الكتاب: المكاسب المحرمة
المؤلف: السيد الخميني
الجزء: ١
الوفاة: ١٤١٠
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق:
الطبعة: الثالثة
سنة الطبع: ١٤١٠ - ١٣٦٨ ش
المطبعة:
الناشر: مؤسسة إسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع - قم - إيران
ردمك:
ملاحظات: مع تذييلات لمجتبى الطهراني

المجلد الأول
المكاسب المحرمة
تأليف
العلامة الأكبر والأستاذ الأعظم آية الله العظمى
مولانا الإمام الحاج آقا روح الله الموسوي الخميني
قدس سره
مع تذييلات لمجتبى الطهراني
مؤسسة اسماعيليان
للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة الثالثة
تاريخ النشر: 1410 هجري قمري
الكتاب: المكاسب المحرمة
المؤلف: الإمام الخميني قدس سره الشريف
الناشر: مؤسسة اسماعيليان: قم تليفون 25212
الطبعة: الثالثة
عدد المطبوع: 1000 دوره (1 - 2)
الطباعة والتجليد: مؤسسة اسماعيليان
تاريخ النشر: 1410 هجري قمري - 1368 هجري شمسي
القطع وعدد الصفحات: وزيري - 632 صفحة
1

بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله الذي نور بنوره قلوب العلماء العالمين، وفضل مدادهم على دماء
الشهداء المخلصين، والصلاة والسلام على رسوله محمد صلى الله عليه وآله خاتم السفراء المقربين
وعلى آله الطيبين الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين
وبعد فإن هذه اللئالي التي تكون بين يديك هي الدرر التي اشتاقت إليها
نفوس رواد العلم، والكواكب التي انتظرت عيون أهل التحقيق والفقاهة طلوعها
على سطوح الحلم، لا، بل هي تحقيقات وافية، وتدقيقات كافية، لا يصل إليها إلا
من كان حاويا لأس الأصول، وفارقا عن المعقول والمنقول، والحق بالحق أقول، و
لا يكون لهذا القمر المنير أفول، وهي من تأليفات أعظم الفحول العلامة المحقق،
والنحرير؟ المدقق سيدنا الأستاذ الأكبر، آية الله الحاج آقا روح الله الخميني أدام الله
أيام إفاداته
فلما رأيت أن هذا الكتاب مشتمل على روايات كثيرة متفرقة في كتب
الأحاديث، وعلى أقوال العلماء المندرجة في كتبهم خطر بالبال أن أذيله بتذييلات نافعة
وتعليقات كاشفة، وهي ذكر مآخذ الروايات والأقوال لسهولة المراجعة إليها، و
ذكر أوصاف الروايات من الصحة والضعف والارسال وغيرها مع جهتها على مذهب
الأستاذ، لينتفع من مرامه في علم الرجال، فعرضت ما بالبال للأستاذ فاستحسنه و
أجاز، فشرعت فيها مستعينا بالله ولله در من يدعو لي التوفيق من الله الرفيق، و
أرجو من الفضلاء العفو عن الزلل والخطأ
22 ذي الحجة الحرام 1380
المجتبى الطهراني
2

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين، ولعنة
الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين
في المكاسب
وقد اختلف كلمات الأعيان في تقسيمها في المقام، فقسمها المحقق إلى
محرم ومكروه ومباح (1) لكن جعل المقسم ما يكتسب به مع عده ما لا ينتفع
به وما يجب على الانسان فعله من الأقسام: وهما ليسا من أقسام ما جعله مقسما،
وكذا ما ذكرها في المكروهات كبيع الصرف والأكفان وغيرهما مما هي من أنواع المكاسب المكروهة لا ما يكتسب به المكروه، والظاهر أن مراده ما يكون
الاكتساب به محرما أو مكروها أو مباحا وفي المراسم (2) قسم المكاسب على
خمسة أضرب حسب الأحكام الخمسة ثم المعايش على ثلاثة أضرب، وكذا العلامة
(3) جعل المقسم المتاجر وقال: تنقسم بانقسام الأحكام الخمسة، ومثل للواجب

(1) راجع الشرايع الفصل الأول من كتاب التجارة
(2) أول كتاب المكاسب
(3) راجع القواعد - الفصل الأول من المقصد الأول من التجارة
3

بما يحتاج الانسان إليه لقوته وقوت عياله مع انحصار الوجه بالمتجر كما صنعه ابن
حمزه (1) وللمكروه بالصرف ونحوه، وللمحظور بأقسام، عد منها ما لا ينتفع به،
كالحشرات ونحوها،
والظاهر منه أن الأقسام للتجارة، وأن الأحكام الخمسة هي
التكليفية لا مع الوضعية فيرد عليه
أولا بأن ما عد واجبا غير وجيه، لأن التجارة لا تصير واجبة شرعا ولو
كان الطريق في تحصيل قوت العيال منحصرا بها، لما حقق في محله من عدم وجوب
ما يتوقف عليه الواجب حتى المقدمات الوجودية، وعلى فرض وجوب ما يتوقف
عليه، يتعلق الوجوب بعنوان آخر غير عنوان ذوات الموقوف عليها (وما ربما
يقال) إنها صارت واجبة بالعرض (ليس وجيها) والتفصيل يطلب من مظانه.
وثانيا أن الحرمة في كثير مما ذكره غير ثابتة أو ثابتة العدم، كالتجارة بما لا
ينتفع به، فإنها من حيث هي تجارة ونقل وانتقال ليست محرمة: والتصرف في مال
الغير بعد بطلان المعاملة وإن كان محرما لكنه غير مربوط بالتجارة، وكذا التجارة
بالأعيان النجسة غير ثابتة الحرمة على ما يأتي الكلام فيها انشاء الله.
وثالثا أن المقسم في التجارة الواجبة والمستحبة والمكروهة هو الكسب
المنتهي إلى النقل والانتقال العقلائي الممضي، أعني النقل والانتقال الواقعي الذي
يوصل المكلف إلى حفظ النظام مثلا، بناء على ما هو التحقيق من وجوب المقدمة
الموصلة لا المطلقة: على فرض تسليم وجوب المقدمة: وفي المحرمة لو كان كذلك
يلزم صحة المعاملة وهي خلاف الواقع المسلم عندهم، فلا بد وأن يكون المراد فيها
المعاملة العقلائية التي زعم العقلاء النقل فيها، فلا يكون المقسم واحدا: إلا أن
يقال: إن المقسم نفس طبيعة المعاملة الجامعة بين الصحيحة والفاسدة، وحيثية
الإيصال من خصوصيات القسم،
ثم إن المحرم على فرض ثبوته هو المعاملة العقلائية، أي انشاء السبب جدا لغرض
التسبيب إلى النقل والانتقال، لا النقل والانتقال، ولا هو بقصد ترتب الأثر، ولا تبديل المال

(1) راجع كتاب البيوع من الوسيلة
4

أو المنفعة، لأن الظاهر أن المعاملات هي الأسباب التي قد تنتهي إلى المسببات وقد لا تنتهي
إليها ولهذا صح تقسيمها إلى الصحيحة والفاسدة بلا تأول، فلو كانت عبارة عن النقل
والتبديل لكان أمرها دائرا بين الوجود والعدم، لا الصحة والفساد، ولا يعقل أن يكون المحرم النقل وما يتلوه، لأنهما غير ممكن التحقق بعد وضوح بطلان تلك
المعاملات نصا وفتوى، وإرادة النقل العقلائي مع قطع النظر عن حكم الشرع
ولولا عدم الانفاذ، لا ترجع إلى محصل، لعدم الوجود للنقل اللولائي، كما لا وجود
للنقل الوهمي: وما يمكن أن يتصف بالحرمة هو المعاملة السببية أي الانشاء الجدي
بقصد حصول المسببات، لا بمعنى كون القصد جزء الموضوع، بل بمعنى أن موضوع
الحرمة الانشاء الجدي الملازم له
ثم إن ما ذكرناه هاهنا لا ينافي ما اخترناه من دلالة المتعلق بمعاملة،
على صحتها، وفاقا لبعض أهل الخلاف (1) لأن الكلام هناك في الدلالة العرفية
أو العقلية، وفي المقام في تصوير متعلق الحرمة بعد الفراغ عن بطلان المعاملة
وحرمتها، مع أن ما ذكرناه هناك لا يخلو من كلام.
فلنرجع إلى أقسام المعاملات المحرمة أو ما قيل بتحريمها: الأول الاكتساب
بالأعيان النجسة، وفيه جهتان من البحث.
الجهة الأولى وهي المهم في المقام، في حرمته شرعا، بمعنى أن ايقاع المعاملة
عليها محرم وإن لم يترتب عليها المسبب ولا يحصل النقل والاستدلال عليها بحرمتها
ونجاستها وعدم المنفعة المعتد بها لها، ليس على ما ينبغي، لأنها لا تقتضي الحرمة
الشرعية لنفس المعاملة، إلا أن يراد بالأولين بيان تحقق موضوع الروايات، كرواية
تحف العقول وغيرها، فالأولى صرف الكلام إليها فنقول:
أن ما دلت أو يتوهم دلالتها على عموم المدعى روايات ضعيفة الاسناد، بل

(1) حكى هذا القول عن أبي حنيفة والشيباني
5

في كون بعضها رواية تأمل ونظر، ودعوى جبر اسنادها غير وجيهة، لعدم احراز استناد
الأصحاب إليها. إلا أن يدعى الجزم على أن لا مستند لهم غيرها، وهو محل كلام
لاحتمال استفادتهم الحكم الكلي من الموارد الخاصة ولو بإلغاء الخصوصية كما
يظهر ذلك من بعضهم.
فمنها رواية تحف العقول (1) وهي أخفى سندا " وأوضح دلالة من غيرها،
وفيها بعد ذكر وجوه الحلال من وجه التجارات (فهذا كله حلال بيعه وشراؤه و
إمساكه واستعماله وهبته وعاريته، وأما وجوه الحرام من البيع والشراء، فكل أمر
يكون فيه الفساد مما هو منهي عنه من جهة؟ أكله أو شربه أو كسبه (لبسه ظ) أو نكاحه
أو ملكه أو إمساكه أو هبته أو عاريته، أو شئ يكون فيه وجه من وجوه الفساد نظير
البيع بالربا أو البيع للميتة أو الدم أو لحم الخنزير أو لحم السباع من صنوف سباع
الوحش والطير أو جلودها أو الخمر أو شئ من وجوه النجس، فهذا كله حرام
ومحرم، لأن ذلك كله منهي عن أكله وشربه ولبسه وملكه وامساكه والتقلب فيه
فجميع تقلبه في ذلك حرام)
ولا ينبغي الاشكال في دلالتها على عموم المدعى. وحمل الحرام على الوضعي
بدعوى عدم ظهوره في التكليفي سيما في زمان الصدور: غير صحيح، كما يتضح
بالنظر إلى فقرات الرواية، سيما مع ذكر اللبس والامساك وسائر التقلبات فيها
فقوله: جميع التقلب في ذلك حرام نتيجة لما تقدم فكأنه قال: كما أن الأكل والشرب
واللمس وغيرها حرام، كذلك سائر التقلبات، كالبيع والشراء والصلح والعارية وغيرها
أيضا حرام، فهي كالنص في الحرمة التكليفية.
ومنها رواية الفقه الرضوي (2) وفيها (كل أمر يكون فيه الفساد مما قد نهي عنه
من جهة أكله وشربه ولبسه ونكاحه وامساكه لوجه الفساد ومثل الميتة والدم ولحم

(1) الوسائل - كتاب التجارة الباب 2 - من أبواب ما يكتسب به (ضعيفة)
(2) المستدرك - كتاب التجارة - الباب 2 - من أبواب ما يكتسب به وسيأتي البحث
في سندها
6

الخنزير والربا وجميع الفواحش ولحوم السباع والخمر وما أشبه ذلك، فحرام ضار
للجسم وفساد للنفس) ودلالتها دون السابقة، لاحتمال إرادة الحرمة الوضعية ولا قرينة
على التكليفية، لأن الظاهر منها أن قوله: فحرام في مقابل حلال بيعه الخ وقوله: ضار
للجسم: إشارة إلى نكتة لتحريم الأكل والشرب وغيرهما، فيمكن الخدشة في دلالتها
وإن كان الأرجح أيضا إرادة الحرمة الشرعية فيها:
ومنها رواية دعائم الاسلام (1) عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال (الحلال من
البيوع، كل ما هو حلال من المأكول والمشروب وغير ذلك مما هو قوام للناس وصلاح
ومباح لهم الانتفاع به، وما كان محرما أصله، منهي عنه لم يجز بيعه ولا شراؤه)
وهي ضعيفة الدلالة، لأن الظاهر من جواز البيع وعدم جوازه هو الجواز الوضعي، لأن
الأوامر والنواهي وكذا الجواز وعدمه إذا تعلقت بالعناوين الآلية التوصلية تكون ظاهرة
في الإرشاد إلى عدم امكان التوصل بها إلى ما يتوقع منها فقوله: لا تصل في وبر ما لا
يؤكل (2) كقوله لا يجوز الصلاة في وبره، ظاهران في عدم صحتها معه وكذا قوله:
لا تبع ما ليس عندك وأحل الله البيع، بل وحرم بيع كذا يدل على الحكم الوضعي، و
السر فيه عدم النفسية لتلك العناوين وعدم كونها منظورا " فيها، بل هي عناوين آلية
للتوصل إلي ما هو المقصود من النقل والانتقال، فاستفادة الحرمة النفسية لعنوان البيع
منها، تحتاج إلى قيام قرينة.
ومنها رواية الجعفريات (3) بإسناده عن علي بن أبي طالب سلام الله عليه قال
(بايع الخبيثات ومشتريها في الإثم سواء) وفي دلالتها تأمل، لعدم ظهورها في أن
الإثم لنفس البيع والشراء، فإنها في مقام بيان حكم آخر بعد فرض إثم لهما، فلا يظهر
منها أن الإثم المفروض لأجل نفس عنوان البيع والشراء أو لأخذ الثمن والتصرف فيه
وأخذ الخمر وشربه وإن لا تخلو من اشعار على أن المحرم البيع والشراء. وأما

(1) المستدرك - كتاب التجارة الباب 2 من أبواب ما يكتسب به وسيأتي البحث في سندها
(2) راجع الوسائل - كتاب الصلاة - الباب - 2 - من أبواب لباس المصلي
(3) المستدرك - كتاب التجارة - الباب - 1 - من أبواب ما يكتسب به (ضعيفة)
7

الروايات الخاصة:
فمنها ما وردت في العذرة، كرواية سماعة بن مهران (1) ولا يبعد أن تكون
موثقة قال (سأل رجل أبا عبد الله عليه السلام وأنا حاضر، قال: إني رجل أبيع العذرة فما تقول
قال: حرام بيعها وثمنها وقال: لا بأس ببيع العذرة) ويحتمل أن يكون قوله: وقال:
رواية مستقلة، صدرت في مورد آخر جمعها مع ما قبلها سماعة في كلام واحد كما
يؤيده قوله: وقال: وذكر العذرة بالاسم الظاهر، وكيف كان لا يبعد أن يقال في مقام
الجمع أن المراد بحرام بيعها وثمنها، الجامع بين الوضعي والتكليفي وبقوله، لا
بأس ببيع العذرة، نفي الحرمة التكليفية، ويؤيده ما تقدم من أن الحرمة إذا تعلقت
بالعناوين التوصلية الآلية، ظاهرة في الوضعية، وإذا تعلقت بالعناوين النفسية،
ظاهرة في التكليفية، وفي المقام لولا قوله: ولا بأس الخ يكون الظاهر من قوله: حرام
الخ التكليفية، لعدم معنى للوضعية بالنسبة إلى الثمن إلا بتكلف بعيد، والحمل على
الجامع خلاف الظاهر، والحمل على التكليفية بالنسبة إلى البيع وإن كان خلاف الظاهر
أيضا، لكنه أرجح من الحمل على الجامع، لكن قوله: لا بأس ببيع العذرة. قرينة على أن المراد من الحرمة، المعنى الأعم، سيما إذا كانت تلك الفقرة في ذيل الأولى فكأنه
قال: يحرم بيعها وضعا ولا بأس به تكليفا.
وما ذكرناه وإن لا يخلو من التكلف لكنه أرجح من سائر ما قيل في وجه الجمع
بل لا يبعد أن يكون مقبولا مع ملاحظة أن في الشريعة بيعا لا بأس بع بعنوانه وما هو حرام
كذلك مع بطلانهما (تأمل) فتدل على عدم حرمة بيعها ذاتا وإن كان باطلا، وأن
مساقها ليس مساق الخمر الحرام بيعها بعنوانه على ما هو ظاهر جملة من الروايات
الآتية.
ثم إنه على فرضع عدم مقبولية الجمع المذكور ولا سائر ما قيل في وجهه، فالظاهر
لزوم العمل على أدلة العلاج خلافا للشيخ الأعظم (2) قال: إن الجمع بين الحكمين

(1) الوسائل - كتاب التجارة الباب 40 - من أبواب ما يكتسب به
(2) راجع المكاسب - في حرمة بيع العذرة
8

في كلام واحد لمخاطب واحد يدل على أن تعارض الأولين ليس إلا من حيث الدلالة فلا
يرجع فيه إلى المرجحات السندية أو الخارجية (انتهى) ويريد بالأولين، رواية يعقوب
بن شعيب (1) ومحمد بن مضارب. (2)
وفيه أولا أن رفع اليد عن قواعد باب التعارض لا يجوز إلا بعد احراز كون
رواية سماعة صادرة في مجلس واحد لمخاطب واحد، وهو غير مسلم، لاحتمال
جمعهما في نقل واحد خصوصا مع اشعار نفس الرواية بذلك كما تقدم، وبعد صدور
مثلها في كلام واحد، مضافا إلى أن الراوي سماعة الذي قيل في مضمراته، أنها
جمع روايات مستقلات في نقل واحد، وقد سمى المروي عنه في صدرها وأضمر
في البقية، فيظهر منه أن دأبه الجمع في النقل عن روايات مستقلة متفرقة.
وثانيا أن كون تعارض الأولين من حيث الدلالة: لا يوجب رفع اليد عن أدلة
العلاج بل هو محقق موضوعها: نعم: لو كشف ذلك عن وجه الجمع بينهما، كان لما
ذكر وجه، لكنه كما ترى، لأن الميزان في جمع الروايتين هو الجمع المقبول
العقلائي، وهو أمر لا يكاد يخفى على العرف، وليس أمرا تعبديا " يبنى عليه تعبدا "، و
مع عدم وجه الجمع بينهما عرفا يحرز موضوع أدلة التعارض. وعدم العمل بأدلة
التعارض في رواية واحدة مشتملة على حكمين متنافيين، لا يوجب عدم العمل بها
في الحديثين المختلفين المستقلين كما في المقام، مع أن عدم الرجوع إلى
المرجحات في رواية مشتملة على حكمين متنافيين، غير مسلم، لامكان أن يقال
بصدق قوله: يأتي عنكم الخبران المختلفان (3) وقوله: يروى عن أبي عبد الله
عليه السلام شئ ويروى عنه خلاف ذلك فبأيها آخذ (4) (الخ) على مثلها، ودعوى الانصراف
إلى النقلين المنفصلين ممنوعة جدا بل مناسبات الحكم والموضوع تقتضي عموم

(1) راجع الوسائل - كتاب التجارة - الباب 40 - من أبواب ما يكتسب به الأولى مجهولة عندي بعلي بن مسكين والثانية ضعيفة بمحمد بن مضارب
(2) راجع الوسائل - كتاب التجارة - الباب 40 - من أبواب ما يكتسب به الأولى مجهولة عندي بعلي بن مسكين والثانية ضعيفة بمحمد بن مضارب
(3) راجع الوسائل والمستدرك - كتاب القضاء - الباب 9 - من أبواب صفات القاضي وما يقضى به
(4) راجع الوسائل والمستدرك - كتاب القضاء - الباب 9 - من أبواب صفات القاضي وما يقضى به
9

الحكم للمتصلين أيضا.
ثم إنه على فرض تسليم دلالة الرواية على حرمة بيع العذرة تكليفا بتسليم
جمع شيخ الطائفة وحمل حرمة البيع على التكليفية فهل يمكن اسراء الحكم
إلى سائر النجاسات، كالبول والدم وغيرهما بدعوى إلغاء الخصوصية واستفادة أن
حرمة بيع العذرة لقذارتها ونجاستها. أم لا، لمنع إلغاء الخصوصية عرفا، فإن الطباع
تتنفر عن العذرة ما لا تتنفر عن غيرها، وأن في بيعها نحو مهانة للنفوس الأبية،
لعل الشارع الأقدس لم يرض للمؤمن تلك المهانة والدنائة، فحرم بيعها تكليفا.
بخلاف سائر النجاسات كالخمر والخنزير والكلب حتى البول، فلا يمكن اسراء الحكم
إليها، وهو الأرجح، وأما خرؤ سائر الحيوانات الغير المأكولة، فالظاهر صدق
العذرة عليها، ولو سلم عدم الصدق، فالغاء الخصوصية عن عذرة الانسان واسراء
الحكم إلى سائر العذرات النجسة غير بعيد وإن لا يخلو عن اشكال.
ومنها ما وردت في الخمر وهي روايات مستفيضة متقاربة المضمون مروية عن الكافي
(1) والفقيه (2) والمقنع (3) وجامع الأخبار، وعقاب الأعمال ودعائم الاسلام، وفقه
الرضا، ولب اللباب للراوندي، وعوالي اللئالي (4) واسنادها وإن لا تخلو عن خدشة،
لكن يمكن دعوى الوثوق والاطمينان بالصدور اجمالا.
ففي رواية جابر (5) عن أبي جعفر عليه السلام قال (لعن رسول الله صلى الله عليه وآله في الخمر عشرة
غارسها وحارسها وعاصرها، وشاربها وساقيها وحاملها والمحمولة إليه وبايعها و
مشتريها وآكل ثمنها) وقريب منها غيرها:

(1) راجع كتاب المعيشة - باب بيع العصير والخمر
(2) راجع كتاب الحدود - باب حد من شرب الخمر
(3) باب شرب الخمر والغناء
(4) المستدرك - كتاب التجارة - الباب 47 - من أبواب ما يكتسب به
(5) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 55 - من أبواب ما يكتسب به - ضعيفة
بعمرو بن شمر
10

ولا شبهة في دلالتها على المدعى في خصوص الخمر، فإن الظاهر من لعن البايع
والمشتري في مقابل آكل الثمن، أنهما بما لهما من العنوان ملعونان، فيظهر منه أن
البيع والاشتراء محرمان وإن لم يترتب عليهما أثرهما المطلوب شرعا: أي النقل
والانتقال وأما اسراء الحكم إلى سائر النجاسات: فغير جائز، لخصوصية في الخمر
ليست في غيرها.
نعم الظاهر كون سائر أنواع المسكرات بحكمها، لاحتمال صدقها عليها
ولو ببعض المناسبات، ولعموم التنزيل في روايات عديدة، كرواية أبي الجارود
(1) وفيها (أما الخمر فكل مسكر من الشراب إذا أخمر فهو خمر) ورواية عطاء بن
يسار (2) عن أبي جعفر عليه السلام (قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله كل مسكر حرام وكل مسكر
خمر) وصحيحة علي بن يقطين (3) عن أبي الحسن الماضي عليه السلام (قال إن الله عز
وجل لم يحرم الخمر لاسمها، ولكن حرمها لعاقبتها، فما كان عاقبته عاقبة الخمر
فهو خمر) إلى غير ذلك.
فإن دلالتها على المطلوب لا تكاد تخفى، لاطلاق التنزيل، ولأن الحمل
يقتضي الاتحاد، وبعد عدم كونه تكوينا لا بد من تصحيحه، وتصحيح الدعوى كونهما
واحدا " من جميع الجهات في التشريع، والحمل على بعض الآثار: غير وجيه لعدم
وجاهة الحمل وصحته مع اختلافهما في جميع الآثار إلا في حرمة الشرب مثلا، إلا أن
تكون سائر الآثار بحكم العدم فيحتاج إلى دعوى أخرى وهي خلاف الظاهر، بل
الحمل مع موافقتهما في جملة من الآثار يعد غير وجيه عرفا.
وإن شئت قلت: إن مقتضى تحكيم تلك الروايات على الروايات المشتملة على
لعن رسول الله صلى الله عليه وآله الخمر وبايعها (الخ) إن ما ثبت لها في تلك الروايات، ثبت لسائر
المسكرات فإن هذه الروايات منقحة لموضوعها ومعه لا مجال للتشكيك في الدلالة،

(1) الوسائل - كتاب الأطعمة والأشربة - الباب 1 - 15 - 19 - من أبواب الأشربة المحرمة الأولى مر سلة والثانية محمولة بعطاء بن يسار
(2) الوسائل - كتاب الأطعمة والأشربة - الباب 1 - 15 - 19 - من أبواب الأشربة المحرمة الأولى مر سلة والثانية محمولة بعطاء بن يسار
(3) الوسائل - كتاب الأطعمة والأشربة - الباب 1 - 15 - 19 - من أبواب الأشربة المحرمة الأولى مر سلة والثانية محمولة بعطاء بن يسار
11

وخصوص ما ورد في الفقاع في رواية سليمان بن جعفر (1) قال: قلت لأبي الحسن الرضا عليه السلام
ما تقول في شرب الفقاع، فقال خمر مجهول يا سليمان فلا تشربه، أما يا سليمان لو
كان الحكم لي والدار لي لجلدت شاربه ولقتلت بايعه، ورواية الوشاء (2) التي لا يبعد أن
تكون صحيحة، المحكية عن رسالة تحريم الفقاع للشيخ الطوسي (قده) قال كتبت
إليه يعني الرضا عليه السلام أسأله عن الفقاع، فكتب حرام وهو خمر ومن شربه كان بمنزلة
شارب الخمر، قال وقال أبو الحسن عليه السلام لو أن الدار لي لقتلت بايعه ولجلدت شاربه.
ثم إن هاهنا جملة من الروايات في بيع الخنزير والكلب والميتة وغيرها (3)
وفي دلالتها اشكال ومنع، كما أن التمسك بقوله تعالى إنما الخمر والميسر
والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه (4) بدعوى أن وجوب الاجتناب
متفرع على الرجس فيدل على علية الرجس لذلك وأن المذكورات واجبة الاجتناب
لكونها رجسا فتدل الآية على وجوب الاجتناب عن كل رجس ومقتضى اطلاق
وجوب التجنب عنه الاجتناب عن جميع التقلبات ومنها البيع والشراء غير وجيه.
لأن الظاهر منها أن وجوب الاجتناب متفرع على الرجس الذي هو من عمل
الشيطان، وكون الشئ من عمله بأي معنى كان لا يمكن لنا احرازه إلا ببيان من الشارع
ومع الشك في كون شئ من عمله كالبيع والشراء لا يمكن التمسك بها لاثبات وجوب
الاجتناب هذا مع أن نفس الخمر ليست من عمله وإن كانت رجسا فلا بد من تقدير و
لعل المقدر الشرب لا مطلق التقلبات.

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 56 - من أبواب ما يكتسب به - لا يبعد أن
تكون مجهولة لأن في سندها محمد بن إسماعيل وهو مشترك ولعله الرازي المجهول
(2) الوسائل - كتاب الأطعمة والأشربة - الباب - 28 - من أبواب الأشربة
المحرمة - صحيحة على الأصح
(3) راجع الوسائل والمستدرك - كتاب التجارة - الباب 5 - من أبواب ما
يكتسب به
(4) سورة المائدة الآية - 92
12

إلا أن يقال إن جعل الخمر من عمله وهي من الأعيان مبني على ادعاء، و
المصحح له هو كون جميع تقلباتها من عمله، ومع حرمة شربها فقط لا يصح أن يقال إنها
من عمله بنحو الاطلاق، والمجاز في الحذف قد فرغنا عن تهجينه في محله.
ثم إن الرجس مطلقا أو في خصوص المورد بمناسبة ذكر الميسر والأنصاب والأزلام
يشكل أن يكون بمعنى النجاسة المعهودة وإن كان له وجه صحة لو ثبتت إرادته
لكن استحضار كونه بمعناها مشكل بل ممنوع، ويتلوها في عدم صحة التمسك بها
للمطلوب قوله تعالى: والرجز فاهجر (1) فإنه كونه بمعنى النجاسة المعهودة غير ظاهر
كما لم يحتمله الطبرسي في تفسيره ولم ينقل احتماله من المفسرين وعلى فرضه
لا يبعد أن يكون المراد من هجره الهجر في الصلاة كما لعله الظاهر من قوله تعالى
قبلها وثيابك فطهر فيكون من قبيل ذكر العام عقيب الخاص وكيف كان فالاستدلال
للمطلوب بها محل اشكال ومنع.
الجهة الثانية (وهي أيضا مهمة أصيلة في المقام) هي أن الأثمان المأخوذة في مقابل
الأعيان النجسة هل هي محرمة بعنوان ثمن النجس أو الحرام، أو ثمن الخمر والخنزير
وغيرهما، وبعبارة أخرى أن المكسب بمعنى ما يكتسب حرام وهذا غير حرمة
التصرف في مال الغير، ويدل عليه النبوي المعروف: إن الله إذا حرم شيئا حرم
ثمنه (2) وقريب منه ما عن عوالي اللئالي (3) عن النبي صلى الله عليه وآله إن الله تعالى إذا حرم
على قوم أكل شئ حرم عليهم ثمنه.
وعن نوادر الراوندي (4) عن موسى بن جعفر عليه السلام عن آبائه قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله أن

(1) سورة المدثر آية - 5
(2) لم أجده في كتب الأحاديث ولكنه موجود في الكتب الفقهية - راجع الخلاف
كتاب البيوع - مسألة 308 - 310
(3) المستدرك - كتاب التجارة - الباب 6 - من أبواب ما يكتسب به
(4) الوسائل والمستدرك - كتاب التجارة - الباب 1 - 3 - من أبواب ما يكتسب به
13

أخوف ما أخاف على أمتي من بعدي، هذه المكاسب المحرمة والشهوة الخفية و
الربا وفي الكافي عن البرقي مرسلة نحوها (1) بناء على أن المكاسب جمع
المكسب بمعنى ما يكتسب وهو ثمن المحرمات (تأمل).
وفي صحيحة محمد بن مسلم (2) عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن رجلا من ثقيف
أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله راويتين من خمر فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وآله فأهريقتا و
قال إن الذي حرم شربها حرم ثمنها. وهي تشعر أو تدل على ملازمة حرمة الشئ
شربا أو أكلا أو انتفاعا لحرمة ثمنه. وفي رواية أبي بصير (3) عن أبي عبد الله عليه السلام
قال: سألته عن ثمن الخمر قال أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله راوية خمر بعد ما حرمت
الخمر فأمر بها (4) أن تباع فلما أن مر بها الذي يبيعها ناداه رسول الله صلى الله عليه وآله من خلفه،
يا صاحب الراوية إن الذي حرم شربها فقد حرم ثمنها فأمر بها فصبت في الصعيد،
فقال ثمن الخمر ومهر البغي وثمن الكلب الذي لا يصطاد من السحت: ولعلها أوضح
في التعميم لمكان ارداف الخمر بمهر البغي وثمن الكلب (تأمل).
ويمكن استفادة العموم من الموارد الخاصة الواردة فيها الروايات كثمن الخمر
والنبيذ والمسكر والميتة والكلب والعذرة ومهر البغي وأجر الكاهن وأجر الزانية
وأجور الفواحش والرشوة وغيرها (5) المستفاد من مجموعها ولو بالمناسبات والغاء
الخصوصية إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه، والظاهر منها أن الثمن محرم بعنوان ثمن
الحرام أو ثمن النجس، لأن الظاهر من تعلق حكم على عنوان موضوعيته، فالحمل
على حرمته باعتبار التصرف في مال الغير بلا إذنه خلاف ظواهر الأدلة، ويشهد له
أن الظاهر أن ذلك التعبير لم يرد في شئ من المعاملات الباطلة من جهة فقد ما
يعتبر فيها.

(1) راجع الكافي كتاب المعيشة باب المكاسب الحرام
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب - 55 من أبواب ما يكتسب به - الأولى
(صحيحة) وليس في سندها إلا إبراهيم بن هاشم وهو ثقة والثانية ضعيفة بقاسم بن محمد الجوهري
(3) الوسائل - كتاب التجارة - الباب - 55 من أبواب ما يكتسب به - الأولى
(صحيحة) وليس في سندها إلا إبراهيم بن هاشم وهو ثقة والثانية ضعيفة بقاسم بن محمد الجوهري
(4) الظاهر أنه على صيغة المجهول والآمر أحد الحضار (منه)
(5) راجع الكافي - كتاب المعيشة - باب السحت والوسائل - كتاب التجارة، الباب
5 - من أبواب ما يكتسب به.
14

ثم إن الظاهر استفادة جهة أخرى من تلك الروايات غير أصيلة في البحث
عنها في المقام وهي بطلان المعاملة، لأن تحرم الثمن لا يجتمع عرفا مع الصحة و
ايجاب الوفاء بالعقود فلازمه العرفي بطلانها وإن كان الثمن بعنوانه محرما، مضافا
إلى الاجماع على البطلان، بل يستفاد ذلك من بعض الروايات الظاهرة في الإرشاد عليه
كرواية دعائم الاسلام (1) عن أبي عبد الله عليه السلام: من اكترى دابة أو سفينة فحمل
عليها المكتري خمرا أو خنازير أو ما يحرم، لم يكن على صاحب الدابة شئ وإن
تعاقدا على حمل ذلك، فالعقد فاسد، والكري على ذلك حرام: وعنه عليه السلام (2)
وما كان محرما أصله منهي عنه لم يجز بيعه ولا شرائه. وعنه عليه السلام (3) عن آبائه أن
رسول الله صلى الله عليه وآله نهى عن بيع الأحرار وعن بيع الميتة والخنزير والأصنام وعن
عسب الفحل وعن ثمن الخمر وعن بيع العذرة وقال هي ميتة.
وعن علي بن جعفر في قرب الإسناد (4) عن أخيه موسى عليه السلام قال: سألته
عن الماشية تكون للرجل فيموت بعضها يصلح له بيع جلودها ودباغها ولبسها قال:
لا، ولو لبسها فلا يصل فيها. وفي جامع البزنطي كما عن السرائر (5) عن الرضا
عليه السلام في أليات الأغنام قال: لا يأكلها ولا يبيعها. وفي مرسلة ابن أبي نجران أو ابن أبي عمير (6) عن الرضا عليه السلام قال: سألته عن نصراني أسلم وعنده خمر وخنازير و
عليه دين هل يبيع خمره وخنازيره فيقضي دينه قال: لا.
وفي رواية يونس (7) أسلم رجل وله خمر أو خنازير ثم مات وهي في ملكه
وعليه دين قال: يبيع ديانه أو ولي له غير مسلم خمره وخنازيره ويقضي دينه وليس
له أن يبيعه وهو حي ولا يمسكه) ولا يضربها لو فرض عدم العمل على الجزء الأول منها.

(1) المستدرك - كتاب التجارة - الباب 32 - 2 - 5 من أبواب ما يكتسب به
(2) المستدرك - كتاب التجارة - الباب 32 - 2 - 5 من أبواب ما يكتسب به
(3) المستدرك - كتاب التجارة - الباب 32 - 2 - 5 من أبواب ما يكتسب به
(4) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 5 - 6 - 57 - من أبواب ما يكتسب به - الأولى مجهولة بعبد الله بن حسن، والثانية صحيحة، والثالثة مرسلة، والرابعة لا يبعد حسنها
(5) تقدم آنفا تحت رقم 4.
(6) تقدم آنفا تحت رقم 4.
(7) تقدم آنفا تحت رقم 4.
15

وفي صحيحة ابن أذينة (1) قال كتبت إلي أبي عبد الله عليه السلام أسأله عن رجل له كرم
أيبيع العنب والتمر ممن يعلم أنه يجعله خمرا " أو سكرا " فقال: إنما باعه حلالا في
الأبان الذي يحل شربه أو أكله فلا بأس ببيعه. حيث تشعر بأن حلية الشرب والأكل
موجب لعدم البأس، فما كان حراما لا يحل بيعه (تأمل).
وقريب منها غيرها، والانصاف أن المناقشة في بعض ما ذكر سندا " أو دلالة لا تضر
بالوثوق على ثبوت الحكم من جميعها، فلا ينبغي التأمل في البطلان، هذا حال
الأدلة اللفظية في المقامات الثلاثة.
وأما كلمات الفقهاء من دعاوى الاجماع وغيره فمختلفة، فمنها ما تعرضت
للحكم الوضعي أو ظاهرها ذلك كعبارات الخلاف والوسيلة والغنية والتذكرة،
فالشيخ في الخلاف ادعى الاجماع على عدم جواز بيع ما كان نجسا "، وعدم جواز
بيع السرجين النجس والخمر والمني وغيرها (2) وهو ظاهر في عدم الجواز الوضعي،
ويؤيده تعبيره بعدم الجواز في كثير من الموارد التي لا تكون التجارة بعنوانها
محرمة كقوله: لا يجوز بيع العبد الآبق منفردا، وقوله لا يجوز بيع الصوف على
ظهور الغنم منفردا " (3) وقوله لا يجوز السلم في اللحوم، ولا يجوز أن يؤجل السلم
إلى الحصاد والدياس (4) إلى غير ذلك، فالجواز واللا جواز في المقامات ظاهران في
الوضعي كما مر.
وأما السيد ابن زهرة والعلامة في التذكرة فقد ذكرا في شرايط العوضين
الطهارة أو الإباحة، ففي التذكرة (5) يشترط في المعقود عليه الطهارة الأصلية
إلى أن قال: ولو باع نجس العين كالخمر والميتة والخنزير لم يصح اجماعا، ثم تمسك
بالآيتين فمورد دعوى الاجماع هو عدم الصحة. ثم قال: لا يجوز بيع السرجين النجس

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 59 - من أبواب ما يكتسب به
(2) راجع الخلاف - كتاب البيوع - مسألة 270 - 310 - 311 - 274 - 276
(3) راجع الخلاف - كتاب البيوع - مسألة 270 - 310 - 311 - 274 - 276
(4) راجع الخلاف - كتاب السلم - مسألة - 12 - 7
(5) راجع الفصل الرابع من المقصد الأول من كتاب البيع - مسألة 1 - 3
16

اجماعا منا، وبه قال مالك والشافعي وأحمد، للاجماع على نجاسته فيحرم بيعه،
إلى أن قال: ولأنه رجيع نجس فلم يصح بيعه كر جيع الآدمي. والظاهر من الحرمة:
الوضعية، ولو بالقرائن، مع أن مورد دعواه ا لاجماع، عدم الجواز الظاهر في
الوضعي، وكذا الحال في سائر كلماته، ولو بملاحظة عنوان البحث وملاحظة
استدلالاته المناسبة للبطلان، لا حرمة البيع بعنوانه، أعني الانشاء عن جد كما
لا يخفى. وقال: ابن زهرة (1) في جملة من كلامه، واشترطنا أن يكون منتفعا به
تحرزا مما لا منفعة فيه كالحشرات وغيرها، وقيدنا بكونها مباحة تحفظا من
المنافع المحرمة، ويدخل في ذلك كل نجس لا يمكن تطهيره إلا ما أخرجه الدليل،
ثم تمسك باجماع الطايفة. وأما ابن حمزة (2) فقد ذكر ما لا يجوز تملكه في شريعة
الاسلام من أقسام بيع الفاسد.
ثم إن جملة من الاجماعات المدعاة في الموارد الخاصة أيضا موردها الحكم
الوضعي، كمحكي اجماع التذكرة على عدم صحة بيع الخمر والميتة، وكذا ما
عن المنتهى والتنقيح في الميتة، واجماع الخلاف على عدم جواز بيع أشياء منها
الكلب (3) وعن المنتهى الاجماع على عدم صحة بيعه (4) وعن إجارة الخلاف الاجماع
على عدم صحة جعل جلد الميتة أجرة، وعن المبسوط: (5) لا يصح بيع الخنزير و
لا إجارته ولا الانتفاع به اجماعا.
ومنها ما تعرضت لحرمة مطلق الانتفاع أو خصوص التكسب به، بمعنى أن
ما يكتسب بالأعيان النجسة حرام كالاجماعين المحكيين عن شرح الإرشاد و
التنقيح (6) قالا في بيان حرمة بيع الأعيان النجسة: إنما يحرم بيعها لأنها

(1) راجع الغنية - كتاب البيع في شرائط صحة انعقاد البيع
(2) راجع الوسيلة كتاب البيع فصل - 20
(3) راجع كتاب البيوع مسألة - 302
(4) في النوع الأول فيما يحرم التكسب به مسألة 4 -
(5) راجع كتاب البيوع فيما يصح بيعه وما لا يصح
(6) راجع كتاب المتاجر من مفتاح الكرامة
17

محرمة الانتفاع، وكل محرم الانتفاع لا يصح بيعه، أما الصغرى فاجماعية (انتهى)
فإن أخذ الثمن من أوضح الانتفاعات بها، وأما أصل ايقاع البيع فليس انتفاعا كما
هو ظاهر. وفي المنتهى (1) جعل عنوان البحث كذلك (في ضروب الاكتساب و
فيه مباحث: البحث الأول فيما يحرم التكسب به وهو أنواع: الأول الأعيان النجسة)
(انتهى) وهو كما ترى ظاهر في أن محط البحث أمور يحرم التكسب بها، أي كسب
المال بها، ولهذا يشكل في دعاويه الاجماع على حرمة بيع الأمور المذكورة في حلال
بحثه، أن يكون مراده حرمة عنوان البيع، مع أن في استدلالاته ما ينافي ذلك
فراجع.
وعن التحرير (2) يحرم التكسب فيما عدا الكلاب الأربعة اجماعا منا
(انتهى) والظاهر أنه ليس معنى التكسب نفس المعاملة بل تعاطي الثمن في مقابل
الأعيان. وفي المراسم (3) تقسيم المكاسب على خمسة أضرب حسب الأحكام الخمسة،
ومراده المتاجر، ثم قسم المعايش، إلى ثلاثة أضرب: مباح ومحظور، ومكروه.
ولعل مراده بالمعايش مقابل المكاسب، وهو ما يكتسب وما هو معيشته بالاكتساب
وإن كانت عبارته مشوشة، ولعل ذلك هو المراد من عبارة المحقق، حيث جعل
المقسم ما يكتسب به، وقسمه إلى أقسام، لعدم صحة العبارة إلا بالحمل على أن
التقسيم لما يكتسب أي ما يتعاطى في مقابل المذكورات، فكأنه قال ثمن الأعيان
النجسة حرام، وكذا باقي الأقسام، ولا يضر كون بعض الأقسام حراما بعنوان
الثمن وبعضها بعنوان كونه مال الغير، وهذا وإن كان خلاف ظاهر قوله ما
يكتسب به، وكذا يستشكل في المكاسب المكروهة، حيث إن ذات المعاملة
مكروهة، لكن لا يبعد أن يكون لفظة (به) زائدة من قلم النساخ، وإلا فالكلام
في المكاسب المحرمة وهي جمع مكسب بمعنى ما بكسب لا ما يكتسب به. وأما

(1) في المقصد الثاني من كتاب التجارة
(2) في الفصل الأول من المقصد الأول فيما يحرم التكسب به
(3) أول كتاب المكاسب
18

في المكروهات فلعله قائل بكراهة ما يكسب فيها أيضا ككراهة أصل العمل كما
لا يبعد.
ومنها ما هي ظاهرة في الحرمة التكليفية لأصل المعاملة، أو يدعى ظهورها
فيها كعبارة نهاية شيخ الطائفة (1) وفي الإنتصار (2) ومما انفردت به الإمامية القول
بتحريم بيع الفقاع وابتياعه، إلى أن قال: وإن شئت أن تبني هذه المسألة علي
تحريمه، فنقول: قد ثبت حظر شربه، وكل ما حظر شربه حظر ابتياعه وبيعه، و
التفرقة بين الأمرين خروج عن اجماع الأمة (انتهى) وهو دعوى الاجماع في خصوص
الفقاع، لو سلم ظهوره في الحرمة التكليفية، ولا ريب في حرمة البيع والشراء في
الخمر والفقاع وكل مسكر، إنما الكلام في سائر أنواع النجاسات والمحرمات.
وعن نهاية الأحكام (3) بيع الدم وشرائه حرام اجماعا، لنجاسته وعدم
الانتفاع به، ويحتمل بملاحظة التعليل بعدم الانتفاع به أن يكون المراد بالحرمة
الوضعية منها، ويحتمل أن يكون هذا الاجماع مستنقذا من الاجماع على عدم
الانتفاع به، بتوهم أن نفس البيع والشراء من الانتفاعات. وعنه أيضا الاجماع على
تحريم بيع العذرة وشرائها، ويأتي فيه ما تقدم مع قرب احتمال الخلط بين المقامات
الثلاثة المتقدمة، فتوهم من الاجماع على عدم جواز البيع الاجماع على حرمته نفسا.
هذا مع ما تقدم من ظهور حرمة البيع في الوضعية، ولا بد في بيان الحرمة التكليفية في
نفس ايقاع المعاملة من بيان أوضح مما ذكر.
فتحصل مما مر عدم دليل معتد به معتمد في غير المسكرات على حرمة عنوان
المعاملة شرعا، إلا أن يدعى أن اعتماد الأصحاب على خبر تحف العقول، أو كفاية

(1) راجع باب المكاسب المحظورة من كتاب التجارة
(2) راجع كتاب البيع مسألة 5
(3) راجع أول كتاب المتاجر من مفتاح الكرامة
19

مطابقة فتواهم لمضمونها في جبر سندها، وفي كلتا الدعويين منع، بل لم يثبت مطابقة
فتوى المشهور لمضمونها كما ظهر مما تقدم من الاجماعات المنقولة.
بقيت فروع
الأول هل يلحق بالأعيان النجسة المايعات المتنجسة بها إذا لم تكن قابلة
للتطهير، أو مطلقا، أو لا تلحق بها مطلقا، أو تلحق في بعض الأحكام، وجوه. يمكن
أن يستشهد بالحاق كل متنجس بما تنجس به في الحكم، بمعنى أن ما تنجس بالخمر
أو سائر المسكرات يلحق بها في الأحكام الثلاثة المتقدمة، أي حرمة عنوان البيع و
حرمة ثمنه بما هو ثمنه، وبطلان المعاملة، وفي غيرها فيما له من الحكم، برواية
جابر (1) عن أبي جعفر عليه السلام (قال أتاه رجل فقال: وقعت فأرة في خابية فيها سمن
أو زيت، فما ترى في أكله، قال فقال أبو جعفر عليه السلام: لا تأكله، فقال الرجل: الفأرة
أهون على من أن أترك طعامي من أجلها، قال فقال له أبو جعفر عليه السلام: إنك لم تستخف
بالفأرة، أنا استخففت بدينك، إن الله حرم الميتة من كل شئ).
بتقريب أن التمسك بالكبرى مع عدم انطباقها على المورد المسؤول عنه وهو
الطعام، لا يتم إلا بتنزيل المتنجس بالميتة منزلتها، فيظهر منه أن المتنجس بالميتة
ميتة حكما، فيتعدى إلى غيرها بإلغاء الخصوصية، أو عدم القول بالفصل، وفيه ما
لا يخفى، فإن الظاهر أنه لم يتمسك بالكبرى لاثبات حرمة الزيت والسمن، بل بعد
بيان حرمتهما بقوله: لا تأكله لما قال الرجل ما قال، أراد بيان أن الميتة من الفأرة
وغيرها حرام بحكم الله تعالى، والاستخفاف إنما هو بحكمه تعالى لا بها، مع احتمال
تفسخ الفأرة وإرادة الرجل أكل الزيت بما فيه تأمل مضافا إلى عدم دلالة الرواية بوجه
على إرادة التنزيل، فإن إرادته من تلك العبارة في غاية البعد، بل لا تخلو من استهجان،
فضلا عن استفادة عموم التنزيل، وعن اسراء الحكم إلى سائر المتنجسات كل
بحسبه، فيقال باسراء حكم كل نجس إلى ما تنجس به.

(1) الوسائل - كتاب الطهارة - الباب 5 - من أبواب الماء المضاف، ضعيفة بعمرو بن شمر
20

ويتلوه في الضعف التشبث بقوله نجسه أو ينجسه في المتنجسات، كالمفهوم من
قوله: إذا بلغ الماء قدر كر لا ينجسه شئ (1) وقوله: في النبيذ ما يبل الميل ينجس
حبا من ماء (2) بتقريب أن قوله ينجسه الشئ الفلاني أي يجعله نجسا، وبعد عدم
صيرورته نجسا عينا بحسب الواقع، لا محالة ينزل على التنزيل، ومقتضى اطلاق
التنزيل ثبوت مطلق حكم كل نجس له، فإذا تنجس بالخمر ينزل منزلتها، و
تثبت له أحكامها وهكذا. وفيه مضافا إلى أن الظاهر أن مقابلة النجس والمتنجس
من اصطلاح الفقهاء، ولا يبعد القول بأن المتنجس نجس كسائر النجاسات تأمل،
إنه بعد تسليم التنزيل لا يكون ذلك إلا في النجاسة لا في حيثيات أخر، وغايته
لزوم غسل ما تنجس بملاقي كل نجس بنحو ما تنجس به، فيكون ملاقي الولوغ
كالولوغ في نجاسته، وملاقي الخمر كالخمر فيها وهكذا لا في سائر الآثار. وبعبارة
أخرى، فرق بين تنزيل شئ منزلة الخمر. كما ورد في الفقاع أنه خمر، وبين
تنزيله منزلتها في النجاسة، كما يقال: إن الشئ الفلاني نجس كالخمر أو أن
الخمر صيرتها نجسا نحو نجاستها. هذا مضافا إلى أن استفادة التنزيل من تلك
الروايات مشكلة، بل ممنوعة مطلقا، حتى في النجاسة فضلا عن سائر الآثار كما
لا يخفى، فلا دليل على كون كل متنجس بحكم ما تنجس به مطلقا. كما لا دليل على
حرمة عنوان التجارة كالبيع وغيره في المايعات المتنجسة الغير القابلة للتطهير
كالدبس والسمن فضلا عما تقبله، عدا رواية تحف العقول والرضوي على اشكال
في الثانية. وهما غير صالحتين لاثبات حكم لضعفهما، بل عدم احراز كون الثانية
رواية، لقرب احتمال كونه كتاب فتوى لفقيه جمع بين الروايات، إلا فيما نسبه إلى
المعصوم، فيكون مرسلة غير معتمدة. وعدي ما عن الجعفريات عن علي بن أبي طالب
صلوات الله عليه (3) قال (بايع الخبيثات ومشتريها في الإثم سواء). وفيه ما مر من

(1) ما وجدته في كتب الأحاديث بلفظة (بلغ) ولكنه موجود بلفظة (كان) محل (بلغ) فراجع
(2) الوسائل كتاب الطهارة الباب 38 - من أبواب النجاسات
(3) المستدرك - كتاب التجارة - الباب 1 - من أبواب ما يكتسب به
21

الاشكال في دلالته، لكونه في مقام بيان الحكم بالتسوية، فلا يستفاد منه أن الإثم
لنفس البيع والشراء، مضافا إلى أن في سنده اشكالا بجهالة بعض رواته.
وأما اجماعات الغنية والمنتهى والمسالك فليس شئ منها على هذا العنوان،
أي حرمة البيع كما يأتي، كما أنه ليس دليل على أن ثمن المتنجس المايع سحت،
إلا النبوي المتقدم من طرق العامة، إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه، وفيه مضافا
إلى ضعف السند، امكان الخدشة في الدلالة، بدعوى انصرافه إلى المحرمات
الأصلية، لا ما صار حراما بتبع الغير، ولو نوقش فيه وقيل باطلاقه فلا دافع
لضعفه.
وقد يتوهم جبر سنده باستناد الشيخ وابن زهرة والحلي والعلامة وغيرهم به،
وفيه أن بناء شيخ الطائفة وابن زهرة بل والعلامة كالسيد المرتضى في ايراد الروايات
التي من طرق العامة على إلزام فقهائهم، لا على الاستناد بها في الفتوى، كما
لا يخفى على الناظر في تلك الكتب، ولهذا ترى أن الشيخ استند في عدم جواز
بيع الخمر باجماع الفرقة (1) ثم أورد روايات من العامة عليه، ولم يستند بواحد
من روايات أصحابنا مع كثرتها، وأن ابن زهرة (2) بعد الاستدلال على اشتراط كون
المنفعة مباحة بالاجماع، قال ويحتج على من قال من المخالفين بجواز بيع الكلاب
مطلقا، وبيع سرقين ما لا يؤكل لحمه، وبيع الخمر بوكالة الذمي على بيعها، بما
رواه من قوله صلى الله عليه وآله: إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه (انتهى)
والغفلة عن هذه الدقيقة أو جبت توهم جبر سند بعض الأخبار التي ليست
من طرقنا، مع أن الجابر هو الاستناد في الفتوى، بحيث يحرزان الفتوى الكذائية
من المشهور مستندة إلى رواية كذائية، وهذا غير ثابت بذكر الرواية في تلك
الكتب المعدة لبيان الاستدلال على مذهب الإمامية، والرد على مخالفيهم، ككتاب
الإنتصار والناصريات، وكتاب مسائل الخلاف، وكتاب المنتهى والتذكرة، و

(1) راجع الخلاف كتاب البيوع مسألة - 311
(2) راجع الغنية أول كتاب البيع
22

قد اقتفى ابن زهرة أثر علم الهدى في غنيته كثيرا، بل يشعر أو يدل كلامه المتقدم
على عدم اعتبار الرواية المتقدمة عند أصحابنا، وإنما احتج بها إلزاما عليهم،
وليس عندي كتاب السرائر مع الأسف، وكيف كان لا يمكن الاستناد بمثل النبوي
في الحكم، كما لم يستندوا عليه أصحابنا المتقدمون، اعتمادا وفتوى. وإلا
النبوي المتقدم عن عوالي اللئالي (إن الله إذا حرم على قوم أكل شئ حرم عليهم ثمنه)
وسنده أوهن من سابقه، مع أنه في المأكول، والغاء الخصوصية منه واسراء الحكم
إلى المشروب المحرم أصلا وتبعا محل تأمل، ومر حال رواية التحف والرضوي
والغاء الخصوصية من الروايات الكثيرة الواردة في نجاسات ومحرمات خاصة بأن
ثمنها سحت مشكل بالنسبة إلى المتنجسات، لاحتمال أن تكون لأعيان النجاسات
خصوصية توجب غلظة في الحكم لا تكون في المتنجس بها.
والاستدلال على المطلوب بما وردت في العصير غير وجيه، وأوهن منه الاستدلال
بروايات أمر فيها بإهراق الماء والمرق المتنجسين (1) فإن الاستدلال بها لبطلان
المعاملة بها محل اشكال، فضلا عن الاستدلال لحرمة البيع أو حرمة الثمن، لأن
الانتفاع بصاع من الماء ليس إلا للتوضي أو الشرب عادة، وهما غير جائزين بالماء
النجس أو المشتبه به، وليس لها نفع آخر، ولعل الأمر بالإراقة كناية عن عدم
نفع له، وكذا المرق لا نفع له إلا الأكل الممنوع منه، فلا تدل تلك الروايات على
إلغاء مالية الملاقي للنجس، وإن كان الاحتياط حسنا، بل ينبغي تركه وأما بطلان
المعاملة به فالظاهر تسلمه لدى الأصحاب في الجملة، كما هو مقتضى دعوى اجماع
الغنية والمنتهى،
قال في الأول (2) وقيدنا بكونها مباحة، تحفظا من المنافع المحرمة، و
يدخل في ذلك كل نجس لا يمكن تطهيره، إلا ما أخرجه الدليل من بيع الكلب
المعلم للصيد، والزيت النجس للاستصباح به تحت السماء، وهو اجماع الطائفة،

(1) الوسائل - كتاب الطهارة - الباب 8 - من أبواب الماء المطلق
(2) أول كتاب البيع
23

ثم استدل على المخالف في بعض الفروع بالنبوي المتقدم. ودعوى الاجماع بملاحظة
ذيل العبارة وصدرها تعم المتنجس، والظاهر دعواه على البطلان إلا أن يقال:
إن الظاهر من العبارة أن الاجماع هو الدليل المخرج للكلب وتاليه، لا على الكلية
المتقدمة (تأمل).
وقال: في الثاني (1) بعد تقسيم المتنجسات بالجامد والمايع، والثاني أن يكون
مايعا، فحينئذ أما أن لا يطهر كالخل والدبس فهذا لا يجوز بيعه اجماعا، لأنه نجس
لا يمكن غسله، ولا يطهر بالغسل فلا يجوز بيعه كالخمر (انتهى) وهذا التقسيم وإن كان
في ذيل البحث عما يحرم التكسب به، لكن ظاهر كلامه دعوى الاجماع على الحكم
الوضعي، ولعله استفاد حرمة التكسب به، من الحكم الوضعي، ولو كانت الحرمة
لا جعل عدم انتقال المال إلى البايع، فيكون مراده من حرمة التكسب أعم مما حرم
بعنوان التكسب أو بعنوان التصرف في مال الغير. وكيف كان أن ظاهره الاجماع
على بطلان المعاملة، لا حرمة الثمن بعنوانه.
ويمكن التشبث للبطلان بنقل الخلاف الاجماع كرارا، على أن ما كان نجسا
لا يجوز بيعه في بيع القرد والسرجين النجس والمني على اشكال، وحكى عدم جواز
بيع ما لا يقبل التطهير عن جملة من كتب القدماء والمتأخرين. والانصاف أن بطلانها
في الجملة مفروغ عنه لدى الأصحاب، فلا ينبغي الخدشة فيه.
الثاني يمكن بحسب التصور أن يكون موضوع الحكمين المتقدمين (في غير
المسكرات والأحكام الثلاثة فيها) ما كان محرم الانتفاع من جميع الجهات، بحيث
لو كان فيه جهة حلية لم تترتب عليه الأحكام أو بعضها، أو يكون الموضوع ما كان
محرم الانتفاع ولو بجهة من الجهات، ولو كان محلل الانتفاع بجهات أخر، فيكون
جلد الميتة مثلا موضوع الحكمين، أي البطلان وحرمة الثمن، ولو جاز الاستقاء به
للبساتين، وبيع لأجله بمجرد كونه محرم اللبس مثلا، أو يكون الموضوع ما كان
فيه جهة حرمة إذا اتجر به لأجلها، دون ما كان فيه جهة حلية واتجر به لا جذبها

(1) في القسم الثاني من قسمي النجس فيما يحرم التكسب به
24

فالعناوين المشتملة على جهتين يكون حكم الاتجار والتكسب بها تابعا لوقوعهما
لتلك الجهة، فالعصير المغلى يحل بيعه للتخليل، ولا يحل للتخمير أو الشرب
ثم على هذا الاحتمال يمكن أن يكون شرط الحرمة الاتجار لأجل جهة الفساد
فمع عدم قصد جهة من الجهات يكون محللا، أو يكون شرط الحلية قصد جهة الصلاح
فلا يحل إلا معه، ويكون الاتجار به على نحو الاطلاق وبلا قصد جهة محرما، (وهنا
احتمالات أخر) كاحتمال أن يكون المحرم بيعه لمن يعلم أنه يستعمله في الحرام،
والمحلل بيعه لمن يعلم أنه يستعمله في المحلل، إلى غير ذلك. فالأولى صرف الكلام
إلى مفاد الروايات، ليتضح مقدار دلالتها في العناوين النجسة، ثم البحث عن مستثنياتها
على فرض عموم فيها.
فنقول المستفاد من فقرات من رواية تحف العقول هو الاحتمال الثالث: قال
وأما تفسير التجارات في جميع البيوع، ووجوه الحلال من وجه التجارات التي يجوز
للبايع أن يبيع مما لا يجوز له، وكذلك المشتري الذي يجوز له شرائه مما لا يجوز،
فكل مأمور به مما هو غذاء للعباد وقوامهم به في أمورهم، ووجوه الصلاح الذي لا
يقيمهم غيره، مما يأكلون ويشربون إلى أن قال: وكل شئ يكون لهم فيه الصلاح
من جهة من الجهات، فهذا كله حلال بيعه وشرائه وامساكه واستعماله وهبته وعاريته
وأما وجوه الحرام من البيع فكل أمر يكون فيه الفساد مما هو منهي عنه من جهة
أكله، إلى أن قال: أو شئ يكون فيه وجه من وجوه الفساد، نظير البيع بالربا، أو
بيع الميتة، إلى أن قال: فهذا كله حرام محرم، لأن ذلك كله منهي عن أكله وشربه
ولبسه وملكه وامساكه والتقلب فيه بوجه من الوجوه، لما فيه من الفساد، فجميع
تقلبه في ذلك حرام (الخ)
فإن مقتضى اطلاق صدرها أن كل شئ يكون فيه وجه من وجوه الصلاح جاز
الاتجار والتكسب به مطلقا وإن كان فيه وجه أو وجوه من الفساد، ومقتضى اطلاق
ذيلها مع قطع النظر عن الصدر، وعن جهة تأتي الإشارة إليها، أن كل ما فيه جهة من
جهات الفساد يحرم الاتجار به، ومقتضى الجمع بينهما عرفا، أن ما فيه جهة صلاح
25

وفساد، إذا كان التقلب لأجل الصلاح يكون حلالا، وأن كان بجهة الفساد يكون
حراما، بل مقتضى مناسبة الحكم والموضوع وفهم العرف والعقلاء من الرواية، من أن جهة الفساد أوجبت حرمة المعاملة لأجل ترتب الفساد عليها، أن التقلبات بهذه
الجهة محرمة، فلا اشكال في استفادة ذلك عرفا، مضافا إلى ظهور قوله: فجميع تقلبه
في ذلك حرام. في أن تقلب هذا الشئ في ذلك الوجه الحرام حرام.
واحتمال أن يكون المراد: أن تقلب الانسان في ذلك الشئ المشتمل على
الفساد حرام. بعيد مخالف للظاهر، سيما مع ما مر من مناسبة الحكم والموضوع، و
مقابلة الصدر والذيل، مضافا إلى ظهور بعض فقراتها الأخر، مثل ما ذكر في تفسير
الإجارات في ذلك أيضا، فلو كانت الرواية معتمدة، صارت موجبة للتصرف في سائر
روايات الأبواب، لحكومتها عليها لو فرض لها اطلاق، ونحوها رواية فقه الرضا عليه السلام
والدعائم، فإن مقتضى الجمع العقلائي بين صدرهما وذيلهما، والمناسبة بين الحكم
والموضوع، أن الحلية والحرمة تابعتان للاستعمال في جهة الصلاح والفساد، على
نحو ما تقدم في رواية التحف.
نعم يمكن استفادة عدم الجواز، فيما إذا علم أنه يستعمله في جهة
الفساد، من رواية التحف وما يتلوها أيضا: هذا حال العمومات في الباب: وأما
غيرها فالروايات الواردة في الخمر على طائفتين، إحديهما المستفيضة المشتملة
على لعن رسول الله صلى الله عليه وآله الخمر، وغارسها وحارسها إلى غير ذلك،
كرواية جابر (1) عن أبي جعفر عليه السلام قال (لعن رسول الله صلى الله عليه وآله في الخمر عشرة:
غارسها وحارسها وعاصرها وشاربها وساقيها وحاملها والمحمولة إليه وبايعها ومشتريها
وآكل ثمنها) وقريب منها غيرها من الروايات الكثيرة من الفريقين (2)

(1) الوسائل كتاب التجارة الباب 55 من أبواب ما يكتسب به ضعيفة
بعمرو بن شمر
(2) الوسائل والمستدرك كتاب التجارة الباب 55 - 47 من أبواب ما يكتسب به
26

وهذه الطائفة قاصرة عن اثبات الحرمة لمطلق بيع الخمر، كما لو باع للتخليل لو
فرض امكانه، أو باع للتداوي، إن قلنا بجوازه في مورد الاضطرار: لا لأدلة رفع ما
اضطر وإليه، بل لقصور الروايات عن اثبات الحكم لغير البيع والشراء المتداولين
في سوق الفساق.
فلو فرض أن العصير المغلي بنفسه صار خمرا، ثم صار خلا، فعصره عاصر للتخليل
فهل يمكن أن يقال: إنه ملعون بلسان رسول الله صلى الله عليه وآله، لأنه عصر ما يصير خمرا
ولو صار خلا بعده، وكان عصره للخل، لا أظن بأحد احتماله، وذلك لأن الظاهر
المستفاد من تلك الروايات، أن الشرب المعمول به، وكل ما هو من مقدماته أو
مربوط به حرام، لا لحرمة المقدمة، فإنها ليست بحرام جزما، بل لجعل الحرمة
عليها سياسة لقلع الفساد.
وكيف كان لا شبهة في عدم دلالة تلك الطائفة على حرمة المعاملة، ولا
الثمن ولا بطلانها في غير ما قلناه والطائفة الأخرى ما دلت على حرمة ثمنها:
كصحيحة محمد بن مسلم (1) عن أبي عبد الله عليه السلام (في رجل ترك غلاما له في كرم له
يبيعه عنبا أو عصيرا، فانطلق الغلام فعصر خمرا ثم باعه، قال: لا يصح ثمنه. ثم
قال: إن رجلا من ثقيف أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله راويتين من خمر، فأمر بهما
رسول الله صلى الله عليه وآله فأهريقتا، وقال: إن الذي حرم شربها حرم ثمنها (الخ) وقريب منها
غيرها، وهذه الطائفة أيضا قاصرة عن اثبات الحكم بنحو الاطلاق، لأن المتعارف في بيع
الخمر (بحيث كان غيره نادرا جدا سيما في تلك الأزمنة) هو البيع للشرب الحرام
وأما التخليل فالظاهر عدم انقلاب الخمر خلا، وما وردت في بعض الروايات من
تخليلها بالعلاج (2) لعلها التي كانت في حال الغليان، واختمرت في الجملة، دون
ما صارت خمرا، ولهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وآله بإهراقها، واهراق جميع ما في المدينة
من الخمر،

(1) الوسائل كتاب التجارة الباب 55 من أبواب ما يكتسب به
(2) الوسائل والمستدرك كتاب الطهارة الباب 77 - 48 من أبواب
النجاسات والأواني
27

