن يزيد: معجم رجال الحديث 5: 35، 72 و 20: 148 - 149.
5 - الحسين بن سعيد: معجم رجال الحديث 5: 27، 72، 246.
3 - ابن أبي عمير: هو الشيخ الجليل الفقيه الأوحدي الثقة، أبو أحمد محمد بن زياد بن عيسى
الأزدي. لقي الكاظم (عليه السلام) وسمع منه أحاديث، كناه في بعضها (عليه السلام) بقوله: يا أبا أحمد... كما
روى عن الإمامين الرضا والجواد (عليهما السلام) وعن أبي بصير، وأبان بن عثمان، وعمر بن أذينة،
وروى عنه أحمد بن محمد بن عيسى، وأحمد بن محمد بن خالد وسهيل بن زياد... وكان
بحرا طارسا بالموقف والمذهب، جليل القدر، عظيم المنزلة عند الخاصة والعامة، ومن أوثق
الناس وأورعهم وأعبدهم، أجمع أصحابنا على تصحيح ما يصح عنه وتصديقه، وأقروا له
بالفقه والعلم. وكان قد سعي به إلى الخليفة العباسي يومذاك أنه يعرف أسامي عامة الشيعة
بالعراق، فأمره أن يسميهم فامتنع، فضرب مائة سوط، فلم يخبر، ولكنه غرم مائة ألف درهم
فخلي عنه، وفي تلك الفترة العصيبة هلكت كتبه لسبب أو لآخر، فحدث من حفظه وما كان
سلف له في أيدي الناس، فلذا سكن أصحابنا إلى مراسيله، ولم يفرقوا بينها وبين مسانيده،
لأنه لا يرسل إلا عن ثقة. مات (قدس سره) سنة 217 ه‍.
أنظر رجال النجاشي: 326 / 887، ورجال الكشي 2: 830 و 854 - 856، ومعجم رجال
الحديث 14: 287 - 288.
43

وأحمد بن محمد بن خالد (1)، ومحمد بن عيسى (2)، ويعقوب بن يزيد (3)، والحسين

1 - أحمد بن محمد بن خالد: هو الشيخ الثقة، أبو جعفر أحمد بن محمد (المكنى بأبي عبد الله)
ابن خالد البرقي صحب الإمامين الجواد والهادي صلوات الله عليهما: وكان ثقة في نفسه. إلا
أنه روى عن الضعفاء، واعتمد المراسيل، شأنه في ذلك شأن أهل الأخبار، لذا طعن عليه
القميون، وأبعده رئيس قم، أحمد بن محمد بن عيسى عنها، ثم أعاده إليها واعتذر إليه، ولما
مات البرقي سنة 274 أو 280 مشى ابن عيسى في جنازته حافيا حاسرا، ليبري نفسه مما
قذفه به. روى عن أبيه، وعن عثمان بن عيسى، ومحمد بن علي، وروى عنه سعد بن عبد الله،
وسهل بن زياد، وعلي بن محمد ماجيلويه.
أنظر رجال النجاشي: 76 / 182، ورجال الشيخ: 398 و 410، ورجال العلامة
الحلي: 14 / 7، ومعجم رجال الحديث 2: 266 - 268.
2 - محمد بن عيسى: هو الشيخ العالم الفاضل الثقة الجليل، أبو جعفر محمد بن عيسى بن عبيد
ابن يقطين العبيدي اليقطيني. كان جليلا في أصحابنا، ثقة عينا، كثير الرواية، حسن التصانيف،
وكان الفضل بن شاذان يحبه ويمدحه ويميل إليه ويقول: ليس في أقرانه مثله صحب من
الأئمة الأطهار الرضا والجواد والهادي والعسكري (عليهم السلام)، وروى عن حماد وعثمان ابني
عيسى، وعن يونس بن عبد الرحمان، وروى عنه سعد بن عبد الله الأشعري، وعبد الله بن جعفر
الحميري، ومحمد بن الحسن الصفار.
أنظر رجال النجاشي: 333 / 896، ورجال الشيخ: 393 و 422 و 435، ومعجم رجال
الحديث 17: 110 - 111.
3 - يعقوب بن يزيد: هو الشيخ الثقة، أبو يوسف يعقوب بن يزيد بن حماد الأنباري السلمي
القمي، كان كاتبا من كتاب المنتصر العباسي، فعرف بالكاتب وكان صدوقا كثير الرواية،
صحب من أئمة آل البيت الكاظم والرضا والجواد والهادي صلوات الله عليهم أجمعين، وروى
عن أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي، وحماد بن عيسى، ومحمد بن أبي عمير، وروى
عنه أحمد بن محمد بن عيسى وأحمد بن محمد بن خالد، وسعد الأشعري، والصفار.
أنظر رجال النجاشي: 450 / 1215، ورجال الكشي 2: 869، وفهرست الشيخ: 180 /
782، ومعجم رجال الحديث 20: 147 / 13749.
44

ابن سعيد وغيرهم (1).
وعن العلامة: الحكم بصحة طرق هو فيها (2)، بل قد يقال: إنه من مشايخ
الإجازة (3) فلا يحتاج إلى التوثيق، وكيف كان فالأقوى وثاقته.
وأحمد بن عائذ ثقة، روى عن أبي خديجة سالم بن مكرم الجمال، وقد
وثقه النجاشي قائلا: إنه ثقة ثقة (4)، ووثقه الشيخ في موضع على ما عن العلامة (5)،
وإن ضعفه في موضع كما عن الفهرست (6) والأرجح وثاقته.
قال: قال أبو عبد الله، جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام): (إياكم أن يحاكم بعضكم
بعضا إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا،
فاجعلوه بينكم، فإني قد جعلته قاضيا، فتحاكموا إليه) (7).

1 - كأيوب بن نوح، وعلي بن الحسن بن فضال، وعبد الله بن الصلت.
أنظر معجم رجال الحديث 5: 27، 72 و 22: 169 و 23: 166.
2 - وذلك في طريق الصدوق (قدس سره) لأبي الحسن النهدي، وأحمد بن عائذ وغيرهما. أنظر رجال
العلامة الحلي: 280 سطر 12 و 22، ومشيخة الفقيه: 102، 125، وتنقيح المقال 1: 295
سطر 23.
3 - تنقيح المقال 1: 295 سطر 23.
4 - رجال النجاشي: 188 / 501.
5 - رجال العلامة الحلي: 227، تنقيح المقال 2: 6 سطر 6.
6 - فهرست الشيخ الطوسي: 79 / 327، تنقيح المقال 2: 5 سطر 33.
7 - الكافي 7: 412 / 4، الفقيه 3: 2 / 1، تهذيب الأحكام 6: 219 / 516، وسائل الشيعة 18:
4، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 1، الحديث 5.
45

فإنها بإطلاقها تشمل المقلد، لأن المراد بالعلم هو الأعم من الوجداني،
والمقلد عالم بهذا المعنى، لأن له طريقا إلى الواقع (1).
وفيه: أن العلم بشئ من قضاياهم مختص بالفقيه، أو منصرف إليه، لأن
العامي إما أن يتكل على فتوى الفقيه في القضاء، فلا يصدق عليه أنه يعلم شيئا
من قضاياهم بل هو يعلم فتوى الفقيه في القضاء، وهو طريق إلى حكم الله تعالى.
وإما أن يتكل على إخبار الفقيه بقضاياهم، وهذا غير جائز، لأنه لا يزيد
على رواية مرسلة غير جائزة العمل، مع أنه على فرض صحة السند، لا يجوز له
العمل بها إلا مع الفحص عن معارضها، وإعمال سائر مقدمات الاستنباط، وهو
خارج عن المفروض.
وبالجملة: العلم بفتوى الفقيه، لا يوجب انسلاكه في قوله: (يعلم شيئا من
قضايانا).
نعم، يمكن الاستدلال بها لثبوت منصب القضاء للمتجزي، وهو ليس ببعيد.
ومنها: صحيحة الحلبي (2)، قال قلت لأبي عبد الله: ربما كان بين الرجلين

1 - أنظر جواهر الكلام 40: 16 - 18.
2 - الحلبي: هو الشيخ الثقة الوجيه، أبو علي عبيد الله (عبد الله) بن علي بن أبي شعبة الحلبي
الكوفي. كان يتجر هو وأبوه وإخوته إلى حلب، فعرفوا بالحلبيين وكان من أسرة معروفة
في الكوفة، يرجع إليها في أقوالها، ويعد عبيد الله كبيرها ووجهها، صنف كتابه المعروف،
وعرضه على الإمام الصادق (عليه السلام) فلما رآه استحسنه وصححه قائلا صلوات الله عليه: (أترى
لهؤلاء مثل هذا؟!) روى عنه (عليه السلام)، وروى عن عبيد الله هذا أحمد بن عائذ، وحماد بن عثمان،
وعبد الله بن مسكان....
أنظر رجال النجاشي: 230 / 612، ومعجم رجال الحديث 11: 88 - 89.
46

من أصحابنا المنازعة في الشئ، فيتراضيان برجل منا.
فقال: (ليس هو ذاك، إنما هو الذي يجبر الناس على حكمه بالسيف
والسوط) (1).
فإن إطلاق قوله: رجل منا يشمل المقلد، وترك الاستفصال دليل العموم.
وأيضا: حصر عدم الجواز فيمن يجبر الناس بسيفه وسوطه، دليل على
جواز الرجوع لغيرهم مطلقا.
وفيه: أن الظاهر من قوله: (ليس هو ذاك) كون الكلام مسبوقا بسابقة بين
المتخاطبين غير منقولة إلينا، ومعه يشكل الاعتماد على الاطلاق وترك
الاستفصال.
مضافا إلى عدم الاطلاق، لعدم كونه في مقام البيان، بل هو في مقام بيان
حكم آخر، والحصر إضافي، ضرورة عدم جواز الرجوع إلى قضاة العامة ممن
ليس لهم سيف وسوط.
ومضافا إلى عدم جواز الاعتماد على الحصر أيضا مع معهودية القضية
بينهما، عدم نقل الرواية بجميع خصوصياتها لنا.

1 - تهذيب الأحكام 6: 223 / 532، وسائل الشيعة 18: 5، كتاب القضاء، أبواب صفات
القاضي، الباب 1، الحديث 8.
47

مع أن معهودية كون شأن القضاء لأشخاص معينين وهم فقهاء الفريقين،
يمنع عن الاطلاق، وعلى فرض الاطلاق يقيد بمثل المقبولة.
وجه آخر لجواز الرجوع إلى المقلد وجوابه
وقد يستدل لجواز الرجوع إلى المقلد: بأن الاجتهاد بهذا المعنى المتعارف
في زماننا، لم يكن في الصدر الأول، بل المحدثون فيه مثل المقلدين الآخذين
أحكام الله من الفقهاء، فقوله في المقبولة: (ممن روى حديثنا، ونظر في حلالنا
وحرامنا، وعرف أحكامنا) (1)، ليس المراد منه المجتهد، أي من له قوة الاستنباط
بالمعنى المعهود في أعصارنا، لعدم وجوده في زمان الأئمة (عليهم السلام) بل المراد منه من
علم الأحكام بأخذ المسائل من الإمام أو الفقيه، كما كان كذلك في تلك الأزمنة (2).
وفيه: إنا لا ندعي أن المناط في الفقيه المنصوب في المقبولة، هو واجديته
لقوة الاستنباط، ورد الفرع إلى الأصل بالنحو المتعارف في زماننا.
بل نقول: إن الموضوع هو من يتصف بما فيها، من كونه ممن روى حديثهم،
ونظر في حلالهم وحرامهم، وعرف أحكامهم، على نحو ما حررناه في فقه
الحديث (3)، وهو صادق على المحدثين والفقهاء في العصر الأول من أصحاب

1 - الكافي 1: 54 / 10، الفقيه 3: 5 / 2، تهذيب الأحكام 6: 301 / 845، الإحتجاج: 355،
وسائل الشيعة 18: 75، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 1.
2 - أنظر جواهر الكلام 40: 18، ونهاية الدراية 6: 365.
3 - تقدم في الصفحة 26 - 30.
48

الأئمة، كما هو صادق على فقهاء عصرنا، فإنهم مشتركون معهم فيما هو مناط
المنصب.
وامتياز المجتهدين في زماننا عنهم، إنما هو في أمر خارج عما يعتبر في
المنصب، وهو تحصيل قوة الاستنباط بالمشقة، وبذل الجهد، وتحمل الكلفة في
معرفة الأحكام، مما لم يكن فقهاء العصر الأول محتاجين إليه.
فمعرفة الأحكام في العصر الأول كانت سهلة، لعدم الاحتياج إلى كثير من
مقدمات الاجتهاد، وعدم الاحتياج إلى التكلف وبذل الجهد، مما نحتاج إليه في
هذه الأعصار مما هو غير دخيل في تقوم الموضوع، بل دخيل في تحققه، فقيود
الموضوع - وهي ما عينت المقبولة من الأوصاف - كانت حاصلة لهم من غير
مشقة، ولفقهائنا مع تحمل المشاق.
وأما المقلد فخارج عن الموضوع رأسا، لعدم صدق الأوصاف عليه، كما
أوضحنا سبيله سابقا (1).
هذا مع أن المنصوبين للقضاء من قبل خلفاء الجور والحق، كانوا من الفقهاء
الواجدين لقوة الاستنباط، كشريح المنصوب من قبل أمير المؤمنين، وكابن أبي ليلى (2)،

1 - تقدم في الصفحة 26 - 29.
2 - ابن أبي ليلى: هو محمد بن عبد الرحمان بن أبي ليلى يسار الأنصاري القاضي الكوفي. ولد
سنة 74 ه‍، وصحب الصادق (عليه السلام) وكان من أصحاب الرأي فقيها مفتيا، وتولى القضاء
بالكوفة، وأقام حاكما ثلاثا وثلاثين سنة، ولي لبني أمية أولا، ثم لبني العباس، وكان سيئ
الحفظ. مات سنة 148 ه‍.
أنظر رجال الشيخ: 293 / 210، وتذهيب التهذيب 2: 43 / 6439، والكنى والألقاب 1:
202 - 204.
49

وابن شبرمة (1)، وقتادة (2)، وأضرابهم (3).
فتحصل من جميع ذلك: أن منصب القضاء مختص بالفقهاء، ولاحظ
للعامي فيه.
هل يجوز للفقيه نصب العامي للقضاء أم لا؟
فهل يجوز للفقيه نصب العامي العارف بمسائل القضاء تقليدا أم لا؟
ربما قيل: بالجواز، مستدلا بعموم أدلة ولاية الفقيه (4).
وتقريبه: أن للنبي والوصي نصب كل أحد للقضاء، مجتهدا كان، أو مقلدا
عارفا بالمسائل، بمقتضى سلطنتهم وولايتهم على الأمة، وكل ما كان لهما يكون

1 - ابن شبرمة: هو عبد الله بن شبرمة بن الطفيل الضبي الكوفي. كان قاضيا لأبي جعفر المنصور
على سواد الكوفة، شاعرا جوادا، قليل الحديث، ومن أصحاب الرأي والقياس، وكان عيسى
بن موسى - ولي العهد بعد المنصور - لا يقطع أمرا دونه. توفي سنة 144 ه‍.
أنظر الوافي بالوفيات 17: 207 / 193، والكنى والألقاب 1: 324.
2 - لم نعثر على قاض معروف سمي بقتادة. أنظر تهذيب الكمال 23: 498 - 523، وتذهيب
التهذيب 2: 350 - 351.
3 - كعياض، وأبي يوسف....
4 - جواهر الكلام 40: 18 - 19.
50

للفقيه الجامع للشرائط، بمقتضى أدلة الولاية.
وردت كلتا المقدمتين:
أما الأولى: فلمنع جواز نصب العامي من النبي والوصي، بمقتضى مقبولة
عمر بن حنظلة الدالة على أن هذا المنصب إنما هو للفقيه لا العامي، ويستفاد منها
أن ذلك حكم شرعي إلهي (1).
وفيه: أن المقبولة لا تدل إلا على نصب الإمام الفقيه، وأما كون ذلك بإلزام
شرعي - بحيث يستفاد منها أن الفقاهة من الشرائط الشرعية للقضاء - فلا.
ويمكن أن يستدل لذلك بصحيحة سليمان بن خالد المتقدمة (2)، عن أبي
عبد الله قال: (اتقوا الحكومة، فإن الحكومة إنما هي للإمام العالم بالقضاء، العادل
في المسلمين، لنبي أو وصي نبي) (3).
فإن الظاهر منها أنها مختصة بهما من قبل الله، ولا تكون لغيرهما أهلية لها،
غاية الأمر أن أدلة نصب الفقهاء لها، تكون مخرجة إياهم عن الحصر، وبقي الباقي.
بل يمكن أن يقال: إن الفقهاء أوصياء الأنبياء بوجه، لكونهم (الخلفاء) (4)،

1 - القضاء، الآشتياني: 12.
2 - تقدمت في الصفحة 21.
3 - الكافي 7: 406 / 1، الفقيه 3: 4 / 7، تهذيب الأحكام 6: 217 / 511، وسائل الشيعة 18:
7، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 3، الحديث 3.
4 - عيون أخبار الرضا (قدس سره) 2: 36 / 94، معاني الأخبار: 374 / 1، وسائل الشيعة 18: 66،
كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 8، الحديث 53.
51

(الأمناء) (1)، و (منزلتهم منزلة الأنبياء من بني إسرائيل) (2)، فيكون خروجهم
موضوعيا.
لا يقال: بناء عليه لا معنى لنصبهم حكاما، لأنهم الأوصياء، فيكون المنصب
لهم بجعل الله.
لأنا نقول: إن المستفاد من الصحيحة أن هذا المنصب لا يكون إلا للنبي
والوصي، وهو لا ينافي أن يكون بنصب النبي أو الإمام، لكن بأمر الله تعالى
وحكمه، فإذا نصب الله تعالى النبي حاكما وقاضيا، ونصب النبي الأئمة كذلك،
والأئمة الفقهاء، ويكون الأئمة والفقهاء أوصياء النبي، يصح أن يقال: إن الحكومة
منحصرة بالنبي والوصي ويراد منه الأعم من الفقهاء، تأمل.
وبالجملة: حصر الحكومة بالنبي والوصي، يسلب أهلية غيرهما، خرج
الفقهاء إما موضوعا أو حكما، وبقي الباقي.
مع أن الشك في جواز نصب النبي والإمام العامي للقضاء - باحتمال
اشتراطه بالفقاهة، وعدم ظهور إطلاق ينفيه - يكفي في عدم جواز نصب الفقيه
إياه، وعدم نفوذ حكمه لو نصبه.
وأما المقدمة الثانية: فأجيب عنها بمنع عموم ولاية الفقيه، لأن المنصف
المتأمل في المقبولة صدرا وذيلا، وفي سياق الأدلة، يقطع بأنها في مقام بيان

1 - مشكاة الأنوار: 59، بحار الأنوار 67: 687 / 11.
2 - فقه الإمام الرضا (عليه السلام): 338، بحار الأنوار 75: 346 / 4.
52

وظيفتهم من حيث الأحكام الشرعية والقضاء بين الناس، لا مطلقا.
مع أنه لو سلمت استفادة العموم منها، فلا بد وأن تحمل على ذلك، احترازا
عن التخصيص الأكثر المستهجن، فإن أكثر ما للنبي والإمام غير ثابت للمجتهد،
فلا يجوز التمسك بها لما نحن فيه إلا بعد تمسك جماعة معتد بها من الأصحاب،
ولم يتمسك بها في المقام إلا بعض المتأخرين (1) (2).
وفيه: أن المستفاد من المقبولة كما ذكرناه (3)، هو أن الحكومة مطلقا للفقيه،
وقد جعلهم الإمام حكاما على الناس، ولا يخفى أن جعل القاضي من شؤون
الحاكم والسلطان في الاسلام، فجعل الحكومة للفقهاء مستلزم لجواز نصب
القضاة، فالحكام على الناس شأنهم نصب الأمراء والقضاة وغيرهما مما يحتاج
إليه الأمة، كما أن الأمر كذلك من زمن رسول الله والخلفاء حقا أو باطلا، ولعله
الآن كذلك عند العامة، وليس ذلك إلا لمعروفية ذلك في الاسلام من بدو نشئة.
فالقول: بأن الأخبار في مقام بيان وظيفتهم من حيث الأحكام الشرعية
والقضاء بين الناس، ساقط: أما بيان الأحكام الشرعية فليس من المناصب، فلا
معنى لجعله. وتخصيصها بالقضاء لا وجه له بعد عموم اللفظ، ومطابقة الاعتبار.
والانصراف لو كان فهو بدوي، ينشأ من توهم كون مورد المقبولة هو القضاء.

1 - القضاء، الآشتياني: 13.
2 - جواهر الكلام 21: 394 - 396 و 40: 18، عوائد الأيام: 536.
3 - تقدم في الصفحة 29.
53

ودعوى مساوقة المقبولة للمشهورة، وهي مختصة بالقضاء، فكذلك
المقبولة (1)، كما ترى، مع أنك قد عرفت عدم اختصاص مورد المقبولة ولا
المشهورة بالقضاء (2).
وأما تخصيص الأكثر فممنوع جدا، فإن مختصات النبي وإن كانت كثيرة،
لكن ليس شئ منها مربوطا بمقام سلطنته وحكومته، إلا النادر القليل لو كان، فما
هو ثابت للنبي والوصي من الحكومة والولاية في الأمور السياسية والحسبية، هي
الشؤون الثابتة للفقهاء أيضا، والمستثنى منها قليل جدا، وما هي من مختصات
النبي فليست من شؤون الحكومة إلا النادر منها، فراجع مختصاته - وقد جمعها
العلامة في أول نكاح التذكرة (3) حتى يتضح لك الأمر.
وأما مختصات الأئمة فمع عدم كثرتها، فهي أيضا غير مربوطة بمقام
الحكومة، إلا النادر على فرضه.
هل يجوز توكيل العامي للقضاء؟
وأما توكيل الفقيه مقلده العارف بمسائل القضاء لتوليه، تشبثا بإطلاق أدلة
الوكالة (4)، ففيه ما لا يخفى على المتأمل:

1 - المكاسب والبيع (تقرير بحث النائيني)، الشيخ محمد تقي الآملي 2: 336.
2 - تقدم في الصفحة 29 - 30، 37.
3 - تذكرة الفقهاء 2: 565 سطر 29.
4 - أنظر جامع الشتات: 695 سطر 21، وجواهر الكلام 40: 49 - 50.
54

أما أولا: فلأن القضاء غير قابل للتوكيل، لما يستفاد من الأدلة - كما
عرفت (1) - من اختصاصه بالفقيه، فتعتبر فيه مباشرة الفقيه، ولو شك في ذلك فليس
دليل ولا أصل يتشبث به لاحراز القابلية، فالأصل الأولي محكم مع الشك.
وأما ثانيا: فلعدم إطلاق في أدلة الوكالة يحرز به نفوذ الوكالة في كل أمر، إذ
ليس فيها ما يتوهم (2) فيه ذلك إلا صحيحة معاوية بن وهب (3)، عن أبي عبد الله أنه
قال: (من وكل رجلا على إمضاء أمر من الأمور، فالوكالة ثابتة أبدا حتى يعلمه
بالخروج منها، كما أعلمه بالدخول فيها) (4).
وصحيحة هشام بن سالم (5)، عنه (عليه السلام) في رجل وكل آخر على وكالة في أمر

1 - تقدم في الصفحة 24 وما بعدها.
2 - جواهر الكلام 27: 378.
3 - معاوية بن وهب: هو الشيخ الفقيه، العالم والعامل الثقة، أبو الحسن معاوية بن وهب البجلي
الكوفي. كان حسن الطريقة ممدوحا، لا مطعن عليه ولا ذم، روى عن الإمامين الهمامين
الصادق والكاظم (عليهما السلام)، كما روى عن أبي بصير، وزرارة، وعبيد بن زرارة، وروى عنه الحسن
بن محبوب، ويونس بن عبد الرحمان وابن أبي عمير.
أنظر رجال النجاشي: 412 / 1097، ومعجم رجال الحديث 18: 219 - 220.
4 - الفقيه 3: 47 / 166، تهذيب الأحكام 6: 213 / 502، وسائل الشيعة 13: 285، كتاب
الوكالة، أبواب أحكام الوكالة، الباب 1، الحديث 1.
5 - هشام بن سالم: هو الشيخ العالم المتكلم الثقة الثقة، أبو الحكم هشام بن سالم الكوفي
الجواليقي العلاف. صحب الصادق والكاظم (عليهما السلام)، وكان من الرؤساء والأعلام المأخوذ منهم
الحلال والحرام، والفتيا والأحكام، الذين لا يطعن عليهم بشئ، ولا طريق إلى ذم واحد
منهم. روى عن جابر بن يزيد الجعفي، وسليمان بن خالد، وسماعة بن مهران، وروى عنه.
ابن أبي عمير، وصفوان، والبزنطي.
أنظر رجال النجاشي: 434 / 1165، ورجال الكشي 2: 565، ومعجم رجال الحديث
19: 297.
55

من الأمور، وأشهد له بذلك شاهدين، فقام الوكيل فخرج لامضاء الأمر، فقال:
اشهدوا أني قد عزلت فلانا عن الوكالة.
فقال: (إن كان الوكيل أمضى الأمر الذي وكل فيه قبل العزل، فإن الأمر
واقع ماض على ما أمضاه الوكيل، كره الموكل أم رضي).
قلت: فإن الوكيل أمضى الأمر قبل أن يعلم العزل أو يبلغه أنه قد عزل عن
الوكالة، فالأمر على ما أمضاه؟.
قال: (نعم)... إلى أن قال: (إن الوكيل إذا وكل ثم قام عن المجلس، فأمره
ماض أبدا، والوكالة ثابتة، حتى يبلغه العزل عن الوكالة بثقة يبلغه، أو يشافه بالعزل
عن الوكالة) (1).
وهما كما تراهما، لا إطلاق لهما لاثبات قابلية كل شئ للوكالة، أو نفوذها
في كل شئ، لكونهما في مقام بيان حكم آخر، وهو واضح.
وتوهم: كون التوكيل في الأمور من الأمور العقلائية الغير المحتاجة إلى

1 - الفقيه 3: 49 / 170، تهذيب الأحكام 6: 213 / 503، وسائل الشيعة 13: 286، كتاب
الوكالة، أبواب أحكام الوكالة، الباب 2، الحديث 1.
56

الدليل، فعدم الردع يكفي في ثبوته لكل شئ (1).
فيه: أن التمسك ببناء العقلاء مع عدم الردع، إنما هو في الأمور الشائعة
المتداولة بين الناس بمرأى ومنظر من الشارع، وعدم ورود ردع منه، كالعمل
بالظواهر، وخبر الثقة، والوكالة في مثل النكاح والطلاق والبيع والشراء وأمثالها
من المعاملات تكون كذلك، وأما الوكالة في القضاء فلم تكن متعارفة بينهم، حتى
يتمسك ببنائهم، وليس البناء على أمر كلي حتى يتمسك بإطلاقه أو عمومه، فالحق
عدم جواز التوكيل للعامي فيه.