(على ما في بعض الروايات (1) فلو كان انقلابها إلى الخل ممكنا، لكان من البعيد
الأمر بإهراقها. ولهذا لا يجوز إراقة العصير المغلي بنفسه أو النار، ولو أحرز كونهما
خمرا، إذا أراد صاحبه أن يعمل به خلا أو دبسا.
نعم لا يمكن حمل ما دلت على جعل الخمر العتيقة خلا على ما ذكرناه (2) فلا بد
من تأويل آخر فيها، لو ثبت عدم امكان جعلها خلا بالعلاج، ولو فرض امكانه لكن
لا شبهة في عدم تعارفه، وعدم كونه من المنافع المطلوبة لها، ولعل الأمر بإراقتها
(بعد فرض امكان التخليل) كان من الأحكام السياسية لقلع مادة الفساد، وقطع
عذر الشاربين للخمر، حيث يمكن لهم الاعتذار باتخاذها للتخمير، وكيف كان
فلا شبهة في أن المنفعة المتعارفة لها الشرب، والأدلة منصرفة عن غيره، والتداوي
بها (لو جوزناه في بعض الموارد النادرة) ليس بحيث يدفع الانصراف أو يمنع عن الإراقة.
وبالجملة أن صاحب الرواية (في الرواية المتقدمة) إنما أهدى الخمر
لرسول الله صلى الله عليه وآله لكونها من أحب الأشياء عندهم وقوله: إن الذي حرم شربها حرم
ثمنها، لا يستفاد منه إلا الثمن في بيع الخمر، حسب تعارفه عندهم، وكان صاحب الراوية
يريد بيعها كذلك، لا المورد النادر الذي يجب أو يجوز شربها، فلو فرض في مورد
صار العصير في غليانه خمرا يمكن تخليلها فبيعت لذلك، لا تدل مثل تلك الروايات على
منعه كما لا يخفى ونحوها ما دلت على أن ثمن الخمر سحت، من الروايات المستفيضة
(3) فإن الظاهر منها أن التكسب بها في التجارة المتعارفة كذلك.
وإن شئت قلت: إن الأدلة منصرفة إلى ما هو المعهود الشايع، والنادر بهذه
المثابة منسي عن الأذهان، سيما مع المناسبات المغروسة فيها: هذا حال ما يمكن
أو يتوهم استفادة حرمة أصل المعاملة بعنوانها منها: وأما ما دلت على حرمة الثمن
أو بطلان المعاملة، فمضافا إلى بعض ما مر، النبوي المتقدم: أن الله إذا حرم شيئا
حرم ثمنه: وفيما احتمالات:
منها أن يراد به أن التحريم إذا تعلق بذات شئ، بأن يقال: حرمت عليكم

(1) راجع الوسائل كتاب الأشربة الباب 1 من أبواب الأشربة المحرمة
(2) راجع الوسائل كتاب الطهارة الباب 77 من أبواب النجاسات والأواني
(3) راجع الوسائل كتاب التجارة الباب 5 من أبواب ما يكتسب به
28

الميتة مثلا حرم ثمنه، لأن تحريم الذات تحريم جميع منافعها، ومنها الثمن فيكون
بيانا لحدود ما شرع الله تعالى، لا لأصل التشريع.
أو يراد الأخبار بالملازمة بين ما إذا تعلق الحرمة بذات شئ وبين حرمة
ثمنه، إما لأن حرمة ذات شئ حرمة جميع الانتفاعات منها، بلا وسط كالشرب والأكل
وهكذا، وهي ملازمة لحرمة ثمنه، لأجل اسقاط ماليته فلا يجوز معاملته، أو لحرمة ثمنه
بما هو ثمنه نظير ما مر، وأما لأن حرمة ذاته بحرمة الانتفاعات المقصودة منه، ومع
سلبها لا يصح بيعه لأنه مسلوب المنفعة عرفا بهذا اللحاظ وفي محيط القانون فيكون
ثمنه حراما لعدم وقوع المعاملة، أو مع سلبها يحرم ثمنه بحكم الشرع، وبعنوان
كونه ثمنه نظير ما تقدم.
أو يرادان الله إذا حرم شيئا في الجملة بأي نحو، سواء تعلقت الحرمة بذاته،
أو نهى عن شربه، أو أكله، أو لبسه، أو غير ذلك، حرم ثمنه، لاسقاط ماليته شرعا، أو
لتحريم ثمنه بما هو.
أو يراد أنه إذا حرمت منافعه المقصودة، سواء حرمها بتعليق الحكم على ذاته
أو على تلك المنفعة المقصودة حرم ثمنه. ولعل الأظهر من بينها هو ما قبل الأخير،
لاقتضاء الاطلاق، وللتفاهم العرفي، واحتمال أن يكون نظره في ذلك إلى ما تعلق التحريم
بذات الشئ: فبعيد جدا على جميع احتمالاته سيما الأول، ويؤيد الاحتمال المذكور
النبوي المتقدم عن عوالي اللئالي: (إن الله إذا حرم على قوم أكل شئ حرم عليهم
ثمنه) وصحيحة محمد بن مسلم (1) عن أبي عبد الله عليه السلام المتقدمة، وفيها أن الذي حرم
شربها حرم ثمنها. وتؤيده أيضا الروايات الواردة في موارد كثيرة على تحريم الثمن،
مع عدم تحريم جميع المنافع، سنشير إلى جملة منها.
ثم إن مقتضى اطلاق النبوي وإن كان حرمة ثمن ما حرم، سواء بيع لاستفادة
المنفعة المحرمة أو المحللة، وسواء بيع لمن يستفيد منه المحرم أو لا. لكن لا يبعد
دعوى دلالتها على التحريم في القسم الأول من الشقين، لمناسبة الحكم والموضوع،

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب - 55 من أبواب ما يكتسب به
29

والوثوق بأن التحريم إنما هو للفساد المترتب عليه، فلا يشمل ما إذا بيع لصلاح حال
الناس، وللجهة المحللة، سيما مع ما تقدم من دلالة رواية تحف العقول والرضوي
والدعائم على ذلك وسيما مع ما ورد في الموارد العديدة من تجويز بيع المحرم لاستفادة
المحلل، والغرض العقلائي المباح كروايات وردت في تجويز بيع الكلب الصيود (1)،
ورواية أبي القاسم الصيقل الدالة على جواز بيع غلاف السيوف من جلود الميتة (2)،
وما وردت في تجويز بيع الزيت المتنجس، للاستصباح تحت السماء، وممن يعمل
صابونا (3)، وما دلت على جواز بيع المغنية، إذا كان الاشتراء لتذكر الجنة لا
للتغني (4) وما دلت على جواز عمل الحبائل وغيرها بشعر الخنزير (5) الظاهر
منها جواز بيعها، ضرورة أن عملها إنما هو للمعيشة والتكسب، كما يظهر من
الروايات، وما وردت في جواز بيع العجين من الماء النجس ممن يستحل الميتة (6)
(تأمل) بل بعض الروايات في الخمر شاهد أيضا.
كصحيحة جميل (7) قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام (يكون لي على الرجل الدراهم
فيعطيني خمرا، فقال: خذها ثم أفسدها، قال علي: واجعلها خلا) ويحتمل أن يكون
المراد بعلي أمير المؤمنين صلوات الله عليه، واستشهد أبو عبد الله عليه السلام بقوله، ويحتمل
أن يكون المراد علي بن الحديد، أحد رواة السند، نقل عنه بعض الرواة المتأخر منه
تفسيره للافساد.
والظاهر منها جواز أخذها في مقابل الدين، ووقوعها عوضه إذا أخذها للتخليل
وعن عبيد بن زرارة في الموثق (8) قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يأخذ

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 14 - من أبواب ما يكتسب به
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 38 - من أبواب ما يكتسب به
(3) الوسائل - كتاب التجارة الباب - 6 - 16 - 58 - 7 من أبواب ما يكتسب به
(4) الوسائل - كتاب التجارة الباب - 6 - 16 - 58 - 7 من أبواب ما يكتسب به
(5) الوسائل - كتاب التجارة الباب - 6 - 16 - 58 - 7 من أبواب ما يكتسب به
(6) الوسائل - كتاب التجارة الباب - 6 - 16 - 58 - 7 من أبواب ما يكتسب به
(7) الوسائل - كتاب الأطعمة والأشربة - الباب 31 - من أبواب الأشربة المحرمة
(8) الوسائل - كتاب الطهارة - الباب 77 - من أبواب النجاسات
30

الخمر فيجعلها خلا، قال: لا بأس. والظاهر منه الأخذ من الغير لعدم تعارف جعل العصير خمرا ثم خلا، وليس المراد من الخمر العصير المغلي جزما، ومقتضى اطلاقه جواز
الأخذ ولو بشراء (تأمل) بل الظاهر من ذيل صحيحة أبي بصير (1) أن الحكم بحرمة
التقلب في الخمر، لأجل إرادة الفساد، وفيها قلت: إني عالجتها وطينت رأسها
ثم كشفت عنها، فنظرت إليها قبل الوقت، فوجدتها خمرا، أيحل لي امساكها
قال: لا بأس بذلك، إنما إرادتك أن يتحول الخمر خلا، ليس إرادتك الفساد. والانصاف
أن الناظر فيما تقدم، يستظهر من قوله: إذا حرم الله (الخ) إن تحريم الثمن فيما إذا
بيع في مورد الفساد لا مطلقا، ولا أقل من قصوره عن الاطلاق.
ثم لا يبعد أن تكون كلمات الفقهاء أو جملة منها أيضا موافقة لما ذكرناه.
قال في الخلاف (2) (في جملة من أدلته على جواز بيع الزيت النجس ممن
يستصبح به تحت السماء) وروى أبو علي بن أبي هريرة في الافصاح، أن النبي صلى الله عليه وآله
أذن في الاستصباح بالزيت النجس وهذا يدل على جواز بيعه، وأن لغيره لا يجوز
إذا قلنا بدليل الخطاب. وقد جعل ابن زهرة (3) إباحة المنفعة من شرايط العوض
تحفظا من المنافع المحرمة، وأدخل كل نجس لا يمكن تطهيره فيها، فيظهر منه
دوران الصحة والفساد مدار جواز الانتفاع وعدمه.
وقد استدل العلامة في المنتهى غير مرة، على جواز البيع والإجارة، بجواز
الانتفاع بالشئ. قال: يجوز إجارة الكلب، وهو قول بعض الشافعية، وقال بعضهم:
لا يجوز. لنا أنها منفعة مباحة، فجازت المعاوضة عنها (4) وقريب منه في التذكرة
وقال: (في ما ليس بنجس من العذرات) أنها طاهرة ينتفع بها فجاز بيعها (تأمل)
واستدل على صحة بيع الكلب بصحة الانتفاع به في المنتهى والتذكرة. وقال في

(1) الوسائل كتاب الأطعمة والأشربة - الباب 31 - من أبواب الأشربة المحرمة
(2) كتاب البيوع مسألة - 312
(3) راجع الغنية أول كتاب البيع في شرائط صحة البيع
(4) في النوع الأول فيما يحرم التكسب به
31

التذكرة (1) إن سوغنا بيع كلب الصيد صح بيع كلب الماشية والزرع والحائط، لأن
المقتضي وهو النفع حاصل، واستدل على عدم جواز إجارة الخنزير وبيعه، بأن
لا منفعة فيه.
وقال: (2) يجوز بيع كل ما فيه منفعة، لأن الملك سبب لاطلاق التصرف،
والمنفعة المباحة كما يجوز استيفائها يجوز أخذ العوض عنها، فيباح لغيره بذل مال
فيها. إلى غير ذلك من كلماته. وقد مر عن شرح الإرشاد للفخر، والتنقيح للمقداد،
(في الأعيان النجسة) إنما يحرم بيعها لأنها محرمة الانتفاع، وكل محرم الانتفاع
لا يصح بيعه. هذا مع أن تحصيل الاجماع أو الشهرة المعتمدة في مثل هذا المسألة
التي تراكمت فيها الأدلة، وللاجتهاد فيها قدم راسخ: غير ممكن، سيما مع تمسك
جملة من الأعيان بالأدلة اللفظية هذا حال الكبرى الكلية، ولا بد في الاستنتاج من
البحث الكلي عن صغريها، ثم البحث عن جزئيات المسائل.
فنقول: لا شبهة في أن الأصل الأولى (كأصالتي الحل والإباحة، وعموم خلق
ما في الأرض جميعا لنا) جواز الانتفاع بكل شئ، من كل وجه، إلا ما قام الدليل على
التحريم، وقد ادعى الأصل الثانوي على حرمة الانتفاع بالأعيان النجسة وبالمتنجسات
مستدلا بالكتاب والسنة والاجماع.
فمن الأول قوله تعالى (3) إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل
الشيطان فاجتنبوه، بدعوى رجوع الضمير إلى الرجس، وأن وجوب الاجتناب عن
المذكورات لانسلاكها فيه، أما حقيقة كالخمر، أو ادعاء كغيرها، وأن الرجس
هو النجس المعهود، ووجوب الاجتناب عن الشئ يقتضي عدم الانتفاع بشئ منه،
وإلا لم يناسب التعبير بالاجتناب والتباعد عنه، فتدل على حرمة الانتفاع مطلقا
عن كل رجس ونجس.

(1) كتاب البيع - مسألة - 2
(2) راجع التذكرة - كتاب البيع - مسألة 5
(3) سورة المائدة - الآية 92
32

وفيه أو لا ممنوعية رجوع الضمير إلى الرجس، إذ من المحتمل رجوع إلي
عمل الشيطان، بل لعله الأنسب في مقام التأكيد عن لزوم التجنب عن المذكورات
ولو سلم رجوعه إليه، لا يسلم الرجوع إليه مطلقا، بل مع قيد كونه من عمل الشيطان،
وإلا فلو كانت علة وجوب الاجتناب كون الشئ رجسا لم يكن ذكر عمل الشيطان
مناسبا. والرجوع إلى كل منهما مستقلا لو فرض امكانه خلاف الظاهر، فيمكن
أن يقال (بعد رجوع الضمير إلى الرجس الذي من عمل الشيطان): إن الرجس على
نوعين، ما هو من عمله يجب الاجتناب عنه، وما ليس كذلك لا يجب، فتدل أو تشعر
على جواز الانتفاع في الجملة بالنجاسات.
وثانيا أن الظاهر منها ولو بمناسبة قوله من عمل الشيطان، وبقرينة قوله
متصلا به: إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر
ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة إن شرب الخمر والمقامرة وعبادة الأوثان رجس
من عمله، لا بنحو المجاز في الحذف، بل بادعاء أن لا خاصية للخمر إلا شربها، و
لا للميسر إلا اللعب، إذا كان المراد به آلاته، وأما إن كان المراد اللعب بالآلة فلا
دعوى فيه، ويكون قرينة على أن المراد بالخمر أيضا شربه، وبالأنصاب عبادتها،
بنحو ما مر من الدعوى، فإن ايقاع العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة، إنما هو
بشرب الخمر والمقامرة، وامساكها للتخليل ليس من عمل الشيطان، ولا آلة له
لايقاع العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله، هذا مع أن في كون الرجس بمعنى النجس
المعهود اشكالا، فإنه (على ما في كتب اللغة) جاء بمعان، منها العمل القبيح، فدار
الأمر بين حمله على الرجس بمعنى القذر المعهود، وارتكاب التجوز في الآية زائدا على
الدعوى المتقدمة، أو حمله على القبيح وحفظ ظهورها من هذه الحيثية، والثاني
أولى. مع أن في تنزيل عبادة الأوثان (التي هي كفر بالله العظيم) منزلة القذارة
، أو تنزيل نفسها منزلتها (أي منزلة القذارة الصورية في وجوب الاجتناب) ما
لا يخفى من الوهن، فإنه من تنزيل العظيم منزلة الحقير في مورد يقتضي التعظيم (تأمل)
ومنه آية تحريم الخبائث، بتقريب أن النجاسات والمتنجسات من الخبيثات
33

وأن الحرمة إذا تعلقت بذات الشئ تفيد حرمة مطلق الانتفاعات، لأن التعلق
بها مبني على الدعوى، وهي أنسب لها. ويظهر النظر فيه بعد ذكر الآية
الكريمة قال تعالى (1) فسأكتبها (أي الرحمة) للذين يتقون و
يؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي
الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن
المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث (الخ)
فإن مبنى الاستدلال على دعوى تعلق الحرمة على عنوان الخبيثات، وأنت
خبير بأن الآية ليست بصدد بيان تحريم الخبائث، بل بصدد الأخبار عن أوصاف
النبي صلى الله عليه وآله بأنه يأمرهم بالمعروف (الخ). وليس المراد أن النبي صلى الله عليه وآله يحرم عنوان
الخبائث أو ذاتها، ويحل عنوان الطيبات أو ذاتها، بل بصدد بيان أنه يحل كل
ما كان طيبا، ويحرم كل ما كان خبيثا بالحمل الشايع، ولو بالنهي عن أكله وشربه،
فإذا نهى عن شرب الخمر، وأكل الميتة، ولحم الخنزير، وهكذا، يصدق أنه
حرم الخبائث، فلا دلالة للآية على تحريم عنوان الخبائث، وهو ظاهر. ومن ذلك
يظهر أن الاستدلال بمفهوم قوله تعالى (2) يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم
الطيبات، ليس على ما ينبغي، فإن المراد من حلية الطيبات حلية ما كان طيبا بالحمل
الشايع، لا أن الحلية متعلقة بعنوان الطيب أو ذاته.
وإن شئت قلت: إن هذا جمع للتعبير عما هو حلال، لا أن الحلال في الشريعة
شئ واحد: هو عنوان الطيب، والحرام شئ واحد: هو عنوان الخبيث المقابل له.
هذا، مضافا إلى أن الظاهر بقرينة صدرها وذيلها حلية الأكل، كما تأتي الإشارة
إليه. مع أن المفهوم (علي فرضه) لم يحل لكم غير الطيبات، لا حرم عليكم الخبائث
فلا ينتج لما نحن بصدده، مضافا إلى امكان انكار المفهوم، ولو كان بصدد التحديد.
ومنه قوله تعالى: والرجز فاهجر، بنحو ما تقدم من التقريب، وفيه أنه لم يتضح

(1) سورة الأعراف الآية 155 - 156.
(2) سورة المائدة الآية 6
34

أن المراد بالرجز الرجس، فإنه بمعان، منها عبادة الأوثان، وفي المجمع أنه
بالضم اسم صنم فيما زعموا، وقال قتادة: هما صنمان: أساف ونائلة. (انتهى) ولعل
الأقرب أن يكون الأمر بهجر الأوثان أو عبادتها، وأما النجس المعهود فمن البعيد
إرادته في أول سورة نزلت عليه صلى الله عليه وآله (على ما قيل) أو بعد اقرأ قبل تأسيس الشريعة
أصولا وفروعا، على ما يشهد به الذوق السليم، ولهذا لا يبعد أن يكون المراد
بقوله: وثيابك فطهر، غير تطهير اللباس، بل تنزيه نسائه أو أقربائه عن دنس الشرك
(على ما قيل) أو غير ذلك مما فسر. هذا حال الآيات.
وأما الأخبار فقد استدل على حرمة مطلق الانتفاع بالنجس بل والمتنجس برواية
تحف العقول، وقد مر أن المستفاد من موارد منها جواز التقليب في وجوه الصلاح، وإنما
عدم الجواز فيما إذا قلبها في وجه الفساد، فهي كغيرها من الروايات المتقدمة تدل
على خلاف المطلوب، فراجع.
وربما يتوهم امكان استنقاذ الكلية من الموارد الجزئية، كقوله تعالى (1)
حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير فإن تعلق الحرمة بذات العناوين المذكورة
فيها يدل على حرمة جميع الانتفاعات، فإنها أولى في تصحيح الدعوى، ونحوها
قوله تعالى (2) إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير (الخ). وكالروايات
الكثيرة الدالة على وجوب اهراق الماء المتنجس، والمرق المتنجس، والقاء ما
حول النجس في الدهن الجامد.
وقوله: في صحيحة الكاهلي عبد الله بن يحيى، أو حسنته (3) عن أبي عبد
الله عليه السلام، في مورد قطع أليات الغنم، أن في كتاب علي عليه السلام أن ما قطع منها ميت
لا ينتفع به: وفيه منع استفادة حرمة مطلق الانتفاعات في الموارد المذكورة، فضلا
عن الاسراء إلى غيرها، أما الآيتان فلقرائن فيهما وفيما قبلهما وبعدهما، تدل على

(1) سورة المائدة الآية - 4
(2) سورة البقرة الآية - 168
(3) الوسائل - كتاب الصيد والذبايح - الباب 30 - من أبواب الذبايح
35

أن المراد بتحريم العناوين تحريم أكلها، منها ذكر لحم الخنزير للجزم بعدم إرادة
جواز الانتفاع بغير لحمه، وعدم الجواز في الميتة. ومنها عدم ذكر الكلب، لعدم
كونه مما يتعارف أكله، ومنها استثناء الاضطرار في المجاعة، فإن المراد منه
جواز أكلها في المخمصة؟. ومنها قوله تعالى (قبل الآية الثانية) كلوا من طيبات
ما رزقناكم، واشكروا الله إن كنتم إياه تعبدون، إنما حرم عليكم الميتة (الخ).
وتعقيب الأولى بقوله تعالى: يسألونك ماذا حل لهم (إلى قوله) فكلوا مما أمسكن
عليكم وقوله: وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم. فاحتفافهما بما ذكر يوجب
ظهورهما في إرادة الأكل، لا الانتفاعات الأخر، مع أن الشايع من المنافع منها،
سيما الدم ولحم الخنزير هو الأكل. هذا مع ورود روايات يظهر منها ما
ذكرناه.
كرواية المفضل بن عمر (1) المروية عن أبي عبد الله عليه السلام بطرق لا يبعد
حسن بعضها: قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام لم حرم الله الخمر والميتة والدم ولحم
الخنزير (إلى أن قال) ولكنه خلق الخلق، فعلم ما تقوم به أبدانهم وما يصلحهم،
فأحله لهم وأباحه تفضلا (إلى أن قال:) أما الميتة فإنه لا يدمن منها أحدا إلا ضعف بدنه،
ونحل جسمه، وذهبت قوته، وانقطع نسله، ولا يموت آكل الميتة إلا فجأة. ثم
ذكر مفاسد أكل الدم، وأكل لحم الخنزير وشرب الخمر، ويظهر منها أن
متعلق الحرمة في الآية الأكل والشرب لا غير، وقريب منها روايات أخر، يظهر
منها ما ذكر.
وأما الروايات الآمرة بإهراق الماء المتنجس، فلأن الماء القليل الذي بقي
في الإناء من فضل الكلب ونحوه لا فائدة له نوعا سوى الشرب أو الوضوء أو غسل
شئ به، ومع عدم جوازها لا بد من إهراقه، فلا تدل تلك الروايات على حرمة
مطلق الانتفاع به، لو فرض له انتفاع، كصبه على أصل شجر ونحوه، مضافا إلى

(1) الوسائل - كتاب الأطعمة والأشربة - الباب 1 - من أبواب الأطعمة المحرمة نقلت
هذه الرواية بسندين مرسلة ومسندة والمسندة ضعيفة بعبد الله بن سالم
36

أن الروايات الواردة فيه إنما هي في مقام بيان أحكام أخر، فقوله في الكلب:
إنه رجس نجس لا يتوضأ بفضله، واصبب ذلك الماء، واغسله بالتراب (1) في مقام
بيان عدم جواز التوضي به، وطريق تطهير الإناء، لا عدم جواز سائر الانتفاعات،
سيما مثل تطيين التراب به، وكذا حال سائر الروايات. وأما ما فيها الأمر بإهراق
المرق، فمضافا إلى عدم نفع له إلا الأكل الممنوع، فالأمر بإهراقه في رواية
السكوني (2) لذلك، والظاهر أنه كناية عن حرمة أكله، كما يدل عليه قوله
ويغسل اللحم ويؤكل: أن في رواية زكريا بن آدم (3) يهراق المرق، أو يطعمه أهل
الذمة أو الكلب، واللحم اغسله وكله، واطعامهما نحو انتفاع به، سيما إذا كان
الذمي ضيفا له، والكلب لماشيته وحراسته، وفيها أيضا تجويز بيع العجين النجس
من المستحل، وكذا في مرسلة ابن أبي عمير (4)
وأما روايات القاء ما حول الجامد من الدهن وغيره فتدل على جواز الانتفاع.
ففي موثقة أبي بصير (5) قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الفأرة تقع في السمن أو في
الزيت فتموت فيه، فقال: إن كان جامدا فتطرحها وما حولها، ويؤكل ما بقي، و
إن كان ذائبا فأسرج به وأعلمهم إذا بعته، والظاهر منها جواز الاسراج ولو بالجامد
الذي حولها، وإنما قال تطرحها، لعدم كونه معتدا به، مع قوة احتمال أن يكون
كناية عن عدم أكله ونحوها غيرها.
فتحصل مما ذكرناه جواز الانتفاع بصنوف النجاسات، ولا دليل عام على حرمة
جميع الانتفاعات بها، كما لا دليل كذلك على حرمة بيعها، بل مقتضى اطلاق الأدلة
جوازه فيما ينتفع به، فلا بد من التماس دليل على الخروج من الكليتين المتقدمتين،

(1) الوسائل - كتاب الطهارة - الباب 12 - من أبواب النجاسات
(2) الوسائل - كتاب الأطعمة والأشربة - الباب 44 - من أبواب الأطعمة المحرمة - موثقة
(3) الوسائل كتاب الأطعمة والأشربة - الباب - 26 من أبواب الأشربة - المحرمة
(4) الوسائل - كتاب التجارة - الباب - 7 - 6 من أبواب ما يكتسب به الظاهر أن ابن رباط الذي يكون في سند رواية أبي بصير هو حسن بن علي بن رباط وهو ثقة
(5) تقدم آنفا تحت رقم 4.
37

ففي كل مورد ليس الدليل إلا الأدلة العامة يحكم بجواز الانتفاع به، وجواز البيع في
ما ينتفع به، كالبول مما لا يؤكل لحمه والمني، لعدم الدليل فيهما بالخصوص، فيجوز
الانتفاع بهما في غير الشرب والأكل، وبيعهما، لو فرض لهما منفعة عقلائية كمني
الحيوانات للتلقيح المتعارف في هذا العصر.
بقي الكلام في موارد خاصة، وردت فيها روايات يجب التعرض لها بالخصوص.
منها الدم، والأظهر فيه جواز الانتفاع به في غير الأكل، وجواز بيعه لذلك.
فإن ما وردت فيه من الآية والرواية لا تدل على حرمة الانتفاع به مطلقا، فقد تقدم
الكلام في الآية الكريمة، مع أنه لم يكن في تلك الأعصار للدم نفع غير الأكل،
فالتحريم منصرف إليه، ومنه يظهر حال الروايات الدالة على حرمة سبعة أشياء
من الذبيحة، منها الدم، فإن الظاهر منها حرمة الأكل، كما تشهد به نفس الروايات
فإن في جملة منها: لا يؤكل من الشاة كذا وكذا، ومنها الدم (1) وهي قرينة على أن
المراد من قوله: حرم من الشاة سبعة أشياء: الدم والخصيتان (2) هو حرمة الأكل
مع أن المذكورات لم يكن لها نفع في تلك الأعصار إلا الأكل. فلا شبهة في قصور الأدلة
عن اثبات حرمة سائر الانتفاعات من الدم، ويتضح مما ذكر أن النهي عن بيع سبعة أشياء
منها الدم (في مرفوعة أبي يحيى الواسطي) (3) يراد به البيع للأكل، لتعارف أكله في
تلك الأمكنة والأزمنة، كما يشهد به الروايات، فالأشبه جواز بيعه إذا كان له نفع
عقلائي في هذا العصر، والظاهر من شتات كلمات الفقهاء أيضا: دوران حرمة التكسب
بالنجاسات مدار عدم جواز الانتفاع، كما مرت جملة من كلماتهم. وبهذا يظهر لزوم
ارجاع محكي اجماع النهاية في الدم على ذلك، سيما مع تعليله بعدم الانتفاع به
ومنها العذرة، لا ينبغي الاشكال في جواز الانتفاع بأرواث مأكول اللحم،
وكذا جواز بيعها وسائر القلب فيها عدا الأكل للسيرة المستمرة بين المسلمين

(1) الوسائل - كتاب الأطعمة والأشربة - الباب 31 - من أبواب الأطعمة المحرمة
(2) الوسائل - كتاب الأطعمة والأشربة - الباب 31 - من أبواب الأطعمة المحرمة
(3) الوسائل - كتاب الأطعمة والأشربة - الباب 31 - من أبواب الأطعمة المحرمة
38

في الأعصار والأمصار، قال الشيخ (1) سرجين ما لا يؤكل لحمه يجوز بيعه (إلى أن قال)
ويدل على ذلك بيع أهل الأمصار في جميع الأعصار لزروعهم وثمارهم، ولم نجد أحدا
كره ذلك، ولا خلاف فيه، فوجب أن يكون جائزا وعن السيد الاجماع على جواز
الانتفاع بها (2) والانصاف أنه لا ينبغي إطالة الكلام في مثل المسألة، بل لا بد من تأويل
ظاهر المفيد وسلار (3) والشيخ في النهاية (4) مع تشويش عبارة النهاية، واحتمال
كون مراد سلار من العذرة عذرة الانسان، أو مع عذرة غير المأكول، ومن الأبوال مطلقها
واستثنى منها بول الإبل، وإنما حرم بل غيره لعدم منفعة حتى في الظاهر منه،
فيكون مما لا يجوز بيعه لذلك، بل ما ذكرناه محتمل كلام النهاية أيضا، ولم يحضرني
كلام المفيد (رحمه الله) كما لا ينبغي التأمل في جواز الانتفاع بالعذرة النجسة، سيما
عذرة الانسان، للسيرة المستمرة في الأعصار على الانتفاع بها في التسميد.
فعن المبسوط. (5) أن سرجين ما لا يؤكل لحمه، وعذرة الانسان، وخرء
الكلاب، لا يجوز بيعها، ويجوز الانتفاع بها في الزروع والكروم وأصول الشجر
بلا خلاف، ويظهر من العلامة وغيره أن جوازه للتسميد مفروغ عنه، إنما الكلام في
جواز بيعها وصحته، فهل يجوز مطلقا، كانت من الانسان أو غيره من الحيوانات
الغير المأكولة، أو لا مطلقا، أو جاز في غير الانسان، أو العكس، وجوه يتضح الأوجه
منها بعد النظر في الأخبار وكلمات الأصحاب
فنقول إن الروايات الواردة في المقام (كما تقدم بعضها) قد علق فيها الحكم على
عنوان العذرة، ففي رواية يعقوب بن شعيب (6) عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ثمن العذرة

(1) راجع الخلاف - كتاب البيوع - مسألة - 310
(2) راجع الغنية - أول كتاب البيع
(3) راجع المراسم - أول المكاسب
(4) باب المكاسب المحظورة
(5) كتاب البيوع فيما يصح بيعه وما لا يصح
(6) الوسائل - كتاب التجارة الباب 40 - من أبواب ما يكتسب به وهي مجهولة عندي
بعلي بن مسكين
39

من السحت وفي رواية محمد بن مضارب (1) عنه عليه السلام قال لا بأس ببيع العذرة وفي
موثقة سماعة (2) قال: سأل رجل أبا عبد الله عليه السلام وأنا حاضر، قال: إني رجل أبيع
العذرة فما تقول، قال: حرام بيعها وثمنها، وقال: لا بأس ببيع العذرة. وعن دعائم
الاسلام (3) عنه عليه السلام عن آبائه (ع) أن رسول الله صلى الله عليه وآله نهى عن بيع الأحرار (إلى أن قال) وعن بيع العذرة، وقال: هي ميتة. ويظهر من رواية المفضل بن عمر (4)
عنه عليه السلام جواز الانتفاع بها، بل تشعر أو تدل على جواز بيعها.
ثم إن العذرة هل هي خرء مطلق الحيوان (كما لعله الظاهر من اللغويين)
أو خصوص الانسان (كما عن بعض أهل اللغة)
فعلى الأول يشكل الأخذ بما دلت على أن ثمنها سحت، على فرض تعارض
الروايات، وعدم مقبولية الجمع المتقدم منا، ولا سائر ما قيل في وجهه، لأن ما
يباع من العذرات النجسة ليس إلا عذرة الانسان، وأما عذرة الكلب والسنور ونحوهما
فلا تباع، ولم يكن بيعها معهودا قط. وما في بعض الروايات الضعيفة (5) من النهي
عن الصلاة في خف يتخذ من جلود الدارش، معللا بأنه يدبغ بخرء الكلاب،
لا يدل على أن خرءها كان يباع ويشترى، فمن المقطوع عدم معهودية بيعه، بل
المتعارف بيع عذرة الانسان التي يحتاج إليها الناس للتسميد وكذا عذرة الحيوانات
المأكولة اللحم، فلم يكن مورد السؤال في موثقة سماعة، ومورد سائر الروايات
إلا عما كان مورد البيع والشراء، لا مطلقا، وعليه يكون تقييد ما دلت على أن
ثمن العذرة سحت، وبيعها حرام، بالاجماع والسيرة على صحة بيع عذرة المأكول
اللحم مستهجنا، للزوم اخراج ما هو أكثر تداولا، أي ما هو لجميع صنوف

(1) الوسائل كتاب التجارة - الباب 40 - من أبواب ما يكتسب به. الأولى ضعيفة
بمحمد بن مضارب.
(2) الوسائل كتاب التجارة - الباب 40 - من أبواب ما يكتسب به. الأولى ضعيفة
بمحمد بن مضارب.
(3) المستدرك - كتاب التجارة - الباب 5 - من أبواب ما يكتسب به
(4) الوسائل - كتاب الأطعمة والأشربة - الباب 1 - من أبواب الأطعمة المحرمة
(5) الوسائل - كتاب الطهارة - الباب 71 من أبواب النجاسات
40

الحيوانات المحللة اللحم، للزرع والطبخ والحمامات وسائر احتياجات الناس،
وبقاء عنوان واحد هو عذرة الانسان للزرع فقط، ولا فرق في الاستهجان بين التخصيص
الكثير والتقييد كذلك.
ووضوح حكم عذرة ما يؤكل لحمه بالاجماع والسيرة في عصرنا، لا يلازم
وضوحه في تلك الأزمنة، ضرورة أن الأحكام الواضحة في الأعصار المتأخرة كانت
غالبا نظرية، بل مجهولة سابقا وفي أوائل الاسلام ونشر الأحكام حتى عصر الأئمة
(ع)، ولهذا خالف فيها المسلمون. فدعوى انصرافها إلى عذرة الانسان، لوضوح حكم
خر، ما يؤكل لحمه: غير وجيهة. ولو منع الاستهجان، ولو بدعوى عدم محذور
لاطلاق الحكم بالنسبة إلى سائر أنواع غير المأكول لغرض المنع عن الموارد النادرة
أو احتمال شيوع الاستفادة في الأزمنة اللاحقة. يمكن الجمع بين الروايات، بتقييد
روايات المنع بالاجماع والسيرة فيما يؤكل لحمه، فتنقلب النسبة بين الطائفتين
المتباينتين إلى الأعم والأخص المطلق، فيقيد الأعم بالأخص فصارت النتيجة عدم
الجواز في عذرة غير المأكول.
وعلى الثاني: أي كونها مختصة بفضلات الانسان (كما نقل عن بعض أهل اللغة)
يقع التعارض بينها لو كانت حجة في نفسها، لكن ليس فيها ما يعتمد عليه، عدا
موثقة سماعة. فحينئذ إن أحرزنا أن ذيلها رواية منفصلة جمعهما سماعة في النقل،
(كما يقال في مضمراته) أو قلنا بجريان عمل التعارض واعمال العلاج في رواية واحدة
مشتملة على حكمين متعارضين (كما هو الأقوى): لا بد من اعمال قواعد التعارض
فيها: من الأخذ بما هو الموافق للكتاب أو لا، ومع فقده الأخذ بما يخالف العامة. و
هذان الترجيحان للمجوز على ما حكى من كون المنع مذهب أكثر العامة. لكن
الرجوع إلى المرجح إنما هو بعد عدم احراز الشهرة الفتوائية على أحد الطرفين (كما
قرر في محله من أنها لتميز الحجة عن غيرها) بل ولو قلنا بأنها من المرجحات أيضا
يقدم الترجيح بها على سايرها. فلا بد من عطف النظر إلى الاجماعات المنقولة و
كلمات القوم.
41

فنقول: قال الشيخ في الخلاف (1) سرجين ما يؤكل لحمه يجوز بيعه، (إلى أن قال) دليلنا على جواز ذلك أنه طاهر عندنا (إلى أن قال) وأما النجس منه فلدلالة
اجماع الفرقة، ثم استدل بالنبوي. وهو كما ترى دعوى الاجماع على أن السرجين
النجس لا يجوز بيعه، والسرجين معرب سرگين، لا يطلق على عذرة الانسان، و
الشاهد على أن المراد منه غيرها قوله في محكي المبسوط: (2) أن سرجين ما لا
يؤكل لحمه، وعذرة الانسان، وخرء الكلاب، لا يجوز بيعها، ويجوز الانتفاع بها
في الزروع والكروم وأصول الشجر بلا خلاف وعن المبسوط أيضا: (3) أما نجس العين
فلا يجوز بيعه، كجلود الميتة (إلى أن قال) والعذرة والسرقين، لكن لم يدع
الاجماع عليه.
وقال العلامة في التذكرة (4) لا يجوز بيع السرجين النجس اجماعا منا (إلى أن قال) ولأنه رجيع نجس فلم يصح بيعه كرجيع الآدمي، والظاهر منه إلزام الخصم بما
هو مورد تسلمه. فتحصل أن المراد به غير ما للآدمي (فإن قلت) هب ذلك، لكن
يكفي ما في المبسوط: من دعوى عدم الخلاف في عذرة الانسان مستقلا (قلت) لم يتضح
رجوع نفي الخلاف إلى عدم جواز البيع وإلى جواز الانتفاع كليهما، والمتيقن الثاني،
ويكفي الشك فيه في عدم ثبوت الاجماع أو دعواه، فاتضح بطلان نسبة حكاية الاجماع
إلى الشيخ والعلامة في التذكرة وأوضح بطلانا نسبته إلى الثاني في المنتهى (5)
قال فيه: لا يجوز بيع السرجين النجس، وبه قال الشافعي وأحمد، وقال أبو حنيفة:
يجوز، لنا أنه مجمع على نجاسته فلم يجز بيعه كالميتة، ثم استدل بالروايات. وهو كما
ترى لم يدع الاجماع الأعلى نجاسته، واستنتاج عدم جواز بيعه اجتهاد منه، بل لو
كان بيعه مورد الاجماع لم يدع كذلك، إلا أن يقال إنه لإلزامهم والاجماع من الفريقين
على النجاسة.

(1) كتاب البيوع مسألة - 310
(2) كتاب البيوع فيما يصح بيعه وما لا يصح
(3) كتاب البيوع فيما يصح بيعه وما لا يصح
(4) كتاب البيع في شرط الطهارة في العوضين - مسألة 3
(5) فيما يحرم التكسب به مسألة - 3
42

ثم إن من الممكن الخدشة في دعوى العلامة في التذكرة الاجماع على عدم
جواز بيع السرجين النجس: لأنه معلل بقوله: للاجماع على نجاسته فيحرم بيعه، و
في مثله يشكل اثبات الاجماع على الحكم الأول. وقال ابن زهرة في الغنية (1)
وقيدنا بكونها مباحة، تحفظا عن المنافع المحرمة، ويدخل في ذلك كل نجس
لا يمكن تطهيره، إلا ما أخرجه الدليل: من بيع الكلب المعلم والزيت النجس
للاستصباح به تحت السماء، وهو اجماع الطايفة. (انتهى) والظاهر منه أن قوله وهو،
بيان للدليل، فكان مورد الاجماع جواز بيع الكلب المعلم والزيت، ولو فرض
رجوعه إلى جميع ما تقدم، لكن يكون محط كلامه عدم جواز بيع ما حرمت منافعه،
دون ما حلت، وقد تقدم أن الانتفاع بالعذرات جائز قطعا.
وقد تقدم أن دعوى الفخر والمقداد الاجماع في محكي شرح الإرشاد و
التنقيح إنما هي على حرمة الانتفاع بالأعيان النجسة، وقد تقدم أيضا ما فيها،
بل يظهر منهما أن عدم جواز البيع لعدم جواز الانتفاع، ومع جواز الثاني يجوز
الأول أيضا. ومن بعض ما تقدم يظهر الكلام في قول الشهيد، قال في المسالك (2)
في خلال كلام منه: وتحريم ذلك (أي بيع الأرواث والأبوال) مما لا يؤكل لحمه،
فإنه موضع وفاق.
نعم عن نهاية الأحكام الاجماع على تحريم بيع العذرة وشرائها
ولم يحضرني عبارتها. لكن اثبات الحكم به مشكل، لاحتمال أن دعواه مبنية على
اجتهاده في كلام القوم، كدعوى شيخ الطائفة في الخلاف والمبسوط، ودعوى
ابن زهرة، مع أنه قد تقدم أن دعوى الاجماع في هذه المسألة التي تراكمت فيها
الأخبار والأدلة مشكلة. وكيف كان يشكل اثبات شهرة في بيع عذرة الانسان
للمنافع المحللة، بحيث يرجح بها الرواية على عدم الجواز، أو تترك بها ما دلت
على الجواز.

(1) في شرائط صحة انعقاد البيع
(2) أول كتاب التجارة - فيما يحرم بيعه من التجارات
43

وأما ما قيل في وجه عدم الجواز بندرة الانتفاع بها فلا تكون متمولة لدى
العقلاء، أو باسقاط الشارع ماليتها فلا يجوز بيعها: فلا يخفى ما فيهما. فإنه بعد
ما نرى أنها ذات منفعة عقلائية متداولة شايعة، كيف يقال: أنها نادرة أو غير متمولة
لدى العقلاء، ومالية الشئ تبع للخواص والمنافع المترتبة عليه. ولم يدل دليل على
اسقاط الشارع ماليتها. فالأشبه بالقواعد الجواز، وإن كان الحكم به مشكلا من
حيث عدم العثور على استثناء أحد عذرة الانسان من عدم جواز بيع الأعيان النجسة،
وظهور كلماتهم في مطلق العذرات النجسة، كعبارات المتون الفقهية وغيرها،
واحتمال أن يكون مرادهم بالسرجين النجس مطلق العذرات، ومظنونية رجوع
قيد عدم الخلاف في محكي المبسوط إلى الحكمين جميعا، وخصوص اجماع النهاية
الكاشف لا أقل ولو ظنا عن اشتهار الحكم بينهم، وفهم المتأخرين عن عبارة الشيخ
دعوى الاجماع على المطلق، بل لعلهم أرسلوا الحكم في عذرة الانسان إرسال
المسلمات، يستدل بها على غيرها، كما تقدم عن العلامة، وعن الشيخ في الإستبصار
في مقام جمع الأخبار حمل أخبار المنع على عذرة الانسان (إلى غير ذلك) مما يعثر عليه
المتتبع.
فالحكم بعدم الجواز أحوط، بل لا يخلو من رجحان، سيما مع احتمال كون
العذرة اسما للأعم، كما لعله تشهد به صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع (1) في أحكام
البئر، وفيها: أو يسقط فيها شئ من عذرة كالبعرة ونحوها، واقتضاء
انقلاب النسبة (بالتقريب المتقدم) عدم جواز بيع عذرة غير المأكول مطلقا،
وليست لعذرة الانسان منفعة غير التسميد المحلل، فلا يحتمل أن يكون مرادهم نفي
الجواز في غير مورد المنفعة المحللة. واحتمال أن يكون مرادهم سلب المالية العقلائية
فكان حكمهم بعدم الجواز لأجله (كما قالوا في الحشرات ونحوها: بعيد
جدا. فإذن فرق بين المقام وبين مثل الدم الذي كان نفعه المتداول محرما،
لاحتمال أن يكون حكمهم بعدم الجواز فيه لفقدان نفع محلل، بخلاف العذرة

(1) الوسائل كتاب الطهارة - الباب 14 - من أبواب الماء المطلق
44

التي نفعها المتعارف هو المحلل. والانصاف أن كل واحد مما ذكر وإن أمكن
النظر فيه، لكن يرجح في النظر عدم الجواز من مجموع هذه الوجوه، سيما عدم
احتمال أحد استثنائها على الظاهر.
ومنها الميتة وأجزائها التي تحلها الحياة من ذي النفس السائلة فيقع الكلام
فيها تارة في الحكم التكليفي، وهو حرمة الانتفاع بها وعدمها، بحيث يكون
المحرم الانتفاع لبسا وافتراشا ونحوهما، وإن لم يحصل منه محذور آخر كتنجيس
ما يلاقيه من المايعات المشروبة والانتفاع منها. وبعبارة أخرى تكون نفس الانتفاع
بها عنوانا مستقلا محرما، وأخرى في الحكم الوضعي: أن بطلان المعاملة، و
هنا كلام آخر يظهر في خلال البحث، وهو حرمة ثمنه بعنوانه، كما تقدم المقصود
منه. فمما تدل على حرمة الانتفاع بها (بعد الآية الكريمة التي تقدم الكلام فيها)
روايات
منها موثقة سماعة (1) قال: سألته عن جلود السباع أينتفع بها، قال: إذا
رميت فانتفع بجلده، وأما الميتة فلا. والظاهر منها ولو بإلغاء الخصوصية عرفا
حرمة الانتفاع بالميتة مطلقا، سواء كان الانتفاع في الجامدات، أو المايعات،
لزم منه محذور، أو لا، والحمل على انتفاع خاص (كجعل جلدها محلا للدبس و
نحوه) يحتاج إلى دليل.
ومنها رواية علي بن أبي مغيرة (2) قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام جعلت فداك
الميتة ينتفع منها بشئ، فقال: لا، قلت: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله مر بشاة ميتة،
فقال: ما كان على أهل هذه الشاة إذ لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا بإهابها، قال:
تلك شاة لسودة بنت زمعة زوجة النبي صلى الله عليه وآله وكانت شاة مهزولة لا ينتفع بلحمها
فتركوها حتى ماتت، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله ما كان على أهلها إذ لم ينتفعوا بلحمها
أن ينتفعوا بإهابها إن تذكى، وفي نسخة أي تذكى، ودلالتها واضحة. سيما إذا
كان قوله (منها) متعلقا بالفعل، ويكون المراد هل ينتفع منها بوجه من الوجوه

(1) الوسائل - كتاب الأطعمة والأشربة - الباب 34 - من أبواب الأطعمة المحرمة
(2) الوسائل - كتاب الأطعمة والأشربة - الباب 34 - من أبواب الأطعمة المحرمة
45

لكن في سندها ضعف بعلي بن أبي مغيرة، للوثوق بأن توثيق العلامة تبع للنجاشي
في ابنه الحسن بن علي بن أبي مغيرة، وظاهر كلام النجاشي توثيق ابنه، فتعبير
السيد صاحب الرياض عنها بالصحيحة غير وجيه ظاهرا.
ومنها حسنة أبي مريم (1) وفيها نقل قضية أخرى شبيهة بها، لكن ليس
لها اطلاق بالنسبة إلى جميع الانتفاعات، بل نقل قضية يظهر منها عدم جواز الانتفاع
بها في الجملة.
ومنها صحيحة عبد الله بن يحيى الكاهلي (2) على طريق الصدوق، بل الكليني
أيضا بناء على وثاقة سهل بن زياد قال سأل رجل أبا عبد الله عليه السلام وأنا عنده عن
قطع أليات الغنم، فقال: لا بأس بقطعها إذا كنت تصلح بها مالك، ثم قال: إن في
كتاب علي عليه السلام أن ما قطع منها ميت لا ينتفع به. يظهر منها أن عدم جواز الانتفاع بالميتة
كان مفروغا منه، وإنما لا ينتفع بالمقطوع لكونه ميتة حكما وتنزيلا أو حقيقة،
ومقتضى اطلاع عدم الانتفاع بالأليات عدم الانتفاع بالميتة أيضا، إلا أن يناقش في
الاطلاق، بأن يقال: إن حكم الميتة لما كان مفروغا منه لم تكن الرواية إلا بصدد
تنزيل الجزء المقطوع منزلة الميتة في عدم الانتفاع. فيكون الجزء تبعا في الحكم
الثابت للميتة، فيكون مقدار عدم الانتفاع به كمقداره فيها، ولم يتضح فيها، وليست
بصدد بيانه. وبعبارة أخرى أنها ليست بصدد بيان عدم الانتفاع به ابتداء، بل بصدد
بيان تشبيهه بها في الحكم الثابت، فلا اطلاق فيها.
ومنها رواية الفتح بن يزيد الجرجاني (3) عن أبي الحسن، قال: كتبت إليه
أسأله عن جلود الميتة التي يؤكل لحمها ذكيا، فكتب لا ينتفع من الميتة بإهاب و

(1) الوسائل - كتاب الأطعمة والأشربة - الباب 34 - من أبواب الأطعمة المحرمة
حسنة بحسن بن علي بن فضال
(2) الوسائل - كتاب الصيد والذبايح - الباب 30 - من أبواب الذبايح
(3) الوسائل - كتاب الأطعمة والأشربة - الباب 33 - من أبواب الأطعمة المحرمة
مجهولة بفتح بن يزيد وغيره
46

لا عصب، وكل ما كان من السخال، الصوف إن جز، والوبر والإنفحة والقرن،
ولا يتعدى إلى غيرها، وفي نسخة من الصوف. والظاهر وقوع سقط فيها، ويحتمل
أن يكون الأصل إلا الصوف، وكان قوله (وكل) عطفا على (بإهاب). ويحتمل
أن يكون قوله: وكل، مبتدءا " محذوف الخبر هو ينتفع به. وكيف كان فالظاهر
اطلاقها، ولا يبعد فهم المثالية من المذكور، سيما مع ذيلها، فتدل على عدم
جواز الانتفاع بالميتة مطلقا، لكنه ضعيفة السند.
ومنها رواية علي بن جعفر عليه السلام عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام (1) قال: سألته عن
لبس السمور والسنجاب والفنك، فقال: لا يلبس ولا يصلى فيه، إلا أن يكون ذكيا
لكنها مع ضعفها مخصوصة باللباس.
ومنها رواية تحف العقول عن الصادق عليه السلام (2) في حديث قال: وكل ما
أنبتت الأرض فلا بأس بلبسه والصلاة فيه، وكل شئ يحل أكله فلا بأس بلبس
جلده الذكي منه، وصوفه وشعره ووبره، وإن كان الصوف والشعر والريش
والوبر من الميتة وغير الميتة زكيا فلا بأس بلبس ذلك، والصلاة فيه
ويمكن الخدشة في دلالتها بعد الغض عن سندها، بأن الظاهر من قوله: فلا بأس بلبسه
والصلاة فيه، أنه بصدد بيان حكم اللبس في الصلاة، فقوله: فلا بأس بلبسه، كالأمر
المقدمي المذكور توطئة، كقوله: لا بأس بلبس الحرير والحرب فيه، ولا بأس
بالجلوس في المسجد والقضاء فيه، ولا بأس بأخذ الماء من الدجلة والشرب منه،
إلى غير ذلك. فحينئذ يكون قوله: وكل شئ يحل أكله (الخ) بصدد بيان اللبس في
الصلاة أيضا، وكذا الفقرة الأخيرة، فلا يستفاد منها حكمان: تكليفي مربوط
بأصل اللبس ووضعي مربوط بالصلاة، كما هو ظاهر عند العارف بأساليب الكلام،
ولا أقل من أن يكون احتمالا مانعا عن الاستدلال.
ومنها رواية علي بن جعفر (3) عن أخيه عليه السلام قال سألته عن الماشية تكون

(1) الوسائل - كتاب الصلاة - الباب 4 - 2 - من أبواب لباس المصلي
(2) الوسائل - كتاب الصلاة - الباب 4 - 2 - من أبواب لباس المصلي
(3) الوسائل - كتاب الأطعمة والأشربة - الباب 34 - من أبواب الأطعمة المحرمة
47

للرجل، فيموت بعضها، يصلح له بيع جلودها ودباغها ولبسها، قال: لا ولو لبسها
فلا يصلي فيها. وهي أيضا (مع ضعفها واختصاصها باللبس) يمكن التأمل في دلالتها
على الحرمة، لضعف دلالة (لا يصلح) عليها، لو لم نقل باشعاره أو دلالته على الكراهة،
سيما مع قوله: ولو لبسها، فإن فرض اللبس في ما هو محرم لا يخلو من بعد.
ومنها موثقة سماعة (3) قال: سألته عن أكل الجبن وتقليد السيف وفيه الكيمخت
والفراء، فقال: لا بأس ما لم يعلم أنه ميتة، وفيه أنه لا اطلاق في مفهومها، فإنه بصدد
بيان حكم المنطوق لا المفهوم، فلا يستفاد منها إلا ثبوت البأس مع العلم في الجملة.
بل التحقيق أن المفهوم قضية مهملة حتى في مثل قوله: إذا بلغ الماء قدر كر لا
ينجسه شئ، هذا إذا قلنا بإلغاء الخصوصية عن المنطوق، وإلا فلا يثبت الحكم
في المفهوم إلا بالنسبة إلى أكل الجبن وتقليد السيف، مع أن اثبات البأس أعم
من الحرمة، مضافا إلى أن الظاهر أن الحكم في الجبن محمول على التقية، لو كان
الجواب عن السؤالين.
ومنها ما عن عوالي اللئالي (2) قد صح عنه صلى الله عليه وآله أنه قال: لا تنتفعوا من
الميتة بإهاب ولا عصب، وقال في شاة ميمونة ألا انتفعوا بجلدها، وعن ابن أبي
ليلى عن عبد الله بن حكيم (3) قال: قرأ علينا كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله في أرض جهينة
وأنا غلام شاب، أن لا تستمتعوا من الميتة بإهاب ولا عصب، وعن دعائم الاسلام (4)
عن علي عليه السلام أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: لا ينتفع من الميتة بإهاب ولا
عظم ولا عصب إلى غير ذلك.
ثم إن هذه الروايات على طوائف: منها ما دلت على عدم جواز الانتفاع بالميتة
مطلقا، ولو بإلغاء الخصوصية عرفا، كموثقة سماعة ورواية الجرجاني وعلي بن

(1) الوسائل - كتاب الأطعمة والأشربة - الباب 34 من أبواب الأطعمة المحرمة
(2) المستدرك - كتاب الأطعمة والأشربة - الباب 25 من أبواب الأطعمة المحرمة
(3) المستدرك كتاب الطهارة الباب 37 من أبواب النجاسات
(4) المستدرك كتاب الأطعمة والأشربة الباب 25 من أبواب الأطعمة المحرمة
48

أبي مغيرة. ومنها ما دلت على عدم جواز اللبس، كروايتي علي بن جعفر ورواية
تحف العقول (على اشكال مر الكلام فيه). ومنها ما دلت على عدم جواز الانتفاع
بإهاب ولا عصب، ويمكن جعلها من الطايفة الأولى، بدعوى إلغاء الخصوصية.
ومنها ما دلت على عدم جواز تقليد السيف إذا كان جلده من الميتة، وهي موثقة
سماعة. وبإزاء تلك الروايات روايات أخر، يستفاد منها جواز الانتفاع في موارد
خاصة. منها رواية زرارة (1) قال: قد سألت أبا عبد الله عليه السلام عن جلد الخنزير يجعل
دلوا يستقى به الماء، قال: لا بأس. والظاهر أن السؤال عن الانتفاع بجلده، لا عن
طهارة الماء ونجاسته بملاقاته، بل الظاهر أن مثل جلد الخنزير يجعل دلوا " لسقي
الزراعات والأشجار، لا لشرب الآدمي، ويظهر منها بإلغاء الخصوصية جواز الانتفاع
بجلده لو لم يؤد إلى محذور كتنجس ملاقيه وكذا جواز الانتفاع بجلود سائر الميتات.
ومنها صحيحة محمد بن عيسى بن عبيد عن أبي القاسم الصيقل وولده (2)
قال: كتبوا إلي الرجل جعلنا الله فداك: إنا قوم نعمل السيوف، ليست لنا معيشة
ولا تجارة غيرها، ونحن مضطرون إليها، وإنما علاجنا جلود الميتة والبغال والحمير
الأهلية، لا يجوز في أعمالنا غيرها، فيحل لنا عملها وشرائها وبيعها ومسها بأيدينا
وثيابنا، ونحن نصلي في ثيابنا، ونحن محتاجون إلى جوابك في هذه المسألة
يا سيدنا، لضرورتنا، فكتب عليه السلام اجعل ثوبا للصلاة، وكتب إليه جعلت فداك، و
قوائم السيوف التي تسمى السفن نتخذها من جلود السمك، فهل يجوز لي العمل
بها، ولسنا نأكل لحومها، فكتب لا بأس.
والرواية صحيحة، ولا يضر بها جهالة أبي القاسم، لأن الراوي للكتابة و
الجواب هو محمد بن عيسى، وقوله: قال كتبوا أي قال محمد بن عيسى كتب الصيقل و
ولده، فهو مخبر لا الصيقل وولده، وإلا لقال: كتبنا.

(1) الوسائل - كتاب الطهارة - الباب 14 - من أبواب الماء المطلق - مجهولة
بأبي زياد النهدي
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 38 - من أبواب ما يكتسب به
49

واحتمال كون الراوي الصيقل مخالف للظاهر جدا، سيما مع قوله في ذيلها:
وكتب إليه، فلو كان الراوي الصيقل لقال وكتبت إليه. وليس في السند من يتأمل
فيه، إلا أحمد بن محمد بن الحسن بن الوليد ومحمد بن عيسى بن عبيد، وهما ثقتان
على الأقوى. والمظنون لولا المقطوع به: أن قوله: نعمل السيوف مصحف عن قوله
نغمد السيوف، فإنهما شبيهتان كتابة في العربية، والشاهد عليه أولا رواية القاسم
الصيقل (1) الظاهر أنه ابن أبي القاسم، قال كتبت إلى الرضا عليه السلام أني أعمل أغماد
السيوف من جلود الحمر الميتة، فتصيب ثيابي فأصلي فيها، فكتب إلى اتخذ ثوبا
لصلاتك، فكتبت إلى أبي جعفر الثاني أني كنت كتبت إلى أبيك بكذا وكذا فصعب
ذلك على فصرت أعملها من جلود الحمر الوحشية الذكية، فكتب (ع) إلى كل أعمال
البر بالصبر يرحمك الله، فإن كان ما تعمل وحشيا ذكيا فلا بأس.
فإن الظاهر أن المكاتبة المشار إليها في هذه الرواية هي المكاتبة المتقدمة
حيث كان ولد أبي القاسم من جملة المكاتبين، واحتمال كون القاسم الصيقل غير
ابن أبي القاسم الصيقل بعيد. وثانيا أن عمل السيوف بمعنى صنعتها، (كما هو
الظاهر من عملها) أو بمعنى تصقيلها، عمل مستقل كان في تلك الأزمنة في غاية
الأهمية، وهو غير عمل تغميدها الذي كان مباينا لهما، ومن البعيد قيام شخص بعملها
معا في ذلك العصر. ويشهد له قوله: ليست لنا معيشة ولا تجارة غيرها، ونحن
مضطرون إليها، فأية معيشة وتجارة أعظم من صنعة السيوف في تلك الأزمنة أزمنة
الحروب السيفية: عصر الصيف، وأي احتياج لصانع الصيف إلى عمل الجلود. فلا
شبهة في أن أبا القاسم وولده بحسب هذه الرواية كان عملهم أغماد السيف، وإنما
سألوا عن بيع الميتة وشرائها وعملها ومسها، وحملها على بيع السيوف لا بيع الجلود
(كما صنع شيخنا الأنصاري) (2) طرح للرواية الصحيحة الصريحة.
نعم في رواية عن أبي القاسم الصيقل (3) قال كتبت إليه أني رجل صيقل، اشترى

(1) الوسائل كتاب الطهارة - الباب 34 من أبواب النجاسات
(2) راجع المكاسب في حرمة المعاوضة على الميتة
(3) الوسائل كتاب التجارة - الباب 8 - من أبواب ما يكتسب به
50

السيوف وأبيعها من السلطان الخ، يظهر منها أيضا أن شغله لم يكن عمل السيف بل
كان صيقلا، وبمقتضى الروايتين أنه كان يشتري السيوف ويغمدها ويبيع من السلطان
ولعله كان شغله مختلفا بحسب الأزمان، ولعله كان تاجرا وله عمال اشتغلوا بتغميد
السيوف، وعمال بالصيقل (تأمل)
وكيف كان لا شبهة في بيعه الأغماد، ولا معنى لاعطائها بلا ثمن وبنحو المجانية.
وأما قوله: ونحن مضطرون إليها، ليس المراد من الاضطرار هو الذي يحل
المحظورات، سيما في مثل رجل صيقل كان يبيع من السلطان، بل المراد الاضطرار
والاحتياج في التجارة. ولهذا ترك القاسم العمل بالميتة بمجرد صعوبة اتخاذ ثوب
للصلاة. بل لا وجه للاضطرار المبيح للمحظور إلى عمل خصوص الميتة في بلد
المسلمين الشايع فيها الجلود الذكية في عصر الرضا والجواد عليهما السلام، مع حلية
ذبائح العامة واعتبار سوقهم، وكون الصيقل الذي يشتري السيوف ويبيعها من
السلطان مضطرا إلى عمل الميتة، ولم يمكن له اشتراء الجلود الذكية، مقطوع
الفساد كما هو واضح، مضافا إلى أن الظاهر من الرواية أنهم كانوا مضطرين إلي
عمل السيوف أو أغمادها، لا إلى عمل خصوص الميتة وقوله: لا يجوز في أعمالنا
غيرها، لا يراد منه أن عملهم خصوص الميتة، بل المراد أنه لا يجوز عملهم، ولا تدور
تجارتهم، إلا مع الابتلاء بها، فلا يكون المراد الاضطرار بخصوصها.
هذا بناء على نسخة الوسائل، وفي الحدائق (1) إنما علاجنا من جلود الميتة
من البغال والحمير، وعلى هذه النسخة أيضا لا يراد بالاضطرار هو المبيح للمحظورات،
سيما مع ملاحظة رواية القاسم الصيقل، ولم يظهر منها أن مراده من قوله: (صعب
ذلك علي) أنه صعب عليه من جهة احتمال التقية في صدور الحكم من أبيه عليه السلام،
ولعل مراده صعوبة غسل البدن واللباس وتعويضه للصلوات، وقوله: كل أعمال
البر بالصبر، لم يظهر منه لوجه عدم جواز العمل بغير المذكى. والانصاف أن الرواية
ظاهرة الدلالة على جواز بيع جلد الميتة وشرائه وسائر الاستفادات منه، بل يظهر

(1) في بيع الأعيان النجسة من التجارة
51

من ذيل الثانية أي قوله كل أعمال البر بالصبر، أن الأرجح ترك العمل بالميتة،
فيكون شاهد جمع بينها وبين ما دلت على أن الميتة لا ينتفع بها، أو جلد الميتة
لا ينتفع به وهو الحمل على الكراهة في ما لا محذور في الانتفاع بها مع أنها أخص
مطلقا من روايات المنع مطلقا.
ومنها موثقة سماعة (1) قال: سألته عن جلد الميتة المملوح وهو الكيمخت،
فرخص فيه، وقال: إن لم تمسه فهو أفضل. وهي مع دلالتها على جواز الانتفاع
بجلد الميتة يظهر منها أيضا وجه الجمع المتقدم. ومن تفسير الكيمخت فيها يظهر
جواز التمسك بما دل على جواز لبسه على جواز الانتفاع بجلد الميتة، كصحيحة
الريان بن الصلت (2) قال: سألت الرضا عليه السلام عن لبس الفراء والسمور (إلى أن
قال) والكيمخت (إلى أن قال) لا بأس بهذا كله إلا الثعالب.
نعم هذا التفسير ينافي ما في رواية علي بن أبي حمزة، حيث فسر فيها الكيمخت
بجلود دواب منه ما يكون ذكيا ومنه ما يكون ميتة:
وتشهد للحمل المتقدم أيضا رواية الحسن بن علي (3) قال: سألت أبا الحسن
عليه السلام فقلت جعلت فداك: إن أهل الجبل تثقل عندهم أليات الغنم فيقطعونها، قال
هي حرام، قلت فيستصبح بها، قال: أما تعلم أنه يصيب اليد والثواب وهو حرام.
حيث يظهر منها أن وجه المنع هو تنجس الثوب واليد به، فتدل على كراهة الاستعمال
ويحتمل أن يكون ارشادا إلى أولوية الترك، لئلا يبتلى بالنجاسة. ومنها صحيحة
البزنطي (4) صاحب الرضا عليه السلام قال: سألته عن الرجل يكون له الغنم يقطع من ألياتها
وهي أحياء، أيصلح أن ينتفع بما قطع، قال: نعم يذيبها ويسرج بها، ولا يأكلها

(1) الوسائل - كتاب الأطعمة والأشربة - الباب 34 - من أبواب الأطعمة المحرمة
(2) الوسائل - كتاب الصلاة - الباب 5 - من أبواب لباس المصلي
(3) الوسائل - كتاب الأطعمة والأشربة الباب 32 - من أبواب الأطعمة المحرمة
ضعيفة بمعلى بن محمد
(4) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 6 - من أبواب ما يكتسب به
52

ولا يبيعها.
والظاهر منها أن الممنوع من الانتفاعات هو الأكل والبيع ونحوه، فقوله
: نعم تجويز الانتفاعات، وقوله: يذيبها من باب المثال، ولهذا قال بعده ولا يأكلها
ولا يبيعها، ولم ينه عن غيرهما، فتدل على جواز مطلق الانتفاع بها غيرهما. وبضميمة
ما دلت على أن الأليات ميتة ولو تنزيلا، يفهم أن لا حكم لها مستقلا غير ما للميتة،
فتدل على جواز الانتفاع بالميتة في ما سوى الأكل والبيع.
ومنها رواية دعائم الاسلام (1) عن علي عليه السلام قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول
لا ينتفع من الميتة بإهاب ولا عظم ولا عصب، فلما كان من الغد خرجت معه فإذا
سخلة مطروحة على الطريق، فقال: ما كان على أهل هذه لو انتفعوا بإهابها، قال:
قلت يا رسول الله صلى الله عليه وآله، فأين قولك بالأمس، قال ينتفع منها بالإهاب الذي لا يلصق
وهي كما ترى حاكمة على كل ما دلت على عدم جواز الانتفاع بجلد الميتة
بل بها مطلقا، فإن الظاهر منها أن الانتفاع بالميتة لا محذور فيه، وإنما المحذور
من جهة السراية، ولعل الالصاق كناية عنها، ويحتمل أن يكون المراد بالجلد
الذي لا يلصق، هو ما عولج بالملح والدباغ، فدلت على عدم جواز الانتفاع قبله
، لكنها ضعيفة السند، وقد تقدم في ذيل رواية اللئالي (2) أنه قال في شاة ميمونة
ألا انتفعتم بجلدها.
وهيهنا عدة روايات تدل على جواز اللبس. كرواية محمد بن أبي حمزة
(3) قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام أو أبا الحسن عليه السلام عن لباس الفراء والصلاة فيها،
فقال: لا تصل فيها إلا ما كان منه ذكيا. فإن السكوت عن حرمة لبسها دليل علي
جوازه، وإنما الممنوع الصلاة فيها (تأمل) وكصحيحة الريان بن الصلت المتقدمة
عن الرضا عليه السلام، وفيها نفي البأس عن لبس أشياء منها الكيمخت. ورواية علي بن

(1) المستدرك كتاب الأطعمة والأشربة الباب 25 - من أبواب الأطعمة المحرمة
(2) المستدرك كتاب الأطعمة والأشربة - الباب 25 - من أبواب الأطعمة المحرمة
(3) الوسائل - كتاب الصلاة - الباب 2 - من أبواب لباس المصلي ضعيفة بمحمد
بن سليمان الديلمي وغيره
53

أبي حمزة (1) أن رجلا سأل أبا عبد الله عليه السلام وأنا عنده، عن الرجل يتقلد السيف
ويصلي فيه قال نعم فقال الرجل إن فيه الكيمخت قال وما الكيمخت فقال: جلود دواب
منه ما يكون ذكيا ومنه ما يكون ميتة فقال: ما علمت أنه ميتة فلا تصل فيه. وهي تدل
على جواز تقليده، وإنما لا يجوز الصلاة فيه. وعن الجعفريات (2) عن الصادق عن أبيه أن عليا عليه السلام
كان يصلي في سيفه وعليه الكيمخت، فإن قوله ذلك يدل على أن الكيمخت ميتة، وإلا فلا وجه لنقله. (تأمل) إلى غير ذلك. والانصاف أن لا
معارضة بين الروايات، بل لما دلت على الجواز نحو حكومة على غيرها (كما تقدم)
، فحمل أخبار الجواز على التقية فرع المعارضة، ومع الجمع العقلائي لا مصير لذلك.
نعم ما يمنعنا عن الجرئة إلى الذهاب إلى الجواز، هو دعاوى الاجماع، وعدم الخلاف،
وعدم وجدانه، والشهرة في المسألة أهمها ما حكي عن الحلي أنه قال (بعد نقل صحيحة
البزنطي المتقدمة الدالة على جواز الانتفاع بأليات الغنم بهذه العبارة) لا يلتفت إلى
هذا الحديث، فإنه من نوادر الأخبار، والاجماع منعقد على تحريم الميتة والتصرف
فيها بكل حال إلا أكلها للمضطر. (انتهى) ويظهر من المسالك (3) أيضا أن عدم جواز
الانتفاع بأليات الميتة، والمبانة من الحي، موضع وفاق. وفي مفتاح الكرامة (4)
بعد حكاية عدم جواز الانتفاع عن المحقق والعلامة والشهيدين والفاضل الهندي
قال: وهو قضية كلام الباقين قطعا لوجهين: أحدهما أن مفهوم اللقب معتبر اجماعا
في عبارات الفقهاء، وبه يثبت الوفاق والخلاف، الثاني ملاحظة السوق والقرائن
(انتهى) لكن يظهر منه عدم تحصيل الاجماع أو الشهرة من كلمات الفقهاء، وإنما
الاستفادة من اجتهاده، ولا يخفى ما فيه، كما أن صريح المحقق الأردبيلي، والمحدث

(1) الوسائل - كتاب الطهارة - الباب 50 - من أبواب النجاسات ضعيفة بعلي بن أبي حمزة
(2) المستدرك - كتاب الصلاة - الباب 39 من أبواب لباس المصلي
(3) كتاب الأطعمة والأشربة - في حرمة أكل ما أبين من حي
(4) كتاب المتاجر - فيما لو كانت نجاسة الدهن ذاتية
54

المجلسي منع الاجماع، ويظهر من السيد الرياض (1) عدم عثوره على اتفاق الأصحاب
حيث قال: مع أن ظاهرهم الاتفاق عليه كما قيل. والمحكي عن الروضة (2) جواز
الاستصباح به وتبعه جملة من متأخري المتأخرين.
وعن الشيخ (3) في ذيل حديث زرارة المتقدم في الاستقاء بجلد الخنزير، أنه قال: الوجه أنه لا بأس أن يستقى به، لكن يستعمل ذلك في سقي الدواب والأشجار و
نحو ذلك. وهذا منه وإن يحتمل أن يكون في مقام جمع الروايات ودفع التناقض عنها
لكن لو لم يجز ذلك لسقي الدواب والأشجار أيضا يكون من قبيل الفرار من المطر إلى
الميزاب. وعنه في النهاية وعن ابن البراج والمحقق في الشرايع والنافع وتلميذه
كاشف الرموز والعلامة في الإرشاد، جواز الاستقاء بجلودها لغير الصلاة والشرب، و
عن صاحب التنقيح ميله إليه. وعن السرائر أنه مروي، ولعله يشعر بميله إليه
(تأمل).
وصرح في القواعد (4) بجواز الوضوء بحوض اتخذ من جلد الميتة إذا كان كرا
وعن ابن الجنيد وفقه الرضا أن جلد الميتة يطهر بالدباغ، فلا محالة يجوز الانتفاع
به حينئذ عندهما، بل هو محتمل الصدوق، بل الصدوقين لموافقة فتواهما لو نوعا،
ولنقل الأول رواية عن الصادق عليه السلام تدل على جواز جعل اللبن والماء ونحوهما في جلد
الميتة، مع قوله قبيل ذلك (في حق كتابه) لم أقصد فيه قصد المصنفين في ايراد جميع
ما رووه، بل قصدت إلى ايراد ما أفتي به، وأحكم بصحته، وأعتقد فيه أنه حجة بيني
وبين ربي. (انتهى) وهو إن لم يف بهذا العهد في كتابه (كما يظهر للمراجع به) لكن

(1) في النوع الأول فيما يكتسب به
(2) في الفصل الأول من المتاجر
(3) نقل صاحب الوسائل هذا الكلام عن الشيخ في ذيل حديث زرارة المتقدم راجع
الوسائل كتاب الطهارة الباب 14 - من أبواب الماء المطلق
(4) كتاب الطهارة - في الفصل الأول من النجاسات
55

رجوعه عنه في أول الكتاب في غاية البعد. وقال في المقنع (1) لا بأس أن تتوضأ من
الماء إذا كان في زق من جلدة ميتة، ولا بأس بأن تشربه. وتجويز ابن الجنيد ومن
بعده وإن كان مبنيا علي طهارة جلدها بالدباغ، أو عدم تنجس المايع به (على احتمال
في كلام الصدوق) لكن مع ذلك تكون استفادة الاجماع من كلام القوم مشكلا،
فإن الاجماع التقديري ليس بشئ، هذا مع عدم وضوح مسلك ابن إدريس في باب
الاجماع. فالأشبه الجواز والأحوط الترك، هذا حال جواز الانتفاع.
وهل يجوز البيع وسائر الانتقالات في ما جاز الانتفاع به، الأقوى هو الجواز،
لعدم دليل على المنع سوى رواية دعائم الاسلام المتقدمة، وهي ضعيفة السند. و
سوى روايات دلت على أن ثمن الميتة سحت كرواية السكوني (2) الموثقة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: السحت ثمن الميتة ومرسلة الصدوق (3) قال قال عليه أجر الزانية
سحت، (إلى أن قال) وثمن الميتة سحت. ورواية حماد بن عمرو (4) وأنس بن
محمد (5) عن أبيه جميعا عن جعفر بن محمد عن آبائه عليهم السلام في وصية النبي
صلى الله عليه وآله لعلى قال: يا علي من السحت ثمن الميتة وسوى صحيحة البزنطي (6)
صاحب الرضا عنه في أليات مقطوعة وفيها يذيبها ويسرج بها ولا يأكلها ولا يبيعها،
ورواها الحميري بإسناده عن موسى بن جعفر عليه السلام وما عدا الأخيرة مخصصة
بصحيحة محمد بن عيسى المتقدمة عن الصيقل التي يظهر منها جواز الانتفاع بجلد
الميتة وجواز بيعها لذلك والظاهر أن العرف مساعد لالقاء الخصوصية والجمع بينها
وبين ما تقدم، بأن كل مورد يجوز الانتفاع بها يجوز بيعها لذلك، وإنما يحرم

(1) كتاب الطهارة - باب الوضوء
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 5 - من أبواب ما يكتسب به الثالثة ضعيفة بحماد بن عمرو الرابعة ضعيفة بأنس بن محمد
(3) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 5 - من أبواب ما يكتسب به الثالثة ضعيفة بحماد بن عمرو الرابعة ضعيفة بأنس بن محمد
(4) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 5 - من أبواب ما يكتسب به الثالثة ضعيفة بحماد بن عمرو الرابعة ضعيفة بأنس بن محمد
(5) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 5 - من أبواب ما يكتسب به الثالثة ضعيفة بحماد بن عمرو الرابعة ضعيفة بأنس بن محمد
(6) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 6 - من أبواب ما يكتسب به
56

بيعها ويكون ثمنها سحتا إذا بيعت للأكل ونحوه مما لا يجوز الانتفاع بها.
ويؤيد ذلك رواية أبي مخلد السراج (1) قال كنت عند أبي عبد الله (ع) إذ دخل عليه
معتب (2) فقال بالباب رجلان، فقال أدخلهما فدخلا. فقال: أحدهما إني رجل سراج
أبيع جلود النمر، فقال: مدبوغة، قال نعم، قال لا بأس، لقوة احتمال أن تكون
جلود النمر للميتة، لبعد ذكيته، واشعار قوله مدبوغة بذلك، أو دلالته عليه،
وذكر الدباغ لا يدل على صدورها تقية، لعدم الحكم بطهارتها أو صحة الصلاة فيها.
ولعل الدباغة دخيلة في الحكم، أو في رفع الكراهة،
وتؤيده صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج (3) قال سألت أبا عبد الله عليه السلام عن
الفراء اشتريه من الرجل الذي لعلى لا أثق به، فيبيعني على أنها ذكية، أبيعها على
ذلك، فقال: إن كنت لا تثق به فلا تبعها على أنها ذكية، إلا أن تقول قد قيل لي
إنها ذكية. فإن مقتضى اطلاقها جواز الاشتراء والبيع، وإن كان الرجل مجهول
الحال، ولم يكن في سوق المسلمين، إلا أن يقال: بكونه بصدد بيان حكم آخر
وهو جواز الشهادة بمجرد قول البايع، مع عدم وثاقته، فاطلاقها مشكل بل ممنوع
وكيف كان فلا بأس بالجمع المذكور، ولا يبعد حمل الأخيرة على ذلك أيضا، لأن
الانتفاع المتعارف من الأليات هو الأكل، وأما الإذابة للاسراج فمن المنافع النادرة
الغير المتداولة، فالنهي عن بيعها لعله لأجل المنفعة المتعارفة التي كانت البيوع لها.
وإن شئت قلت: إنها منصرفة عن البيع للمنفعة النادرة، فالجواز مطلقا
للمنافع المحللة لا يخلو من قوة، وقد استقصينا سابقا كلمات القوم، وقلنا: بأن
الظاهر منهم جواز البيع وسائر الانتقالات مع جواز الانتفاع، إذا كان النفع عقلائيا
موجبا لمالية الشئ فراجع.

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 38 - من أبواب ما يكتسب به ضعيفة بأبي
مخلد وعلي بن أسباط
(2) هو مولى أبي عبد الله عليه السلام (منه)
(3) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 38 - من أبواب ما يكتسب به
57

فرع
كما لا يجوز بيع الميتة للمنفعة المحرمة (كالأكل منفردا) لا يجوز
بيعها في ضمن المشتبه بالمذكى، وكذا لا يجوز بيع المذكى الواقعي بينهما،
لعدم جواز الانتفاع بواحد منهما عقلا، للعلم الاجمالي المنجز للواقع، فيكون أخذ
المال في مقابل المذكى الذي سقط الانتفاع به مطلقا، أكلا للمال بالباطل. هذا
مع كون المشتري مسلما، وكذا لو كان كافرا وقلنا: إن الكفار مكلفون بالفروع
(كما هو الأقوى). وأما لو قلنا: بعدم كونهم مكلفين بها، وجاز لهم أكل الميتة،
والتصرف فيها، فالظاهر جواز بيع الواقعي المذكى منه، لأن المسلم جاز له الانتفاع
بالمذكى الواقعي مع الامكان، وأخذ المال في مقابله انتفاع به، والكافر جاز له
الانتفاع بالمشتبهين فرضا، ولا دليل على لزوم كون المبيع بشخصه ممكن الانتفاع
للبايع، ولهذا لو كان البايع والمشتري مسلمين، واشتبه المذكى بالميتة لدى البايع
دون المشتري، صح بيع المذكى الواقعي من المسلم العالم بالواقع، وليس أخذ
المال بإزائه أكلا له بالباطل.
نعم مع جهل المشتري أيضا لا يجوز البيع بقصد المذكى الواقعي (كما
مر) إلا أن يقال بعدم جريان أصالة عدم التذكية في المشتبهين، ولو لم يلزم من
جريانهما مخالفة عملية (كما فيما نحن فيه) وقلنا: بجريان أصالة الحل في أحدهما
تخييرا. فحينئذ يمكن أن يقال: بجواز البيع بالقصد المذكور (كما اختاره
الشيخ الأنصاري (1) ويأتي الكلام فيه).
ويمكن أن يقال: بجواز بيع أحدهما مخيرا، فللبايع أن يختار أحدهما،
ويبيعه من مسلم وغيره بمقتضى أصالة الحل وقال بعض المدققين (2) إن أصالة الحل لا يثبت بها
إلا جواز الأكل ولا يحز بها المذكى الواقعي والمفروض عدم جواز بيعه الميتة الواقعية
فمع الشك في تحقق الموضوع القابل للنقل والانتقال، يحكم بأصالة عدم الانتقال
وإن لم يكن هناك أصل يثبت به عدم كونه مذكى، وذلك نظير المال المردد بين
كونه مال الشخص أو مال غيره، فإنه وإن قلنا: بجواز أكله إذا لم يكن مسبوقا

(1) راجع المكاسب في عدم جواز بيع الميتة منضمة إلى المذكى
(2) هو العلامة الميرزا الشيرازي الثاني رحمه الله
58

بكونه ملكا لغيره، لكن لا نقول بجواز بيعه، للشك في الملكية المترتب عليها
جواز البيع ونفوذه، (وفيه) أن مفاد أصالة الحل ليس حلية الأكل فقط، بل مقتضى
اطلاق أدلتها جواز ترتيب جميع آثار الحلية على المشكوك فيه ظاهرا، ومن آثارها
جواز البيع وصحته بل الظاهر أن مفاد أصالة الحل أعم من التكليفية والوضعية،
فإذا شك في نفوذ بيع المشكوك فيه، يحكم بنفوذه بأصالة الحل الوضعي.
بل يمكن أن يقال إن جواز الأكل وسائر الانتفاعات، كاشف عن ملكيته
لدى الشارع ولو ظاهرا، كما أن النهي عن جميع التصرفات كاشف عن سقوطها لديه،
أو يقال: إن ملكية الميتة المعلومة وما ليتها عقلائية، لا بد في نفيهما من ردع الشارع،
ولا دليل على الردع في مورد المشتبه، مع تجويز الشارع الانتفاعات بها، فمع
ثبوت ماليته وملكيته وجواز التصرف فيه يصح بيعه باطلاق أدلة تنفيذه، فقوله بعد
ذلك: بأنه لا دليل على ترتيب جميع أحكام عدم الحرمة الواقعية على الحلية الثابتة
بأصالة الحل في مشتبه الحكم، (جوابه) إن الدليل عليه اطلاق أدلة أصالة الحل،
فإن قوله: في صحيحة ابن سنان (1) كل شئ فيه حلال وحرام، فهو لك حلال أبدا،
حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه: لا قصور فيه لاثبات جميع آثار الحلية الواقعية
عليه، لأن الحلية لما لم تكن واقعية: تحمل على الظاهرية، وبحسب ترتيب الآثار
بلسان جعل الموضوع، واطلاقه يقتضي ترتيب جميع الآثار، وأوضح منها موثقة
مسعدة بن صدقة (2) لو قلنا: بأنها من أدلة أصالة الحل، وإن لا يخلو من مناقشة
ذكرناها في محله.
فتحصل مما ذكرناه، أن الحكم على صحة البيع لا يتوقف على احراز كونه
مذكى بأمارة معتبرة، أو احراز عدم كونه ميتة كذلك هذا، مضافا إلى امكان
استصحاب كون المشتبه قابلا للنقل والانتقال، ومملوكا يجوز فيه أنحاء التصرفات
فتكون تلك الاستصحابات حاكمة على استصحاب عدم الانتقال. وتوهم عدم بقاء
الموضوع لعروض الموت على الحيوان قد فرغنا عن جوابه في محله، فمع عدم

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 4 - من أبواب ما يكتسب به
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 4 - من أبواب ما يكتسب به
59

ثبوت المنع الشرعي يكون البيع عقلائيا، منسلكا تحت أدلة تنفيذه، فتحصل مما
ذكر أنه بعد قصور أدلة عدم جواز بيع الميتة الواقعية لاثبات الحكم في المشتبه،
وبعد البناء على عدم جريان أصالة عدم التذكية، والبناء على جريان أصالة الحل،
وسائر الأصول الشرعية في أحد الطرفين تخييرا: أن مقتضى الأصول صحة بيعه،
وإن قلنا: بأن أصالة الحل لا تفي بذلك، بل الاستصحابات المذكورة
مقدمة عليها.
وقد يقال: إنه يعتبر في صحة البيع الملكية، وكذا صحة الانتفاع بما هو
ملك، وفي المقام إن باع المذكى الواقعي فقد أوقع البيع على ملكه، لكن صحة
الانتفاع به مشكوك فيها، لاحتمال أن يكون مختاره غير مملوكة، وإن أوقع البيع
على المشتبه، يكون ملكيته له مشكوك فيها، فلا يمكن احراز الشرطين.
(والجواب) إنا نختار بيع أحد المشتبهين، ونحرز الملكية بالاستصحاب كما تقدم
لأن المفروض جريان الأصول في أحد الأطراف تخييرا.
وقد يجاب عن الاشكال بعد اختيار بيع المذكى الواقعي، بأن جواز الانتفاع
بكل من المشتبهين تخييرا من آثار ملك المذكى الواقعي، الموجود يقينا في
المشتبهين ومن منافعه، وهذا القدر كاف في تحقق الانتفاع المعتبر في صحة البيع
فإنه ليس من أكل المال بالباطل، (بعد تسليمهما للمشتري) وجواز انتفاعه بأحدهما
الذي هو نتيجة ملكية المذكى الواقعي المردد بينهما، (وفيه) أن جواز الانتفاع
بأحدهما المردد لا يعقل أن يكون من آثار ملكيته الواقعية لأحد الطرفين،
فإن أثر الملكية الواقعية جواز التصرف في خصوص الملك، لا في غيره،
ولا في المردد بينه وبين غيره، مع أن الحلية التي من أحكام الملك
واقعا هي الحلية الواقعية لا الظاهرية ولا الأعم.
والتحقيق أن ملكية المذكى الواقعي محققة لموضوع الاشتباه، كما أن
الميتة الواقعية أيضا دخيلة في ذلك، وكذلك الاختلاط بينهما. وأما الحلية الظاهرية
فهي مجعولة على المشتبه بما هو كذلك، لا من آثار الواقع، ضرورة عدم امكان تعدي
60

الحكم والأثر من موضوعه إلى موضوع آخر. فلو قيل إن جواز الانتفاع الظاهري
كاف في صحة البيع، فالأولى حينئذ أن يختار صحة بيع أحد الطرفين، لكن القائل
المحقق استشكل في ذلك بأنه يمكن أن يقال: إن المانع للبيع هو حرمة الانتفاع
واقعا الذي هو غير معلوم الارتفاع، فراجع كلامه زيد في علو مقامه. هذا كله
على المباني الغير المسلمة
والتحقيق حسب اقتضاء العلم الاجمالي عدم جواز الانتفاع بواحد منهما،
لا أكلا ولا بيعا من مسلم ولا من كافر، بناء على تكليفهم بالفروع، لكن هاهنا
نكتة يجب التنبيه عليها، وهي أن العلم الاجمالي قد يتعلق بالحكم الفعلي والإرادة
الفعلية الجازمة، وفي مثله لا يمكن احتمال الترخيص لأحد الطرفين، فضلا عنهما،
بل مع العلم بالإرادة الفعلية للمولى لا يمكن احتمال صدور الترخيص منه في الشبهة
البدوية أيضا، لعدم امكان احتمال وقوع التناقض في إرادته، فالعلم الاجمالي كذلك
علة تامة لوجوب الموافقة وحرمة المخالفة ومع هذا العلم تطرح أدلة الأصول حتى
في الشبهات البدوية.
وقد يتعلق العلم بحجة شرعية لأجل اطلاق دليل أو عمومه لمورد المشتبه،
كما في قوله تعالى: حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير، فإن اطلاقه
يقتضي حرمة الميتة واقعا، سواء كان الموضوع معلوما أو لا، وفي مثله يمكن
احتمال الترخيص في ارتكاب جميع أطراف المعلوم بالاجمال، فضلا عن بعضه، فمع
ورود الترخيص يستكشف عن عدم فعلية إرادة المولى في المورد المشتبه، إما
بتقييد الاطلاق أو بأنحاء أخر من التصورات التي في الأصول وكيف كان إذا كان العلم
الاجمالي من قبيل الثاني، كما في نوع الموارد، لا يجوز ترك ظاهر دليل معتمد
دل على الترخيص في بعض الأطراف أو جميعها، لعدم حكم للعقل في مثله، وعدم
كون الترخيص مخالفا للقواعد والعقول، ولعل الخلط بين المقامين صار موجبا
لطرح بعض الروايات الصحيحة الدالة على الترخيص، في أطراف العلم الاجمالي.
إذا عرفت ذلك فنقول: إن الكلام في المقام تارة في جواز الانتفاع بأطراف
المشتبه أكلا وغيره، فيظهر من الأردبيلي الميل إليه في مطلق المشتبهات، وتمسك
61

في المقام بصحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام: قال كل شئ فيه حلال و
حرام، فهو لك حلال أبدا، حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه. وصحيحة ضريس
الكناسي عن أبي جعفر عليه السلام (1) وهناك روايات أخر، ربما يأتي الكلام فيها مستقصى،
في باب المال المختلط بالحرام انشاء الله، لكن الأقوى في المقام عدم جواز الانتفاع
بهما، لا لطرح الأدلة، بتوهم كونها خلاف العقل والقواعد، لما عرفت، بل لظهور
صحيحتي الحلبي الآتيتين عرفا في عدم جواز أكلهما، أو أكل أحدهما، وعدم
جواز انتفاع آخر بهما إلا بيعهما للمستحل، وأن الطريق المنحصر في الاستفادة
هو ذلك، وبهما يخصص كل ما دلت على تجويز ارتكاب أطراف الشبهة، لو سلمت دلالتها،
وبهذا يظهر عدم جواز تعرف حالهما بالعرض على النار بالانبساط والانقباض، كما
حكى عن الدروس الميل إليه، فإن ذلك لو كان أمارة مطلقا لكان على أبي عبد الله عليه السلام
بيانه، لكشف الواقع وعدم ارتكاب خلاف القواعد، فلا يتعدى عن مورد رواية شعيب (2)
في اللحم المطروحة، لو قلنا بجواز العمل بها في موردها.
وأخرى في صحة بيعهما ممن يستحل الميتة، ولا شبهة في أنه كما يلزم من
بيعهما جميعا رفع اليد عن أدلة حرمة بيع الميتة، وأن ثمنها سحت، وعن دليل حرمة
اقباض الميتة للأكل ممن تحرم عليه، فإن الكفار أيضا مكلفون: كذلك يلزم من
بيع المذكى الواقعي خلاف القواعد، سواء بين الواقعة للمشتري، واشترى هو أيضا
المذكى أو لا، فعلى الأول يلزم الجهالة والغرر في بعض الأحيان، كما لو كان
أحدهما مهزولا والآخر سمينا، واختلف قيمتهما، إن قلنا بأنه غير مطلق الجهالة، و
أنها مفسدة كالغرر. وتسليط الكافر على الأكل والانتفاع المحرم عليه واستحلاله:
لا يوجب حليته عليه، وعلى الثاني يلزم مضافا إلى ما ذكر، عدم مطابقة الإيجاب
للقبول، فإنه ببيع المذكى بدرهم، والمشتري يقبلهما به، فلا مطاوعة بينهما، وليس

(1) الوسائل - كتاب الأطعمة والأشربة - الباب 65 - من أبواب الأطعمة المحرمة
(2) الوسائل - كتاب الأطعمة والأشربة - الباب 37 من أبواب الأطعمة المحرمة -
ضعيفة بإسماعيل بن شعيب
62

هذا نظير بيع ما يملك وما لا يملك، حيث يقال فيه بانحلال والصحة فيما يملك، دون
غيره. فإن المطاوعة هناك حاصلة، والانحلال عقلائي أو تعبدي، ولا معنى للانحلال
هاهنا، لعدم مقابلة مال بالميتة، لعدم ايجاب البيع بالنسبة إليها، بل لا يجوز له في
هذه الصورة أخذ مقدار ثمن المذكي، لأنه مأخوذ بالبيع الفاسد، فضلا عن جميعه،
فالتخلص من بيع المجموع إلى بيع المذكى الواقعي، كما استحسنه المحقق، واختاره
العلامة، فرار من المطر إلى الميزاب، لو كان نظرهما إلى الفرار عن بيع الميتة،
لا الاستظهار، من صحيحتي الحلبي وعلي بن جعفر.
ففي صحيحة الحلبي (1) قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إذا اختلط الذكي
والميتة: باعه ممن يستحل الميتة، وأكل ثمنه، وفي صحيحته الأخرى (2) عنه عليه السلام
أنه سئل عن رجل كان له غنم وبقر، وكان يدرك الذكي منها فيعز له ويعزل الميتة
ثم إن الميتة والذكي اختلطا كيف يصنع به، قال يبيعه ممن يستحل الميتة، ويأكل
ثمنه، فإنه لا بأس به، وعن علي بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى عليه السلام (3) نحوها.
وجه الاستظهار دعوى رجوع الضمير في قوله باعه أو يبيعه إلى المذكى، ثم إن
أراد البايع وقوع البيع على المذكى، لا بد من اخبار المشتري للواقعة، حتى يقع
البيع صحيحا، فيستفاد منها بنحو من اللزوم لزوم اخبار الطرف بالواقعة قبل ايقاع
البيع عليه، وإن يظهر من المحقق والعلامة (ولو من اطلاق كلامهما) عدم لزوم الاخبار،
(وفي الاستظهار نظر) لأن المتفاهم العرفي منها أن الضمير راجع إلى المختلط
، وأن السؤال في الثانية عن حال المال المختلط الخارجي، وقوله: ما يصنع به أي
ما يصنع بهذا الموجود المختلط، وقوله يبيعه أي يبيع ذلك المختلط، لا خصوص
المذكى، والحمل على بيع خصوص المذكى وتسليم المجموع من باب المقدمة:
بعيد عن الأذهان العرفية.
والشاهد على أن المراد بيع المجموع، قوله: يبيعه ممن يستحل الميتة

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 7 - من أبواب ما يكتسب به
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 7 - من أبواب ما يكتسب به
(3) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 7 - من أبواب ما يكتسب به
63

ويأكل ثمنه، فإن الظاهر منه أن الاستحلال موجب لجواز بيع الميتة وأكل ثمنها،
وليس النظر إلى مقام التسليم، فقوله: يأكل ثمنه إشارة ظاهرة إلى ما هو مروي
عن النبي صلى الله عليه وآله والوصي عليه السلام بأن ثمن الميتة سحت، فكأنه قال إذا اشتبه الميتة
والمذكى يحل ثمن الميتة، وليس بسحت في هذه الصورة، فالأقوى جواز بيعهما
بل تعينه، وعدم جواز بيع المذكى الواقعي، لما عرفت من مخالفته للقواعد، واللازم
الاقتصار على ظاهر الروايات فيبيعهما، كما هو ظاهر الشيخ وابن حمزة، والاحتمال
المتقدم بعيد عن كلامهما جدا، وهو ظاهر الأردبيلي مشفوعا بدعوى الشهرة
عليه، قال بعد استبعاد حمل الخبرين على بيع الواقع المذكى: (أو تخصيص عدم
الانتفاع بالميتة، وعدم جواز أكل ثمنه إلا في هذه الصورة، وكذا تسليط الكافر على
أكل الميتة للنص والشهرة، ومن لم يعمل بالخبر الواحد مثل ابن إدريس يطرحهما
، ولم يجوز بيعه (انتهى) والظاهر منه اختيار هذا الوجه، وهو الأقوى.
وأما حملهما على جواز استنقاذ مال المستحل للميتة بذلك برضاه، وعدم
البيع الحقيقي، كما عن العلامة واستجوده الأردبيلي، فيه ما لا يخفى من البعد.
وأبعد منه ما احتمله شيخنا الأنصاري (1) من حملهما على صورة قصد البايع المسلم
أجزائها التي لا تحلها الحياة: من الصوف والوبر ونحوهما، قال وتخصيص المشتري
بالمستحل، لأن الداعي له على الاشتراء اللحم أيضا، ولا يوجب ذلك فساد البيع، ما
لم يقع العقد عليه (انتهى)
وأنت خبير بأن طرحهما خير من هذا الحمل المقطوع الخلاف، مع ورود بعض
الاشكالات المتقدمة عليه، على فرض قصد البايع الأجزاء دون المشتري، كما هو
ظاهر كلامه.
ثم إن الميتة من غير ذي النفس السائلة تجوز المعاوضة عليها وعلى أجزائها
القابلة للانتفاع العقلائي، لقصور الأدلة عن اثبات منعها، واختصاصها أو انصرافها
إلى غيرها.

(1) راجع المكاسب - في عدم جواز بيع الميتة منضمة إلى المذكى
64

ومنها الكلب البري: وهو على أقسام، منها الكلب السلوقي الذي يستعمل
في الصيد غالبا، وهو من أحسن الكلاب، وأخفها، ويقال بالفارسية (تازى) ولعل
التسمية به لأجل كونه من بلاد العرب، كما في القاموس وغيره: إن السلوق كعبور
قرية باليمن تنسب إليها تلك الكلاب، ومنها غير السلوقي، وهو إما ينتفع به انتفاعا
عقلائيا للتصيد، أو لحراسة الماشية أو الحائط: أي البستان أو الزرع أو الدور و
نحوها، أو لمنافع أخر كما يستعمل بعض الأنواع منه في كشف الجرائم والتفتيشات،
وقد يتخذ لصرف اللعب والتفريح والأنس به، كما هو المتعارف عند أقوام، أو لا ينتفع
به إما لصيرورته عقورا هراشا، أو مجنونا خارجا عن طاعة البشر بعروض داء الكلب
عليه، وهو داء يشبه الجنون، يعرض الكلاب فتعض الناس، فيسري إليه فيكلب
أيضا، وإما لذهاب ملكة التكالب عنه، أو صيرورتها ضعيفة فيه، كالكلاب المهملة
التي تعيش في الأزقة والشوارع، وهي غير صالحة للتصيد، وغير قابلة نوعا للتربية
لسائر المنافع.
لا اشكال في جواز المعاوضة على القسم الأول، إذا كان صيودا، وهو المتيقن
من الأخبار، وكلمات الأصحاب ومعا قد الاجماعات كما لا اشكال في عدم الجواز في
الأخير لما لا ينتفع به، وهو المتيقن من الأخبار ومعا قد الاجماعات علي عدم الجواز
إنما الكلام في سائر الأقسام، والأولى صرف الكلام إلى أخبار الباب وهي على طائفتين:
الأولى ما لم يذكر فيها قيد الصيد والاصطياد ونحوهما مما يمكن
دعوى الاطلاق فيها كموثقة السكوني (1) عن أبي عبد الله عليه السلام قال السحت
ثمن الميتة وثمن الكلب وثمن الخمر ومهر البغي والرشوة في الحكم وأجر
الكاهن ورواية حماد بن عمرو (2) وأنس بن محمد (3) عن أبيه جميعا عن جعفر بن
محمد عليه السلام عن آبائه (ع) في وصية النبي صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام قال يا علي من

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 5 - من أبواب ما يكتسب به.
(2) الوسائل كتاب التجارة - الباب 5 - من أبواب ما يكتسب به الأولى ضعيفة بحماد بن عمرو والثانية ضعيفة بأنس بن محمد
(3) الوسائل كتاب التجارة - الباب 5 - من أبواب ما يكتسب به الأولى ضعيفة بحماد بن عمرو والثانية ضعيفة بأنس بن محمد
65

السحت ثمن الميتة، وثمن الكلب وثمن الخمر (الخ) ويمكن انكار الاطلاق فيهما،
وما يشبه بهما مما هي في مقام عد جملة من السحت، أو من المنهي عنه، بأن يقال:
إنها ليست بصدد بيان حكم كل عنوان، حتى يؤخذ باطلاقها، بل بصدد بيان عدما
هو سحت، نظير أن يقال: إن في الشرع محرمات: الكذب، والغيبة، والتهمة، و
الربا، إلى غير ذلك، أو في الشرع واجبات: الصلاة، والزكاة، والحج الخ أو
قوله: (1) بني الاسلام على خمس: الصلاة والزكاة (الخ). فإنه لا يصح الأخذ بالاطلاق
فيها، فيقال إن الكذب مطلقا حرام، ولا باطلاق وجوب الصلاة لرفع ما شك في جزئيته
أو شرطيته فيها. والمقام من هذا القبيل، فإن قوله: من السحت كذا وكذا في مقام
عد أقسام السحت اجمالا لا بيان حكم الكلب والميتة، فالأخذ بالاطلاق في نحوه مشكل.
وكحسنة الحسن بن علي الوشا (2) قال سئل أبو الحسن الرضا عليه السلام عن شراء المغنية قال:
قد تكون للرجل الجارية تلهيه، وما ثمنها إلا ثمن كلب، وثمن الكلب سحت،
والسحت في النار، وقد أوردها في الوسائل، في باب تحريم بيع الكلاب أيضا،
مع تقطيع، و توصيف الحسن بن علي بالقاساني، وهو من اشتباه النسخة، أو قلمه
الشريف، والصحيح الوشا، لعدم رواية لغير الوشا في المقام في الكافي الشريف، و
عدم ذكر من الحسن بن علي القاساني في الرجال، فهي عين الرواية المتقدمة،
كما أن ما عن العياشي (3) في ذلك الباب عينها، وتمامها ما نقلناه، وكيف كان
يمكن انكار الاطلاق فيها أيضا، بدعوى أنها بصدد بيان حكم شراء المغنية وثمنها،
لا شراء الكلب وثمنه، بل الظاهر كون ثمن الكلب مفروض الحكم وقد شبه ثمن
المغنية به فلم تكن بسبب بيان حكم الكلب فلا اطلاق فيها (تأمل)
ومن هذا القبيل، صحيحة إبراهيم بن أبي البلاد (4) قال: قلت لأبي الحسن

(1) الوسائل - كتاب الطهارة - الباب 1 - من أبواب مقدمة العبادات
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 16 - من أبواب ما يكتسب به حسنة بحسن
بن علي الوشا.
(3) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 14 - من أبواب ما يكتسب به
(4) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 16 من أبواب ما يكتسب به
66

الأول عليه السلام جعلت فداك، إن رجلا من مواليك عنده جوار مغنيات، قيمتهن أربعة
عشر ألف دينار، وقد جعل لك ثلثها، فقال: لا حاجة لي فيها أن ثمن الكلب و
المغنية سحت. فإن الظاهر أن ذكر الكلب مع عدم كونه مورد الكلام، لذكر
التسوية بينهما، وكأنه عليه السلام بصدد بيان نحو تحقير عن ثمن المغنيات وشرائها، بأن
ثمنها وثمن الكلب سواء، لا بصدد بيان حكم الكلب، من غير سبق سؤال وبمجرد
الاقتراح، بقيت رواية جراح المدائني (1) قال: قال أبو عبد الله عليه السلام، من أكل
السحت ثمن الخمر، ونهى عن ثمن الكلب، وهي مع ضعفها، ووهن متنها لفظا،
بحيث ربما لا يليق ذلك التركيب للفصيح، لا تصلح لاثبات حكم، لو سلم
اطلاقها.
والطائفة الثانية ما ذكر فيها ذلك، كموثقة محمد بن مسلم (2) وعبد الرحمن
بن أبي عبد الله (التي هي كالصحيح) عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ثمن الكلب الذي
لا يصيد سحت، ثم قال: ولا بأس بثمن الهر، ورواية أبي عبد الله العامري (3) قال
سألت أبا عبد الله عليه السلام عن ثمن الكلب الذي لا يصيد، فقال: سحت، وأما الصيود
فلا بأس، ولا يبعد أن يكون الوليد العماري الراوي لذلك المتن بعينه عن أبي
عبد الله عليه السلام (كما في الوسائل) هو الوليد العامري، واشتبه في النسخة، ومن
المحتمل أنه أبو عبد الله العامري، والروايتان واحدة، ورواية أبي بصير (4) عن أبي
عبد الله عليه السلام في حديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: ثمن الخمر، ومهر البغي، و
ثمن الكلب الذي لا يصطاد، من السحت، وفي هذه الروايات (بعد وضوح عدم كون

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 14 - من أبواب ما يكتسب به الأولى ضعيفة
بجراح وغيره
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 14 - من أبواب ما يكتسب به الأولى ضعيفة
بجراح وغيره
(3) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 14 - من أبواب ما يكتسب به ضعيفة بقاسم
بن وليد العماري وغيره
(4) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 14 - من أبواب ما يكتسب به ضعيفة بقاسم
بن محمد الجوهري.
67

المراد من قوله: لا يصيد، ولا يصطاد، والصيود، هو عدم الاشتغال الخارجي فعلا،
أو الاشتغال كذلك) وجوه من الاحتمال.
أحدها أن يكون قوله: الذي لا يصيد إشارة إلى أقسام ما عدا الكلب السلوقي،
وقوله: والصيود، أو كلب الصيد، (كما في بعض الروايات) إشارة إلى السلوقي،
بمعنى أن ذكر الموصول وصلته، لمحض معرفية موضوع الحكم، من غير دخالة للوصف
فيه فيكون ذات السلوقي موضوعا لعدم الحرمة، سواء كان صيودا أو لا، وغيره
موضوعا للحرمة، صيودا كان أو لا، لكن هذا الاحتمال بعيد عن ظواهر الأخبار،
لأن التوصيف والتقييد ظاهران في الموضوعية، أو الدخالة، سيما مثل قوله: وأما الصيود.
ثانيها أن يكون العنوان دخيلا، لكن يكون المراد من الصيود، والذي يصيد
هو الكلب المعلم، كان سلوقيا أو لا، ومن الذي لا يصيد أو لا يصطاد غير المعلم،
بدعوى انصراف الأخبار إليهما، وفيها منع الانصراف، سيما مثل قوله: لا يصيد، و
لا يصطاد، فإن الظاهر منهما سلب الوصف، لا سلب القيد مع ثبوت أصل الوصف،
فحينئذ يكون الصيود الذي في مقابله، هو ما ثبت له الوصف، ويتلوه في الضعف
احتمال الانصراف إلى السلوقي المعلم، (نعم) لا يبعد انصراف قوله: كلب الصيد إلى
المعلم، بل إلى السلوقي منه، ويأتي الكلام فيه.
ثالثها أن يكون المراد من الصيود ما يتخذ للصيد، وفي مقابله ما لا يتخذ له
وهو بعيد أيضا، لأن الظاهر من العناوين ما هي ثابتة للكلاب، من غير دخالة اتخاذها
لها، أو عدمه.
رابعها أن يكون المراد ما ثبت له نفس العناوين، من غير دخالة للتعيين و
عدمه، ولا للاتخاذ وعدمه، فما ثبت له أنه الذي لا يصيد، يكون ثمنه سحتا، وما
يصطاد. أو كان صيودا، ثمنه محلل. ثم الوصف يحتمل أن يكون بمعنى الشغل
الفعلي، فيكون المراد من الذي لا يصيد، ما لا يكون شغله الفعلي الاصطياد، حتى
لا يشمل كلب الصيد الذي جعل صاحبه شغله الحراسة مثلا، ومقابله ما يكون
شغله ذلك، فينطبق غالبا على الاحتمال الثالث. ويحتمل أن يكون بمعنى زوال
68

ملكة الصيد عنه، وثبوتها له، فيكون معنى قوله: الذي لا يصيد، الذي سلب عنه
وصف كونه صيودا وصائدا، وزالت ملكته، وفي مقابله ما ثبت له الوصف
والملكة.
ولا يبعد أن يكون الأقرب بين الاحتمالين الأخيرين هذا الاحتمال، بعد
أظهريتهما من سائرها ويشهد لما قلنا من أن الموضوع في هذا الباب نفس العنوان،
من غير دخالة للتعليم فيه، بعد اطلاق الأدلة: أن الأخبار الواردة في حكم الصيد
وجواز أكله (في أبواب الصيد والذبائح) (1) مشحونة بذكر الكلب المعلم، و
كثر فيها التقييد بذلك العنوان، وأما في المقام فلم يرد خبر مشعر بكون الكلب
المذكور هو المعلم، وذلك لأن الموضوع للحكم هناك هو الكلب المعلم، بخلافه
هاهنا فتحصل مما ذكر، أن الأظهر في قوله: الكلب الذي لا يصيد، أو لا يصطاد،
هو ما سلب عنه هذا الوصف، وهذه الملكة. وإنما قلنا هذا الاحتمال أقرب من
سابقه، لأن الكلب الذي له ملكه الاصطياد بحيث لو استعمل في الصيد يصطاد،
يصدق عليه أنه صيود، ولا يصح سلب العنوان عنه، وليس المراد من لا يصيد، عدم
العمل الخارجي، مقابل العمل كذلك، ولهذا قابله بالصيود، فالمراد منه ما ليس
بصيود، والكلب الذي لو ترك يصيد، لا يقال إنه لا يصيد، أوليس بصيود، بمجرد
منع صاحبه عنه، ولهذا لا ريب في أن الكلب المعلم صيود وصائد، ويصدق عليه
أنه يصيد ويصطاد، ولو لم يستعمله صاحبه في الصيد، ومنعه عنه.
ثم بعد ما علم من قوة هذا الاحتمال، يقال: إن الصيود والصائد، وسائر
المشتقات منه عناوين وصفية، صادقة على مطلق الاصطياد، كان الصيد من قبيل
الغزال أو غيره من الحيوانات الممتنعة الوحشية من غير اعتبار قيد الحلية فيها،
بحسب اللغة والعرف جزما، فإذا كان الكلب يصيد الذئب، أو ابن آوى، أو
الثعلب، يصدق عليه أنه صيود، وصائد عرفا ولغة، فالكلب الصيود ما كان يصيد
الحيوان الممتنع، من غير دخالة خصوصية حيوان فيه.

(1) الوسائل - كتاب الصيد والذبايح - الباب 1، 3، 4، 5، 7، 10، 15 من
أبواب الصيد.
69

فيمكن أن يقال: إن مطلق الكلاب عدا الكلاب المهملة التي في الأزقة
والأسواق، مما زالت عنها ملكة الاصطياد والتكالب: داخل في عنوان الكلب
الذي يصطاد والصيود، ولا يصح أن يقال: إنها لا يصطاد أو ليست بصيود، وإن كانت
الماشية والحراسة ونحوهما، والكلب ما لم تكن له ملكة الاصطياد لا يتخذ للماشية
وحفظ الأغنام ونحوهما، فالكلاب على صنفين (أحدهما) ما زالت عنها صفة التصيد
وهي التي صارت مهملة، ولم يكن لها التكالب، وهي الكلاب الدائرة في الأزقة
مهملة، أو العائشة على صدر صاحبها العياش الملاعب بها، والمؤانس معها على
تأمل في الثانية، (وثانيهما) ما بقيت على صفتها وسلكتها السبعية، وهي صيود
وسبع بطبعها، وصادق عليها أنها تصيد وتصطاد، سواء اتخذت للاصطياد، أو لحفظ
الأغنام، أو لحراسة البلد، أو القرية أو المزارع ونحوها، فالميزان في جواز البيع
هو صدق الوصف عليها لا استعمالها في الصيد أو اشتغالها به، والظاهر صدق العناوين
على جميع الأنواع، فكلاب الأغنام والمواشي صيود، تصيد الذئب والغزال وغيرهما
ولو فرض بعيد اسلب صفة الاصطياد، عن بعض ما يتخذ للحراسة يمكن الحكم
بصحة معاملته، بعدم القول بالفصل، بل وبالاستصحاب (تأمل).
إن قلت: لو فرض صدق العناوين لغة وعرفا لكن الأخبار منصرفة إلى الكلاب
المستعملة للتصيد قلت: نمنع انصراف ذلك الوصف العنواني سيما مع مقابلة الصيود
للذي لا يصيد، فإن الثاني أعم من الكلاب المتخذة للصيد، وزالت عنها صفتها وليس
منحصرا بقسم منها، وكذا الأول مع أن الميزان الانصراف في زمان الصدور ولم يتضح
الانصراف فيه (تأمل).
نعم كلب الصيد عبارة عن الكلب الذي اتخذ له، ويكون شغله ذلك، إذ
هو منصرف إليه أو منصرف إلى خصوص السلوقي منه، بخلاف الذي يصيد.
وإن شئت قلت: إن العناوين والمشتقات مختلفة، في إفادة المعنى عرفا،
ألا ترى أن الماء الجاري لا يصدق عرفا إلا على ما يكون جريانه عن منبع تحت أرض
ونحوه، ولا يصدق على الماء الذي جري من كوز وجرة ونحوهما مع صدق جري الماء
70

ويجري منه وهكذا في كثير من المشتقات، وفي المقام فرق بين عنوان كلب الصيد
الذي لا يصدق علي كلب الماشية والزرع ونحوهما، لأن شغل الحراسة غير شغل الصيد
وبين كلب الذي يصيد والذي لا يصيد، فإن صدق عنوان الذي لا يصيد يتوقف عرفا
على عدم اقتدار الكلب على الاصطياد، أو على عدم اقتضائه فيه، والكلب الذي لو
أغرى على الصيد يصيده، لا يقال إنه لا يصيد أو هو الذي لا يصطاد بمجرد عدم استعمال
صاحبه لو أو عدم اغرائه، سيما مع كون القضية موجبة سالبة المحمول، وفي مثلها
يكون صدق ثبوت الصفة السلبية متوقفا على سلب الملكة بنظر العرف.
ثم إن بين عنوان كلب الصيد وبين عنوان الكلب الذي لا يصيد، وكذا عنوان
الكلب الذي يصيد، عموما من وجه، إن كان المراد بكلب الصيد هو الكلب السلوقي
أي هذا الصنف، وإن كان المراد السلوقي المتخذ للصيد، يكون بين العنوان
المقابل له، أي غير السلوقي المتخذ له، مع عنوان الكلب الذي يصيد، المفهوم من
الروايات، أو الكلب الصيود بالمعنى المتقدم، عموم من وجه أيضا وإن كان المراد
به مطلق كلب الصيد، أي الذي شغله ذلك، سلوقيا كان أو لا يكون بين المفهوم
المقابل له أي الكلب الآخر الذي لا يكون شغله ذلك وهو الكلب الذي ليس بكلب
الصيد، وبين الكلب الذي يصيد عموم من وجه أيضا فإن قلنا: بعدم جريان العلاج
في التعارض بالعموم من وجه وأنهما متساقطان في جميع المفاد يكون المرجع
عمومات حل البيع والتجارة عن تراض، وإن قلنا: بجريانه فيه، وأن المرجح
للرواية بجميع مفادها كان الترجيح مع أخبار جواز البيع وحلية أكل الثمن
لكونها موافقة للكتاب لو لم نقل بموافقتها للشهرة أيضا وإن قلنا: بأن التساقط و
الترجيح منحصران بمورد الاجتماع يحل في مورد التعارض أكل الثمن ويجوز البيع
إما لمرجعية العمومات أو مرجحيتها وتلحق سائر الموارد به بعدم القول بالفصل
فتصير النتيجة على جميع الصور والتقادير جواز بيع جميع الكلاب النافعة، و
ينحصر البطلان بغيرها.
وتوهم لزوم تخصيص الأكثر المستهجن في أدلة المنع: فاسد، لأكثرية الداخل
71

فيها من الخارج، وأغلبية الكلاب المهملة التي لا تصيد ولا تنفع عن غيرها
وتؤيد ما ذكرناه الروايات العامة المتقدمة: أي رواية تحف العقول (1) ودعائم
الاسلام (2) وفيه الرضا عليه السلام (3) بل ومفهوم النبوي صلى الله عليه وآله: أن الله إذا حرم شيئا
حرم ثمنه (4) فإن بينها وبين روايات الباب وإن كان عموما من وجه، لكن مفاد
تلك الروايات أو بعضها حاكم على روايات الباب نحو حكومة.
وما قد يقال: إن هذه الروايات تكون أفرادها قليلة جدا، بالنسبة إلى مثل
رواية التحف، وهي توجب تقديمها عليها للأظهرية (ليس بوجيه) لأن قلة الأفراد
وكثرتها لا دخل لهما بمقام الظهور والدلالة، فإن مقام انطباق العناوين على الأفراد
غير مقام الظهور والدلالة، نعم لو بلغ الاخراج الكثير إلى حد الاستهجان، فهو أمر
آخر، غير مقام الظهور كما لا يخفى. هذا، مضافا إلى ما عرفت: من حكومتها
عليها، فلا ينظر إلى أقلية الأفراد إلا إذا استلزم التحكيم للاستهجان.
ويؤيده أيضا اشتهار الحكم بين الأصحاب، من لدن زمن شيخ الطائفة بل
قبله إلى الأعصار المتأخرة، والمفتي بالخلاف قليل، ربما يقال منحصر بالمفيد و
ابن سعيد، وإلا فالمفتي بالخلاف في كتاب، رجع عنه في باب آخر، أو كتاب آخر،
أو تردد فيه، بل ظاهر التذكرة (في كتاب الإجارة) (5) أن جواز بيع الكلاب
التي لها منفعة محللة، مثل كلب الصيد، والماشية، والزرع، والحائط اجماعي،
ويمكن استظهار الاجماع عليه من عبارة الغنية المتقدمة في بعض المسائل الماضية
بل يمكن استظهاره من إجارة الخلاف (6) قال: يصح إجارة كلب الصيد للصيد،
وحفظ الماشية، والزرع، إلى أن قال، دليلنا أن الأصل جوازه، والمنع يحتاج
إلى دليل، ولا بيع هذه الكلاب يجوز عندنا، وما يصح بيعه يصح إجارته بلا
خلاف.

(1) راجع ص 6 - 7 - 13 -
(2) راجع ص 6 - 7 - 13 -
(3) راجع ص 6 - 7 - 13 -
(4) راجع ص 6 - 7 - 13 -
(5) راجع الركن الرابع - مسألة 5 -
(6) مسألة 43
72

فإن الظاهر من قوله: هذه الكلاب، كلاب الصيد والماشية والزرع، لا كلب
الصيد فقط، وإلا لقال هذا الكلب، وقوله: كلب الصيد للصيد الخ مشعر بما أسلفناه
من أن الكلب الذي يحفظ الماشية وغيرها، من الكلاب الذي يصيد، إذ ليس مراده
ولو بقرينة الذيل استثناء كلب الصيد فقط، وإن جعل للحفظ. هذا، مع أن بناء
المسلمين ظاهرا على بيع هذه الكلاب النافعة، والظاهر أن هذا البناء والعمل
متصل إلى الأعصار المتقدمة، حتى عصر النبي صلى الله عليه وآله وقبله، لأنها أموال عقلائية لها
منافع عقلائية. سيما في محيط الحجاز محيط تربية الأغنام والاجمال، وما كان
كذلك لا بد من مقابلته بالمال في الأعصار والأمصار، إلا أن يمنع مانع منه، مضافا
إلى ما قالوا: من ترتيب آثار الملكية والمالية على تلك الكلاب: من إجارتها و
هبتها ووقفها والوصية بها وجعلها مهرا للنكاح وعوضا للخلع وغرامة قيمتها و
إن قدرها الشارع، والتقدير لا يدل على عدم الملكية والمالية، لأنه يكون في كلب
الصيد أيضا. ودعوى اشتهار عدم الجواز بين المتقدمين، في غير محلها، فإن مجرد
ايراد المحدثين كالكليني وغيره تلك الأخبار في كتبهم، لا يدل على أن فتواهم
على المنع في غير كلب الصيد، سيما مع ما تقدم من الاستظهار عن مثل صحيحة
ابن مسلم.
وتخيل دعوى شيخ الطائفة الاجماع على عدم الجواز في الكلاب غير
الكلب المعلم، وهي تدل لا أقل على اشتهار الحكم في تلك الأعصار، (وهم).
فإنه قال في الخلاف مسألة 302 (1): يجوز بيع كلاب الصيد، ويجب على قاتلها
قيمتها، إذا كانت معلمة، ولا يجوز بيع غير الكلب المعلم على حال، وقال أبو حنيفة
ومالك يجوز بيع الكلاب مطلقا، إلا أنه مكروه، (إلى أن قال) وقال الشافعي لا يجوز
بيع الكلاب معلمة كانت أو غير معلمة، ولا يجب على قاتلها القيمة، دليلنا اجماع
الفرقة، فإنهم لا يختلفون فيه، ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى: وأحل الله البيع
وقوله: إلا أن تكون تجارة عن تراض، ولم يفصل، وروى جابر: أن النبي صلى الله عليه وآله

(1) كتاب البيوع
73

نهى عن ثمن الكلب والسنور، إلا كلب الصيد، وهذا نص. (انتهى) وهو كما ترى
ادعى الاجماع على جواز بيع الكلاب المعلمة، ولهذا قال: ويدل عليه أيضا
(أي مضافا إلى الاجماع) قوله تعالى، وتمسك بدليل النفوذ، بل يمكن استظهار
عدم اجماعية حكم سائر الكلاب من كلامه، بأن يقال: لو كان الحكمان
اجماعيين لأشار إليهما، ولم يدع في خصوص كلب الصيد، وتشهد بعدم اجماعيته بل
اجماعية خلافه عبارته المتقدمة عن إجارة الخلاف فيمكن دعوى اشتهار الجواز بين
المتقدمين والمتأخرين، فسقطت الروايات الدالة على عدم الجواز (لو سلمت
دلالتها) عن الحجية رأسا.
ومنها الخنزير البري. لا شبهة في حرمة بيعه، بمعنى عدم صحته، وحرمة
ثمنه، بمعنى كونه من المأخوذ بالبيع الفاسد، إذا بيع للانتفاع المحرم، وهو المتيقن
من الاجماع، وما دلت على صحته وجواز أخذ ثمنه عوض الدين، كصحيحة محمد بن مسلم
(1) عن أبي جعفر عليه السلام في رجل كان له على رجل دراهم، فباع خمرا وخنازير، وهو
ينظر فقضاه فقال: لا بأس أما للمقتضي فحلال، وأما للبايع فحرام. وصحيحة زرارة
عن أبي عبد الله عليه السلام: في الرجل يكون لي عليه الدراهم، فيبيع خمرا أو خنزيرا،
ثم يقضي منها قال: لا بأس أو قال: خذها ونحوهما غيرهما. محمولة على كون
المتبايعين ذميين، أو مطروحة سيما مع اشتمالها على بيع الخمر، مع أن بطلانه و
حرمة ثمنها ضروريان. وأما الحمل على المنفعة المحللة، كالتخليل في الخمر و
كالانتفاع بالخنزير في تربية الدواب، فكما ترى.
وهل يجوز الانتفاع به في مثل ما أشرنا إليه، أعني تربية الدواب، فإن المسموع
بل لعله المعروف بين أهله، أن أنس الخنزير بالخيل موجب لسمنها أو كمالها،
وكذا البيع لذلك.
مقتضى القواعد جوازهما، لكن عن المبسوط (2) الحيوان الذي هو نجس العين

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 60 - من أبواب ما يكتسب به
(2) كتاب البيوع فيما يصح بيعه وما لا يصح
74

كالكلب والخنزير، وما توالد منهما، وجميع المسوخ، وما توالد من ذلك، أو من
أحدهما فلا يجوز بيعه ولا إجارته، ولا الانتفاع به، ولا اقتنائه بحال اجماعا، إلا الكلب
ثم قال: وأما الطاهر غير مأكول اللحم (الخ) وهذه الدعوى منه مبنية ظاهرا على
نجاسة المسوخ، والظاهر أنها ليست مستقلة، قبال دعوى عدم جواز بيع الأعيان النجسة
والانتفاع بها، ولست على عنوان الكلب والخنزير مستقلة، ولا على الحيوان كذلك
وقد مر الكلام في كلام الأعلام سابقا، بأن مسألة عدم جواز الانتفاع بالنجاسات
مطلقا حتى فيما لا يلزم منه محذور وكذا بيعها: عدا ما استثني منها، ليست اجماعية
بل مسألة اجتهادية محل خلاف بين الأصحاب، والمتيقن من الاجماع (لو كانت
المسألة من المسائل الاجماعية) هو حرمة بعض الانتفاعات كالأكل والشرب والبيع
لهما، أو لما يلزم منه محذور.
وأما الانتفاعات الأخر، كالانتفاع المتقدم من الخنزير، أو تخليل الخمر ونحو
ذلك فلم يثبت اجماعية حرمتها، سيما في مثل هذه المسألة الاجتهادية وسيما مع مخالفة
ابن إدريس ومن تأخر عنه، على ما حكي في بعض أقسام المسوخ فالأشبه كأنه جواز هذا
الانتفاع به، للأصل وعدم دليل معتمد على خلافه: فإن دعوى الاجماع قد عرفت حالها
ومرسلة ابن أبي نجران (1) عن بعض أصحابنا عن الرضا عليه السلام قال: سئلته عن نصراني
أسلم، وعنده خمر وخنازير، وعليه دين، هل يبيع خمره وخنازيره، فيقضي دينه
قال: لا.
ورواية يونس (2) في مجوسي باع خمرا أو خنازير إلى أجل مسمى، ثم أسلم
قبل أن يحل المال قال: له دراهمه وقال: أسلم رجل وله خمرا أو خنازير ثم مات وهي
في ملكه وعليه دين، قال: يبيع ديانه، أو ولي له غير مسلم خمره وخنازيره،
فيقضي دينه، وليس له أن يبيعه وهو حي، ولا يمسكه. وهما مع ضعف الأولى
بالارسال، والظاهر أن المراد ببعض الأصحاب فيها هو محمد بن مسكان عن
معاوية بن سعيد، وهما ضعيفان. والتأمل في الثانية بإسماعيل بن مرار، و

(1) راجع ص 15 -
(2) راجع ص 15 -
75

عدم انتساب الحكم فيها إلى المعصوم (ولعله فتوى يونس، وإن كان بعيدا) واشتمالها
على مالكية المسلم الخمر والخنازير للمنفعة الرائجة المحرمة منصرفتان إلى بيعهما
للمنفعة المحرمة الرائجة فيهما، فإن غيرها منفعة مغفول عنها نادرة جدا لكن مع
ذلك الأحوط عدم الانتفاع به، وترك بيعه، لدعوى الاجماع المتقدمة ودعواه
في الخلاف أيضا على عدم جواز بيعه وعدم العثور على فتوى أحد بجوازه، أو جواز
الانتفاع به وإن أمكن أن يقال: إن عدم التعرض لهذه المنفعة النادرة المغفول عنها
غالبا لا يدل على عدم الجواز عندهم.
نعم الأقوى في أجزائه بل أجزاء الكلب أيضا (نحو جلدهما وشعرهما)
جواز الانتفاع بل جواز البيع للانتفاع المحلل للأصل وعموم حلية البيع والوفاء
بالعقود، وجملة من الروايات الواردة في الخنزير مما يمكن إلغاء الخصوصية، و
اسراء الحكم إلى أخيه، ضرورة أن المانع لو كان هو النجاسة العينية، أو هي مع
كونه ميتة، كرواية زرارة (1) (ولا يبعد أن تكون صحيحة، وأن يكون سيف بن
التمار هو سيف بن سليمان التمار الثقة) عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت له إن رجلا
من مواليك يعمل الحمائل بشعر الخنزير، قال: إذا فرغ فليغسل يده ورواية
برد الإسكاف (2) قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام إني رجل خراز ولا يستقيم عملنا إلا بشعر
الخنزير نخرز به قال: خذ منه وبره، فاجعلها في فخارة، ثم أوقد تحتها، حتى
يذهب دسمها، ثم اعمل به، وقريب منهما روايتان أخريتان منه (3) ورواية عن سليمان
الإسكاف (4) والظاهر منها (مضافا إلى جواز العمل) جواز البيع أيضا، ضرورة أن
العامل للحمائل وكذا الخراز، إنما يعملان للتجارة، ومعلوم أن صنعتهما ذلك،
فصحة التجارة وجوازها مستفادة منها.