1 - أنظر العروة الوثقى 2: 132.
57

الأمر الرابع
تشخيص مرجع التقليد والفتوى
الرابع في تشخيص موضوع جواز التقليد وأن من يجوز الرجوع إليه في
الفتوى، هل هو الأعلم، أو المجتهد المطلق وإن لم يكن هو الأعلم، أو الأعم منه
ومن المتجزي؟
فيقع الكلام تارة: في صورة عدم اختلافهما في الفتوى.
وأخرى: مع عدم معلومية اختلافهما.
وثالثة: مع معلوميته إجمالا.
ورابعة: مع معلوميته تفصيلا.
ولا بد قبل الورود في بيان الأدلة من تأسيس الأصل:
فنقول: لا إشكال في أن الأصل حرمة العمل بما وراء العلم عقلا ونقلا (1)،

1 - راجع أنوار الهداية 1: 223 - 231.
58

كما لا إشكال في أن التقليد - أي الأخذ بقول الغير، ومتابعة رأيه في العمل - عمل
بغير العلم، سواء كان دليله بناء العقلاء كما سنتعرض له (1)، أو التعبد الشرعي من
إجماع أو غيره.
وقد خرج من الأصل تقليد الفاضل إجماعا (2)، بل ضرورة، لوضوح عدم
كون الناس كلهم مكلفين بتحصيل العلم والاجتهاد، وبطلان وجوب العمل
بالاحتياط أو التجزي فيه، فلا إشكال في جواز الاكتفاء بتقليد الأعلم، وخروجه
عن حرمة العمل بغير العلم، فبقي الرجوع إلى غيره تحت الأصل، ولا بد من
خروجه عنه من التماس دليل.
هذا، وأما التمسك بدليل الانسداد بأن يقال: يجب على العامي عقلا العمل بقول
الأعلم، وإلا لزم إما إهمال الوقائع، وهو باطل بالضرورة، للعلم الاجمالي بالتكليف.
أو تحصيل العلم حقيقة أو اجتهادا، وهو باطل، للعلم الضروري بعدم وجوبه
على الناس، وللزوم اختلال النظام.
وإما الاحتياط، وهو باطل أيضا، للزوم العسر والحرج، بل اختلال النظام.
وإما الأخذ بقول المفضول، وهو باطل، لقبح ترجيح المرجوح على الراجح (3).

1 - يأتي في الصفحة 63.
2 - أنظر الذريعة إلى أصول الشريعة 2: 801، ومنية المريد: 304، ومطارح الأنظار: 276،
السطر الأخير.
3 - أنظر كشف اللثام 2: 320 سطر 27 و 321 السطر الأول، وقوانين الأصول 2: 246
سطر 17، وضوابط الأصول: 414 سطر 7.
59

فهو ليس في محله، لعدم تمامية مقدماته، لأن العلم الاجمالي منحل بما في
فتاوى الأحياء من العلماء، وليس للعامي زائدا على فتاويهم علم، فيكون تكليفه
الاحتياط في فتاويهم، أي العمل بأحوط الأقوال، ولزوم العسر والحرج منه -
فضلا عن اختلال النظام (1) - ممنوع.
ولأن] كون [الأخذ بقول غير الأعلم من قبيل ترجيح المرجوح، ممنوع:
أما أولا: فلأنه كثيرا ما يتفق موافقة فتوى غير الأعلم لفتوى الميت الذي
هو أعلم من الأحياء.
وأما ثانيا: فلأن فتوى الفقهاء من قبيل الأمارات، فقد تكون - بواسطة
بعض الخصوصيات - فتوى غير الأعلم أقرب إلى الواقع.
ثم على فرض تمامية المقدمات، لا تكون نتيجتها الأخذ بقول الأعلم، بل
يلزم عليه التبعيض في الاحتياط بما دون العسر والحرج.
وقد يقرر الأصل: بأن الأصل عدم حجية رأي أحد على أحد، خرج منه
رأي الأعلم، وبقي غيره (2).
تقرير الأصل في جواز تقليد المفضول
وقد تشبث القائلون بجواز الأخذ من غير الأعلم بأصول غير أصيلة:
منها: أن أصالة حرمة العمل بالظن، قد انقطعت بما دل على مشروعية

1 - أنظر مفاتيح الأصول: 628 سطر 31، ومطارح الأنظار: 274 سطر 31.
2 - أنظر ما تقدم في الصفحة 18.
60

التقليد في الجملة، ولا ريب أنه إذا كان المجتهدان متساويين من جميع الجهات،
في جواز الرجوع إلى كل منهما تخييرا بحكم العقل، بعد عدم جواز طرح قولهما،
وعدم وجوب الأخذ بأحوطهما، ويستكشف من حكم العقل حكم شرعي بجواز
الرجوع إلى كل منهما تخييرا.
فإذا صار أحدهما أعلم من الآخر، يشك في زوال التخيير، فيستصحب
بقاؤه، ويتم في غيره بعدم القول بالفصل (1).
وأجيب عنه: بأن الاستصحاب غير جار في الأحكام العقلية، لامتناع
حصول الشك مع بقاء الموضوع بجميع حدوده، فالشك فيها معلول اختلاف
الموضوع، ومعه لا يجري الاستصحاب (2).
وفيه: أن جريانه في نفس حكم العقل وإن كان ممنوعا، لكن في الحكم
الشرعي المستكشف منه، لا مانع منه من قبل اختلاف الموضوع، لأن اختلافه عقلا
لا يضر به مع بقائه عرفا.
والحق في الجواب أن يقال: إن الحكم الشرعي المستكشف من حكم
العقل - بناء على تمامية الملازمة - لا يعقل أن يكون مناطه غير مناط حكم العقل،
ومع زوال المناط لا يعقل بقاؤه، كما لا يعقل بقاء حكم العقل.
ففيما نحن فيه، إذا كان حكم العقل بالتخيير بمناط تساويهما، واستكشف
حكم شرعي متعلق بالموضوع لأجل هذا المناط، فلا يعقل بقاء حكم العقل

1 - مطارح الأنظار: 273 سطر 19 و 23.
2 - مطارح الأنظار: 273 سطر 19 و 23.
61

والشرع المستكشف منه مع زوال التساوي.
نعم، يمكن أن يكون مناط آخر غيره علة للتخيير أيضا، فمع زوال المناط
الأول والحكم المعلول له، بقي الحكم بالتخيير لذاك المناط، فحينئذ لا يجري
استصحاب شخص الحكم، لأن ما هو بمناط حكم العقل زال قطعا، وغيره مشكوك
الحدوث، فبقي استصحاب الكلي.
وهو وإن جرى في بعض الموارد، لكن لا يجري فيما نحن فيه، لأن الجامع
بين التخييرين من المخترعات العقلية الغير المجعولة، لتعلق الجعل بكل من
التخييرين، لا الجامع بينهما القابل للصدق عليهما، فالجامع بينهما ليس حكما، ولا
موضوعا ذا حكم، فلا يجري استصحاب الكلي أيضا في المقام.
وإن شئت تفصيل ذلك، فراجع باب استصحاب الأحكام العقلية (1)،
واستصحاب الكلي (2).
هذا مضافا إلى إمكان معارضة هذا الاستصحاب باستصحاب آخر، وهو
استصحاب الحجية التعينية فيما إذا انحصر المجتهد في شخص، ثم وجد من هو
المفضول منه، فيشك في جواز الرجوع إلى غيره، فيستصحب عدم الجواز الثابت
للمفضول قبل اجتهاده، أو الحجة التعيينية، ويتم في غيره بعدم القول بالفصل تأمل.
وأما تمسكهم بأصالة البراءة وأمثالها (3)، فهو - في مقابل أدلة حرمة العمل

1 - الاستصحاب، العلامة الإمام الخميني (قدس سره): 15 - 16.
2 - نفس المصدر: 84 و 86.
3 - شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب 284، مناهج الأحكام والأصول، المحقق
النراقي: 301 سطر 2.
62

بالظن - غريب، فلا نطيل بالتعرض له.
فتحصل مما ذكرنا: أن الأصل مع القائلين بعدم جواز تقليد غير الأعلم مع
وجود الأعلم (1).
بحث حول بناء العقلاء
ثم إنه قبل الورود في أدلة الطرفين، لا بأس بالتدبر في بناء العقلاء، وبيان
مقتضى ارتكازهم في أصل التقليد، وفي باب تقليد الأعلم.
فنقول: المعروف أن عمدة دليل وجوب التقليد هو ارتكاز العقلاء (2)، فإنه
من فطريات العقول رجوع كل جاهل إلى العالم، ورجوع كل محتاج في صنعة
وفن إلى الخبير بهما، فإذا كان بناء العقلاء ذلك، ولم يرد ردع من الشارع عنه،
يستكشف أنه مجاز ومرضي.
ولا يصلح ما ورد من حرمة اتباع الظن للرادعية، لما ذكرنا في باب حجية
الظن (3): من أن مثل هذه الفطريات والأبنية المحكمة المبرمة، لا يمكن فيها ردع
العقلاء بمثل عموم (الظن لا يغني من الحق شيئا) (4) - بناء على عدم الخدشة في

1 - راجع مفاتيح الأصول: 626 سطر 12، مطارح الأنظار: 272 سطر 28.
2 - كفاية الأصول: 539، درر الفوائد 702 - 703، نهاية الأفكار (القسم الثاني من الجزء
الرابع): 241.
3 - أنوار الهداية 1: 279.
4 - يونس (10): 36 والنجم (53): 28.
63

دلالته - وغير ذلك (1)، فإنه لا ينقدح في ذهنهم احتمال الخلاف في تلك الفطريات
غالبا إلا مع التنبه، فلا ينقدح في بالهم أن مثل تلك العمومات رادعة عن مثل تلك
الارتكازات، فلا بد في ردعهم عن مثلها من التصريح والتأكيد.
ولهذا بعد ورود أمثال ما يدعى الردع بها (2)، لم ينقدح في ذهن من في
الصدر الأول، عدم جواز ترتيب الملكية على ما في يد الغير، وأثر الصحة على
معاملات الناس، وعدم قبول قول الثقة والعمل بالظواهر، فإذن يكون أصل التقليد
ورجوع الجاهل إلى العالم جائزا.
إشكال على بناء العقلاء
وهاهنا شك (3): وهو أن ارتكاز العقلاء وبناءهم على أمر، إنما يصير حجة
إذا أمضاه الشارع، وإنما يكفي عدم الردع ويكشف عن الامضاء، إذا كان بناؤهم
على عمل بمرأى ومنظر من النبي أو الأئمة (عليهم السلام)، كبنائهم على أصالة الصحة،
والعمل بقول الثقة، وأمثالهما مما كان بناؤهم العملي متصلا بزمان المعصومين.

1 - كقوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم) الاسراء (17): 36.
2 - قال المحدث الاسترآبادي: الفصل الأول في إبطال التمسك بالاستنباطات الظنية في نفس
أحكامه تعالى، والتمسك فيه بالظن يشتمل على دور ظاهر، مع أنه معارض بأقوى منه، من
الآيات الصريحة في النهي عن العمل بالظن المتعلق بنفس أحكامه تعالى، والروايات
الصريحة في ذلك... الفوائد المدنية: 90 سطر 5 و 92 السطر الأول.
3 - أنظر وسائل الشيعة 18: 95، وما قرر في نهاية الأفكار (القسم الثاني من الجزء
الرابع): 241.
64

وأما إذا كان بناؤهم على عمل في موضوع مستحدث لم يتصل بزمانهم، فلا
يمكن استكشاف إمضاء الشارع لمثله.
وما نحن فيه من هذا القبيل، فإن علم الفقه أصبح في أعصارنا من العلوم
النظرية التي لا تقصر عن العلوم الرياضية والفلسفية، في حين كان في أعصار
الأئمة (عليهم السلام) من العلوم الساذجة البسيطة، وكان فقهاء أصحاب الأئمة يعلمون
فتاويهم، ويميزون بين ما هو صادر من جراب النورة وغيره، ولم يكن الاجتهاد
في تلك الأزمنة كزماننا.
فرجوع الجاهل إلى العالم في تلك الأزمنة، كان رجوعا إلى من علم
الأحكام بالعلم الوجداني الحاصل من مشافهة الأئمة (عليهم السلام)، وفي زماننا رجوع
إلى من عرف الأحكام بالظن الاجتهادي والأمارات، ويكون علمه تنزيليا
تعبديا، لا وجدانيا.
فرجوع الجاهل في هذه الأعصار إلى علماء الدين وإن كان فطريا، ولا
طريق لهم بها إلا ذلك، لكن هذا البناء ما لم يكن مشفوعا بالامضاء، وهذا
الارتكاز ما لم يصر ممضى من الشارع، لا يجوز العمل على طبقه، ولا يكون حجة
بين العبد والمولى.
ومجرد ارتكازية رجوع كل ذي صنعة إلى أصحاب الصنائع، وكل جاهل
إلى العالم، لا يوجب الحجية إذا لم يتصل بزمان الشارع، حتى يكشف الامضاء،
وليس إمضاء الارتكاز وبناء العقلاء من الأمور اللفظية، حتى يتمسك بعمومها أو
إطلاقها، ولم يرد دليل على إمضاء كل المرتكزات إلا ما خرج، حتى يتمسك به.
65

ومن ذلك يعلم عدم جواز التمسك بإرجاع الأئمة (عليهم السلام) إلى أصحابهم،
كإرجاع (1) ابن أبي يعفور (2) إلى الثقفي (3)، وكالارجاع إلى زرارة (4) بقوله: (إذا

1 - رجال الكشي 1: 383، الاختصاص: 201، وسائل الشيعة 18: 105، كتاب القضاء، أبواب
صفات القاضي، الباب 11، الحديث 23، مستدرك الوسائل 17: 314، كتاب القضاء، أبواب
صفات القاضي، الباب 11، الحديث 11.
2 - ابن أبي يعفور: هو الشيخ الجليل العالم الفقيه الثقة الثقة، أبو محمد عبد الله بن أبي يعفور،
واسم أبيه واقد أو وقدان. كان من خواص أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) كريما عليه، ومن أهل
الورع والاجتهاد، وكان يقرئ القرآن في مسجد الكوفة. روى عنه (عليه السلام) وعن أخيه عبد الكريم
ابن أبي يعفور، وأبي الصامت، وروى عنه إسحاق بن عمار، والحسين بن المختار، ومنصور
ابن حازم. مات رضوان الله عليه في حياة الإمام الصادق (عليه السلام).
أنظر رجال النجاشي: 213 / 556، ومعجم رجال الحديث 10: 96 / 6680.
3 - الثقفي: هو الشيخ العالم الفقيه الورع الثقة، أبو جعفر محمد بن مسلم بن رياح الثقفي
الأوقص الطحان الطائفي الكوفي. كان من أوثق الناس، ووجه أصحابنا بالكوفة، ومن الفقهاء
الأعلام الذين أجمعت العصابة على تصديقهم، والانقياد لهم في الفقه. صحب الإمامين
الصادقين (عليهما السلام) وروى عنهما، وعن أبي حمزة الثمالي، وزرارة، ومحمد بن مسعود الطائي،
وروى عنه أبان بن عثمان، وبريد بن معاوية، وعلي بن رئاب، مات ابن مسلم (رحمه الله) سنة
150 ه‍.
أنظر رجال النجاشي: 323 / 882، ورجال الكشي 2: 507، ومعجم رجال الحديث 17:
247 / 11779.
4 - زرارة: هو الشيخ الجليل، الفقيه المتكلم المقرئ، الشاعر الأديب الثقة، أبو الحسن عبد ربه
(الملقب بزرارة) ابن أعين بن سنسن الشيباني الكوفي. شيخ أصحابنا في زمانه ومتقدمهم،
اجتمعت فيه خلال الفضل والدين، وكان صادقا فيما يرويه، ولولاه وأمثاله لاندرست
أحاديث الباقر (عليه السلام). صحب من الأئمة الميامين الباقر والصادق (عليهما السلام) وكان أيضا ممن أجمع
أصحابنا على تصديقهم، والانقياد لهم في الفقه. روى عن حمران بن أعين، وعبد الكريم بن
عتبة الهاشمي، ومحمد بن مسلم، وروى عنه أبان بن تغلب، وثعلبة بن ميمون، وعثمان بن
عيسى. مات (قدس سره) سنة 150 ه‍.
أنظر رجال النجاشي: 175 / 463، وفهرست الشيخ الطوسي: 74 / 302، ورجال الشيخ:
123 و 201، ومعجم رجال الحديث 7: 218 - 221 و 247 - 248.
66

أردت حديثا فعليك بهذا الجالس) (1) مشيرا إليه.
وكقوله (عليه السلام) لأبان بن تغلب (2): (أجلس في مسجد المدينة وافت الناس،
فإني أحب أن يرى في شيعتي مثلك) (3) إلى غير ذلك (4).

1 - رجال الكشي 1: 347، وسائل الشيعة 18: 104، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي،
الباب 11، الحديث 19.
2 - أبان بن تغلب: هو الشيخ المقرئ، الفقيه اللغوي الثقة، أبو سيعد أبان بن تغلب بن رباح
البكري الجريري الكندي. كان عظيم المنزلة في أصحابنا، مقدما في كل فن من العلوم، سواء
في ذلك القرآن، والفقه، والحديث، والأدب، واللغة، والنحو، لقي الإمام زين العابدين
والإمامين الصادقين (عليهم السلام) وكانت له عندهم منزلة وقدم، كان إذا حل بالمدينة تقوضت إليه
الحلق، وأخليت له سارية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). روى عن أبي حمزة الثمالي، وزرارة، وسعيد بن المسيب،
وروى عنه جميل بن دراج، وعلي بن رئاب، ومنصور بن حازم مات أبان رضي الله عنه سنة
141 ه‍، فقال أبو عبد الله الصادق (عليه السلام) لما أتاه نعيه: (أما والله، لقد أوجع قلبي موت أبان).
أنظر مشيخة الفقيه: 23، ورجال النجاشي: 10 / 7، وفهرست الشيخ: 17 / 51، ومعجم رجال
الحديث 1: 150 - 151.
3 - رجال النجاشي: 10، فهرست الشيخ: 17، وسائل الشيعة 20: 116، مستدرك الوسائل
17: 315، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 14.
4 - يأتي بعضها في الصفحة 78، راجع نهاية الأفكار (القسم الثاني من الجزء الرابع):
244 - 245.
67

بدعوى: أن إرجاعهم إليهم لم يكن إلا لعلمهم بالأحكام، وهو مشترك بينهم
وبين فقهاء عصرنا، فيفهم العرف جواز الرجوع إلى فقهاء عصرنا بإلغاء الخصوصية.
وذلك للفرق الواضح بينهم وبين فقهائنا، لأن الارجاع إليهم إرجاع إلى
الأحكام الواقعية المعلومة لبطانتهم، لسؤالهم مشافهة منهم، وعلمهم بفتاويهم، من
غير اجتهاد كاجتهاد فقهائنا، فمثل زرارة، ومحمد بن مسلم، وأبي بصير (1)، ممن
تلمذ لدى الأئمة (عليهم السلام) سنين متمادية، وأخذ الأحكام منهم مشافهة، كان عارفا
بنفس فتاوى الأئمة الصادرة لأجل الحكم الواقعي.
وأما فقهاء عصرنا، فيكون علمهم عن اجتهاد بالوظيفة الأعم من الواقعية
والظاهرية، فلا يمكن إلغاء الخصوصية، بل يكون القياس بينهما مع الفارق.

1 - أبو بصير: هو الشيخ الثقة الوجيه، والعالم الفقيه، يحيى بن القاسم (أو ابن أبي القاسم،
إسحاق) الأسدي. ولد مكفوفا، ورأي الدنيا مرتين ببركة الإمامين الصادقين (عليهما السلام) ويمنهما.
روى عنهما صلوات الله عليهما، وروى عنه أبو خديجة، وأبان بن عثمان، وإسحاق بن
عمار... وكان أيضا ممن أجمع الأصحاب على تصديقه، وممن أقروا له بالفقه والجلالة، وكان
علي بن أبي حمزة البطائني، قائده وتلميذه والراوي عنه كثيرا مات (رحمه الله) سنة 150 ه‍.
أنظر رجال النجاشي: 441 / 1187، ورجال العلامة الحلي: 246، ومعجم رجال الحديث
20: 75 - 76 و 21: 45 - 47.
68

في جواب الاشكال
وهذا الشك لا يرتفع إلا بإثبات أحد الأمرين على سبيل منع الخلو:
أحدهما: أن الاجتهاد بالمعنى المتعارف في أعصارنا أو القريب منه، كان
متعارفا في أعصار الأئمة (عليهم السلام) وأن بناء العوام على الرجوع إلى الفقهاء في تلك
الأعصار، وأن الأئمة أرجعوهم إليهم أيضا.
وثانيهما: إثبات أن الردع عن ارتكاز رجوع الجاهل إلى العالم حتى فيما
نحن فيه، كان لازما عليهم لو كان غير مرضي، ومع عدمه يكشف عن كونه مرضيا.
69

تعارف الاجتهاد سابقا
وإرجاع الأئمة (عليهم السلام) شيعتهم إلى الفقهاء
أما الأمر الأول: فتثبت كلتا مقدمتيه بالرجوع إلى الأخبار.
تداول الاجتهاد في عصر الأئمة (عليهم السلام)
أما تداول مثل هذا الاجتهاد أو القريب منه، فتدل عليه أخبار كثيرة:
منها: ما عن محمد بن إدريس (1) في آخر السرائر، نقلا عن كتاب
هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إنما علينا أن نلقي إليكم الأصول،
وعليكم أن تفرعوا) (2).

1 - محمد بن إدريس: هو شيخ الفقهاء والمجتهدين، الإمام المحقق الكامل، فخر الدين أبو
عبد الله محمد بن إدريس العجلي الربعي الحلي. ولد سنة 543 ه‍ وكان عديم النظير في
الفقه، كما في الوافي بالوفيات، كثير التصانيف، ولكنه لم يعمل بخبر الواحد، وكانت تربطه
بالشيخ الطوسي (قدس سره) صلة رحم، لذا عبر عنه بخالي تارة، وبجدي أخرى. روى عن عربي
ابن مسافر، وأبي المكارم، وروى عنه محمد بن نما، والسيد فخار بن معد الموسوي. من
مصنفاته السرائر، ومنتخب كتاب التبيان... توفي نور الله ضريحه سنة 598 ه‍.
أنظر الوافي بالوفيات 2: 183، ومقابس الأنوار: 11 - 12، وخاتمة المستدرك 3: 481 -
482، وتنقيح المقال 2: 77 (من أبواب الميم).
2 - مستطرفات السرائر: 57 / 20، وسائل الشيعة 18: 40، كتاب القضاء، أبواب صفات
القاضي، الباب 6، الحديث 51.
70

وعنه عن كتاب أحمد بن محمد بن أبي نصر (1) عن الرضا (عليه السلام) قال:
(علينا إلقاء الأصول، وعليكم التفريع) (2).
ولا ريب في أن التفريع على الأصول هو الاجتهاد، وليس الاجتهاد في
عصرنا إلا ذلك، فمثل قوله: (لا ينقض اليقين بالشك) (3) أصل، والأحكام التي
يستنبطها المجتهدون منه هي التفريعات، وليس التفريع هو الحكم بالأشباه
والنظائر كالقياس، بل هو استنباط المصاديق والمتفرعات من الكبريات الكلية.
فقوله: (على اليد ما أخذت حتى تؤدي) (4)، و (لا ضرر

1 - أبو نصر: هو الشيخ العالم الفقيه الثقة، أبو جعفر أحمد بن محمد بن عمرو بن أبي نصر
زيد البزنطي الكوفي. صحب الإمام الكاظم (عليه السلام)، ووقف عليه بعد وفاته، ولكنه رجع
لما ظهرت المعجزات على يد الرضا (عليه السلام) الدالة على صحة إمامته، فالتزم بالحجة وقال
بإمامته وإمامة من بعده من ولده، وصار عظيم المنزلة عنده وعند ابنه الإمام الجواد صلوات
الله عليهما، وهو ممن أجمع أصحابنا على تصديقهم، والاقرار لهم بالفقه والعلم، روى عن
أبان بن عثمان، وحنان بن سدير، وهشام بن سالم، وروى عنه أحمد بن محمد بن عيسى
وأحمد بن محمد بن خالد، ومحمد بن عيسى بن عبيد، ويعقوب بن يزيد. مات البزنطي (رضي الله عنه)
سنة 221 ه‍.
أنظر رجال النجاشي: 75 / 180، والغيبة، الشيخ الطوسي: 47 - 48، ورجال الكشي 2:
830، ومعجم رجال الحديث 2: 236 - 238.
2 - مستطرفات السرائر: 58 / 21، وسائل الشيعة 18: 52، كتاب القضاء، أبواب صفات
القاضي، الباب 6، الحديث 52.
3 - تهذيب الأحكام 1: 8 / 11، وسائل الشيعة 1: 174، كتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء،
الباب 1، الحديث 1.
4 - عوالي اللآلي 1: 224، 389 و 2: 345 و 3: 246، 251، مستدرك الوسائل 12: 8 و 17:
88، كتاب الغصب، أبواب الغصب، الباب 1، الحديث 4.
71

ولا ضرار) (1) و (رفع عن أمتي تسعة) (2)، وأمثالها أصول، وما في كتب القوم من
الفروع الكثيرة المستنبطة منها تفريعات، فهذا الأمر كان في زمن الصادق والرضا
- عليهما الصلاة والسلام - مثل ما في زماننا، إلا مع تفاوت في كثرة التفريعات
وقلتها، وهو متحقق بين المجتهدين في عصرنا أيضا.
ومنها: ما عن عيون الأخبار بإسناده عن الرضا (عليه السلام) قال: (من رد
متشابه القرآن إلى محكمه فقد هدي إلى صراط مستقيم).
ثم قال: (إن في أخبارنا محكما كمحكم القرآن، ومتشابها كمتشابه القرآن،
فردوا متشابهها إلى محكمها، ولا تتبعوا متشابهها دون محكمها فتضلوا) (3).
ومعلوم: أن رد المتشابه إلى المحكم، وجعل أحد الكلامين قرينة على
الآخر، لا يكون إلا بالاجتهاد، كالذي يتداول في هذا الزمان.
ومنها: ما عن معاني الأخبار بإسناده عن داود بن فرقد قال: سمعت أبا
عبد الله (عليه السلام) يقول: (أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا، إن الكلمة لتنصرف
على وجوه، فلو شاء انسان لصرف كلامه كيف شاء ولا يكذب) (4).