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 58 - من أبواب ما يكتسب به الثانية والثالثة ضعيفتان ببرد الإسكاف
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 58 - من أبواب ما يكتسب به الثانية والثالثة ضعيفتان ببرد الإسكاف
(3) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 58 - من أبواب ما يكتسب به الثانية والثالثة ضعيفتان ببرد الإسكاف
(4) الوسائل - كتاب الطهارة - الباب 13 - من أبواب النجاسات ضعيفة بسليمان
الإسكاف
76

نعم روايات برد وسليمان الإسكاف ضعاف والعجب أن المحقق الأردبيلي (مع
كثرة مناقشته في اسناد الروايات) بنى على عدم ضعفها مع أن مجرد نقل ابن أبي
عمير كتابا لا يدل على صحته وكصحيحة زرارة (1) عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سئلته
عن الحبل يكون من شعر الخنزير، يستقى به الماء من البئر، هل يتوضأ
من ذلك الماء، فقال: لا بأس به وهي وإن كانت بصدد بيان التوضي من الماء، و
الظاهر أن شبهته من جهة تنجس الماء أو احتماله لذلك، لكن نفي البأس عن الوضوء
(مع أنه نحو انتفاع بالحبل. سيما أن مقتضى اطلاقها جوازه لو كان المتوضي هو الذي
يستقى الماء به) دليل على عدم حرمة الانتفاع به.
وتوهم أن الوضوء ليس انتفاعا بالحبل، بل انتفاع بالماء، والانتفاع بالحبل
إنما هو اخراج الماء به، لا الوضوء من الماء الخارج (فاسد)، ضرورة أن الانتفاع
بالحبل هو رفع نحو حاجة به، وشد الحبل بالدلو، والقائه في البئر، واخراج الماء
منه، مقدمات الانتفاع، وإنما الانتفاع هو شرب الماء والتوضي به ونحوهما، ففرق
بين حرمة التصرف في الشئ، وحرمة الانتفاع به، فلو حرم الانتفاع بشجر مثلا
لا يجوز الاستظلال به والتوقف تحت ظله توقيا عن الحر والمطر مع أنه ليس تصرفا
فيه، فلو حرم الانتفاع بالوادي لا يجوز شرب مائه، ولو بعد أخذه في قربة ولا يجوز
سقي الزرع والأشجار بمائه، ولو بعد جريانه في الأنهار والسواقي، لصدق الانتفاع به
وفي المقام لو أخرج الماء بالحبل من البئر، واهريق قهرا، لا يصدق أنه انتفع بالبئر،
ولا بالدلو والحبل، بخلاف ما لو استعمله في الحوائج. وقريب منها موثقته (2) عن أبي عبد الله عليه السلام وكروايته الأخرى (3) قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن جلد الخنزير
يجعل دلوا يستقى به الماء، قال: لا بأس.
وفي الفقيه (4) وسئل الصادق عليه السلام عن جلد الخنزير، ثم ساق الحديث

(1) الوسائل - كتاب الطهارة الباب 14 - من أبواب الماء المطلق
(2) الوسائل - كتاب الطهارة - الباب 14 - من أبواب الماء المطلق
(3) الوسائل - كتاب الطهارة - الباب 14 - من أبواب الماء المطلق
(4) كتاب الطهارة - باب المياه - رواية 16
77

نحوها وهي من المرسلات التي نسب الحكم جز ما إلى المعصوم عليه السلام، ولا تقصر
عن مرسلات ابن أبي عمير، ولو كانت هي عين خبر زرارة لكان قوله ذلك دليلا
على جزمه بصدور الرواية من القرائن، لو لم يكن توثيقا للنهدي الواقع في رجال
الحديث، وتوهم أن جزمه باجتهاده لا يفيد لنا، ولعل القرائن التي عنده لا تفيدنا
الجزم، في غير محله، لأن الظاهر من مسلكه أنه لم يكن أهل الاجتهادات المتعارفة
عند الأصوليين، سيما المتأخرين منهم، فالقرائن التي عنده لا محالة تكون قرائن
ظاهرة توجب الاطمينان لنا أيضا، وكيف كان، رد تلك المرسلات جرأة على المولى.
ثم إن دلالتها على جواز الانتفاع به ظاهرة، وتوهم أن نظر السائل إنما هو
حيث انفعال الماء (وسوسة). والظاهر عدم الفرق بين الجلد والشعر، واطلاقها
شامل لحال الضرورة وغيرها، ولا مخصص لها إلا الشهرة المدعاة بعدم جواز الاستعمال
اختيارا، والاجماعات المتقدمة على عدم جواز الانتفاع بالنجس والميتة،
خرج حال الضرورة، للشهرة بالجواز، أو بالروايات المجبورة في هذا المقدار.
أقول إما الشهرة أو الاجماع على عدم جواز الانتفاع بالأعيان النجسة، فقد
مر الكلام فيهما فلا نعيده وقد ظهر هناك عدم ثبوت شهرة أو اجماع على الحكم،
والمتيقن منهما لو ثبت أصلهما، هو الاستعمالات والانتفاعات الخاصة، لا مطلقا،
ولا أظن قيام اجماع أو شهرة مستقلة في المقام، غير ما ادعى هناك، كما
يظهر من دعوى الشيخ في الخلاف (1) ومحكي المبسوط، في الخنزير (2) مع أن علم الهدى (ره) (3) لا يرى نجاسة ما لا تحله الحياة من نجس العين، فلا محالة
يقول بجواز الانتفاع به، وقد مر كلام شيخ الطائفة في ذيل رواية زرارة المتقدمة،
قال: الوجه أنه لا بأس أن يستقى به لكن يستعمل ذلك في سقي الدواب،
والأشجار، ونحو ذلك، ولو كان المنع ثابتا باجماع ونحوه لما قال ذلك، ولا يجوز

(1) راجع مفتاح الكرامة في المحرمات من المتاجر
(2) راجع مفتاح الكرامة في المحرمات من المتاجر
(3) راجع مفتاح الكرامة في المحرمات من المتاجر
78

حمله على صرف الجمع بين الأخبار، ودفع التناقض عنها لما مر ولعدم ورود خبر
على عدم جواز الانتفاع بشعر الخنزير، إلا أن يقال هذا لأجل الجمع بين الخبر
وأدلة انفعال الماء القليل لكن لو كان المراد صرف ذكر الوجه لكان الأوجه أن يقال إنه أخص من روايات الانفعال، وكيف كان الظاهر منه جوازه.
وعن مقنع الصدوق، جواز الاستقاء بجلده (1) وظاهر المراسم جواز الانتفاع
بغير اللحم والشحم منه (2) وعن مطاعم القواعد نحو المقنع (3) وعن المختلف
جواز استعمال شعر الخنزير مطلقا، اضطر إلى استعماله أم لا (4) وعن كاشف اللثام
موافقته (5) وقال الأردبيلي: والعقل يجوز استعماله (أي شعر الخنزير) فيما
لا يشترط فيه الطهارة، وقد يستدل للحرمة في شعره بما عن السرائر: أن الأخبار
به متواترة (6) قال في مفتاح الكرامة (7) وليس ما يحكيه إلا كما يرويه،
والشهرة تجبرها أو تعضدها، وانكار من أنكر الظفر بخبر واحد لا يعتبر.
(انتهى)
وفيه ما لا يخفى، ضرورة عدم امكان عثور الحلي على أخبار متواترة لم
يعثر على واحد منها أحد من المحدثين، والفقهاء المتقدمين منه، والمتأخرين عنه،

(1) ما وجدت ذلك عن الصدوق في المقنع، بل يظهر منه خلاف ذلك لأنه قال في باب
الصيد والذبايح (إياك أن تجعل جلد الخنزير دلوا تستقي به الماء) ولكن حكى صاحب
مفتاح الكرامة في المحرمات من المتاجر عن الصدوق في المقنع بأنه جوز الاستقاء بجلد
الخنزير بأن يجعل دلوا، وكذلك حكى في المختلف عن المقنع بأنه (لا بأس أن يجعل
جلد الخنزير دلوا يستقى به الماء) ثم أشكل عليه بأنه ميتة لعدم وقوع الذكاة عليه،
وهما كما ترى عكس ما قاله الصدوق في المقنع نعم يظهر منه في باب الوضوء عدم
البأس بالوضوء من الماء الذي يكون في زق من جلدة ميتة وكذلك عدم البأس بشربه
ولكن هذا غير صريح بجواز الاستقاء بجلد الخنزير كما لا يخفى ولعل الأستاذ دام ظله اتكأ في
نقله على حكاية مفتاح الكرامة أو المختلف فراجع (م ط)
(2) راجع مفتاح الكرامة - المحرمات من المتاجر
(3) راجع مفتاح الكرامة - المحرمات من المتاجر
(4) راجع مفتاح الكرامة - المحرمات من المتاجر
(5) راجع مفتاح الكرامة - المحرمات من المتاجر
(6) راجع مفتاح الكرامة - المحرمات من المتاجر
(7) راجع مفتاح الكرامة - المحرمات من المتاجر
79

فلعله وقع اشتباه في نسخ السرائر، ولعله قال الأخبار بالجواز متواترة، فإن له
وجها لما تقدم من الأخبار الكثيرة على الجواز، أو أراد الأخبار الواردة في نجاسة
الخنزير، بدعوى استفادة حرمة الانتفاع منها، وهو بعيد، فقول صاحب مفتاح
الكرامة: انكار من أنكر لا يعتبر كان له وجه لو ادعى الحلي ورود خبر واحد،
لامكان اطلاعه عليه، والخفاء عن غيره، لا الأخبار المتواترة أو المستفيضة، فلو فرض
أن الأخبار بالجواز كانت متواترة فلا يمكن عدم اطلاع الأصحاب عليها، ومع
اطلاعهم عليها وترك نقلها والاكتفاء بنقل أخبار الجواز يكشف ذلك عن معللية
تلك الأخبار، بل هو من أدل الدليل على الجواز، لكن الانصاف وقوع اشتباه في
البين، وعدم أخبار متواترة لم يطلع عليها غيره، أو تركوا نقلها.
ثم إن التفصيل بين صورة تحقق الدسومة وعدمه، والقول بالمنع في الأولى
دون الثانية ضعيف، لأن الروايات المقيدة لا تصلح لتقييد المطلقات، بل ولا للخروج
عن الأصل مع الغمض عن المطلقات ولا يبعد حملها على الارشاد. (كما قيل) كما أن
الأقوى عدم الفرق بين الاضطرار وغيره كما مر، وعن كشف اللثام أنه إذا اضطر
استعمل اجماعا، ولعله يكفي في الاضطرار عدم كمال العمل بدونه. (انتهى) فلو
كان ذلك شرحا لمقصود المجمعين يرجع في الحقيقة إلى جوازه مطلقا، لأن الاضطرار
بهذا المعنى مرجعه الاختيار، فيمكن استشعار الجواز مطلقا منه، لكن في كون
كلامه تفسيرا لكلامهم، أو كون مرادهم ذلك تأمل واشكال.
ثم إنه بناء على جواز الانتفاع بأجزائه، يجوز بيعها والمعاوضة عليها،
لظهور الروايات المتقدمة، ولعمومات حل البيع والتجارة.
ومنها الخمر والفقاع وكل مسكر مايع، ولا شبهة اجمالا في حرمة بيعها و
ثمنها وسقوط ماليتها، إنما الكلام في أن الأحكام ثابتة للخمر مطلقا، حتى ما
اتخذت للتخليل ونحوه أو لا، وقد مر الكلام فيه مستقصى سابقا، وقلنا إن الأخبار
قاصرة عن اثبات الأحكام لنحو ذلك، لا ما اشتملت على لعن رسول الله صلى الله عليه وآله الخمر
80

وساقيها وبايعها (1) (الخ) وهو ظاهر، ولا ما دلت على أن ثمنها سحت (2) فإنها
أيضا منصرفة إلى ما تعارف وشاع في بيع الخمر وسائر المسكرات، مما توجب
الفساد، لا المتخذ للاصلاح، وقد مرت شواهد على المطلوب فراجع. وعليه فلا دليل
علي سقوط ماليتها مطلقا، أما الأخبار المتقدمة فظاهرة.
وأما ما اشتملت على الأمر بإهراقها، كرواية أبي الجارود (3) الحاكية
لفعل النبي صلى الله عليه وآله واهراق ما في المدينة من الخمر، ورواية أبي بصير (4) وصحيحة
محمد بن مسلم (5) الواردتين، في اهداء راوية أو راويتين من الخمر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله
فأمر بصبها، وقال: إن الذي حرم شربها حرم ثمنها، أو قال ثمنها سحت. فمع ضعف
الأوليين وورود الجميع في قضية شخصية، ومن المحتمل عدم قابلية ما أمر بصبها
للتخليل: لا تدل على عدم ملكيتها وماليتها ولو مع امكان التخليل، والأمن من
الفساد: لامكان أن يكون الأمر بالصب لمصلحة قاهرة، كما أن الأمر كذلك
في أول تحريم الخمر، ولعل الأمر به أمر سلطاني لقلع الفساد، ولعله لم يكن
قلعه ممكنا إلا بذلك، كما هو موافق للاعتبار، كالأمر بقلع عذق سمرة بن جندب.
فلا دليل على اسقاط الشارع مالية جميع أقسام الخمر، أو ملكيتها، سيما مثل العصير
المغلي بنفسه إذا قيل بأنه خمر ومسكر، بل المتيقن من اجماع الخلاف والمنتهى
والتذكرة وغيرها، غير ما ذكر. والانصاف أنه لا دليل على اطلاق الحكم، بل ظاهر
بعض الروايات على خلافه، كصحيحة جميل المتقدمة (6) وغيرها، ولا داعي إلى صرفها
عن ظاهرها، نعم هي محمولة على أن الدائن لا بد أن يؤدي الخمر للافساد، ومعه
لا دليل على عدم صحة وقوعه، لكن مع ذلك أن المسألة مشكلة في غير العصير الذي

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 55 - من أبواب ما يكتسب به
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 5 - من أبواب ما يكتسب به
(3) الوسائل - كتاب الأطعمة والأشربة - الباب 1 - من أبواب الأشربة المحرمة (مرسلة)
وضعيفة بأبي الجارود
(4) تقدمت في ص 14 - 17
(5) تقدمت في ص 14 - 17
(6) تقدمت في ص 30
81

يأتي الكلام فيه، وطريق الاحتياط ظاهر.
ثم إنه وردت روايات في خصوص العصير لا بد من التعرض لها وحدود دلالتها. و
قد نفى الريب صاحب مفتاح الكرامة (1) عن عدم جواز بيعه إذا نش وغلا من قبل نفسه، لأنه
يصير حينئذ خمرا، ولا يطهر إلا بانقلابه خلا، قال: وقد نص عليه الأكثر من المتقدمين
والمصنف في رهن التذكرة والمحقق في رهن جامع المقاصد، ولعل مراده تنصيصهم
على خمريته، أو على عدم جواز المعاوضة عليه لصيرورته خمرا وهو الأقرب واختار
هو عدم الجواز في ما إذا غلى بالنار ولم يذهب ثلثاه، لأنه خمرا وكالخمر، قال: و
هو الذي تقضي به قواعد الباب، ثم استدل ببعض الروايات الآتية، ونسب ذلك إلى
نهاية الشيخ (2) عند قوله بكراهة اسلافه، وفيه اشكال، فإنه قال: ويكره
الاستسلاف في العصير، فإنه لا يؤمن أن يطلبه صاحبه ويكون قد تغير إلى
حال الخمر.
فإن مراده من التغير إلى حال الخمر غير الغليان بالنار كما هو ظاهر. بل يظهر
من عبارته قبيل ذلك، التفصيل في صحة البيع بين ما غلى بنفسه وما غلى بالنار،
قال: والعصير لا بأس بشربه وبيعه ما لم يغل. وحد الغليان الذي يحرم ذلك، هو أن
يصير أسفله أعلاه، فإذا غلى حرم شربه وبيعه إلى أن يعود إلى كونه خلا، وإذا غلى
العصير على النار لم يجز شربه إلى أن يذهب ثلثاه. (انتهى) وهي كما ترى ظاهرة في أنه مع الغليان بنفسه لا يجوز شربه وبيعه، ومع الغليان على النار يحرم شربه فقط،
ولعل نظره إلى أن الغليان بنفسه موجب لخمريته، دون الغليان على النار وعن الحلي
نحوه تقريبا إلى قوله: وإذا غلى على النار وعليه يكون الحلي محرما مطلقا ولعل
الظاهر من عنوان شيخنا الأنصاري التفصيل على تأمل. وكيف كان: الأقوى جوازه
مطلقا: غلى بنفسه أم لا، أحرزت خمريته أم لا، قلنا بنجاسته أم لا، لماليته و
ملكيته عرفا، وعدم دليل على سقوطهما، أما الروايات العامة فقد مر الكلام فيها.

(1) في المحرمات من المتاجر
(2) باب الأشربة المحظورة والمباحة من كتاب الأطعمة والأشربة
82

وأما ما وردت في خصوصه: فمنها رواية أبي بصير (1) قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام
عن ثمن العصير قبل أن يغلي، لمن يبتاعه ليطبخه أو يجعله خمرا، قال: إذا بعته قبل
أن يكون خمرا وهو حلال فلا بأس، وهي مع قصور سندها واغتشاش ما في منتها قاصرة
الدلالة لأن الشرطية لا مفهوم لها لأنها سيقت لبيان تحقق الموضوع: فإن مفهوم إذا بعته
كذا هو إذا لم تبعه وأما مفهوم القيد فهو من مفهوم اللقب الذي لا يقال به ولو قيل به
في الشرط وعلى فرض المفهوم فإن قلنا بأن قوله: إذا بعته قبل أن يكون خمرا جملة
مستقلة، ولها مفهوم مستقل، وقوله: وهو حلال، عطف على قوله قبل الخ فيكون
جملة أخرى مستقلة، أي إذا بعته وهو حلال، وقوله فلا بأس جزائهما. فتكون
حالهما حال قوله: إذا خفي الأذان، فقصر وإذا خفي الجدران فقصر، فإن العنوانين
بينهما عموم من وجه لو لوحظ حال الاضطرار أيضا، فإن قبل الخمرية أعم من كونه
حلالا، كما إذا لم يغل، أو حراما إذا غلى على النار، بل بنفسه أيضا على احتمال
والحلال أعم من كونه قبل الخمرية أو بعدها حال الاضطرار.
وعليه أن الكلام فيهما هو الكلام فيما إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء من
الاحتمالات. وقد رجحنا في محله اجمال الدليل والرجوع إلى الأصول العملية و
إن لم يلحظ حال الاضطرار يكون منطوق الثانية أخص من الأولى فتقيد به، فيقع
اشكال في المتن، لأن ذكر الجملة الأولى يقع بلا وجه، بل الموضوع الحلية، فكان
عليه أن يقول: إذا كان حلالا فلا بأس، وإن قلنا بعدم تعدد المنطوق، بل الثانية
قيد الأولى، والشرطية جملة واحدة مركبة. فقد يقال بناء على تحقق مورد الاجتماع
والافتراق لهما، بأن المفهوم ثابت مع رفع كل قيد، فيدل على أن العصير إذا حرم
ففيه بأس، سواء قلنا بنجاسته أم لا، وسواء صار خمرا أم لا، وسواء باعه ممن يجعله

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 59 - من أبواب ما يكتسب به ضعيفة بقاسم
بن محمد وعلي بن أبي حمزة
83

خمرا أم لا، والمراد بالبأس هنا الحرمة جزما، لأن الثابت لحال كونه خمرا هو
الحرمة، ففي غيرها كذلك.
هذا غاية تقريب دلالتها على حرمة بيع العصير المغلي مطلقا، وفيه مضافا إلى أنها بصدد بيان المنطوق لا المفهوم، فلا اطلاق فيه، والمتيقن منه ما إذا باعه ممن
يجعله خمرا، أو يطبخه ويجعله بختجا، فإن البختج على ما يظهر من الروايات
مسكر يصطنعه الفساق وأهل الأشربة المسكرة، وهو على ما قيل ما يسمى (مى پخته)
أو (باده)، وكيف كان: لا اطلاق في المفهوم يثبت به المدعى، بل من المتحمل
أن يكون المراد بقوله ليطبخه، أي يجعله بختجا، لبعد السؤال عن بيع العصير
للشيرج، سيما من مثل أبي بصير: أن في المنطوق نفي البأس عن بيعه ليطبخه أو
يجعله خمرا، فإنه المتفاهم من جواب السائل، ولا يثبت في المفهوم إلا نفي البأس
المطلق، وهو صادق مع ثبوت البأس لأحد طرفي الترديد، وبعبارة أخرى لا يدل المفهوم
الأعلى سلب التسوية بين طرفي الترديد لا ثبوت التسوية في الحكم المخالف، مع أن ثبوت البأس أعم من الحرمة وكون بعض موارده حراما لا يوجب كون البقية
كذلك فدعوى الجزم أو الظهور في سائر الموارد في غير محلها.
هذا مضافا إلى حكاية الرواية عن نسخة من التهذيب (1) وعن الوافي عنه
(2) وعن الكافي (3) (فهو حلال) بدل وهو حلال، فتدل على جواز بيع العصير المغلي
بالنار، بل وبنفسه، فإن الظاهر عدم كونه خمرا بمجرد الغليان، وإن فرض كونه
مسكرا، مع أنه أيضا غير معلوم، ومع الشك في خمريته ينسلك بالاستصحاب في
موضوع الحكم، بناء على عدم دخالة عنوان القبلية في موضوعه، حتى يلزم المثبتية
كما هو المتفاهم من المفهوم عرفا ومنها صحيحة الحلبي (4) قال سألت أبا عبد الله (ع)
عن بيع العصير ممن يجعله حراما، قال لا بأس ببيعه حلالا ليجعله حراما، فأبعده الله

(1) راجع الوافي باب بيع الخمر والعصير من أبواب وجوه المكاسب
(2) راجع الوافي باب بيع الخمر والعصير من أبواب وجوه المكاسب
(3) راجع الوافي باب بيع الخمر والعصير من أبواب وجوه المكاسب
(4) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 59 - من أبواب ما يكتسب به
84

وأسحقه، وصحيحة عمر بن أذينة (1) قال كتبت إلى أبي عبد الله عليه السلام أسأله عن
رجل له كرم، أيبيع العنب والتمر ممن يعلم أنه يجعله خمرا أو سكرا، فقال إنما
باعه حلالا في الأبان الذي يحل شربه أو أكله، فلا بأس ببيعه.
ورواية أبي كهمس (2) قال سأل رجل أبا عبد الله عليه السلام عن العصير، فقال لي
كرم وأنا أعصره كل سنة، وأجعله في الدنان وأبيعه قبل أن يغلي، قال لا بأس،
وإن غلى فلا يحل بيعه، ثم قال هو ذا نحن نبيع تمرنا ممن نعلم أنه يصنعه خمرا، إلى
غير ذلك. وأنت خبير بأن تلك الروايات متعرضة لمسألة أخرى سيأتي الكلام
فيها انشاء الله، وهي بيع العصير ممن يعلم أنه يجعله خمرا، وهي غير ما نحن
بصدده، وهو أن العصير بما أنه حرام أو نجس هل يجوز بيعه أو لا، باع ممن يجعله
خمرا أو خلا ودبسا، فهذه الروايات أجنبية عن مسئلتنا، فإن قوله في صحيحة الحلبي
لا بأس ببيعه حلالا، أي بيعه ممن يجعله حراما، فالتفصيل بين زمان الحلية وبعده
في موضوع خاص، وهو البيع ممن يجعله حراما وخمرا، فلا يبعد هذا التفصيل
، أي جواز البيع ممن يجعله خمرا، في الأبان الذي يحل شربه، وحرمته في حال
عروض الحرمة عليه، لو عملنا بهذه الروايات، بل رواية أبي كهمس أيضا راجعة
إلى سائر الروايات، بملاحظة ذيلها: هو ذا نحن نبيع (الخ) فإن
الظاهر منها أن السؤال كان عن بيع العصير ممن يعلم أنه يجعله خمرا، فقال
أبو عبد الله عليه السلام (على ما فيها): هو ذا، أي عملك نحو عملنا، نحن أيضا نفعل ذلك
ولعل بيع العصير ممن يجعله خمرا كان معهودا متعارفا، فحمل عليه السؤال.
وأما نحو مرسلة الهيثم (3) ورواية أبي بصير (4) عن أبي عبد الله عليه السلام

(1) تقدمت في ص 16
(2) الوسائل، كتاب التجارة، الباب 59، من أبواب ما يكتسب به ضعيفة بأبي
كهمس
(3) الوسائل، كتاب الأطعمة والأشربة - الباب 2 - من أبواب الأشربة المحرمة الثانية ضعيفة بعلي بن أبي حمزة
(4) الوسائل، كتاب الأطعمة والأشربة - الباب 2 - من أبواب الأشربة المحرمة الثانية ضعيفة بعلي بن أبي حمزة
85

(واللفظ من الأولى) قال: سألته عن العصير يطبخ بالنار حتى يغلي من ساعته، أيشربه
صاحبه، فقال إذا تغير عن حاله وغلى فلا خير فيه، حتى يذهب ثلثاه، فلا يخفى
ما فيه من الوهن في دلالتها على المقصود، واو هن منها ما دلت على أن الثلثين من العصير
أو من الكرم حظ الإبليس، فمقتضى الأصول والقواعد جواز بيع العصير المغلي مطلقا
نعم بيعه ممن يجعله خمرا أمر آخر، يأتي الكلام فيه، والاحتياط فيما يغلي بنفسه
لا ينبغي تركه.
تتميم
قد تقدم جواز الانتفاع بالمتنجسات في غير ما تشترط فيه الطهارة فيجوز
الانتفاع بالزيت والسمن النجسين ونحوهما في الاستصباح وغيره، إلا أن يدل دليل
بالخصوص على المنع، كما يجوز بيعها للمنفعة المحللة، وقد وردت في الزيت و
السمن والعسل روايات: منها صحيحة معاوية بن وهب (1) عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
قلت جرذ مات في زيت أو سمن أو عسل، فقال: أما السمن والعسل، فيؤخذ الجرذ
وما حوله، والزيت يستصبح به وصحيحة زرارة (2) عن أبي جعفر عليه السلام قال: إذا
وقعت الفأرة في السمن فماتت فيه، فإن كان جامدا فالقها وما يليها، وكل ما بقي
وإن كان ذائبا فلا تأكله، واستصبح به، والزيت مثل ذلك.
وموثقة أبي بصير (3) قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الفأرة تقع في السمن،
(إلى أن قال) وإن كان ذائبا فأسرج به، وأعلمهم إذا بعته. وموثقة معاوية بن وهب
(4) وغيره (بناء على كون الميثمي في السند أحمد بن الحسن بن إسماعيل الثقة)
عن أبي عبد الله عليه السلام في جرذ مات في زيت، ما تقول في بيع ذلك، فقال: بعه وبينه

(1) الوسائل - كتاب الأطعمة والأشربة - الباب 43 من أبواب الأطعمة المحرمة
(2) الوسائل - كتاب الأطعمة والأشربة - الباب 43 من أبواب الأطعمة المحرمة
(3) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 6 - من أبواب ما يكتسب به
(4) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 6 - من أبواب ما يكتسب به
86

لمن اشتراه، ليستصبح به ورواية إسماعيل بن عبد الخالق (1) عن أبي عبد الله عليه السلام
وفيها أما الزيت فلا تبعه إلا لمن تبين له، فيبتاع للسراج، وأما الأكل فلا، وأما
السمن فإن كان ذائبا فهو كذلك (الخ)
ثم إن الكلام يقع في مواضع:
الأول هل صحة بيع هذا الدهن مشروطة باشتراط الاستصباح به، أو يكفي قصدهما
لذلك أو لا يشترط شئ منهما. والأولى بسط الكلام في مطلق المبيع الذي حرمت منافعه
كلا أو بعضا.
فنقول: قد لا يكون له سوى المنفعة المحرمة، وقد تكون لو سويها منفعة
محللة، لكن لا يبذل بلحاظها مال، كما لو حرمت منافع الخمر إلا سقي الشجر بها
وقد تكون له منفعة مباحة يبذل بإزائها مال، لكن تكون في جنب المنفعة المحرمة
مستهلكة مغفولا عنها، بحيث لا تعد له مالية لأجلها، كما لو كانت آلة قمار عتيقة
مرغوبا فيها لدى طائفة يبذل بإزائها عشرة آلاف، وكانت مادتها من خشبة تساوي
قرانين، وقد تكون منفعته المباحة مرغوبا فيها، لكن لا بمقدار المنفعة المحرمة،
وقد تتساويان أو تكون المنفعة المحللة غالبة إلى غير ذلك.
لا اشكال في بطلان المعاملة في الصورتين الأولتين لسقوط ماليتهما في الشرع،
فيكون دليل اسقاط المنافع حاكما على أدلة حلية البيع والتجارة، فإن مبادلة
ما لا يكون ما لا ليست بيعا ولا تجارة ولا عقدا، ولا كلام فيهما، وأما سائر الصور
فالظاهر عدم اشتراط صحة البيع فيها باشتراط الانتفاع بالمحلل في ضمن العقد،
لعدم دليل عليه، ولعموم أدلة الوفاء بالعقود، وحلية البيع، وقد استظهر شيخنا
الأعظم (2) عن السرائر الاشتراط، قال: ظاهر الحلي في السرائر الأول، فإنه بعد
ذكر جواز الاستصباح بالأدهان المتنجسة أجمع، قال: ويجوز بيعه بهذا الشرط

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 6 - من أبواب ما يكتسب به ضعيفة بمحمد
بن خالق الطيالسي
(2) راجع المكاسب - المسألة الرابعة من المستثنيات من الأعيان النجسة في جواز
المعاوضة على الدهن المتنجس
87

عندنا وفي الاستظهار كلام، لاحتمال أن يكون نظره إلى أن الجواز مع الاشتراط
اجماعي، كما يظهر من قوله عندنا، ولم يحرز الاجماع على الصحة في غير الصورة،
ولم يدل ذلك على أن مختاره لزوم الاشتراط، بل لا يدل على وجود القائل بالاشتراط،
لأن دعوى الاجماع على جوازه مع الاشتراط لا تدل على وجود الخلاف في غيره،
ولعل الأصحاب لم يتعرضوا له، فلم يحرز الاجماع ولا الخلاف، تدبر وهل يعتبر
في صحة البيع قصد المنفعة المحللة، بنحو لا يرجع إلى الاشتراط، وإلى كون العقد مبنيا
عليه، بل كان من قبيل القصد الخارجي نظير الدواعي، أو يعتبر عدم قصد المنفعة
المحرمة، أو لا يعتبر ذلك أيضا مطلقا، أو يفصل بين الصور. مقتضى القواعد عدم
اعتبار شئ في صحته، فإن قصد الانتفاع بالشئ سواء كان محرما أو محللا، لا دخل
له في ماهية البيع، كما أن المنافع لا تقابل بالأثمان فيه، بل وجود المنفعة موجب
لصيرورته ما لا يبذل بإزائه المال، فإذا فرض وجود منفعة فيه موجب للرغبة والمالية
فيه يقع البيع لأجلها صحيحا سواء قصدها أو قصد المنفعة المحرمة.
ودعوى أن قصد المنفعة المحرمة موجب للبطلان، لكون أكل المال حينئذ
من الأكل بالباطل، لأن صدقه لا يتوقف على تحقق المبادلة الحقيقية بين المال و
المنفعة المحرمة، بل يكفي فيه كون الغرض من المعاملة فاسدا، ونتيجتها فاسدة
كتحصيل المنفعة المحرمة، (غير وجيهة) لأن الدعوى ترجع إلى التمسك بقوله تعالى
لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض (1) وفيها ما لا
يخفى، لأن المراد بالباطل والتجارة وسائر العناوين المأخوذة في الكريمة هو
العناوين العرفية، لا ما هو باطل بحكم الشرع، أو تجارة صحيحة بحكمه، ولهذا
ترى أن الفقهاء تمسكوا بها لصحة التجارة في الموارد المشكوك فيها، من جهة
احتمال اعتبار شرط أو مانع، ولو كان المراد بالآية ما ذكر، لما صح الاستدلال
بها في شئ من الموارد. فالمراد بالباطل في مقابل التجارة عن تراض، نحو السرقة
والخيانة والبخس والقمار والظلم، كما عن أبي جعفر عليه السلام تفسيره ببعضها، ومن

(1) سورة النساء - الآية 33
88

التجارة هي التجارة العرفية. فعليه يصح الاستدلال بها لصحة البيع ولو مع قصد المنفعة
المحرمة بعد ما كان للمبيع مالية عرفية بلحاظ المنفعة المحللة، لعدم اسقاط
الشارع ماليته، حتى يقال: بتحكيم دليل الاسقاط على أدلة حلية البيع والتجارة و
الوفاء بالعقود.
فإن الشئ إذا كان ذا منفعة محرمة ومنفعة محللة لا تسقط ماليته باسقاط بعضها،
بل تقل ماليته في محيط التشريع والملتزمين بالشريعة والقانون، فيصير كأنه
لا منفعة له إلا المحللة، فيكون ما لا في الشرع والعرف والتجارة به تجارة كذلك.
وقصد الانتفاع بالمحرم لا دخل له بما ليته، ولا بماهية التجارة، بل الانتفاع
به من متفرعات التجارة ومتأخر عنها فلو اشترى أحد سكينا بقصد قتل المؤمن
وباع البايع لذلك لا يوجب ذلك فساد المعاوضة، وصيرورة أخذ المال بإزائه أكلا له
بالباطل، بل يصح بيعهما، ويحرم على المشتري الاقدام على القتل، وسيأتي الكلام في
الإعانة على الإثم، فما يظهر من الشيخ الأعظم في خلال البحث من التمسك بالآية
الشريفة للبطلان كأنه، غير وجيه
نعم إذا كانت المنفعة المحللة في جنب المحرمة مستهلكة لا تلاحظ مالية
الشئ باعتبارها، كما مر مثاله، فلا يصح بيعه بنحو الاطلاق أو بلحاظ المنفعة المحللة
بقيمة ملحوظة لأجل المنفعة المحرمة لاسقاط الشارع ماليته من هذه الجهة، وكون
المعاملة سفهية غير عقلائية بالقيمة الكذائية فإن اعطاء مليون تومان في مقابل خشب
آلة عتيقة لهوية أسقط الشارع ماليتها بلحاظ صورتها، معاملة سفهية غير عقلائية،
ولا مشمولة لأدلة تنفيذ المعاملات
نعم صح بلحاظ مادتها وبقيمة الخشب لأن سقوط المنفعة القاهرة صار سببا
لملحوظية المنفعة المقهورة، كما لو فرض السقوط تكوينا فاللوح المنقوش
العتيق البالغ سعره الآلاف، لا تلحظ قيمة خشبه وقرطاسه في ماليته لدى العقلاء،
لكن بعد محو النقش وسقوطه عن خاصيته وماليته يلاحظ الخشب والقرطاس والبيع
بلحاظهما صحيح عقلائي بالقيمة الملحوظة لأجلهما ولعل مراد شيخنا الأعظم غير هذه
89

الصورة ولا يخلو كلامه في المقام من نوع تشويش
وهل يصح البيع مع اشتراط الانتفاع بالمحرم في ضمن العقد التحقيق أنه إن
رجع الشرط إلى الالزام بالانتفاع بالمحرم، لا عدم الانتفاع بالمحلل، وكان للعين
انتفاع محلل أيضا يفسد الشرط وفساد البيع مبني على كون شرط الفاسد مفسدا
لأن المعاوضة وقعت على العينين وشرط انتفاع خاص محرم خارج عن حقيقة
المعاوضة فالقائل بالصحة يمكن أن يقول بالتحليل وإن رجع إلى ترك الانتفاع
بالمحلل، وحصر الانتفاع بالمحرم، أو شرط ما يوجب عدم امكان الانتفاع بالمحلل
كما لو شرط أكل الزيت النجس مثلا، فالوجه عدم الصحة لأن مثله يرجع إلى الشرط
المخالف لمقتضى العقد، فإن الانتفاع بالمحرم ممنوع شرعا، والمالك شرط عدم
الانتفاع بالمحلل فرضا فكأنه باع باسقاط جميع المنافع مطلقا وفي مثله لا تقع مبادلة
مال بمال فإن المالية في الأشياء متقومة بالانتفاع ومع سلبه مطلقا لم تقع صحيحة
(فتدبر) و (تأمل)
هذا حال القواعد، وأما روايات الباب فالظاهر من موثقة أبي بصير هو اعلام المشتري
بعد وقوع البيع والحمل على إرادة البيع خلاف الظاهر فتدل ولو بحسب الاطلاق
على جواز الاشتراء بقصد الانتفاع بالمحرم مع الجهل بالواقعة، ويستفاد منه عدم اشتراط
قصد النفع بالمحلل، وعدم مانعية قصد المحرم مع الجهل ولو من البايع بإلغاء الخصوصية
من غير دلالة على الاشتراط بعدم قصد المحرم مع العلم بالواقعة، وحرمته غير اشتراط
البيع بعدمه، بل الظاهر من موثقة معاوية بن وهب ذلك أيضا ولا أقل من أن اطلاقها
يقتضي عدم الفرق بين الاعلام السابق واللاحق عن البيع
نعم قد يقال بدلالة رواية إسماعيل بن عبد الخالق على اشتراط قصد الاسراج بل
اشتراط شرطه وهو ضعيف سيما الثانية فإن المتفاهم منها عرفا أن المقصود بالاعلام
عدم ابتلاء المشتري بالحرام فيبتاع ويسرج به لا أن الابتياع للاسراج من شرايطه أو
قصده من الشرايط، هذا مع ضعفها سندا ومعارضتها للموثقتين المتقدمتين لو سلم
90

ظهورها في الاشتراط والجمع العقلائي بينها ولو بمناسبة المورد والحكم والموضوع:
هو الحمل على لزوم الاعلام حتى يحترز عنه، كان الاعلام قبل المعاوضة أو بعدها كما
لا يخفى، أو حمل النهى على الكراهة جمعا بينها وبين ما دلت على جواز الاعلام بعدها،
وهما أولى وأقرب من حمل البيع على إرادته.
والانصاف أن الروايات متوافقة المضمون، والظاهر من جميعها بقرينة المقام
أن لزوم التبين لمحض التحرز، والبيع لغاية غير الأكل، كالاستصباح من غير دخالة
فيه أو في قصد الاستصباح للصحة وهو ظاهر. ويمكن الاستشهاد لعدم جواز البيع مع
قصد الانتفاع بالمحرم برواية تحف العقول (1) ودعائم الاسلام (2) بل بالرضوي
والنبوي (3) أن الله إذا حرم (الخ) وقوله: إن الذي حرم شربه حرم ثمنه (4) وقوله
إن الله إذا حرم أكل شئ حرم ثمنه (5) المحمولة بأجمعها على التحريم مع قصد الفساد،
وبالروايات الواردة في العصير (6) الدالة على أنه إذا غلى لا يجوز بيعه ممن يجعله
حراما وروايات حرمة بيع الخمر (7) المحمولة على ما إذا كان البيع لأجل الفساد و
بعض الروايات الواردة في الجارية المغنية (8) إلى غير ذلك، وهي وإن لم تبلغ حد
استفادة الحكم جز ما في المقام لضعف ما دلت وقصور غير الضعيف عن اثبات الحكم
للمتنجس، لكن الحكم بالصحة جرأة، سيما مع الظن بمخالفته لمذاق الشرع
(تأمل) فلا يترك الاحتياط فيه.
الثاني لا شبهة في وجوب الاعلام شرطا لو قلنا باشتراط البيع به أو به وبقصد
الاستصباح أو شرطه، كما لا ينبغي الاشكال في عدم وجوبه شرطا ولا شرعا لو قلنا باشتراط
البيع باشتراط الاستصباح فباع بالشرط، أما عدم الوجوب الشرطي فواضح، وأما
الشرعي فلأن المفروض عدم استفادته من روايات الباب ومع اشتراط الاستصباح به

(1) راجع ص 6 - 7 - 13 - 27 من هذا الكتاب
(2) راجع ص 6 - 7 - 13 - 27 من هذا الكتاب
(3) راجع ص 6 - 7 - 13 - 27 من هذا الكتاب
(4) راجع ص 6 - 7 - 13 - 27 من هذا الكتاب
(5) راجع ص 6 - 7 - 13 - 27 من هذا الكتاب
(6) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 59 - من أبواب ما يكتسب به
(7) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 55 - من أبواب ما يكتسب به
(8) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 16 - من أبواب ما يكتسب به
91

يرفع احتمال التسبيب إلى الارتكاب أو تحصيل شرطه أو رفع مانعه، فإنه باشتراطه
بشرط لازم الوفاء لدى العقلاء وبحكم الشرع، منعه عن الأكل وسائر التصرفات
غير الاسراج ومعه لا يكون سببا أو نحوه للأكل
نعم يقع الاشكال في تسبيبه لتنجس ظروفه ومعرضية ابتلائه بالنجس في المأكول
والمشروب ويأتي الكلام فيه. وإن قلنا بعدم الوجوب شرطا فهل يستفاد من الروايات
الوجوب النفسي لمصلحة في الاعلام أم لا،
والتحقيق أن الظاهر منها أن الوجوب شرعي لغاية التحفظ عن وقوع المشتري
في الحرام والابتلاء بالنجس، فعليه لا يجب ذلك إذا علم بعدم ابتلائه به من الشرب
والملاقاة ونحوهما، بل لا يجب مع علمه بعدم تأثير الاعلام فيه لكونه ممن لا يبالي
بالدين وليس الكلام هاهنا في جواز البيع منه أو جواز تسليطه عليه في الفرض، فلو
فرض أنه باعه مع الغفلة عن عدم مبالاته وأراد أن يعلمه بعد تحويل الزيت ثم بعده علم
بأنه لا يبالي بالنجس ولا تأثير لا علامه: لم يجب عليه ذلك، لأن وجوب الاعلام نظير
وجوب الاحتياط لا نفسية له، بمعنى أنه لا يكون الاعلام ذا مصلحة في نفسه
وإن كان الوجوب نفسيا بمعنى آخر، وبالجملة وجوبه للتوصل إلى أمر آخر ومع
حصوله على أي حال أو عدم حصوله كذلك: لا يجب، نظير وجوب الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر فإنهما مع عدم احتمال التأثير لا يجبان كما هو واضح.
ثم إني بنيت على قصر البحث في هذا الأمر على ما ذكر مما هو مربوط بجوهر
المسألة، لكن جمع من أصحاب البحث أمروني بالتعرض لما أفاده الشيخ الأعظم
(1) من العناوين الأربعة، فنقتصر على البحث حول بعض ما أفاده وحققه رحمه الله.
قال: هنا أمور أربعة أحدها أن يكون فعل الشخص علة تامة لوقوع الحرام في
الخارج كما إذا أكره غيره على المحرم ولا اشكال في حرمته وكون وزر الحرام
عليه بل أشد لظلمه أقول: هنا جهات من البحث.
الأولى الظاهر أن مراده بصيرورة فعل الشخص علة تامة لتحقق الحرام:

(1) راجع المكاسب في صحة بيع الدهن المتنجس بشرط الاستصباح ووجوب الاعلام
بتنجس المبيع
92

أن يكون فعله علة تامة لتحقق الحرام من الغير كما هو مقتضى عنوان البحث
والمثال بالمكره (وفيه) أن العلة التامة ما لا تكون لغيرها في تحقق المعلول
دخالة، ويكون تمام التأثير في ايجاده مستندا إليها، وإلا لا تكون تامة،
وفي المقام لا يمكن تصور كون العلة التامة هو المكره بالكسر لعدم دخالته في
الايجاد إلا تحصيل مورد ترجيح الفاعل المباشر بين ارتكاب الفعل وتحمل ما أوعده
المكره عليه، وبعد فهو باق على اختياره واصطفائه أحد طرفي الفعل. فالمكره
لا يسلب اختيار المكره، فإنه عبارة عن اصطفاء ما هو خير له، وهو باق على قوة التميز
وترجيح أحد طرفي الفعل واصطفائه على الآخر، من غير فرق بين الطرف المكره
عليه والطرف الآخر وأن يرجح غالبا أولهما، لكونه أقل محذورا، لا لكونه مسلوب
الاختيار والإرادة.
ولهذا يحرم عليه مع الاكراه الاقدام على القتل، ويعاقب عليه ويقتل قصاصا
فالفرق بين الفاعل المكره وبين المختار الاصطلاحي: ليس في وجود الاختيار وعدمه بل
في أمر مقدم على الاختيار الواقعي، وهو تحقق مورد الترجيح العقلي أحد الطرفين،
فإنه قد يحصل بعلل غير اكراه المكره، كمن دار أمره لأجل مرض بين الموت وقطع
اليد فلا يقال إنه مكره عليه بل هو مضطر فيه، أي يلجأه العقل بترجيح المصلحة
الغالبة على المفسدة، أو بالفرار من المحذور الكثير إلى القليل من غير سلب قوة التميز
والاختيار والإرادة عنه، وقد يحصل باكراه مكره فدار أمره بين تحمل ما أو عده عليه
من القتل وغيره، وبين اتيان ما أمره به، وفي هذه الصورة أيضا لم تسلب عنه المبادئ
المتقدمة بل يرجح أقل المحذورين ويختاره ويريده، وما هو كذلك شأنه كيف يمكن
أن يكون علة تامة للفعل الصادر من المكره، بل قلنا في محله، إن إرادة الفاعل المباشر
أيضا ليست علة تامة لوجود الفعل وتحققه خارجا، ضرورة توسط مبادئ أخر بينها و
بين وجود الفعل الخارجي كالقوى المنبثة في الأوتار والأعصاب ونفس الأوتار والأعصاب
والعضلات، فالنفس في العالم الطبيعي فاعلة بالآلة، وما هي شأنها: لا تكون إرادتها
علة تامة للفعل الخارجي فضلا عن كونها بالنسبة إلى الفعل المكره عليه كذلك، و
93

لهذا كثيرا ما تتخلف الإرادة عن المراد
نعم قد يمكن أن يقهر بعض النفوس القوية قوى الفاعل وآلاته وسخرها تحت
إرادته بحيث تسلب الإرادة والاختيار والفاعلية عنه ويصير متحركا وفاعلا بإرادته و
تكون قوى الفاعل كالآلة للنفس المسخرة إياه، وفي مثله لا يكون الفعل صادرا عن
المسخر بالفتح بل عن المسخر القاهر، وهو خارج عن البحث
الجهة الثانية أن الفعل الصادر من المكره باكراه مكره، تارة لا يخرج
بواسطة الاكراه عن الحرمة الفعلية، كالاكراه علي القتل، فإنه محرم فعلى على
المكره بالفتح ولو أوعده على القتل، وأخرى يخرج عن الحرمة الفعلية بالاكراه،
ولولاه يكون محرما فعليا وثالثة يكون الفعل قبل تحقق الاكراه خارجا عن الحرمة
الفعلية كما لو اضطر إليه ولم يفعله فأكره عليه.
لا اشكال في حرمة الاكراه في الصورة الأولى، للقبح عقلا في تحريك الغير
على معصية المولى فضلا عن اكراهه عليها، مع أن النص والفتوى متوافقان عليه،
كما أنه لا اشكال في عدم الحرمة من حيث الاكراه على الفعل في الأخيرة، ضرورة أنه
مع الضرورة صار مباحا ومرخصا فيه بل قد يكون الأمر برفع الاضطرار به أو الاكراه
عليه: واجبا كما لو ترك المضطر المشرف على الموت أكل الميتة أو مال الغير.
نعم فيما يكون الحكم على نحو الترخيص لا يجوز للغير اكراهه عليه لكونه ظلما
إنما الكلام في الصورة الثانية، أي فيما صار الاكراه موجبا لرفع الحرمة عن المباشر
(والتحقيق) أن العناوين مختلفة، فقد يكون تبديل العنوان الذي يتبدل به الحكم
من قبيل عنوان عرضي مقابل للآخر كالمسافر والحاضر: فتكون لكل عنوان
مصلحة خاصة به مستتبعة لحكم، فلا اشكال في مثله في جواز تبديل أحدهما
بالآخر للفاعل ولا يحرم من هذه الجهة على المكره وإن حرم عليه الظلم، فلو
أكره غيره على السفر لا يعاقب على إلزامه بترك الصلاة التامة، فإنها في السفر
محرمة لا مصلحة فيها، ومن قبيل تبديل عنوان بعنوان آخر في عرضه، وقد لا يكون
كذلك بأن يكون العنوان المتعلق للحكم مبغوضا بنحو الاطلاق وإنما أجاز
94

المولى في بعض الأحيان اتيان مبغوضه الجاء، كمن أجاز قطع يده لحفظ نفسه، فإن
قطعها مبغوض مطلقا، لكن ربما يختار الانسان مبغوضه الفعلي لدفع محذور
أشد منه فيتأسف على وقوع تلك الواقعة التي ألزمته على التسليم على المبغوض،
وفي مثله تحصيل هذا العنوان قبيح، والاكراه على تحصيله كذلك.
ثم إن الظاهر من أخذ العناوين العذرية في موضوع الترخيص هو كونه من
قبيل الصورة الثانية، إلا أن دل دليل على خلافه، ولهذا قلنا بعدم جواز اهراق الماء
وتحصيل العذر والفقدان اختيارا، واستثنى الشارع الأقدس الباغي والعادي من
المضطر في أكل الميتة، بل لو اضطر الفاعل نفسه بارتكاب محرم قد يجب عليه
اتيانه ومع ذلك يعاقب على الفعل بحكم العقل كالمتوسط في الأرض المغصوبة، و
الحاصل أن مثل المورد تفويت لغرض المولى، والقاء للنفس أو الغير في ارتكاب
مبغوضه وهو قبيح عقلا، حرام شرعا، وإن لم يكن مخالفة للأمر.
الجهة الثالثة كل مورد يكون الاكراه على محرم مع بقائه على ما هو عليه
من الحرمة على المباشر كالاكراه على القتل: يكون وزره على المباشر قصاصا
كان أو عقابا، وعلى المكره استحقاق العقاب وربما يجعل له جزاء في الدنيا، كما
وردت رواية صحيحة بأن الآمر بالقتل يحبس حتى يموت (1) والمكره بالفتح في
الصورة الثالثة من الصور المتقدمة: فلا وزر عليه في الارتكاب حتى يكون وزره
على غيره، والمكره بالكسر ربما لا يكون عليه وزر بل له أجر كما تقدم، وقد
يكون عليه وزر الظلم، وفي الصورة الثانية لا وزر على المأمور، وعلى المكره وزر
الظلم والاكراه بايجاد المبغوض وتفويت المصلحة، ولا دليل على كونه بمقدار وزر
الفاعل لو كان مختارا.
نعم ورد في باب اكراه الزوجة على الجماع نهارا في شهر رمضان: أن على
المكره كفارتين وضرب خمسين سوطا، وإن كانت طاوعته فعليه كفارة وضرب

(1) الوسائل - كتاب القصاص - الباب 13 - من أبواب القصاص في النفس
95

خمسة وعشرين سوطا، وعليها مثل ذلك (1) ووردت روايات بأن من اغتصب امرأة
فرجها: يقتل، محصنا كان أو غير محصن (2) مع أن غير المحصن لا يقتل، وقد ذكر
الفقهاء بلا نقل خلاف أن ضمان التلف على المكره بالكسر دون المكره والمقام
لا يسع تحقيقه، قال الشيخ: وثانيها أن يكون فعله سببا للحرام كمن قدم إلى غيره
محرما ومثله ما نحن فيه، وقد ذكرنا أن الأقوى فيه التحريم، لأن استناد الفعل
إلى السبب أقوى فنسبة فعل الحرام إليه أولى، ولذا يستقر الضمان على السبب دون
المباشر الجاهل، بل قيل: إنه لا ضمان ابتداء إلا عليه،
أقول إن كان فعله سببا؟ للحرام الفعلي وحصول المعصية فلا اشكال في قبحه عقلا وحرمته
لا لقوة السبب بل لأن مطلق تحريك الغير وأمره بالمنكر محرم قبيح، فمن قدم الحرام
إلى العالم به ليأكله: ارتكب محرما، وأما مع جهل الفاعل المباشر بالواقعة فإن
قلنا بأن المجهول موضوعا بقي على مبغوضيته كما قلنا في الاضطرار والاستكراه:
فلا يجوز التسبيب وغيره، لا لقوة السبب وضعف المباشر بل هو نظير المحرم الفعلي
بلا افتراق بينهما من هذه الجهة، وإن قلنا بعدم بقائه على مبغوضيته وإن الله
يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه كما في رواية ويظهر في بعض
الروايات جواز ايجاد الجهل ومرجوحية السؤال لرفعه: فالتسبيب إليه جائز لأنه
تسبيب إلى الحلال الغير المبغوض هذا على القواعد، لكن يظهر من جملة من الروايات:
عدم جواز ذلك، منها الروايات المتقدمة الدالة على وجوب الاعلام (3) ويظهر
منها بإلغاء الخصوصية عدم جواز التسبيب ونحوه في سائر المحرمات، ومنها ما وردت
في العجين النجس من الأمر ببيعه ممن يستحل (4) وفي رواية الأمر بدفنه والنهي

(1) الوسائل - كتاب الصوم - الباب 12 - من أبواب ما يمسك عنه الصائم
(2) الوسائل - كتاب الحدود - الباب 17 - من أبواب حد الزنا
(3) الوسائل - كتاب التجارة الباب 6 - من أبواب ما يكتسب به
(4) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 7 - من أبواب ما يكتسب به
96

عن بيعه (1) وما وردت في الميتة المختلطة بالمذكى من الأمر ببيعه من المستحل
دون المسلم (2) وما وردت في إراقة المرق الكثير أو اطعامه الكلب أو
الكافر (3).
ثم إن ما نحن فيه أي بيع المتنجس مع عدم الاعلام: ليس من قبيل السبب،
لعدم اشتراط الأكل ولا التواطؤ عليه. وصرف امكان أن يأكل منه: لا يوجب
السببية، ولا يبعد أن يكون مراد الشيخ من كون فعل الشخص سببا للحرام
وقوة السبب وضعف المباشر: ما أشرنا إليه من أن الفعل المجهول بقي على
مبغوضيته ومعه لا يجوز التسبيب إلى ارتكاب الجاهل، وأن وجود المبغوض مستند
إلى السبب بنحو أقوى، وليس مراده صدق آكل النجس وشاربه على السبب
حتى يستشكل عليه بأن عنوان المحرم إذا كان اختيار مباشرة الفعل كما هو ظاهر أدلة
المحرمات: لا ينسب إلى السبب بل ولا إلى العلة التامة فمن أوجر الخمر في حلق الغير
قهرا لا يصدق عليه أنه شرب الخمر بل في مثله لا يتحقق عنوان المحرم رأسا، فإن
الشارب غير مختار، والعلة غير شارب.
نعم إذا كان عنوان المحرم ما هو أعم صادق على السبب والمباشر كعنوان
الاتلاف: صح ما ذكر، ووجه أقوائية السبب، أن عنوان الاتلاف صادق على فعلهما
مع زيادة الاختيار في السبب (انتهى) (وفيه) أن نظر الشيخ ظاهرا إلى ما ذكرناه،
فالسبب موجب لوجود المبغوض في الخارج وهو أقوى في ذلك من المباشر الجاهل،
مضافا إلى أن التفريق بين المقامين بما ذكره كأنه: في غير محله، فإن الاتلاف لا
يصدق حقيقة إلا على فعل المباشر، والانتساب إلى السبب: مجاز بلا شبهة.

(1) الوافي - كتاب المطاعم والمشارب والتجملات - الباب 16 - من أبواب ما يحل من
المطاعم وما لا يحل
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 7 - من أبواب ما يكتسب به
(3) الوسائل - كتاب الأطعمة والأشربة - الباب 26 من أبواب الأشربة المحرمة وباب
44 - من الأطعمة المحرمة
97

فمن قدم مال الغير إلى جاهل فأكله: لا يكون ممن أتلف ماله حقيقة بل الآكل
هو المتلف، ولا فرق بين آكل المال ومتلفه، فإنه أتلفه بأكله، فكما لا يصدق
الآكل حقيقة على القادم: لا يصدق المتلف عليه أيضا على الحقيقة.
نعم يصح الانتساب المجازي في الثاني دون الأول، وهو الفارق بينهما،
فإذا كان دليل الضمان نحو من أتلف مال الغير فهو ضامن: لا يصح الحكم بالضمان
في الصورتين، لكن المستفاد من الأخبار المختلفة كقوله: من أضر بشئ من
طريق المسلمين فهو له ضامن (1) وغيره: أن الضمان لا يدور مدار صدق الاتلاف،
بل يترتب على التسبيب والمباشرة، والمراد من التسبيب ليس معناه المصطلح بل
أعم من ذلك وللكلام محل آخر. ثم إن المثال الذي ذكره المستشكل للعلة التامة:
مورد مناقشة والأمر سهل ثم إن الشيخ تعرض لصورتين أخريين لا فائدة في التعرض
لهما، لكن لا بأس بالتنبيه على أمر.
وهو: أنه قدس سره جعل المورد تارة من مصاديق قاعدة التغرير، وأخرى
من باب التسبيب، وثالثة من باب عدم المانع، واختار الحرمة في العنوانين
الأولين، وفصل في الثالث، وقد تقدم حال العنوانين لكن نقول في المقام: أن المورد
إن كان منطبق العناوين الثلاثة، فإن دل دليل على حرمتها أو حرمة عنوانين سنها
نفسيا: فمقتضاه عدم التداخل وبقاء كل عنوان على حرمته وكون المصداق الخارجي
منطبق المحرمات بلا تداخل كساير موارد انطباق العناوين الواجبة أو المحرمة
على شئ، لكن لا تدل الروايات التي في الباب ولا غيرها مما تمسك بها على قاعدة تغرير
الجاهل، أما الأولى فلعدم دلالتها الأعلى وجوب الاعلام لئلا يقع المشتري في الحرام الواقعي
لكن وجوبه ذلك هل للزوم تركه للتغرير، أو لكون تركه مستلزما لتحقق التسبيب
بتسليط المشتري على شئ يتداول أكله وكان ذلك منفعته الشايعة فهو تسبيب، أو

(1) الوسائل - كتاب الديات - الباب 8 - 9 من أبواب موجبات الضمان
98

نظيره مما هو زائد على عنوان التغرير: فغير معلوم بل احتمال أن يكون للتسبيب
أو نحوه أقرب إلى مفادها، إذ من المحتمل أن يكون وجوب الاعلام مختصا بمورد
البيع والتسليط فيكون له دخالة فيه بنحو جزء السبب فكأنه قال: إذا بعته و
سلطته على المبيع الذي في مظنة الأكل عادة: يجب عليك اعلامه لئلا تصير سببا
لوقوعه في الحرام الواقعي وبهذا يظهر عدم دلالتها على وجوب الاعلام بنحو الاطلاق
ولو علم بابتلاء المكلف بالحرام، لقصورها عن الدلالة عليه كذلك، ولا على قاعدة
التقرير ولو نوقش في دلالتها على حرمة التسبيب فلا أقل من عدم دلالتها على شئ من
العناوين المنطبقة على المورد.
وأما ما دلت على حرمة الفتوى بغير علم، كصحيحة أبي عبيدة (1) قال (قال أبو جعفر
عليه السلام: من أفتى الناس بغير علم ولا هدى من الله: لعنته ملائكة الرحمة، وملائكة
العذاب، ولحقه وزر من عمل بفتياه). فلا تدل على قاعدة الغرور لاحتمال أن يكون
المراد بها الطعن علي من أفتى بالقياس والاستحسان وعمل الناس بفتياه مع علمهم
بذلك، فيكون المقصود أن للعامل المرتكب للحرام وزرا ونظير وزره على المفتي
بغير علم ولا هدى من الله تعالى نظير قوله: (من سن؟ سنة حسنة فله أجر من عمل
بها ومن سن سنة سيئة فله وزر من عمل بها) (2) فإن المراد من تحميل وزره
عليه بقرينة مقابله: أن وزره عليه من غير نقصان عن وزره، وعليه فلا ربط لها
بقاعدة التغرير
ويحتمل بعيدا أن يكون المراد التشديد على المفتي المذكور بأن لعنته ملائكة
الرحمة والعذاب وعليه أوزار من عمل بفتياه، كان الوزر من العمل بهذه الفتيا أو غيره
نظير أن يقال: من عمل كذا كان عليه وزر الأولين والآخرين،

(1) الوسائل - كتاب القضاء - الباب 4 - من أبواب صفات القاضي وما يقضى به
(2) الوسائل - كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الباب 6 - من أبواب الأمر
والنهي وكتاب الوقوف والصدقات - الباب 1
99

ولو سلمت دلالتها على أن من أفتى كذلك كان عليه وزر العامل بفتياه: لا تدل على
القاعدة لأن فتيا من التزم الناس بالعمل بقوله عقلا وشرعا سبب لوقوعهم في
الحرام وليس ذلك من حيث التغرير، ولا يخفى أنه ليس المراد بالوزر على هذا
الاحتمال وزر عمل الجاهل المعذور، ضرورة أنه لا وزر له بل يكون مثابا لانقياده
بل ربما يكون فعله طاعة، فلا بد أن يحمل على الوزر التقديري أي وزر العمل على
فرض عدم معذوريته أو حمله علي نحو الضمانات، وأما فعل الحرام الواقعي فلا قبح له
ولا وزر على الفاعل المعذور في ارتكابه.
ومما ذكرناه يظهر النظر في دلالة روايات (1) دلت على أن تقصير صلاة
المأمومين على الإمام، فإنها مع ضعفها ومخالفتها لجملة أخرى دالة على عدم ضمان
على الإمام (تأمل): لا تدل على أنه لصرف التغرير فإن إمام الجماعة الذي التزم قوم
بالصلاة معه إذا صلى بهم: يكون حاله حال من قدم إلى غيره محرما فيكون لفعله
نحو تسبيب أو نظيره، زائدا " على التغرير، وأما ما جعله مؤيدا " فلا يخفى ما فيه،
فإنه لو فرض تحريم سقي المكلف الجاهل الحرام: لا يدل ذلك على القاعدة كما مر
فضلا عما هو مفاد رواية أبي بصير (2) وأضعف منه تأييده الثاني، فتحصل مما ذكر
أنه لا دليل معتمد على قاعدة التغرير، وقد مر أن العقل حاكم بجواز التسبيب إلى
ما كان مباحا ظاهرا " فضلا عن تغرير الجاهل به إلا إذا أحرزت مبغوضيته ولو في حال
الجهل. وليعلم: أن قاعدة التغرير في الباب في ما في باب الضمان، فإن لها فيه
مدركا معتمدا.
الثالث حكي غير واحد: الشهرة على وجوب كون الاستصباح تحت السماء،
وعن السرائر نفي الخلاف عن عدم جوازه تحت الظلال (3) وعن المبسوط أنه روى
أصحابنا أنه يستصبح به تحت السماء دون السقف (4) وسيأتي الكلام في حال الشهرة

(1) الوسائل - كتاب الصلاة - الباب 35 - من أبواب صلاة الجماعة
(2) الوسائل - كتاب الأطعمة والأشربة - الباب 10 من أبواب الأشربة المحرمة
(3) راجع مفتاح الكرامة في جواز الاستصباح بالدهن النجس من المتاجر
(4) راجع مفتاح الكرامة في جواز الاستصباح بالدهن النجس من المتاجر
100

لكن لو سلم وجود شهرة جابرة للرواية أو فرضت صحتها: كان مقتضى الجمع
العقلائي بينها وبين الروايات المتضافرة التي في مقام البيان: حملها على
الاستحباب، بيانه يحتاج إلى مقدمة، وهي أن طهارة دخان المتنجس التي أفتى
بها الفقهاء ليس لدليل تعبدي بل لقصور دليل نجاسة الدهن المتنجس مثلا عن
شموله للدخان والبخار، وعدم دليل على نجاستهما، وعدم جريان استصحاب النجاسة،
فمقتضى الأصل الطهارة، فلو فرض في مورد علم بعدم الاستحالة وبقاء أجزاء الدهن
اللطيفة وتصاعدها مع الدخان: يحكم بكونه نجسا لفرض عدم تحقق الاستحالة
الرافعة للموضوع.
نعم لو كانت الأجزاء صغيرة جدا بحيث يحتاج في دركها إلى المكبرات:
لا تكون موضوعة للنجاسة، وأما لو اجتمعت وصارت مقدارا " محسوسا " ولو قليلا و
صغيرا ": تكون نجسة لعدم الاستحالة وعدم احتمال صيرورة الصغر موجبا للطهارة
هذا إذا علم عدم الاستحالة ولو شك في ذلك كان الدخان محكوما بالطهارة لقصور
الأدلة الاجتهادية عن اثبات نجاستها، وعدم جريان الاستصحاب، لاختلاف القضية
المتيقنة مع المشكوك فيها، أو الشك في وحدتهما، لكن مع ذلك كان الاحتياط
حسنا سيما إذا كانت الأدخنة كثيفة والدهن غليظا وكثيفا تصير معرضية الأجزاء
الدهنية للتصاعد قوية وربما صار مظنونا ومعه يحسن الاحتياط عنها لما يشترط فيه الطهارة
ثم إن التدخين تحت الضلال والسقف إذا كان مدة معتدا بها كالساعة والساعتين
يوجب ذلك تراكم الأدخنة وورودها في منافذ البدن كالأذن والأنف والحلق
وتراكمها فيها ربما يكون مظنة اجتماع الأجزاء اللطيفة الدهنية الغير المستحيلة
ولا أقل من احتماله سيما، إذا كانت البيوت ضيقة وسقوفها منخفضة كما كانت
كذلك نوعا في تلك الأعصار، وسيما مثل الأدهان التي مورد السؤال، فإذا ورد نهي عن
الاستصباح بهما تحت السقف والأمر بالاستصباح تحت السماء: لا ينقدح في ذهن العقلاء
منهما التعبد المحض الغير المرتبط بالنجاسة بل المفهوم منهما بمناسبة الحكم
والموضوع: أن النجاسة صارت موجبة للحكم بذلك، فيفهم أهل العرف نجاسته أن
101

كان حكم الشارع بالتحرز إلزاميا، ولهذا يظهر من شيخ الطائفة رحمه الله في عبارته
الآتية أو قوما من أصحابنا قالوا بنجاسة دخان المتنجس للرواية المرسلة المتقدمة،
وهو حق لو علمنا بلزوم الاجتناب فيفهم من دليله تخطئة الشارع العرف في
وقوع الاستحالة، أو حكم بلزوم الاحتياط في الشبهة لمعرضية عدم الاستحالة،
لكن مع ورود روايات كثيرة مطلقة في مقام البيان لم يكن فيها أثر من هذا القيد
في مقابل رواية واحدة ناهية عن الاسراج تحت السقف: يكون الجمع العقلائي
بينها حملها على الاحتياط الاستحبابي المطلوب في مثل المقام، سيما مع كونها
مخالفة للأصول والحمل على التعبد المحض الغير المربوط بالنجس الاحتمالي أو
المظنون: غير مساعد لفهم العرف والعقلاء ومناسبات الحكم والموضوع، كما أن
الحمل على لزوم الاحتياط ورفع اليد عن الأصول والقواعد والاطلاقات الكثيرة
الواردة في الباب: بعيد جدا، ومخالف لارتكاز العقلاء في مقام جمع الأدلة
فما ربما يقال إن مقتضى تعلق الحكم على العنوان واطلاقه عدم جواز الاستصباح
به ولو لحظة بل ولو كان السقف مرتفعا إلى الثريا (ناشئ) من عدم التأمل في الرواية
وارتكاز العقلاء فإن العناوين مختلفة، فربما لا تكون لها نفسية حتى يأتي فيها ما ذكر
نظير قوله في روايات الباب وأعلمهم إذا بعته (1) فإن الاعلام بحسب حكم العرف ليس
إلا للتحفظ عن الابتلاء فمع العلم بعدمه لا يجب كما مرو ليس لأحد أن يقول: إن مقتضى
الاطلاق: وجوبه ولو مع لغوية الاعلام، ضرورة عدم الاطلاق لمثله، والمقام من
قبيله، فإن أهل العرف لا يفهمون من النهي عن الاستصباح تحت السقف: إلا للتنزه
عن النجس المحتمل أو المظنون، فلا اطلاق له يشمل ما ذكر. والانصاف أن الجمع
بينها وبين المطلقات المتقدمة بما ذكرناه وأشار إليه شيخنا الأعظم: من أجمل
الجموع وأوهن التصرفات.
ثم إنا لا نقول: بأن النهي لمراعات عدم تنجس السقف حتى يقال إن تنجسه
لا مانع منه، بل نقول: إن ذلك لمراعات حال المكلف المبتلي بالدخان تحت

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 6 - من أبواب ما يكتسب به
102

السقف، لا لكون تنجس بدنه ممنوعا شرعا ونفسا، بل لما يشترط فيه الطهارة
فالأجزاء الدخانية المجتمعة في الفم يحتمل فيها النجاسة ويحسن معه الاحتراز لمراعاة
عدم الابتلاء بأكل النجس المحتمل، وكذا ما اجتمع منه في منفذ الأذن والأنف بل و
ما اجتمع منه في السقف ربما يوجب التنجيس فيحسن التنزه منه للصلاة وغيرها،
هذا مع أنها رواية مرسلة غير مجبورة، لعدم ثبوت الشهرة في المسألة عند
قدماء أصحابنا، فضلا عن ثبوت الشهرة بالعمل بها، بل لو ثبتت الشهرة واحتمل
استنادهم بها: تصير معللة لا يجوز الاتكال عليها لاحتمال أن يكون نظرهم إلى جمع
الروايات بتقييد المطلقات بها، سيما وهو جمع عقلائي معروف لولا التنبه بما
قدمناه، كما أنه لو ثبتت ولم يحتمل استنادهم إليها: كانت حجة بلا اشكال في مثل تلك
المسألة التي وردت فيها روايات مطلقة في مقام البيان، وترك الأصحاب العمل
باطلاقها، فلا يجوز مع ذلك العمل بالاطلاق، وترك الشهرة في المسألة المخالفة
للقواعد.
إلا أن يقال باحتمال أن يكون مستندهم في الحكم: قاعدة عدم جواز الانتفاع
بالنجاسات، ولم يعملوا بتلك الروايات، للخدشة في اطلاقها، وهو كما ترى. وكيف
كان فثبوت الشهرة محل اشكال بل منع لو لم نقل بثبوت الشهرة أو الاجماع على الجواز،
كما ربما يظهر من الشيخ في الخلاف قال: في الأطعمة مسألة 19 إذا ماتت الفأرة في
سمن أو زيت أو شيرج أو بزر نجس كله، وجاز الاستصباح به، ولا يجوز أكله ولا
الانتفاع به لغير الاستصباح، وبه قال الشافعي ثم نقل أقوال القوم ثم قال:
دليلنا اجماع الفرقة وأخبارهم ثم قال: وروى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وآله
سئل عن الفأرة تقع في السمن والزيت فقال: استصبحوا به ولا تأكلوه وهو اجماع
الصحابة، وروى ذلك عن علي عليه السلام وابن عمر، ثم قال: مسألة 20 إذا جاز الاستصباح
به فإن دخانه يكون طاهرا ولا يكون نجسا ثم تمسك بالأصل وعدم الدليل على
النجاسة.
قول: اطلاق المسألة الأولى يقتضي جواز الاستصباح تحت السقف سيما مع
103

التمسك بأخبار الطايفة، فإن الأخبار المشار إليها هي ما تقدمت من المطلقات التي
في مقام البيان الدالة على الجواز مطلقا، وسيما مع تمسكه في مقابل من قال بعدم
جواز الانتفاع برواية أبي سعيد المطلقة، وتؤكد الاطلاق بل كون نظره إلى
الاستصباح تحت السقف: المسألة الأخرى التي ذكرها بعد الأولى، فإن جواز
الاستصباح به مع طهارة الدخان لا ربط بينهما لا من جهة أنه إذا لم يجز بحكم الشارع
الاستصباح تحت السقف. يدل ذلك على نجاسته لما قدمنا ذكره من فهم أهل العرف والعقلاء
فيدل ذلك على أن عمدة نظر الشيخ إلى الاستصباح تحت السقف في المسألة الأولى
وقد ادعى الاجماع على جوازه. وعن المبسوط (1) الأدهان إذا ماتت فيها فأرة: نجس
(نجسة ظ) ويجوز عندنا وعند جماعة الاستصباح به في السراج، ولا يؤكل، ولا ينتفع
به في غير الاستصباح، وفيه خلاف، وروى أصحابنا أنه يستصبح به تحت السماء
دون السقف وهذا يدل على أن دخانه نجس غير أن عندي أن هذا مكروه، وأما
دخانه ودخان كل نجس عندنا ليس بنجس، وأما ما قطع بنجاسته قال قوم: دخانه
نجس وهو الذي قدمناه من رواية أصحابنا وقال آخرون وهو الأقوى: إنه ليس
بنجس (انتهى).
وهذه العبارة أيضا شاهدة بأن مراده في الخلاف من الاستصباح: أعم مما
تحت السماء، والخلاف الذي أشار إليه يحتمل أن يكون من العامة، ورواية
الأصحاب تلك الروايات غير فتواهم بها، ويحتمل أن يكون خلاف بين أصحابنا لكنه
غير معتد به عنده. فأفتى بخلافه مع وجود رواية الأصحاب، وكيف كان يظهر من
الخلاف أن الجواز مطلقا اجماعية، ولو قيل بظهور عبارة المبسوط في أن المسألة
خلافية عند أصحابنا، فلا أقل من عدم الشهرة الجابرة أو المعتبرة في عصر شيخ
الطايفة وقبله، ولهذا قال العلامة في محكي المختلف في جواب ابن إدريس المدعي
بأن ما ذهب أحد من أصحابنا أن الاستصباح به تحت الظلال مكروه بل محظور بلا خلاف
منهم: أن هذا الرد على شيخنا جهل وسخف، فإن الشيخ أعرف بأقوال علمائنا

(1) كتاب الأطعمة والأشربة فيما يكره كسبه
104

والمسائل الاجماعية والخلافية (انتهى) وهو كذلك فالشيخ ادعى الاجماع على الجواز
أو أخبر بخلافية المسألة فلا يمكن تصديق الحلي فيما ذكره.
وقد يتوهم من عبارة الخلاف في البيوع بأن الشيخ ادعى الاجماع على
لزوم كون الاستصباح تحت الظلال (وهو خطأ) لأنه ادعى ذلك علي جواز البيع لمن
يستصبح تحت السماء لا على عدم جوازه تحت الظلال، قال (1) يجوز بيع زيت (الزيت ظ)
النجس لمن يستصبح به تحت السماء، وقال أبو حنيفة يجوز بيعه مطلقا، وقال
مالك والشافعي: لا يجوز بيعه بحال، دليلنا اجماع الفرقة وأخبارهم، وأيضا
قوله تعالى: وأحل الله البيع وحرم الربا وقوله: إلا أن تكون تجارة عن تراض،
وهذا بيع وتجارة، وأيضا دلالة الأصل، والمنع يحتاج إلى دليل، ثم تمسك عليهم
بما روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه أذن في الاستصباح بالزيت النجس، وهو دليل على
جواز بيعه للاستصباح، وأن لغيره لا يجوز إذا قلنا بدليل الخطاب (انتهى).
وهو كما ترى ادعى الاجماع وورود الأخبار على جوازه للاستصباح تحت
السماء مقابل مالك والشافعي، ولهذا تمسك بالآية والأصل والرواية من طريقهم،
وإنما تمسك بدليل الخطاب إذا قلنا به وعلى نحو التعليق، فلو كانت المسألة بشقيها
أي الجواز للاستصباح تحت السماء وعدمه له تحت الظل اجماعية: لتمسك به فيهما
ولا يدعيه في خصوص الأولى، ولا يبعد دعوى ظهور عبارته في جوازه مطلقا، فتحصل
من جميع ما تقدم أن المسألة ليست مشهورة ولا اجماعية لو لم نقل بقيام الشهرة
على الجواز، فمقتضى اطلاق الأدلة والقواعد الجواز.
الرابع الأقوى جواز الانتفاع بهذا الدهن لغير الاستصباح، كعمل الصابون
وطلى الأجرب والسفن، وكذا يجوز بيعه لذلك للأصل وعموم أدلة تنفيذ البيع وقد
سبق لكلام في أن الأصل جوازهما بما لا مزيد عليه، مضافا إلى أن الظاهر من أخبار

(1) كتاب البيوع مسألة 312
105

الباب الجواز، فإن قوله في صحيحة زرارة (1) عن أبي جعفر عليه السلام: وإن كان ذائبا فلا
تأكله واستصبح به والزيت مثل ذلك: ظاهر في أن المقصود عدم الأكل وجواز
الانتفاع بساير الجهات، وإنما خص الاستصباح بالذكر لمجرد المثال، وأنه أوضح
المنافع بعد الأكل، بل المنافع الأخر غير معتد بها، فاختصاصه بالذكر وإن وقع
في روايات عديدة لكن ظاهر جعله مقابل الأكل في الصحيحة ورواية إسماعيل (2)
حيث قال فيها: وأما الزيت فلا تبعه إلا لمن تبين له فيبتاع للسراج وأما الأكل فلا:
أن سائر الانتفاعات غير الأكل جائز، وإلا لقال: وأما غيره فلا، بل المتفاهم من
سائر الروايات أيضا ذلك لمساعدة أهل العرف مع إلغاء الخصوصية. فيمكن أن يقال:
إنه لو فرض اطلاق دليل على عدم جواز الانتفاع بالنجس لجاز تقييده بها، فيقال
بجواز الانتفاع في المتنجسات دون النجاسات.
القسم الثاني الاكتساب بما يكون المقصود منه حراما ولو شأنا وهو على أنواع
الأول ما لا تكون له منفعة مقصودة إلا الحرام وهو أمور:
منها هياكل العبادات المخترعة مثل الأصنام، ويأتي فيها ما تقدم في القسم الأول
من البحث عن حرمة بيعها والمعاوضة عليها بعنوانها وعن حرمة ثمنها بعنوانه وعن
بطلان المعاملة بها المترتب عليه كون ثمنها مقبوضا بالمعاملة الفاسدة (ثم) إن
المعاملة كالبيع مثلا قد تقع بها للغاية المحرمة كمن باع الصنم للعبادة بنحو التواطؤ
عليها، أو بنحو الاشتراط في ضمن العقد، وقد يبيع ممن يصدر منه الحرام كبيعها
ممن يعبدها أو ممن يبيعها ممن يعبدها كبيع الصنم من مسلم يبيعه من الوثني،
وقد تقع المعاملة مع العلم بعدم ترتب الحرام عليها إما للعلم بأن المسلم المشتري
لا يسلمها إلى الوثني، أو لانقراض الطايفة التي تعبدها كما لو أخرج صنم من الحفريات
عن الآثار القديمة البائدة الهالك أهلها وانقرضت الطايفة التي تعبدها، وإنما
يشتريها قوم لحفظ الآثار العتيقة كما تعلق به أغراض العقلاء أحيانا، وإنما تشتريها

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 6 - من أبواب ما يكتسب به الثانية ضعيفة
بمحمد بن خالد الطيالسي
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 6 - من أبواب ما يكتسب به الثانية ضعيفة
بمحمد بن خالد الطيالسي
106

لهيئتها وصورتها الصنمية بما أنها من الآثار القديمة، وقد تباع لغرض كسرها، و
هو تارة يرجع إلى المشتري كمن أراد أن يشتهر بين الناس بأنه كاسر الأصنام، أو أراد
الثواب الأخروي، وأخرى إلى البايع كمن عجز عن كسرها أو كان له مؤنة أراد
تحميلها على المشتري إلى غيرها من الصور.
لا ينبغي الاشكال في حرمة بيعها وبطلانه في الصور التي يترتب عليها الحرام
لاستقلال العقل بقبح ما يترتب عليه عبادة الأوثان ومبغوضيته، بل قبح تنفيذ البيع
وايجاب الوفاء بالعقد المترتب عليه عبادة غير الله تعالى، بل لو ادعى أحد القطع بأن
الشارع الأقدس الذي لا يرضى ببيع الخمر وشرائها وعصرها ولعن بايعها ومشتريها و
حرم ثمنها وجعله سحتا: لا يرضى بذلك في الصنم ولا يرضى ببيعه وشرائه ونحوهما،
بل يستفاد من الأدلة أن تحريم ثمن الخمر وسائر المسكرات وتحريم بيعها وشرائها:
للفساد المترتب عليها، ومعلوم أن الفساد المترتب على الأوثان وبيعها وشرائها:
أم جميع المفاسد، وليس وراء عبادان قرية، بل يظهر من الروايات المنقولة عن
رسول الله صلى الله عليه وآله (1) وأبي جعفر عليه السلام (2) وأبي عبد الله عليه السلام (3) مستفيضة أن مدمن الخمر
كعابد وثن: أن عبادته شر منه يترتب عليها فوق ما يترتب عليه فكيف يمكن ذلك
التشديد في الخمر لقلع الفساد دون الأوثان، مضافا إلى دلالة الروايات العامة المتقدمة
كرواية التحف وغيرها على بعض المقصود، واشعار بعض ما وردت في الخمر (4)
كقوله عليه السلام: إن الذي حرم شربها حرم ثمنها: على بعض، وخصوص صحيحة ابن
أذينة (5) قال: كتبت إلى أبي عبد الله عليه السلام أسأله عن رجل له خشب فباعه ممن يتخذه
برابط؟ فقال: لا بأس به، وعن رجل له خشب فباعه ممن يتخذ صلبانا قال: لا.
ورواية عمر وبن حريث (6) قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن التوت أبيعه يصنع للصليب
والصنم؟ قال: لا، يدل على بعضه.