1 - الكافي 5: 292 / 2، الفقيه 3: 147 / 18، تهذيب الأحكام 7: 146 / 36، وسائل
الشيعة 17: 341، كتاب إحياء الموات، أبواب إحياء الموات، الباب 12، الحديث 3.
2 - توحيد الصدوق: 353 / 24، الخصال: 417 / 9، وسائل الشيعة 11: 295، كتاب الجهاد،
أبواب جهاد النفس وما يناسبه، الباب 56، الحديث 1.
3 - عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 290 / 39، وسائل الشيعة 18: 82، كتاب القضاء، أبواب صفات
القاضي، الباب 9، الحديث 22.
4 - معاني الأخبار: 1 / 1، وسائل الشيعة 18: 84، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي،
الباب 9، الحديث 27.
72

فإن عرفان معاني كلامهم من بين الوجوه المختلفة، لا يكون إلا بالاجتهاد
والفحص عن فتاوى العامة، وعرض الأخبار على أخبارهم وفتاويهم، وعلى
الكتاب، وغير ذلك مما يتداول بين أهل الاجتهاد.
ومنها: رواية علي بن أسباط (1) قال قلت للرضا (عليه السلام): يحدث الأمر لا أجد
بدا من معرفته، وليس في البلد الذي أنا فيه أحد أستفتيه من مواليك.
قال فقال: (ائت فقيه البلد فاستفته من أمرك، فإذا أفتاك بشئ فخذ بخلافه،
فإن الحق فيه) (2).
ومنها: روايات النهي عن الفتيا بغير علم (3)، وهي كثيرة، يظهر منها جوازه

1 - علي بن أسباط: هو الشيخ الفقيه المقرئ الثقة، أبو الحسن علي بن أسباط بن سالم الكوفي
الكندي. كان من أوثق الناس وأصدقهم لهجة، صحب الإمامين الهمامين الرضا والجواد (عليهما السلام)،
وكان فطحيا، وقد اختلف في توبته، فذهب محمد بن مسعود إلى أنه مات على الفطحية،
وخالفه النجاشي. روى عن إبراهيم بن أبي البلاد، والحسن بن الجهم، والعلاء بن رزين،
وروى عنه أحمد بن محمد بن عيسى وأحمد بن محمد بن خالد، وإبراهيم بن هاشم،
ويعقوب بن يزيد.
أنظر رجال النجاشي: 252 / 663، ورجال الكشي 2: 635، ورجال الشيخ: 390 و 403،
ومعجم رجال الحديث 11: 263 - 264.
2 - عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 275 / 10، تهذيب الأحكام 6: 294 / 820، وسائل الشيعة 18:
82، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 23.
3 - كقوله (عليه السلام): (من أفتى الناس بغير علم ولا هدى من الله، لعنته ملائكة الرحمة وملائكة
العذاب، ولحقه وزر من عمل بفتياه) راجع وسائل الشيعة 18: 9، كتاب القضاء، أبواب
صفات القاضي، الباب 4، مستدرك الوسائل 17: 243، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي،
الباب 4.
73

مع العلم، والفتوى ليس إلا بالاجتهاد والتفقه.
ومنها: أخبار النهي عن الحكم بغير ما أنزل الله (1)، ومقابله ملازم للاجتهاد.
وعن نهج البلاغة فيما كتب إلى قثم بن عباس (2): (واجلس لهم العصرين،
فأفت المستفتي، وعلم الجاهل، وذكر العالم) (3).
ومنها: ما عن كتاب الغيبة بإسناده عن الحسين بن روح (4)، عن أبي

1 - كقوله (عليه السلام): (من حكم في درهمين بغير ما أنزل الله عز وجل، فهو كافر بالله العظيم) راجع
وسائل الشيعة 18: 17، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 5، مستدرك الوسائل
17: 250، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 5.
2 - قثم بن عباس: هو الصحابي التابعي الجليل، والعالم الفقيه، قثم بن العباس بن عبد المطلب
الهاشمي. كان من وجوه الصحابة والتابعين، كريما جوادا، أمره أمير المؤمنين (عليه السلام) على مكة
المكرمة، فلما توجه بسر بن أرطاة من قبل معاوية انهزم قثم منها، ودخلها بسر، فاستعمل
عليها شيبة بن عثمان، وخرج منها، ثم رجع قثم فغلب عليها، وبقي على مكة إلى أن استشهد
أمير المؤمنين صلوات الله عليه. ثم شارك في جيش سعيد بن عثمان بن عفان، حتى قتل في
سمرقند سنة 56 ه‍.
أنظر الكامل في التأريخ 3: 513، وتذهيب التهذيب 2: 359 / 5909، وتنقيح المقال 3: 27 /
9638، ومعجم رجال الحديث 14: 76 / 9599.
3 - نهج البلاغة 4: 642، مستدرك الوسائل 17: 315، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي،
الباب 11، الحديث 15.
4 - الحسين بن روح: هو السفير الثالث للحجة المنتظر صلوات الله عليه، وبابه ونائبه، أبو
القاسم الحسين بن روح النوبختي. كان قبل تشرفه بمقام السفارة وكيلا للنائب الثاني، أبي
جعفر محمد بن عثمان العمري، فكان ينظر له في أملاكه سنين عديدة، ويلقى بأسراره
الرؤساء من الشيعة، وكان خصيصا به. فحصل له في أنفس الشيعة مقام جليل، لمعرفتهم
باختصاصه بالعمري، وتوثيقه عندهم، ونشر فضله ودينه، فتمهدت له الحال في طول حياة
العمري إلى أن انتهت الوصية إليه بالنص عليه، فلم تختلف الشيعة في أمره. كان أبو القاسم
رضوان الله عليه من أعقل الناس عند المخالف والموافق، ويستعمل التقية، وكانت العامة
أيضا تعظمه. بقي نائبا أكثر من عشرين عاما حتى وافته المنية سنة 236 ه‍.
أنظر الغيبة، الشيخ الطوسي: 227، وتنقيح المقال 1: 328.
74

محمد الحسن بن علي (عليهما السلام): أنه سئل عن كتب بني فضال فقال: (خذوا بما رووا،
وذروا ما رأوا) (1).
تدل على أن لهم آراء، وليست نفس الروايات آراءهم، واحتمال كون
الآراء هي المربوطة بأصول المذهب، مدفوع بإطلاقها، ولعل منعه عن الأخذ
بآرائهم، لاعتبار كون المفتي على مذهب الحق وعلى العدالة.
ومنها: قول أبي جعفر (عليه السلام) لأبان بن تغلب المتقدم آنفا (2)، فإن الافتاء ليس
إلا بالاجتهاد.
ومنها: بعض الروايات التي تشير إلى كيفية استنباط الحكم من الكتاب،
مثل ما عن محمد بن علي بن الحسين، بإسناده عن زرارة قال: قلت لأبي
جعفر (عليه السلام): ألا تخبرني من أين علمت وقلت: (إن المسح ببعض الرأس وبعض
الرجلين؟!).

1 - الغيبة، الشيخ الطوسي: 239، وسائل الشيعة 18: 103، كتاب القضاء، أبواب صفات
القاضي، الباب 11، الحديث 13.
2 - تقدم في الصفحة 67.
75

فضحك وقال: (يا زرارة، قاله رسول الله، ونزل به الكتاب عن الله عز وجل،
لأن الله عز وجل قال: (فاغسلوا وجوهكم) (1) فعرفنا أن الوجه كله ينبغي
أن يغسل.
ثم قال: (وأيديكم إلى المرافق) فوصل اليدين إلى المرفقين بالوجه،
فعرفنا أنه ينبغي لهما أن يغسلا إلى المرفقين.
ثم فصل بين الكلام فقال: (وامسحوا برؤوسكم) فعرفنا حين قال:
(برؤوسكم) أن المسح ببعض الرأس، لمكان الباء.
ثم وصل الرجلين بالرأس، كما وصل اليدين بالوجه، فقال: (وأرجلكم إلى
الكعبين) فعرفنا حين وصلهما بالرأس، أن المسح على بعضهما، ثم فسر ذلك
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للناس فضيعوه...) الحديث (2).
أنظر إلى كيفية تعليمه الاستنباط من الكتاب.
ومثلها بل أوضح منها، مرسلة يونس (3) الطويلة في باب سنن

1 - المائدة (5): 6.
2 - الكافي 3: 30 / 4، الفقيه 1: 56 / 212، علل الشرائع: 279 / 1، تهذيب الأحكام 1: 61 /
168، الإستبصار 1: 62 / 186، وسائل الشيعة 1: 290، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء،
الباب 23، الحديث 1.
3 - يونس: هو الشيخ المتكلم الفقيه الثقة، أبو محمد يونس بن عبد الرحمان مولى علي بن
يقطين. كان وجها في أصحابنا، متقدما، عظيم المنزلة، رأى الإمام الصادق (عليه السلام) بين الصفا
والمروة، ولم يرو عنه، وروى عن الإمامين الكاظم والرضا صلوات الله عليهما. وكان الإمام الرضا (عليه السلام) يشير إليه في العلم والفتوى، كيف؟! وقد كان (رحمه الله) سلمان زمانه. روى عن أبان بن
عثمان، وعبد الرحمان بن الحجاج، وهشام بن الحكم، وروى عنه العباس بن معروف،
ومحمد بن خالد البرقي ومحمد بن عيسى اليقطيني.
أنظر رجال النجاشي: 446 / 1208، ومعجم رجال الحديث 20: 198.
76

الاستحاضة (1)، وفيها موارد ترشدنا إلى طريق الاجتهاد فراجع (2).
وكرواية عبد الأعلى (3) في المسح على المرارة حيث قال: (هذا وأشباهه
يعرف من كتاب الله، قال الله تعالى: (ما جعل عليكم في الدين من حرج) (4)
امسح عليه) (5)، وهل هذا إلا الاجتهاد؟!
ومنها: روايات عرض الأخبار على الكتاب وأخبار العامة، وترجيح

1 - الكافي 3: 83 / 1، تهذيب الأحكام 1: 381 / 1183، وسائل الشيعة 2: 538، كتاب
الطهارة، أبواب الحيض، الباب 3، الحديث 4.
2 - راجع الإيضاح هذه الموارد طهارة الإمام العلامة الأكبر الخميني (قدس سره) 1: 76 وما بعدها.
3 - عبد الأعلى: هو الشيخ العالم الفقيه الثقة، عبد الأعلى بن أعين مولى آل سام. كان من فقهاء
أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) والأعلام والرؤساء، المأخوذ عنهم الحلال والحرام، والفتيا
والأحكام، الذين لا يطعن عليهم، ولا طريق لذم واحد منهم. روى عن سويد بن غفلة،
والمعلى بن خنيس، وأم فروة، وروى عنه ثعلبة بن ميمون، وحماد بن عثمان، وسيف بن
عميرة.
أنظر مصنفات الشيخ المفيد 9: 25 و 39 (أجوبة أهل الموصل في العدد والرؤية)، ومعجم
رجال الحديث 9: 254 و 259.
4 - الحج (22): 78.
5 - الكافي 3: 33 / 4، تهذيب الأحكام 1: 363 / 1097، الإستبصار 1: 77 / 240، وسائل
الشيعة 1: 327، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 39، الحديث 5.
77

بعضها على بعض (1)، وهو من أوضح موارد الاجتهاد المتعارف بين أهل الصناعة.
ومنها: مقبولة عمر بن حنظلة حيث قال: (ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف
أحكامنا) (2) بالتقريب المتقدم (3) في اختصاص المنصب بالمجتهدين.
وقال: كلاهما اختلفا في حديثكم حيث إن الاختلاف في الحديث: إما
اختلاف في معناه، أو اختلاف في أخذ كل بحديث، لمكان الترجيح بنظره على
الآخر، وهو عين الاجتهاد، واحتمال عدم اطلاع كل على مدرك الآخر مع كونهما
مجتمعين في النظر في حقهما، غير ممكن.
... إلى غير ذلك مما يطول ذكره، ويطلع عليه المتتبع.
ما يدل على إرجاع الأئمة إلى الفقهاء
وتدل على المقدمة الثانية أخبار كثيرة أيضا:
منها: المقبولة الظاهرة في إرجاعهم إلى الفقهاء من أصحابنا في الشبهة
الحكمية الاجتهادية، وجعل الفقيه مرجعا، ونصبه للحكم في الشبهات الحكمية
ملازم لاعتبار فتواه، ومثلها ما عن أبي خديجة في المشهورة (4).

1 - أنظر وسائل الشيعة 18: 75، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، ومستدرك
الوسائل 17: 302، كتاب القضاء أبواب صفات القاضي، الباب 9.
2 - الكافي 1: 54 / 10، الفقيه 3: 5 / 2، تهذيب الأحكام 6: 301 / 845، الإحتجاج: 355،
وسائل الشيعة 18: 75، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 1.
3 - تقدم في الصفحة 26 - 30.
4 - تهذيب الأحكام 6: 303 / 846، وسائل الشيعة 18: 100، كتاب القضاء، أبواب صفات
القاضي، الباب 11، الحديث 6.
78

ومنها: قوله في التوقيع: (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة
حديثنا) (1).
ومنها: ما وردت في تفسير آية النفر (2).
ومنها: روايات كثيرة دالة على الارجاع إلى فقهاء أصحابنا، ويظهر منها أن
الأمر كان ارتكازيا] لدى [الشيعة، مثل ما عن الكشي (3)، بإسناده عن شعيب
العقرقوفي (4)، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ربما احتجنا أن نسأل عن الشئ،

1 - إكمال الدين: 484 / 4، الغيبة، الشيخ الطوسي: 176، الإحتجاج: 469، وسائل الشيعة 18:
101، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 9.
2 - التوبة (9): 122، وسائل الشيعة 18: 69، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 8،
الحديث 65، و 18: 101، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 10
ويأتي بعضها في الصفحة 137 - 138.
3 - الكشي: هو الشيخ المقدم الجليل، والرجالي الخبير، أبو عمرو محمد بن عمر بن عبد العزيز
الكشي. كان ثقة عينا، بصيرا بالرجال والأخبار، حسن الاعتقاد، صحب العياشي، وأخذ عنه،
وتخرج عليه. له كتاب الرجال المعروف والذي كان كثير الأغلاط، جامعا للأخبار الواردة في
حق رواة الخاصة والعامة، فعمد الشيخ الطوسي (رحمه الله) إلى تهذيبه، ومحضه في رجال الخاصة،
مسميا إياه باختيار معرفة الرجال.
أنظر رجال النجاشي: 372 / 1018، وفهرست الشيخ الطوسي: 141 / 604، وخاتمة
المستدرك: 529.
4 - شعيب العقرقوفي: هو الشيخ الثقة العين، أبو يعقوب شعيب بن يعقوب العقرقوفي، ابن أخت
أبي بصير، يحيى بن القاسم، صحب الإمامين الصادق والكاظم (عليهما السلام) وروى عنهما، وعن أبوي
بصير وحمزة، وروى عنه حماد بن عيسى، والحسن بن محبوب، ويونس بن يعقوب.
أنظر رجال النجاشي: 195 / 520، وفهرست الشيخ الطوسي: 82 / 341، ومعجم رجال
الحديث 9: 36 و 38.
79

فمن نسأل؟
قال: (عليك بالأسدي) يعني أبا بصير (1).
وعن علي بن المسيب (2)، قال: قلت للرضا عليه الصلاة والسلام: شقتي
بعيدة، ولست أصل إليك في كل وقت، فممن آخذ معالم ديني؟
قال: (من زكريا بن آدم القمي (3)، المأمون على الدين والدنيا).
قال علي بن المسيب: فلما انصرفت قدمنا على زكريا بن آدم، فسألته عما
احتجت إليه (4).

1 - رجال الكشي 1: 400، وسائل الشيعة 18: 103، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي،
الباب 11، الحديث 15.
2 - علي بن المسيب: هو الشيخ الثقة، علي بن المسيب الهمداني، من أصحاب الرضا (عليه السلام)، روى
عنه (عليه السلام) وعن زياد بن بلال، وروى عنه محمد بن عيسى العبيدي، وأحمد بن الوليد.
أنظر رجال الشيخ: 382، والكافي 6: 372، ورجال الكشي 2: 858، والمحاسن: 525.
3 - زكريا بن آدم القمي: هو الشيخ الثقة الجليل الفقيه، أبو يحيى زكريا بن آدم بن عبد الله بن
سعد الأشعري القمي. صحب الإمامين الرضا والجواد (عليهما السلام) وكان عظيم القدر، مأمونا على
الدين والدنيا، وفيا لهما، وذا مقام رفيع ومنزلة عالية عندهما (عليهما السلام). روى عن داود الرقي،
والكاهلي، وروى عنه أحمد بن محمد بن أبي نصر، وسعد بن سعد، ومحمد بن خالد.
أنظر رجال النجاشي 174 / 458، ورجال الشيخ: 377 و 401، ورجال الكشي 2: 792
و 858 - 859، ومعجم رجال الحديث 7: 274.
4 - رجال الكشي 2: 858، وسائل الشيعة 18: 106، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي،
الباب 11، الحديث 27.
80

فيعلم من أمثالهما: أن ارتكازهم كان على الرجوع إلى العلماء، وأرادوا
أن يعرف الإمام شخصا ثقة مأمونا، وأن علي بن المسيب كان يسأل عما احتاج
إليه من الأمور الفرعية، وأجابه زكريا بما رزقه الله فهمه من الكتاب وأخبار أهل
البيت، باجتهاده ونظره.
ومثلهما غيرهما (1)، بل إنكار رجوع عوام الشيعة في البلاد النائية عن
الأئمة (عليهم السلام) إلى علمائهم، مجازفة محضة.
هذا، لكن بقي الاشكال: وهو أن هذا الاختلاف الكثير الذي نشاهده بين
الفقهاء في الفتوى، لا أظن وجوده في عصر الأئمة (عليهم السلام)، ومعه لا يمكن إمضاء
الرجوع في ذلك العصر، أن يكشف منه الامضاء في هذا العصر كما لا يخفى.
نعم، لا يرد هذا الاشكال على الوجه الآتي.
عدم ردع الأئمة (عليهم السلام) عن ارتكاز العقلاء كاشف عن رضاهم
وأما الأمر الثاني: أي عدم ردعهم عن هذا الارتكاز كاشف عن رضاهم
بذلك، فهو أيضا واضح، ضرورة أن ارتكازية رجوع الجاهل في كل شئ إلى
عالمه، معلومة لكل أحد، وأن الأئمة (عليهم السلام) قد علموا بأن علماء الشيعة في زمان

1 - كصحيحة ابن أبي يعفور الآتية في الصفحة 101 - 102. راجع رجال الكشي 1: 383،
وسائل الشيعة 18: 105، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 23.
81

الغيبة وحرمانهم عن الوصول إلى الإمام، لا محيص لهم من الرجوع إلى كتب
الأخبار والأصول والجوامع، كما أخبروا بذلك، ولا محالة يرجع عوام الشيعة إلى
علمائهم بحسب الارتكاز والبناء العقلائي المعلوم لكل أحد.
فلولا ارتضاؤهم بذلك لكان عليهم الردع، إذ لا فرق بين السيرة المتصلة
بزمانهم وغيرها، مما علموا وأخبروا بوقوع الناس فيه، فإنهم أخبروا عن وقوع
الغيبة الطويلة (1)، وأن كفيل أيتام آل محمد صلى الله عليه وعليهم علماؤهم (2)،
وأنه سيأتي زمان هرج ومرج يحتاج العلماء إلى كتب أصحابهم (3)، فأمروا بضبط
الأحاديث وثبتها في الكتب.
فتحصل من جميع ذلك: أن الاشكال على أصل السيرة غير وارد، فيدل
على أصل التقليد الارتكاز القطعي العقلائي.
كيفية السيرة العقلائية ومناطها
ثم إنه لا بد من البحث عن كيفية السيرة، وأنها مع وجود الأفضل واختلافه
مع الفاضل كيف هي؟ فلا بد أولا من بيان مناط رجوع الجاهل إلى العالم حتى

1 - أنظر بحار الأنوار 51: 72 وما بعدها.
2 - مستدرك الوسائل 17: 317، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 22،
23، 24، 27، 28.
3 - الكافي 1: 42 / 11، وسائل الشيعة 18: 56، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 8،
الحديث 18.
82

يتضح الحال.
لا إشكال في أن رجوعه إليه، إنما هو لأجل طريقيته إلى الواقع وكشفه عنه،
وأن منشأه إلغاء احتمال الخلاف، لأجل غلبة موافقة قوله للواقع، وندرة المخالفة،
بحيث لا يعتني بها العقلاء، بل يكون نوع العقلاء في مقام العمل، غافلا عن احتمال
المخالفة، فيعمل على طبقه، ويرى وصوله إليه بارتكازه، نعم لو تنبه يرى أنه
ليس بعالم.
ولعل هذا هو المراد بالعلم العادي المتداول على ألسنتهم (1)، ولعل هذا
الوجه هو المعول عليه في نوع سيرة العقلاء وبنائهم العملي، كالتعويل على أصالة
الصحة، وخبر الثقة واليد، والبناء على الصحة في باب العيوب.
وأما احتمال كون بنائهم على ذلك لأجل مقدمات الانسداد، بأن يقال: يرى
العقلاء احتياجهم في تشخيص أمر من الأمور، ولا يمكن لهم الاحتياط أو يعسر
عليهم، ولا يجوز لهم الاهمال، لأجل احتياجهم إليه في العمل، وليس لهم طريق
إلى الواقع، فيحكم عقلهم بالرجوع إلى الخبير، لأجل أقربية قوله إلى الواقع
من غيره (2).
أو احتمال أن يكون منشأ ذلك، هو القوانين الموضوعة من زعماء القوم
ورؤسائهم السياسيين أو الدينيين، لأجل تسهيل الأمر على الناس ورغد عيشهم.

1 - قوانين الأصول 1: 432 سطر 2 و 2: 229 سطر 5، مفاتيح الأصول: 328 سطر 26،
مقباس الهداية 1: 126.
2 - أنظر قوانين الأصول 2: 246 سطر 17، وضوابط الأصول: 414 سطر 7.
83

فكلاهما بعيدان عن الصواب، ضرورة بطلان مقدمات الانسداد في كثير من
الموارد، وعلى فرض تماميتها لا تنتج ذلك، وبعد الوجه الثاني بل امتناعه عادة،
ضرورة] أن إطباق [(1) القوانين البشرية من باب الاتفاق - مع تفرق البشر في
الأصقاع المتباعدة، واختلاف مسالكهم وعشرتهم وأديانهم - ملحق بالممتنع.
وأما الوجه الأول: فأمر معقول موافق للاعتبار، نعم لا يبعد أن يكون
للانسداد دخل في أعمالهم في جميع الموارد، أو في بعضها.
لكن يرد على هذا الوجه: أنه كيف يمكن أن يدعى بناء العقلاء على إلغاء
احتمال الخلاف والخطأ، مع هذه الاختلافات الكثيرة المشاهدة من الفقهاء، بل من
فقيه واحد في كتبه العديدة، بل في كتاب واحد؟!
ولهذا لا يبعد أن يكون رجوع العامي إلى الفقيه، إما لتوهم كون فن الفقه -
كسائر الفنون - يقل الخطأ فيه، ويكون رجوع العقلاء لمقدمة باطلة وتوهم خطأ، أو
لأمر تعبدي أخذه الخلف عن السلف، لا لأمر عقلائي، وهو أمر آخر غير
بناء العقلاء.
ودعوى قلة خطأ الفقهاء بالنسبة إلى صوابهم، بحيث يكون احتماله ملغى -
وإن كثر - بعد ضم الموارد بعضها إلى بعض، غير وجيهة، مع ما نرى من
الاختلافات الكثيرة في كل باب إلى ما شاء الله.
وقد يقال: إن المطلوب للعقلاء في باب الاحتجاجات بين الموالي والعبيد،

1 - في الطبع السابق: تصادف.
84

قيام الحجة وسقوط التكليف والعقاب بأي وجه اتفق، والرجوع إلى الفقهاء موجب
لذلك، لأن المجتهدين مع اختلافهم في الرأي، مشتركون في عدم الخطأ والتقصير
في الاجتهاد.
ولا ينافي ذلك الاختلاف في الرأي، لامكان عثور أحدهما على حجة في
غير مظانها، أو أصل من الأصول المعتمدة، ولم يعثر عليهما الآخر مع فحصه
بالمقدار المتعارف، فتمسك بالأصل العملي، أو عمل على الإمارة التي عنده،
فلا يكون واحد منهما مخطئا في اجتهاده، ورأي كل منهما حجة في حقه
وحق غيره.
فرجوع العقلاء إليهما لأجل قيام الحجة والعذر، وهما المطلوب لهم، لا
إصابة الواقع الأولي، وأوضح من ذلك لو قلنا: بجعل المماثل في مؤدى الأمارة.
وفيه أولا: أن تسمية ذلك عدم خطأ في غير محله، نعم لا يكون ذلك
تقصيرا وإن كان مخطئا، ومع اختلافهما لا محالة يعلم بخطأ أحدهما، ومعه لا
يكون البناء على الرجوع إذا كان الاختلاف كثيرا - ولو في غير مورد اختلافهما -
للاعتداد باحتمال الخطأ حينئذ.
وثانيا: أنه لو سلم أن نظر العقلاء في مثل المقام إلى تحصيل الحجة والعذر،
لكنهما متوقفان على إلغاء احتمال خطأ الاجتهاد بالنسبة إلى التكاليف الواقعية
الأولية، وهو في المقام ممنوع.
ومؤدى الطرق لو فرض باطلا كونه حكما ثانويا، لا يوجب معذوريته
بالنسبة إلى الواقعيات، إلا للمعذور وهو المجتهد، لا للمقلد الذي يكون مبنى عمله
85

فتواه، وهو ليس معذرا إلا مع كونه - كسائر الأمارات العقلائية - قليل الخطأ لدى
العقلاء، والفرض أن كل مجتهد يحكم بخطأ أخيه، لا بتقصيره، ومعه كيف يمكن
حجية الفتوى؟!
نعم، يمكن أن يقال: إن الأمر الثاني من الأمرين المتقدمين يدفع
الاشكال، فإن عدم ردع هذا البناء الخارجي، دليل على رضا الشارع المقدس
بالعمل على فتاوى الفقهاء مع الاختلاف المشهور.
لكن في صيرورة ذلك هو البناء العقلائي المعروف، والبناء على أمارية
الفتوى كسائر الأمارات، إشكال.
إلا أن يقال: إن بناء المتشرعة على أخذ الفتوى طريقا إلى الواقع والعمل
على طبق الأمارية، والسكوت عنه دليل على الارتضاء بذلك، وهو ملازم لجعل
الأمارية لها، والمسألة تحتاج إلى مزيد تأمل.
ثم إنه بناء على أن المناط في رجوع الجاهل إلى العالم، هو إلغاء احتمال
الخلاف والخطأ - بحيث يكون احتماله موهوما لا يعتني به العقلاء -، لا إشكال في
أن هذا المناط موجود عندهم في تشخيصات أهل الخبرة وأصحاب الفنون، كان
الأفضل موجودا أو لا، ولهذا يعملون على قوله مع عدم وجود الأفضل.
وهذا دليل قطعي على تحقق مناط العمل عندهم في قول الفاضل، وإلا
فكيف يعقل العمل مع عدم المناط؟! فيكون المناط موجودا، كان الأفضل موجودا
أو لا، اختلف رأيهما أو لا. فلو فرض تقديمهم قول الأفضل عند الاختلاف، فإنما
هو من باب ترجيح إحدى الحجتين على الأخرى، لا من باب عدم الملاك في
86

قول المفضول، لعدم تعقل تحقق المناط مع عدم الفاضل، وعدمه مع وجوده.
فقول المفضول حجة وأمارة عقلائية في نفسه، لأجل موهومية احتمال
الخطأ، كما أن مناط العمل بقول الأفضل ذلك بعينه.
هل ترجيح قول الأفضل لزومي أم لا؟
نعم، يبقى في المقام أمر، وهو أنه هل بناء العقلاء على ترجيح قول الأفضل
لدى العلم بمخالفته مع غيره إجمالا أو تفصيلا، يكون بنحو الالزام، أو من باب
حسن الاحتياط، وليس بنحو اللزوم؟
لا يبعد الاحتمال الثاني، لوجود تمام الملاك في كليهما، واحتمال أقربية
قول الأعلم - على فرض صحته - لم يكن بمثابة يرى العقلاء ترجيحه عليه
لزوميا، ولهذا تراهم يراجعون المفضول بمجرد أعذار غير وجيهة، كبعد الطريق
وكثرة المراجعين ومشقة الرجوع إليه ولو كانت قليلة، وأمثال ذلك، مما يعلم أنه لو
حكم العقل إلزاما بالترجيح، لما كانت تلك الأعذار وجيهة لدى العقل والعقلاء.
هذا مع علمهم إجمالا بمخالفة أصحاب الفن في الرأي في الجملة، فليس
ترجيح الأفضل إلا ترجيحا غير ملزم، واحتياطا حسنا. ولهذا لو أمكن لأحد
تحصيل اجتماع أصحاب فن في أمر والاستفتاء منهم، لفعل، لا لأجل عدم
الاعتناء بقول الأفضل أو الفاضل، بل للاحتياط الراجح الحسن.
وبالجملة: المناط كل المناط في رجوعهم، هو اعتقاد هم بندرة الخطأ
وإلغاء احتمال الخلاف، وهو موجود في كليهما.
87

فحينئذ مع تعارض قولهما، فمقتضى القاعدة تساقطهما والرجوع إلى
الاحتياط مع الامكان، وإلا فالتخيير، وإن كان ترجيح قول الأفضل حسنا على
أي حال، تأمل.
هذا، ولكن مع ذلك فالذهاب إلى معارضة قول المفضول لقول الأفضل
مشكل، خصوصا في مثل ما نحن فيه، أي باب الاحتجاج بين العبيد والموالي، مع
كون المقام من دوران الأمر بين التعيين والتخيير، والأصل يقتضي التعيين. فالقول
بلزوم تقديم قول الأفضل لعله أوجه، مع أن الأصحاب أرسلوه إرسال المسلمات
والضروريات (1).
مضافا إلى عدم إحراز بناء العقلاء على العمل بقول المفضول مع العلم
التفصيلي - بل الاجمالي المنجز - بمخالفته مع الفاضل، لو لم] نقل [(2)
بإحراز عدمه.
نعم، لا يبعد ذلك مع العلم بأن في أقوالهم اختلافا، لا مع العلم إجمالا بأنهم
في هذا المورد أو مورد آخر مثلا مختلفون.
وبعبارة أخرى: إن بناءهم على العمل في مورد العلم الاجمالي غير
المنجز، نظير أطراف الشبهة غير المحصورة، هذا حال بناء العقلاء.

1 - راجع مفاتيح الأصول 626 سطر 12، مطارح الأنظار: 298 سطر 20.
2 - في الطبع السابق: يعمل.
88

أدلة جواز الرجوع إلى المفضول
وأما حال الأدلة الشرعية، فلا بد من ذكر ما تشبث به الطرفان، والبحث في
أطرافهما:
أما ما يمكن أن يتمسك به لجواز الرجوع إلى المفضول مع وجود الأفضل -
بل وتخالف رأيهما - فأمور:
الأول: بعض الآيات الشريفة
منها: قوله تعالى في الأنبياء: (وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم
فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) (1).
بدعوى: أن إطلاقه يقتضي جواز الرجوع إلى المفضول حتى مع مخالفة
قوله للأفضل، ولا سيما مع ندرة التساوي بين العلماء وتوافقهم في الآراء (2).
وفيه: - مضافا إلى ظهور الآية في أن أهل الذكر هم علماء اليهود
والنصارى، إرجاع المشركين إليهم، وإلى ورود روايات كثيرة في أن أهله هم
الأئمة (3)، بحيث يظهر منها أنهم أهله لا غير - أن الشبهة كانت في أصول العقائد التي

1 - الأنبياء (21): 7.
2 - أنظر الفصول الغروية: 423 سطر 37، وقرره في مطارح الأنظار: 300 سطر 30.
3 - راجع تفسير البرهان 2: 369 - 372 و 3: 52.
89

يجب فيها تحصيل العلم.
فيكون المراد: اسألوا أهل الذكر حتى يحصل لكم العلم إن كنتم لا
تعلمون ومعلوم أن السؤال من واحد منهم لا يوجب العلم، ففي الآية إهمال من
هذه الجهة، فيكون المراد: أن طريق تحصيل العلم لكم هو بالرجوع إلى أهل
الذكر كما يقال للمريض: إن طريق استرجاع الصحة هو بالرجوع إلى الطبيب
وشرب الدواء فليس لها إطلاق يقتضي الرجوع إلى الفاضل أو المفضول مع
تعارض قولهما.
ولا يبعد أن يقال: إن الآية بصدد إرجاعهم إلى أمر ارتكازي، هو الرجوع
إلى العالم، ولا تكون بصدد تحميل تعبدي وإيجاب مولوي.
ومنها: آية النفر في سورة التوبة: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر
من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم
يحذرون) (1).
والاستدلال بها للمطلوب يتوقف على أمور:
منها: استفادة وجوب النفر منها.
ومنها: كون التفقه غاية له.
ومنها: كون الانذار من جنس ما يتفقه فيه.
ومنها: انحصار التفقه بالفرعيات.

1 - التوبة (9): 122، راجع الفصول الغروية: 423 سطر 37، وما قرره في مطارح الأنظار:
300 سطر 30.
90

ومنها: كون المنذر - بالكسر - كل واحد من النافرين.
ومنها: كون المنذر - بالفتح - كل واحد من الطائفة الباقية.
ومنها: كون التحذر عبارة عن العمل بقول المنذر.
ومنها: وجوب العمل بقوله، حصل العلم منه أو لا، وخالف قول غيره أو لا.
فيصير مفاد الآية بعد تسليم المقدمات: يجب على كل واحد من كل طائفة
من كل فرقة، النفر لتحصيل الفروع العملية، ليبينها لكل واحد من الباقين، ليعمل
المنذر بقوله، حصل العلم منه أو لا، وخالف غيره أو لا.
وأنت خبير: بعدم سلامة] مجموع [(1) المقدمات لو سلم بعضها، فلك أن
تمنع كون التفقه غاية للنفر، بأن يقال: إن قوله: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة)
يحتمل أن يكون إخبارا في مقام الانشاء، أي ليس لهم النفر العمومي، كما ورد:
أن القوم كانوا ينفرون كافة للجهاد، وبقي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وحده، فورد النهي
عن النفر العمومي، والأمر بنفر طائفة للجهاد (2)، فحينئذ لا يكون التفقه غاية للنفر
إذا كان التفقه لغير النافرين، أي الباقين.
لكن الانصاف: أن ذلك خلاف ظاهرها، بل ظاهرها أن المؤمنين ما كانوا
بحسب اشتغالهم بأمور المعاش ونظم الدنيا، لينفروا جميعا، أي النفر العمومي ليس
ميسورا لهم، فلولا نفر من كل فرقة طائفة منهم للتفقه، ولا إشكال في أن الظاهر منه
- مع قطع النظر عن قول المفسرين - هو كون التفقه غاية له.

1 - في الطبع السابق: جميع.
2 - الدر المنثور 3: 292، مجمع البيان 5: 125 - 126.
91

وأما كون الانذار من سنخ ما يتفقه فيه، أي بيان الأحكام بنحو الانذار،
فليست الآية ظاهرة فيه، بل الظاهر منها أن غاية النفر أمران:
أحدهما: التفقه في الدين وفهم الأحكام الدينية.
وثانيهما: إنذار القوم وموعظتهم.
فيكون المراد: يجب على الفقيه إنذار القوم وإيجاد الخوف من بأس الله في
قلوبهم، فإذا خافوا يحكم عقلهم بوجوب تحصيل المؤمن، فلا محيص لهم إلا العلم
بأحكام الله مقدمة للعمل بها.
وأما وجوب العمل بقول المنذر بمجرده فلا تدل الآية عليه.
ودعوى: أن الانذار لا بد وأن يكون من جنس ما يتفقه فيه، وإلا فأية
مناسبة للفقيه معه؟! (1) ممنوعة، لأن الانذار مناسب للفقيه، لأنه يعلم حدوده،
وكيفيته، وشرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع أن لكلامه تأثيرا في
القوم لا يكون لكلام غيره، لعلو مقامه، وعظم شأنه لديهم، وأما التفقه في الدين،
فهو أعم من الأصول والفروع، فلا وجه لاختصاصه بالثاني، والأخبار الواردة في
تفسيرها تدل على تعميمه (2)، فحينئذ لا يمكن أن يقال: بوجوب قبول قوله تعبدا،
لعدم جريانه في الأصول.
اللهم إلا أن يقال: إن إطلاقها على فرضه، يقتضي قبول قول الغير في
الأصول والفروع، فيقيد إطلاقها عقلا في الأصول، وتبقى الفروع.

1 - أنظر فوائد الأصول 3: 188.
2 - راجع تفسير البرهان 2: 171 - 173، ويأتي قريبا التعرض لبعضها.
92

وأما كون المنذر - بالكسر - كل واحد من الطائفة، فلا إشكال في ظهور
الآية فيه، لكن الظاهر منها أن كل واحد من المنذرين يجب عليه إنذار القوم
جميعا، ومعه لا تدل الآية على وجوب القبول من كل واحد منهم، فإنه بإنذار كل
واحد منهم قومهم ربما يحصل لهم العلم.
وأما كون التحذر بمعنى التحذر العملي، أي قبول قول الغير والعمل به،
فهو خلاف ظاهرها، بل التحذر إما بمعنى الخوف، وإما بمعنى الاحتراز، وهو
الترك عن خوف. والظاهر أنه بمعنى الخوف الحاصل عن إنذار المنذرين، وهو أمر
غير اختياري لا يمكن أن يتعلق بعنوانه الأمر. نعم، يمكن تحصيله بمقدمات
اختيارية، كالحب، والبغض، وأمثالهما.
هذا كله مع أنه لا إطلاق للآية، ضرورة أنها بصدد بيان كيفية النفر، وأنه إذا لم
يمكن للناس نفر عمومي، فلم لا تنفر طائفة منهم، فإنه ميسور لهم؟!
وبالجملة: لا يجوز للناس سد باب التفقه والتعلم بعذر الاشتغال بأمور
الدنيا، فإن أمر الدين - كسائر أمورهم - يمكن قيام طائفة به، فلا بد من التفقه
والانذار. وأما وجوب قبول السامع بمجرد السماع، فلا إطلاق للآية يدل عليه،
فضلا عن إطلاقها لحال التعارض.
والانصاف: أن الآية أجنبية عن حجية قول المفتي، كما أنها أجنبية عن
حجية قول المخبر، بل مفادها - والعلم عند الله -: أنه يجب على طائفة من كل
فرقة أن يتفقهوا في الدين، ويرجعوا إلى قومهم، وينذروهم بالمواعظ والانذارات
والبيانات الموجبة لحصول الخوف في قلوبهم، لعلهم يحذرون، ويحصل في
93

قلوبهم الخوف قهرا، فإذا حصل الخوف في قلوبهم تدور رحى الديانة، ويقوم
الناس بأمرها قهرا، لسوقهم عقلهم نحو القيام بالوظائف. هذا حالها مع قطع النظر
عن الروايات الواردة في تفسيرها.
ومع النظر إليها أيضا لا تدل على المطلوب:
لأن منها: ما تدل على أن الإمام إذا مات لم يكن للناس عذر في عدم
معرفة الإمام الذي بعده، أما من في البلد فلرفع حجته، وأما غير الحاضر فعليه النفر
إذا بلغه (1).
ومنها: ما دلت على أن تكليف الناس بعد الإمام الطلب، وأن النافرين في
عذر ما داموا في الطلب، والمنتظرين في عذر حتى يرجع إليهم أصحابهم (2).
ومعلوم: أن قول النافرين بمجرده، ليس بحجة في باب الإمامة.
ومنها: ما وردت في علة الحج، وفيها: (مع ما فيه من التفقه ونقل أخبار
الأئمة (عليهم السلام) إلى كل صقع وناحية) (3).
ومنها: ما دلت على أنه تعالى (أمرهم أن ينفروا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
فيتعلموا، ثم يرجعوا إليهم فيعلموهم) وهو معنى قوله: (اختلاف أمتي رحمة) (4).

1 - الكافي 1: 309 / 2، تفسير البرهان 2: 171 / 4.
2 - الكافي 1: 309 / 1، تفسير البرهان 2: 171 / 1.
3 - عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 118، علل الشرائع: 273، وسائل الشيعة 18: 69، كتاب
القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 8، الحديث 65.
4 - معاني الأخبار: 157 / 1، علل الشرائع: 85 / 4، وسائل الشيعة 18: 101، كتاب القضاء،
أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 10 (بتفاوت يسير).
94

وهذه الطائفة أيضا لا تدل على وجوب القبول بمجرد السماع، فضلا عن
حال التعارض.
هذا حال الآيات الشريفة، والآيات الأخر التي استدل بها (1)، أضعف دلالة
منهما.
الثاني: الأخبار التي استدل بها على حجية قول المفضول
وأما الأخبار فمنها: ما عن تفسير الإمام (عليه السلام) في ذيل قوله تعالى:
(ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون) (2)
والحديث طويل.
وفيه: (وأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه، حافظا لدينه، مخالفا على
هواه، مطيعا لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه) (3).
دل بإطلاقه على جواز تقليد المفضول إذا وجد فيه الشرائط ولو مع وجود
الأفضل، أو مخالفته له في الرأي (4).

1 - كقوله تعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في
الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) البقرة (2): 159، راجع مطارح الأنظار:
300 سطر 31.
2 - البقرة (2): 78.
3 - تفسير الإمام العسكري (عليه السلام): 120، الإحتجاج: 457، وسائل الشيعة 18: 94، كتاب القضاء،
أبواب صفات القاضي، الباب 10، الحديث 20.
4 - أنظر الفصول الغروية: 423 سطر 37، وما قرر في مطارح الأنظار: 301 سطر 27.
95

لكنه - مع ضعف سنده، وإمكان أن يقال: إنه في مقام بيان حكم آخر، فلا
إطلاق له لحال وجود الأفضل، فضلا عن صورة العلم بمخالفة رأيه رأي الأفضل -
مخدوش من حيث الدلالة، لأن صدره في بيان تقليد عوام اليهود علماءهم في
الأصول حيث قال: (وإن هم إلا يظنون) ما تقول رؤساؤهم من تكذيب محمد
في نبوته، وإمامة علي سيد عترته، وهم يقلدونهم مع أنه محرم عليهم تقليدهم).
ثم بعد ما سأل الرجل عن الفرق بين عوامنا وعوامهم حيث كانوا مقلدين.
أجاب بما حاصله: أن عوامهم مع علمهم بفسق علمائهم وكذبهم، وأكلهم
الحرام والرشا، وتغييرهم أحكام الله يقلدونهم، مع أن عقلهم يمنعهم عنه، ولو كان
] عوامنا [(1) كذلك لكانوا مثلهم.
ثم قال: (وأما من كان من الفقهاء...) إلى آخره.
فيظهر منه: أن الذم لم يكن متوجها إلى تقليدهم في أصول العقائد،
كالنبوة، والإمامة، بل متوجه إلى تقليد فساق العلماء، وأن عوامنا لو قلدوا
علمائهم فيما قلد اليهود علماءهم، فلا بأس به إذا كانوا صائنين لأنفسهم، حافظين
لدينهم... إلى آخره، فإخراج الأصول منه اخراج للمورد، وهو مستهجن، فلا بد من
توجيه الرواية بوجه، أو رد علمها إلى أهلها.
وأما حملها على حصول العلم من قول العلماء للعوام، لحسن ظنهم بهم،
وعدم انقداح خلاف الواقع من قولهم، بل يكون قول العلماء لديهم صراح الواقع

1 - في الطبع السابق: عوامهم.
96

وعين الحقيقة (1)، فبعيد بل غير ممكن، لتصريحها بأنهم لم يكونوا إلا ظانين بقول
رؤسائهم، وأن عقلهم كان يحكم بعدم جواز تقليد الفاسق.
مع أنه لو حصل العلم من قولهم لليهود، لم يتوجه إليهم ذم، بل لم يسم ذلك
تقليدا.
وبالجملة: سوق الرواية إنما هو في التقليد الظني، الذي يمكن ردع قسم
منه، والأمر بالعمل بقسم منه، والالتزام بجواز التقليد في الأصول أو في بعضها (2)،
كما ترى، فالرواية مع ضعفها سندا، واغتشاشها متنا، لا تصلح للحجية.
ولكن يستفاد منها مع ضعف سندها، أمر تأريخي يؤيد ما نحن بصدده، وهو
أن التقليد بهذا المفهوم الذي في زماننا، كان شائعا من زمن قديم، هو زمان الأئمة
أو قريب منه، أي من زمان تدوين تفسير الإمام (3) أو من قبله بزمان طويل.
ومنها: إطلاق صدر مقبولة عمر بن حنظلة (4)، وإطلاق مشهورة

1 - أنظر رسالة في الاجتهاد والتقليد، الشيخ الأعظم الأنصاري، ضمن مجموعة
رسائل: 78 - 79.
2 - اختاره جماعة، منهم المحقق الطوسي في بعض رسائله، أنظر قوانين الأصول 2: 173
سطر 10.
3 - هذا التفسير رواه الصدوق، عن محمد بن القاسم الاسترآبادي، عن يوسف بن محمد بن
زياد، وعلي بن محمد بن سيار، عنه (عليه السلام). أنظر الإحتجاج: 16، وحيث إن وثاقة الاسترآبادي
ومن يروى عنهما ممنوعة، فلا سبيل إلى تحديد زمان التأليف بشكل دقيق.
4 - أي قوله (عليه السلام): (ينظران إلى من كان منكم ممن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا،
وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكما، فإني قد جعلته عليكم حاكما...).
الكافي 1: 54 / 10، الفقيه 3: 5 / 2، تهذيب الأحكام 6: 301 / 845، الإحتجاج: 355،
وسائل الشيعة 18: 98، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 1.
97

أبي خديجة (1).
وتقريب الدلالة أن يقال: إن الظاهر من صدرها وذيلها (2)، شمولها
للشبهات الحكمية، فيؤخذ بإطلاقها في غير مورد واحد متعرض له، وهو صورة
اختلاف الحكمين، وكذا المشهورة تشملها بإطلاقها.
فإذا دلتا على نفوذ حكم الفقيه فيها، تدلان على اعتبار فتواه في باب فصل
الخصومات، وإلا فلا يعقل إنفاذه بدونه، ويفهم نفوذ فتواه وحجيتها في غيره، إما
بإلغاء الخصوصية عرفا، أو بدعوى تنقيح المناط (3).
أو يقال: إن الظاهر من قوله: (فإذا حكم بحكمنا) إلغاء احتمال الخلاف من
فتوى الفقيه، إذ ليس المراد منه أنه إذا علمتم أنه حكم بحكمنا بل المراد أنه إذا
حكم بحكمنا بحسب نظره ورأيه فجعل نظره طريقا إلى حكمهم.
هذا، ولكن يرد عليه: أن إلغاء الخصوصية عرفا ممنوع، ضرورة تحقق
خصوصية زائدة في باب الحكومة، ربما تكون بنظر العرف دخيلة فيها، وهي رفع

1 - تهذيب الأحكام 6: 303 / 846، وسائل الشيعة 18: 100، كتاب القضاء، أبواب صفات
القاضي، الباب 11، الحديث 6. وراجع الفصول الغروية: 423 سطر 37، وما قرره في مطارح
الأنظار: 301 سطر 23.
2 - أي قوله (عليه السلام): (الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما، ولا
يلتفت إلى ما يحكم به الآخر).
3 - مطارح الأنظار: 263 سطر 16.
98

الخصومة بين المتخاصمين، وهو لا يمكن نوعا إلا بحكم الحاكم النافذ، وهذا أمر
مرغوب فيه، لا يمكن فيه الاحتياط، ولا تتفق فيه المصالحة نوعا.
وأما العمل بقول الفقيه فربما لا يكون مطلوبا، ويكون المطلوب درك الواقع
بالاحتياط، أو الأخذ بأحوط الأقوال مع تعذر الاحتياط التام، فدعوى أن العرف
يفهم من المقبولة وأمثالها حجية الفتوى، لا تخلو من مجازفة، وأوضح فسادا من
ذلك دعوى تنقيح المناط القطعي.
وأما قوله: (إذا حكم بحكمنا) لو سلم إشعاره بإلغاء احتمال الخلاف، فإنما
هو في باب الحكومة، فلا بد في التسرية إلى باب الفتوى من دليل، وهو مفقود.
فالانصاف: عدم جواز التمسك بأمثال المقبولة للتقليد رأسا، فكما لا يجوز
التمسك بصدرها على جواز تقليد المفضول، لا يجوز ببعض فقرات ذيلها على
وجوب تقليد الأعلم، لدى مخالفة قوله مع غيره.
ومنها: إطلاق ما في التوقيع: (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى
رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم، وأنا حجة الله) (1).
وتقريبه: أن الحوادث أعم من الشبهات الحكمية، والرجوع إلى رواة
الحديث ظاهر في أخذ فتاويهم، لا أخذ نفس الرواية، ورواة الحديث كانوا من

1 - إكمال الدين: 484 / 4، الغيبة، الشيخ الطوسي: 176، الإحتجاج: 469، وسائل الشيعة 18:
101، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 9، راجع مناهج الأحكام
والأصول للنراقي: 301 سطر 2، وما قرر في رسالة في الاجتهاد والتقليد، الشيخ الأعظم
الأنصاري، ضمن مجموعة رسائل: 77.
99

أهل الفتوى والرأي كما مر (1).
كما أن قوله: (فإنهم حجتي عليكم) يدل على أن فتوى رواة الحديث حجة،
كما أن فتوى الإمام حجة، فلا معنى لحجية رواة الحديث، إلا حجية فتاويهم
وأقوالهم، والحمل على حجية الأحاديث المنقولة بتوسطهم، خلاف الظاهر.
وفيه: - بعد ضعف التوقيع سندا (2) - أن صدره غير منقول إلينا، ولعله كان
مكتنفا بقرائن لا يفهم منه إلا حجية حكمهم في الشبهات الموضوعية، أو الأعم،
وكان الارجاع في القضاء، لا في الفتوى.
ومنها: ما عن الكشي بسند ضعيف (3)، عن أحمد بن حاتم بن ماهويه (4)،
قال: كتبت إليه - يعني أبا الحسن الثالث (عليه السلام) - أسأله عمن آخذ معالم ديني، وكتب
أخوه (5) أيضا بذلك.