(1) الوسائل - كتاب الأطعمة والأشربة - الباب 13 - من أبواب الأشربة المحرمة
(2) الوسائل - كتاب الأطعمة والأشربة - الباب 13 - من أبواب الأشربة المحرمة
(3) الوسائل - كتاب الأطعمة والأشربة - الباب 13 - من أبواب الأشربة المحرمة
(4) الوسائل كتاب التجارة - الباب 55 - من أبواب ما يكتسب به
(5) الوسائل كتاب التجارة الباب 41 - من أبواب ما يكتسب به في سند الأولى إبراهيم بن هاشم وهو ثقة
(6) الوسائل كتاب التجارة الباب 41 - من أبواب ما يكتسب به في سند الأولى إبراهيم بن هاشم وهو ثقة
107

نعم الظاهر أن دلالة الأولى بالفحوى لأن الصلبان شعار التنصر وليست كالصنم، و
في وجوب كسرها وعدم الضمان شهادة على عدم ماليتها لدى الشارع فلا يصح بيعها
وشرائها لتقومهما بها فخرجت بذلك عن شمول أدلة تنفيذ البيع تحكيما
هذا مع دعاوى عدم الخلاف والاجماع على أمور: منها التكسب بهيا كل العبادة
كالصنم بل عن الرياض (1) الاستدلال على حرمة التكسب بها بالاجماع المستفيض
النقل في كلام جماعة، وإن أنكر الاستفاضة صاحب مفتاح الكرامة (2) وعن المنتهى
(3) حكاية عدم الخلاف على حرمة عملها المستلزمة لحرمة التكسب بها على ما
قيل وعن مجمع البرهان (4) الاجماع عليها.
وفي مفتاح الكرامة (5) بعد نقل الاجماع وعدم الخلاف عن بعض قال: و
الأمر سهل إذ الاجماع معلوم، وفي الجواهر (6) بلا خلاف أجده فيه بل الاجماع
بقسميه عليه. هذا حال ما علم ترتب الحرام عليه، ولا يبعد الحاق ما يكون مظنة
لذلك به بل صورة احتمال ترتبه أيضا احتياطا لأهمية الموضوع وشدة الاهتمام به،
فلا يقصر عن الأعراض والنفوس بل أولى منهما في ايجاب الاحتياط.
نعم الأدلة قاصرة عن اثبات الحكم للصورة التي يعلم بعدم ترتيب الحرام
عليها سيما في صورة انقراض الطائفة الخبيثة العابدة لها وعدم احتمال عابد لها
ولو في الاستقبال احتمالا عقلائيا، ضرورة عدم شمول الأدلة اللفظية ولا معقد عدم
الخلاف والاجماع لها وانصرافها عنها، بل لا يبعد عدم شمولهما لما إذا بيع الصنم
الذي مورد العبادة ممن يخرجه عن تحت يد عابديه ويحفظه بعنوان الآثار العتيقة
في المحال المعدة لها فينقطع بذلك عن أيدي عبدته وإن لا يخلو عن اشكال في
هذه الصورة
بل يمكن اجراء استصحاب وجوب الكسر وحرمة البيع ونفي المالية و

(1) راجع مفتاح الكرامة فيما يكون المقصود منه حراما من المتاجر المحظورة
(2) راجع مفتاح الكرامة فيما يكون المقصود منه حراما من المتاجر المحظورة
(3) راجع مفتاح الكرامة فيما يكون المقصود منه حراما من المتاجر المحظورة
(4) راجع مفتاح الكرامة فيما يكون المقصود منه حراما من المتاجر المحظورة
(5) راجع مفتاح الكرامة فيما يكون المقصود منه حراما من المتاجر المحظورة
(6) في النوع الثاني مما يحرم التكسب به من التجارة
108

بطلان المعاملة وسحتية الثمن فيها، على اشكال ناشئ من الاشكال في جريان الاستصحاب
في الأحكام المستكشفة عن حكم العقل، لا لما ذكره شيخنا الأعظم، فإنا قد فرغنا
عن تصوير جريانها ودفع اشكاله، بل لما ذكرناه في محله من عدم جريان استصحاب
الحكم الجزئي، لأن الحكم المستكشف من مناط عقلي لا يمكن أوسعيته عن
موضوعه ومناطه، ولا استصحاب الكلي لأن الجامع بين الحكمين انتزاعي عقلي لا
حكم شرعي، ولا موضوع ذو حكم كذلك، والتفصيل يطلب من مظانه، وبهذا
يستشكل جريانه في بعض صور أخر كما إذا وجد صنم يعلم بأنه كان معبودا في
عصر الاسلام ثم انقرض عبدته ولا يحتمل عودهم، فإن الأدلة كما مرت قاصرة عن اثبات
الأحكام لها لو بيعت لغرض حفظ العتيقة وقد عرفت حال الاستصحاب.
إلا أن يقال: إن تلك الأحكام سيما وجوب الكسر وسلب المالية غير مستكشفة
من حكم العقل محضا حتى يأتي فيها ما ذكر بل حكمه من مؤيدات ثبوت أحكامها
شرعا. والأدلة الشرعية نحو الاجماع والأخبار المتفرقة في الأبواب: غير قاصرة
عن اثباتها ومعه يمكن ثبوت تلك الأحكام بمناطات أعم مما أدركها العقل ومعه
يجري الاستصحاب، والمسألة تحتاج إلى مزيد غور.
ثم إن الاستصحابات المشار إليها إنما تجري لو أحرز تعلق الأحكام بصنم ولو
من باب التطبيق وشك في بقائها، وأما إذا احتمل عدم التعلق فلا، وذلك مثل صنم
يحتمل صنعته بعد انقراض عابديه لأغراض أخر، بل لا يجري فيما إذا علم كونه
مصنوعا في أعصار قبل الاسلام مع انقراض عبدته في تلك الأعصار ولو علم
بعبادتهم له، لعدم جريان استصحاب أحكام الشرايع السابقة بل يمكن
منع جريان الاستصحابات المتقدمة بأن يقال: إن حرمة البيع غير ثابتة للصنم رأسا
في صورة بيعه للاخراج عن يد عابديه، وفيما لا يترتب عليه الحرام فلا قضية
متيقنة حتى تستصحب، وكذا حال سائر العناوين المتقدمة حتى وجوب الكسر
وبالجملة، ليس الشك في بقاء الأحكام المذكورة، فتحصل مما ذكر أن الأشبه
بالقواعد عدم المنع عن البيع في الصور الأخيرة سيما مثل ما خرج من حفريات
109

باد أهلها وانقرض عبدته ولم يرج عودهم. ومما ذكرناه تظهر قوة صحة البيع لغرض
ادراك ثواب الكسر أو غرض آخر في كسره موجب لماليته ومرغوبية اشترائه.
إلا أن يقال باستلزام ذلك لبعض الاشكالات العقلية (منها) أن الفساد المترتب
على هياكل العبادة: علة لاسقاط ماليتها وايجاب كسرها. وايجاب الكسر سبب
لترتيب الثواب عليه لايجابه، فلو صار ذلك علة لماليتها يلزم أن يكون الشئ علة
لثبوت نقيض معلول علة علته، وذلك مستلزم لنفي علة علته المستلزم لعدم ذاته
(ومنها) أن ايجاب الكسر مضاد لماليته فلو ثبتت المالية به يلزم ايجاد الشئ مضاده
المستلزم لعدم ذاته (ومنها) أن ايجاب الكسر لو صار سببا للمالية يلزم منه عدم
ايجابه بل عدم جوازه لأنه مال محترم فيلزم من ايجاب الكسر عدمه.
والجواب عنها أن الفساد لا يمكن أن يصير علة لاسقاط المالية الآتية من قبل
معلوله أي ايجاب الكسر، للزوم كون الشئ علة لعدم معلول معلوله، وهو
مستلزم لعدم معلوله المستلزم لعدمه، فهو علة لسلب المالية الثابتة لها من غير
ناحية الكسر، وأيضا أن ايجاب الكسر على فرض مضادته للمالية لا يمكن أن يكون
مضادا للمالية الآتية من قبله، لاستلزام أن يكون الشئ ضد معلوله، فيكون ضدا
للمالية التي من غير ناحية الكسر، وأيضا أن المالية الآتية من قبل وجوب الكسر
لا يمكن أن تكون مانعة عن وجوبه، فالمالية من غير تلك الناحية مانعة عنه.
ثم إن صحة البيع لغاية الكسر تتوقف على احراز أن المشتري يشتريه
لتلك الغاية لأن ماليته تتوقف على هذه الغاية، ومع الشك في كونه لها يشك في
ماليته فلا تصح المعاوضة عليه، بل صحة صلحه وهبته ونحوهما أيضا تتوقف على ذلك
الاحراز لعدم جوازها إلا لتلك الغاية، وهذا الفرع غير ما تعرض له العلامة في
محكي التذكرة (1) أنه إذا كان لمكسورها قيمة وباعها صحيحة ليكسر وكان
المشتري ممن يوثق بديانته فإنه يجوز بيعها على الأقوى (انتهى) فإن الظاهر من
اعتبار القيمة للمكسور: أن مصحح البيع قيمة المادة وماليتها فلو قلنا في الفرع

(1) راجع مكاسب - شيخنا الأعظم في النوع الثاني مما يحرم التكسب به
110

الذي تعرضه بعدم اعتبار الوثوق في صحته لا نقول به في هذا الفرع المتوقف ماليتها
وصحة المعاوضة عليها على كون الاشتراء للكسر كما لا يخفى، وليس الثواب المترتب
على الكسر وكذا سائر فوائد الكسر، نظير الفوائد المترتبة على الأشياء الموجبة
لماليتها وصحة بيعه، كان المشتري يشتريها لتلك الفائدة أم لا، لأن تلك الفوائد
موجبة للمالية مطلقا من غير توقف على قصد انتفاع المشتري وكذا صحة المعاملة
لا تتوقف عليه، بخلاف فائدة الكسر فإنها ليست موجبة للمالية المطلقة بحيث يقال
بصحة البيع معها مطلقا (فتدبر) فلا بد فيه من البيع ممن يطمئن ويوثق به أو قامت
القرائن على أنه يبتاع لتلك الغاية ولو بالتسبيب إن لم يضر بالفورية لو قلنا بوجوب
الكسر فورا.
ثم إن بيع الصنم وابتياعه تارة يكونان بداعي هيئته كابتياع الوثني مثلا، و
أخرى بداعي مادته كما كانت من الأحجار الكريمة، وثالثة بداعيهما بأن تكون لهما
مرغوبية صارت داعية إلى ابتياعه، وهذه الصور من صور بيع الأصنام يأتي فيها ما تقدم، وليس
المراد من بيع الصنم بيع هيئته فإنها ليست بصنم ولا متعلقة للمعاملة لدى العقلاء
بل الصنم عبارة عن الموجود المتهئ بتلك الهيئة الخاصة، والهيئة ليست طرفا
لإضافة المعاملة في مورد من الموارد بل طرفها هو المجود المتصور بحيثية تقييدية
أو الموجود لأجل الصورة بالحيثية التعليلة فبيع الصنم محرم باطل في الصور المتقدمة
التي قلنا بهما سواء بيع بداعي الهيئة أو المادة أو بداعييهما
ثم إن الظاهر أن الفرع المتقدم المحكي عن التذكرة كان المفروض فيه
بيع الصنم الخارجي لا بيع مادته، فعليه تصح الشرائط اعتبرها، من كون المادة
ذات قيمة وكون البيع للكسر وكون المشتري موثوقا به، فإن البيع إذا تعلق بالصنم
الخارجي ولم تكن لمادته قيمة: يبطل لعدم اعتبار قيمة الهيئة، والفرض عدم قيمة
للمادة، فلا يكون ما لا يبذل بإزائه المال. ومفروض العلامة ليس ما كان الكسر
موجبا للمالية كما فرضناه سابقا فإن ذلك الفرض مغفول عنه نادر الاتفاق، وأما اشتراط
كونه للكسر لأنه مع عدمه يصير مشمولا لأدلة بطلان بيع الصنم: وهو وإن كان باطلاقه
111

محل اشكال كما تقدم، لكن الظاهر أن المفروض في كلامه غير تلك الصور النادرة
المتقدمة، وأما اشتراط كون المشتري موثوقا به فهو شرط ظاهري لاحراز شرط المعاملة
وهو كون الابتياع للكسر ومع عدم الوثوق به لا يحرز غالبا، فالشرائط وقعت في
محلها على ما هو ظاهر عبارة التذكرة وهو وقوع البيع على إلهيا كل الصحيحة
للكسر وقد حملها الشيخ الأنصاري (1) على خلاف ظاهرها ثم تنظر فيها
نعم ما أورده على العلامة وارد على المحقق الثاني (2) على ما في العبارة
المنقولة عن جامع المقاصد، فإن المفروض فيها وقوع البيع على المكسور، لا على
الصحيح قال: لو باع رضاضها الباقي بعد كسرها قبل أن يكسرها وكان المشتري
موثقا به وأنه يكسرها: أمكن القول بصحة البيع (انتهى) أقول تأتي قوة صحته
ولو لم يكن المشتري موثوقا به بل ولو مع العلم بعدم الكسر.
فرع
ما تقدم هي صور بيع الأصنام، وأما بيع مادتها فالتحقيق عدم الصحة لو لم تكن
لها قيمة رأسا أو كانت لها قيمة بلحاظ الصورة، كما قد يتفق أن تصير مادة بلحاظ تصورها
بصورة ذات قيمة، أو تصير قيمتها زائدة عن قيمتها الأصلية، وهذا غير فرض كون قيمة
الصنم الخارجي بلحاظ الهيئة، أو كانت لها قيمة لكن لا يمكن محو الصورة عنها إلا
بابطالها عن المالية، أو كانت لها قيمة لكن لا يمكن ابطال الصورة رأسا، ففي جميع
الصور بطل البيع على الأقوى، أما الأولى فظاهرة، وأما الثانية فلأن المالية الآتية من
قبل الصورة ساقطة لدى الشارع الأقدس، إذ الحكم بابطال الهيئة الموجب لابطال
مالية المادة: لا يجتمع مع اعتبار ماليتها، فلا ضمان على كسرها الموجب لابطال
ماليتها ومالية مكسورها،
ومنه يظهر الحال في الثالثة. فإن ايجاب الكسر بلا ضمان ملازم لاسقاط مالية
المادة، وفي الرابعة يجب غرقها أو دفنها حسما لمادة الفساد فلا مالية لها على جميع

(1) راجع المكاسب - في النوع الثاني مما يحرم التكسب به
(2) راجع المكاسب - في النوع الثاني مما يحرم التكسب به
112

التقادير فلا يصح بيعها وكذا لا يصح لو كانت لها قيمة مستهلكة في قيمة الصورة لو باعها
بالقيمة المساوية لقيمة الصورة، لأن البيع كذلك مع سقوط الصورة عن المالية وفي
محيط التشريع: سفهي غير عقلائي فلا تشمله أدلة تنفيذ المعاملات ولا يمكن كشف رضى
الشارع فيها ومعه تقع باطلة، وأما إذا كانت للمادة قيمة مستهلكة فبلحاظ سقوط قيمة
الصورة: يكون بيع المادة بلحاظ قيمتها عقلائيا موردا لامضاء الشارع وتنفيذه
المعاملات، فلو باع المادة بقيمتها يصح، وكذا لو كانت للمادة قيمة ملحوظة غير
مستهلكة فباعها بقيمتها أو أكثر ما لم يصل إلى حد السفه.
ثم إن في تلك الصور يصح البيع ولو مع شرط ابقاء الصورة فضلا عن عدم الاشتراط
أو اشتراط الكسر، كان المشتري موثوقا بديانته أم لا، بل مقتضى القاعدة صحته ولو
باعه من وثني يبتاعه للعبادة وشرط على البايع عدم الكسر، بناء على عدم كون
الشرط الفاسد مفسدا، لأن ما وقعت عليه المعاملة هي المادة ولا مانع من بيعها لكونها
غير الصنم. وكون الشرط فاسدا والتسليم إعانة على الإثم: لا يوجبان بطلان
المعاملة. (ولو قيل): إن البيع المذكور موجب لإشاعة الفساد بل يمكن بهذه
الحيلة ترويج سوق بيع الأصنام وآلات الملاهي والقمار، والمقطوع من مذاق الشارع
عدم امضاء تلك المعاملات. (يقال): إن المقطوع به من مذاق الشارع عدم تصحيح
الشرط الكذائي وتحريم تسليم المبيع مع الهيئة الموجبة للفساد، لا بطلان المعاملة
على المادة أي الخشب والحجر ونحوهما أو حرمة بيعها وثمنها، ولا فرق بين ما ذكر
وبين بيع شئ كالفرس والشرط على البايع بتسليم صنم إليه أو صنع آلة للهوه، فإن
الشرط فاسد، والتسليم والصنع محرمان، دون المعاملة على الشئ المباح، ولا
يلزم منه تشييع الفساد وترويج الباطل كما هو واضح. فتحصل مما مر أن بيع
المادة في الفرض مطلقا: صحيح من غير توقف على اشتراط الكسر وكون المشتري
موثوقا به كما قال به المحقق الثاني في عبارته المحكية.
ثم إن البحث عن آلات القمار وآلات اللهو وأواني الذهب والفضة والدراهم
المغشوشة: نظير البحث عن هياكل العبادات فلا داعي إلى التكرار.
113

نعم لا يأتي فيها ما قلناه في الهياكل من الوجه العقلي على البطلان، ولا ما
ذكرناه من فحوى أدلة حرمة الخمر، وإن أمكن دعوى الجزم بعدم تنفيذ الشارع
المعاملات الواقعة على آلات القمار واللهو التي لا يقصد منها إلا الفساد والحرام،
هذا مع دعو عدم الخلاف والاجماع عليه بل الدعي السيد صاحب الرياض (1)
الاجماع المستفيض عليه مضافا إلى الأدلة العاملة المؤيدة وإن ضعفت اسنادها،
وتدل في خصوص آلات القمار: رواية أبي الجارود (2) عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى
إنما الخمر والميسر (الخ) وفيها. وأما الميسر فالنرد والشطرنج وكل قمار ميسر إلى أن قال: كل هذا بيعه وشرائه والانتفاع بشئ من هذا حرام من الله محرم،
ورواية أبي بصير (3) عن أبي عبد الله عليه السلام قال: بيع الشطرنج حرام وأكل ثمنه سحت
(الخ) وفي رواية المناهي (4) ونهى رسول الله صلى الله عليه وآله عن بيع النرد ويمكن اسراء الحكم
لسائر آلاته بإلغاء الخصوصية على اشكال.
نعم في صحيحة معمر بن خلاد (5) عن أبي الحسن عليه السلام قال: النرد والشطرنج والأربعة
عشر بمنزلة واحدة وكل ما قومر عليه فهو ميسر. ولعل عموم التنزيل وعدم الفصل
بين أربعة عشر وغيرها والغاء الخصوصية عنها: كاف في المطلوب، وعن تفسير أبي الفتوح
(6) عن رسول الله صلى الله عليه وآله رواية وفيها وأمرني أن أمحو المزامير والمعازف والأوتار و
أمور الجاهلية إلى أن قال: إن آلات المزامير شرائها وبيعها وثمنها والتجارة بها حرام:
تدل على المطلوب في آلات اللهو ولا تخلو من اشعار أو دلالة بالنسبة إلى سائر آلات
الفساد، فلا اشكال في الحكم اجمالا

(1) راجع مفتاح الكرامة - فيما يكون المقصود منه حراما من المتاجر
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 102 - من أبواب ما يكتسب به - ضعيفة بأبي
الجارود
(3) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 103 - من أبواب ما يكتسب به
(4) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 104 - من أبواب ما يكتسب به
(5) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 104 - من أبواب ما يكتسب به
(6) المستدرك - كتاب التجارة - الباب 79 - من أبواب ما يكتسب به - مرسلة
114

نعم لو كانت لبعض الآلات منفعة محللة: تنسلك في القسم الآتي، كما أن أواني
الذهب والفضة كذلك، لعدم حرمة اقتنائها بل وتزيين الرفوف بها على الأقوى، و
كذا لو قلنا بجواز الانتفاع بالسكة المغشوشة كالتزيين وغيره: تنسلك في
القسم الآتي.
النوع الثاني ما يقصد منه المنفعة المحرمة فيما إذا كان لشئ منفعة محرمة و
محللة كأواني الذهب والفضة. وهو على أقسام:
منها أن يكون المبيع كليا مقيدا بنحو لا ينطبق الأعلى المحرم كبيع العنب
الذي ينتهي إلى التخمير، فيكون المبيع حصة من العنب كساير الكليات المقيدة بأن
يقال: كما أن العنب الأحمر لا ينطبق إلا على مصاديق خاصة فإذا تعلق به البيع يكون
المبيع حصة من الكلي لا تنطبق إلا على مصاديقها: يصح تقييد الكلي بأي قيد تراضى
عليه المتعاقدان، فإذا باع العنب المنتهي إلى التخمير كان مصداق المبيع هو العنب
المتعقب به، لا العنب المطلق، فإذا تسلمه المشتري ولم يستعمله في التخمير،
يكشف عن عدم كونه مصداقا للمبيع
ومنها أن يكون المبيع جزئيا خارجيا مع توصيفه بالوصف المتقدم، فيكون
المبيع الموجود المنتهي فلو لم ينته إليه يكشف عن عدم كونه مبيعا أو عن
تخلف الوصف.
ومنها أن يكون القيد على نحو الشرط المتأخر، كان المبيع كليا أو جزئيا بحيث
يكشف عدم الانتهاء عن عدم كونه مصداقا للمبيع أو عدم كونه مبيعا. والظاهر بطلان
البيع في هذه الصور، لعدم عقلائية الملك الحيثي والفرق بين هذا القيد وقيد كون
العنب أحمر أو أصفر: أن مصداق الأحمر بعد تسليمه يكون ملكا طلقا للمشتري، وأما
العنب المنتهي إلى التخمير فليس ملكا له إلا من حيث التخمير دون سائر الحيثيات ولم
يعهد لدى العقلاء هذا النحو من الملكية، وإلا لجاز بيع الرداء الذي تحت السقف
مثلا فلا يكون ملكه إلا حصة من الرداء أو حيثية منه فإذا خرج عن تحت السقف خرج
عن ملكيته وأنت خبير بأن هذا النحو من الملكية غير عقلائية ولا معهودة، فالعنب
115

المنتهي إلى التخمير لو صار ملكا: لازمه عدم ملكية العنب بنحو الاطلاق وبجميع
الحيثيات، بل حصة أو حيثية خاصة منه، فلا يكون بما أنه مأكول أو غير ذلك مبيعا
ولا ملكا للمشتري وهو مخالف لاعتبار العقلاء وكذا الحال في التعليق والشرط.
نعم يمكن المناقشة في الاشكال في الصورة التي يكون المبيع شخصيا بأن
يقال: إن المبيع هو الموجود الخارجي، والقيد من قبيل الوصف الذي يكون تخلفه
غير مبطل، لكن يأتي فيها الاشكال الآتي في الصورة الآتية، أي اشتراط عدم الانتفاع
إلا بالمحرم
ومنها أن يبيع الشئ واشترط على المشتري بأن لا يتصرف فيه إلا في المحرم
وهو قد يرجع إلى شرطين أحدهما أن لا يتصرف في المحلل وثانيهما أن يصرفه في
المحرم، وقد يشترط عليه شرطا واحدا وهو عدم التصرف في المحلل من دون شرط
الصرف في المحرم، ومن هذا القبيل ما إذا تواطئا عليه بحيث يقع العقد مبنيا عليه،
وأما مع التواطؤ عليه بحيث لا يرجع إلى بناء العقد عليه فهو خارج عن الفرض، والأقوى
بطلان البيع في تلك الصور سواء رجع الاشتراط إلى شرطين أم لا، وسواء كان
الشرط في ضمن العقد أم بحكمه كما أشرنا إليه، لأن مثل هذا الشرط مخالف
لمقتضى العقد فإن اعتبار الملكية موقوف على كون الشئ ذا منفعة ولو في الجملة
يصح للمالك الانتفاع به فلو فرض كون شئ مسلوب الانتفاع مطلقا لا يعتبره العقلاء
مالا ولا ملكا، لا أقول إن الملكية والمالية نفس الانتفاعات بل أقول: إن مناط
اعتبارهما لدى العقلاء: صحة الانتفاع ولو في الجملة فمسلوب الانتفاع بقول مطلق
ليس ملكا ولا مالا، كما أنه لو سلب مطلق الانتفاعات عن شئ بالنسبة إلى شخص
لا يعتبره العقلاء ملكا ومالا له في بعض الأحيان.
فحينئذ نقول إذا شرط البايع على المشتري أن لا ينتفع بالمبيع مطلقا:
فهو في قوة بيع شئ بشرط عدم صيرورته ملكا للمشتري، فيكون مخالفا لمقتضى
العقد وموجبا لبطلانه، سواء قلنا بأن الشرط الفاسد مفسد أم لا، لأن الخلاف في
الشرط الفاسد إنما هو في الشروط التي لا يضر اشتراطها بقوام المعاملة، وأما الشروط
116

المنافية لماهيتها وقوامها: فلا ينبغي الكلام في مفسديتها، لرجوعها إلى التناقض
في الجعل والتنافي في الانشاء، والمقام من قبيل ذلك، فإن العنب مثلا مسلوب المنفعة
بحسب قانون الشرع من حيث التخمير، فإذا كان مفاد الشرط تحريم الانتفاع بالمحلل،
يرجع إلى انتقال شئ مسلوب المنفعة مطلقا، فلا تعتبر معه الملكية للمشتري
فيكون الشرط في قوة البيع بشرط عدم الملكية وإن لم يكن بعينه هو (لا يقال)
إن هذا الشرط لا ينافي مقتضى العقد في محيط العقلاء وبحسب نظرهم والبطلان
الشرعي غير المنافاة لمقتضى العقد. (فإنه يقال) يكفي في مخالفته لمقتضى العقد
مخالفته له في محيط القانون اللازم الاجراء عقلا، ولهذا لا يصح بيع الخمر لاسقاط
الشارع ماليتها فلا تكون معاملتها مبادلة مال بمال بلحاظ القانون الإلهي.
وإن شئت قلت: اسقاط الشارع مالية شئ تخطئة العقلاء في حكمهم،
ففي المقام أن شرط عدم الانتفاع بالمحلل في حكم شرط سلب المنفعة مطلقا ولو
بلحاظ الشرع فيكون مخالفا لمقتضاه. (أو قلت): أو اشتراط عدم الانتفاع بالخمر
إلا في المحرم: ينحل إلى شرطين كما تقدم، أحدهما شرط عدم الانتفاعات المحللة،
وهو من الشروط السائغة لعدم كونه مخالفا للشرع، والثاني شرط الانتفاع بالمحرم،
وهو باطل فلا محالة يكون المشتري محروما عن الانتفاع بالمبيع مطلقا شرعا
وشرطا وهو المنظور من المخالفة لمقتضى العقد لدى العقلاء، فإن الشئ المسلوب
المنفعة مطلقا لا يعد ملكا ولا مالا.
ويمكن الاستدلال على المطلوب بوجه آخر، وهو أن مالية الأشياء كما
تقدم إنما هي بلحاظ المنافع المترتبة عليها، فما لا منفعة له مطلقا ليس بمال، فإذا
اشترط على المشتري أن لا ينتفع من العنب مثلا إلا الانتفاع بالمحرم فلا محالة
يكون البيع بلحاظ الانتفاع بالمحرم والمالية الآتية من قبله، مع أن هذه المالية
ساقطة شرعا فما لية العنب الآتية من قبل المنافع المحللة ساقطة فرضا حسب
اشتراط البايع، فلا يمكن أن يكون البيع صحيحا بلحاظ المالية الآتية من قبلها،
117

والمالية الساقطة شرعا لا تصلح للمبادلة، فيكون دليل اسقاطها حاكما على أدلة
تنفيذ البيع بالخراج المعاملة عن موضوع أدلته وادخالها في أكل المال بالباطل،
ولك أن تجعل هذا الأخير وجها ثالثا للبطلان، وهو الاستدلال بالآية الكريمة بعد
تحكيم ما دلت على سقوط المالية الآتية من قبل المنفعة المحرمة على الآية، صدرا
وذيلا كما أشرنا إليه.
ولا يعتبر في الحكومة أن يؤخذ في الدليل الحاكم عين العنوان الذي أخذ
في المحكوم، فكما أن قوله الخمر ليست بمال حاكم على الآية اخراجا وادخالا،
كذلك ما دلت على اهراقها واتلافها بلا ضمان الظاهر منها اسقاط ماليتها حاكمة
عليها، بل لا يبعد تحكيم الدليل اللبي على الدليل اللفظي، فإذا قام الاجماع على
عدم مالية الخمر يكون منقحا لموضوع أكل المال بالباطل، فإن أكل الثمن في
مقابل ما ليس بمال أكل له بالباطل ومخرجا عن التجارة تعبدا ولو لم يطلق على
مثله الحكومة كما قويناه في الأصول، فلا مشاحة فيه بعد كون الانتاج واحدا.
وهنا تقريب رابع للبطلان بأن يقال: إن الثمن واقع في مقابل العنب بشرط الانتفاع الخاص،
وهذا الانتفاع لم يحصل للمشتري فيكون المال المأخوذ بلحاظه أو بلحاظ المالية
الآتية من قبله: مأخوذا بلا حصول العوض، ومثله ليس بمعاملة لأنها متقومة
بتبادل الانتقالين ومع فقده لا تتحقق (تأمل)
وقد ظهر مما ذكران القول بالبطلان هاهنا غير مبني على القول بمفسدية
الشرط الفاسد، ولهذا قلنا بالبطلان ولو مع شرط عدم الاستفادة بالمحلل، والسكوت
عن الاستفادة بالمحرم فإنه شرط سائغ لكن يبطل البيع لا لفساد الشرط بل للوجوه
المتقدمة، وتؤيده الروايتان الواردتان في النهي عن بيع الخشب ممن يتخذه
صلبانا: والتوت ممن يصنع الصليب أو الصنم (1) بل وما وردت في لعن رسول الله صلى الله عليه وآله
الخمر وغارسها وحارسها وبايعها (الخ) (2) المستفاد منها أن بايع العنب للخمر

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 41 - من أبواب ما يكتسب به
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 55 - من أبواب ما يكتسب به
118

أيضا " ملعون، ومعلوم أن ملعونيته لأجل عمله فعمله مبغوض بل يمكن أن يقال لا
يجتمع مبغوضية البيع بعنوانه مع تنفيذه والالزام بالعمل على وفقه.
نعم لو كانت المبغوضية بعنوان آخر كالإعانة على الإثم كما هو محتمل في
المقام: لا تدل على البطلان، فلو نوقش في هذا ففي ما تقدم غنى وكفاية، لكن يمكن
المناقشة في أساس التقريبات المتقدمة بأن يقال: إن الشئ تارة يكون بلا منفعة
واقعا وتكوينا، وأخرى يكون ذا منفعة لكن المالك أفرز جميع منافعه بصلح
ونحوه وأراد بيعه بلا منفعة مطلقا حتى الانتفاع ببيع ونحوه، أو أراد بيعه بلا منفعة
بافراز منافعه لنفسه ففيها تأتي التقريبات المتقدمة حتى تقريب المخالفة لمقتضى
العقد أو كونه في قوتها، وأما إذا باع وشرط على المشتري أن لا ينتفع به مطلقا أو
بغير المنفعة المحرمة: فلا يكون مخالفا لمقتضاه ولا في قوتها، لأن البيع إنما تعلق
بذات الشئ وموجب لانتقال منافعه إلى المشتري، لكن دليل الشرط صار موجبا
لحرمانه عن التصرف في ماله، ولا يكون مفاد الشرط عدم الانتقال حتى يقال
بمخالفته لمقتضاه، بل الشرط في الرتبة المتأخرة عن اعتبار ملكية المبيع بمنافعه
وانتقاله كذلك إلى المشتري فلا يمكن أن يكون الشرط رافعا لموضوعه أو دافعا
له، فلا يعقل أن يكون مخالفا لمقتضى العقد الذي هو موضوع الشرط وتأثيره،
غاية الأمر أن يكون غير سائغ للزوم تضييع مال محترم به ففساد العقد مبني على
مفسدية الشرط
وإن شئت قلت: إن هذا الشرط نظير نذر عدم التصرف في ماله أو قلنا بصحته
فإنه لا يوجب خروج الملك عن الاعتبار لصاحبه أو سلب ماليته عنه، لأن الملكية
مفروضة في موضوعه ولا يعقل رفعها بدليله، ويمكن دفعها بأن يقال: إن مالية الأشياء
متقومة بوجود منفعة لها وامكان الانتفاع بها، فكما أن الشئ إذا كان مسلوب
المنفعة مطلقا تكوينا لا يعتبره العقلاء مالا ولا ملكا، فكذلك إذا كان له منفعة غير
ممكن الاستيفاء مطلقا ولو عادة، كدرة غرقت في البحر بحيث لا يرجى عودها إلى
الأبد، فإنها لا تعتبر مالا وملكا لمالكه السابق هذا حال التكوين، ومحيط التشريع
119

والتقنين كذلك عند الملتزمين به ولهذا تزيد وتنقص المالية بواسطة الشروط، فلو شرط
على المشتري عدم الانتفاع بالفرو في الشتاء وعدم انتقاله إلى الغير: تحط من خمسين إلى
خمس بل الشروط لدى العقلاء أيضا معتبرة لازم الوفاء عقلا ووجدانا، فشرط عدم الانتفاع
بالشئ في محيط القانون والشرع بل عند العقلاء الملتزمين بأحكام العقل والوجدان
والمجتنبين عن الخيانة والعدوان: مناف لمبادلة المال بالمال وموجب لسقوط الشئ
عن المالية من غير أن يلاحظ بطلان الشرط وصحة المعاملة بل لولا بطلان الشرط
ببطلان أصل المعاملة يمكن التأمل في بطلانه.
وبالجملة أن العقلاء لا يعدون تلك المعاملة معتبرة، وكذلك الأمر في محيط
التقنين، وليس ذلك من دفع الشرط لموضوعه أو رفعه له بل مثله يعد منافيا لمقتضى
العقود لدى العقلاء، نظير بيع الشئ مسلوب المنفعة أو بشرط مسلوبيتها، فلا
يكون ذلك الشرط من الشروط الغير السايغة، بل هو من المنافية لنفس المعاملة
ولو بنحو من اللزوم، إلا أن يقال: إن تخلف الشروط لا يوجب شيئا إلا العصيان
والخيار، فمع التخلف يصح المعاوضة فحينئذ يكون مالا لدى العقلاء والشرع،
فلا يكون الشرط الكذائي مخالفا لمقتضى العقد و لا في قوتها، ولا مخالفته موجبا
للعصيان بل ولا الخيار في بعض الصور، (وفيه) أن المالية الآتية من قبل
تخلف الشرط والشرع أو المقارنة لذلك: غير معتبرة لدى العقلاء وكذا لدى
الشارع.
(إن قيل) إن المالية لا تأتي من قبل تخلفه، بل صحة المعاملة شرعا في
صورة مخالفة الشرط: دليل على اعتبار الشرع مالية المبيع، ففي المقام لو شرط
على المشتري عدم التصرفات المحللة وخالف وباعه صح بيعه، وهو كاشف عن اعتبار
الشارع ماليته (يقال): إن صحة بيع المشتري في الفرض متوقفة على صحة ابتياعه
مع الشرط المتقدم، فلو كانت صحة ابتياعه متوقفة على صحة بيعه: لزم المحال ولا
تفيد الصحة في سائر الموارد لتصحيح ما نحن فيه، فلو باع شيئا وشرط على المشتري
عدم بيعه من شخص فباعه منه صح، لأن صحة بيع الأول وشرطه معلومتان وتخلف
120

الشرط لا يوجب بطلان المعاملة فرضا، وأما في المقام تكون صحة المعاملة مع
الشرط المذكور مشكوكا فيها فكيف يمكن الحكم بصحة بيع المشتري والكشف
بها عن صحة البيع الأول، (فتوهم) أن صحة البيع الثاني كاشفة عن صحة الأول
لا موجبة لها فلا دور (في غير محله) لعدم امكان كشفها عنها أيضا بعد توقف صحتها
على صحة العقد الأول مع الشرط (فتدبر)
ومنها أن يشترط عليه الانتفاع بالمحرم من غير الحصر فيه، فحينئذ قد
يكون الشرط بحيث لا يعتبر بلحاظه شئ وفي مقابله ولو لبا: فيكون من قبيل
التزام في التزام محضا، فلا شبهة في أنه من صغريات أو الشرط الفاسد مفسد
أم لا، وقد يعتبر بلحاظه شئ كما لو باع ما قيمته مئة بخمسين وشرط عليه أن يستفيد
منه المنفعة المحرمة لغرض منه فيه، كأن يكون بيته في جوار المشتري وأراد
الاستفادة المحرمة منه، ففي مثله يمكن أن يقال إنه أيضا من صغريات كون الشرط
الفاسد مفسدا، لأن الميزان في باب المعاملات ملاحظة محط الانشاءات لا اللبيات،
والمفروض أن انشاء المعاملة وقع بين العينين والشرط خارج عن محطها ولهذا لا يقسط عليه
الثمن أو المثمن ومجرد كون زيادة ونقيصة فيهما بلحاظه: لا يوجب دخوله في ماهية
المعاوضة، ومع عدم الدخول تكون المبادلة بين العينين والشرط زائد وباطل فيأتي فيه
ما يأتي في الشروط الفاسدة.
ويمكن أن يقال إن المالية الملحوظة من قبل الشرط إذا لم تحصل للطرف
مع خروج شئ بلحاظها من كيسه: يكون أخذه بلا عوض لبا ومن قبيل أكل المال
بالباطل حقيقة، فإذا باع ما قيمته مئة بخمسين وشرط عليه شيئا يوازي خمسين و
لم يحصل له ذلك يكون مقدار المالية الواردة في كيس الطرف بلا حصول ما بلحاظه
له من أكل المال بلا عوض وبباطل، ولا شبهة في أن البايع في المعاملة المفروضة
لم يسقط مالية ما له ولم يجعله للمشتري مجانا بل جعله بلحاظ الشرط الذي بنظره
مال وذو قيمة، وبعبارة أخرى أن العقلاء لا ينظرون إلى ألفاظ المعاملات بل
عمدة نظرهم إلى واقعها، وفي اللب تكون المقابلة بين العين مع لحاظ الشرط،
121

ومع عدم حصول الشرط له يكون ما بلحاظه لا عوض واقعا، وهذا من أكل المال بالباطل
(لا يقال) يأتي ما ذكر في الشروط الصحيحة أيضا في صورة تخلفها كما لو شرط عربية
فرس خارجي فبان عدمها، مع أن في تخلفه الخيار بلا اشكال (فإنه يقال) لو قام دليل
من اجماع أو غيره على الصحة في موارد تخلف الشرط والوصف: نقول بمقتضاهما في
موردهما على خلاف القواعد دون غيره، فمورد النقض نظير ما نحن فيه والأقرب
في النظر العاجل هو الوجه الأول وأن لا يخلو من كلام، ويأتي الكلام فيهما في أبواب
الشروط انشاء الله وساعدنا التوفيق منه تعالى.
ثم إن الكلام في الإجارة نظيره في المقام مع أو ضحية البطلان فيها في بعض
الفروع، كما لو آجر بيتا ليباع فيه الخمرا وآلات القمار، فإن البطلان فيه واضح،
ويظهر حال سائر الصور مما تقدم. ثم إن هنا روايات لا بأس بالتعرض لها، كرواية صابر
أو جابر (1) قال سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يواجر بيته فيباع فيه الخمر قال: حرام
أجره. وأنت خبير بأنها مع ضعفها سندا ولو كان الراوي صابرا: مخالفة للقواعد
العقلائية والشرعية المحكمة ضرورة أو إجارة البيت إذا لم تكن للانتفاع المحرم
لم تكن أجرته حراما، ومجرد بيع المستأجر فيه الخمر لا يوجب حرمة الأجرة، وإلا
لزم حرمة أجرة الدكاكين والبيوت التي يقع فيها عمل محرم أو بيع حرام وهو
كما ترى.
فلا محيص عن حملها على ما إذا آجره لذلك والمظنون أن يكون (فيباع)
مصحف (ليباع) وربما تشهد له رواية دعائم الاسلام (2) عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال:
من اكترى دابة أو سفينة فحمل عليها المكتري خمرا أو خنازيرا أو ما يحرم: لم يكن
على صاحب الدابة شئ، وإن تعاقدا على حمل ذلك فالعقد فاسد والكري على ذلك

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 39 - من أبواب ما يكتسب به
(2) المستدرك - كتاب التجارة - الباب 32 - من أبواب ما يكتسب به
122

حرام. وصحيحة ابن أذينة (1) قال كتبت إلى أبي عبد الله عليه السلام أسأله عن الرجل يواجر
سفينته ودابته ممن يحمل فيها أو عليها الخمر والخنازير قال لا بأس. فإن التفصيل في
رواية الدعائم ونفي البأس في الصحيحة: موافقان المحكمة بناء على عدم
كون المراد بالصحيحة إجارتهما لذلك كما هو الظاهر منها أيضا.
ومنها المعاوضة على عين مشتملة على صفة يقصد منها الحرام، ولها صور لأنه
تارة تقصد المعاوضة بين العين الموصوفة مع لحاظ زيادة القيمة لأجل الصفة، كمن باع
الجارية المغنية المعدة للتغني ولاحظ لصفة تغنيها زيادة قيمة، وأخرى تقصد المعاوضة
على الموصوفة بلا لحاظ قيمة لأجلها، وثالثة تلاحظ الصفة من جهة أنها صفة كمال
فتزاد لأجلها القيمة من غير نظر إلى عملها الخارجي، فإن زيادة القيم فيما هو موصوف
بصفة كمال وإن كانت غالبا للانتفاع بها لا لنفسها بما هي كمال، لكن قد تتعلق الأغراض
بها ما هي فتزاد القيمة لأجلها، ورابعة هذه الصورة بلا ازدياد القيمة، وخامسة
تلاحظ الصفة من حيث إنها كمال قد يستفاد منها الحلال كالتغني في الأعراس وفي هذه
الصورة تارة تكون المنفعة المحللة نادرة، وأخرى شايعة إلى غير ذلك، والكلام
في وجه الصحة في الصور المذكورة هو الكلام في الشروط بما مر، وكذا في وجه الفساد
في الصور التي يبذل فيها المال بلحاظ الصفة سواء كان بلحاظ ظهور آثارها كما هو
الشايع المتعارف في زيادة القيم أم بلحاظ نفسها من حيث هي صفة كمال، إلا أن وجه
البطلان في المقام لعله الأوضح منه في الشروط، لأن الشروط من قبيل التزام في
التزام، وأما في المقام فالأوصاف من قيود المبيع فمقابلة المال لبا في مقابلها
أوضح.
فيمكن أن يقال كما أن الجارية المغنية إذا لم تكن لها قيمة إلا بلحاظ وصف
التغني فبيعت موصوفة بمئة دينار، تكون المعاملة باطلة، لأن ذاتها لا قيمة لها فرضا
وصفتها ساقطة القيمة شرعا، ففي محيط الشرع لا تكون لها قيمة ويكون أكل المال

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 39 - من أبواب ما يكتسب به في سندها إبراهيم
بن هاشم وهو ثقة
123

بهذا اللحاظ أكلا بالباطل، لتحكيم دليل اسقاط المالية عنها على الآية الكريمة
بوجه أشرنا إليه وكذا لو كانت لها قيمة في غاية القلة كدرهم مع قطع النظر عن صفة التغني
فبيعت موصوفة بمئة دينار: يكون أخذ المال بإزائها بلحاظ وصفها أكلا له بالباطل، وتكون
المعاملة في محيط الشرع سفهية، فكذلك لو بيعت موصوفة مع لحاظ مقدار من
المالية لصفتها وأخذه بلحاظها مع سقوطها عن المالية في لحاظ الشارع فإن أكل
المال في مقابل شئ بلحاظ ما لا مالية له أكل له بالباطل، والأوجه بالنظر بحسب
القواعد وأن كان الصحة لما تقدم في الشروط لكنه غير خال من المناقشة و
التأمل.
هذا حال ما يلاحظ بإزاء الصفة مال، وأما مع عدم لحاظه فمقتضى القواعد
صحتها لاطلاق الأدلة وعمومها وعدم وجه للفساد، ومجرد توصيف المبيع بصفة
يترتب عليها الحرام: لا يوجب بطلان المعاملة، ولو فرض صدق الإعانة على الإثم
عليها في بعض الأحيان: لا يقتضي ذلك بطلانها كما يأتي الكلام فيه، وبما ذكرناه
يظهر التأمل في كلام شيخنا الأعظم (1) حيث نفى الاشكال عما لو لوحظ من حيث
أنه صفة كمال قد تصرف إلى المحلل فيزيد لأجلها الثمن وكانت المنفعة المحللة
لتلك الصفة مما يعتد بها، واختار الصحة أيضا فيما كانت المنفعة المحللة نادرة وزادت
القيمة لأجل صفة الكمال التي قد تصرف إلى المحلل، وذلك لأن زيادة القيمة
ليست لأجل صفة الكمال بما هي كذلك، بل تفاوت القيم في الأشياء بلحاظ الانتفاع
بها، فصفة الكمال المنتفع بها توجب زيادة القيمة بمقدار مرغوبية الانتفاع، و
لو فرض بذل بعض الأشخاص أحيانا ما لا بلحاظ نفس صفة الكمال: فهو لا محالة
لأجل بعض أغراض أخر لا بواسطة مالية الصفة بذاتها من غير جهة انتفاع وابراز،
فعليه أن بذل المال إن كان للصفة بلحاظ ابرازها المحلل وتتقدر القيمة بلحاظها
بتلك الحيثية: فلا اشكال في صحة المعاملة بحسب القواعد، كانت المنفعة
نادرة أم لا.

(1) راجع المكاسب - مسألة الثانية من النوع الثاني مما يحرم التكسب به
124

نعم لا بد في النادرة كونها ذات قيمة لدى العقلاء، وإن زاد القيمة
بمقدار الصفة بتمام الحيثيات المحللة والمحرمة ولوحظت للمحللة فقط جزافا:
يأتي فيه الاشكال المتقدم من احتمال صدق أكل المال بالباطل عليه سيما إذا كانت
المنفعة النادرة مما لا قيمة لها، فإن لحاظ القيمة لما لا قيمة لها لا يجعلها ذات قيمة،
كما أن لحاظ زيادتها لا يجعلها زائدة فبذل المال بلحاظ ما لا مالية لها والزيادة
بلحاظ ما لا زيادة لها: بذل بلا حصول مقابله لبا، وهو نظير ما تقدم من احتمال
كونه من قبيل أكل المال بالباطل هذا بحسب القواعد.
وأما بحسب الأخبار فالظاهر شمول مثل قوله في التوقيع وثمن المغنية
حرام (1) وقوله في صحيحة إبراهيم بن أبي البلاد (2) إن ثمن الكلب والمغنية سحت،
وقوله في رواية الطاطري (3) شرائهن وبيعهن حرام للجارية المغنية التي شغلها
التغني وكانت معدة لذلك سواء كان الثمن المجعول في مقابلها بلحاظ كونها مغنية
ومنشأ لهذا الأثر كلا أو بعضا، أم جعل بلحاظ نفس ملكة التغني مقطوع النظر عن
العمل، أو مع النظر إلى الأثر المحلل كالقراءة بحسن صوتها أو التغني لزف الأعراس
أو بلحاظ ذاتها أو صفتها الأخرى كالخياطة، لصدق كون ثمنها ثمن المغنية، فإنها
عبارة عن الذات الموصوفة بالصفة المعدة لذلك، والثمن يجعل في مقابل الموجودة
في الخارج وهي الجارية المغنية، ومجرد عدم لحاظ كون الثمن لصفتها لم يخرجها
عنها، ولا يضر بصدق كون الثمن ثمن المغنية
نعم لو جعل الثمن بإزاء وصفها أي الخياطة لم يصدق أنه ثمن المغنية أو باع
الكلي الموصوف بالخياطة وسلم الخياطة المغنية فكذلك لكن الأول مجرد فرض،
لا واقعية له، بل هو باطل بجهة أخرى، والثاني خروج عن الفرض والمسألة، و
بالجملة أن المبيع هو الجارية الموجودة في الخارج التي هي المغنية والثمن الذي
بإزائها ثمن هذه الموجودة المغنية، وهذا نظير بيع المسكر الخارجي ويجعل الثمن

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 16 - من أبواب ما يكتسب به الثالثة مهملة
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 16 - من أبواب ما يكتسب به الثالثة مهملة
(3) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 16 - من أبواب ما يكتسب به الثالثة مهملة
125

بلحاظ كونه مادة سيالة لا بلحاظ مسكريته فإنه من الواضح صدق كون الثمن بإزائه ثمن
المسكر، ومجرد اللحاظ لا يوجب بطلان الصدق
إن قلت لعل نكتة تحريم ثمنها وجعله سحتا: هي سقوط مالية صفة التغني
فيكون أكل المال بلحاظ الصفة الساقطة من قبيل أكل المال بالباطل، فالحكم
بالحرمة والسحتية دائر مدار لحاظ مالية لها كما تقدم الكلام فيه، فإذا لم يجعل
الثمن بلحاظها لم يكن أكلا للمال بالباطل.
قلت الظاهر المتفاهم عرفا من الروايات أن الحكم لحرمة ثمنها وبيعها و
شرائها إنما هو للفساد المترتب عليها، فأراد الشارع قلع الفساد أو تقليله، ولا ينقدح
في الأذهان منها كون التحريم لأجل كونه أكلا للمال بالباطل بل مع احتمال ذلك
فالمرجع اطلاق الأدلة، فإذا كانت الجارية مغنية وأراد المشتري منها التغني وتشبث
بحيلة لتصحيح المعاملة وتملك الجارية وأراد البايع أيضا تصحيحها وحلية ثمنها
بجعل الثمن بإزاء ذاتها مجردة عن الصفة أو بلحاظ سائر أوصافها دون صفة التغني أو
بإزائها للأثر المحلل فرارا من الحرام إلى الحلال، لا يمكن لهما ذلك ولا تصحح تلك
الحيلة البيع لصدق أن ثمنها ثمن المغنية لما عرفت، وهذا نظير أن ينهى المولى عن
ضرب الجارية المغنية فضربها لكونها خياطة أو لذاتها حيلة لعدم مخالفته.
(إن قلت) إن الأخبار محمولة على الغالب وهو مورد بيع المغنيات وتزييد القيمة
لصنعتها (قلت) لو سلم أن الغلبة صارت موجبة للانصراف في موارد أخر: لا توجب
ذلك في المقام، لأن مناسبة الحكم والموضوع وفهم العرف من الروايات نكتة
الجعل توجبان التعميم، بل إلغاء الخصوصية لو كانت واردة في مورد خاص فالانصراف
ممنوع والاطلاق محكم
نعم لو تابت المغنية عن عملها وتركت الاشتغال به: فالظاهر صحة بيعها وإن
قلنا بصدق المشتق، لكون المبدء هو الملكة العلمية لا الصنعة والعمل لانصراف
الأخبار عن هذه الصورة، بل يقوى احتمال عدم صدق المشتق، لاحتمال أن يكون المبدء
التغني الذي من قبيل الحرفة فيكون الصدق لاتخاذه حرفة كالمكارى والتاجر، فإذا
126

تركت الحرفة وأعرضت عنها بطل الصدق، كما أن الظاهر انصرافها عما إذا كان غرض
المتعاملين حفظها عن التغني وكان البايع غير قادر عليه ولو كانت صفة التغني دخيلة في
زيادة الثمن (نعم) يأتي فيه الاشكال المتقدم وهو احتمال صدق أكل المال بالباطل،
وأما إذا كان غرض المشتري ذلك دون البايع فالظاهر بطلانه، لشمول الأخبار له
سواء علم قصد المشتري أم لا.
ثم لو قلنا باستفادة البطلان من قوله: ثمن المغنية سحت أو حرام كما هو
الأرجح بالنظر: فهو، وإلا صحت المعاملة وإن حرم ثمنها تكليفا بعنوان كونه ثمنها،
هذا حال مثل قوله ثمن المغنية حرام وسحت مع قطع النظر عن مورد الروايات
وأما بالنظر إليه فلا بد من نقلها وبيان مفادها، فمنها صحيحة إبراهيم بن أبي
البلاد (1) قال: قلت لأبي الحسن الأول جعلت فداك إن رجلا من مواليك عنده جوار
مغنيات قيمتهن أربعة عشر ألف دينار وقد جعل لك ثلثها فقال: لا حاجة لي فيها
إن ثمن الكلب والمغنية سحت.
والظاهر منها أن الجواري كانت موجودة عند بعض الموالي وجعل ثلث
قيمتهن لأبي الحسن عليه السلام، فالقاعدة تقتضي صحة الوصية لو قلنا بأن للجواري المغنيات
قيمة بلحاظ سائر أوصافهن أو بلحاظ ذواتهن وإن زعم الموصي بأن لهن قيمة بلحاظ
التغني وهذا الزعم الباطل لا يوجب بطلانها فلو فرض أن لهن قيمة واقعية ملحوظة لدى
الشارع كان ثلثها لأبي الحسن عليه السلام فرده الوصية دليل على أن بيعهن مطلقا حرام وثمنهن
سحت سواء تباع بلحاظ قيمة التغني أو بلحاظ غيره وإلا لقال بعهن بلحاظ سائر أوصافهن
واحتمال أن يكون ردها لمنافات القبول لمقام شرافته وتنزهه مخالف للظاهر من
قوله إن ثمنها سحت، فإن ظاهره أن ردها لأجل حكم الشارع بأن ثمنهن سحت مع أن القبول بالنحو المتقدم لا ينافي مقامه (ع) كما أن احتمال أن يكون الموصى به
قيمتهن بلحاظ الصفة المحرمة فجعل ثلث مالية تلك الجهة له عليه السلام فتكون الوصية

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 16 - من أبواب ما يكتسب به
127

باطلة: بعيد عن ظاهر الرواية، مع أن ترك الاستفصال دليل على الحرمة مطلقا،
كما أن احتمال أن لا تكون لهن قيمة إلا بلحاظ صفة التغني بعيد غايته بل مقطوع الخلاف.
ومنها رواية إبراهيم بن أبي البلاد (1) قال أوصى إسحاق بن عمر بجوار له
مغنيات أن نبيعهن ونحمل ثمنهن إلى أبي الحسن عليه السلام قال إبراهيم فبعت الجواري
بثلاثمائة ألف درهم وحلمت الثمن إليه، فقلت له إن مولى لك يقال له إسحاق بن عمر
أوصى عند وفاته ببيع جوار له مغنيات وحمل الثمن إليك وقد بعتهن وهذا الثمن ثلاثمائة ألف
درهم فقال: لا حاجة لي فيه أن هذا سحت وتعليمهن كفر والاستماع منهن نفاق وثمنهن سحت
يمكن الاستدلال بها على البطلان مطلقا بأن يقال: لو كان لبيع المغنيات وجه صحة
ووجه فساد: كان مقتضى القاعدة حمله على الصحة لا الحكم بكون الثمن سحتا،
فالحكم به ورد الثمن دليل على أن لا وجه صحيح في بيعهن، إلا أن يقال: بظهورها
في أن البيع وقع بلحاظ كونها مغنية، ولوحظت زيادة القيمة لأجلها كما هو
الغالب الشايع من بيع المغنيات، أو يقال: بعدم جريان أصالة الصحة فيما كان
الغالب على خلافها كما في المقام، ومع ذلك فترك الاستفصال لا يخلو من اشعار بالبطلان
مطلقا.
ومنها صحيحة معمر بن خلاد (2) عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال خرجت
وأنا أريد داود بن عيسى بن علي، وكان ينزل بئر ميمون، وعلى ثوبان غليظان فلقيت
امرأة عجوزا ومعها جاريتان، فقلت: يا عجوز أتباع هاتان الجاريتان؟ فقالت: نعم، ولكن
لا يشتريهما مثلك، قلت: ولم؟ قالت: لأن إحديهما مغنية والأخرى زامرة (الخ)
ويمكن الاستدلال بها للبطلان مطلقا بأن يقال: لو كان الاشتراء بلحاظ سائر أوصافهن
جائزا: لم يقررها عليه أو أشار إليه في نقله لمعر بن خلاد، إلا أن يقال: إن العجوز
كانت لم تبعهما إلا بلحاظ قيمة وصفهما، ومنها بيع شئ مباح ممن يصرفه في الحرام

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 16 - من أبواب ما يكتسب به - مرسلة
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 99 - من أبواب ما يكتسب به
128

كبيع الخشب ممن يعمل صنما أو بربطا (1) ونحوهما، وبيع العنب ممن يعمل خمرا (2)
فتارة يعلم البايع أنه يصرفه في الحرام وأراد ذلك فعلا، وأخرى يعلم بعدم إرادته الحرام
لكن يعلم بتجدد إرادته لذلك، وعليه تارة يكون البيع أو تسليم المبيع له موجبا لإرادته
كما لو كان العنب جيدا صالحا للتخمير فإذا باعه صار موجبا لإرادته، وأخرى يكون تجددها
لا لذلك، وعلى أن حال تارة يكون البيع بداعي توصله إلى الحرام أو برجاء ذلك، وأخرى
لا يكون كذلك، وعلى أي حال تارة يترك الحرام مع تركه البيع، وأخرى لا يترك لوجود
بايع غيره والأولى صرف الكلام أو لا إلى الحكم الكلي، ثم الكلام في الروايات الخاصة
فيقع الكلام في مقامين:
أحدهما فيما يمكن أن يستدل به على الحكم وهو أمور:
أحدها حكم العقل بقبح إعانة الغير على معصية المولى واتيان مبغوضه،
فكما أن اتيان المنكر قبيح عقلا، وكذا الأمر به والاغراء نحوه قبيح كذلك
تهيئة أسبابه والإعانة على فاعله قبيح عقلا موجب لاستحقاق العقوبة، ولهذا كانت
القوانين العرفية متكفلة لجعل الجزاء على معين الجرم وإن لم يكن شريكا في
أصله، فلو أعان أحد السارق على سرقته وهيئ؟ أسبابه وساعده في مقدماته، يكون
مجرما في نظر العقل والعقلاء وفي القوانين الجزائية، وقد ورد نظيره في الشرع
فيما لو أمسك أحد شخصا وقتله الآخر وكان ثالث نظر لهما: أن على القاتل
القود، وعلى الممسك الحبس حتى يموت، وعلى الناظر أو الربيئة تسميل
عينيه (3) ولا منافاة بين ذلك وبين ما حررناه في الأصول من عدم حرمة مقدمات
الحرام مطلقا، لأن ما ذكرناه في ذلك المقام، هو انكار الملازمة بين حرمة الشئ
وحرمة مقدماته، وما أثبتناه ههنا: ادراك العقل قبح العون على المعصية والإثم لا
لحرمة المقدمة، بل لاستقلال العقل على قبح الإعانة على ذي المقدمة الحرام وإن

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 41 - من أبواب ما يكتسب به.
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 59 - من أبواب ما يكتسب به.
(3) الوسائل - كتاب القصاص - الباب 17 - من أبواب القصاص في النفس.
129

لم تكن مقدماته حراما، وهذا عنوان لا يصدق على اتيان الفاعل المقدمات. ولهذا
لا يكون المجرم في اتيان مقدماته مجرما بل يكون مجرما في اتيان نفس الجرم
نعم لو أتى بالمقدمات ولم يوفق باتيان الحرام كان متجريا. وبالجملة يرى
العقل فرقا بين الآتي بالجرم بمقدماته وبين المساعد له في الجرم ولو بتهيئة
أسبابه ومقدماته، فلا يكون الأول مجرما في اتيان المقدمات زائدا عن اتيان
الجرم وأما الثاني فيكون مجرما في تهيئة المقدمات، فيكون في نظر العقل المساعد
له كالشريك له في الجرم وإن تفاوتا في القبح والظاهر عدم الفرق في القبح
بين ما إذا كان تهيئة المقدمات بداعي توصل الغير إلى الجرم وغيره، فإذا
علم بأن السارق يريد السرقة ويريد ابتياع السلم لذلك: يكون تسليم السلم إليه قبيحا
وإن لم يكن التسليم لذلك، وإن كان الأول أقبح، كما لا فرق في نظر العقل بين
الإرادة الفعلية والعلم بتجددها سيما إذا كان التسليم موجبا لتجددها، كما لا فرق
بين وجود بايع آخر وعدمه، وإن تفاوتت الموارد في القبح لكنها مشتركة في أصله
ثم إن حكم العقل بالقبح في تلك الموارد ثابت ولو لم يصدق على بعضها
عنوان الإعانة على الإثم والتعاون ونحوهما، فإن العقل يدرك قبح تهيئة مقدمات
المعصية والجرم، صدق عليها تلك العناوين أم لا، ولعل ما ورد في الكتاب (1)
والأخبار من النهي عن التعاون على الإثم والعدوان، أو معونة الظالمين (2) أو
لعن رسول الله صلى الله عليه وآله في الخمر غارسها وحارسها وبايعها ومشتريها وحاملها و
ساقيها، (3) وكذا ما وردت من حرمة بيع المغنيات (4) وإجارة المساكن لبيع
بعض المحرمات (5) كلها: لذلك أو لنكتته.