1 - تقدم في الصفحة 27 - 29، 48 - 49، 70 - 78.
2 - هذا التوقيع مروي عن الكليني (رحمه الله) في غير الكافي، عن إسحاق بن يعقوب، وضعفه بإسحاق
فإنه لم يوثق.
3 - فقد رواه الكشي، عن جبريل بن محمد الفاريابي، عن موسى بن جعفر بن وهب، عن أحمد
ابن حاتم بن ماهويه، ولم يثبت توثيق من عدا الكشي. ودعوى وثاقة جبريل لرواية الكشي
عنه كثيرا، واعتماده عليه، وروايته لما وجده بخط جبريل، ووثاقة موسى لوقوعه في أسانيد
كامل الزيارة، ووثاقة أحمد لما أفاده المحقق الداماد في ترجمته، ممنوعة.
4 - أحمد بن حاتم بن ماهويه: هو أبو الحسن أحمد بن حاتم بن ماهويه القزويني. كان كثير
الرواية، مستقيما في العقيدة، سالما من الطعن روى عن الرضا (عليه السلام)، وروى عنه موسى بن
جعفر بن وهب. راجع رجال الكشي 1: 15 (تعليقة المحقق الداماد (قدس سره).
5 - لأحمد بن حاتم بن ماهويه القزويني ثلاثة إخوة:
أحدهم: طاهر بن حاتم، الذي كان مستقيما من أصحاب الكاظم والرضا (عليهما السلام) وكان له كتاب
وروايات، ثم تغير وأظهر القول بالغلو، روى عن الرجل، وروى عنه سهل بن زياد، ومحمد
ابن عيسى بن عبيد اليقطيني.
أنظر رجال النجاشي: 208 / 551، وفهرست الشيخ 86، ومعجم رجال الحديث 9:
156 - 157.
ثانيهم: فارس بن حاتم نزيل العسكر، الذي هو من أصحاب الهادي (عليه السلام) ولم يرو الحديث إلا
شاذا، وكان مستقيما أيضا، ثم غلا وخلط، وفسد مذهبه، حتى لعنه الإمام (عليه السلام) وأمر بقتله
فقتل.
أنظر رجال النجاشي: 310 / 848، ورجال الشيخ: 420 / 3، ومعجم رجال الحديث 13:
238 - 244.
ثالثهم: سعيد بن حاتم بن ماهويه، وهو مهمل لم نعثر له على شئ.
أنظر قاموس الرجال 1: 413.
100

فكتب إليهما: (فهمت ما ذكرتما، فاصمدا في دينكما على كل مسن في حبنا،
وكل كثير القدم في أمرنا، فإنهما كافوكما إن شاء الله) (1).
وفيه: - بعد ضعف السند - أن الظاهر من سؤاله أن الرجوع إلى العالم كان
مرتكزا في ذهنه، وإنما أراد تعيين الإمام شخصه، فلا يستفاد منه التعبد، كما أن
الأمر كذلك في كثير من الروايات، بل قاطبتها على الظاهر.
ومنها: روايات كثيرة عن الكشي وغيره، فيها الصحيحة وغيرها، تدل على
إرجاع الأئمة إلى أشخاص من فقهاء أصحابهم، يظهر منها أن الرجوع إليهم كان
متعارفا، ومع وجود الأفقه كانوا يراجعون غيره، كصحيحة ابن أبي يعفور: قال

1 - رجال الكشي 1: 15، وسائل الشيعة 18: 110، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي،
الباب 11، الحديث 45.
101

قلت لأبي عبد الله: إنه ليس كل ساعة ألقاك ولا يمكن القدوم، ويجئ الرجل من
أصحابنا، فيسألني وليس عندي كل ما يسألني عنه.
فقال: (ما يمنعك من محمد بن مسلم الثقفي، فإنه سمع من أبي، وكان عنده
وجيها) (1).
وكرواية علي بن المسيب المتقدمة (2)، حيث أرجعه الرضا (عليه السلام) إلى زكريا
ابن آدم (3)... إلى غير ذلك (4).
ويستفاد منها: أن أخذ معالم الدين - الذي هو عبارة أخرى عن التقليد -
كان مرتكزا في ذهنهم، ومتعارفا في عصرهم.
ويستفاد من صحيحة ابن أبي يعفور، تعارف رجوع الشيعة إلى الفقهاء من
أصحاب الأئمة، مع وجود الأفقه بينهم، وجواز رجوع الفقيه إلى الأفقه إذا لم يكن
له طريق إلى الواقع.
وهذا ليس منافيا لما ذكرنا في أول الرسالة: من أن موضوع عدم جواز

1 - رجال الكشي 1: 383، وسائل الشيعة 18: 105، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي،
الباب 11، الحديث 23.
2 - تقدمت في الصفحة 80.
3 - رجال الكشي 2: 858، وسائل الشيعة 18: 106، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي،
الباب 11، الحديث 27.
4 - راجع وسائل الشيعة 18، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 4، 5،
15، 19، 24، 30، 33، 34، 35، 42، 46، 47، وانظر ما قرره في مطارح الأنظار: 300
السطر ما قبل الأخير.
102

الرجوع إلى الغير نفس قوة الاستنباط (1)، وذلك لأن ما ذكرنا هناك إنما هو فيمن له
طريق إلى الاستنباط مثل زماننا، فإن الكتب الراجعة إليه مدونة مكتوبة بين
أيدينا، بخلاف ما إذا لم يكن كذلك، كعصر محمد بن مسلم، حيث إن الأحاديث
فيه كانت مضبوطة عنده وعند نظرائه، ولم يكن للجاهل طريق إليها إلا بالرجوع
إليهم.
مع إمكان أن يقال: إن إرجاع مثل ابن أبي يعفور، إنما هو في سماع
الحديث، ثم استنباطه منه حسب اجتهاده، ولا إشكال في استفادة جواز الرجوع
إلى الفقهاء - بل إلى الفقيه مع الأفقه - من تلك الروايات.
لكن استفادة ذلك مع العلم الاجمالي أو التفصيلي بمخالفة آرائهما مشكلة،
لعدم العلم بذلك في تلك الأعصار، خصوصا من مثل أولئك الفقهاء والمحدثين
الذين كانوا من بطانة الأئمة، فالاتكال على مثل تلك الأدلة في جواز تقليد
المفضول مشكل، بل غير ممكن.

1 - تقدم في الصفحة 6.
103

فيما استدل به على ترجيح قول الأفضل
واستدل على ترجيح قول الأفضل لدى العلم بالمخالفة:
تارة: بالاجماعات المنقولة (1)، وهو كما ترى في مثل المسألة العقلية مع
تراكم الأدلة.
وأخرى: بالأخبار كالمقبولة وغيرها (2)، بأن يقال: إن الشبهة فرضت حكمية
في المقبولة، فنفوذ حكمه تعيينا، ملازم لنفوذ فتواه كذلك في تلك المسألة، فنتعدى
إلى غيرها بإلغاء الخصوصية، أو القطع بالملاك،] ولا [سيما مع تناسب الأفقهية
والأصدقية في الحديث لذلك.
وفيه: - مضافا إلى أن ظاهر المقبولة، أن الأوصاف الأربعة مجتمعة توجب
التقديم، بمقتضى العطف بالواو وفرض الراوي صورة التساوي، لا يكشف عن
كون المراد وجود أحدها - أنه يمنع التلازم هاهنا، لأن الملازمة إنما تكون في
صورة إثبات النفوذ، لا سلبه، لأن سلب المركب أو ما بحكمه بسلب أحد أجزائه،
فسلب نفوذ حكمه كما يمكن أن يكون لسلب حجية فتواه، يمكن أن يكون لسلب

1 - الاجتهاد والتقليد، الشيخ الأعظم، ضمن مجموعة رسائل: 71، مطارح الأنظار: 298
سطر 23 و 303 سطر 20.
2 - مجموعة رسائل: 71، مطارح الأنظار: 303 سطر 21، درر الفوائد: 711 - 713. وقد تقدم
تخريج المقبولة والمشهورة أخيرا في الصفحة 97، 98.
104

صلاحية حكمه للفصل.
وعدم جواز الأخذ بالفتوى في المقام، ليس لعدم صلاحيتها للحجية، بل
لعدم كونها فاصلا، بل فتوى الأعلم أيضا ليست بفاصل، والتناسب بين الأفقهية
وذلك لم يصل إلى حد كشف العلية التامة.
هذا كله مع أن إلغاء الخصوصية عرفا، أو القطع بالملاك، مما لا وجه لهما بعد
وضوح الفرق بين المقامين. ولعل الشارع لاحظ جانب الاحتياط في حقوق
الناس، فجعل حكم الأعلم فاصلا، لأقربيته إلى الواقع بنظره، ولم يلاحظه في
أحكامه، توسعة على الناس. فدعوى إلغاء الخصوصية مجازفة، ودعوى القطع
أشد مجازفة.
وثالثة: بأن فتوى الأعلم أقرب إلى الصواب، لأن نظره طريق محض إلى
الواقع كنظر غيره، سواء الأوليات منه، أو الثانويات، أو الأعذار الشرعية والعقلية،
فحينئذ تلازم الأعلمية الأقربية، وهو المتعين في مقام الاسقاط والأعذار، وجواز
الرجوع إلى غيره يساوق الموضوعية (1).
والجواب عن الصغرى: بمنع كليتها، لأن رأي غير الأعلم قد يوافق رأي
الأعلم من الأموات أو الأحياء، إذا لم يجز تقليدهم لجهة، بل إذا كان رأي غير
الأعلم موافقا لجميع الفقهاء، ويكون الأعلم منفردا في الأحياء في الفتوى، مع
كون مخالفيه كثيرين جدا.

1 - أنظر الذريعة إلى أصول الشريعة 2: 801، ومعالم الدين: 241 السطر الأول.
105

وتنظر بعض أهل النظر (1)، في الصغرى: بأن حجية الفتوى لأجل كونها من
الظنون الخاصة، لا المطلقة، فمطابقة قول غير الأعلم للأعلم الغير الصالح للحجية،
غير مفيدة، فلا عبرة بقوته ولا أصله، كالظن من الأمارات الغير المعتبرة، والأقوائية
بمطابقة قوله لسائر المجتهدين الذين مثله غير مسلمة، إذ المطابقة لوحدة الملاك
وتقارب الأنظار، فالكل في قوة نظر واحد، ولا يكشف توافق آرائهم عن قوة
مدركهم، وإلا لزم الخلف، لفرض أقوائية نظر الأعلم.
ومنه يعلم فساد قياسه بالخبرين المتعارضين، المحكي أحدهما بطرق
متعددة، إذ ليست الخطابات بمنزلة حكاية واحدة، فلا محالة توجب كل حكاية

1 - هو آية الله الشيخ الفقيه الأصولي الأديب، جامع المعقول والمنقول، محمد حسين بن محمد
حسن الأصفهاني الكمپاني. ولد في النجف الأشرف سنة 1296 ه‍، من أسرة كريمة وثرية،
وتعلم الخط منذ حداثته، فأظهر في جميع أنواعه براعة فائقة، حتى صار من مشاهير
الخطاطين البارعين. كما طلب العلم في سن مبكرة، فحضر - ولما يبلغ العشرين - على
المحقق الخراساني فقها وأصولا، واختص به، ولازمه مدة ثلاثة عشر عاما إلى حين وفاته،
وحضر قليلا على السيد المحقق الفشاركي الأصفهاني، وأما في الفلسفة فقد تخرج على
الفيلسوف المعروف محمد باقر الاصطهباناتي، ثم استقل - بعد وفاة أستاذه الآخوند - بالبحث
والتدريس، فحضر عليه الكثيرون من مشاهير علماء العصر، وأنهى عدة دراسات في الفقه
والأصول، حتى وافاه الأجل المحتوم في فجر الخامس من ذي الحجة عام 1361 ه‍، أهم
وأبرز ما خلفه من تراثه العلمي حاشيتاه على الكفاية والمكاسب.
أنظر مقدمة المحقق العلامة المظفر لحاشية المترجم له على المكاسب، ونقباء البشر 2:
560 - 562.
106

ظنا بصدور شخص هذا الكلام، من غير لزوم الخلف (1). انتهى.
وفيه ما لا يخفى، إذ المنظور في رد الصغرى، إنكار كلية دعوى أقربية قول
الأعلم، وكذا رد التوافق، لا دعوى تقدم قول غير الأعلم في مقام الاحتجاج، فما
ذكره أجنبي عن المقام، بل المناقشة فيه منحصرة بإنكار الأقربية، وهو مسقط
لأصل دعواه في الصغرى، إذ إنكاره مساوق لانكار أقربية فتوى الأعلم.
وأما إنكار الأقربية في المثال الأخير فغير وجيه، لأن أنظار المجتهدين لما
كانت طريقا إلى الواقعيات والحجج، فلا محالة إذا اجتمع جل أهل الفن على خطأ
الأعلم، لا يبقى وثوق بأقربية قوله، لو لم نقل: بالوثوق بالخلاف.
وإن شئت قلت: لا تجري أصالة عدم الغفلة والخطأ في اجتهاده، وتوهم
كون أنظارهم بمنزلة نظر واحد - كتوهم لزوم الخلف - في غاية السقوط.
وعن الكبرى: بأن تعين الرجوع إلى الأقرب، إن كان لأجل إدراك العقل
تعينه جزما - بحيث لا يمكن للشارع التعبد بخلافه، ولو ورد دليل صريح على
خلافه فلا بد من طرحه - فهو فاسد، لأن الشارع إذا رأى مفسدة في تعين الرجوع
إلى الأعلم، أو مصلحة في التوسعة على المكلف، فلا محالة يرخص ذلك من غير
الشبهة الموضوعية، كتجويز العمل بخبر الثقة وترك الاحتياط.
نعم، لو علمنا وجدانا: بأن الشارع لا يرضى بترك الواقعيات، فلا يمكن معه
احتمال تجويز العمل بقول العالم، ولا بقول الأعلم، بل يحكم العقل بوجوب

1 - نهاية الدراية 6: 412 - 413، الاجتهاد والتقليد، ضمن بحوث في الأصول: 53 - 54.
107

الاحتياط ولو مع اختلال النظام، فضلا عن لزوم الحرج.
لكنه خلاف الواقع، وخلاف المفروض في المقام، ولهذا لا أظن بأحد رد
دليل معتبر قام على جواز الرجوع لغير الأعلم، فعليه كيف يمكن دعوى القطع
بلزوم تعين الأقرب، مع احتمال تعبد في المقام ولو ضعيفا؟!
ومما ذكرنا يظهر النظر في كلام بعض أهل النظر، حيث قال ما ملخصه: أن
القرب إلى الواقع إن لم يلحظ أصلا، فهو مناف للطريقية، وإن كان بعض الملاك،
وهناك خصوصية أخرى تعبدية، فهو غير ضائر بالمقصود، لأن فتوى الأعلم
حينئذ مساوية لغيرها في جميع الخصوصيات، وتزيد عليها بالقرب، سواء كانت
تلك الخصوصية التعبدية جزء المقتضي، أو شرط جعله أمارة، فتكون فتوى
الأعلم متعينة، لترجيحه على غيره بالملاك الذي هو ملاك الحجية.
ولهذا فقياسها على البصر والكتابة مع الفارق، لكونهما غير دخيلين في ذلك
الملاك، لأن معنى الأعلمية ليس الأقوائية بحسب المعرفة، بحيث لا تزول
بتشكيك، حتى تقاس عليهما، بل بمعنى أحسنية الاستنباط وأجوديته في تحصيل
الحكم من المدارك، فيكون أكثر إحاطة بالجهات الدخيلة فيه المغفولة عن نظر
غيره، فمرجع التسوية بينهما إلى التسوية بين العالم والجاهل.
وهذا وجه آخر لتعين الأعلم ولو لم نقل: بأقربية رأيه، أو كون الأقربية
ملاك التقديم، لأن العقل يذعن بأن رأيه أوفق بمقتضيات الحجج، وهو المتعين في
108

مقام إبراء الذمة، ويذعن بأن التسوية بينهما كالتسوية بين العالم والجاهل (1). انتهى.
وفيه مواقع للنظر:
منها: أن الخصوصية التعبدية لا يلزم أن تكون جزء المقتضي، ولا شرط
التأثير، بل يمكن أن تكون مانعة عن تعين الأعلم، كالخصوصية المانعة عن الالزام
بالاحتياط الموجبة لجعل الأمارات والأصول، من غير لزوم الموضوعية.
ومنها: أن أحسنية الاستنباط، وكون الأعلم أقوى نظرا في تحصيل الحكم
من المدارك، عبارة أخرى عن أقربية رأيه إلى الواقع، فلا يخلو كلامه من التناقض
والتنافي.
ومنها: أن إذعان العقل بما ذكره، مستلزم لامتناع تجويز العمل على طبق
رأي غير الأعلم، لقبح التسوية بين العالم والجاهل، بل امتناعه، وهو كما ترى، ولا
أظن التزام أحد به.
والتحقيق: أن تجويز العمل بقول غيره ليس لأجل التسوية بينهما، بل
لمفسدة التضييق، أو مصلحة التوسعة، ونحوهما مما لا تنافي الطريقية، كما قلنا
في محله (2).
وليعلم: أن هذا الدليل الأخير، غير أصالة التعيين في دوران الأمر بين
التخيير والتعيين، وغير بناء العقلاء على تعين الأعلم في مورد الاختلاف،
فلا تخلط بينه وبينهما، وتدبر جيدا.

1 - نهاية الدراية 6: 413 - 414.
2 - أنوار الهداية 1: 192 - 193، تهذيب الأصول 2: 62 - 63.
109

فالانصاف: أنه لا دليل على ترجيح قول الأعلم إلا الأصل، بعد ثبوت كون
الاحتياط مرغوبا عنه، وثبوت حجية قول الفقهاء في الجملة، كما أن الأمر كذلك.
وفي الأصل أيضا إشكال، لأن فتوى غير الأعلم إذا طابقت الأعلم من أعلم
الأموات، أو في المثالين المتقدمين (1)، يصير المقام من دوران الأمر بين التخيير
والتعيين، لا تعين الأعلم، والأصل فيه التخيير.
إلا أن يقال: إن تعين غير الأعلم حتى في مورد الأمثلة، مخالف لتسالم
الأصحاب واجماعهم (2) فدار الأمر بين التعيين والتخيير في مورد الأمثلة أيضا،
وهو الوجه في بنائنا على الأخذ بقول الأعلم احتياطا، وأما بناء العقلاء فلم يحرز
في مورد الأمثلة المتقدمة.
هذا فيما إذا علم اختلافهما تفصيلا، بل أو إجمالا أيضا بنحو ما مر.
وأما مع احتماله، فلا يبعد القول: بجواز الأخذ من غيره أيضا، لامكان
استفادة ذلك من الأخبار، بل لا تبعد دعوى السيرة عليه هذا كله في المتفاضلين.

1 - وذلك في الصفحة 105 بقوله (قدس سره): أو الأحياء إذا لم يجز تقليدهم لجهة، بل....
2 - راجع مفاتيح الأصول: 626 سطر 12، مطارح الأنظار: 298 سطر 20.
110

في حال المجتهدين المتساويين مع اختلاف فتواهما
وأما في المتساويين، فالقاعدة وإن اقتضت تساقطهما مع التعارض،
والرجوع إلى الاحتياط لو أمكن، وإلى غيره من القواعد مع عدمه، لكن الظاهر أن
الاحتياط مرغوب عنه، وأن المسلم عندهم حجية قولهما في حال التعارض (1)،
فلا بد من الأخذ بأحدهما، والقول بحجيته التخييرية.
وقد يقال: بدلالة قوله في مثل رواية أحمد بن حاتم بن ماهويه: (فاصمدا
في دينكما على كل مسن في حبنا) (2) - وغيرها من الروايات العامة (3) - على
المطلوب، فإن إطلاقها شامل لحال التعارض.
والفرق بينهما وبين أدلة حجية خبر الثقة - حيث أنكرنا إطلاقها لحال
التعارض (4) - أن الطبيعة في حجية خبر الثقة أخذت بنحو الوجود الساري، فكل
فرد من الأخبار مشمول لأدلة الحجية تعيينا، فلا يعقل جعل الحجية التعيينية في

1 - مناهج الأحكام والأصول المحقق النراقي: 300 السطر الأخير، مستمسك العروة
الوثقى 1: 61.
2 - رجال الكشي 1: 15، وسائل الشيعة 18: 110، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي،
الباب 11، الحديث 45.
3 - كصدر مقبولة ابن حنظلة، ومشهورة أبي خديجة، والتوقيع الشريف، وخبر تفسير
العسكري (عليه السلام)، وقد تقدمت في الصفحة 95 - 99.
4 - درر الفوائد: 648.
111

المتعارضين، ولا جعل الحجية التعيينية في غيرهما والتخييرية فيهما بدليل واحد،
فلا مناص إلا من القول: بعدم الاطلاق لحال التعارض.
وأما الطبيعة في حجية قول الفقهاء، فأخذت على نحو صرف الوجود،
ضرورة عدم معنى لجعل حجية قول كل عالم بنحو الطبيعة السارية والوجوب
التعييني، حتى يكون المكلف في كل واقعة مأمورا بأخذ قول جميع العلماء، فإنه
واضح البطلان، فالمأمور به هو الوجود الصرف، فإذا أخذ بقول واحد منهم فقد
أطاع، فلا مانع حينئذ من إطلاق دليل الحجية لحال التعارض.
فقوله: (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا) مفاده
جعل حجية قول العالم على نحو البدلية أو صرف الوجود، كان مخالفا لقول غيره
أو لا، يعلم تفصيلا مخالفته له أو لا (1).
هذا ما أفاده شيخنا العلامة (2)، على ما في تقريرات بعض فضلاء بحثه.

1 - الاجتهاد والتقليد، آية الله العظمى الآراكي، ضمن كتاب البيع 2: 467 - 468.
2 - هو آية الله العظمى المحقق، الزاهد العابد الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي. ولد في قرية
مهرجرد سنة 1276 ه‍، وكان مبدأ تحصيله في يزد، ثم هاجر إلى العراق فتلمذ في المتون
على العلامتين الميرزا إبراهيم الشيرواني، والشيخ فضل الله النوري، وفي الأبحاث الخارجة
على المحققين السيد الفشاركي والآخوند الخراساني. وكان له مقام سام ودرجة رفيعة عند
الميرزا محمد تقي الشيرازي، لذا أرجع الميرزا مقلديه إليه في موارد الاحتياط من فتاواه،
فحاز بذلك ثقة العامة من الناس. هاجر إلى إيران أثناء الحرب العالمية الأولى، فسكن مدينة
أراك مدة، ثم استقر به المقام في مدينة قم المشرفة، فتقاطر إليه العلماء الفضلاء من كل صوب
وحدب، وغصت المدارس بهم، وقام بأعباء تعليمهم وإعاشتهم، وقرر الامتحان السنوي
والاشراف على التعليم، ويعد إمامنا الراحل الخميني العظيم طاب ثراه من أكابر تلاميذه
والمتخرجين به ومنهم أيضا آية الله العظمى الآراكي وآية الله الثقفي وغيرهم كثيرون. وكانت
له خدمات جليلة للاسلام والمسلمين، ومآثر خالدة، وصفات حميدة. التحق بالرفيق الأعلى
سنة 1355 ه‍. له درر الفوائد، وكتاب الصلاة، وتقرير أبحاث أستاذه السيد الفشاركي.
أنظر أعيان الشيعة 8: 42، ومعارف الرجال 2: 65 - 67.
112

وأنت خبير: بأن هذا بيان لامكان الاطلاق، على فرض وجود دليل مطلق
يمكن الاتكال عليه، ونحن بعد الفحص الأكيد، لم نجد دليلا يسلم دلالة وسندا
عن الخدشة.
مثلا: قوله في الرواية المتقدمة: (فاصمدا في دينكما...) إلى
آخره، بمناسبة صدرها وهو قوله: عمن آخذ معالم ديني
لا يستفاد منه التعبد، بل الظاهر منه هو الارجاع إلى الأمر الارتكازي،
فإن السائل بعد مفروغية جواز الرجوع إلى العلماء، سأل عن الشخص
الذي يجوز التعويل على قوله، ولعله أراد أن يعين الإمام له شخصا معينا
- كما عين الرضا (عليه السلام) زكريا بن آدم (1)، والصادق (عليه السلام) الأسدي (2)، والثقفي (3)،

1 - رجال الكشي 2: 858، وسائل الشيعة 18: 106، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي،
الباب 11، الحديث 27.
2 - رجال الكشي 1: 400، وسائل الشيعة 18: 103، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي،
الباب 11، الحديث 15.
3 - رجال الكشي 1: 383، وسائل الشيعة 18: 105، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي،
الباب 11، الحديث 23.
113

وزرارة (1) - فأرجعه إلى من كان كثير القدم في أمرهم، ومسنا في حبهم.
والظاهر من كثرة القدم في أمرهم كونه ذا سابقة طويلة في أمر الإمامة
والمعرفة، ولم يذكر الفقاهة، لكونها أمرا ارتكازيا معلوما لدى السائل والمسؤول
عنه، وأشار إلى صفات أخر موجبة للوثوق والاطمئنان بهم، فلا يستفاد منها إلا
تقرير الأمر الارتكازي.
ولو سلم كونه بصدد إعمال التعبد والارجاع إلى الفقهاء، فلا إشكال في عدم
إطلاقها لحال التعارض، بل قوله ذلك كقول القائل: المريض لا بد وأن يرجع إلى
الطبيب ويشرب الدواء وقوله: إن الجاهل بالتقويم لا بد وأن يرجع إلى المقوم.
ومعلوم: أن أمثال ذلك لا إطلاق لها لحال التعارض، هذا مع ضعف
سندها (2)، وقد عرفت حال التوقيع (3).
وبالجملة: لا إطلاق في الأدلة بالنسبة إلى حال التعارض.
الاستدلال على التخيير بين المتساويين بأدلة العلاج
وقد يتمسك للتخيير في المتساويين بأدلة علاج المتعارضين (4)، كموثقة

1 - رجال الكشي 1: 347، وسائل الشيعة 18: 104، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي،
الباب 11، الحديث 19.
2 - تقدم في الهامش الأول من الصفحة 102.
3 - وذلك في الصفحة 101.
4 - درر الفوائد: 714 - 715.
114

سماعة (1)، عن أبي عبد الله قال: سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه
في أمر، كلاهما يرويه، أحدهما يأمر بأخذه، والآخر ينهاه عنه، كيف يصنع؟
قال: (يرجئه حتى يلقى من يخبره، فهو في سعة حتى يلقاه) (2).
تقريبه: أن التخالف بينهما لا يتحقق بصرف نقل الرواية مع عدم الجزم
بمضمونها، ومعه مساوق للفتوى، فاختلاف الرجلين إنما هو في الفتوى.
ويشهد له قوله: أحدهما يأمر بأخذه، والآخر ينهاه وهذا لا ينطبق على
صرف الرواية والحكاية، فلا بد من الحمل على الفتوى.
فأجاب (عليه السلام): بأنه في سعة ومخير في الأخذ بأحدهما.
بل يمكن التمسك بسائر أخبار التخيير في الحديثين المختلفين، بإلغاء
الخصوصية، فإن الفقيه أيضا تكون فتواه محصل الأخبار بحسب الجمع والترجيح،
فاختلاف الفتوى يرجع إلى اختلاف الرواية.
هذا وفيه ما لا يخفى:

1 - سماعة: هو الشيخ العالم الفقيه، الثقة الثقة، أبو ناشرة سماعة بن مهران الحضرمي. كان من
أصحاب الأصول المدونة، والمصنفات المشهورة، ومن الأعلام الرؤساء، المأخوذ عنهم
الحلال والحرام، والفتيا والأحكام، وكان يتجر بالقز، وسكن الكوفة، روى عن الصادق
والكاظم (عليهما السلام)، وروى عنه أحمد بن محمد بن أبي نصر، والحسن بن محبوب، ومحمد بن
أبي عمير.
أنظر رجال النجاشي: 193 / 517، وقاموس الرجال 5: 302 / 3420.
2 - الكافي 1: 53 / 7، وسائل الشيعة 18: 77، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9،
الحديث 5.
115

أما التمسك بموثقة سماعة، ففيه أن قوله: (يرجئه حتى يلقى من يخبره)
معناه: يؤخره ولا يعمل بواحد منهما، كما صرح به في روايته الأخرى (1)،
والمظنون أنهما رواية واحدة، ومعنى الارجاء لغة (2) وعرفا هو تأخير الشئ،
فقوله بعد ذلك: (فهو في سعة) ليس معناه أنه في سعة في الأخذ بأيهما شاء، كما
أفاده المستدل، بل المراد أنه في سعة بالنسبة إلى نفس الواقعة.
ومحصله: أن الروايتين أو الفتويين ليستا بحجة، فلا تعمل بواحدة منهما،
ولكنه في سعة في الواقعة، فله العمل على طبق الأصول، فهي على خلاف
المطلوب أدل.
وأما دعوى إلغاء الخصوصية، وفهم التخيير من الأخبار الواردة في
الخبرين المتعارضين.
ففيه: - مع الغض عن فقدان رواية دالة على التخيير جامعة للحجية، كما مر
في باب التعارض (3) - أن إلغاء الخصوصية عرفا ممنوع، ضرورة تحقق الفرق
الواضح بين اختلاف الأخبار واختلاف الآراء الاجتهادية، فما أفاده: من شمول
روايات العلاج لاختلاف الفتاوى، محل منع، مع أن لازمه إعمال مرجحات باب
التعارض فيهما، وهو كما ترى.