(1) سورة المائدة - الآية 3
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 42 من أبواب ما يكتسب وكتاب الجهاد -
الباب 17 - من أبواب جهاد النفس
(3) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 55 - من أبواب ما يكتسب به
(4) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 16 - من أبواب ما يكتسب به
(5) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 36 - من أبواب ما يكتسب به
130

ثم إنه بعد ادراك العقل قبح ذلك، أي الإعانة على الإثم وتهيئة أسباب
المنكر والمعصية: لا يمكن تخصيص حكمه وتجويز الإعانة عليها في مورد، كما
لا يمكن تجويز المعصية، كما يشكل التخصيص أيضا لو كان الدليل عليه مثل
قوله حكاية عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه لعن الخمر وغارسها (الخ) بناء علي إلغاء
الخصوصية عن الطوائف العشر إلى كل معين لشربها، أو إلى كل معين لمعصية،
لكن الثاني ممنوع لأنه مخصوص بالخمر ولا يتعدى إلى غيرها، ولا يجوز إلغاء
الخصوصية عنها. (نعم) لو كان الدليل مثل قوله ولا تعاونوا على الإثم والعدوان
لا منع من تخصيصه.
ثانيها قوله تعالى: وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم و
العدوان (1) واستشكل عليه الفاضل الإيرواني (2) تارة بأن مؤداها الحكم
التنزيهي بقرينة مقابلته للأمر بالإعانة على البر والتقوى الذي ليس للالزام قطعا،
وأخرى بأن قضية باب التفاعل هو الاجتماع على اتيان المنكر كأن يجتمعوا على
قتل النفوس ونهب الأموال، لا إعانة الغير على اتيانه على أن يكون الغير مستقلا
وهذا معينا له باتيان بعض مقدماته.
ويرد على الأول أنه لو سلمت في سائر الموارد قرينية بعض الفقرات على
الآخر بما ذكر: لا يسلم في المقام لا تناسب الحكم والموضوع وحكم العقل
شاهدان على أن النهي للتحريم، مضافا إلى أن مقارنة الإثم والعدوان الذي هو
الظلم: لم تبق مجالا لحمل النهي على التنزيه، ضرورة حرمة الإعانة على العدوان
والظلم كما دلت عليها الأخبار المستفيضة، وحمل العدوان على غير الظلم كما ترى،
وعلى الثاني: أن ظاهر مادة العون عرفا وبنص اللغويين: المساعدة على أمر و
المعين هو الظهير والمساعد، وإنما يصدق ذلك فيما إذا كان أحد أصيلا في أمر و
أعانه غيره عليه، فيكون معنى (لا تعاونوا على الإثم والعدوان) لا يكن بعضكم لبعض

(1) سورة المائدة - الآية 3
(2) في حاشيته على المكاسب - في بيع العنب ممن يعمله خمرا - ص 15
131

ظهيرا ومساعدا ومعاونا فيهما ومعنى تعاضد المسلمين وتعاونهم: أن كلا منهم يكون
عضدا ومعينا لغيره لا أنهم مجتمعون على أمر.
ففي القاموس تعاونوا واعتونوا أعان بعضهم بعضا، ونحوه في المنجد وفي
مجمع البيان في ذيل الآية قال أمر الله عباده بأن يعين بعضهم بعضا على البر والتقوى
إلى أن قال: ونهاهم أن يعين بعضهم بعضا على الإثم (الخ) وكون التعاون فعل
الاثنين لا يوجب خروج مادته عن معناها، فمعنى تعاون زيد وعمر، أن كلا منهما
معين للآخر، وظهير له، فإذا هيئ كل منهما مقدمات عمل الآخر يصدق أنهما تعاونا،
وبالجملة كون التفاعل بين الاثنين لا يلازم كونهما شريكا في ايجاد فعل شخصي فالتعاون
كالتكاذب والتراحم والتضامن مما هي فعل الاثنين من غير اشتراكهما في فعل شخصي،
ولو كان المراد من حرمة التعاون على الإثم هو الشركة فيه: يكون مقتضى الجمود
على ظاهر الآية هو حرمة شركة جميع المكلفين في اتيان محرم وهو كما ترى،
فالظاهر من قوله: لا تعاونوا على الإثم والعدوان، عدم جواز إعانة بعضهم بعضا في إثمه
وعدوانه وهو مقتضى ظاهر المادة والهيئة، ولو قلنا بصدق التعاون والتعاضد على
الاشتراك في عمل فلا شبهة في عدم اختصاصه به.
ثم إن المحكي عن المحقق الثاني (1) الإيراد على التمسك بآية حرمة التعاون
على الإثم لتحريم بيع شئ مما يعلم عادة التوصل به إلى محرم، بأنه لو تم هذا الاستدلال
فيمنع معاملة أكثر الناس، والجواب عن الآية المنع من كون محل النزاع معاونة
مع أن الأصل الإباحة وإنما المعاونة مع بيعه لذلك (انتهى) وفصل هذا الاجمال في
مفتاح الكرامة (2) والجواهر (3) بأنه قامت السيرة على معاملة الملوك والأمراء فيما
يعلمون صرفه في تقوية الجند والعساكر المساعدين لهم على الظلم والباطل، وإجارة
الدور والمساكن والمراكب لهم لذلك، وبيع المطاعم والمشارب للكفار في نهار
شهر رمضان مع علمهم بأكلهم فيه، وبيعهم بساتين العنب منهم مع العلم العادي بجعل

(1) راجع مفتاح الكرامة فيما يكون المقصود منه حراما - من المتاجر
(2) راجع مفتاح الكرامة فيما يكون المقصود منه حراما - من المتاجر
(3) فيما يكره التكسب به - من التجارة
132

بعضه خمرا، وبيع القرطاس منهم مع العلم بأن منه ما يتخذ كتب ضلال
أضف إليها ما ورد من جواز بيع المختلط بالمذكى من المستحل، وجواز بيع
العجين النجس منه، وجواز اطعام المرق النجس لأهل الذمة، وجواز سقيهم مع
تنجس الماء بملاقاتهم (1) إلى غير ذلك.
أقول: أما صدق الإعانة فيما نحن فيه فسيأتي الكلام فيه وقد عرفت أن حكم
العقل بالقبح لا يتوقف على صدق عنوان الإعانة، وأما الموارد التي ذكروها وادعوا
فيها السيرة: فالجواب أما عن السيرة ببيع المطاعم من الكفار وما هو نظير ذلك كبيع
العنب لهم مع العلم بجعل بعضه خمرا، فحكم العقل بالقبح وصدق الإعانة على الإثم:
فرع كون الاتيان بما ذكر إثما وعصيانا وهو ممنوع لا لكون الكفار غير مكلفين بالفروع
أو غير معاقبين عليها، فإن الحق أنهم مكلفون ومعاقبون عليها بل لأن أكثرهم
إلا ما قل وندر جهال قاصرون لا مقصرون.
أما عوامهم فظاهر، لعدم انقداح خلاف ما هم عليه من المذاهب في أذهانهم بل
هم قاطعون بصحة مذهبهم وبطلان سائر المذاهب نظير عوام المسلمين، فكما أن
عوامنا عالمون بصحة مذهبهم وبطلان سائر المذاهب من غير انقداح خلاف في أذهانهم
لأجل التلقين والنشؤ في محيط الاسلام، كذلك عوامهم من غير فرق بينهما من
هذه الجهة، والقاطع معذور في متابعة قطعه ولا يكون عاصيا وآثما ولا تصح
عقوبته في متابعته.
وأما غير عوامهم فالغالب فيهم أنه بواسطة التلقينات من أول الطفولية والنشؤ
في محيط الكفر: صاروا جازمين ومعتقدين بمذاهبهم الباطلة بحيث كل ما ورد على
خلافها ردوها بعقولهم المجبولة على خلاف الحق من بدو نشؤهم، فالعالم اليهودي و
النصراني كالعالم المسلم لا يرى حجة الغير صحيحة وصار بطلانها كالضروري له، لكون
صحة مذهبه ضرورية لديه لا يحتمل خلافه.

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 7 - من أبواب ما يكتسب به وكتاب الأطعمة و
الأشربة - الباب 26 - من أبواب الأشربة المحرمة
133

نعم فيهم من يكون مقصرا لو احتمل خلاف مذهبه وترك النظر إلى حجته
عنادا أو تعصبا كما كان في بدو الاسلام في علماء اليهود والنصارى من كان كذلك،
وبالجملة أن الكفار كجهال المسلمين منهم قاصروهم الغالب ومنهم مقصر، والتكاليف أصولا وفروعا مشتركة بين جميع المكلفين عالمهم وجاهلهم قاصرهم ومقصرهم،
والكفار معاقبون على الأصول والفروع لكن مع قيام الحجة عليهم لا مطلقا، فكما أن كون المسلمين معاقبين على الفروع ليس معناه أنهم معاقبون عليها سواء كانوا
قاصرين أم مقصرين كذلك الكفار طابق النعل بالنعل بحكم العقل وأصول العدلية
فتحصل مما ذكر أن ما ادعى من السيرة على بيع الطعام في نهار شهر رمضان
من الكفار وسائر ما هو نظيره: خارج عن عنوان الإعانة على الإثم أو تهيئة أسباب
المعصية، لعدم الإثم والعصيان غالبا، وعدم العلم ولو اجمالا بوجود مقصر فيمن يشتري
الطعام وغيره هذا مع غفلة جل أهل السوق لولا كلهم عن هذا العلم الاجمالي وعدم انقداح
ما ذكر في أذهانهم، فدعوى وجود السيرة مع العلم التفصيلي أو الاجمالي والتوجه
والتذكر لذلك، غير وجيهة جدا.
وأما بيع القرطاس مع العلم باتخاذ كتب الضلال من بعضه، فمضافا إلى
ما تقدم وعدم العلم الاجمالي رأسا: أن دفع اضلال الناس من الأمور التي يهتم به الشارع
الأقدس فكيف يمكن القول بجواز بيع القرطاس ممن يعلم أنه يكتب فيه ضد
الاسلام ورد القرآن الكريم والعياذ بالله، صدق عليه عنوان الإعانة على الإثم أم لا،
وأما ما ذكر من السيرة على معاملة الملوك لو سلم حصول العلم الاجمالي المذكور
أي حصول العلم بصرفه في الظلم والعدوان: فلا تكشف تلك السيرة عن رضى الشارع
بعد ما وردت تلك الروايات الكثيرة في باب معونة الظالم، حيث يظهر منها حرمة
ايجاد بعض مقدمات الظلم ولو لم يقصد البايع ذلك.
وإن شئت قلت إن السيرة ليست من المسلمين المبالين بالديانة، وليست
المعاملة معهم مع العلم بالصرف في الظلم إلا كبيع الخمر وآلات الطرب الذي هو
رواج في سوق المسلمين، ولا يمكن عده من سيرتهم الكاشفة ولا من سيرتهم بما
134

هم مسلمون. (أو قلت) إن تلك السيرة مردوعة بالروايات المستفيضة وإنما الاتكال عليها
لكشفها عن رضى الشارع، ومع تلك الروايات الصالحة للردع لا يمكن ذلك. هذا
مع أن ترك المعاملة مع عمال الأمراء والسلاطين كان مظنة للضرر ومخالفا للتقية
سيما في أعصار الأئمة عليهم السلام، ومعه لا يمكن الكشف عن الحكم الواقعي.
ثالثها أدلة وجوب النهي عن المنكر بأن يقال دفع المنكر كرفعه واجب
ولا يتم إلا بترك البيع، وربما نسب هذا الوجه إلى المحقق الأردبيلي، لكن لا يظهر
منه ذلك بل الظاهر منه استبعاد جواز بيع العنب ممن يعلم أنه يصنع خمرا، أو يظن
ذلك مع وجوب النهي عن المنكر، قال (1). ومما يستبعد الجواز وعدم البأس
وهو الباعث على تأويل كلامهم: أن يجوز للمسلم أن يحمل خمرا لأن يشرب والخنزير
لأن يأكله من لا يجوز له أكله، وباع الخشب وغيره ليصنع صنما والدفوف والمزامير
مع وجوب النهي عن المنكر وايجاب كسر إلهيا كل وعدم جواز الحفظ وكسر
آلات اللهو ومنع الشرب والحديث الدال على لعن حامل الخمر وعاصرها المذكور
في الكافي وقد تقدم، وكذا ما تقدم في منع بيع السلاح لأعداء الدين فإنه يحرم للإعانة
على الإثم وهو ظاهر (انتهى).
وهو في كمال الاتقان وحاصله دعوى منافاة أدلة النهي عن المنكر المستفاد
منها أن سبب تشريعه لو كان شرعيا: قلع مادة الفساد والعصيان سيما مع تلك التأكيدات
فيه والاهتمام به من وجوبه بالقلب واليد واللسان، ودلالة بعض الأحاديث على ايعاد
العذاب لطائفة من الأخيار لمداهنتهم أهل المعاصي، وعدم الغضب لغضب الله تعالى، و
النهي عن الرضا بفعل المعاصي، والأمر بملاقات أهلها بالوجوه المكفهرة (2) وغيرها
وكذا سائر ما ذكره مع تجويز بيع الخمر ممن يعلم أنه يجعله خمرا والخشب ممن
يجعله صنما وصليبا أو آلة لهو وطرب، مع أن فيه إشاعة الفحشاء والمعاصي وترويج

(1) راجع كتاب المتاجر من شرح الإرشاد في القسم الثاني من المتاجر المحرمة.
(2) الوسائل - كتاب الأمر بالمعروف - الباب 18 - 37 من أبواب الأمر والنهي.
135

الإثم والعصيان وملازم للرضي بفعل العاصي، وليس مراد الأردبيلي من قوله: لأن
يشرب الخمر، ولأن يأكل لحم الخنزير، وليصنع صنما: كون البيع لغاية ذلك كما
هو موهم كلامه فراجع كلامه في شرح الإرشاد حتى يتضح مرامه وكيف كان لا بأس
بصرف الكلام في الاستدلال بأدلة النهي عن المنكر بنحو ما قرره شيخنا الأعظم (قده) (1)
توجيها لكلام المحقق الأردبيلي.
فنقول: إن دفع المنكر كرفعه واجب بناء على أن وجوب النهي عن المنكر
عقلي، كما صرح به شيخنا الأعظم وحكى عن شيخ الطائفة وبعض كتب العلامة وعن
الشهيدين والفاضل المقداد أنه عقلي، وعن جمهور المتكلمين منهم المحقق الطوسي
عدم وجوبه عقلا بل يجب شرعا، والحق هو الأول لاستقلال العقل بوجوب منع تحقق
معصية المولى ومبغوضه، وقبح التواني عنه سواء في ذلك التوصل إلى النهي أو الأمور
الأخر الممكنة، فكما تسالموا ظاهرا على وجوب المنع من تحقق ما هو مبغوض
الوجود في الخارج سواء صدر من مكلف أم لا لمناط مبغوضية وجوده، كذلك يجب
المنع من تحقق ما هو مبغوض صدوره من مكلف ويرى العبد صدوره منه، فإن المناط
في كليهما واحد، وهو تحقق المبغوض وإن اختلفا في أن الأول نفس وجوده مبغوض
والثاني صدوره من مكلف مبغوض، فإذا هم حيوان بإراقة شئ يكون إراقته مبغوضة
للمولى ويرى العبد ذلك وتقاعد عن منعه، يكون ذلك قبيحا منه ويستحق للعقوبة
لا لأهميته بل لنفس مبغوضيته كذلك لو رأى مكلفا يأتي بما هو مبغوض مولاه
لاشتراكهما في المناط، والحاكم به العقل.
فإن قلت على هذا لا يمكن تجويز الشارع ترك النهي عن المنكر (قلت) هو
كذلك لو كان المبغوض فعليا ولم يكن للنهي مفسدة غالبة، فلو ورد منه تجويز
الترك يكشف عن مفسدة في النهي أو مصلحة في تركه لو كان ذلك متصورا في التروك
والاعدام، فدعوى الطباطبائي في تعليقته علي المكاسب عدم قبح ترك النهي عن
المنكر، في غير محلها. (نعم) ما أشار إليه الشيخ الأنصاري من الاستدلال عليه
بوجوب اللطف (غير وجيه) لما أشار إليه المحشي المحقق

(1) راجع المكاسب - في بيع العنب على أن يعمل خمرا
136

من كفاية ترهيب الله تعالى ونهيه في اللطف.
ثم إن العقل لا يفرق بين الرفع والدفع بل لا معنى لوجوب الرفع في نظر
العقل فإن ما وقع لا ينقلب عما هو عليه، فالواجب عقلا هو المنع عن وقوع المبغوض
سواء اشتغل به الفاعل أو هم بالاشتغال به وعلم بكونه بصدد وكان في معرض
التحقق، وما يدركه العقل قبحه هو هذا المقدار الذي ادعاه شيخنا الأنصاري
لا التعجيز بنحو مطلق حتى يشمل مثل ترك التجارة والزراعة والنكاح إلى غير
ذلك.
نعم الظاهر عدم الفرق بين إرادته الفعلية وما علم بتجددها بعد البيع سيما
إذا كان البيع سببا له كما مر، ولو بنينا على أن وجوب النهي عن المنكر شرعي
فلا ينبغي الاشكال في شمول الأدلة المدفع أيضا لو لم نقل بأن الواجب هو الدفع بل
يرجع الرفع إليه حقيقة، فإن النهي عبارة عن الزجر عن اتيان المنكر وهو لا
يتعلق بالموجود إلا باعتبار ما لم يوجد، فإن الزجر عن ايجاد الموجود محال عقلا و
عرفا، فاطلاق أدلة النهي عن المنكر شامل للزجر عن أصل التحقق واستمراره،
فلو علم من أحد إرادة ايجاد الحرام وهم به واشتغل بمقدماته مثلا: وجب نهيه عنه،
فإن المراد بالمنكر الذي يجب النهي عنه طبيعته لا وجوده، بل لو فرض عدم اطلاق
فيها من هذه الجهة وكان مصبها النهي عن المنكر بعد اشتغال الفاعل به: لا شبهة
في إلغاء العرف خصوصية التحقق بمناسبات الحكم والموضوع، فهل ترى من نفسك
أنه لو أخذ أحد كأس الخمر ليشربها بمرئى ومنظر من المسلم يجوز له التماسك
عن النهي حتى يشرب جرعة منها ثم وجب عليه النهي، وهل ترى عدم وجوب
النهي عن المنكر في الدفعيات والوجودات الصرفة الدفعية، ولعمري إن التشكيك
فيه كالتشكيك في الواضحات.
ثم لو قلنا بوجوب دفع المنكر فتارة يكون بوجوده الساري منكرا كشرب
الخمر وتخميرها، وأخرى بصرف وجوده، وعلى الأول تارة يكون المشتري مريدا
لتخمير كل عنب يشتريه، وأخرى لا يريد إلا تخمير مصداق واحد، لا ينبغي الاشكال
137

في الحرمة على الأول لأن دفع كل مصداق من المنكر واجب فرضا، و
المفروض أن كل عنب يشتري الخمار يجعله خمرا فترك كل بيع: دفع عن منكر
مستقلا فهو واجب.
وأما بناء على أن المنكر صرف وجود التخمير مثلا أو لا يخمر المشتري
إلا مصداقا واحدا من المبيع، فهو يجوز بيعه إلا فيما إذا تركه غيره، فلو علم بناء
غيره على البيع يجوز له ذلك، لأن دفع المنكر غير مقدور عليه لفرض وجود بايع
آخر، فهو كثقيل يجب على جمع رفعه ولا يمكن ذلك إلا باجتماع جميعهم،
فلو علم بعضهم عدم اقدام بعض على الرفع لا يجب عليه اعمال القوة فإنه لغو، أو لا يجوز
لأن دفع المنكر واجب مطلق على كل مكلف ولهذا يجب على كل منهم دفعه ولو
بمنع الغير عن المخالفة ولو اجتمع الكل على بيع أعنابهم دفعة واحدة ممن يعلم
أنه يجعلها خمرا: يكون الكل عاصيا لانتقاض الدفع الواجب بفعلهم، فلو اجتمع
القوم عدا واحد منهم كان ما عداه عاصيا ولو فرض تحقق البيع منه لو كان الغير
تاركا، وذلك لأن انتقاض الدفع الواجب غير جائز شرعا أو قبيح عقلا لكونه مخالفة للأمر
عقلا وعرفا ومجرد بناء الغير على الانتقاض لا يكون عذرا، فالبايع الواحد وإن
لا يقدر على الدفع لكنه قادر على انتقاضه وعلى المخالفة وهذا كاف في تحقق المعصية مع
تحققه بفعله وانتقاض الدفع ببيعه.
فلو أمر المولى عبيده بدفع السارق عن سرقة ماله وكان متوقفا على بقاء الباب
مسدودا: يجب على كل منهم دفعه بحفظ سد الباب، فلو علم بعضهم أن بعض العبيد
يريد فتح الباب وتمكين السارق: لا يوجب ذلك البناء والعلم بفتحة على أي حال
أن يكون معذورا في فتح الباب وتمكين السارق، فلو فتحه كان الفاتح عاصيا لا الباني
على الفتح، وهذا بوجه نظير أن يتعذر قاتل مظلوم محقون الدم بأنه صار مقتولا على
أي تقدير فلو لم أقتله قتله غيري، وتنظير المقام بحمل الثقيل غير وجيه، فإن الواجب هناك
هو الحمل وهو أمر بسيط لا يتحقق إلا بالاجتماع، ومع العلم بعدم اجتماعهم عليه:
لا يجب على العالم أن يعمل القوة الغير المؤثرة فإنه لغو، وأما في المقام أن الواجب
138

هو الدفع عن التخمير لأجل مبغوضية تحققه، وكل واحد منهم مستقل في القدرة
على نقضه، فمن نقضه فهو عاص، لا من بنى على نقضه. وبالجملة عدم امكان الدفع
إنما هو بعصيان الشركاء وعدم امكان دفعهم عنه فكيف يمكن أن يكون ذلك موجبا
لجواز نقضه وعصيانه قبل عصيانهم بمجرد بنائهم عليه.
وإن شئت قلت إن بيع الغير وتسليم العنب موجب لتعجيزه عن دفع المنكر،
لا بنائه عليه، فما لم يتحقق التسليم من الغير تكون القدرة على الدفع باقية له فإنه
قادر على ابقاء الدفع ونقضه ما دام الدفع لم ينتقض، فالانتقاض الموجب لتعجيز غيره
محرم وهو حاصل بفعل البايع فعلا لا تقديرا وبناء، وهذا هو الأقوى.
وأما ما ذكره السيد في تعليقته على المكاسب من أنه إذا أمر الشارع على أمر
بسيط غير مقدور على آحاد المكلفين بل يتوقف على اجتماع جماعة: فلا محالة يكون
الإيجاب راجعا إلى المقدمات بالنسبة إلى الآحاد فتكون المقدمات واجبا نفسيا و
ذلك العنوان البسيط الغير المقدور بالنسبة إلى الآحاد غرضا في المطلوب لا مطلوبا
أوليا، ففي المقام يكون الواجب على كل مكلف ترك بيع العنب لا عنوان دفع المنكر
لعدم القدرة عليه، ولا ترك بيع العنب الموصل إلى الدفع لأنه أيضا غير مقدور عليه،
فترك بيعه واجب على كل منهم إلى أن وقع العصيان من أحدهم، وأن البناء على
العصيان لا يكون عصيانا (انتهى ملخصا)
ففيه أولا أن أوامر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا تفي بما ذكره بعد ما
كان وجوبهما شرعيا لا عقليا كما هو مذهبه، وذلك لأن تلك الأوامر كغيرها في
سائر الأبواب: متوجهة إلى آحاد المكلفين ولو انحلالا فقوله تعالى فلتكن منكم
أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر (1) نظير قوله تعالى
(فلولا نفر من كل فرقة طائفة) (الخ): (2) منحل إلى أوامر متوجهة إلى آحاد المكلفين
لا مجموعهم ولا يعقل أن تكون متوجهة إلى الآحاد مستقلا وإلى المجموع بلفظ واحد،

(1) سورة آل عمران - الآية 100
(2) سورة التوبة - الآية 123
139

ولو فرض امكانه ثبوتا لا يستفاد منه اثباتا، فحينئذ يكون ايجاب الدفع على طبق
الرفع أيضا: متوجها إلى الآحاد فلم يكن أمر متوجها إلى المجموع حتى يقال: لا بد
من ارجاعه إلى السبب.
وثانيا أن متعلق الأوامر هو الرفع المفهوم منها الدفع أو الدفع أيضا، ولا يكون
الدفع غير مقدور مطلقا حتى يقال: إن الأمر بالمسبب الغير المقدور راجع إلى سببه، و
كونه في بعض الأحيان غير مقدور: لا يوجب ارجاع الأمر إلى السبب بالنسبة إليه
حتى يكون مفاد الأمر الواحد في المقدور شئ وفي غيره شئ آخر، ولو فرض فهم
ذاك وذلك من الأوامر بإلغاء الخصوصية على اشكال فيه من كلا المقامين سيما الثاني:
فلا يلزم منه الارجاع إلى السبب، فإن الأمر كما يمكن أن يتعلق بآحاد المكلفين،
يمكن أن يتعلق بمجموع منهم فيكون الأمر واحدا والمأمور واحدا هو المجموع و
يشترط فيه عقلا قدرة المجموع لا الآحاد فتكون الطاعة بايجاد المجموع والعصيان
بتركهم أو ترك بعضهم، وعليه أيضا يفترق المقام عن حمل الثقيل بما تقدم بيانه.
ثم إنه قد تقدم أن المبنى للحرمة إن كان قبح تهيئة أسباب المعصية والإثم
عقلا: فلا ينظر إلى صدق مفهوم الإعانة عرفا، فإن موضوع حكم العقل ليس عنوانها
بل مطلق تهيئة أسباب المعصية قبيح عقلا،
نعم لا يتجاوز الحكم من تحصيل الشرايط والأسباب إلى مطلق ماله دخل في
تحقق المعصية كتجارة التاجر العالم بأخذ العشر منه إذا لم تكن تجارته لتقوية الظالم
فإنها ليست قبيحة عقلا بلا ريب وليست من قبيل تهيئة الأسباب ولا فرق في نظر العقل
بين الأقسام المتقدمة في صدر البحث، وكذا لو كان المستند حكم العقل بدفع المنكر
فإن العقل لا يفرق بين وجوده إرادة المعصية فعلا وبين تجددها، ولا بين كون الداعي
توصل الغير إلى الحرام وغيره، ولا وجود فاعل آخر وعدمه كما مر. وأما إن كان المستند
هو الآية الكريمة الناهية عن التعاون على الإثم والعدوان: فيقع البحث في المفهوم
الإعانة على الإثم عرفا أي في هذا العنوان التركيبي المتعلق للنهي: تارة في أنه هل
يعتبر في صدق الإعانة على الإثم وقوع الإثم في الخارج، وأخرى في أنه هل يعتبر في
140

صدقها قصد المعين لتوصل الفاعل إلى الحرام، وثالثة في أنه هل يعتبر قصد المعان عليه
الحرام، أو يكفي تخيل المعين أنه قصده، ورابعة في أنه هل يعتبر علم المعين أو
ظنه بترتب الإثم على ما يوجده. وخامسة في أنه هل يعتبر العلم بتوقف الإثم على
خصوص هذه المقدمة أو لا.
أما الأول فقد يقال باعتباره لأن الظاهر من قوله: لا تعاونوا على الإثم أي
على تحققه وهو لا يصدق إلا معه، فإذا لم يتحقق خارجا وأوجد شخص بعض مقدمات
عمله لا يقال: إنه أعانه على إثمه لعدم صدوره منه، وما يصدر منه كيف يكون
ذلك إعانة على إثمه، وبالجملة الإعانة على تحقق الإثم موقوفة على تحققه وإلا
يكون من توهم الإعانة عليه لا نفسها ويكون تجريا لا إثما، ولهذا لو علم بعدم
تحققه منه لا يكون ايجاد المقدمة إعانة على الإثم بلا شبهة.
ولكن يمكن أن يقال: إن المفهوم العرفي من الإعانة على الإثم هو ايجاد
مقدمة ايجاد الإثم وإن لم يوجد، فمن أعطى سلما لسارق بقصد توصله إلى السرقة
فقد أعانه على ايجادها، فلو حيل بين السارق وسرقته شئ ولم تقع منه يصدق أن
المعطي المسلم: أعانه على ايجاد سرقته وإن عجز السارق عن العمل، فلو كان
تحقق السرقة دخيلا في الصدق فلا بد وأن يقال: إن المعتبر في صدق الإعانة ايجاد
المقدمة الموصلة، أو الالتزام بأن وجود السرقة من قبيل الشرط المتأخر لصدق
الإعانة وكلاهما خلاف المتفاهم العرفي منها بل هما أمران عقليان.
أو يقال: لا يصدق عرفا الإعانة على الإثم حتى وجدت السرقة، فالفعل المأتي
به لتوصل الغير إلى الحرام: مراعى حتى يوجد ذو المقدمة وبعده يقال إنه أعانه
عليه وهو أيضا خلاف الواقع، (أو يقال) إن صدق الإعانة عليها فعلا باعتبار قيام
الطريق العقلائي على وجود الإثم وبعد التخلف يكشف عن كونها تجريا لا إعانة،
وهو أيضا غير صحيح لأن الطريق العقلائي عليه لا يتفق إلا أحيانا ومع عدم القيام
أيضا يقال: أعانه على ايجاده، فمن أعطى جصا لتعمير مسجد يقال: إنه أعان على
تعميره قبل تحققه بل مع عروض مانع عنه، ولهذا يصح أن يقال: إني أعنت فلانا
141

على؟ تعمير المسجد ولم يقع منه ذلك بلا شائبة تجوز.
وإن شئت قلت فرق بين كون الإثم بمعنى اسم المصدر وكونه بمعنى المصدر
في صدق الإعانة، فلو كان بمعنى اسمه يعتبر في صدقها الوجود بخلاف ما إذا كان
بمعنى المصدر، والمقام من قبيل الثاني، وأما مورد النقض أي عدم الصدق مع
العلم بعدم تحققه منه، فعدم الصدق باعتبار فقد قيد آخر معتبر فيه كما يأتي الكلام
فيه، لكن مع ذلك كله لا يخلو الصدق من خفاء والمسألة من غموض وإن كان الصدق
أظهر عرفا
وأما الثاني فالأقرب اعتباره فإن الظاهر أن إعانة شخص على شئ عبارة عن مساعدته
عليه وكونه ظهيرا للفاعل، وهو إنما يصدق إذا ساعده في توصله إلى ذلك
الشئ وهو يتوقف على قصده لذلك، فمن أراد بناء مسجد فكل من أوجد مقدمة
لأجل توصله إلى ذلك المقصد يقال ساعده عليه وأعانه علي بناء المسجد، وأما البايع
للجص؟ والآجر وسائر ما يتوقف عليه البناء إذا كان بيعهم لمقاصدهم وبدواعي
أنفسهم: فليس واحد منهم معينا ومساعدا على البناء ولو علموا أن الشراء لبنائه
(نعم) لو اختار أحدهم من بين سائر المبتاعين الباني للمسجد لتوصله إليه كان
مساعدا بوجه دون ما إذا يفرق بينه وبين غيره، لعدم قصده إلا الوصول بمقصده،
فالبزاز البايع لمقاصده ما يجعل سترا للكعبة ليس معينا على البر والتقوى ولا البايع
العنب بمقصد نفسه ممن يجعله خمرا معين على الإثم ومساعد له فيه، بل لو أوجد
ما يتوقف عليه مجانا لغرض آخر غير توصله إلى الموقوف لا يصدق أنه أعانه و
ساعده عليه، والتشبث ببعض الروايات والآيات لنفي اعتباره مع أن الاستعمال فيها
من قبيل الاستعارة ونحوها في غير محله.
وأما الصدق على اعطاء العصا والسكين على مريد الظلم والقتل حينهما:
فلعله لعدم التفكيك في نظر العرف بين اعطائه في هذا الحال وقصد توصله إلى
مقصده، ولهذا لو جهل بالواقعة لا يعد من المعاون على الظلم، فلو أعطاه العصا
لقتل حية واستعملها في قتل انسان: لا يكون معينا على قتل الانسان، وبالجملة
142

أن الصدق العرفي في المثال المتقدم لعدم التفكيك عرفا، ولهذا لو اعتذر
المعطي بعدم اعطائه للتوصل إلى الظلم مع علمه بأنه أراده: لا يقبل منه.
والظاهر اعتبار ثالث القيود، فمع عدم قصد المعان عليه الإثم: لا يكون
الإعانة على فعله إلا إعانة على ما يتوهم أنه إثم. وعدم اعتبار رابعها وخامسها فمن
أعصر خمرا برجاء أن يشرب منها شارب أو أعطى سكينا لظالم ليعمل به القتل لو
احتاج إليه: يعد عملهما الإعانة على الإثم سيما إذا تحقق في الخارج، بل لا يبعد
اعتبار التحقق في الصدق فيهما.
ثم إنه على القول باعتبار القصد وتحقق الإثم في مفهومها: لقائل أن يقول
بإلغاء القيدين حسب نظر العرف والعقلاء بالمناسبات المغروسة في الأذهان بأن
يقال: إن الشارع الأقدس أراد بالنهي عن الإعانة على الإثم والعدوان قلع مادة الفساد
والمنع عن إشاعة الإثم والعدوان، وعليه لا فرق بين قصده إلى توصل الظالم بعمله
وعدمه مع علمه بصرفه في الإثم والعدوان، فالنهي عن الإعانة إنما هو لحفظ غرضه
الأقصى وهو القلع المذكور فيلغى العرف خصوصية قصد التوصل.
وكذا يمكن أن يقال: إن الإعانة على الإثم والعدوان لما تصير عادة موجبة
لتشويق العصاة على عملهم وجرأتهم على الإثم والعدوان، نهى الشارع عن إعانة من
هم بمعصية سياسة لأن يرى العامل بالمنكر نفسه وحيدة في العمل لا معين له فيه و
الوحدة قد توجب الوحشة المؤدية إلى الترك كما أن رؤية المعين على عمل موجبة
للجرئة، فالشارع نهى المسلمين عن تهيئة أسباب المعصية لمن أرادها لقلع مادة
الفساد وانصراف الناس عن الإثم والعدوان، وإلى بعض ما ذكرناه أشارت رواية
علي بن أبي حمزة (1) عن أبي عبد الله عليه السلام وفيها لولا أن بني أمية وجدوا لهم من
يكتب ويجبى لهم الفئ ويقاتل عنهم ويشهد جماعتهم لما سلبونا حقنا، فتحصل من
ذلك أنه بعد إلغاء الخصوصية عرفا تستفاد من الآية حرمة تهيئة أسباب المعصية لمن

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 47 - من أبواب ما يكتسب به - ضعيفة بعلي
بن أبي حمزة البطائني
143

هم بها، سواء كانت التهيئة لأجل توصله إليها أم لا، وسواء تحقق الإثم أم لا، و
يؤيده حكم العقل أيضا بقبحها، ولكن مع ذلك لا يخلو إلغاء الخصوصية وفهم العرف
من الآية ما ذكرناه من تأمل وأن لا يخلو من وجه.
ثم إن هذا كله في كلي المسألة، وأما في خصوص الخمر فالظاهر المتفاهم
من المستفيضة الحاكية عن لعن الخمر وغارسها وحارسها وبايعها ومشتريها (الخ)
أن اشتراء العنب للتخمير حرام بل كل عمل يوصله إليه حرام لا لرحمة المقدمة،
فإن التحقيق عدم حرمتها، ولا لمبغوضية تلك الأمور بعناوينها، بل الظاهر أن
التحريم نفسي سياسي لغاية قلع مادة الفساد، فإذا كان الاشتراء للتخمير حراما
سواء وصل المشتري إلى مقصوده أم لا: تكون الإعانة عليه حراما لكونها إعانة
على الإثم بلا اشكال، لأن قصد البايع وصول المشتري إلى اشترائه الحرام والفرض
تحقق الاشتراء أيضا فبيع العنب ممن يعلم أنه يجعله خمرا حرام وإعانة على الإثم
هذا إذا قلنا بعدم استفادة حرمة ايجاد مقدمات تحصيل الخمر من الروايات مطلقا
سواء كان بقصده أم لا، فمن غرس العنب وعلم أن سيجعل خمرا، لا يحرم عليه إذا
لم يكن غرسه لذلك، وأما إن قلنا باستفادة الحرمة مطلقا من تلك التشديدات و
التضييقات الواردة فيها: فيكون البيع كالاشتراء حراما لا لمحض الإعانة على
التخمير.
المقام الثاني في حال الروايات الواردة في المقام وهي على طائفتين:
إحديهما ما يمكن توجيهها بوجه لا تنافي ما تقدم من حكم العقل والنقل
كصحيحة البزنطي (1) قال سألت أبا الحسن (ع) عن بيع العصير فيصير خمرا قبل أن يقبض الثمن فقال: لو باع ثمرته ممن يعلم أن يجعله حراما لم يكن بذلك بأس
فأما إذا كان عصيرا فلا يباع إلا بالنقد، بأن يقال: إن السؤال عن ثمن العصير، و
الجواب أيضا عن ثمن ما يعلم أنه يجعل حراما وكذا عن ثمن العصير، فلا تنافي

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 59 - من أبواب ما يكتسب به في سندها سهل
والأمر فيه سهل.
144

بين نفي البأس عن ثمن العصير وبين حرمة الإعانة على الإثم المنطبق عنوانها
على البيع.
نعم في قوله فأما إذا كان عصيرا: اشعار أو ظهور في الجملة في جواز بيع
العصير ممن يعلم أنه يجعله خمرا، (لكن يمكن أن يقال) إن السؤال لما لم يكن
في العصير عن ذلك ينزل الجواب عليه، وهو اثبات البأس ولو بنحو الكراهة بالنسبة
إلى بيع العصير نسية لكونه في معرض الفساد، وكيف كان ليس لها ظهور معتد
به في المنافاة لما تقدم، هذا مع أن الضمير في قوله يجعله حراما يرجع إلى الضمير
لا إلى ثمرته فيمكن (أن يقال) إنه نفى البأس عن بيع ثمرته ممن يعلم أنه يجعل
العصير حراما ولا يعلم بأنه يجعل هذه الثمرة حراما، وكرواية أبي بصير (1) قال
سألت أبا عبد الله عليه السلام عن ثمن العصير قبل أن يغلي لمن يبتاعه ليطبخه أو يجعله
حراما قال: إذا بعته قبل أن يكون خمرا وهو حلال فلا بأس، بأن يقال: فيها أيضا
إن السؤال إنما هو عن ثمن العصير وكذا الجواب فلا ربط لهما بأصل المعاملة و
حرمتها، مع امكان أن يقال إن لفظة (أو) للترديد فيكون الابتياع مرددا بين
كونه للحلال أو الحرام ومعه لا بأس ببيعه أيضا.
والطائفة الثانية ما لا يمكن توجيهها أو يكون بعيدا مخالفا للظاهر،
كصحيحة رفاعة بن موسى (2) قال سئل أبو عبد الله (ع) وأنا حاضر عن بيع العصير ممن
يخمره قال: ألسنا نبيع خمرنا ممن يجعله شرابا خبيثا، ومكاتبة ابن أذينة (3) قال
كتبت إلى أبي عبد الله (ع) أسأله عن رجل له كرم أيبيع العنب والتمر ممن يعلم أنه يجعله خمرا
أو سكرا فقال إنما باعه حلالا في الأبان الذي يحل شربه أو أكله فلا بأس ببيعه، ورواية
أبي كهمس (4) وفيها ثم قال: هو ذا نحن نبيع تمرنا ممن نعلم أنه يصنعه خمرا،
وصحيحة الحلبي (5) قال سألت أبا عبد الله عليه السلام عن بيع عصير العنب ممن يجعله

(1) الوسائل - كتاب التجارة الباب 59 من أبواب ما يكتسب به الأولى ضعيفة بعلي بن أبي حمزة وغيره
(2) الوسائل - كتاب التجارة الباب 59 من أبواب ما يكتسب به الأولى ضعيفة بعلي بن أبي حمزة وغيره
(3) الوسائل - كتاب التجارة الباب 59 من أبواب ما يكتسب به الأولى ضعيفة بعلي بن أبي حمزة وغيره
(4) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 59 من أبواب ما يكتسب به. الأولى ضعيفة بأبي كهمس.
(5) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 59 من أبواب ما يكتسب به. الأولى ضعيفة بأبي كهمس.
145

حراما قال: لا بأس به تبيعه حلالا فيجعله حراما فأبعده الله وأسحقه، إلى غير ذلك
فإن حملها على وهم البايع أن المشتري يعمل هذا المبيع خمرا. أو احتمال أن يكون الضمير راجعا إلى مطلق العصير كما احتمله الأردبيلي (1)، بعيد جدا، كما
يظهر منه أيضا أن الحمل على خلاف الظاهر لعدم امكان الالتزام بها، وهو كذلك
فإنها مخالفة للكتاب أي آية النهي عن التعاون على الإثم والسنة المستفيضة و
هي الحاكية للعن رسول الله صلى الله عليه وآله الخمر وغارسها (الخ) بالتقريب المتقدم، ولا يصح
القول بتقييد الآية والسنة لإباء العقول عن ذلك فإن الالتزام بحرمة التعاون على كل
إثم إلا بيع التمر والعنب الذي يشتري للتخمير بأن يقال: إن الإعانة على غرسها وحرسها
وحملها وغير ذلك كلها محرمة سوى خصوص الاشتراء له أو الالتزام بأن الإعانة
على كل إثم حرام إلا على شرب الخمر الذي هو من أعظم المحرمات، كما ترى.
(وتوهم) أن الإعانة على الاشتراء الحرام وهو ليس من المحرمات المهتم بها
(مدفوع) بأن المفهوم من الآية ولو بمئونة حكم العقل أن مطلق تهيئة أسباب
الإثم منهي عنه، والبيع ممن يعلم أنه يبتاع للتخمير من مقدمات التخمير بل الشرب
المهتم به، مضافا إلى أنه يظهر من بعض الروايات أن الإعانة على الإثم كنفس الإثم،
كما أن الالتزام بعدم حرمة الإعانة على الإثم مطلقا فرارا عن التفصيل المستبعد
بل الغير الممكن: غير ممكن إذ مقتضاه مخالفة الروايات للكتاب على نحو التباين
لما تقدم من عدم امكان حمل النهي في الآية على التنزيه، وكذا لا يصح تخصيص
السنة فإن لسانها آبية عنه.
فتلك الروايات بما أنها مخالفة للكتاب والسنة المستفيضة وبما أنها مخالفة
لحكم العقل كما تقدم وبما أنها مخالفة لروايات النهي عن المنكر بل بما أنها
مخالفة لأصول المذهب ومخالفة لقداسة ساحة المعصوم عليه السلام حيث إن الظاهر منها،
أن الأئمة عليهم السلام كانوا يبيعون تمرهم ممن يجعله خمرا وشرابا خبيثا
ولم يبيعوه من غيره، وهو مما لا يرضى به الشيعة الإمامية كيف ولو صدر هذا العمل

(1) راجع كتاب المتاجر من شرح الإرشاد في القسم الثاني من المتاجر المحرمة.
146

من أواسط الناس كان يعاب عليه، فالمسلم بما هو مسلم والشيعي بما هو كذلك،
يرى هذا العمل قبيحا مخالفا لرضى الشارع فكيف يمكن صدوره من المعصوم
عليه السلام. واحتمال أن يكون البيع مشتملا على مصلحة غالبة أو تركه على
مفسدة كذلك: توجب الجبران ومعه لا قبح فيه بل لعل القبح في تركه (فاسد) فإنه
مع كمال بعده في نفسه بل بطلانه لأن في مثل تلك العناوين الاعتبارية ليست مصلحة
ذاتية لا تصل إليها العقول.
نعم قد تكون في بعض الأحيان مصلحة التسهيل أو مفسدة التضييق موجبة
لمثل ذلك، لكنهما في المقام غير محققة، لأن في ترك البيع لخصوص الخمار ليس
تضييقا ولا في تسهيله مصلحة جابرة لمثل مفسدة ترويج الخمر وتشييع تلك الفاحشة
أنه مخالف لظاهر الأخبار فإن مفادها أن الجواز لأجل كون البيع في أبان حليته، و
أنه إذا حل شربه وأكله حل بيعه وأن الوزر على صانعه، وهو مخالف لجميع ما تقدم
من العقل والنقل، فنعم ما قال السيد في الرياض (1) حيث قال في مقاومة هذه النصوص
وإن كثرت واشتهرت وظهرت دلالتها بل وربما كان في المطلب صريحا بعضها لما مر
من الأصول والنصوص المعتضدة بالعقول اشكال، والمسألة لذلك محل اعضال فالاحتياط
فيها لا يترك على حال (انتهى)
وليته جزم بذلك ورد تلك النصوص إلى أهلها فإنا مأمورون بذلك ولك أن تقول
أيضا أن تلك النصوص معارضة مع الرواية الواردة في المنع عن بيع الخشب للصنم
والصليب.
كصحيحة عمر بن أذينة (2) قال: كتبت إلى أبي عبد الله عليه السلام أسأله عن رجل له
خشب فباعه ممن يتخذ برابط فقال: لا بأس به، وعن رجل له خشب فباعه ممن يتخذ
صلبانا قال: لا، ورواية عمرو بن حريث (3) قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن التوت

(1) راجع مفتاح الكرامة فيما يكون المقصود منه حراما من المتاجر.
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 41 - من أبواب ما يكسب به.
(3) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 41 - من أبواب ما يكتسب به مجهولة
بابان بن عيسى وكذلك عمرو بن حريث لأنه مشترك.
147

أبيعه يصنع للصليب والصنم قال: لا ولرواية صابر (1) قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن
الرجل يواجر بيته فيباع فيه الخمر قال: حرام أجره، بناء على عدم الفصل بين تلك
الموارد وعدم الفرق بين الإجارة وغيرها، وأن المراد من الأخيرة إجارة البيت ممن
يعلم أنه يبيع فيه الخمر، والترجيح لتلك الروايات بالوجوه المتقدمة.
ومما تقدم يظهر حال صحيحة ابن أذينة (2) قال: كتبت إلى أبي عبد الله عليه السلام
أسأله عن الرجل يواجر سفينته ودابته ممن يحمل فيها أو عليها الخمر والخنازير قال:
لا بأس، مع احتمال أن تكون الإجارة لا لذلك وجهل المؤجر بالواقعة. فقد ظهر
مما ذكرناه النظر فيما أفاد الشيخ الأعظم، (3) من أن القول الفصل: التفصيل بين
الصليب والصنم وبين الخمر والبرابط، والعمل بمضمون الروايات في مواردها لو
لم يكن قولا بالفصل (انتهى) مع أن التفصيل بين الصليب والخمر بعيد بعد كون الصليب
ظاهرا هو ما يصنع شبيه ما صلب به المسيح عليه السلام على زعمهم، وإنما يكرمونه لذلك
ولا يعبدونه كما يعبد الصنم كما زعم، قال: في كتاب المنجد الذي مصنفه منهم،
الصليب العود المكرم الذي صلب عليه السيد المسيح، والظاهر منه أنه عين ذلك
العود، وهو بعيد، ولعل مراده ذكر الأصل والمنشأ، فما عن المغرب: هو شئ مثلث
كالتماثيل تعبده النصارى كأنه وهم، فحينئذ فالحكم بجواز بيع العنب والخشب ممن
يصنع الخمر والبرابط وعدم جواز بيع الخشب ممن يعمل الصلبان: لا يخلو من بعد،
فإن الظاهر أن الخمر أشد حرمة من تكريم عود يتخيل كونه تكريما للسيد
المسيح عليه السلام بل لو كان حراما لا يبعد أن يكون لوجه التشريع أو لكونه شعار النصارى
وإن يمكن أن يقال صيرورته شعارا لهم: أوجبت الاهتمام به وتحريم التسبيب إليه
زائدا على غيره.

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 39 - من أبواب ما يكتسب به. الأولى ضعيفة بصابر.
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 39 - من أبواب ما يكتسب به. الأولى ضعيفة بصابر.
(3) راجع المكاسب - المسألة الثالثة - من النوع الثاني مما يحرم التكسب به -
في بيع العنب على أن يعمل خمرا.
148

ثم لو قلنا بحرمة البيع فهل يقع صحيحا أو لا، والتفصيل أن يقال إن المعاملة
قد تقع معاطاة وقد تقع بالصيغة، فالأقوى صحتها على الأول، لأن المحرم عنوان آخر
منطبق على المعاملة الخارجية، سواء كان المستند حكم العقل بقبح تهيئة أسباب المحرم
أو وجوب دفع المنكر أو حكم الشرع بوجوب دفعه أو حرمة التعاون عليه، لأن
موضوعات تلك الأحكام عناوين غير نفس المعاملة وبينهما عموم من وجه،
والموضوعات الخارجية مجمع لهما، ولكل منهما حكمه، ومن ذلك يدفع استبعاد
تنفيذ الشارع سببا يؤدي إلى مبغوضه، لأن التنفيذ لم يقع إلا على عنوان البيع
ونحوه وهو ليس بمبغوض، وكون عنوان آخر منطبق على ما ينطبق عليه عنوان
المعاملة مبغوضا: لا يوجب تنفيذ المبغوض، وعلى الثاني تقع المزاحمة بعد وقوع
المعاوضة بين دليل حرمة التعاون على الإثم ودليل وجوب تسليم المثمن، فإن
قلنا بترجيح الثاني يجب عليه التسليم ويعاقب على الإعانة على الإثم.
أما على ما رجحناه في محله من بقاء الحكم في المتزاحمين على ما هو عليه
من الفعلية: فواضح لأنه خالف الحكم المحرم الفعلي بلا عذر، وأما على القول
بسقوط النهي فلارتكابه المبغوض بلا عذر وهو بوجه نظير المتوسط في أرض مغصوبة
أو نظير ايقاع النفس في مهلكة العطش اختيارا: فيجب عليه حفظ نفسه بشرب
الخمر ويعاقب عليه، وإن قلنا بترجيح الأول فلا يجوز له التسليم، فحينئذ
(ربما يقال) إن المعاوضة لدى العقلاء متقومة بامكان التسليم والتسلم ومع تعذره
شرعا أو عقلا لا تقع المعاوضة صحيحة، ففي المقام يكون تسليم المبيع متعذرا شرعا
لعدم جوازه فرضا وعدم جواز إلزامه عليه لا من قبل المشتري ولا الوالي، ومع
عدم تسليمه يجوز للمشتري عدم تسليم الثمن والمعاوضة التي هو حالها ليست
عقلائية ولا شرعية فتقع باطلة.
(وفيه) أن ما يضر بصحة المعاوضة هو العجز عن التسليم تكوينا أو نهى الشارع
عن تسليم المبيع بعنوانه حيث يستفاد منه ردع المعاوضة، والمقام ليس من قبيلهما
لعدم العجز تكوينا، وعدم تعلق النهي عن تسليم المبيع بعنوانه بل النهي
149

عن الإعانة على الإثم: صار موجبا لعدم التسليم، وبعبارة أخرى أن المانع العقلي أو
الشرعي عن مقتضى المعاملة عرفا الذي منه التسليم لو صار موجبا لبطلانها:
لا يوجب أن يكون مطلق المانع ولو بجهات خارجية كذلك، وهذا نظير ما لو كان
أحد المتبايعين مديونا للآخر ناكلا عن أدائه فحبس الدائن متاعه المبتاع لاستيفاء
دينه، فإن جواز ذلك لا يوجب مضادته لمقتضى المعاوضة بل هي صحيحة ووجب على
المديون تسليم العوض، وعدم النكول في مقابل نكول الآخر، لاستيفاء دينه،
ففي المقام لا يكون ترك التسليم ولا حكم الشرع به منافيا لمقتضى المعاوضة بعد
ما كان ذلك لغرض آخر خارج عن المعاملة ومقتضاها.
وإن شئت قلت إن البايع قادر على التسليم وغير ممتنع عنه بشرط رجوع
المشتري عن قصد التخمير فنكول البايع إنما هو بتقصير من المشتري وتسبيب منه
وفي مثله لا يكون النكول منافيا لمقتضى المبادلة بل يجب عليه تسليم الثمن و
لا يجوز له النكول في مقابل نكوله المسبب عن تقصيره
نعم لا يبعد الاستناد إلى رواية تحف العقول على البطلان لولا ضعفها، لا إلى
الفقرة التي ذكرها شيخنا الأعظم في أول مكاسبه وفي المقام، بل إلى فقرة أخرى
ساقطة عن قلمه الشريف أو النسخة التي كانت عنده فما هو الموجود في التحف
هكذا، وكذلك كل بيع (مبيع ظ) ملهو به وكل منهي عنه مما يتقرب به لغير الله أو
يقوى به الكفر والشرك من جميع وجوه المعاصي وباب من أبواب الضلالة
أو باب من أبواب الباطل أو باب يوهن به الحق: فهو حرام محرم بيعه وشرائه
وامساكه وملكه (الخ)
بأن يقال إن أبواب الباطل تشمل مطلق المعاصي سيما مع وقوعها في مقابل
أبواب الضلالة وباب يوهن به الحق، فالحديث متعرض لما يوجب الضلالة ككتب
الضلال وبيع القرطاس لذلك، ومما يوجب الوهن في الاسلام كبيع السلاح لأعداء
الدين ومنه بيع العنب مثلا ممن يجعله خمرا ويبيعه علنا في شوارع المسلمين أو
جنب المشاهد المعظمة ولما يوجب الوهن في الاسلام، ولما يكون بابا من أبواب
150

الباطل وهو سائر المعاصي ولهذا أطلق الباطل على كثير منها في الأخبار كالقمار و
الشطرنج والسماع ونحوها، ففي رواية الفضيل (1) قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن
هذه الأشياء التي يلعب بها الناس والنرد والشطرنج حتى انتهيت إلى السدر (2) فقال
إذا ميز الله الحق من الباطل مع أيهما يكون قلت مع الباطل قال: فما لك وللباطل
وقد فسر قوله تعالى لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل بالسرقة والقمار و
نحوهما.
وجه الدلالة على البطلان أن الظاهر كما قالوا إنها سيقت لإفادته مضافا إلى أن العرف يرى التنافي بين تحريم المعاملة ومبغوضيتها وبين تنفيذها وايجاب الوفاء
بها، هذا في غير بيع الخمر والتمر ممن يشتري للتخمير، وأما فيه فالظاهر من
الروايات المستفيضة الحاكية للعن رسول الله صلى الله عليه وآله الطوايف الدخيلة في شرب
الخمر مبغوضية اشتراء العنب للتخمير ولو بإلغاء الخصوصية عرفا لو لم نقل بفهم العرف
منها مبغوضية البيع ممن يعلم أنه يجعله خمرا، ومع مبغوضية الاشتراء أو هو مع البيع
بعنوانهما يستبعد تنفيذ المبايعة بل يكون الجمع بينهما من قبيل الجمع بين المتنافيين
عرفا، وقد عرفت أن الحرمة فيها ليست مقدمية والفرق بينة وبين ما تقدم من تصحيح
البيع المنطبق عليه عنوان محرم: واضح، ودعوى أن التحريم دليل على الصحة،
في غير محلها فإن المبغوض هو المعاملة العقلائية الرائجة بينهم من بيع الخمر و
العنب للتخمير وأمثالهما، ومع مبغوضيته لا محالة يتصدى الشارع لدفعه في عالم
التشريع وهو ملازم لردعه، سيما أن الردع موجب لتقليل مادة الفساد والتنفيذ
موجب لتكثيرها، لأن كثيرا من الناس يرتكبون بعض المعاصي ويتنزهون عن
أكل مال الغير بغير حق واشتغال ذمتهم به
النوع الثالث ما يمكن أن يقصد به الحرام أي ما له شأنية ذلك، والأقوى

(1) الوسائل كتاب التجارة - الباب 8 - من أبواب ما يكتسب به حسنة بعبد الله بن
عاصم والميثمي.
(2) السدر كعبر لعبة للصبيان (مجمع)
151

بحسب القواعد عدم حرمته بهذا العنوان وصحة المعاملة عليه، وبيع السلاح لأعداء
الدين ليس من مستثنيات هذا العنوان بل له عنوان خاص ينبغي البحث عنه مستقلا
فنقول: ينبغي تقديم أمر قبل النظر إلى الأخبار، وهو أن موضوع البحث ليس مطلق
ما ينطبق عليه عنوان السلاح كائنا ما كان، بل الموضوع ما كان سلاح الحرب
فعلا، وهو يختلف بحسب الأزمان فربما كان شئ في زمان ومكان سلاح الحرب
دون آخر، ففي الأزمنة القديمة كانت الأحجار الخاصة والفلاخن والأخشاب آلة
له إثم انقرض زمانها وخرجت تلك الآلات عن صلاحية السلاح فقامت مقامها أسلحة أخرى
كالسيف والرمح والعمود والنيزك والترس والدرع ونحوها ثم انقرضت هي وقامت مقامها
غيرها إلى هذه الأعصار فالمراد من السلاح في موضوع البحث سلاح اليوم أي الذي يستعمل
في الحروب لا ما انقرضت أيامه وخرجت عن الاستعمال فيها، فإن أراد بعض أعداء الدين و
أهل الحرب حفظ الأسلحة القديمة لقدمتها وكونها عتيقة: لا مانع من بيعها وخارج
عن موضوع بحث بيع السلاح من أهل الحرب بلا ريب كما لا يخفى، وكذا ليس
المراد مطلق أعداء الدين، فإن كل مخالف لنا في ديننا فهو عدونا في الدين لكن
موضوع البحث أخص منه وهو الدولة المخالفة للاسلام أو الطايفة الكذائية، فلا
ينبغي الكلام في جواز بيعه من يهودي في بلد المسلمين تابع لهم لولا جهات أخر.
ثم اعلم أن هذا الأمر أي بيع السلاح من أعداء الدين من الأمور السياسية
التابعة لمصالح اليوم فربما تقتضي مصالح المسلمين بيع السلاح بل اعطائه مجانا
لطائفة من الكفار، وذلك مثل ما إذا هجم على حوزة الاسلام عدو قوي لا يمكن
دفعه إلا بتسليح هذه الطائفة وكان المسلمون في أمن منهم، فيجب دفع
الأسلحة إليهم للدفاع عن حوزة الاسلام وعلى والي المسلمين أن يؤيد
هذه الطايفة المشركة المدافعة عن حوزة الاسلام بأية وسيلة ممكنة، بل لو كان
المهاجم على دولة الشيعة دولة المخالفين مريدين قتلهم وأسرهم وهدم مذهبهم: يجب عليهم
دفعهم ولو بوسيلة تلك الطائفة المأمونة، وكذا لو كانت الكفار من تبعة حكومة
الاسلام ومن مستملكاتها وأراد الوالي دفع أعدائه بهم إلى غير ذلك مما تقتضي المصالح.
152

وربما تقتضي المصالح ترك بيع السلاح وغيره مما يتقوى به الكفار مطلقا
سواء كان موقع قيام الحرب أو التهيؤ له أم زمان الهدنة والصلح والمعاقدة، أما
في الأولين فواضح، وأما في الأخيرة فحيث خيف علي حوزة الاسلام ولو آجلا بأن احتمل
أن تقويتهم موجبة للهجمة على بلاد المسلمين والسلطة على نفوسهم وأعراضهم،
فنفس هذا الاحتمال منجزة في هذا الأمر الخطير، لا يجوز التخطي عنه فضلا
عن كون تقويتهم مظنة له أو في معرضه، ولا فرق في ذلك بين الخوف على حوزة
الاسلام من غير المسلمين أو علي حوزة حكومة الشيعة من غيرها، كانت المخافة
عليها من الكفار أم المخالفين، فلو كانت للشيعة الإمامية حكومة مستقلة ومملكة
كذلك كما في هذه الأعصار بحمد الله تعالى، وكانت للمخالف أيضا حكومة مستقلة
وكان زمان هدنة ومعاقدة بين الدولتين لكن خيف على المذهب ودولته منهم ولو
آجلا، لا يجوز تقويتهم ببيع السلاح ونحوه.
وبالجملة أن هذا الأمر من شؤون الحكومة والدولة وليس أمرا مضبوطا بل
تابع لمصلحة اليوم ومقتضيات الوقت، فلا الهدنة مطلقا موضوع حكم لدى العقل
ولا المشرك والكافر كذلك، والتمسك بالأصول والقواعد الظاهرية في مثل المقام
في غير محله، والظاهر عدم استفادة شئ زائد مما ذكرناه من الأخبار، بل لو
فرض اطلاق لبعضها يقتضي خلاف ذلك، أي يقتضي جواز البيع فيما خيف الفساد
وهدم أركان الاسلام أو التشيع أو نحو ذلك: لا مناص عن تقييده أو طرحه، أو دل
على عدم الجواز فيما يخاف في تركه عليهما كذلك: لا بد من تقييده وذلك
واضح.
فمن الأخبار حسنة أبي بكر الحضرمي أو صحيحته (1) قال دخلنا على أبي عبد الله
عليه السلام فقال له حكم السراج ما تقول فيمن يحمل إلى الشام السروج وأداتها فقال:
لا بأس، أنتم اليوم بمنزلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله إنكم في هدنة فإذا كانت المباينة
حرم عليكم أن تحملوا إليهم السروج والسلاح، ورواية هند السراج (2) قال:

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 8 - من أبواب ما يكتسب به الثانية ضعيفة بأبي سارة وغيره.
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 8 - من أبواب ما يكتسب به الثانية ضعيفة بأبي سارة وغيره.
153

قلت لأبي جعفر عليه السلام أصلحك الله إني كنت أحمل السلاح إلى أهل الشام فأبيعه منهم،
فلما عرفني الله هذا الأمر ضقت؟ بذلك، وقلت لا أحمل إلى أعداء الله فقال: احمل إليهم،
فإن الله يدفع بهم عدونا وعدوكم، يعني الروم، وبعهم فإذا كانت الحرب بيننا فلا
تحملوا، فمن حمل إلى عدونا سلاحا يستعينون به علينا فهو مشرك، وهاتان
الروايتان صارتا منشئا للقول بالتفصيل، تارة بين زمان الهدنة وغيره مطلقا،
وأخرى التفصيل كذلك في خصوص البيع من المخالفين والأخذ باطلاق ما تأتي للمنع
عن البيع من الكفار.
والتحقيق أن الروايتين قاصرتان عن اثبات هذا التفصيل في المقامين،
لأن السؤال فيهما عن حمل السلاح إلى الشام في عصر الصادقين (ع) وهو عصر لم تكن
للشيعة الإمامية مملكة مستقلة وحكومة على حدة، بل كان المسلمون كافة تحت
حكومة واحدة هي سلطنة خلفاء الجور لعنهم الله، فلم يكن في حمل السلاح إلى
الشام خوف على حوزة الشيعة وبلادهم، لعدم الموضوع لهما، ولهذا نزلهم منزلة
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله حيث إن كلهم جمعية واحدة تديرهم حكومة واحدة لم تكن
في تقويتها تقوية على خلاف حوزة الشيعة الإمامية وحكومتها لعدم تشكيلهما،
بل كانت تقوية للمسلمين مقابل الكفار كما أشار إليه في الرواية الثانية، فلا يجوز
التعدي عن مثل تلك الهدنة التي كانت كهدنة في عصر أصحاب الرسول الله صلى الله عليه وآله إلى مطلق
الهدنة والسكون، كما إذا كانت لنا سلطنة مستقلة ودولة على حدة، ولهم كذلك، و
كانت بيننا هدنة وتعاقد ومع ذلك يكون في تقويتهم فسادا ومظنته بل احتماله بحيث
خيف على دولة التشيع وحكومته من ذلك، ويستفاد من تعليل الثانية أن كل مورد
يدفع عدو قوي بعدو مأمون منه يجوز بيع السلاح منه لدفعه.
وكيف كان لا يمكن القول بجواز بيع السلاح ونحوه من الكفار أو المسلمين
المخالفين بمجرد عدم الحرب والهدنة، بل لا بد من النظر إلى مقتضيات اليوم وصلاح
المسلمين والملة، كما أن في عصر الصادقين عليهما السلام كان من مقتضيات الزمان جواز دفع
السلاح إلى حكومة الاسلام وجنودها لمدافعة المشركين من غير ترقب فساد عليه،
154

وكلما كان كذلك يجوز بل قد يجب، فلا يستفاد منهما أمر زائد عما هو مقتضى حكم
العقل كما تقدم، ومنها صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام (1) قال: سألته
عن حمل المسلمين إلى المشركين التجارة قال: إذا لم يحملوا سلاحا فلا بأس، و
رواية الصدوق (2) في وصية النبي صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام قال: يا علي كفر بالله العظيم من
هذه الأمة عشرة إلى أن قال: وبايع السلاح من أهل الحرب، وهما صارتا منشئا لقول جمع
بعدم جواز البيع منهم مطلقا.
والتحقيق عدم اطلاقهما لما تقدم، ولا لعدم الجواز فيما إذا لم يكن خوف
منهم ولا في تقويتهم احتمال ضرر على المسلمين كما لو كانوا تحت سلطة الاسلام
بحيث لا يخاف منهم أصلا.
أما الثانية فلأن الحكم فيها معلق على أهل الحرب والظاهر المتفاهم منهم
الجماعة المستعدون للحرب ولم تكونوا منقادين للمسلمين وتكون مباينة بينهم و
بين المسلمين، ومعلوم أن أهل الحرب أي الطغاة على المسلمين يخاف منهم على
حوزة الاسلام أو على نفوس المسلمين أو طايفة منهم سيما مع قوله صلى الله عليه وآله كفر بالله
العظيم الذي لا يقال إلا إذا كانت المعصية عظيمة، واحتمال أن يكون المراد
بأهل الحرب مطلق الخارج عن الذمة كيهودي خرج عنها في بلد المسلمين مقطوع
الفساد.
وأما الأولى فمع امكان المناقشة في اطلاقها بأن يقال: إنها بصدد بيان جواز
حمل مال التجارة غير السلاح، لا بيان عدم جواز بيع السلاح حتى يؤخذ باطلاقها،
إن موردها حمل السلاح إلى ممالك المشركين المباينين للمسلمين في الحكومة
والسلطنة والمشركون المجاورون للمسلمين في ذلك العصر، وهم مورد السؤال
بحسب الطبع: من ألد أعداء المسلمين، وكانت بينهما المخالفة والمباينة، وفي مثله
لا يجوز سواء كان الحمل إلى الكفار أو إلى المخالفين.

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 8 - من أبواب ما يكتسب به - الثانية مجهولة بحماد بن عمرو وغيره.
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 8 - من أبواب ما يكتسب به - الثانية مجهولة بحماد بن عمرو وغيره.
155

والظاهر من المباينة التي ذكرت في رواية الحضرمي هي المقابلة للهدنة التي كانت
بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله أي عدم الاجتماع تحت راية واحدة وتمايز الفريقين
في الحكومة والسياسة، وفي مثله لا يجوز حمل السلاح لا إلى الكفار ولا
إلى المخالفين، كما أنه إذا كانت الهدنة بالمعنى المتقدم المشار إليه في الرواية
أي نحو هدنة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وكان بلاد المشركين تحت راية سلطان
الاسلام وحكومة المسلمين وكانت في تقويتهم تقوية جنود الاسلام وحدوده
يجوز البيع منهم، لعدم دليل على المنع بل قيام الدليل على الجواز وهو قضية اقتضاء
صلاح حوزة الاسلام والمسلمين، بل لا تبعد استفادته من رواية الحضرمي وهند السراج
بدعوى أن موضوع جواز حمل السلاح هو الهدنة وكون المسلمين والكفار بمنزلة
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله المخلوطين من المنافقين والمؤمنين، فالميزان هو الهدنة
بهذا المعنى من غير خصوصية للمخالفين.
فالمتحصل من الروايات عدم الفرق بين المخالفين وغيرهم في الحكم، وعدم
التفصيل بين الهدنة والمحاربة كما نسب إلى المشهور، وفي زمان الهدنة بالمعنى
المتقدم يجوز البيع مطلقا من مخالف ومشرك، كما يجوز فيما إذا كان الطرف
مدافعا عن حوزة الاسلام أو التشيع مع الأمن منه كما هو مفاد رواية السراج و
موافق لحكم العقل، ولا يجوز في زمان عدم الهدنة بالمعنى المتقدم وهو زمان
البينونة وامتياز الحكومات بعضها من بعض سواء كان بينها تصالح وتعاقد أم لا، من
غير فرق بين أن تكون الهدنة كذلك بين أمير المؤمنين عليه السلام ومعاوية عليه اللعنة
أو بينه وبين الكفار، وقد عرفت عدم اطلاق لرواية علي بن جعفر والرواية الحاكية
عن وصية النبي صلى الله عليه وآله
نعم مقتضى اطلاق رواية السراد (1) عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له: إني

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 8 - من أبواب ما يكتسب به.
نقل في الوافي هذه الرواية عن الكافي والتهذيب كما نقله الأستاذ دام ظله أي
عن السراد عن أبي عبد الله ثم قال بعده (بيان: في الإستبصار عن السراد عن رجل عن
156

أبيع السلاح قال فقال: لاتبعه في فتنة ورواية الصيقل (1) قال: كتبت إليه أني رجل
صيقل أشتري السيوف وأبيعها من السلطان أجائز لي بيعها فكتب لا بأس به: جواز
البيع في غير مورد الفتنة، وجوازه من السلطان مطلقا، لكنهما إن سلم اطلاقهما
مقيدتان، بحكم العقل القطعي بما إذا لم يخف على حوزة الاسلام أو الشيعة، و
برواية أبي بكر الحضرمي المفصلة بين عصر الهدنة والمباينة بالمعنى المتقدم، مع
امكان المناقشة في اطلاق الثانية، بأن الظاهر منها أن المراد بالسلطان هو السلطان
المخالف، فموردها مورد الهدنة التي ذكرها في رواية الحضرمي، وفي الأولى بأن
الظاهر منها السؤال عن تكليفه الشخصي في ذلك العصر ولم يكن البيع من الكفار
المستقلين في الحكومة مورد ابتلائه، بل كان بايعا للسلاح في داخلة مملكة الاسلام
والمراد بالفتنة هي الفتنة الحاصلة بين طائفتين من المسلمين لا بين المسلمين و
غيرهم، فإنه لا معنى لعدم الجواز من المسلمين في الصورة مع أن في رواية السراج
صرح بالجواز في صورة مدافعة المسلمين عن الكفار، وبالجملة لا اطلاق فيها يشمل
جوازه من المشركين المستقلين في الحكومة أو المخالفين المستقلين فيها، و
الانصاف أنه لا يستفاد من الروايات شئ وراء حكم العقل.
ثم إن الكلام في بطلان المعاملة كالكلام في بطلان معاملة بيع العنب للتخمير

أبي عبد الله، وكأنه الصواب، لأن السراد لا يروي عنه عليه السلام بلا واسطة).
وفي الوسائل (نسخة عين الدولة) و (نسخة حاج موسى) عن السراج، وعلى
أي حال إن كان المراد بالسراد هو الذي يروي عن الصادق عليه السلام بلا واسطة فالرواية
صحيحة، وإن كان المراد منه هو الذي يروي عنه مع الواسطة على ما نقله صاحب الوافي
عن الإستبصار فالرواية ضعيفة للجهل بالواسطة، وأما بناء على أن يكون الراوي هو
السراج على ما في نسختي الوسائل فالرواية ضعيفة لأن السراج مشترك وادعاء اتفاق جميع
النسخ على خلاف نسخة عين الدولة في غير محله (م - ط).
(1) الوسائل كتاب التجارة الباب 8 - من أبواب ما يكتسب به مجهولة بأبي
القاسم الصيقل
157

أو ممن يعلم أنه يجعله خمرا، فالأرجح البطلان كما تقدم، فلو قلنا في المقام
بالصحة فلو إلى المسلمين نقض البيع حسب ما تناسب المصالح العامة.
القسم الثالث الاكتساب بما لا منفعة فيه معتد بها عند العقلاء، ولعل عد هذا القسم
في عداد الأنواع المحرمة لامكان التمسك بحرمة نفس المعاملة بقوله تعالى (1) لا تأكلوا
أموالكم بينكم بالباطل بدعوى شمول الأكل بالباطل لتملك مال الغير بلا مال في قباله
فيصدق على بيع البايع ونقله ما لا مالية له إلى غيره بعوض له مالية باعتبار تضمنه لنقل
المال، أي العوض إلى نفسه أنه أكل ما المشتري أعني تملكه بالباطل فيكون
حراما بمقتضى الآية، وامكان التمسك بها لحرمة الثمن لا بعنوان التصرف في مال
الغير بل بعنوان أكل المال بالباطل، بدعوى ظهورها في أنه محرم بهذا العنوان
ويمكن المناقشة في الأولى بأن الأكل بالباطل وإن كان كناية ولا يراد به الأكل
مقابل الشرب: لكن لا يستفاد منه إلا سائر التصرفات الخارجية نظير الشرب و
اللبس لا مثل انشاء البيع والصلح ونحوهما مما لا يعد تصرفا عرفا، ولا أظن أن يلتزم
أحد بحرمة انشاء المعاملة على مال الغير مع عدم رضا صاحبه مع وضوح حرمة
التصرف في مال الغير بلا رضاه فشمول الآية لمثل التملك الانشائي ممنوع
وفي الثانية بأن الظاهر أن الباطل عنوان انتزاعي من العناوين المقابلة
للتجارة التي هي حق مثل القمار والسرقة والخيانة ونحوها، فأكل المال بالقمار
حرام لكونه أكل مال الغير بلا سببية التجارة التي جعلها الشارع ولو بإمضاء ما لدى
العقلاء سببا للنقل فلا يكون حراما، تارة بعنوان كونه مال الغير الذي لم ينتقل
إليه بسبب شرعي، وأخرى بعنوان كونه باطلا بل الباطل عنوان مشير إلى
العناوين الأخر
نعم نفس عنوان القمار حرام مستقل، وأخذ الثمن في مقابل ما لا مفنعة له
حرام من جهة كونه تصرفا فيه بلا سبب ناقل، لا لانطباق عنوان آخر عليه حتى
يكون محرما بعنوانين، وربما يتمسك للتحريم برواية تحف العقول حيث إن

(1) سورة النساء - الآية 33
158

ظاهر صدرها وهو قوله وأما تفسير التجارات في جميع البيوع ووجوه الحلال من وجه
التجارات التي يجوز للبايع أن يبيع مما لا يجوز له وكذا المشتري الذي يجوز له شرائه مما
لا يجوز فكل مأمور به (الخ): حصر جميع الأقسام المحللة في الضابط الذي يذكره بعد ذلك
للمحلات، وما لا منفعة فيه خارج عنه لعدم صلاح الناس فيه، فإذا خرج منه دخل
في المحرم بمقتضى ما مر من ظهور صدرها في عدم خروج شئ من أقسام المحلل عن الضابط
وفيه أن الرواية متعرضة لوجوه التجارات العقلائية المتعارفة
بين الناس كالا مثلة المذكورة فيها في شقي الصحة والفساد، وليست متعرضة
لما لاصلاح ولا فساد فيها كما هو مفروض المقام، لعدم اقدام العقلاء على مثلها
فلم تكن للتعرض لها فائدة معتد بها، ويشهد له قوله في صدرها سأله سائل فقال:
كم جهات معايش العباد التي فيها الاكتساب والتعامل بينهم ووجوه النفقات فقال:
جميع المعايش كلها من وجوه المعاملات فيما بينهم مما يكون لهم فيه المكاسب أربع جهات
(الخ) فهي متعرضة لما فيه الصلاح أو فيه الفساد محضا أو من جهة من الجهات
إن قلت إن مقتضى اعطاء الضابط ذكر جميع المعاملات أو إنما ذكر ضابط
المحل وما كان في مقابله هو محرم، والضابط المذكور في المحرم مفهوم الضابط
المتقدم، وإنما ذكر مصداق المتعارف للمفهوم وترك ما لا يتعارف من المعاملات
وما لا منفعة فيه عرفا أصلا، إذ عدم المنفعة يكفي في ردعهم عنها وعدم اقدامهم
عليها فلم يكن كثير اهتمام في ذكرها، والردع عنها بخلاف ما له منفعة عرفية و
لو محرمة: لاقدام الناس عليها.
قلت ليس في الرواية شئ يمكن أن يدعى أن له مفهوما، بل ذكر فيها أو لا
بنحو الاجمال أن المكاسب منها حرام ومنها حلال ثم ذكر تفسير التجارات بنحو
الاجمال أيضا بقوله: وتفسير التجارات (الخ) مقدمة لبيان التفصيل، وأشار إلى
المحلل والمحرم بحيث فهم منه أنه بصدد بيان كلا الضابطين، وفي مثله لم يكد أن يكون الكلام دالا على المفهوم لو فرضت دلالته عليه في سائر الموارد، مضافا إلى أن النكتة التي صارت سببا لترك ذكر ما لا منفعة له في قسم المحرمات وهي كفاية
159

عدم الداعي للناس في ايقاع هذا النحو من المعاملة في ردعهم عنها: يمكن أن تكون
نكتة لعدم التعرض لها في الضابطين، وإنما تعرضنا لما ذكر مع عدم صلوح الرواية
لاثبات حكم لتعرض بعض أعيان المدققين لها بما لا مزيد عليه (1) وفي كلامه
الشريف مواد نقض وإبرام تركناها مخافة التطويل، فتحصل مما ذكران عد هذا
النوع في المقام لا يخلو من وجه، وإن كان الأقوى ما عرفت.
ثم إن ما لا منفعة معتد بها لدى العقلاء على أنحاء:
منها ما لا منفعة له مطلقا لا عاجلا ولا آجلا، ولا يرجى منه المنفعة
كذلك، ولا يكون في نفس المعاملة به منفعة عقلائية أو غرض عقلائي نوعي أو
شخصي كما لو توهم المتعاملان منفعة فيما لا نفع له فأوقعا المعاملة ثم انكشف
الخلاف.
ومنها ما لا منفعة فيه مطلقا لكن كان للمشتري غرض عقلائي نوعي أو شخصي
في اشترائه، كما لو هجمت الهوام المؤذية بالزراعات على مملكة فتعلق غرض
الوالي بدفعها من ناحية اشترائها بثمن غال تشويقا إلى جمعها أو على مزرعة
شخصية فأراد صاحبها ذلك.
ومنها ما له منفعة لا يعتد بها العقلاء فحينئذ تارة تكون بحيث يعد بلا منفعة
لديهم، وأخرى تكون له منفعة لكنها نادرة فلما؟ يتفق الانتفاع بها،
ثم قد يكون عدم النفع لخسته كالخنفساء مثلا، أو لقلته كحبة من الحنطة فإن لها
منفعة بمقدارها لكن لا تعد منفعة عقلائية، وقد تكون له منفعة عقلائية
لكن ابتذاله وكثرته جعله كما لا منفعة له ولا يقابل لذلك بالمال كماء
الشطوط لسكان سواحلها، فعلى أول الفروض فإن كان عدم المنفعة لخسته فلا ينبغي
الاشكال في بطلانها وهو المتيقن من معقد الاجماع المحكي عن المبسوط (2) و
غيره، ويدل عليه مضافا إلى ذلك عدم صدق واحد من عناوين المعاملات عليها

(1) هو العلامة الميرزا الشيرازي الثاني رحمه الله
(2) في فصل ما يصح بيعه وما لا يصح من كتاب البيوع.
160

لأن حقيقة المعاوضة ونحوها كالهبة مجانا متقومة بتبديل الإضافات الحاصة، فالبيع
عبارة عن مبادلة مال بمال أو عين بعين لا مطلقا، فإن المبادلة المطلقة لا معنى
لها ولا في ذاتهما أو أوصافهما الحقيقة، ولا في مطلق الإضافات بل في
إضافة خاصة هي إضافة الملكية أو الأعم منها، ومن إضافة الاختصاص والهبة عبارة
عن تمليك عين مجانا أو مقابل تمليك عين مثلا وحقيقتها أيضا نقل الإضافة الخاصة
أو تبديلها وسيأتي التفصيل في مظانه انشاء الله تعالى، ويأتي أيضا بيان الحال في
بيع الكلي في الذمة مما قد يقال إنه ليس من قبيل التبادل في إضافة الملكية،
ولو قلنا بأن البيع تمليك عين بعوض وأمثال ذلك: لا يوجب فرقا فيما نحن
بصدده.
وكيف كان فمع عدم اعتبار العقلاء الملكية أو الاختصاص لشئ بالنسبة إلى
شخص: لا يمكن تحقق العناوين المتقومة بهما وهو واضح، ولا ريب في أن اعتبار
الملكية وكذا الاختصاص لدى العقلاء: ليس جزافا وعبثا بل للاعتبارات العقلائية
كلها منا شئ ومصالح نظامية ونحوها، فاعتبار الملكية والاختصاص فيما لا ينتفع
به ولا يرجى هي منه رأسا ولا يكون موردا لغرض عقلائي نوعي أو شخصي: لغو صرف و
عبث محض، فمثل البرغوث والقمل ليس ملكا لأحد، ولا لأحد حق اختصاص متعلق به،
فما ربما يقال: إن للانسان حق اختصاص بالنسبة إلى فضلاته: ليس وجيها على اطلاقه
فالنخامة الملقاة على الأرض ليست ملكا لصاحبها، ولا له حق اختصاص بها، أعرض
عنها أم لم يعرض، وبالجملة اعتبار الملكية وحق الاختصاص تابع لجهة من جهات
المصالح، وما لا نفع فيه مطلقا ولا غرض لأحد في اقتنائه: لا يعتبر ملكا ولا مختصا
بأحد، فأساس المعاملات المتقومة بالإضافتين منهدم رأسا بل الظاهر عدم صدق شئ
من عناوين المعاوضات والمعاملات مع فقد المالية مطلقا، فاعطاء قمل وأخذ برغوث
ليس بيعا ولا معاقدة ولا تجارة لدى العرف والعقلاء، لما عرفت من عدم مناط الاعتبار
فيما لا نفع ولا مالية له.
فما قيل من أن البيع عبارة عن تبديل عين بعين من غير اعتبار المالية فيهما ساقط
161

لا ينبغي أن يصغى إليه، كما أن توهم الافتراق بين البيع وبين العقد والتجارة بما قيل إن البيع لو لم يصدق مع عدم المالية لكن صدق التجارة والعقد لا يتوقف عليها فيكفي
في تصحيح المعاملة التمسك بدليل نفوذها (غير وجيه) لاشتراك الجميع في عدم
الصدق وفي عدم المناط لاعتبار العقلاء، ولأن المعاوضة بين العينين لو صدقت عليها
عناوين البيع والصلح والإجارة ونحوها: صدقت عليها التجارة والعقد ومع عدم صدق
شئ من العناوين الخاصة كيف تصدقان عليها بل عدم صدق التجارة ليس بإخفى من
عدم صدق البيع بل لو فرض الشك في الصدق كفى في عدم جواز التمسك بالأدلة أو
ببناء العقلاء.
ومن هنا يظهر جواز التمسك بقوله تعالى (1) لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل
(الخ) فإن الظاهر منه أن الأكل بغير التجارة مطلقا منهي عنه، فالأمر دائر بين الأمرين
لا ثالث لهما، فإذا لم تصدق على مورد التجارة عن تراض يدخل في مقابله، بل لو شك
في صدق أكل المال بالباطل في مورد لكن علم عدم صدق تجارة عن تراض فيه: يرفع
الشك عنه وينسلك في الأكل بالباطل، كما أنه لو فرض الشك في صدق التجارة و
علم أنه أكل المال بالباطل: يرفع الشك عنه، فالعلم بكل طرف اثباتا ونفيا رافع
للشك عن الآخر كذلك كما هو الشأن في المنفصلتين الحقيقيتين.
نعم لو فرض صدق الأكل بالباطل وصدق التجارة عن تراض في مورد يقع التعارض
بين صدر الآية وذيلها بناء على دلالتهما على الحكم الوضعي أي بطلان المعاملة وصحتها ولا
ترجيح لأحدهما. وأما الاستدلال على البطلان بسفهية المعاملة (فغير وجيه) لأن
البطلان من ناحيتها على فرض القول به إنما هو بعد فرض صدق المعاملة، وأما مع عدم
الصدق كما في المقام فلا موضوع لها وسيأتي الكلام في ذلك في بعض الأقسام الآتية
ويلحق بما تقدم في البطلان ما لا منفعة عقلائية له ولم يتعلق به غرض عقلائي كما
لو اشترى الزيز لاستماع صوته والجعل لرؤية تلاعبه مع العذرة، وذلك لأن المعاملة
سفهية غير عقلائية والأدلة العامة كقوله تعالى: أوفوا بالعقود (2)، وأحل الله

(1) سورة النساء الآية 33
(2) سورة المائدة - الآية 1.
162

البيع (1) وتجارة عن تراض: غير شاملة لها، إما لعدم صدق تلك العناوين عليها كما
لا يبعد ومع الشك فالمرجع أصل الفساد، أو لانصرافها عنها فإنها امضائية لما
لدى العقلاء وليست بصدد تأسيس أمر زائد على ذلك سيما مثل الأعمال السفهية
التي هي أضحوكة العقلاء وتتنفر عنها الطباع السليمة.
فتوهم شمولها لها فاسد جدا كتوهم عدم الاحتياج إلى الدليل اللفظي في
الامضاء بل يكفي عدم الردع في الكشف عنه، وذلك لأن المفروض أنها ليست عقلائية
فلا تكون متعارفة ولم تكن كذلك بمرئى ومنظر من الشارع حتى يستكشف الامضاء
من عدم الردع، بل لو فرض تعارض أمر سفهي بين أراذل الناس لا يمكن كشف رضى
الشارع عنه لو لم يصل إلينا الردع، لغاية بعد رضاه بما هو سفهي تنبو عنه الطباع
والعقول السليمة، وتتنفر عنه العقلاء مع كونه مربي العقول ومتمم المكارم بل
لا يبعد صدق الأكل بالباطل على مثلها، ويلحق به أيضا " بيع ما لا مالية له لقلته
كحبة من خردل أو لكثرته وشيوعه كالثلج في الشتاء مع عدم تعلق غرض عقلائي
بالمعاملة، وذلك أيضا لسفهيتها، فلو عاوض منا من ثلج بمن منه في الشتاء. أو منا
من ماء بمن من تراب في ساحل البحر مع عدم غرض عقلائي خارجي: يعد سفها بل
لا يبعد عدم صدق عنوان المعاملة عليها ولا أقل من الشك فيه، ولو نوقش فيه فلا ريب
في انصراف الأدلة عنها بما تقدم ذكره.
ويلحق به أيضا ما له منفعة نادرة جدا بحيث تعد لدى العقلاء كلا منفعة
لندوره، كما لو سمع أحد أن في أقصى بلاد الإفريقية حية كان علاج لذعه لذع العقرب
فاشترى عقربا وحفظه لذلك مع عدم احتمال ابتدائه به، فإن المعاملة سفهية باطلة،
فالميزان في الصحة عقلائية المعاملة والخروج عن السفهية، سواء كانت متعلقة لغرض
شخص خاص، كمن ابتلى بمرض لا يبتلى به غيره وكان دوائه شيئا لا يرغب فيه أحد فإن
اشترائه لغرضه عقلائي والمعاملة من أوضح مصاديق المعاملات العقلائية وتشملها
الأدلة، أو لأغراض عقلائية نادرة لا بمثل الأسئلة المتقدمة.

(1) سورة البقرة - الآية 276
163

وأما الثانية من الصور المتقدمة، أي ما لا تكون له منفعة مطلقا أو عقلائية لكن
كان في المعاملة غرض عقلائي موجب لاشترائه كالمثال المتقدم (فالتحقيق) صحتها
وعقلائيتها وذلك لأن مالية الشئ تابعة وجودا ومرتبة للعرضة والتقاضا، فما لا
منفعة له مطقا أو تعلق باشترائه وحفظه أو اشترائه واعدامه، غرض سياسي أو غيره
من الأغراض العقلائية فصار ذلك منشأ للرغبة إلى اشترائه: أوجبت تلك الرغبة و
ذلك التقاضا حدوث المالية فيه، فلو تعلق غرض دولة باشتراء ما لا منفعة له من ناحية
من النواحي لأغراض سياسية فأوجدت بقدرتها السوق لذلك المتاع: صار ذا قيمة لدى
لعقلاء من غير لحاظ أن اشترائه بأي غرض كان، وبالجملة الشئ صار متمولا
بمجرد حدوث التقاضا، ويخرج المتمول عن كونه كذلك بمعدوميته مطلقا، كما أن
مراتب التمول أيضا تابعة لكثرة العرضة أو التقاضا.
فلا ينبغي الاشكال في صحة تلك المعاملات وصدق البيع والتجارة والعقد عليها،
وكذا صدق مبادلة مال بمال. والحكم بالبطلان يحتاج إلى دليل هو مفقود
ويمكن ادراجها ولو بإلغاء الخصوصية في صدر رواية تحف العقول، فإنها وإن
تعرضت للأشياء التي فيها صلاح العباد أو وجه من وجوه صلاحهم في معاشهم وحياتهم
لكن يمكن أن يقال: الاشتراء لدفع المضار أو جلب منافع مشروعة غير كامنة في
نفس المتعلقات داخل فيها بإلغاء الخصوصية أو فهم العرف علة الحكم، ولو نوقش
فيه فالرواية ساكتة عنه، ولا شبهة في عدم شمول ذيلها لمثل تلك المعاملة المترتب
عليها دفع مضار عن العباد أو جلب منافع لهم.
فتحصل من جميع ما تقدم ضابط الصحة والفساد، وأما القول باعتبار كون
المنفعة غير نادرة ولو مع كون الندرة بحيث لم تخرج بها المعاملة عن العقلائية،
بدعوى اعتباره شرعا إما لقيام الاجماع عليه أو لدلالة بعض الروايات كما عن عوالي
اللئالي (1) عن النبي صلى الله عليه وآله قال: لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها،
وأكلوا ثمنها وإن الله تعالى إذا حرم على قوم أكل شئ حرم عليهم ثمنه، وعن الدعائم (2)

(1) المستدرك كتاب التجارة - الباب 6 - من أبواب ما يكتسب به
(2) المستدرك كتاب التجارة - الباب 6 - من أبواب ما يكتسب به
164

قريب منها، وعنه صلى الله عليه وآله أيضا في حديث (1) قاتل الله اليهود إن الله لما حرم عليهم
شحومها جملوه (أي أذابوه) ثم باعوه وأكلوا ثمنه، بناء على أن للشحوم
منفعة نادرة محللة على اليهود فيقال: لولا أن المنفعة النادرة كالمعدومة في
نظر الشارع، لما منعهم عن بيعه لأجلها، ومثل رواية التحف، ففيه ما لا يخفى، أما
الاجماع فلأن العمدة هو الاجماع المحكي عن المبسوط (2) كل ما ينفصل من الآدمي
من شعر ومخاط ولعاب وظفر وغيره: لا يجوز بيعه اجماعا لأنه لا ثمن له ولا منفعة فيه
وعن موضع آخر منه فإن كان مما لا ينتفع به فلا يجوز بيعه بلا خلاف مثل الأسد والذئب
وسائر الحشرات.
وهما كما ترى دعوى الاجماع وعدم الخلاف على ما لا منفعة فيه ولا ينتفع به
حتى الثانية، لأن المذكورات من قبيل الأمثلة بنظره وتشخيصه، لا من معقد الاجماع،
ضرورة أنه لم يدع الاجماع ولم يقم ذلك على عنوان الأسد والذئب وغيرهما، و
الظاهر من معقدهما ما لا ينتفع به مطلقا وما لا منفعة له كذلك، ولو حملا على عدم
الانتفاع العقلائي كما تقدم لا بأس به، لكن التعدي إلى ما يكون له المنفعة العقلائية
النادرة مما لا وجه له، وأضعف منه التمسك بالروايات فإنها مع الغض عن سندها
ظاهرة في أن اليهود باعوها للمنفعة المحرمة كما يشعر به التعليل الوارد فيها مع
عدم معلومية حلية بعض المنافع لهم، ورواية التحف متعرضة للمعاملات المتعارفة،
بل يمكن التمسك بها لصحة المعاملة في بعض الصور المتقدمة فالأقوى هو ما تقدم.
القسم الرابع الاكتساب بما هو حرام في نفسه، والبحث فيه تارة عن حرمة
عنوان الكسب وأن الإجارة على المحرم محرمة أو لا، وأخرى عن حرمة الثمن
بعنوان كونه ثمن الحرام، وثالثة عن حكمه الوضعي، وقد تقدم أن المقصود الأصلي
بالبحث ههنا هو العنوانان الأولان، وأن الثالث استطرادي يناسب البحث عنه في
شرايط العوضين في الإجارة.

(1) الخلاف - كتاب البيوع - مسألة 311
(2) في فصل ما يصح بيعه وما لا يصح من كتاب البيوع.
165

فنقول يمكن الاستدلال على حرمة نفس الإجارة بقبح الاستيجار والإيجار
على معصية الله تبارك وتعالى، فكما أن نفس الاستيجار والإيجار للقبايح
العقلية: قبيحة بحكم العقل والعقلاء كإيجار شخص والعياذ بالله نفسه أو من
يتعلق به من نواميسه لارتكاب الفاحشة، كذلك هما قبيحتان لمعصية الله التي هي
أيضا من القبايح العقلية، فالمدعى ادراك العقل قبح عنوان المعاملة على القبايح،
وأنها واسطة لثبوت القبح لنفس المعاملة. ودعوى أن القبح فاعلي لا فعلي نظير
التجري (غير وجيهة) ضرورة أن عنوان إجارة النواميس قبيح عقلا ولا ينافي ذلك
كشفها عن دنائة الفاعل وسوء سريرته وفقدان الشرف والعز.
ويمكن الاستدلال على حرمة الاستيجار عليها بفحوى أدلة وجوب الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر بأن يقال: إن المستفاد عرفا من تلك الأدلة أو من
فحواها: أن الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف محرمان، بل مطلق ما يوجب
الاغراء على المحرم والترغيب إليه والتشويق إليه: محرم سواء ارتكب الطرف
أم لا، ولا ريب في أن استيجار المغنية للتغني والمصور للتصوير المحرم. دعوة لهما إلى
اتيان الحرام وتشويق إليه واغراء عليه، بل قبول الإجارة أيضا نحو ترغيب للمستأجر
إليه مضافا إلى امكان الاستفادة من قوله تعالى (1) (المنافقون والمنافقات بعضهم من
بعض يأمرون؟ بالمنكر وينهون عن المعروف) بدعوى أن العنوانين ليس لصرف
معرفيتهم بل الآية الكريمة في مقام تعييرهم وتقريعهم وذكر ما هو قبيح عقلا ومحرم
شرعا من أعمالهم.
وبدعوى أن لا خصوصية لعنوان الأمر بالمنكر بل المراد أعم مما يفيد فائدته
من الترغيب والتشويق إليه، وبدعوى أنه ليس المراد من الأمر بالمنكر ما يرجع إلى
رد قول رسول الله صلى الله عليه وآله وإلى مخالفته في قوانينه، بل الظاهر أن الأمر بالمنكر بالمحل
الشايع والنهي عن المعروف كذلك، من صفات المنافقين ويكون محرما سواء كان
الغرض رد قول رسول الله صلى الله عليه وآله أم لا (تأمل) وتؤيده رواية التحف

(1) سورة التوبة - الآية 68
166

نعم بناء على أن المستند فحوى أدلة الأمر بالمعروف والآية الكريمة:
لا يستفاد منهما حرمة الاستيجار والإجارة بعنوانهما بل المحرم ما ينطبق عليهما
في الخارج بخلاف ما لو كان المستند الوجه الأول ورواية التحف،
وببعض ما تقدم يمكن الاستيناس بحرمة الثمن أيضا، ويدل عليه قوله: إن الله إذا حرم
شيئا حرم ثمنه، بتقريب أن لا خصوصية لعنوان الثمن في نظر العرف بل الظاهر منه
أن تحريم الشئ لا يلائم مع تحليل ما يقابله سواء صدق عليه عنوان الثمن أم كان
عنوانه أجرا وأجرة ونحوهما، وقد تقدم أن الرواية وإن كانت ضعيفة لكن لا يبعد
استنقاذ مضمونها من سائر الروايات في الأبواب المتفرقة.
ويمكن الاستدلال على بطلانها ببعض ما تقدم في بعض المسائل المتقدمة بأن
يقال: إن المحرم ليس مالا في نظر الشارع، ولهذا لو منع شخص عن تغني جارية
مغنية أو العبد المغني: لا يكون ضامنا بالنسبة إلى تلك المنفعة المحرمة بلا اشكال
وإن كانا أجيرين لذلك، وما لا يكون ما لا في محيط التشريع لا تكون المعاملة
عليه معاملة.
وإن شئت قلت إن سلب المالية عن شئ واسقاطها دليل على ردع المعاملة
به، ويمكن الاستدلال عليه بوجه آخر وهو أن مقتضى ذات المعاملة لدى العقلاء
امكان التسليم والتسلم، ومع منع الشارع عن تسليم المنفعة المحرمة وتسلمها:
لا يعقل أن تكون المعاملة نافذة عنده، فمنع التسليم والتسلم دليل على ردع المعاملة
فتقع باطلة، والاشكال المتقدم في بيع العنب ممن يعلم أنه يجعله خمرا: غير
وارد في المقام بما قررناه، لأنه هناك لم يكن تسليم طرف المعاوضة بذاته محرما
بل المحرم عناوين أخر منطبقة عليه وكان للبايع أن يقول: إني لا أمتنع عن التسليم
بشرط عدم جعله خمرا، فالتقصير متوجه إلى المشتري ولم يحرم الشارع تسليم
العنب المقابل في المعاوضة، بخلاف المقام فإن تسليم المنفعة التي مقابلة الثمن
ومورد الإجارة ممنوع شرعا، وبوجه آخر وهو أن الآية الكريمة أعني (لا تأكلوا
أموالكم بينكم بالباطل) وإن كان الموضوع فيها البطلان العرفي والعقلائي لا الشرعي
167

لكن بتحكيم ما دل على نفي المالية أو نفي تسليم المنفعة ينسلك في مفاد الآية فإن
أخذ مال الغير بلا انتقال منفعة إليه أكل المال بالباطل ويؤيده النبوي ورواية التحف
فائدة استطرادية
قد جرت عادة القوم بذكر كثير من المحرمات مما من شأنها الاكتساب بها
ولو لم يتعارف ذلك، ونحن نذكر منها ما هو المهم بنظر البحث انشاء الله تعالى
في ضمن مسائل:
المسألة الأولى الظاهر عدم الخلاف والاشكال في حرمة التصوير في الجملة،
وعن بعض أن في المسألة أقوالا أربعة، حرمة التصوير مطلقا من جهة التجسيم
وغيره وذوات الأرواح وغيرها، والتخصيص بالمجسمة والتعميم من الجهة الثانية،
والتخصيص بذوات الأرواح والتعميم من الجهة الأولى، والتخصيص من الجهتين
فيكون المحرم عمل ذوات الأرواح المجسمات، والأقوى هو الأخير وهو المتقين
من معقد الاجماع المحكي.
وتدل عليه مضافا إليه الأخبار الآتية، وأما سائر الصور فلا دليل على حرمتها
فإن الأخبار على كثرتها تدور مدار عنوانين هما التصوير والتمثيل باختلاف
التعابير إلا رواية النواهي المذكور فيها النقش، ولا يبعد أن يكون الظاهر من
تمثال الشئ وصورته بقول مطلق: هو المشابه له في الهيئة مطلقا أي من جميع
الجوانب لا من جانب واحد، وتمثال الوجه أو مقاديم البدن تمثاله بوجه لا مطلقا،
كما أن تمثال خلفه كذلك واطلاق التمثال على تمثال الوجه أو المقاديم بنحو
من المسامحة كاطلاقه على تمثال الخلف، وإن صار في الأولين شايعا حتى على
خصوص الوجه مع عدم كونه حقيقيا بلا اشكال.
وأما الصورة فهي بمعنى الشكل الذي هو الهيئة وهيئة الشئ كتمثاله: ما
يكون شبهه في جميع الجوانب، واطلاقه على النقوش والعكوس بنحو ما المسامحة
ولذا يطلق على تمثال الوجه فقط، والاطلاق الشايع على النقش والرسم في الروايات
على فرض تسليمه وعدم دعوى أن الوسائد وغيرها مما وردت فيها الروايات لعلها
168

كانت الصور والتماثيل فيها بنحو التجسيم كهيئة غزال مثلا نائم أو قائم بحيث
كان صدق عليه الغزال المجسم: كان لأجل القرائن، ولهذا لو سئل عن العرف
أن هذه الصورة أو المثال صورته من جميع الوجوه لأجاب بالنفي، ولا أقل من كون الصدق
الحقيقي محلا للشك سيما مع الشواهد المذكورة في الجواهر وغيره وشواهد أخر تأتي
الإشارة إلى بعضها ولو نوقش فيما ذكروا ادعى الصدق العرفي في المجسم وغيره.
فنقول إن الظاهر طايفة من الأخبار بمناسبة الحكم والموضوع أن المراد
بالتماثيل والصور فيها هي تماثيل الأصنام التي كانت مورد العبادة، كقوله: من
جدد قبرا أو مثل مثالا فقد خرج عن الاسلام (1) وقوله: من صور التماثيل فقد ضاد
الله (2) وفيه احتمال آخر ينسلك به في الطايفة الثانية، وقوله: أشد الناس عذابا
يوم القيامة رجل قتل نبيا أو قتله نبي ورجل يضل الناس بغير علم ومصور تصور التماثيل
(3) وقوله: إن من أشد الناس عذابا عند الله يوم القيامة المصورون وأمثالها
فإن تلك التوعيدات والتشديدات لا تناسب مطلق عمل المجسة أو تنقيش الصور،
ضرورة أو عملها لا يكون أعظم من قتل النفس المحترمة أو الزنا أو اللواطة أو
شرب الخمر وغيرها من الكبائر، والظاهر أن المراد منها تصوير التماثيل التي هم
لها عاكفون مع احتمال آخر في الأخيرة، وهو أن المراد بالمصورون القائلون بالصورة
والتخطيط في الله تعالى كما هو مذهب معروف في ذلك العصر.
والمظنون الموافق للاعتبار وطباع الناس، أن جمعا من الأعراب بعد هدم
أساس كفرهم وكسرا صنامهم بيد رسول الله صلى الله عليه وآله وأمره: كانت علقتهم بتلك
الصور والتماثيل باقية في سر قلوبهم، فصنعوا أمثالها حفظا لآثار أسلافهم وحبا لبقائها
كما نرى حتى اليوم علاقة جمع بحفظ آثار المجوسية وعبدة النيران في هذه البلاد
حفظا لآثار أجدادهم، فنهى النبي صلى الله عليه وآله عنه بتلك التشديدات والتوعيدات التي

(1) الوسائل - كتاب الصلاة - الباب 3 - من أبواب أحكام المساكن ضعيفة بأبي
الجارود.
(2) المستدرك - كتاب التجارة - الباب 75 - من أبواب ما يكتسب به
(3) المستدرك - كتاب التجارة - الباب 75 - من أبواب ما يكتسب به
169

لا تناسب إلا للكفار ومن يتلو تلوهم قمعا لأساس الكفر ومادة الزندقة ودفعا عن
حوزة التوحيد، وعليه تكون تلك الروايات ظاهرة أو منصرفة إلى ما ذكر، وعليه
تحمل رواية ابن القداح (1) عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام بعثني
رسول الله صلى الله عليه وآله في هدم القبور وكسر الصور.
ورواية السكوني (2) عنه قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله
إلى المدينة فقال: لا تدع صورة إلا محوتها، ولا قبرا إلا سويته ولا كلبا إلا قتلته،
فإن بعث رسول الله صلى الله عليه وآله أمير المؤمنين لذلك: دليل على اهتمامه به، والظاهر أن
الصور كانت صور إليها كل والأصنام ومن بقايا آثار الكفر والجاهلية، ولا يبعد أن يكون الكلب في الرواية الثانية بكسر اللام وهو الكلب الذي عرضه داء الكلب
وهو داء شبه الجنون يعرضه فإذا عقر انسانا عرضه ذلك الداء
وما في بعض الروايات (3) من نكتة نجاسة الكلب أن النبي صلى الله عليه وآله أمر بقتله
فهو سر التشريع على فرض ثبوت الرواية، وإلا فلم يأمر النبي صلى الله عليه وآله بقتل مطلق
الكلاب حتى كلاب الصيد والماشية، بل جعل لها دية كما أن ما في رواية السكوني (4)
عن أمير المؤمنين عليه السلام الكلب الأسود البهيم لا تأكل صيده لأن رسول الله صلى الله عليه وآله أمر بقتله
من سر التشريع فإن أمر النبي صلى الله عليه وآله بقتل الكلاب الغير المؤذية: بعيد جدا لا يمكن تصديقه،
وأما أن تكون الكلاب أو بعضها مورد تعظيم أناس وعبوديتهم بعيد، ولم ينقل
إلينا، وإن لا يبعد شئ من جهال الناس كما اتخذوا البقر والشيطان معبودا،
ولعل أمره بهدم القبور لأجل تعظيم الناس إياها بنحو العبادة للأصنام وكانوا يسجدون
عليها، كما يشعر به بعض الروايات الناهية عن اتخاذ قبر النبي صلى الله عليه وآله قبلة ومسجدا،

(1) الوسائل - كتاب الصلاة - الباب 3 - من أبواب أحكام المساكن - حسنة بجعفر بن
محمد الأشعري وفي سندها سهل والأمر فيه سهل
(2) الوسائل - كتاب الصلاة - الباب 3 - من أبواب أحكام المساكن - موثقة.
(3) الوسائل - كتاب الطهارة - الباب 12 - من أبواب النجاسات
(4) الوسائل - كتاب الصيد والذبائح - الباب 45 - من أبواب الصيد موثقة.
170

فعن الصدوق (1) قال: قال النبي صلى الله عليه وآله لا تتخذوا قبري قبلة ولا مسجدا، فإن الله
عز وجل لعن اليهود حيث اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ويشهد له بعد بعث رسول
الله صلى الله عليه وآله أمير المؤمنين لهدم القبور وكسر الصور لكراهة بقائهما وسيأتي جواز
اقتناء الصور المجسمات.
وأما على ما ذكرناه يكون الحكم على وجه الالزام كما يساعده الاعتبار وتؤيد ما
ذكرناه صحيحة عبد الله بن المغيرة (2) قال سمعت الرضا عليه السلام يقول قال قائل لأبي جعفر (ع)
يجلس الرجل على بساط فيه تماثيل فقال: الأعاجم تعظمه وإنا لنمتهنه (أي نحتقره)
وما عن أبي الحسن (ع) (3) قال: دخل قوم على أبي جعفر عليه السلام وهو على بساط فيه تماثيل
فسألوه فقال أردت أن أهينه، وفي رواية (4) قال جبرئيل إنا لا ندخل بيتا فيه تمثال لا يوطأ
فإن الظاهر أن التحقير والإهانة بالصور في مقابل تعظيم الأعاجم، لأنهم كانوا يعبدون
أصناما وتماثيل وكانوا يعتقدون أنها مثال أرباب الأنواع التي يعتقدون أنها وسائل
إلى الله تعالى وبالجملة لا تستفاد من تلك الروايات حرمة مطلق المجسمات فضلا
عن غيرها، بل هي مربوطة ظاهرا بعمل الأصنام وحفظ آثار الجاهلية وحفظ عظمتها
الموهومة، ولا يبعد القول بحرمتها مطلقا وحرمة اقتنائها لذلك ووجوب محوها.
وأما الطائفة الأخرى فالظاهر منها حرمة عمل المجسمات وهي ما دلت على
تكليف المصور بالنفخ، كمرسلة ابن أبي عمير (5) عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من مثل
تمثالا كلف يوم القيامة أن ينفخ فيه الروح، وقريب منها روايات أخر مستفيضة، لأن
الظاهر منها أن الأمر بالنفخ ليس لمطلق التعجيز بلا تناسب بل كأنه لم يبق من صورة
الحيوان شئ سوى النفخ، فإذا نفخ فيه صار حيوانا، وهو ظاهر في المجسمة ذات
الروح وليس مراد من يدعي أنها ظاهرة فيها، أن نفخ غير المجسمة أي الأعراض

(1) الوسائل - كتاب الصلاة - الباب 26 - من أبواب مكان المصلي - مرسلة معتمدة
(2) الوسائل - كتاب الصلاة - الباب 4 - من أبواب أحكام المساكن - الثانية مرسلة.
(3) الوسائل - كتاب الصلاة - الباب 4 - من أبواب أحكام المساكن - الثانية مرسلة.
(4) الوسائل - كتاب الصلاة - الباب 4 - من أبواب أحكام المساكن - الثانية مرسلة.
(5) الوسائل - كتاب الصلاة - الباب 3 - من أبواب أحكام المساكن.
171

محال، حتى يقال في جوابه تارة بأنه للتعجيز وهو مع الاستحالة أوقع، وأخرى
بامكان النفخ في الجواهر الموجودة في الصبغ، وثالثة إرادة تجسيم النقش مقدمة للنفخ،
ورابعة بامكان ذلك بملاحظة محله بل بدونها كأمر الإمام عليه السلام بالأسد المنقوش
على ما حكي إلى غير ذلك، فإنها أجنبية عن المدعى لأن المراد أن الظاهر المتفاهم
منها أن ما صنعه إذا نفخ فيه صار حيوانا معهودا، وهو لا يكون إلا في المجسمات.
ويؤيده أن المظنون بل الظاهر من بعض الروايات أن سر التحريم إنما هو
اختصاص المصورية بالله تعالى، وهو الذي يصور ما في الأرحام، وهو الله الخالق البارئ
المصور، فإذا صور انسان صورة ذي روح يقال له، انفخ فيها كم ا نفخ الله فيما صور ارغاما
لأنفه وتعجيزا، وهو أيضا يناسب المجسمة كما تشعر به أو تدل عليه الرواية المرسلة
المحكية عن لب اللباب للراوندي (1) وفيها، ومن صور التماثيل فقد ضاد الله
بناء على كون المضادة في مصوريته، فلا يكون في غيرها مضادة له، لأنه تعالى لم ينفخ
روحا في غير المجسمات، والحاصل أن الظاهر من تلك الطايفة هو حرمة عمل
المجسمة من ذي الروح لا غيره من سائر الصور المتقدمة، لقصور الأدلة عن اثبات
حرمتها، وأما ما تقدمت فلما عرفت.
وأما صحيحة محمد بن مسلم (2) قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن تماثيل الشجر
والشمس والقمر فقال: لا بأس ما لم يكن شيئا من الحيوان، التي ادعى الشيخ
الأنصاري (3) أنها أظهر من الكل: فلا ظهور فيها رأسا لعدم معلومية وجه السؤال
أولا، لاحتمال أن يكون السؤال عن اللعب بها كما في رواية علي بن جعفر (4) عن
أخيه موسى عليه السلام أنه سئل أباه عن التماثيل فقال: لا يصلح أن يلعب بها سيما مع

(1) المستدرك - كتاب التجارة - الباب 75 - من أبواب ما يكتسب به.
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 94 - من أبواب ما يكتسب به
(3) المكاسب - المسألة الرابعة من النوع الرابع مما يحرم الاكتساب به
(4) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 94 - من أبواب ما يكتسب به. مجهولة
بعبد الله بن حسن
172

ما ترى، من حمل السؤال المطلق على الاستفتاء من اللعب بها، أو عن اقتنائها أو عن
تزويق البيوت بها، أو عن جعلها في البيت أو مقابل المصلي كما في جملة من الروايات
ودعوى الانصراف إلى تصويرها ممنوعة.
بل يمكن أن يقال إن السؤال عن التماثيل إنما هو بعد الفراغ عن وجودها، فيكون
ظاهرا أو منصرفا إلى سائر التصرفات فيها، وعدم ظهورها في الحرمة ثانيا، وما يقال: إن
البأس هو الشدة والعذاب المناسبان للحرمة كما ترى، فإن استعمال لا بأس في نفي
المرجوحية والكراهة شايع، وعدم الاطلاق في ذيلها ثالثا، لأن تماثيل الشجر لو
اختصت بالمجسمات فاثبات البأس في الحيوان أيضا كذلك، ولو شملت بالاطلاق
النقوش والرسوم فلا يكون في عقد المستثنى اطلاق، لكون الكلام مسوقا لبيان
الصدور عقد المستثنى منه، لا الذيل.
ودعوى اختصاص السؤال بالنقوش بمناسبة عدم تعارف تجسيم الشجر وتالييه
(غير وجيهة) لامكان أن يقال: إن المتعارف في تلك الأزمنة: هو عمل الحجارى و
تصوير الأشياء بالحجر والجص بنحو التجسيم، وأما النقش والرسم فتعارفهما غير
معلوم، ولا أقل من عدم احراز تعارف ترسيم المذكورات دون تجسمها بنحو يوجب
الانصراف فانكار الاطلاق ضعيف جدا.
ومن بعض ما تقدم يظهر الكلام في رواية أبي بصير (1) عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: أتاني جبرئيل فقال: يا محمد إن ربك ينهى عن التماثيل، لعدم
معلومية متعلق النهي كما تقدم، ويظهر من بعض ما تقدم أيضا الكلام في رواية تحف
العقول حيث قال في الصناعات المحللة: وصنعة صنوف التصاوير ما لم تكن مثل
الروحاني، فإنه مضافا إلى ضعفها: في مقام بيان الصنوف المحللة لا المحرمة فلا اطلاق
في عقد المستثنى يشمل المجسمات وغيرها، وسيأتي بيان معنى المثل واحتمال أن يكون المراد بها الأصنام.

(1) الوسائل - كتاب الصلاة - الباب 3 - من أبواب أحكام المساكن - ضعيفة
يعلى بن أبي حمزة وقاسم بن محمد
173

وقد يقال إن أظهر ما في الباب هو رواية الحسين بن زيد (1) عن الصادق عليه السلام
عن آبائه في حديث المناهي وفيها، ونهى أن ينقش شئ من الحيوان على الخاتم، و
فيه مضافا إلى ضعف السند وعدم ذكر ألفاظ رسول الله صلى الله عليه وآله في تلك النواهي بل نقلت
نواهيه بنحو الاجمال، وهي مشتملة على المكروهات وغيرها فلا تدل على التحريم
لا لأن السياق مانع عن استفادته، حتى يقال مضافا إلى منع مانعيته إن نواهيه صلى الله عليه وآله
كانت متفرقة وإنما جمعها أبو عبد الله عليه السلام في رواية واحدة، بل لأن أبا عبد الله عليه السلام
لم ينقل ألفاظ رسول الله صلى الله عليه وآله وليس قوله: نهى عن كذا وكذا إلا اخبار على سبيل
الاجمال، ومن والواضح أن رسول الله صلى الله عليه وآله لم يقل في تلك الموارد إني أنهاكم عن
كذا وأنهاكم عن كذا إلى آخرها، بل كان له صلى الله عليه وآله نواهي مختلفة بألفاظ مختلفة
بعضها على سبيل التحريم وبعضها على سبيل التنزيه حكاها أبو عبد الله عليه السلام من غير ذكر
ألفاظه، فلا دلالة فيها على التحريم إلا في بعض فقراتها: إن المنهي عنه هو النقش
على الخاتم وهو أمر آخر غير التصوير الذي نحن بصدده، لامكان أن يكون النقش عليه
محرما أو مكروها، لا لحرمة التصوير بل لمبغوضية انتقاشه نظير النهي عن زخرفة
المساجد مثلا أو انشاد الشعر فيها.
وبهذا يظهر الكلام في رواية أبي بصير (2) عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وآله: أتاني جبرئيل فقال: يا محمد إن ربك يقرئك السلام وينهى عن تزويق البيوت
قال أبو بصير فقلت: وما تزويق البيوت فقال: تصاوير التماثيل ورواية جراح المدائني (3) عنه
عليه السلام قال لا تبنوا على القبور ولا تصوروا سقوف البيوت فإن رسول الله صلى الله عليه وآله كره ذلك
فإن النهي عن تزويق البيوت وتصوير السقوف لا يدل على حرمة التصوير كما أن
النهي عن البناء على القبور لا يدل على حرمة البناء أو كراهته وهذا واضح.

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 94 - من أبواب ما يكتسب به ضعيفة بشعيب بن
واقد وغيره
(2) الوسائل - كتاب الصلاة - الباب 3 - من أبواب أحكام المساكن - الأولى ضعيفة بعلي بن أبي حمزة وقاسم بن محمد والثانية ضعيفة بجراح المدائني
(3) الوسائل - كتاب الصلاة - الباب 3 - من أبواب أحكام المساكن - الأولى ضعيفة بعلي بن أبي حمزة وقاسم بن محمد والثانية ضعيفة بجراح المدائني
174

وربما يستدل على الاطلاق بموثقة أبي العباس (1) عن أبي عبد الله عليه السلام في
قول الله عز وجل يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل فقال: والله ما هي تماثيل
الرجال والنساء ولكنها الشجر وشبهه، (وفيه) أنها نقل قضية خارجية لم يتضح
أن التماثيل التي يعملون له هي المجسمات أو غيرها، ولا معنى لاطلاق قضية شخصية،
مضافا إلى أن التماثيل المذكورة على ما يظهر من مجمع البيان هي المجسمات
المعمولة من نحاس وشبه ورخام ونحوها، مع أن انكار أبي عبد الله عليه السلام لا يدل على
كونها محرمة على سليمان النبي عليه السلام بل لعلها كانت مكروهة عليه كراهة شديدة
لا يليق ارتكابها بمثل النبي، فالتمسك بها لاثبات المطلوب ضعيف جدا.
وأما رواية عبد الله بن طلحة (2) عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: من أكل السحت
سبعة إلى أن قال: والذين يصورون التماثيل، فمضافا إلى ضعفها، لا اطلاق فيها
لأنها في مقام العدو لا اطلاق فيها في المعدود كما مر نظيره، مع أن كون السحت
راجعا إلى بيعها أو عملها غير متضح، كما أن سحتية أجر العمل لا تلازم حرمته
لامكان أن يكون عدم التقابل بالمال لجهة أخرى (تأمل) وليست الرواية عندي
حتى أرى تتمتها وكيف كان لا يصلح مثلها لاثبات حكم كما لا تصلح لذلك رواية
الخصال (3) عن أمير المؤمنين عليه السلام إياكم وعمل الصور فإنكم تسئلون عنها يوم
القيامة لضعف سندها بل لا يبعد ظهور قوله: عمل الصور في عمل المجسمة وانصرافه
عن ترسيمها ونقشها.
فتحصل من جميع ذلك عدم قيام دليل صالح لاثبات حرمة غير المجسمات
من ذوات الأرواح، بل لقائل أن يقول: إن الأدلة على فرض اطلاقها وعمومها و
شمول مثل قوله: من مثل مثالا فكذا، ومن صور صورة فكذا، تماثيل جميع

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 94 - من أبواب ما يكتسب به.
(2) المستدرك - كتاب التجارة - الباب 75 - من أبواب ما يكتسب به - ضعيفة بعبد الله
بن طلحة.
(3) المستدرك - كتاب التجارة - الباب 75 - من أبواب ما يكتسب به
175

الموجودات، وأن ذكر النفخ فيها لمجرد التعجيز لا للتناسب، يوجب ذلك وهنا
على المطلقات والعمومات لأن عدم ذكر المتعلق فيها يدل على العموم، وهذه
العناوين أي التصوير والصورة والتمثال تصح إضافتها إلى كل موجود جسماني بل
وروحاني وكذا إلى أجزاء وأعضاء كل موجود. بل بعض أعضائه فيصدق تمثال الرأس
وصورة الرجل واليد والشجر وساقه وورقه وهكذا، فحينئذ يكون اخراج جميع
الموجودات كلا وبعضا عن العمومات والاطلاقات وابقاء الصور التامة للحيوان فقط
تحتها من التخصيص الكثير المستهجن، فيكشف ذلك عن قرائن حافة بها حين
الصدور خرجت بها عن الاستهجان والمتيقن هو حرمة المجسمات المدعي عليها
الاجماع، ودعوى الانصراف إلى خصوص الصور التامة أو خصوص صور الحيوانات
كما ترى.
نعم في رواية محمد بن مروان (1): من صور صورة من الحيوان يعذب
حتى ينفخ فيها وليس بنافخ فيها، لكنها ضعيفة لاشتراك ابن مروان وعدم ثبوت وثاقته،
فلا يمكن اثبات الحكم بها لكن الانصاف أن هذا الوجه قابل للمناقشة والله العالم.
فروع
الأول لا شبهة في حرمة تصوير الأصنام للعبادة بها لولا بقاء آثار السلف الفاجر
من غير فرق بين المجسمة وغيرها، ولا بين الايجاد التسبيبي والمباشري، ولا بين
صور الروحانيين وغيرها، ولا الحيوان وغيره، فلو عمل صورة بعض أرباب الأنواع
المتوهمة التي كانت مورد تعبدهم أو صورة شجرة كذائية: كان حراما مطلقا ولا
يجوز ابقائها واقتنائها، وذلك لما نعلم من مذاق الشارع الأقدس أنه لا يرضى ببقاء
آثار الكفر والشرك للتعظيم أو لحب بقاء آثارهما والفخر بها كما ترى من بعض
أولاد الفرس من الحرص على ابقاء الآثار القديمة المربوطة بالمجوس وعبدة
النيران.

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 94 - من أبواب ما يكتسب به - ضعيفة بمحمد بن
مروان وغيره.
176

وقد مر أن جملة من الأخبار راجعة إلى هذه الناحية فالفروع الآتية إنما هي
في غير تلك الصور الخبيثة، ولا ينافي ذلك لما قدمناه سابقا من تجويز بيع الصنم
الذي انقرض عصر عابديه وإنما يشتريه بعض الناس لحفظ الآثار العتيقة، لأن المنظور
في ذلك المقام جواز المعاوضة عليه إن كان المقصود مجرد ذلك لا حفظ شعار الأجداد
كما في المقام، كما لا ينافيه بعض الروايات الواردة في الوسائد المنقوشة بالنقوش
التي كانت الأعاجم يعظمهما لو كان المراد منها صور أرباب الأنواع ونحوها مما كانت مورد
تعظيمهم بعد ما لم يكن الحفظ للتعظيم بل للتحقير كما في الروايات أو لمجرد
استفادة التوسد والافتراش، فإن الأحكام تختلف بالجهات والحيثيات، هذا مع عدم
معلومية كون النقوش من قبيلها أو من سلاطينهم أو غير ذلك.
إذا عرفت ذلك فنقول: إن الظاهر من الأدلة هو حرمة تصوير الصور وتمثيل
المثال، وهما لا يشملان إلا للمصنوع بيد الفاعل مباشرة بمعنى صدور عمل التصوير
منه وبيده، كما كانت صنعة الصور كذلك في عصر صدور الروايات فلا يشملان لايجاد
الصور كيف ما كان، فلو فرضت مكينة صنعت لايجاد المجسمات وباشر أحد لاتصال
القوة البرقية بها فخرجت لأجلها الصور المجسمة منها: لم يفعل حراما ولم تدل
تلك الأدلة على حرمته، لعدم صدق تصوير الصور وتمثيل المثال عليه، فلو نسبا إليه
كان بضرب من التأويل والتجوز، فإن ظاهر من صور صورا أو مثل مثالا سيما في تلك
الأعصار صدور هما من قوته الفاعلة، فيكون هو المباشر لتصويرها، فكما أن قوله:
من كتب كتابا لا يشمل من أوجد الكتابة بالمطابع المتعارفة أو أخذ العكس منه،
فمباشر عمل المطبعة وأخذ العكوس ليس كاتبا ولا كتب شيئا كذلك صاحب المكينة
العاملة للصور، وكذا العكاس ليسا مصورين وممثلين للصور والمثل إلا بضرب من
التأويل والتجوز ولا يصار إليه إلا بدليل وقرينة من غير فرق بين العكوس المنطبعة
في الزجاجة والمنعكسة منها إلى الصحايف وإن كان عدم الصدق في الأول
أوضح.
نعم لو كان وجود شئ مبغوضا في الخارج كان ايجاده بأي نحو كذلك
177

لاتحاد الايجاد والوجود ذاتا وإنما اختلافهما بالاعتبار (تأمل) لكن لم يحرز في المقام
ذلك، بل سيأتي أن الأقوى جواز اقتناء الصور وعدم وجوب كسرها، فعليه لا دليل
على حرمة ايجادها بأي نحو كان، إلا أن يدعى أن ذلك المدعى لو تم في مثل قوله
من صور صورة أو مثالا لا يتم في مثل قوله: مثل مثالا، فإن الظاهر منه حرمة مثول
المثال وهو شامل للإيجاد، أو مخصوص به، أو يدعى إلغاء الخصوصية عرفا،
وفهم الايجاد التسبيبي من الأدلة بالقائها وهما أيضا محل اشكال ومنع، إلا الظهور
المدعى إنما هو لهيئة الفعل فإنها ظاهرة في الايجاد المباشري إلا مع قيام قرينة من
غير فرق بين الموارد، بل الظاهر من قوله من مثل صورة أو مثالا هو تصوير الصورة
وتمثيلها بقدرته وعلمه بذلك الصنع، والمباشر لاتصال القوة بالمكينة أو لالقاء
الجص في القالب ربما لا يكون مصورا وعالما بالتصاوير ولا قادرا عليه.
نعم في بعض الأحيان تقوم القرينة علي التعميم أو على التخصيص بغير المباشرة
وهو أمر آخر، وأما في مثل المقام الذي كان المتداول في التصوير والتمثيل تحصيلهما
بمباشرة اليد وقدرة الصنع، وربما يفعل بمثل المكائن والقوالب كما في هذا العصر
ولم يكن ذلك أيضا متداولا في تلك الأعصار حتى يكون التداول قرينة على إرادة
الأعم، فالظاهر من الأدلة هو النحو الأول والتعميم يحتاج إلى دليل وهو مفقود،
ودعوى إلغاء الخصوصية أيضا ممنوعة ولا أقل من الشك فيه (نعم) لو كان وجودها مبغوضا
كان الأمر كان ذكر ويأتي الكلام فيه، ولكن الاحتياط بتركه مطلقا لا ينبغي
أن يترك.
الثاني هل تلحق صورة الجن والشيطان والملك بالصورة الحيوانية أو لا،
قد يقال: إن مقتضى اطلاق الأدلة ذلك لكن يمكن انكار اطلاقها بأن يقال: العمدة
في الأدلة هو المستفيضة المشتملة على قوله: يكلف أن ينفخ فيها وليس بنافخ، و
أما غيرها فقد تقدم أن جملة منها مربوطة بعمل تماثيل إليها كل المعبودة، وجملة
أخرى لا اطلاق فيها، ولو وجد فيها ما له اطلاق فضعيف سندا، وأما المستفيضة المشار
إليها فالظاهر منها أن المحرم هو تمثال موجود يكون نحو ايجادها بالتصوير و
178

النفخ كالانسان وسائر الحيوانات، فمع تصوير صورة حيوانية وتتميم تصويرها و
بقاء نفخ الروح فيها ولو بنحو من المسامحة: كأنه تشبه بالخالق في مصوريته ما في
الأرحام فيقال له يوم القيامة أيها المصور انفخ فيها كما نفخ الله تعالى في الصور بعد تسويتها
وأما مثل الجن والشيطان والملك مما تكون كيفية ايجادها بغير التصوير
والتخليق التدريجيين وبغير التسوية والنفخ بل ايجادها بدعية دفعية سواء قيل
بكونها مجردة أم لا ولا يكون فيها نفخ روح كما في الحيوانات: فخارج عن
مساق تلك الأخبار التي هي المعتمدة في حرمة عمل المجسمات، لاستفاضتها واعتبار
اسناد بعضها كمرسلة ابن أبي عمير (1) هذا مضافا إلى أن المظنون بل الظاهر من
مجموع الروايات أن وجه تحريم الصور والتماثيل هو التشبه بالخالق جلت قدرته
في المصورية التي هي من صفاته الخاصة، والتصوير الخيالي من المذكورات ليس
تشبها به تعالى لأنه لم يصورها كذلك حتى يكون التصوير تشبها به، إلا أن يقال:
إنه صار شبيها به في مطلق التصوير وهو كما ترى، ولا يلزم مما ذكرناه الالتزام
بجواز تصوير حيوان غير موجود كالعنقاء مثلا أو مخلوق ذي رؤس عديدة لأنا
لا نقول: باختصاص الأدلة بالحيوانات الموجودة في الخارج، بل نقول باختصاصها
بما يكون موجوديته كموجودية الحيوانات بالتخليق والتصوير، والمذكورات ليست
كذلك، مع أن الالتزام بعدم الحرمة في بعض مصاديق مورد النقض ليس ببعيد وليس
بتال فاسد.
نعم يمكن التمسك برواية التحف لحرمة صور الروحانيين من الملائكة و
غيرها حيث قال فيها في تفسير الصناعات المحللة: وصنعة صنوف التصاوير ما لم يكن
مثل الروحاني، بدعوى أن الظاهر منها حرمة مطلق مثل الروحاني بل الظاهر
خروج الانسان والحيوانات منها فإن الروحاني ظاهر في موجود غلبت جهة الروح
فيه، والألف والنون، من زيادات النسب فالروحاني مقابل الجسماني.