1 - حيث قال (عليه السلام): (لا تعمل بواحد منهما حتى تلقى صاحبك فتسأل عنه). راجع الإحتجاج:
357، وسائل الشيعة 18: 88، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 42.
2 - النهاية الأثيرية 2: 206، المصباح المنير: 263.
3 - التعادل والترجيح، العلامة الإمام الخميني (قدس سره): 119 - 126، 211.
116

فتحصل مما ذكرناه: أنه ليس في أخبار الباب ما يستفاد منه ترجيح قول
الأعلم عند التعارض لغيره، ولا التخيير في الأخذ بأحد المتساويين، فلا محيص
إلا العمل بالأصول الأولية، لولا تسالم الأصحاب على عدم وجوب الاحتياط (1)،
ومع هذا التسالم لا محيص عن الأخذ بقول الأعلم، لدوران الأمر بين التعيين
والتخيير، مع كون وجوبه أيضا مورد تسالمهم (2).
كما أن الظاهر، تسالمهم على التخيير في الأخذ بفتوى أحد المتساويين،
وعدم وجوب الاحتياط، أو الأخذ بأحوط القولين (3).

1 - مطارح الأنظار: 300 سطر 18، مستمسك العروة الوثقى 1: 29.
2 - راجع مفاتيح الأصول: 626 سطر 12، مطارح الأنظار: 298 سطر 20.
3 - مناهج الأحكام والأصول: 300 السطر الأخير، مستمسك العروة الوثقى 1: 61.
117

الفصل الثاني
في أنه هل تشترط الحياة
في المفتي أم لا؟
اختلفوا في اشتراط الحياة في المفتي على أقوال (1)، ثالثها: التفصيل بين
البدوي والاستمراري (2).
لا إشكال في أن الأصل الأولي حرمة العمل بما وراء العلم، خرج عنه العمل
بفتوى الحي، وبقي غيره، فلا بد من الخروج عنه من دليل التمسك بالاستصحاب
لاثبات الجواز. ولما كان عمدة ما يمكن أن يعول عليه هو الاستصحاب، فلا بد من
تقريره وتحقيقه.

1 - راجع الوافية في أصول الفقه: 299 - 308، مفاتيح الأصول: 618 - 619.
2 - الفصول الغروية: 422 سطر 28، العروة الوثقى 1: 10 مسألة 9.
119

التمسك بالاستصحاب على الجواز
فنقول: قد قرر الأصل بوجوه:
منها: أن المجتهد الفلاني، كان جائز التقليد لكل مكلف عامي في زمان
حياته، فيستصحب إلى ما بعد موته.
ومنها: أن الأخذ بفتوى المجتهد الفلاني، كان جائزا في زمان حياته
فيستصحب.
ومنها: أن لكل مقلد جواز الرجوع إليه في زمان حياته، وبعدها كما كان.
إلى غير ذلك من الوجوه المتقاربة (1).
وقد يستشكل: بأن جواز التقليد لكل بالغ عاقل، إن كان بنحو القضية
الخارجية، بمعنى أن كل مكلف كان موجودا في زمانه جاز له الرجوع إليه،
فلا يفيد بالنسبة إلى الموجودين بعد حياته في الأعصار المتأخرة، وبعبارة أخرى:
الدليل أخص من المدعى.
وإن كان بنحو القضية الحقيقية، أي كل من وجد في الخارج، وكان مكلفا
في كل زمان، كان له تقليد المجتهد الفلاني فإن أريد إجراء الاستصحاب
التنجيزي فلا يمكن، لعدم إدراك المتأخرين زمان حياته، فلا يقين بالنسبة إليهم.

1 - راجع الفصول الغروية: 422 سطر 30، مفاتيح الأصول: 624 سطر 15، مطارح الأنظار:
259 سطر 15، درر الفوائد: 704، مقالات الأصول 2: 208 سطر 12، رسالة الاجتهاد
والتقليد، المحقق الأصفهاني، ضمن بحوث في الأصول: 21، مستمسك العروة الوثقى 1: 15.
120

وإن كان بنحو التعليق، فإجراء الاستصحاب التعليقي بهذا النحو محل منع.
وفيه: أن جعل الأحكام للعناوين على نحو القضية الحقيقية، ليس معناه أن
لكل فرد من مصاديق العنوان، حكما مجعولا برأسه، ومعنى الانحلال إلى الأحكام
ليس ذلك، بل لا يكون في القضايا الحقيقية إلا جعل واحد لعنوان واحد، لا
جعلات كثيرة بعدد أنفاس المكلفين، لكن ذاك الجعل الواحد يكون حجة - بحكم
العقل والعقلاء - على كل من كان مصداقا للعنوان.
مثلا قوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) (1)،
ليس إلا جعلا واحدا لعنوان واحد هو (من استطاع) ولكنه حجة على كل مكلف
مستطيع، فحينئذ لو علمنا بأن الحج كان واجبا على من استطاع إليه سبيلا،
وشككنا في بقائه، من أجل طرو النسخ مثلا، فلا إشكال في جريان استصحاب
الحكم المتعلق بالعنوان لنفس ذلك العنوان، فيصير - بحكم الاستصحاب - حجة
على كل من كان مصداقه.
ولهذا لا يستشكل أحد في استصحاب عدم النسخ، مع ورود هذا الاشكال
بعينه عليه، بل على جميع الاستصحابات الحكمية.
والسر فيه ما ذكرنا: من أن الحكم على العنوان، حجة على المعنونات،
فاستصحاب وجوب الحج على عنوان المستطيع جار بلا إشكال، كاستصحاب
جواز رجوع كل مقلد إلى المجتهد الفلاني، وسيأتي كلام في هذا الاستصحاب

1 - آل عمران (3): 97.
121

فانتظر (1).
إشكال عدم بقاء موضوع الاستصحاب والجواب عنه
فالعمدة في المقام هو الاشكال المعروف، أي عدم بقاء الموضوع.
وتقريره: أنه لا بد في الاستصحاب من وحدة القضية المتيقنة والمشكوك
فيها، وموضوع القضية هو رأي المجتهد وفتواه وهو أمر قائم بنفس الحي، وبعد
موته لا يتصف - بحسب نظر العرف المعتبر في المقام - بعلم ولا ظن، ولا رأي له
بحسبه ولا فتوى.
ولا أقل من الشك في ذلك، ومعه أيضا لا مجال للاستصحاب، لأن إحراز
الموضوع شرط في جريانه، ولا إشكال في أن مدار الفتوى هو الظن الاجتهادي،
ولهذا يقع المظنون - بما هو كذلك - وسطا في قياس الاستنباط، ولا إشكال في
عدم إحراز الموضوع، بل في عدم بقائه (2).
وفيه: أن مناط عمل العقلاء على رأي كل ذي صنعة في صنعته، هو أماريته
وطريقيته إلى الواقع، وهو المناط في فتوى الفقهاء، سواء أكان دليل اعتباره بناء
العقلاء الممضى، أو الأدلة اللفظية، فإن مفادها أيضا كذلك، ففتوى الفقيه بأن صلاة
الجمعة واجبة، طريق إلى الحكم الشرعي وحجة عليه، وإنما تتقوم طريقيتها
وطريقية كل رأي خبير إلى الواقع، إذا أفتى وأخبر بنحو الجزم.

1 - يأتي في الصفحة 126 - 130.
2 - مطارح الأنظار: 259 - 260.
122

لكن الوجود الحدوثي للفتوى بنحو الجزم، يوجب كونها طريقا إلى الواقع
أبدا، ولا ينسلخ عنها ذلك إلا بتجدد رأيه، أو الترديد فيه، وإلا فهي طريق إلى
الواقع، كان صاحب الرأي حيا أو ميتا.
فإذا شككنا في جواز العمل به، من حيث احتمال دخالة الحياة شرعا في
جوازه، فلا إشكال في جريان الاستصحاب، ووحدة القضية المتيقنة والمشكوك
فيها، فرأي العلامة وقوله وكتاب قواعده كل كاشف عن الأحكام الواقعية،
ووجوده الحدوثي كاف في كونه طريقا، وهو المناط في جواز العمل شرعا
ولدى العقلاء.
وإن شئت قلت: جزم العلامة أو إظهار فتواه جزما، جعل كتابه حجة،
وطريقا إلى الواقع، وجائز العمل في زمان حياته، ويشك في جواز العمل على
طبقه بعد موته، فيستصحب.
والعجب من الشيخ الأعظم (1)، حيث اعترف بأن الفتوى إذا كانت عبارة

1 - الشيخ الأعظم: هو الأستاذ الإمام المؤسس، والفقيه الأصولي المتبحر، شيخ مشايخ
الإمامية، مرتضى ابن الشيخ محمد أمين الأنصاري التستري الدزفولي النجفي. ولد سنة
1214 ه‍. ودرس عند السيد المجاهد، وشريف العلماء، والشيخين موسى وعلي كاشف
الغطاء، والموسى النراقي وجمع بين الحفظ وسرعة الانتقال، واستقامة الذهن، وجودة الرأي،
فلم يعيه حل مشكلة، ولا جواب مسألة، وكان يضرب به المثل في زهده، وتقواه، وورعه،
وعبادته، وقداسته، عالي الهمة أبيا. وقد انتهت إليه رئاسة الإمامية على الاطلاق، وأطبقت
الشيعة على تقليده في شرق الأرض وغربها، وكان له في التدريس والتأليف طريق خاص،
لما تمتع به من طلاقة في القول، وفصاحة في النطق، وحسن تقريب آراء المحققين، وهو
واضع أساس علم الأصول الحديث عند الشيعة، وطريقته الشهيرة المعروفة. أبرز تلامذته
السيد المجدد الشيرازي، والميرزا حبيب الله الرشتي، والآخوند الخراساني. له مصنفات
مشهورة، صارت مدار حركة التدريس في حال حياته إلى يومنا هذا ألا وهي المكاسب
والفرائد، بالإضافة إلى كتاب في الطهارة، وآخر في الصلاة... توفي (رحمه الله) سنة 1281 ه‍.
أنظر معارف الرجال 2: 399 - 404، وأعيان الشيعة 10: 117 - 119.
123

عن نقل الأخبار بالمعنى، يتم القول: بأن القول موضوع للحكم، ويجري
الاستصحاب معه (1).
مع أن حجية الأخبار وطريقيتها إلى الواقع، أيضا متقومتان بجزم الراوي،
فلو أخبر أحد الرواة بيننا وبين المعصوم بنحو الترديد، لا يصير خبره أمارة وحجة
على الواقع، ولا جائز العمل.
لكن مع إخباره جزما، يصير كاشفا عنه، وجائز العمل ما دام كونه كذلك،
سواء أكان مخبره حيا أو ميتا، مع عدم بقاء جزمه بعد الموت، لكن جزمه حين
الأخبار كاف في جواز العمل وحجية قوله دائما، إلا إذا رجع عن إخباره الجزمي.
وهذا جار في الفتوى طابق النعل بالنعل، فقول الفقيه حجة على الواقع
وطريق إليه، كإخبار المخبر، وهو باق على طريقيته بعد الموت، ولو شك في جواز
العمل به - لأجل احتمال اشتراط الحياة شرعا - جاز استصحابه، وتمت أركانه.
وإن شئت قلت: إن جزم الفقيه أو إظهاره الفتوى على سبيل الجزم، واسطة
في حدوث جواز العمل بقوله وكتابه، وبعد موته نشك في بقاء الجواز، لأجل الشك

1 - مطارح الأنظار: 260 سطر 6.
124

في كونه واسطة في العروض أو الثبوت، فيستصحب.
وأما ما أفاد: من كون الوسط في قياس الاستنباط هو المظنون بما هو
كذلك، وأن مظنون الحرمة حرام، أو مظنون الحكم واجب العمل (1).
ففيه: أن إطلاق الحجة على الأمارات، ليس باعتبار وقوعها وسطا في
الاثبات كالحجة المنطقية، بل المراد منها هو كونها منجزة للواقع، بمعنى أنه إذا
قامت الأمارة المعتبرة على وجوب شئ، وكان واجبا بحسب الواقع فتركه
المكلف، تصح عقوبته، ولا عذر له في تركه، وبهذا المعنى تطلق الحجة على
القطع، كاطلاقها على الأمارات، بل تطلق على بعض الشكوك أيضا.
وبالجملة: الحجة في الفقه ليست هي القياس المنطقي، ولا يكون الحكم
الشرعي مترتبا على ما قام عليه الأمارة بما هو كذلك، ولا المظنون بما] هو [
مظنون.
فتحصل مما ذكرنا: أن استصحاب جواز العمل على طبق رأي المجتهد
وفتواه - بمعنى حاصل المصدر - وعلى طبق كتابه، الكاشفين عن الحكم الواقعي
أو الوظيفة الظاهرية، مما لا مانع منه.
لا يقال: بناء على ما ذكرت، يصح استصحاب حجية ظن المجتهد الموجود
في زمان حياته، فلنا أن نقول: إن الحجية والأمارية ثابتتان له في موطنه، ويحتمل
بقاؤهما إلى الأبد، ومع الشك تستصحبان.

1 - مطارح الأنظار: 260 سطر 3.
125

فإنه يقال: هذا غير معقول، للزوم إثبات الحجية وجواز العمل فعلا لأمر
معدوم، وكونه في زمانه موجودا لا يكفي في إثبات الحجية الفعلية له مع
معدوميته فعلا.
وإن شئت قلت: إن جواز العمل كان ثابتا للظن الموجود، فموضوع القضية
المتيقنة هو الظن الموجود، وهو الآن مفقود.
اللهم إلا أن يقال: إن الظن في حال الوجود - بنحو القضية الحينية -
موضوع للقضية، لا بنحو القضية الوضعية والتقييدية، وهو عين الموضوع في
القضية المشكوك فيها، وقد ذكرنا في باب الاستصحاب: أن المعتبر فيه هو وحدة
القضيتين، لا إحراز وجود الموضوع، فراجع (1).
ولكن كون الموضوع كذلك في المقام محل إشكال ومنع، مع أنه لا يدفع
الاشكال المتقدم به.
تقرير إشكال آخر على الاستصحاب
ثم إن هاهنا إشكالا قويا على هذا الاستصحاب (2): وهو أنه إما أن يراد به
استصحاب الحجية العقلائية، فهي أمر غير قابل للاستصحاب.
أو الحجية الشرعية، فهي غير قابلة للجعل.

1 - الاستصحاب، العلامة الإمام الخميني (قدس سره): 203 - 207.
2 - أنظر مستمسك العروة الوثقى 1: 15 - 18، إلا أنه (قدس سره) أجاز إجراءه في الحكم الظاهري
فراجع.
126

أو جواز العمل على طبق قوله، فلا دليل على جعل الجواز الشرعي، بل
الظاهر من مجموع الأدلة، هو تنفيذ الأمر الارتكازي العقلائي، فليس في الباب
دليل جامع لشرائط الحجية، يدل على تأسيس الشرع جواز العمل أو وجوبه على
رأي المجتهد، فها هي الأدلة المستدل بها للمقصود، فراجعها حتى تعرف صدق
ما ذكرناه (1).
أو استصحاب الأحكام الواقعية، فلا شك في بقائها، لأنها لو تحققت أولا،
فلا شك في أنها متحققة في الحال أيضا، لأن الشك في بقائها إما لأجل الشك في
النسخ، أو الشك في فقدان شرط، كصلاة الجمعة في زمان الغيبة، أو حدوث مانع،
والفرض أنه لا شك من هذه الجهات.
أو الأحكام الظاهرية، بدعوى كونها مجعولة عقيب رأي المجتهد، بل عقيب
سائر الأمارات، فهو أيضا ممنوع، لعدم الدليل على ذلك، بل ظاهر الأدلة على
خلافه، لأن الظاهر منها إمضاء ما هو المرتكز لدى العقلاء، والمرتكز لديهم هو
أمارية رأي المجتهد للواقع، كأمارية رأي كل ذي صنعة إلى الواقع في صنعته.
وبالجملة: لا بد في جريان الاستصحاب من حكم أو موضوع ذي حكم،
وليس في المقام شئ قابل له:
أما الحكم الشرعي فمفقود، لعدم تطرق جعل وتأسيس من الشارع.
وأما ما لدى العقلاء من حجية قول أهل الخبرة، فلعدم كونه موضوعا لحكم

1 - راجع ما تقدم في الصفحة 78 - 81.
127

شرعي، بل هو أمر عقلائي، يتنجز به الواقع بعد عدم ردع الشارع عنه.
وأما إمضاء الشارع وارتضاؤه لما هو المرتكز بين العقلاء، فليس حكما
شرعيا حتى يستصحب تأمل (1)، بل لا يستفاد من الأدلة إلا الارشاد إلى ما هو
المرتكز، فليس جعل وتأسيس كما لا يخفى.
إن قلت: بناء عليه ينسد باب الاستصحاب في مطلق مؤديات الأمارات،
فهل فتوى الفقيه إلا إحداها؟! مع أنه حقق في محله جريانه في مؤدياتها (2)، فكما
يجري فيها لا بد وأن يجري في الحكم المستفاد من فتوى الفقيه.
قلت: هذه مغالطة نشأت من خلط الشك في بقاء الحكم، والشك في بقاء
حجية الحجة عليه، فإن الأول مجرى الاستصحاب، دون الثاني، فإذا قامت
الأمارة - أية أمارة كانت - على حكم، ثم شك في بقائه لأحد أسباب طرو الشك،
كالشك في النسخ، يجري الأصل، لما ذكرنا في الاستصحاب: من شمول أدلته
مؤديات الأمارات أيضا (3).
وأما إذا شك في أمارة - بعد قيامها على حكم وحجيتها - في بقاء الحجية
لها في زمان الشك، فلا يجري فيها، لعدم الشك في بقاء حكم شرعي كما عرفت (4)،

1 - وجهه: أن استصحاب رضا الشارع بالعمل مما لا مانع منه، فإنه وإن لم يكن حكما، لكن
مع التعبد به يحكم العقل بجواز العمل، فهو مثل الحكم في ذلك] منه (قدس سره) [.
2 و 3 - راجع الاستصحاب، العلامة الإمام الخميني (قدس سره): 81 - 83.
4 - تقدم في الصفحة 127.
128

فقياس الاستصحاب في نفس الأمارة وحكمها، على الاستصحاب في مؤداها، مع
الفارق، فإن المستصحب في الثاني هو الحكم الواقعي المحرز بالأمارة، دون الأول.
إن قلت: بناء على عدم استتباع قيام الأمارات - فتوى الفقيه كانت أو
غيرها - للحكم، يلزم عدم تمكن المكلف من الجزم في النية، وإتيان كثير من
أجزاء العبادات وشرائطها رجاء، وهو باطل، فلا بد من الالتزام باستتباعها الحكم،
لتحصيل الجزم فيها.
قلت أولا: لا دليل على لزوم الجزم فيها من إجماع أو غيره، ودعوى
الاجماع (1)، ممنوعة في هذه المسألة العقلية.
وثانيا: أن الجزم حاصل، لما ذكرناه (2): من أن احتمال الخلاف في الطرق
العقلائية، مغفول عنه غالبا، ألا ترى أن جميع المعاملات الواقعة من ذوي الأيادي
على الأموال، تقع على سبيل الجزم، مع أن الطريق إلى ملكيتهم هو اليد التي تكون
طريقا عقلائيا؟! وليس ذلك إلا لعدم انقداح احتمال الخلاف في النفوس تفصيلا
بحسب الغالب.
وثالثا: أن المقلدين الآخذين بقول الفقهاء، لا يرون فتاويهم إلا طريقا إلى
الواقع، فالاتيان على مقتضى فتاويهم، ليس إلا بملاحظة طريقيتها إلى الواقع،
وكاشفيتها عن أحكام الله الواقعية، كعملهم على طبق رأي كل خبير فيما يرجع

1 - فرائد الأصول: 306 سطر 11، وفيه نفي الخلاف.
2 - تقدم في الصفحة 82 - 83.
129

إليه، من دون تفاوت في نظرهم، وليس استتباع فتاويهم للحكم الظاهري في
ذهنهم بوجه، حتى يكون الجزم باعتباره.
فالحكم الظاهري على فرض وجوده، ليس محصلا للجزم، ضرورة كون
هذا الاستتباع مغفولا عنه لدى العقلاء، العاملين على قول الفقهاء بما أنهم عالمون
بالأحكام، وفتاويهم طريق إلى الواقع.
فتحصل من جميع ما ذكرنا: أن الاستصحاب غير جار، لفقدان
المستصحب، أي الحكم، أو الموضوع الذي له حكم.
التفصي عن الاشكال
وغاية ما يمكن أن يقال في التفصي عن هذا الاشكال: أن احتياج الفقيه
للفتوى بجواز البقاء على تقليد الميت إلى الاستصحاب، إنما يكون في مورد
اختلاف رأيه مع رأي الميت.
وأما مع توافقهما، فيجوز له الافتاء بالأخذ برأي الميت، لقيام الدليل عنده
عليه، وعدم الموضوعية للفتوى، والأخذ برأي الحي، فلو فرض موافقة رأي فقيه
حي لجميع ما في رسالة فقيه ميت، يجوز له الارجاع إلى رسالته، من غير احتياج
إلى الاستصحاب، بل لقيام الأمارة على صحته، فما يحتاج في الحكم بجواز البقاء
إلى الاستصحاب، هو موارد اختلافهما.
فحينئذ نقول: لو أدرك مكلف في زمان بلوغه مجتهدين حيين، متساويين
130

في العلم، مختلفين في الفتوى، يكون مخيرا في الأخذ بأيهما شاء، وهذا حكم
مسلم بين الفقهاء، وأرسلوه إرسال المسلمات، من غير احتمال إشكال فيه (1)، مع
أنه خلاف القاعدة، فإنها تقتضي تساقطهما.
فالحكم بالتخيير بنحو التسلم في هذا المورد المخالف للقاعدة، لا يكون إلا
بدليل شرعي وصل إليهم، أو للسيرة المستمرة إلى زمن الأئمة (عليهم السلام)، كما هي
ليست ببعيدة، فإذا مات أحد المجتهدين يستصحب هذا الحكم التخييري، وهذا
الاستصحاب جار في الابتدائي والاستمراري.
نعم، جريانه في الابتدائي الذي لم يدركه المكلف حيا، محل إشكال، لعدم
دليل يثبت الحكم للعنوان حتى يستصحب، فما ذكرنا في التفصي عن الاشكال
الأول في الباب: من استصحاب الحكم الثابت للعنوان، إنما هو على فرض ثبوت
الحكم له، وهو فرض محض.
فتحصل مما ذكرنا تفصيل آخر: هو التفصيل بين الابتدائي الذي لم يدرك
المكلف مجتهده حيا حال بلوغه، وبين الابتدائي المدرك كذلك والاستمراري.
هذا مقتضى الاستصحاب، فلو قام الاجماع على عدم جواز الابتدائي
مطلقا، تصير النتيجة التفصيل بين الابتدائي والاستمراري، هذا كله حال
الاستصحاب.

1 - مناهج الأحكام والأصول: 300 السطر الأخير، مستمسك العروة الوثقى 1: 61.
131

حال بناء العقلاء في تقليد الميت
وأما بناء العقلاء، فمحصل الكلام فيه: أنه لا إشكال في عدم التفاوت في
ارتكاز العقلاء وحكم العقل، بين فتوى الحي والميت، ضرورة طريقية كل منهما
إلى الواقع من غير فرق بينهما.
لكن مجرد ارتكازهم وحكمهم العقلي بعدم الفرق بينهما، لا يكفي في جواز
العمل، بل لا بد من إثبات بنائهم على العمل على طبق فتوى الميت كالحي،
وتعارفه لديهم، حتى يكون عدم ردع الشارع كاشفا عن إمضائه، وإلا فلو فرض
عدم جريان العمل على طبق فتوى الميت - وإن لم يتفاوت في ارتكازهم مع
الحي - لا يكون للردع مورد حتى يكشف عدمه عن إمضاء الشارع.
والحاصل: أن جواز الاتكال على الأمارات العقلائية، موقوف على إمضاء
الشارع لفظا، أو كشفه عن عدم الردع، وليس ما يدل لفظا عليه، والكشف عن عدم
الردع موقوف على جري العقلاء عملا على طبق ارتكازهم، ومع عدمه لا معنى
لردع الشارع، ولا يكون سكوته كاشفا عن رضاه.
فحينئذ نقول: لا إشكال في بناء العقلاء على العمل برأي الحي، ويمكن
دعوى بنائهم على العمل بما أخذوا من الحي في زمان حياته ثم مات، ضرورة أن
الجاهل بعد تعلم ما يحتاج إليه من الحي، يرى نفسه عالما، فلا داعي له في الرجوع
إلى الآخر.
132

بل يمكن إثبات ذلك من الروايات، كرواية علي بن المسيب المتقدمة (1).
فإن إرجاعه إلى زكريا بن آدم - من غير ذكر حال حياته، وأن ما يأخذه منه
في حال الحياة، لا يجوز العمل به بعد موته، مع أن في ارتكازه وارتكاز كل عاقل
عدم الفرق بينهما - دلالة على جواز العمل بما تعلم منه مطلقا، فإن كون شقته
بعيدة، بحيث أنه بعد رجوعه إلى شقته، كان يصير منقطعا عن الإمام (عليه السلام) في مثل
تلك الأزمنة، كان يوجب عليه بيان الاشتراط لو كانت الحياة شرطا.
واحتمال أن رجوع علي بن المسيب إليه كان في نقل الرواية، يدفعه ظهور
الرواية، ومثلها مكاتبة أحمد بن حاتم وأخيه (2).
وبالجملة: إرجاع الأئمة (عليهم السلام) في الروايات الكثيرة، شيعتهم إلى العلماء
عموما وخصوصا - مع خلوها عن اشتراط الحياة - كاشف عن ارتضائهم بذلك.
نعم لا يكشف عن الأخذ الابتدائي بفتوى الميت، فإن الدواعي منصرفة عن
الرجوع إلى الميت مع وجود الحي، ولم يكن في تلك الأزمنة تدوين الكتب
الفتوائية متعارفا، حتى يقال: إنهم كانوا يراجعون الكتب، فإن الكتب الموجودة في
تلك الأزمنة كانت منحصرة بكتب الأحاديث، ثم بعد أزمنة متطاولة صار بناؤهم
على تدوين كتب نحو متون الأخبار، ككتب الصدوقين، ومن في طبقتهما، أو

1 - تقدمت في الصفحة 80، راجع رجال الكشي 2: 858، وسائل الشيعة 18: 106، كتاب
القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 27.
2 - تقدمت في الصفحة 100، راجع رجال الكشي 1: 15، وسائل الشيعة 18: 110، كتاب
القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 45.
133

قريب العصر بهما (1).
ثم بعد مرور الأزمنة، جرت عادتهم على تدوين الكتب التفريعية
والاستدلالية، فلم يكن الأخذ من الأموات ابتداء، ممكنا في الصدر الأول، ولا
متعارفا أصلا.
نعم، من أخذ فتوى حي في زمان حياته، فقد كان يعمل بها على الظاهر،
ضرورة عدم الفرق في ارتكازه بين الحي والميت، ولم يرد ردع عن ارتكازهم
وبنائهم العملي، بل إطلاق الأدلة يقتضي الجواز أيضا.
فتحصل مما ذكرناه: أنه لو كان مبنى جواز البقاء على تقليد الميت، هو بناء
العقلاء، فلا بد من التفصيل بين ما إذا أخذ فتوى الميت في زمان حياته وغيره.
والانصاف: أن جواز البقاء على فتوى الميت بعد الأخذ منه في الجملة، هو
الأقوى، وأما الأخذ الابتدائي ففيه إشكال، بل الأقوى عدم جوازه.
وأما التمسك بالأدلة اللفظية كالكتاب والسنة (2)، فقد عرفت في المبحث
السالف، عدم دلالتهما على تأسيس حكم شرعي في هذا الباب، فراجع (3).

1 - كمحمد بن الحسن بن الوليد، وجعفر بن محمد بن قولويه، والشيخ المفيد وغيره.
2 - الفصول الغروية: 422 سطر 31.
3 - راجع الصفحة 127.
134

الفصل الثالث
في تبدل الاجتهاد
تكليف المجتهد عند تبدل رأيه
إذا اضمحل الاجتهاد السابق، وتبدل رأي المجتهد، فلا يخلو إما أن يتبدل
من القطع إلى القطع، أو إلى الظن المعتبر، أو من الظن المعتبر إلى القطع، أو إلى الظن
المعتبر.
حال الفتوى المستندة إلى القطع
فإن تبدل من القطع إلى غيره، فلا مجال للقول بالاجزاء، ضرورة أن الواقع
لا يتغير عما هو عليه بحسب العلم والجهل، فإذا قطع بعدم كون السورة جزء
للصلاة، ثم قطع بجزئيتها، أو قامت الأمارة عليها، أو تبدل قطعه، يتبين له في
الحال الثاني - وجدانا أو تعبدا - عدم كون المأتي به مصداق المأمور به، ومعه
135

لا وجه للاجزاء.
ولا يتعلق بالقطع جعل حتى يتكلم في دلالة دليله على إجزائه عن الواقع،
أو بدليته عنه، وإنما هو عذر في صورة ترك المأمور به، فإذا ارتفع العذر يجب عليه
الاتيان بالمأمور به في الوقت، وخارجه إن كان له قضاء.
حال الفتوى المستندة إلى الأمارات
وإن تبدل من الظن المعتبر، فإن كان مستنده الأمارات كخبر الثقة وغيره،
فكذلك إذا كانت الأمارة عقلائية أمضاها الشارع، ضرورة أن العقلاء إنما يعملون
على ما عندهم - كخبر الثقة والظواهر - بما أنها كاشفة عن الواقع، وطريق إليه، ومن
حيث عدم اعتنائهم باحتمال الخلاف، وإمضاء الشارع هذه الطريقة لا يدل على
رفع اليد عن الواقعيات، وتبديل المصاديق الأولية بالمصاديق الثانوية، أو جعل
المصاديق الناقصة منزلة التامة.
وربما يقال: إن الشارع إذا أمر بطبيعة كالصلاة، ثم أمر بالعمل بقول الثقة، أو
أجاز المأمور بالعمل به، يكون لازمه الأمر أو الإجازة بإتيان المأمور به على طبق
ما أدى إليه قول الثقة، ولازم ذلك هو الاجزاء (1). ففي مثل قوله تعالى: (أقم
الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل) (2)، يكون أمر بصلاتين إلى غسق الليل

1 - نهاية الأصول: 143 - 144.
2 - الاسراء (17): 78.
136

لا غير، فإذا أمر بالعمل على قول الثقة، فقد أمر بإتيان المأمور به بالكيفية التي أدت
إليها الأمارة، فلا محالة يكون المأتي به مصداقا للمأمور به عنده، وإلا لما أمر
بإتيانه كذلك، فلا محيص عن الاجزاء، لتحقق مصداق المأمور به، وسقوط الأمر.
ولكنك خبير: بأن إمضاء طريقة العقلاء، ليس إلا لأجل تحصيل
الواقعيات، لمطابقة الأمارات العقلائية نوعا للواقع، وضعف احتمال تخلفها عنه،
وفي مثل ذلك لا وجه لسقوط الأمر إذا تخلف عن الواقع، كما أن الأمر كذلك عند
العقلاء، والفرض أن الشارع لم يأمر تأسيسا.
بل وكذا الحال لو أمر الشارع بأمارة تأسيسا، وكان لسان الدليل هو التحفظ
على الواقع، فإن العرف لا يفهم منه إلا تحصيل الواقع، لا تبديله بمؤدى الأمارة.
وأنت إذا راجعت الأدلة المستدل بها على حجية خبر الثقة، لرأيت أن
مفادها ليس إلا إيجاب العمل به، لأجل الوصول إلى الواقعيات، كالآيات على
فرض دلالتها، وكالروايات، فإنها تنادي بأعلى صوتها بأن إيجاب العمل على
قول الثقة، إنما هو لكونه ثقة وغير كاذب، وأنه موصل إلى الواقع، وفي مثله لا يفهم
العرف، أن الشارع يتصرف في الواقعيات على نحو أداء الأمارة.
هذا مع أن احتمال التأسيس في باب الأمارات العقلائية، مجرد فرض، وإلا
فالناظر فيها يقطع بأن الشارع لم يكن في مقام تأسيس وتحكيم، بل في مقام
إرشاد وإمضاء ما لدى العقلاء، والضرورة قاضية بأن العقلاء لا يعملون على طبقها
137

إلا لتحصيل الواقع، وحديث تبديل الواقع بما يكون مؤدى الأمارة (1)، مما لا أصل
له في طريقتهم، فالقول بالاجزاء فيها ضعيف غايته.
وأضعف منه التفصيل بين تبدل الاجتهاد الأول بالقطع فلا يجزي، وبين
تبدله باجتهاد آخر فيجزي، بدعوى عدم الفرق بين الاجتهادين الظنيين، وعدم
ترجيح الثاني حتى يبطل الأول (2).
وذلك لأن تبدل الاجتهاد لا يمكن إلا مع اضمحلال الاجتهاد الأول، بالعثور
على دليل أقوى، أو بالتخطئة للاجتهاد الأول، ومعه لا وجه لاعتباره، فضلا عن
مصادمته للثاني، هذا حال الفتوى المستندة إلى الأمارات.
حال الفتوى المستندة إلى الأصول
وأما إذا استندت إلى الأصول، كأصالتي الطهارة والحلية في الشبهات
الحكمية، وكالاستصحاب فيها، وكحديث الرفع (3)، فالظاهر هو الاجزاء مع
اضمحلال الاجتهاد:
أما في أصالتي الطهارة والحل، فلأن الظاهر من دليلهما، هو جعل الوظيفة
الظاهرية لدى الشك في الواقع، فإن معنى قوله: (كل شئ نظيف حتى تعلم أنه

1 - راجع فرائد الأصول: 27 سطر 10.
2 - حاشية السيد على المكاسب: 93 سطر 2.
3 - التوحيد 353 / 24، الخصال: 417 / 9، وسائل الشيعة 11: 295، كتاب الجهاد، أبواب
جهاد النفس وما يناسبه، الباب 56، الحديث 1.
138

قذر) (1)، و (كل شئ... حلال حتى تعرف أنه حرام بعينه...) (2)، ليس أنه طاهر
وحلال واقعا، حتى تكون النجاسة والحرمة متقيدتين بحال العلم بهما، ضرورة أنه
التصويب الباطل، ولا معنى لجعل المحرزية والكاشفية للشك مع كونه خلاف
أدلتهما، ولا لجعلهما لأجل التحفظ على الواقع.
بل الظاهر من أدلتهما، هو جعل الطهارة والحلية الظاهريتين، ولا معنى لهما
إلا تجويز ترتيب آثار الطهارة والحلية على المشكوك فيه، ومعنى تجويز ترتيب
الآثار، تجويز إتيان ما اشترطت فيه الطهارة والحلية مع المشكوك فيه، فيصير
المأتي به معهما مصداق المأمور به تعبدا، فيسقط أمره.
فإذا دل الدليل على لزوم إتيان الصلاة مع طهارة الثوب، ثم شك في طهارة
ثوبه، دل قوله: (كل شئ طاهر) - الذي يرجع إلى جواز ترتيب الطهارة على
الثوب المشكوك فيه - على جواز إتيان الصلاة معه، وتحقق مصداق الصلاة به،
فإذا تبدل شكه بالعلم، لا يكون من قبيل كشف الخلاف، كما ذكرنا في الأمارات،
لأنها كواشف عن الواقع، فلها واقع تطابقه أو لا تطابقه، بخلاف مؤدى الأصلين،
فإن مفاد أدلتهما ترتيب آثار الطهارة أو الحلية بلسان جعلهما، فتبديل الشك
بالعلم من قبيل تبديل الموضوع، لا التخلف عن الواقع، فأدلتهما حاكمة على أدلة

1 - تهذيب الأحكام 1: 284 / 832، وسائل الشيعة 2: 1054، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات، الباب 37، الحديث 4.
2 - الكافي 5: 313 / 40، تهذيب الأحكام 7: 226 / 989، وسائل الشيعة 12: 60، كتاب
التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 4، الحديث 4 وفيه: تعلم بدل تعرف.
139

جعل الشروط والموانع في المركبات المأمور بها.
وبالجملة: إذا أمر المولى بإتيان الصلاة مع الطهارة، وأجاز الاتيان بها في
ظرف الشك مع الثوب المشكوك فيه بلسان جعل الطهارة، وأجاز ترتيب آثار
الطهارة الواقعية عليه، ينتج جواز إتيان الصلاة المأمور بها مع الطهارة الظاهرية،
ومعاملة المكلف معها معاملة الطهارة الواقعية، فيفهم العرف من ذلك حصول
مصداق المأمور به معها، فيسقط الأمر، وبعد العلم بالنجاسة لا يكون من قبيل كشف
الخلاف، كما في الأمارات الكاشفة عن الواقع.
ولا يبعد أن يكون الأمر كذلك في الاستصحاب، فإن الكبرى المجعولة فيه
وهي قوله: (لا ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا) (1) ليس مفادها جعل اليقين
أمارة بالنسبة إلى زمان الشك، ضرورة عدم كاشفيته بالنسبة إليه عقلا، لامتناع
كونه طريقا إلى غير متعلقه، ولا معنى لجعله طريقا إلى غيره، فلا يكون
الاستصحاب من الأمارات.
بل ولا يكون جعله للتحفظ على الواقع، كإيجاب الاحتياط في الشبهة
البدوية في الأعراض والدماء، فإنه أيضا خلاف مفادها، وإن احتملناه بل
رجحناه سابقا (2).

1 - تهذيب الأحكام 1: 8 / 11، وسائل الشيعة 1: 174، كتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء،
الباب 1، الحديث 1.
2 - أنوار الهداية 2: 181.
140

بل الظاهر منها: أنه لا ينبغي للشاك الذي كان على يقين، رفع اليد عن
آثاره، فيجب عليه ترتيب آثاره، فيرجع إلى وجوب معاملة بقاء اليقين الطريقي
معه في زمان الشك، وهو مساوق عرفا لتجويز إتيان المأمور به - المشروط
بالطهارة الواقعية مثلا - مع الطهارة المستصحبة، ولا زم ذلك صيرورة المأتي به
معها مصداقا للمأمور به، فيسقط الأمر المتعلق به.
وبالجملة: يكون حاله في هذا الأثر كحال أصالتي الطهارة والحل، من
حيث كونهما أصلين عمليين، ووظيفة في زمان الشك، لا أمارة على الواقع، ولا
أصلا للتحفظ عليه، حتى يأتي فيه كشف الخلاف.
ويدل على ذلك صحيحة زرارة الثانية، حيث حكم فيها بغسل الثوب، وعدم
إعادة الصلاة معللا: ب‍ (أنه كان على يقين من طهارته فشك، وليس ينبغي له أن
ينقض اليقين بالشك) (1).
وكذا الحال فيما إذا كان المستند حديث الرفع، فإن قوله: (رفع... ما
لا يعلمون) - بناء على شموله للشبهات الحكمية والموضوعية (2) - لسانه رفع الحكم
والموضوع باعتبار الحكم.
لكن لا بد من رفع اليد عن هذا الظاهر حتى بالنسبة إلى الشبهات

1 - علل الشرائع: 361 / 1، تهذيب الأحكام 1: 421 / 1335، الإستبصار 1: 183 / 641،
وسائل الشيعة 2: 1053، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 37، الحديث 1.
2 - راجع أنوار الهداية 2: 33 - 39.
141

الموضوعية، لأن لازمه طهارة ما شك في نجاسته موضوعا واقعا، ولا يمكن
الالتزام بطهارة ملاقيه في زمان الشك بعد كشف الخلاف، فلا بد من الحمل على
البناء العملي على الرفع، وترتيب آثار الرفع الواقعي.
فإذا شك في جزئية شئ في الصلاة، أو شرطيته لها، أو مانعيته، فحديث
الرفع يدل على رفع الجزئية والشرطية والمانعية، فحيث لا يمكن الالتزام بالرفع
الحقيقي، لا مانع من الالتزام بالرفع الظاهري، نظير الوضع الظاهري في أصالتي
الطهارة والحلية، فيرجع إلى معاملة الرفع في الظاهر، وجواز إتيان المأمور به
كذلك، وصيرورة المأتي به مصداقا للمأمور به، بواسطة حكومة دليل الرفع على
أدلة الأحكام.
فتحصل من جميع ما ذكرنا: أن التحقيق هو التفصيل بين الأمارات
والأصول، كما عليه المحقق الخراساني (رحمه الله) (1).

1 - كفاية الأصول: 110 - 111.
والمحقق الخراساني: هو العلامة المحقق الشهير، والأصولي المدقق النحرير، آية الله العظمى
الآخوند، محمد كاظم بن حسين الهروي الخراساني النجفي. ولد بطوس، وفيها قرأ مقدماته
العلمية حتى بلغ الثالثة والعشرين، ثم أقام في طهران ستة أشهر، درس في أثنائها بعض
العلوم الفلسفية، ثم قصد العراق، فحضر عند الشيخ الأعظم فقها وأصولا أكثر من سنتين، وبعد
وفاته لازم المجدد الشيرازي، كما أخذ في الفقه أيضا عن الشيخ راضي ابن الشيخ محمد،
وحينما خرج المجدد وأكثر تلامذته إلى سامراء لم يخرج الآخوند معهم، وبقي في النجف،
واستقل بالتدريس في الفقه والأصول، الذي كان له (قدس سره) مسلك خاص بتدريسه، وتخرج عليه
عدد كبير لا يحصى من العلماء والمحققين والمجتهدين، ولما احتل الروس بلاد إيران، تهيأ
مع جماعة من العلماء للخروج وإعلان الجهاد، فاغتالته يد المنية في فجر نفس اليوم الذي
عزم فيه على السفر، عام 1329 ه‍. له مؤلفات عديدة، منها الكفاية، والشذرات، وشرح
التبصرة، وحاشية على المكاسب وتعاليق على شرح المنظومة والأسفار والحاشية على
المكاسب.
أنظر أعيان الشيعة 9: 5 - 6، ومعارف الرجال 2: 323 - 325.
142

هذا كله بحسب مقام الاثبات وظهور الأدلة، وأما بحسب مقام الثبوت،
فلا بد من توجيهه بوجه لا يرجع إلى التصويب الباطل (1).
في الإشارة إلى الخلط الواقع من بعض الأعاظم في المقام
ثم إنه ظهر مما ذكرنا: أن القائل بالاجزاء، لا يلتزم بالتصرف في أحكام
المحرمات والنجاسات، ولا يقول: بحكومة أدلة الأصول على أدلة الأحكام
الواقعية التي هي في طولها، وليس محط البحث في باب الاجزاء بأدلة أصول
الطهارة والحلية والاستصحاب، هو التضييق أو التوسعة في أدلة النجاسات
والمحرمات، حتى يقال: إن الأمارات والأصول وقعت في رتبة إحراز الأحكام
الواقعية، والحكومة فيها غير الحكومة بين الأدلة الواقعية بعضها مع بعض، وإن
لازم ذلك هو الحكم بطهارة ملاقي النجس الواقعي إذا لاقى في زمان الشك...
وغير ذلك مما وقع من بعض الأعاظم على ما في تقريرات بحثه (2).

1 - راجع المستصفى 2: 307 - 309 و 380 - 392، فرائد الأصول: 25 - 26.
2 - فوائد الأصول 1: 249 - 251.
والمراد ببعض الأعاظم: هو شيخ الاسلام المحقق والعلامة الأصولي الفقيه، الميرزا محمد
حسين بن عبد الرحيم النائيني الأصفهاني النجفي. ولد بنائين في حدود سنة 1273 ه‍. وفيها
تلقى مبادئ العلوم، ثم هاجر إلى أصفهان، فحضر عند الشيخ محمد باقر الأصفهاني، والميرزا
أبي المعالي وغيرهما. ثم قصد العراق، فحضر عند المجدد الشيرازي، والسيد الفشاركي،
والميرزا النوري، وبعدها حضر المجلس الخاص الذي كان يعقده الآخوند الخراساني في
داره لأجل المذاكرة في مشكلات المسائل، وكان (رحمه الله) من أكبر الدعاة إلى السلطنة المشروطة
في إيران. أبعد هو والسيد أبو الحسن الأصفهاني من العراق إلى إيران، فبقيا بقم المشرفة عاما
كاملا، ثم عادا إلى العراق. توفي (رحمه الله) سنة 1355 ه‍. أشهر آثاره التي هي بخط تلامذته: فوائد
الأصول، وأجود التقريرات، ومنية الطالب، وكتاب الصلاة.
أنظر أعيان الشيعة 6: 54 - 55، ومعارف الرجال 1: 284 - 288.
143

بل محط البحث: هو أن أدلة الأصول الثلاثة، هل تدل - بحكومتها على
أدلة الأحكام - على تحقق مصداق المأمور به تعبدا، حتى يقال بالاجزاء، أم لا؟
هذا مع بقاء النجاسات والمحرمات على ما هي عليها، من غير تصرف في أدلتها.
فالشك في الطهارة والحلية بحسب الشبهة الحكمية، إنما هو في طول جعل
النجاسات والمحرمات، لا في طول جعل الصلاة مشروطة بطهارة ثوب المصلي،
وبكونه من المأكول، والخلط بين المقامين أوقعه فيما أوقعه، وفي كلامه محال
أنظار تركناها مخافة التطويل.
تكليف المقلد مع تبدل رأي مجتهده
ثم إن هذا كله حال المجتهد بالنسبة إلى تكاليف نفسه، وأما تكليف مقلديه،
144

فهل هو كالمجتهد في التفصيل بين كون رأي المقلد مستندا إلى الأمارات، وبين
كونه مستندا إلى الأصول، بأن يقال: إن المجتهد يعين وظائف العباد مطلقا واقعا
وظاهرا، فكما أن في وظائفه الظاهرية نحكم بالاجزاء، بواسطة أدلة الأصول
وحكومتها على الأدلة، فكذا في تكاليف مقلديه، طابق النعل بالنعل؟
أو لا؟ بأن يقال: إن المقلد مستنده في الأحكام مطلقا، هو رأي المجتهد،
وهو أمارة على تكاليفه بحسب ارتكازه العقلائي، والشرع أيضا أمضى هذا
الارتكاز والبناء العملي العقلائي.
وليس مستند المقلدين في العمل هو أصالة الطهارة أو الحلية، ولا
الاستصحاب أو حديث الرفع في الشبهات الحكمية التي هي مورد بحثنا هاهنا،
لأن العامي لا يكون موردا لجريان الأصول الحكمية، فإن موضوعها الشك بعد
الفحص واليأس من الأدلة الاجتهادية، والعامي لا يكون كذلك، فلا تجري في
حقه الأصول حتى تحرز مصداق المأمور به.
ومجرد كون مستند المجتهد هو الأصول، ومقتضاها الاجزاء، لا يوجب
الاجزاء بالنسبة إلى من لم يكن مستنده إياها، فإن المقلد ليس مستنده في العمل
هي الأصول الحكمية، بل مستنده الأمارة - وهي رأي المجتهد - على حكم الله
تعالى، فإذا تبدل رأيه فلا دليل على الاجزاء:
أما دليل وجوب اتباع المجتهد، فلأنه ليس إلا بناء العقلاء الممضى، كما
يظهر للناظر في الأدلة، وإنما يعمل العقلاء على رأيه لالغاء احتمال الخلاف،
145

وإمضاء الشارع لذلك لا يوجب الاجزاء كما تقدم (1).
وأما أدلة الأصول، فهي ليست مستندة، ولا هو مورد جريانها، لعدم كونه
شاكا بعد الفحص واليأس من الأدلة، فلا وجه للاجزاء، وهذا هو الأقوى.
فإن قلت: إذا لم يكن المقلد موضوعا للأصل، ولا يجري في حقه، فلم
يجوز للمجتهد أن يفتي مستندا إلى الأصل بالنسبة إلى مقلديه، مع أن أدلة الأصول
لا تجري إلا للشاك بعد الفحص واليأس، وهو المجتهد فقط، لا المقلد؟!
ولو قيل: إن المجتهد نائب عن مقلديه (2)، فمع أنه لا محصل له، لازمه
الاجزاء.
قلت: قد ذكرنا سابقا، أن المجتهد إذا كان عالما بثبوت الحكم الكلي
المشترك بين العباد، ثم شك في نسخه مثلا، يصير شاكا في ثبوت هذا الحكم
المشترك بينهم، فيجوز له الافتاء به، كما له العمل به (3)، فكما أن الأمارة إذا قامت
على حكم مشترك كلي، يجوز له الافتاء بمقتضاها، كذلك إذا كان ذلك مقتضى
الاستصحاب، فله العمل به، والفتوى بمقتضاه، فإذا أفتى يجب على المقلدين
العمل على طبق فتواه، لبناء العقلاء على رجوع الجاهل إلى العالم.
فتحصل من ذلك: أن المجتهد له الافتاء بمقتضى الأصول الحكمية،

1 - تقدم في الصفحة 137.
2 - فرائد الأصول: 320 سطر 13.
3 - تقدم في الصفحة 128.
146

ومقتضى القاعدة هو الاجزاء بالنسبة إليه، دون مقلديه، لاستناده إلى الأصول
المقتضية للاجزاء، واستنادهم إلى رأيه الغير المقتضي لذلك.
وقد تمت مهمات مباحث الاجتهاد والتقليد، وبقيت بعض الأمور غير
المهمة، تركناها لذلك، وقد وقع الفراغ من تسويده يوم الجمعة، عيد الفطر، سنة
1370 في محلات والحمد لله أولا وآخرا، وظاهرا وباطنا.
147

الضميمة
149

الفصل الرابع
هل التخيير بدوي أو استمراري؟
بعد البناء على تخيير العامي في الرجوع إلى مجتهدين متساويين، هل
يجوز له العدول بعد تقليد أحدهما؟
اختار شيخنا العلامة التفصيل بين العدول في شخص واقعة بعد الأخذ
والعمل فيه، كما لو صلى بلا سورة بفتوى أحدهما، فأراد تكرار الصلاة مع السورة
بفتوى الآخر، وبين العدول في الوقائع المستقبلة التي لم تعمل، أو العدول قبل
العمل بعد الالتزام والأخذ.
فذهب إلى عدم الجواز مطلقا في الأول، وعدم الجواز في الأخيرين إن
قلنا: بأن التقليد هو الالتزام والأخذ، والجواز إن قلنا: بأنه نفس العمل مستندا
151

إلى الفتوى.
ووجهه في الأول: بأنه لا مجال له للعدول بعد العمل بالواجب المخير،
لعدم إمكان تكرار صرف الوجود، وامتناع تحصيل الحاصل، وليس كل زمان قيدا
للأخذ بالفتوى، حتى يقال: إنه ليس باعتبار الزمان المتأخر تحصيلا للحاصل، بل
الأخذ بالمضمون أمر واحد ممتد، يكون الزمان ظرفا له بحسب الأدلة.
نعم، يمكن إفادة التخيير في الأزمنة المتأخرة بدليل آخر، يفيد التخيير في
الاستدامة على العمل الموجود، ورفع اليد عنه والأخذ بالآخر، وإذ هو ليس فليس.
وإفادته بأدلة التخيير في إحداث الأخذ بهذا أو ذاك ممتنع، للزوم الجمع بين
لحاظين متنافيين، نظير الجمع بين الاستصحاب والقاعدة بدليل واحد.
ولا يجري الاستصحاب، لأن التخيير بين الاحداثين، غير ممكن الجر إلى
الزمان الثاني، وبالنحو الثاني لا حالة سابقة له، والاستصحاب التعليقي لفتوى
الآخر غير جار، لأن الحجية المبهمة السابقة، صارت معينة في المأخوذ، وزالت
قطعا، كالملكية المشاعة إذا صارت مفروزة.
ووجه الأخيرين هذا البيان بعينه إن قلنا: إن المأمور به في مثل قوله:
(فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا) (1) وغيره (2)، هو العمل الجوانحي، أي الالتزام

1 - إكمال الدين: 484 / 4، الغيبة، الشيخ الطوسي: 176، الإحتجاج: 469، وسائل الشيعة 18:
101، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 9.
2 - كقوله (عليه السلام): (بأيهما أخذت من باب التسليم كان صوابا) راجع الغيبة، الشيخ الطوسي: 232،
الإحتجاج: 483، وسائل الشيعة: 18: 87، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9،
الحديث 39.
152

والبناء القلبي.
وإن قلنا: بأنه العمل، فلا إشكال في بقاء الأمر التخييري في كلا القسمين
بلا محذور، ومع فقد الاطلاق لا مانع من الاستصحاب (1)، انتهى ملخصا من
تقرير بحثه.
أقول: ما يمكن البحث عنه في الصورة الأولى، هو جواز تكرار العمل بعد
الاتيان به مطابقا لفتوى الأول، وأما البحث عن بقاء التخيير، وكذا جواز العدول
بعنوانهما، فأمر غير صحيح، ضرورة أن التخيير بين الاتيان بما أتى به، والعمل
بقول الآخر، مما لا معنى له، وطرح العمل الأول وإعدامه غير معقول بعد الوجود،
حتى يتحقق ثانيا موضوع التخيير، وكذا لا يعقل العدول بحقيقته بعد العمل، فلا بد
وأن يكون البحث ممحضا في جواز العمل بقول الثاني بعد العمل بقول الأول.
قد يقال: بعدم الجواز، لأن الاتيان بأحد شقي الواجب التخييري، موجب
لسقوط التكليف جزما، فالاتيان بعده - بداعوية الأمر الأول، أو باحتمال
داعويته، أو بداعوية المحتمل - غير معقول.
ومع العلم بالسقوط لا معنى لاجراء الاستصحاب: لا استصحاب الواجب
التخييري، وهو واضح، ولا جواز العمل على طبق الثاني، لفرض عدم احتمال أمر
آخر غير التخييري الساقط، وكأن الظاهر من تقريرات بحث شيخنا ذلك.

1 - الاجتهاد والتقليد، آية الله المحقق الآراكي، ضمن كتاب البيع 2: 471 - 475.
153

وفيه: أن ذلك ناشئ من الخلط بين التخيير في المسألة الفرعية، والمسألة
الأصولية، فإن ما ذكر وجيه في الأول، دون الثاني، لأن الأمر التخييري في الثاني
لا نفسية له، بل لتحصيل الواقع - بحسب الامكان - بعد عدم الالزام بالاحتياط،
فمع الاتيان بأحد شقي التخيير فيه، يبقى للعمل بالآخر مجال واسع وإن لم يكن
المكلف ملزما به، تخفيفا عليه.
نعم لو قلنا: بحرمة الاحتياط، أو بالاجزاء في باب الطرق ولو مع عدم
المطابقة، لكان الوجه ما ذكر، لكنهما خلاف التحقيق.
وبهذا يظهر: أن استصحاب جواز الاتيان بما لم يأت به، لا مانع منه
لو شك فيه.
نعم، لا يجري الاستصحاب التعليقي، لأن التعليق ليس بشرعي.
وأما الصورتان الأخيرتان، بناء على كون التقليد الالتزام والعقد القلبي،
فقياسهما على الصورة الأولى مع الفارق، لامكان إبطال الموضوع وإعدامه
بالرجوع عن الالتزام وعقد القلب، فصار حينئذ موضوعا للأمر بإحداث الأخذ
بأحدهما، من غير ورود الاشكال المتقدم - أي لزوم الجمع بين اللحاظين (1) -
عليه، وليس الكلام هاهنا في إطلاق الدليل وإهماله، بل في إمكانه بعد الفراغ عن
فرض الاطلاق.
ومما ذكرنا يظهر: أن ما أفاده (رحمه الله)، من أن الالتزام وعقد القلب أمر وجداني

1 - تقدم في الصفحة 152.
154

ممتد، إذا حصل في زمان لا يعقل حدوثه ثانيا، غير وجيه، لأن الالتزام بعد انعدام
الالتزام الأول، إحداث لا إبقاء، لامتناع إعادة المعدوم.
هذا مع قطع النظر عن حال الأدلة إثباتا، وإلا فقد مر: أنه لا دليل لفظي في
باب التقليد يمكن الاتكال عليه - فضلا عن الاطلاق - بالنسبة إلى حال التعارض
بين فتويين (1).
وإنما قلنا: بالتخيير، للشهرة والاجماع المنقولين (2). وهما معتبران في مثل
تلك المسألة المخالفة للقواعد، والمتيقن منهما هو التخيير الابتدائي، أي التخيير
قبل الالتزام.
والتحقيق: عدم جريان استصحاب التخيير ولا الجواز، لاختلاف التخيير
الابتدائي والاستمراري موضوعا وجعلا، فلا يجري استصحاب شخص الحكم،
وكذا استصحاب الكلي، لفقدان الأركان في الأول، ولكون الجامع أمرا انتزاعيا، لا
حكما شرعيا، ولا موضوعا ذا أثر شرعي، وترتيب أثر المصداق على استصحاب
الجامع مثبت، ولا فرق في ذلك بين استصحاب جامع التخييرين، أو جامع
الجوازين الآتيين من قبلهما.

1 - تقدم في الصفحة 113.
2 - راجع مناهج الأحكام والأصول، المحقق النراقي: 300 السطر الأخير، مطارح الأنظار:
273 سطر 20، مستمسك العروة الوثقى 1: 61.
155

الفصل الخامس
في اختلاف الحي والميت
في مسألة البقاء
إذا قلد مجتهدا كان يقول: بوجوب الرجوع إلى الحي فمات، فإن غفل
المقلد عن الواقعة ولوازمها، ورجع عنه بتوهم جواز تقليده في الرجوع، فلا كلام
إلا في صحة أعماله وعدمها.
وإن ذكر عدم جواز تقليده في ذلك، فإنه أيضا تقليد للميت، أو تحير ورجع
إلى الحي في هذه المسألة، وهو كان قائلا: بوجوب البقاء، فمع تقليده الحي فيها،
يجب عليه البقاء في سائر المسائل.
وأما في هذه المسألة الأصولية، فلا يجوز له البقاء، لأنه قلد فيها الحي، ولا
تحير له فيها حتى قلد الميت، ولا يجوز للمفتي الحي الافتاء بالبقاء فيها، لكون
157

الميت على خطأ عنده، فلا يشك حتى يجري الاستصحاب.
وكذا لا يجوز له إجراء الاستصحاب للمقلد، لكونه غير شاك فيها، لقيام
الأمارة لديه، وهي فتوى الحي.
بل لا يجري بالنسبة إليه ولو مع قطع النظر عن فتوى الحي، لأن المجتهد في
الشبهات الحكمية، يكون مشخصا لمجاري الأصول، وأما الأحكام - أصولية، أو
فرعية - فلا اختصاص لها بالمجتهد، بل هي مشتركة بين العالم والجاهل، فحينئذ لو
رأى خطأ الميت، وقيام الدليل على خلافه، فلا محالة يرى عدم جريان
الاستصحاب، لاختلال أركانه، وهو أمر مشترك بينه وبين جميع المكلفين.
هل يرجع بفتوى الثالث إلى الأول أو الثاني؟
وبما ذكرناه تظهر مسألة أخرى: وهي أنه لو قلد مجتهدا في الفروع
فمات، فقلد مجتهدا يرى وجوب الرجوع، فرجع إليه فمات، فقلد مجتهدا يرى
وجوب البقاء، يجب عليه الرجوع إلى فتوى المجتهد الأول، لقيام الأمارة الفعلية
على بطلان فتوى الثاني بالرجوع، فيرى أن رجوعه عن الميت الأول كان باطلا،
فالميزان على الحجة الفعلية، وهي فتوى الحي.
والقول: بجواز البقاء على رأي الثاني برأي الثالث (1)، غير صحيح، لأن
الثالث يرى بطلان رأي الثاني في المسألة الأصولية، وعدم صحة رجوع المقلد

1 - الاجتهاد والتقليد، الشيخ الأعظم الأنصاري، ضمن مجموعة رسائل: 66، العروة الوثقى 1:
22 مسألة 61.
158

عن تقليد الأول، فقامت عند المقلد فعلا أمارة على بطلانه، فلا معنى لبقائه فيها.
كلام العلامة الحائري (قدس سره)
هذا، وأما شيخنا العلامة أعلى الله مقامه، - فبعدما نقل كلام شيخنا
الأعظم (قدس سره) (1): من كون المقام - إشكالا وجوابا - نظير ما قيل (2) في شمول أدلة
حجية خبر الثقة، لخبر السيد (3) بعدم حجيته (4)، وأجاب عنه بمثل ما أجاب في

1 - مطارح الأنظار: 272 سطر 23.
2 - فرائد الأصول: 74 سطر 14، حاشية الآخوند على الرسائل: 63 سطر 5، فوائد الأصول 3:
177.
3 - المراد به سيد علماء الأمة، وعلم هداها، الإمام الفقيه، المتكلم الأديب، أبو القاسم علي بن
الحسين بن موسى الموسوي المرتضى. ولد سنة 355 ه‍، وتخرج بالشيخ المفيد (قدس سره)، حتى تفرد
بالعلوم، وحاز منها ما لم يدانه فيها أحد. كان (رحمه الله) معروفا بالعلم مع العمل الكثير في السر،
وبالمواظبة على تلاوة القرآن، وقيام الليل، وإفادة العلم، مع ما كان عليه من البلاغة وفصاحة
اللهجة. انتهت إليه الرئاسة في المجد والشرف والعلم والأدب والفضل والكرم، ولما يبلغ العشرين.
وهو أول من جعل داره دارا للعلم، وقدرها للمناظرة، كما أنه طاب ثراه أول من بسط كلام
الشيعة الإمامية في الفقه، وناظر الخصوم، واستخرج الغوامض، وقيد المسائل، لذا عده ابن
الأثير مجدد مذهب الإمامية على رأس المائة الرابعة للهجرة. له كتب في علوم القرآن وتفسيره
والكلام والفقه وأصوله والأدب والشعر، تنوف على الثمانين كتابا توفي (رحمه الله) سنة 436 ه‍.
أنظر فهرست الشيخ 98 / 421، وجامع الأصول 11: 323، وتتمة اليتيمة 1: 53، ولسان
الميزان 4: 223.
4 - الذريعة إلى أصول الشريعة 2: 528 وما بعدها، رسائل الشريف المرتضى، ضمن المجموعة
الأولى: 24 والمجموعة الثالثة: 309.
159

ذلك المقام (1).
وبعد بيان الفرق بين المقامين: بأنه لم يلزم في المقام التخصيص المستهجن
واللغز والمعمى، لعدم عموم صادر من المعصوم فيه - قال ما ملخصه:
المحقق في المقام فتوى: أنه لا يمكن الأخذ بكليهما، لأن المجتهد بعد ما
نزل نفسه منزلة المقلد في كونه شاكا، رأى هنا طائفتين من الأحكام ثابتتين للمقلد:
إحداهما: فتوى الميت في الفروع.
وثانيتهما: الفتوى في الأصول الناظرة إلى الفتاوى في الفروع، والمسقطة
لها عن الحجية، فيرى أركان الاستصحاب فيهما تامة.
ثم قال: لا محيص من الأخذ بالفتوى الأصولية، فإنه لو أريد في الفرعية
استصحاب الأحكام الواقعية، فالشك في اللاحق موجود، دون اليقين السابق:
أما الوجداني فواضح.
وأما التعبدي، فلارتفاعه بموت المفتي، فصار كالشك الساري.
وإن أريد استصحاب الحكم الظاهري الجائي من قبل دليل اتباع الميت،
فإن أريد استصحابه مقيدا بفتوى الميت، فالاستصحاب في الأصولية حاكم عليه،
لأن الشك في الفرعية مسبب عن الشك فيها.
وإن أريد استصحاب ذات الحكم الظاهري، وجعل كونه مقول قول الميت
جهة تعليلية، فاحتمال ثبوته إما بسبب سابق، فقد سد بابه الاستصحاب الحاكم،

1 - درر الفوائد: 386 - 387.
160

أو بسبب لاحق فهو مقطوع العدم، إذ مفروض الكلام صورة مخالفة فتوى
الميت للحي.
نعم، يحتمل بقاء الحكم الواقعي، لكن لا يكفي ذلك في الاستصحاب، لأنه
مع الحكم الظاهري في رتبتين وموضوعين، فلا يكون أحدهما بقاء الآخر، لكن
يجري استصحاب الكلي، بناء على جريانه في القسم الثالث.
وإن أريد استصحاب حجية الفتاوى الفرعية، فاستصحاب الحجية في
الأصولية حاكم عليه، لأن شكه مسبب عنه، لأن عدم حجية تلك الفتاوى أثر
لحجية هذه، وليس الأصل مثبتا، لأن هذا من الآثار الثابتة لذات الحجة، الأعم من
الظاهرية والواقعية.
ثم رجع عما تقدم، واختار عدم جريان الاستصحاب في الأصولية، فإن
مقتضى جريانه الأخذ بخلاف مدلوله، ومثله غير مشمول لأدلة الاستصحاب، فإن
مقتضى الأخذ باستصحاب هذه الفتوى، سقوط فتاويه عن الحجية، ومقتضى
سقوطها الرجوع إلى الحي، وهو يفتي بوجوب البقاء، فالأخذ بالاستصحاب في
الأصولية - التي مفادها عدم الأخذ بفتاويه في الفرعيات - لازمه الأخذ في
الفرعيات بها.
وهذا باطل وإن كان اللزوم لأجل الرجوع إلى الحي، لا لكون مفاد
الاستصحاب ذلك، إذ لا فرق في الفساد بين الاحتمالين.
هذا مضافا إلى أن المسؤول عنه في الفرعيات المسألة الأصولية، أعني من
المرجع فيها، فلا ينافي مخالفة الحي للميت في نفس الفروع مع إفتائه بالبقاء في
161

المسألة الأصولية، وأما الفتوى الأصولية، فنفسها مسؤول عنها، ويكون الحي هو
المرجع فيها، وفي هذه المسألة لا معنى للاستصحاب بعد أن يرى الحي خطأ
الميت، فلا حالة سابقة حتى تستصحب (1). انتهى.
الإيراد على مختار العلامة الحائري (قدس سره)
وفيه محال للنظر:
منها: أن الاستصحاب في الأحكام الواقعية في المقام، لا يجري ولو فرض
وجود اليقين السابق، لعدم الشك في البقاء، فإن الشك فيه إما ناشئ من احتمال
النسخ، أو احتمال فقدان شرط، أو وجدان مانع، والكل مفقود.
بل الشك فيه ممحض في حجية الفتوى، وجواز العمل بها، وإنما يتصور
الشك في البقاء إذا قلنا: بالسببية والتصويب.
ومنها: أن حكومة الأصل في المسألة الأصولية عليه في الفرعية ممنوعة،
لأن المجتهد إذا قام مقام المقلد - كما هو مفروض الكلام - يكون شكه في جواز
العمل على فتاوى الميت في الأصول والفروع، ناشئا من الشك في اعتبار الحياة
في المفتي، وجواز العمل في كل من الطائفتين مضاد للآخر، ومقتضى جواز كل
عدم جواز الآخر.
ولو قيل: إن مقتضى إرجاع الحي إياه إلى الميت، سببية شكه في الأصولية.

1 - الاجتهاد والتقليد، آية الله المحقق الآراكي، ضمن كتاب البيع 2: 488 - 493.
162

قلنا: هذا خلاف المفروض، وإلا فلا يبقى مجال للشك له في هذه المسألة،
ففرض الشك فيما لم يقلد الحي فيها.
هذا مضافا إلى أن مطلق كون الشك مسببا عن الآخر، لا يوجب التحكيم،
كما قررنا في محله مستقصى (1).
وملخصه: أن وجه تقدم الأصل السببي، هو أن الأصل في السبب منقح
لموضوع دليل اجتهادي ينطبق عليه بعد التنقيح، والدليل الاجتهادي بلسانه حاكم
على الأصل المسببي، فإذا شك في طهارة ثوب غسل بماء شك في كريته،
فاستصحاب الكرية ينقح موضوع الدليل الاجتهادي الدال على أن ما غسل بالكر
يطهر، وهو حاكم على الأصل المسببي بلسانه.
وإن شئت قلت: إنه لا مناقضة بين الأصل السببي والمسببي، لأن
موضوعيهما مختلفان، والمناقض للأصل المسببي إنما هو الدليل الاجتهادي بعد
تنقيح موضوعه، حيث دل - بضم الوجدان وتطبيقه على الخارج - على أن هذا
الثوب المغسول بهذا الماء طاهر والاستصحاب في المسببي مفاده أن هذا
الثوب المشكوك في نجاسته وطهارته نجس ومعلوم أن لسان الأول حاكم على
الثاني.
وتوهم: أن مقتضى الأصل السببي، هو ترتيب جميع آثار الكرية على
الماء، ومنها ترتيب آثار طهارة الثوب (2).

1 - الاستصحاب، العلامة الإمام الخميني (قدس سره): 244، 245، 252.
2 - فرائد الأصول: 424 سطر 22، كفاية الأصول: 49، درر الفوائد: 631، فوائد الأصول 4: 681.
163

مدفوع أولا: بأن مفاد الاستصحاب، ليس إلا عدم نقض اليقين بالشك، فإذا
شك في كرية ماء كان كرا، لا يكون مقتضى دليل الاستصحاب إلا التعبد بكون
الماء كرا، وأما لزوم ترتيب الآثار، فبدليل آخر هو الدليل الاجتهادي.
والشاهد عليه: - مضافا إلى ظهور أدلته - أن لسان أدلته في استصحاب
الأحكام والموضوعات واحد، فكما أن استصحاب الأحكام ليس إلا البناء على
تحققها، لا ترتيب الآثار، فكذلك استصحاب الموضوعات.
نعم، لا بد في استصحابها من دليل اجتهادي، ينقح موضوعه بالاستصحاب.
وثانيا: بأن لازم ذلك، عدم تقدم السببي على المسببي، فإن قوله: كلما
شككت في بقاء الكر فابن علي طهارة الثوب المغسول به لا يقدم على قوله: إذا
شككت في طهارة الثوب الكذائي فابن علي نجاسته.
ولا يراد باستصحاب نجاسة الثوب سلب الكرية، حتى يقال: إن استصحاب
النجاسة لا يسلبها إلا بالأصل المثبت (1)، بل يراد إبقاء النجاسة في الثوب فقط،
ولا يضر في مقام الحكم الظاهري التفكيك بين الآثار، فيحكم ببقاء كرية الماء،
وبقاء نجاسة الثوب المغسول به.
إذا عرفت ذلك اتضح لك، عدم تقدم الأصل في المسألة الأصولية على
الفرعية، لعدم دليل اجتهادي موجب للتحكيم، ومجرد كون مفاد المستصحب في
الأصولية أنه لا يجوز العمل بفتاواي عند الشك لا يوجب التقدم على ما كان

1 - فوائد الأصول 4: 684 - 685.
164

مفاده: يجوز العمل بفتاواي الفرعية لدى الشك فإن كلا منهما يدفع الآخر وينافيه.
ومما ذكرناه يظهر النظر فيما أفاده: من حكومة استصحاب حجية الفتوى
في المسألة الأصولية، على استصحاب حجيتها في المسائل الفرعية، فإن البيان
والايراد فيهما واحد لدى التأمل.
هذا مضافا إلى ما تقدم: من عدم جريان استصحاب الحجية، لا العقلائية
منها، ولا الشرعية (1).
ومنها: أن ما أفاده من تقديم الأصل في الفتوى الأصولية ولو أريد
استصحاب الحكم الظاهري بجهة تعليلية، غير وجيه وإن قلنا: بتقديم الأصل
السببي في الفرض المتقدم على الأصل المسببي، لأن نفي المعلول باستصحاب
نفي العلة، مثبت وإن كانت العلة شرعية، فإن ترتب المسبب على السبب، عقلي ولو
كان السبب شرعيا.
نعم، لو ورد دليل على أنه إذا وجد ذا وجد ذاك لا يكون الأصل مثبتا،
كقوله: (إذا غلى العصير أو نش (2) حرم) (3) وهو في المقام مفقود.
ومنها: أن بناءه على جريان استصحاب الكلي الجامع بين الحكم الظاهري

1 - تقدم في الصفحة 126 - 127.
2 - أي صوت عند الغليان، راجع أقرب الموارد 2: 1301.
3 - الكافي 6: 419 / 4، تهذيب الأحكام 9: 120 / 515، وسائل الشيعة 17: 229، كتاب
الأطعمة والأشربة، أبواب الأشربة المحرمة، الباب 3، الحديث 4، هذا والموجود في المصادر
تقديم النشيش على الغليان، فراجع.
165

والواقعي، غير وجيه:
أما أولا: فلما مر من عدم الشك في بقاء الحكم الواقعي (1).
وثانيا: أنه بعد فرض حكومة الأصل السببي على المسببي، يسقط الحكم
الظاهري، وبسقوطه لا دليل فعلا على ثبوت الحكم الواقعي، لسراية الشك إلى
السابق، كما مر منه (قدس سره) (2)، فلا يقين فعلا بالجامع بينهما، فاستصحاب الكلي إنما
يجري، إذا علم بالجامع فعلا، وشك في بقائه، وهو غير نظير المقام الذي بانعدام
أحد الفردين ينعدم الآخر من الأول، أو ينعدم الدليل على ثبوته من الأول.
هذا مع الغض عن الاشكال في استصحاب الجامع في الأحكام، مما مر منا
مرارا (3).
ومنها: أن إنكاره جريان الاستصحاب في المسألة الأصولية، معللا: بأنه
يلزم من جريانه الأخذ بخلاف مفاده، ومثله غير مشمول لأدلته (4)، غير وجيه، لأن
مفاد الاستصحاب هو سقوط حجية الفتاوى الفرعية، وهو غير اعتبار فتاواه،
ولا لازمه ذلك، ولا الأخذ بفتوى الحي، لامكان العمل بالاحتياط بعد سقوطها
عن الحجية.

1 - تقدم في الصفحة 162.
2 - وذلك في الصفحة 160 - 161.
3 - راجع على سبيل المثال الاستصحاب، العلامة الإمام الخميني (قدس سره): 83 - 84، وهذه الرسالة
في الصفحة 62، 155.
4 - تقدم في الصفحة 161.
166

وبالجملة: سقوط الفتاوى عن الحجية، أمر جاء من قبل الاستصحاب،
والرجوع إلى الحي أمر آخر غير مربوط به وإن كان لازم الرجوع إليه البقاء على
قول الميت.
والعجب، أنه (قدس سره) تنبه على هذا الاشكال (1)، ولم يأت بجواب مقنع!!
ولو ادعى انصراف أدلة الاستصحاب عن مثل المقام، لكان انصرافها عن
الأصل السببي وعن الأصلين المتعارضين أولى، لأن إجراء الاستصحاب
للسقوط، أسوأ حالا من إجرائه في مورد، كان المكلف ملزما بالأخذ بدليل آخر
مقابل له في المفاد.
والحل في الكل: أنه فرق بين ورود دليل لخصوص مورد من تلك الموارد،
وبين ما شملها بإطلاقه، والاشكال متجه فيها على الأول، لا الثاني.
ومنها: أن ما ذكره أخيرا في وجه عدم جريان الاستصحاب في المسألة
الأصولية: من أن المفتي الحي كان يرى خطأ الميت (2)، إنما يصح لو كان المفتي
أراد إجراء الاستصحاب لنفسه، وقد فرض في صدر المبحث أنه نزل نفسه منزلة
العامي في الشك في الواقعة (3).
والتحقيق: هو ما عرفت من عدم جريان الأصل - لا بالنسبة إلى المفتي،
ولا بالنسبة إلى العامي - في المسألة الأصولية.

1 - تقدم في الصفحة 161.
2 - تقدم في الصفحة 161.
3 - تقدم في الصفحة 158.
167