(1) الوسائل - كتاب الصلاة - الباب 3 - من أبواب أحكام المساكن.
179

ففي رواية عن أبي عبد الله عليه السلام (1) أن الله خلق العقل وهو أو خلق من
الروحانيين قال المحدث المجلسي: يطلق الروحاني على الأجسام اللطيفة وعلى
الجواهر المجردة إن قيل بها، قال في النهاية في الحديث الملائكة الروحانيون
يروى بضم الراء وفتحها كأنه نسب إلى الروح والروح نسيم الريح والألف والنون
من زيادات النسب ويراد به أجسام لطيفة لا تدركه البصر (انتهى) وفي المجمع نحو
ما عن النهاية، وعن الجوهري زعم أبو الخطاب أنه سمع من العرب من يقول في النسبة
إلى الملائكة والجن بضم الراء والجمع روحانيون وزعم أبو عبيدة أن العرب تقوله
لكل شئ فيه الروح (انتهى) وكيف كان فالمتفاهم منه ولو انصرافا غير الحيوانات
بل والانسان، وإنما يطلق على علماء الشرايع بدعوى غلبة الجهات الروحية
فيهم كأنهم ليسوا من عالم الأجسام، فعليه تدل الرواية على حرمة تصوير الروحانيين
الغائبين عن الحواس مطلقا.
لكن يمكن المناقشة فيه بعد الغض عن سندها واغتشاش متنها، بأن الظاهر
من مجموعها صدرا وذيلا في تفسير الصناعات: أن المراد بمثل الروحاني مثل
هياكل العبادة، لأن المذكور في جميع فقرات الرواية من ملاك الحلية والحرمة:
هو كون الشئ صلاحا للعباد، أو كان فيه وجه من وجوه الصلاح، أو كون الشئ
فسادا محضا، أو فيه جهة فساد، وأن ما فيه جهة صلاح وجهة فساد لا يحرم إلا إذا
صرف في الفساد فيستفاد منها أن مثل الروحانيين التي فيها الفساد من جهة
عبادة الناس إياها وتعظيمها المنافية للتوحيد والتنزيه: محرم صنعتها، وأما ما
ينتفع الناس بها ولو في التزيين وسائر الأغراض العقلائية كتماثيل الموجودات
كانت روحانيين أم لا: فهي محللة.
وإن شئت قلت إن سائر فقرات الرواية حاكمة على تلك الفقرة ومفسرة
إياها، ويؤيد هذا الاحتمال ذكر الأصنام والصلبان في الضابطة التي ذكرت
مقابلة ضابط الحلية فقال: إنما حرم الله الصناعة التي حرام هي كلها التي

(1) البحار - كتاب العقل والجهل - باب علامات العقل وجنوده.
180

يجئ منها الفساد محضا نظير البرابط والمزامير والشطرنج وكل ملهو به و
الصلبان والأصنام وما أشبه ذلك من صناعات الأشربة الحرام إلى آخر فقراتها،
والانصاف أنها قاصرة عن اثبات الحرمة لمطلق صور الروحانيين وسيأتي
تتمة لفقه الحديث.
ثم على فرض تسليم دلالتها على حرمة مطلق مثل الروحاني فلا شبهة
في عدم شمولها للحيوان والانسان كما تقدم، وعليه يكون مقتضى الجمع بين
منطوقها وبين ذيل صحيحة ابن مسلم أن تصاوير غير الروحاني مكروه، ومقتضى
الجمع بين مفهوم الرواية ومنطوق الصحيحة حرمة تصوير الروحاني لأخصية المفهوم
منه، لكن الالتزام بكراهة غير الروحاني مخالف للاجماع والروايات المتضافرة،
ومقتضى الجمع بين الروايات ورواية التحف أن تصوير الروحانيين ومطلق الحيوان
محرم، لأن مفهوم رواية التحف أخص من منطوق صحيحة ابن مسلم فيقيده، ومفاد
الروايات المتقدمة المخصوصة بالحيوانات أخص من منطوق رواية التحف التي عد
فيها من المحللات جميع صنوف التصاوير عدا الروحاني فيقيد بها، فيصير حاصل
المجموع حرمة تصاوير ذوات الأرواح من الروحاني وغيره، لكن جميع ذلك فرع
جواز الاعتماد على رواية التحف لاثبات حكم وهو ممنوع، فعليه تكون حرمة تصوير
الروحانيين بلا دليل بل دلت صحيحة ابن مسلم على جوازه، بل لا يبعد دلالة رواية محمد
بن مروان عليه بناء على حجية مفهوم القيد في مثل المقام، لأن الحيوان مخصوص
أو منصرف إلى غير الملائكة والجن والشيطان بلا شبهة، بل لولا كون الحكم في تصوير
الانسان من المسلمات لكان للمناقشة فيه أيضا مجال، لانصراف الحيوان عنه أيضا،
والعلم بحرمة تصوير الانسان وعدم الفصل بينه وبين الحيوانات: لا يوجب كون المراد
من الحيوان ما هو مصطلح قوم أو مطلق ذي الروح أو كون ذكره في الأخبار لمطلق
التمثيل كما قربه السيد رحمه الله في حاشيته.
وأما ما قال: من أن المتعارف من تصوير الجن والملائكة ما هو بشكل واحد
من الحيوانات فيحرم من هذه الجهة بناء على عدم اعتبار قصد كونه حيوانا مع فرض
181

العلم بكونه صورة له (ففيه) مضافا إلى ما اختاره من اعتبار القصد في صور المشتركات
وليس ببعيد: أن الصور المتعارفة من تصويرهما ممتازة عرفا عن صور الحيوانات وإن
كانت شبيهة من بعض الوجوه بالإنسان، لكن العرف يريها غير صورة الانسان، ففرق
بين كون صورة للانسان أو لموجود آخر شبيه به. والصور المعمولة من قبيل الثانية،
وأما التشبث برواية أبي العباس ففيه ما لا يخفى، وقد تقدم الكلام فيها، فالأقوى
عدم الحرمة وإن كان الاحتياط لا ينبغي أن يترك، لاحتمال اطلاق بعض الأخبار أو فهم
المناط منها أو إلغاء الخصوصية، أو كون المراد بالحيوان مطلق ذي الروح ولو
لمناسبات أو غير ذلك.
نعم لو فرض ما صور يكون مثالا لحيوان أو الانسان فإن قلنا
بحصول التميز بينهما بالقصد كتميز سائر المشتركات كما لا يبعد: فيتبع
الحكم القصد، فلو قصدهما وقلنا بصدق العنوانين عليها أو قصد نفس الصورة الخارجية
بلا قصد عنوان وقلنا باطباقهما عليها أو قلنا بعدم اعتبار القصد والانطباق عليها
قهري: فالأقوى حرمتها من حيث انطباق عنوان الحيوان عليها في جميع الصور،
ولا يكون المورد من قبيل تزاحم المقتضيات ولا تعارض الأدلة، لأن الحكمين على
عنوانين بينهما عموم من وجه، أما على ما قلناه من امتياز الصور المتعارفة للملائكة
والجن عن صورة الحيوان والانسان: فواضح، وكذا على ما ذكره السيد الطباطبائي
من أن الصور المتعارفة من قبيل صورة الانسان لكنه تصور صورة غير حيواني للملائكة
والجن، وعلى أن تقدير بين العنوانين عموم من وجه، فحينئذ لا منافاة ولا مزاحمة
بين الدليلين، فعنوان صورة الملائكة حلال، وعنوان صورة الحيوان حرام، وانطباق
العنوانين بسوء اختيار المكلف، فالصورة الخارجية مجمع العنوانين ومحرمة من
حيث ومحللة من حيث أو حيثيات، من غير تزاحم أو تعارض نظير شرب الماء المغصوب،
فإنه من حيث شرب الماء ليس بمحرم، ومن حيث التصرف في مال الغير أو اتلافه حرام كما أن شرب المايع النجس المغصوب محرم من جهتين، فما في حاشية السيد المتقدم لا يخلو
من خلط واشكال.
182

نعم لو كان بينهما تلازم بمعنى عدم انفكاك صورة الملك عن صورة الحيوان
في المقام، ودل دليل بالخصوص على جواز تصوير الملائكة، ودليل على حرمة
تصوير الحيوان الذي يشترك معها في الصورة يقع التعارض بين الدليلين وهو خارج
عما نحن فيه ومجرد فرض، كما أنه لو فرض دليل على حرمة صورة مطلق الحيوان
ودليل على جواز صورة الملك ولا تكون صورته إلا صورة حيوان خاص: يخصص دليل
الحرمة بدليل الجواز الملازم لجواز تصوير الحيوان الذي تلازم صورته للملك.
الثالث لو اشترك اثنان أو أكثر في عمل صورة، فالظاهر قصور الأدلة عن اثبات
الحرمة لفعل كل من الفاعلين أو أكثر بعد عدم صدق عنوان: صور الصور أو مثل المثال
على واحد منهما بلا ريب، ضرورة أن التمثال والصورة عبارة عن مجموع الصورة الخارجية
والأجزاء لا تكون تمثالا لحيوان ولا صورة له، والفاعل للجزء لا يكون مصورا للحيوان،
من غير فرق بين اشتغالهما بتصويره من الأول إلى الآخر أو تصوير أحدهما نصفه و
الآخر نصفه الآخر، أو عمل واحد منهما الأجزاء وتركيب الآخر بينها، لعدم الصدق
في شئ منها، فإن الظاهر من قوله: من صور صورة كون صدور الصورة أي هذا
الموجود الخارجي الذي يقال له التمثال من فاعل، والفرض عدم صدورها منه و
هو نظير قوله: من قال شعرا أو من كتب سطرا أو من مشى من بلده إلى مكة،
واحتمال أن يكون المراد بهما أنه من أوجد هيئة الصورة أو هيئة المثال وهو صادق
على من أتمهما، إما باتيان النصف الباقي، أو بتركيب الأجزاء: بعيد عن ظاهر
اللفظ ومخالف للمتفاهم من الأخبار،
فإن قلت إن المراد من قوله من صور صورة أو مثل مثالا ليس الأشخاص
الخارجية بل المراد أشخاص الفاعلين، وفي المفروض أن الصورة صادرة من
فاعل مختار قاصد وهو مجموع الاثنين، فهما فاعل واحد ومصور واحد، وذلك
كما في قوله: من قتل نفسا ومن رد عبدي فله كذا فإنه صادق على الواحد
والاثنين، ولا يلزم منه استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد بتوهم أن المراد من
لفظة (من) كل شخص وكل شخصين وهكذا، وذلك لأن المراد كل شخص فاعل
183

فكأنه قال: كل فاعل، والفاعل يصدق على الاثنين والواحد بمعنى أن الاثنين فاعل
واحد فلا يكون مستعملا في الوحدات والاثنينات.
قلت إن الجمع بين العام الاستغراقي والمجموعي في كلام واحد وحكم
واحد: لا يمكن، فإن الاستغراق الملازم للانحلال يتقوم بعدم لحاظ الوحدة بين
الأشخاص، والعام المجموعي متقوم بلحاظها، ففي قوله: أكرم العلماء إن لم يلحظ
في تعلق الحكم وحدة الموضوع ولم يعتبر المجموع واحدا: ينحل إلى أحكام عديدة
حسب تعدد الأفراد، وإن لوحظت الوحدة والاجتماع يكون حكم واحد لموضوع
واحد، ولا يعقل الجمع بين المجموعي والاستغراقي أي لحاظ الوحدة وعدم لحاظها
هذا في المتعلق، وكذا الحال في المكلف ففي قوله: يا أيها الذين آمنوا أوفوا
بالعقود (1) أما أن لا يلاحظ كون المؤمنين نفسا واحدة، فيكون كل مؤمن مكلفا
بالوفاء، وأما أن يلاحظ ذلك، فلا يمكن الانحلال إلى أحكام كثيرة حسب تعدد
المؤمنين، لأن المكلف حينئذ يكون عنوانا واحدا هو مجموع المؤمنين
ففي ما نحن بصدده بعد ما كان كل فاعل مستقلا في فعله وفاعلا لجزء من الصورة، ولا يمكن
أن يكون الاثنان أو أكثر واحدا إلا مع اعتبار الوحدة.
إما أن تعتبر الوحدة في من يكون لفظة (من) كناية عنه أو لا، فعلى الأول لا يعقل
جعل الحكم استقلالا، وعلى الثاني لا يعقل جعله للمجموع، والجمع بينهما جمع بين
اللحاظين المتنافيين، ومجرد توهم جعل الحكم على الأشخاص الفاعلين أو على عنوان
الفاعل: لا يصحح ذلك فلو قال: الفاعل للصورة كذا يأتي فيه ما ذكرناه من الاشكال،
والمثالان المذكوران نقضا إلى قوله من قتل نفسا، وقوله من رد عبدي نظير ما نحن
فيه في عدم الامكان (نعم) قد تقدم قرينة على عدم الفرق بينهما وقد يعلم بحصول
المناط في الصورتين وهو أمر آخر.
ويمكن أن يناقش فيما ذكرناه ويقال إن (من) منطبق على الأفراد والوحدات
الحقيقية قهرا، وإذا لوحظ الاجتماع في الوحدات ينطبق على الوحدات الاعتبارية

(1) سورة المائدة - الآية 1
184

لأجل الاعتبار، كما في ادعاء كون الشجاع أسدا واطلاق الأسد على معناه فينطبق على
فرد الحقيقي والادعائي، ففي المقام لا يحتاج الانطباق على الأفراد الحقيقية إلى
لحاظ، والأفراد الاعتبارية إنما تحتاج إليه ولا يضر لحاظ الاجتماع لتحقق الأفراد
الاعتبارية زائدة على الأفراد الحقيقية بالانحلال، ففي الحقيقية يكون اللحاظ موجبا "
لتوسعة دائرة الانحلال لا للجمع بين اللحاظين المتنافيين، لكنه على فرض صحته
ثبوتا يحتاج إلى تكلف وتعسف وقيام قرينة وهي مفقودة في المقام، مع أن
كلمة (من) وأمثالها من قبيل المطلق لا العام فلا يردا بها الأفراد حتى يأتي
فيها ما ذكر.
نعم يمكن جعل الحكم للعنوان وايجاد أفراد اعتبارية له في التشريع بنحو
الحكومة لكنه يحتاج إلى اعتبار مستأنف، زائدا على مفاد الأدلة، وهو وإن كان غير
ممتنع لكنه غير ثابت، ضرورة أن الظاهر من الأخبار نحو قوله: من صور ومن مثل
هو الأشخاص الحقيقية لا الأعم منها والاعتبارية كما اعترف به صاحب المقالة المتقدمة
لكنه قال: إن المناط موجود فيما نحن فيه أيضا، وهو كما ترى لأن المناط غير
معلوم، وما يمكن أن يستشعر من الروايات، من أنه مضاد لله تعالى في مصوريته،
فيمكن أن يقال فيه، إن كل واحد من الفاعلين لم يفعل ما يضاد الله تعالى
فإنه تعالى مصور الصورة المنفوخة فيها، وكل من الفاعلين لم يفعل ذلك، والمجموع
منهما ليسا شخصا واحدا مضادا له تعالى، مع أن في كون المناط ذلك بحيث يكون
كالعلة في التعميم والتخصيص منعا، واسوء منه توهم إلغاء الخصوصية عرفا سيما مع
ما في الأخبار من أنه يؤمر بالنفخ الظاهر منه أن المصور شخص واحد بخصوصية كونه
مصورا وهي منفية في المقام.
وأما التشبث ببعض الأخبار لاثبات الحكم بالنسبة إلى الاثنين وأكثر كقوله
عليه السلام نهى عن تزويق البيوت (1) بدعوى أنه أعم من أن يكون صادرا عن واحد و
ما زاد، وكقوله عليه السلام وصنعة صنوف التصاوير ما لم تكن مثل الروحاني (2) وكقوله في

(1) الوسائل - كتاب الصلاة - الباب 3 - من أبواب أحكام المساكن.
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 2 - من أبواب ما يكتسب به.
185

صحيحة محمد بن مسلم ما لم يكن من الحيوان (1) وكقوله في تفسير قوله تعالى يعملون
ما يشاء (الخ): والله ما هي تماثيل الرجال والنساء (2) فإن ظاهره حرمة عملهم لها
ولو كان بالاشتراك، وبالجملة يظهر منها مبغوضية الصورة ولو صدرت من أكثر
من واحد.
(ففيه ما لا يخفى) لما تقدم أن الرواية الأولى راجعة إلى تزويق البيوت وأجنبية
عما نحن بصدده، مع امكان المناقشة في اطلاقها من الجهة المنظورة، لامكان أن يكون تزويق البيوت محرما على صاحب البيوت ولو بالتسبيب وإن لم يكن بعض
التصوير محرما على الفاعل (تأمل) وكيف كان لا يصح الاستناد إليها للمقام، و
الثانية أيضا أجنبية عن المقام كما تقدم ويأتي بعض الكلام فيها انشاء الله، مع أنها
بصدد بيان صنوف الحلال والحرام ولا اطلاق فيه ا من حيث الفاعل، وكذا صحيحة
ابن مسلم لما تقدم ويأتي، وأضعف منها التمسك برواية أبي العباس (3)، ضرورة
عدم معلومية الواقعة الخارجية ونفي تماثيل الرجال والنساء أجنبي عن الدلالة على
حرمة عملهم ولو بالاشتراك، وعدم دلالتها على حرمة ذلك على سليمان النبي عليه السلام
كما تقدم.
والانصاف عدم نهوض الأدلة لاثبات الحكم وإن كان الاحتياط في الدين
يقتضي التجنب عنه ولو بالاشتراك، لذهاب بعض الأساطين إلى حرمته، ومظنونية
تحقق المناط، وعدم رضى الله تعالى يكون الشخصين أيضا مشابها له في مصوريته، و
احتمال مساعدة العرف للتعدي والغاء الخصوصية واحتمال شمول رواية أبي بصير (4)
عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: أتاني جبرئيل فقال: يا محمد إن ربك ينهى

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 94 - من أبواب ما يكتسب به.
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 94 - من أبواب ما يكتسب به.
(3) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 94 - من أبواب ما يكتسب به. موثقة بابان
ابن عثمان.
(4) الوسائل - كتاب الصلاة - الباب 3 - من أبواب أحكام المساكن - ضعيفة بعلي
ابن أبي حمزة وقاسم بن محمد
186

عن التماثيل للمقام، بناء على أنها غير الرواية المتقدمة كما هو الظاهر، وبناء على أن النهي عن تصوير التماثيل إلى غير ذلك.
ثم إن الظاهر من حرمة تصوير الصور وتمثيل المثال حرمة الاشتغال بها إذا
انتهى إلى تحقق الصورة كما هو الظاهر من مثل قوله: لا تكتب سطرا، ولا تقل شعرا،
فإذا اشتغل بالكتابة والانشاء فعل حراما واشتغل به، مع اتمام السطر والشعر فلو بدا له
فلم يتمها أو منعه مانع: لم يفعل الحرام وإن كان متجريا علي المولي، وبالجملة ليس
المحرم تصوير الأجزاء، لأن الحكم متعلق بعنوان تصوير الصورة، وتصوير بعض
الأعضاء ولو بقصد الاتمام ليس تصوير الصورة، وليس المحرم هو الجزء الأخير فقط أو
حصول الهيئة، فإن الحكم لم يتعلق باحداث الهيئة حتى يقال: إن الجزء الأخير محققها
على تأمل فيه أيضا، بل الحكم متعلق بالتصوير المنطبق على تمام الأجزاء إلى حصول
الصورة كما أن المحرم في كتابة السطر تمام الأجزاء وإن شئت قلت: إن المحرم
هو العنوان الذي لا ينطبق الأعلى تمام الأجزاء (تأمل)
الرابع هل يجوز اقتناء الصور المحرمة أو يجب كسرها، قال الشيخ الأنصاري (1)
المحكي عن شرح الإرشاد للمحقق الأردبيلي أن المستفاد من الأخبار الصحيحة
وأقوال الأصحاب: عدم حرمة ابقاء الصور (انتهى) أقول: الحاكي صاحب مفتاح
الكرامة (2) عن مبحث لباس المصلي من شرح الإرشاد لكن فيه (3) ويفهم من الأخبار
الصحيحة عدم تحريم ابقاء الصورة وكذا الصورة في الخاتم، وليس فيه ذكر من أقوال
العلماء ولعله حكى عن نسخة أخرى غير المطبوعة، وما ذكره في ذلك المبحث لعله

المكاسب - المسألة الرابعة من النوع الرابع مما يحرم الاكتساب به.
(2) في القسم الرابع من المتاجر المحظورة فيما نص الشارع على تحريمه.
(3) أي في شرح الإرشاد - في المطلب الأول من المقصد الرابع من كتاب الصلاة
فيما يصلى فيه.
187

غير مناف لما ذكره في المقام حيث قال ما حاصله (1) تدل روايات كثيرة على جواز
ابقاء الصور مطلقا وهو يشعر بجوازه، ثم نقل بالروايات فقال بعد ثبوت التحريم
فيما ثبت يشكل جواز الابقاء، لأن الظاهر أن الغرض من التحريم عدم خلق شئ يشبه
بخلق الله وبقائه لا مجرد التصوير فيحمل ما يدل على جواز الابقاء على ما يجوز منها فهي
من أدلة جواز التصوير في الجملة على البسط والستر والحيطان والثياب وهي التي
تدل الأخبار على جواز ابقائها فيها لا ذو الروح التي لها ظل على حدتها التي
هي حرام بالاجماع (انتهى).
ويرجع كلامه إلى دعويين إحديهما أن ما دلت على تحريم التصوير تدل على
تحريم الابقاء، والثانية أن ما دلت على جواز الابقاء تشعر بجواز التصوير فصارتا
موجبتين لحمل الأخبار المجوزة للإبقاء على ما يجوز تصويره كتصوير غير ذي الظل
من ذوات الأرواح على البسط ونحوها، والأخبار المانعة عن التصوير على غيرها
مما يحرم ابقائها أيضا، وتقريب دعواه الأولى أن ما يتعلق به الأمر والنهي إن لم تكن من الماهيات التي لها بقاء بل حدوثها معانق لزوالها، فلا محالة يكون
النهي عن وجودها وايجادها بالمعنى المصدري وهما متحدان خارجا مختلفان اعتبارا،
وإن كانت من الماهيات التي لها بقاء وثبات في الخارج، فلا ينتقل ذهن العرف
والعقلاء من النواهي مثلا على أن المبغوض صرف هذا المعنى المصدري، وحاصله
أي الايجاد والوجود بل المتفاهم العرفي من الأوامر والنواهي المتعلقة بها،
أن تلك الماهية القارة الذات محبوبة أو مبغوضة له وإنما أمر بايجادها لمحبوبيتها
بوجودها المستقر المستمر ونهى عنها لمبغوضيتها كذلك ولا تنتقل الأذهان إلى الايجاد
والوجود بنحو الاستقلال كما لا تتوجه إلى احتمال أن يكون في نفس الأمر والنهي
مصلحة، وذلك لأن تلك العناوين التوسلية والتوصلية لا ينظر إليها استقلالا إلا مع
قيام قرينة أو مع لا بدية، فلو أمر المولى بايجاد شئ له البقاء كبناء الأبنية وغرس

(1) راجع شرح الإرشاد كتاب المتاجر - في القسم الرابع من المتاجر المحرم
فيما هو حرام في نفسه.
188

الأشجار وكتابة الكتب ونحوها: لا ينقدح في الأذهان منه أن نفس الايجاد المصدري
مطلوبة، لا الماهية المستقرة الوجود، وكذا لو نهى عن ماهية كذائية كعمل
الأصنام والصور وآلات اللهو والقمار، كما يظهر للمراجع إلى الأمثال والنظائر،
وعليه يكون المدعى هو التفاهم العرفي لا الملازمة العقلية حتى ينتقض ببعض الموارد
كما توهم الفاضل الإيرواني (1) نقضه بمثل الزنا، والنتيجة الحاصلة منه، فإنه حرام
مع وجوب حفظه حاصله. ولا ينقضي تعجبي من نقضه ومثاله الأجنبي عن المقام،
وأما انكار الشيخ الأنصاري (2) ذلك بقوله: إن الممنوع هو ايجاد الصورة وليس
وجودها مبغوضا حتى يجب رفعه: فإن رجع إلى نفي الملازمة عقلا فلا ينافي التفاهم
العرفي وهو كاف في المقام، وإن رجع إلى انكار فهم العرف فهو غير وجيه لمساعدة
العرف لما ذكر بالتقريب المتقدم، إلا أن قامت القرينة على خلافه، والانصاف أن
المدعى بنحو ما قررناه متين لا محيص عنه.
لكن يرد عليه بأن المقام مما قامت القرينة على أن المحرم والمبغوض هو
هذا المعنى المصدري لا الماهية بوجودها البقائي، وذلك لأن عمدة المستند في
المسألة كما تقدم هي المستفيضة المشتملة على الأمر بالنفخ، والظاهر منها بمناسبة
الحكم والموضوع أن الأمر به لأجل تعجيزه عن تتميم ما خلق وكأنه يقال له:
إذا كنت مصورا فكن نافخا كما كان الله كذلك، فيفهم منها أن الممنوع والمبغوض
هو التشبه به تعالى في مصوريته فهذا المعنى المصدري هو المنظور إليه، وبعبارة
أخرى أن المناسبة توجب عطف الأنظار إلى المعنى المصدري الذي لولاها لكان
غير منظور فيه مستقلا كما تقدم، وبما ذكرناه يظهر النظر في دعواه الأخرى وهي
أن جواز الابقاء مشعر بجواز التصوير فإنها أيضا موجهة لولا القرينة على خلافها.
ثم إنه على فرض تسليم ما ذكره المحقق الأردبيلي لو دل دليل ولو بعمومه أو

(1) في حاشيته على المكاسب - في ذيل قول الشيخ - وليس وجودها مبغوضا -
ص 22
(2) في المسألة الرابعة من النوع الرابع.
189

اطلاقه على جواز ابقاء المجسمات: لا يكون معارضا للروايات الدالة على حرمة
التصوير المستفاد منها حرمة الابقاء، ضرورة أن حرمة الابقاء المستفاد منها ليست
بدلالة لفظية أو ملازمة عقلية حتى ينافيها، بل لانتقال ذهن العرف من النهي عن
ايجاد تلك الماهية إلى أن الماهية بوجودها القار مبغوضة والنهي عن الايجاد توصلي
لكن لو ورد ما دل على جواز ابقاء التماثيل تنعطف الأذهان إلى أن المبغوض والمنهي
عنه هو العنوان المصدري.
وإن شئت قلت إن بين الأدلة جمع عقلائي، أو قلت إن تلك الاستفادة إنما هي
في صورة سكوت القائل فلا تنافي بين الأدلة. وأما الأخبار فعلى طائفتين:
إحديهما ما تتعرض للوسائد والستور والأثواب المصورات وهي كثيرة أو تشتمل على
نفي البأس إذا كانت التماثيل عن اليمين أو الشمال أو تحت الرجل حال الصلاة، كصحيحة
محمد بن مسلم (1) قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام أصلي والتماثيل قدامي وأنا أنظر إليها قال لا
اطرح عليها ثوبا ولا بأس بها إذا كانت عن يمينك أو شمالك أو خلفك أو تحت رجلك أو فوق
رأسك، وإن كانت في القبلة فالق عليها ثوبا وصل، ونحوها غيرها، فلا يبعد أن يستظهر
منها بمناسبات أن التماثيل غير المجسمات، وإن لا يبعد دعوى الاطلاق فيها أو في
بعضها، لاحتمال أن تكون المصورات فيها مختلفة من حيث التجسيم وغيره كما يتعارف
في أعصارنا، لكنه لا يخلو من اشكال وإن كان الاطلاق أظهر في مثل الصحيحة
(تأمل).
والطائفة الثانية ما يمكن دعوى الاطلاق فيها أو دعوى ظهورها في المجسمات.
فمنها صحيحة محمد بن مسلم (2) قال: سألت أحدهما عن التماثيل في البيت
فقال: لا بأس إذا كانت عن يمينك وعن شمالك ومن خلفك أو تحت رجليك، وإن
كانت في القبلة فالق عليها ثوبا، والظاهر أن السؤال عن وجودها في البيت، فأجاب
بعدم البأس إلا إذا كانت في القبلة فيلقى عليها الثوب، والقائه لأجل الصلاة، ومقتضى
عمومها عدم الفرق بين المجسمات وغيرها، وليس قوله: أو تحت رجليك قرينة

(1) الوسائل - كتاب الصلاة - الباب 45. من أبواب المصلي.
(2) الوسائل - كتاب الصلاة - الباب 45. من أبواب المصلي.
190

على الاختصاص بغيرها، ضرورة أن الطبيعة إذا كانت ذات أفراد مختلفة يمكن القاء
بعضها تحت الرجل: يصح أن يقال فيها ما ذكر، ألا ترى عدم الشبهة في شمول العموم
للصور المنقوشة على الجدران مع عدم امكان القائها تحت الرجل فلا اشكال في
عمومها.
وتوهم أن التماثيل في تلك الأعصار كانت غير مجسمات فالدليل منصرف عنها
(فاسد) لعدم احراز ذلك بل يمكن أن يقال: تلك الأعصار لأجل قربها بعصر صنعة
الأصنام المجسمات كانت فيها صنعة المجسمات متعارفة، مع أن قلة الأفراد لا توجب
الانصراف، مضافا إلى أن الدليل من قبيل العموم لا الاطلاق.
وأضعف منه توهم كون الدليل في مقام بيان حكم آخر وهو الصلاة في البيت
فلو قال: لو كان في البيت صنم أو آلة لهو هل يجوز الصلاة فيه فأجاب بعدم البأس:
لا يدل على جواز ابقائهما، وذلك لأن السؤال كما تقدم إنما هو عن التماثيل في البيت
والظاهر منه أن السؤال عن وجودها فيه، وقوله: إذا كانت بحذاء القبلة الق
عليها الثوب: لا يدل على أن السؤال عن الصلاة والظاهر أنه عليه السلام أجاب عن مسؤوله
مع شئ زائد فقال: لا بأس أي لا بأس بوجودها في البيت، وإذا كانت بحذاء القبلة الق عليها
الثوب لمكان الصلاة، فالانصاف أن المناقشة فيها في غير محلها.
وأما توهم أن تلك الرواية عين روايته المتقدمة آنفا فكما أنها في مقام بيان
حكم آخر فكذلك هي (ففيه ما لا يخفى) بعد كون ألفاظهما مختلفة والمسؤول عنه في
إحديهما أبو جعفر عليه السلام وفي الأخرى أحدهما، وبالجملة لا حجة على وحدتهما بعد
استفادة حكم زائد من إحديهما.
ومنها رواية علي بن جعفر عليه السلام أو صحيحته (1) عن أخيه موسى عليه السلام قال: وسألته
عن الدار والحجرة فيها التماثيل أيصلى فيها قال: لا تصل فيها وشئ منها مستقبلك
إلا أن لا تجد بدا فتقطع رؤسها وإلا فلا تصل، فإن عمومها شامل للمجسمات لو لم
نقل بأن الظاهر من قوله: فتقطع رؤسها: الاختصاص بها وهي كالصريحة في أن ابقائها

(1) الوسائل - كتاب الصلاة - الباب 45 - من أبواب لباس المصلي.
191

جائز في نفسه، فإن أمكنه الصلاة في محل آخر أبقاها على حالها وإن لم يجد بدا
فتقطع رؤسها للصلاة.
ومنها روايته الأخرى أو صحيحته (1) قال: وسألته عن البيت فيه صورة طير
أو سمكة أو شبهه، يلعب به أهل البيت، هل تصلح الصلاة فيه قال: لا حتى يقطع رأسه
أو يفسده، وإن كان قد صلى فليس عليه الإعادة، ولا يبعد ظهورها في المجسمات
لأن الظاهر منها أن أهل البيت كانوا يلعبون بنفس الصورة لا بشئ فيه ذلك، وهو
يناسب المجسمات، بل الظاهر من قوله فيه صورة طير أو سمكة: أن الصورة بنفسها
فيه، لا أن فيه شيئا على الصورة (تأمل) كما يشعر قوله: ويقطع رأسه بذلك أيضا، و
لو نوقش فيما ذكر فلا شبهة في اطلاقها فتشمل المجسمات، كما لا شبهة في تقريره للعب
أهل البيت بها، وتجويزه ذلك فجواز الابقاء واللعب بها مفروغ عنهما، وعليها
تحمل روايته الأخرى أو صحيحته (2) قال: وسألته عن رجل كان في بيته تماثيل
أو في ستر، ولم يعلم بها وهو يصلي في ذلك البيت ثم علم، ما عليه؟ فقال:
ليس عليه فيما لا يعلم شئ، فإذا علم فلينزع الستر وليكسر رؤس التماثيل،
ضرورة أن المفروض أن الرجل يصلي في ذلك البيت فالأمر بالنزع والكسر لمكان
الصلاة كما في سائر الروايات، لا للوجوب نفسا كما هو واضح سيما مع اقتران
الكسر بالنزع.
ومنها رواية المثنى (3) عن أبي عبد الله عليه السلام أن عليا عليه السلام كره الصور في البيوت،
ونحوها رواية حاتم بن إسماعيل عنه عليه السلام (4) ورواية يحيى بن أبي العلاء الموثقة
(5) بناء على كونه يحيى بن العلا كما قيل عن أبي عبد الله عليه السلام أنه كره الصور في
البيوت، والظاهر منها أن الكراهة إنما تعلقت بخصوص كونها في البيوت فلو كان
ابقائها محرما، لما يناسب ذلك التعبير كما هو واضح، كما أن الظاهر أن الكراهة

(1) الوسائل - كتاب الصلاة - الباب 45 - من أبواب لباس المصلي.
(2) الوسائل - كتاب الصلاة - الباب 45 - من أبواب لباس المصلي.
(3) الوسائل - كتاب الصلاة - الباب 3 - من أبواب أحكام المساكن - الأولى ضعيفة بمثنى والثانية ضعيفة بحاتم بن إسماعيل وغيره.
(4) الوسائل - كتاب الصلاة - الباب 3 - من أبواب أحكام المساكن - الأولى ضعيفة بمثنى والثانية ضعيفة بحاتم بن إسماعيل وغيره.
(5) الوسائل - كتاب الصلاة - الباب 3 - من أبواب أحكام المساكن - الأولى ضعيفة بمثنى والثانية ضعيفة بحاتم بن إسماعيل وغيره.
192

هي بالمعنى المعروف، ولا يبعد أن تكون لأحد وجهين على سبيل منع الخلو، أما
لأجل أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة كما ورد في روايات متضافرة، أن الملائكة
لا تدخل بيتا فيه صورة ولا بيتا فيه كلب (1) وفي بعضها ولا بيتا فيه بول مجتمع في
آنية (2) وفي بعضها ولا جنب (3) أو لأجل أن البيت معد للصلاة فيه ويكره وجود الصورة
في بيت يصلى فيه مطلقا، أو إذا كانت بحذاء القبلة.
وكيف كان يظهر من تلك الروايات جواز ابقائها وإن كانت مكروهة في
خصوص البيوت، ومقتضى اطلاقها عدم الفرق بين المجسمة وغيرها، ومما ذكرناه
يظهر الكلام في صحيحة زرارة (4) عن أبي جعفر (ع) قال: لا بأس بأن تكون
التماثيل في البيوت إذا غيرت رؤسها منها وترك ما سوى ذلك، فإن الظاهر أن
التقييد بالبيوت لما ذكرناه آنفا، فدالة على أن البأس فيها بلا تغيير مختص
بالبيوت فتشعر أو تدل على جواز الابقاء والاقتناء، وكذا في رواية علي بن جعفر
(5) عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال: سألته عن مسجد يكون فيه تصاوير وتماثيل
يصلى فيه فقال تكسر رؤس التماثيل وتلطخ رؤس التصاوير ويصلى فيه ولا بأس،
فإنها أيضا راجعة إلى الصلاة في مسجد فيه التصوير، ولا ينافي جواز ابقائها في غير
المسجد أو فيه في غير حال الصلاة، فالأمر بالكسر والتلطيخ لرفع البأس عن الصلاة
فيه، لا لحرمة ابقائها كما هو واضح.
فاحتمال أن تكون تلك الرواية شاهدة جمع بين الروايات وشاهدة على دعوى
المحقق الأردبيلي بأن يقال: إن الأمر بكسر رؤس التماثيل لكونها مجسمة،
وبتلطيخ رؤوس التصاوير لكونها غير مجسمة وإنما أمر بتلطيخها لأجل الصلاة فتشهد

(1) الوسائل - كتاب الصلاة - الباب 33 - من أبواب مكان المصلي
(2) الوسائل - كتاب الصلاة - الباب 33 - من أبواب مكان المصلي
(3) الوسائل - كتاب الصلاة - الباب 33 - من أبواب مكان المصلي
(4) الوسائل - كتاب الصلاة - الباب 4 - من أبواب أحكام المساكن - في سندها
إبراهيم بن هاشم وهو ثقة.
(5) الوسائل - كتاب الصلاة - الباب 32 - من أبواب مكان المصلي - مجهولة
بعبد الله بن حسن
193

الرواية بأن ما دلت على الكسر وقطع الرأس إنما هي في المجسمات، وما دلت
على جواز الابقاء والقاء ثوب مثلا عليها فهي في غيرها (غير وجيه) لما ذكرناه
من أن الكسر واللطخ إنما هما لرفع البأس عن الصلاة كما هو ظاهر الرواية، لا
لوجوبهما مطلقا، ومعه لا شهادة لها على المدعى بل يستشعر منها جواز الابقاء لو
لم نقل بدلالتها عليه.
ثم إنه قد تقدم في خلال الكلمات المتقدمة من أول البحث إلى ههنا الجواب
عما استدل بها على حرمة الاقتناء كالتشبث برواية أبي العباس في تفسير قوله تعالى
يعملون له ما يشاء (الخ)، ورواية القداح وغيرها من بعث رسول الله صلى الله عليه وآله أمير المؤمنين
في هدم القبور وكسر الصور، وصحيحة محمد بن مسلم النافية للبأس عما لا يكون
شيئا من الحيوان إلى غير ذلك.
وقد يستدل عليها برواية تحف العقول بوجهين:
أحدهما أن المستفاد من الحصر فيها أن الله تعالى ما حرم شيئا إلا ما يكون
فيه الفساد محضا، ولا شبهة في أن الانتفاع من الصورة الحاصلة بالتصوير كالاقتناء
والبيع والشراء ونحوها من منافع التصوير عرفا، ولهذا صح بذل المال بإزاء التصوير
بملاحظة الفوائد الحاصلة من الصورة الحاصلة، فلو كانت تلك المنافع محللة لما
حرم الله تعالى التصوير بمقتضى الحصر، وبعبارة أخرى أنها تدل على أن ما حرمه الله
يكون فيه الفساد محضا والفرض أن التصوير حرام فلا بد وأن لا يكون فيه منفعة
محللة كالاقتناء ونحوه.
وثانيهما أن المستفاد منها أن التصوير فيه الفساد محضا فيضم إلى
قوله: وكل ما منه وفيه الفساد محضا فحرام تعليمه وتعلمه وجميع التقلب فيه
من جميع وجوه الحركات، فيستنتج منهما حرمة جميع التقلبات، ومنها
الاقتناء.
(وفيه) مضافا إلى امكان أن يقال إن التصوير أمر والصورة الحاصلة منه شئ آخر
مستقل في الوجود فإذا كان التصوير محرما يكون فيه الفساد محضا ولا يجوز تعليمه
194

وتعلمه وأخذ الأجر عليه وسائر التقلبات فيه وهو غير مربوط بالصورة الحاصلة منه:
أن الظاهر من الرواية من أول تعرضها لتفسير الصناعات إلى آخرها بعد التأمل الأكيد
فيها، أن ما كان فيه الفساد محضا حرم الله تعالى جميع وجوه التقلب فيه كالبرابط و
المزامير ونحوهما مما ذكر فيها فإن قوله: وذلك أنما حرم الله (الخ) تعليل لكلامه
السابق الدال على أن ما فيه مصلحة للعباد كالأمثلة فيها حلال جميع تقلباته وإن كانت
تلك الصناعة قد يستعان بها على وجوه الفساد والمعاصي وتكون معونة على الحق و
الباطل، وذلك لأن المحرم من جميع الجهات وجميع التقلبات ما كان فيه الفساد
محضا والظاهر أن قوله: وما يكون منه وفيه الفساد محضا ولا يكون فيه ولا منه شئ
من وجوه الصلاح فحرام تعليمه وتعلمه والعمل به وأخذ الأجر عليه وجميع التقلب
فيه من جميع وجوه الحركات كلها: تفسير لما أجمل فيها أي قوله: إنما حرم الله
الصناعة التي حرام هي كلها التي يجئ منه الفساد محضا، ويكون المراد من هذه
الفقرة مقابل الفقرات السابقة، أن الصناعة التي هي حرام بجميع شؤونها هي التي
يجيئ منه الفساد محضا كالأمثلة المذكورة، فلا تدل الرواية على أن كل محرم يجيئ
منه الفساد محضا بل تدل على أن المحرم بجميع شؤونه هو ما يجئ منه الفساد محضا
فالكاشف أن الفساد المحض هو المحرم بجميع الشؤون لا المحرم في بعضها، و
عليه فلا تدل على مطلوبهم ولو كان الحمر حقيقيا.
هذا مضافا إلى أن الظاهر منها التعرض للصنايع التي نشأت الحرمة فيها عن
الفساد الكائن في المصنوع كالبرابط والمزامير وسائر الأمثلة المذكورة فيها، دون
ما كانت الصنعة محرمة لفساد فيها لا المصنوع كما في المقام حيث تكون الحرمة
متعلقة بالتصوير لفساد فيه لكونه تشبها بالله تعالى في مصوريته، وتشهد لما ذكرناه
فقرات الرواية سيما قوله: وما يكون منه وفيه الفساد (الخ)
ولعله مراد الشيخ الأنصاري (1) من أن الحصر إضافي، فلا يرد عليه ما في
تعليقة الطباطبائي من أن الحصر الإضافي يكفي في المقام، إذ يستفاد منه أن

(1) في المسألة الرابعة من النوع الرابع
195

عمل الصور الذي هو حرام ليس داخلا تحت ما فيه وجه الصلاح ووجه الفساد،
لأن ما كان كذلك ليس بمحرم بمقتضى الحصر، ومن المعلوم أنه ليس داخلا
فيما فيه الصلاح محضا فلا يبقى إلا أن يكون داخلا فيما فيه الفساد محضا
(انتهى) وذلك لأن الرواية ساكتة عن الصنعة التي ليس في متعلقها فساد فالحصر
إنما هو فيما تعرضت له لا غيره، فصنعة التصوير الذي يكون في نفسها فساد خارجة
عنها موضوعا، لكن الظاهر أن مراد الشيخ ليس ما ذكرناه كما يشهد به قوله: نعم
يمكن أن يقال إن الحصر وارد في مساق التعليل واعطاء الضابطة (الخ) الظاهر منه
تصديقه بأن الحصر لو كان حقيقيا يدل على المطلوب مع أنه على ما ذكرناه فالحصر
حقيقي ولا يدل عليه (فتدبر)
ومن بعض ما تقدم ذكره في معنى حديث تحف العقول: يظهر النظر في
كلام المحقق التقى في تعليقته (1) وهو أن الحصر إن كان حقيقيا يكشف عن عدم
تحقق مصداق يكون محرما ويجوز اقتنائه، وذلك لأن العام لا يصير مجملا بمجرد
احتمال وجود فرد للعام يعلم بخروجه عن الحكم على تقدير وجوده في الخارج
فإذا قال: أكرم جيراني وعلم أنه على تقدير وجود عدوله في جيرانه أنه لا يريد
اكرامه فإنه لا يوجب اجمال العام بل يحكم بوجوب اكرامه ويكشف حال الفرد
بأنه ليس عدوه ففيما نحن فيه إذا ثبت حرمة الاكتساب بالتصوير لكن لا يعلم أنه يجوز
سائر الانتفاعات به حتى خرج عن العام المستفاد من الحصر تخصيصا، لأن ذلك اثبات
لحرمة الاكتساب في غير ما يكون فيه الفساد محضا فيكون تخصيصا في العموم
المستفاد من الحصر، أو يكون مما يحرم جميع الانتفاعات به بعدم كون جهة صلاح
فيه فالمتعين الثاني عملا بأصالة العموم السليم عما يصلح للمعارضة (انتهى ملخصا)
وذلك لما عرفت أن مفاد الرواية بعد التأمل في مجموعها: هو أن كل ما يحرم
من جميع الوجوه، ففيه الفساد محضا، وكل ما كان فيه الفساد محضا، فهو
حرام من جميع الوجوه، لا أن كل حرام، ففيه الفساد محضا، فعليه يكون

(1) هو العلامة الميرزا الشيرازي الثاني رحمه الله
196

الحصر حقيقيا، ولا يستفاد منه الحكم المطلوب، ولا يكون المورد من قبيل
العام المذكور لو سلم في مورده جواز التمسك به لكشف حال الفرد،
بل قد عرفت أنها كما يظهر من فقراتها متعرضة لموضوعات فيها فساد
محض أو صلاح كذلك، أو فيها صلاح وإن تستعمل أحيانا في الفساد،
والحصر إن كان حقيقيا لا يوجب استفادة حكم خارج عن مدلول الكلام فكأنه قال:
الحرمة الناشئة من الموضوعات منحصرة بما فيها الفساد، والحرمة الناشئة من نفس
العمل كما في المقام خارجة عن مفادها موضوعا وهو لا يوجب إضافية الحصر.
ثم بعد جواز اقتنائها يكون بيعها وسائر التقلبات فيها جائزا على مقتضى
القواعد (توهم) دلالة رواية التحف على عدم الجواز، بدعوى أن المستفاد منها
أن الصورة المحرمة لا يجوز بيعها وشرائها وسائر التقلبات فيها خرج منها الاقتناء
وبقي الباقي (فاسد)، أما على ما ذكرناه في معنى الرواية من الوجهين فواضح، وأما
على ما ذكروه فلأن موضوع الحكم على عدم جواز جميع التقلبات هو ما يكون فيه
الفساد محضا والمفروض أن التصوير ليس كذلك لأن فيه جهة صلاح وهي الاقتناء.
وإن شئت قلت إن المقام ليس من قبيل العام المخصص حتى يقال: أنه حجة
فيما بقي، بل الحكم في الموضوعات مستفاد من ضم صغرى هي أن التصوير مثلا محرم
إلى كبرى هي أن كل محرم ففيه الفساد محضا فيستنتج أن الصورة فيها الفساد محضا
فيجعل صغرى لكبرى أخرى هي أن كل ما فيه الفساد محضا فحرام تعليمه وتعلمه و
جميع التقلبات فيه، فالصورة كذلك، فإذا دل الدليل على جواز الاقتناء خرج التصوير
عن عنوان الصغرى، ضرورة أنه بعد جواز الاقتناء لا يكون فيه الفساد محضا فلا تنطبق
عليها الكبرى فلا تستنتج النتيجة المطلوبة، ولعل ما ذكرناه هو مراد السيد في
تعليقته وكيف كان لا دليل على حرمة البيع وسائر التقلبات فيها كيفما كانت.
ثم إن أخذ الأجرة على التصوير المحرم غير جائز لأن الإجارة لذلك حرام و
فاسد لما ذكرناه فيما سلف، من أن الفعل المحرم الذي يجب على الناس منع الفاعل
عنه بأدلة النهي عن المنكر: لا يكون محترما ومالا ولهذا لا يضمن المانع عنه أجرة
197

المثل للعمل بلا شبهة، فلو منع مانع عبد غيره من عمل الصورة المجسمة لا يكون
ضامنا، فلا يكون ذلك العمل مالا لدى الشارع فلا يجوز أخذ الأجر عليه ويكون
الأخذ أكلا للمال بالباطل كما تقدم تقريره فراجع
المسألة الثانية في الغناء فقد اختلف الكلمات في ماهيته وحكمه، ففسر
بالسماع، وبالصوت، وبالصوت المطرب، وبالصوت المشتمل على الترجيع، أو هو
مع الاطراب، وبالترجيع، وبالتطريب، وبه مع الترجيع، وبرفع الصوت مع
الترجيع، وبمده، وبمده مع الترجيع والتطريب، أو أحدهما، وبتحسين الصوت،
وبحسنه ذاتا، وبمده وموالاته، وبالصوت الموزون المفهم المحرك للقلب، وبمد
الصوت المشتمل على الترجيع المطرب، أو ما يسمى في العرف غناء وإن لم يطرب،
وبالصوت اللهوي، وبألحان أهل المعاصي والكبائر، وبما كان مناسبا لبعض آلات
اللهو والرقص، وبالصوت المعد لمجالس اللهو، وبالصوت المثير لشهوة النكاح إلى
غير ذلك، وعن المشهور أنه مد الصوت المشتمل على الترجيع المطرب.
وقد تصدى العلم الفقيه الشيخ محمد رضا آل الشيخ العلامة الشيخ محمد تقي
رحمهما الله لتفسيره في رسالة لطيفة مستقلة (1) فقال: الغناء صوت الانسان
الذي من شأنه ايجاد الطرب بتناسبه لمتعارف الناس، والطرب هو الخفة التي
تعتري الانسان فتكاد أن تذهب بالعقل وتفعل فعل المسكر لمتعارف الناس أيضا.
ثم تصدى لتشييده بذكر مقدمة حاصلها، أن الغناء من أظهر مظاهر الحسن
ولأجله يطلبه من يطلبه فلا بد لبيان ناموس الحسن فأقول: الحسن وإن كان مما
تحير فيه العقول ويدرك ولا يوصف ولكنه في المركبات لا يخرج عن حد التناسب،
فأينما وجد فالتناسب سببه، فالخط الحسن ما تناسب واواته وميماته، والشعر
الحسن ما تناسب ألفاظه ومعانيه، ولا يوصف الحيوان بالحسن إلا إذا تناسبت
أعضائه، ولا يقال للوجه إنه جميل إلا إذا تناسبت أجزائه وهكذا، والصوت بين مظاهر
الحسن من أكثرها قبولا للتناسب فإذا كان الصوت متناسبا بمه، وزيره، وبزاته،

(1) هذه الرسالة غير مطبوعة.
198

ومده، وارتفاعه، وانخفاضه، واتصاله، وانفصاله: سمي بالغناء، وقد وضع لبيان
هذه النسب وأقسامها فن الموسيقى الذي هو أحد أقسام العلوم الرياضية، ويخص
في تناسب الآلات باسم الايقاع، والعود بينها ميزان الغناء يعرف به صحيح الغناء
من فاسده كما يعرف بالمنطق صحيح القضايا من فاسدها وعلى أوتارها الأربعة وكيفية
شدها والإصبع التي يضرب بها يعرف أقسام الغناء ثم قال وإذا أنشد الشعر على طبق
مقررات الفن، أوجب لسامعه إذا كان من متعارف الناس: الطرب الخارج عن المتعارف
حتى يكاد أن يفعل فعل المسكر فيصدر من الشريف الحكيم ما يأنف منه الأنذال
من أقوال وأفعال يشبه أقوال السكارى وأفعالهم، وفي كتب المحاضرات والتاريخ
نجد حكايات إن تأملتها علمت أن ولع الغناء بالعقل لا يقصر عن الخمر بل يربو عليه.
ثم قال: تقييد الصوت بصوت الانسان لمتابعة العرف فإن أصوات البلابل وإن تناسب
وأطربت لا يسمى غناء وبقيد التناسب يخرج ما أوجب الطرف بغيره من حسن الصوت اللغوي
ذاتا أو لحسن صاحبه أو لحسن ألفاظه ومعانيه ونحو ذلك، وبقيد المتعارف يخرج الخارج
عنه، فلا اعتبار بمن هو كالجماد كما لا اعتبار بمن يطرب بأدنى سبب كما أن الحال
كذلك في حد المسكر، وبقولي: تكاد أن تذهب بالعقل يخرج الطرب الخفيف
إذ لا اعتبار به كما لا اعتبار بالفرح والنشاط الحاصلين من بعض المشروبات المفرحة
ما لم يبلغ مرتبة يزيل العقل عن المتعارف، وبالجملة الطرف في الغناء كالسكر
في الشراب والعلة في تحريمه عين العلة فيه وهو إزالة العقل ثم تصدى لبيان عدم
الاختلاف في كلمات علماء اللغة في ذلك وأن مغزى الجميع واحد وإن اختلف التعبير.
ثم قال: وفذلكة القول: إن الغناء هو الصوت المتناسب الذي من شأنه بما هو
متناسب أن يوجد الطرب أعني الخفة بالحد الذي مر، فما خرج منه فليس من
الغناء في شئ وإن كان الصائت رخيم الصوت حسن الأداء وأحسن كل الاحسان ووقع
من سامعه أقصى مراتب الاستحسان، كما أنه من الغناء الصوت المتناسب وإن كان من
أبح ردئ الصوت ولم يطرب بل أوجب عكس الطرب كما قيل (إذا غناني القرشي *
دعوت الله بالطرش) فبين كل من الغناء والصوت المستحسن عموم من وجه وهو
199

محرم أيضا كالغناء الحسن لعموم الأدلة، إلا أن يدعى انصرافها إلى ما أوجب الطرف الفعلي
ولقد أحسن الشيخ قدس سره في قوله: ما كان مناسبا لبعض آلات اللهو والرقص
وكأنه تحاول ما ذكرناه، فإن النسب الموسيقية تنطبق على النسب الايقاعية و
لذلك يطابق أهل اللهو بينهما، وقد اعترض أستاد الصناعة على الرشيد بأن مغنيك
يغني بالثقيل وعوادك يضرب بالخفيف، فالصوت الخالي عن النسبة لا يكون غناء
وإن أوجب الطرب وقصد به اللهو، كما أن مجرد تحريك الأوتار لا يقال له ضرب
ولا يكون محرما، وكذلك مجرد تحريك الأعضاء لا يكون رقصا ما لم يكن على
النسب المعينة (انتهى ملخصا).
وإنما نقلناه بتفصيل أداء لبعض حقوقه ولاشتماله على تحقيق وفوائد، والانصاف
أن ما ذكره وحققه أحسن ما قيل في الباب وأقرب بإصابة الواقع وإن كان
في بعض ما أفاده مجال المناقشة، كانتهائه حد الاطراب بما يكاد أن يزيل بالعقل،
وأن العلة في الغناء عين العلة في المسكر، وذلك لعدم الشاهد عليه في العرف
واللغة، لصدق الغناء على ما لم يبلغ الأطراف ذلك الحد ولم يكن من شأنه ذلك
أيضا، فإن للغناء أقساما كثيرة ومراتب كثيرة غاية الكثرة في الحسن والاطراب،
فربما بلغ فيه غايته كما لو كان الصوت بذاته في كمال الرقة والرخامة وكان
الصائت ماهرا في البحور الموسيقية وكان البحر مناسبا له كالبحر الخفيف مثلا
فحينئذ لا يبعد أن يكون مزيلا للعقل ومهيجا للحليم وموجبا لصدور أعمال من
الشريف الحكيم ما لا يصدر من الأنذال والأرذال، وإن كانت القضايا المحكية عن
بعض أهل الكبائر كبعض خلفاء الأمويين والعباسيين لم يثبت كونها لمحض الغناء
فإن مجالس تغنيهم كانت مشحونة بأنواع الملاهي والمعاصي كشرب الخمور و
أنواع آلات اللهو والترقص وغيرها حتى القضية المعروفة من وليد لعنه الله مع مغنيه
لم يحرز كونها للغناء محضا، وربما لا يكون بتلك المرتبة كما لعله كذلك غالبا،
وكلمات اللغويين أيضا لا يساعده، لعدم تقييد مهرة الفن بحصول تلك المرتبة
بل هم بين من فسره بخفة تعتري الانسان لشدة حزن أو سرور أو خفة لسرور أو حزن.
200

نعم في المنجد. طرب اهتز واضطرب فرحا أو حزنا، ولعل مراده الاهتزاز
والاضطراب في الروح كما عن الغزالي تفسيره بالصوت الموزون المفهم المحرك للقلب
وأراد بالأول الخفة الحاصلة من السرور، وبالثاني الخفة الحاصلة من الحزن
فيوافق غيره.
ويرد عليه أيضا أن الظاهر منه في مقدمته وتحديده أن السبب الوحيد
للحسن في المركبات هو التناسب وأن الصوت بتناسبه موجب للطرب أو له شأنيته،
مع أنه مضافا إلى منافاته لما قال: إن من الغناء الصوت المتناسب وإن كان من أبح
ردئ الصوت ولم يطرب بل أوجب عكس الطرب ثم تمثل بقول الشاعر: فإن صريح
كلامه في الحد أن الغناء هو ما يكون مطربا، وصريحه ههنا أن من الغناء ما لم يطرب
بل أوجب العكس، (وتوهم) أن المراد بالثاني عدم حصوله بالفعل وإن كان
له شأنيته (فاسد) لأن صوت أبح ردئ الصوت لا شأنية له لايجاد الطرب بالحد
المذكور غالبا بل دائما، وأما صيرورته أحيانا موجبا للأضحوكة والفرح فلا يوجب
أن يكون مطربا كالغناء، لأن الطرب هو الخفة والحال الخاص الذي يحصل بالتغني
لا مطلق الفرح، مضافا إلى أنه لا يعتبر في الغناء مطلقا فعلية الطرب وعلى التوهم
المتقدم يلزم اعتبار الفعلية في نوع منه: أن كون السبب الوحيد في المركبات
هو التناسب ممنوع، ففي المقام لو لم يكن للصوت رقة ورخامة ولطف وصفاء ولو
في الجملة لا يصير بالتناسب حسنا كصوت القرشي المنكر الذي يدعو الله السامع
بالطرش.
وبالجملة الصوت المنكر الردئ لا يكون غناء عرفا وإن كان صائته من مهرة
الفن وأوجده بكمال التناسب، والظاهر أن تسمية القائل صوت القرشي غناء من
باب التهكم والاستهزاء كتسمية البخيل بحاتم والجبان بالأسد، بل لو كان صوت من
أبح ردئ الصوت مع تناسب يعلم به بعض المطربين والمهرة ويكون موجبا للطرب
والخفة: لا يكون غناء فإن بعض المطربين على ما حكى يكون بكيفية صوته مع
ردائته موجبا لتفريح الحضار وحصول للخفة لهم بالحد الذي ذكرا أكثر من المغني الذي
201

يكون بغناه موجبا له إلا أن يقال: إن الطرب الحاصل من الغناء غير الفرح الحاصل
من الصوت المذكور سنخا كما لا يبعد، وكيف كان ليس صوت مثل القرشي غناء سواء
حصل منه الطرب أم لا، وأما دعواه بأن مرجع جميع التعاريف إلى ما ذكره ففيها
ما لا يخفى بل يمكن أن يقال: إن ما ذكره غير موافق لواحد منها.
نعم الظاهر أن المراد بالسماع أو الصوت هو الاصطلاحي منهما لكنهما ليسا
تعريفا حقيقة كما لا يخفى، ورجوعهما إلى تعريفه محل اشكال يظهر مما ذكرناه و
نذكره، كما أن التوجيه الذي ارتكبه لكلام الشيخ الأنصاري أي قوله: ما كان مناسبا
لبعض آلات اللهو والرقص فالظاهر بل المعلوم غير وجيه، لعدم كون مراده من هذا
الكلام هو بيان تناسب النسب الموسيقية والايقاعية.
فالأولى تعريف الغناء بأنه صوت الانسان الذي له رقة وحسن ذاتي ولو في
الجملة وله شأنية ايجاد الطرب بتناسبه لمتعارف الناس، فخرج بقيد الرقة والحسن
صوت الأبح الردئ الصوت، وإنما قلنا له شأنية الاطراب، لعدم اعتبار الفعلية بلا
شبهة، فإن حصول الطرب تدريجي قد لا يحصل بشعر وشعرين فتلك الماهية ولو
بتكرار أفرادها لها شأنية الاطراب وهذا بوجه نظير ما ورد في المسكر بأن ما كان
كثيره مسكرا فقليله حرام فإن الحكم تعلق بالطبيعة التي من شأنها الاسكار ولا
ينافي عدم مسكرية قليلها، وماهية الغناء كذلك فلا ينافي عدم مطربية بعض مصاديقه
فعلا، وقيد التناسب، لأجل أن الصوت الرقيق الرخيم إن لم يكن فيه التناسب الموسيقى
لا يكون مطربا ولا غناء بل لا يتصف بالحسن حقيقة، فالمد الطويل لا يكون غناء و
لا مطربا ولو كان في كمال الرقة والرخامة، ولو قيل إنه حسن يراد به رقته ورخامته
وصفائه الذاتي، والتقييد بشأنية الطرب لمعرفية التناسب الخاص أي التناسب
الذي من واحد من الألحان الموسيقية، فهو في الحقيقة من باب زيادة الحد
على المحدود.
وبما ذكرناه تظهر الخدشة في الحد المنتسب إلى المشهور وهو مد الصوت المشتمل
على الترجيع المطرب، فإن الغناء لا يتقوم بالمد ولا الترجيع، ففي كثير من أقسامه
202

لا يكون مد ولا ترجيع ولعل القيدين في كلماتهم لأجل كون المتعارف من الغناء في
أعصارهم هو ما يكون مشتملا عليهما، فظن أنه متقوم بهما، كما أن المطربية الفعلية
غير معتبرة فيه بما مر وأن الصوت ما لم يكن فيه رخامة وصفاء ليس بغناء.
ثم إن ما ذكرناه في المقام هو تحصيل ماهية الغناء من غير نظر إلى ما كان
موضوعا للحكم الشرعي، ولعل موضوعه أعم أو أخص وسيأتي الكلام فيه، فتحصل
من ذلك أن الغناء ليس مساوقا للصوت اللهوي والباطل، ولا لألحان أهل الفسوق
والكبائر، بل كثير من الألحان اللهوية وأهل الفسوق والباطل خارج عن حده،
ولا يكون في العرف والعادة غناء، ولكل طائفة من أهل اللهو والفسوق والتغني
شغل خاص في عصرنا، ومحال خاصة معدة له، ولشغله وصنعته اسم خاص يعرفه أهل
تلك الفنون
ثم إن مقتضى كلمات كل من تصدى لتحديد الغناء أنه من كيفية الصوت أو
الصوت نفسه، وليست مادة الكلام دخيلة فيه، ولا فرق في حصوله بين أن يكون
الكلام باطلا أو حقا وحكمة أو قرآنا أو رثاء لمظلوم، وهو واضح لا ينبغي التأمل
فيه،
وأما حكمه فقد وردت روايات مستفيضة أو متواترة على حرمته وهي على طوائف:
منها ما وردت في تفسير قوله تعالى واجتنبوا قول الزور (1) بأنه الغناء،
كصحيحة هشام (2) عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله تعالى فاجتنبوا الرجس من الأوثان
واجتنبوا قول الزور قال: الرجس من الأوثان الشطرنج وقول الزور الغناء، وقد
فسر به في رواية زيد الشحام (3) وأبي بصير (4) وعبد الأعلى (5) وغيرهم، والظاهر
المتفاهم من عنوان قول الزور هو القول الباطل باعتبار مدلوله كالكذب وشهادة
الباطل والافتراء، والغناء كما عرفت من كيفية الصوت، أو الصوت، بكيفية،
وهو عنوان مغاير لعنوان الكلام والقول، وفسرت الآية بقول القائل للمغني
أحسنت في صحيحة حماد بن عثمان (6) عن أبي عبد الله عليه السلام، مع أن قول أحسنت

(1) سورة الحج - الآية 31.
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 99 - من أبواب ما يكتسب به - الثانية ضعيفة بدرست والثانية مجهولة بيحيى بن مبارك والثالثة ضعيفة بعلي بن أبي حمزة وغيره.
(3) تقدم آنفا تحت رقم 2.
(4) تقدم آنفا تحت رقم 2.
(5) تقدم آنفا تحت رقم 2.
(6) تقدم آنفا تحت رقم 2.
203

ليس بنفسه باطلا وزورا، وإنما أطلق عليه باعتبار تحسين الغناء، فيقع الكلام في كيفية
إرادة الكلام الباطل باعتبار مدلوله والغناء الذي صوت أو كيفيته بكلام واحد
وكذا كيفية إرادة قول القائل أحسنت من قول الزور، هل هي من قبيل المجاز
اللغوي المشهور مع استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد أي في معنى حقيقي ومجازي
بعلاقة كعلاقة الحال والمحل
أو من قبيل الحقيقة الادعائية على ما سلكناه في المجازات تبعا لبعض
مشايخنا رحمه الله (1) بمعنى استعمال قول الزور في معناه، وادعاء أن الغناء منه،
وكذا قول القائل للمغني أحسنت،
أو من قبيل اطلاق قول الزور وإرادة مطلق الباطل بنحو من الادعاء حتى يدخل
فيه المزامير والمعازف وغيرهما.
أو أراد من قول الزور القول المشتمل على الباطل مدلولا وعلى الغناء
جميعا حتى لا تدل الآية ولا الروايات المفسرة لها على حرمة الغناء بنفسه.
أو أراد بقول الزور القول المشتمل على الباطل، إما نحو اشتمال الكلام
على مدلوله، أو نحو اشتمال الموصوف على صفته وإضافة القول إلى الزور لاتحاده
معه اتحاد الصفة مع الموصوف، فالقول زور باعتبار اشتمال مدلوله على لباطل
وزور باعتبار صفته، وهو الصوت الخاص، فيكون الغناء مستقلا محكوما بوجوب
الاجتناب، والكلام المشتمل على الباطل بحسب مدلوله أيضا محكوم به، ولعل
هذا الاحتمال الأخير أو ما يرجع إليه مما تقدم أقرب الاحتمالات إلى ظواهر الأخبار
المفسرة كما اختاره بعض المدققين، لأن الظاهر منها أن قول الزور هو الغناء أو هو من قول
الزور، ومع قيام القرينة العقلية بأنه ليس من مقولة القول يدور الأسر بين رفع
اليد عن ظاهر جميع الأخبار المفسرة الدالة على أن الغناء الذي هو صوت خاص
هو قول الزور بتمام مصاديقه وحملها على قسم خاص متحقق مع كلام خاص مدلوله
الباطل والزور كما احتمله الشيخ واختاره (2)

(1) وهو العلامة الشيخ محمد رضا الأصبهاني - راجع كتابه الموسوم بوقاية الأذهان
(2) في المسألة الثالثة عشر من النوع الرابع مما يحرم الاكتساب به.
204

وبعبارة أخرى أن الظاهر من الأخبار هو أن الغناء تمام الموضوع لصدق
قول الزور عليه ومستعمل فيه، فعلى الاحتمال الذي رجحه الشيخ لا بد من رفع اليد
عن هذا الظاهر مع عدم حفظ ظهور الآية أيضا، فإن ظاهرها حرمة قول الزور والحمل
على الغناء بما ذكر حمل على غير مدلولها بحسب فهم العرف بل هو حملها على قسم
خاص منه (تأمل)، وبين حفظ ظهور الأحبار وحملها على الغناء بالمعنى الحقيقي
المعروف مع حفظ ظاهر الآية من حيث تعميمها بالنسبة إلى جميع الأقوال الباطلة
، وأن نعممهما لأمر آخر لم نعممها له لولا الأخبار، وهو إرادة الزور باعتبار الوصف
الحاصل له وهو الغناء،
والحاصل أنه بناء على ما رجحه الشيخ في معنى الآية بضميمة الروايات أن
الغناء ليس قول الزور ولا هو قول الزور، وأما على ما ذكرناه أنه هو لاتحادهما خارجا
وصدق أحدهما على الآخر بالحمل الشايع، ولو فرضت المناقشة فيما ذكرناه فلا
أقل من دخول الغناء تعبدا فيه، ومقتضى اطلاق الأدلة أنه بذاته وبلا قيد قول الزور.
نعم هنا اشكال آخر وهو أن قول الزوران كان مطلق الباطل المقابل للحق
والمراد بالباطل ما لا يكون فيه غرض عقلائي وما دخالة له في المعاش والمعاد: فلا
شبهة في عدم حرمته بهذا الاطلاق، وبهذا العرض العريض فيدور الأمر بين حفظ ظهور
هيئة الأمر في قوله: واجتنبوا قول الزور في الوجوب، وتقييد قول الزور بقسم
خاص وهو المحرمات الشرعية، فتكون الآية لبيان اجمال ما فصل في الشريعة من
المحرمات كقوله تعالى ويحرم عليهم الخبائث (1) بناء على أن المراد بها المحرمات
وبين حفظ اطلاق قول الزور وحمل الأمر على الرجحان المطلق، ولا ترجيح للأول إن لم نقبل أنه للثاني، لشيوع استعمال الأمر في غير الوجوب وبعد رفع اليد عن الاطلاق،
وعليه لأدلة للآية الكريمة ولا للأخبار الدالة على أن قول الزور الغناء على حرمته.
ويمكن أن يجاب عنه بأن سياق الآية وذكر قوله: واجتنبوا قول الزور في
تلو اجتنبوا الرجس من الأوثان: يوجب قوة ظهور في أن الأمر للوجوب سيما مع
اشعار مادة الاجتناب بذلك، فيصير قرينة على أن المراد من قول الزور ليس مطلق

(1) سورة الأعراف - الآية 156.
205

القول الباطل، مضافا إلى امكان أن يقال: إن قول الزور ليس مطلق القول الباطل
بالمعنى المتقدم بل باطل خاص عرفا كالكذب والافتراء والسخرية ونحوها فلا يقال
عرفا لمطلق القول الذي لا دخالة له في المعاد والمعاش أنه قول الزور بل لعله لا يكون باطلا
ويؤيده تفسير الآية بالأقوال المحرمة كالكذب وتلبية المشركين لبيك لا شريك لك
إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك وعن رسول الله صلى الله عليه وآله (1) أنه قام خطيبا فقال: يا أيها
الناس عدلت شهادة الزور بالشرك بالله ثم قرأ فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا
قول الزور، وهو مؤيد لما ذكرناه من السياق.
فتحصل من جميع ما تقدم أن الآية الكريمة بضم الروايات المفسرة: تدل
على حرمة الغناء بذاته إذا كان مقرونا بقول، وبالغاء الخصوصية عرفا يستفاد منها
حرمته مطلقا، ولو وجد في مهمل لا يقال له قول أو وجد في الصوت بلا كلام، بل يمكن
أن يقال: إن الغناء المتحقق في الكلام لا يقوم جميع قرعاته ورجعاته بالكلام بل
يقع كثير منها في خلاله وقبله وبعده، ولا شبهة في أن الصوت الكذائي بمطلق وجوده
غناء، فتدل الروايات على حرمته ولو بتلك القطعات الغير القائمة بالألفاظ، ولا شبهة
في عدم الفرق بين تلك القطعات المحرمة والصوت المتحقق بلا كلام إن كان غناء،
ومما ذكرناه يظهر الكلام في طايفة أخرى من الروايات وهي المفسرة لقوله
تعالى ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله ويتخذها هزوا أولئك
لهم عذاب مهين (2) كرواية محمد بن مسلم (3) عن أبي جعفر عليه السلام ولا يبعد أن تكون
موثقة قال: سمعته يقول: الغناء مما وعد الله عليه النار، وتلا هذه الآية ومن الناس
(الخ) وقريب منها روايات أخر، ووجه دخوله في لهو الحديث هو الوجه في دخوله

(1) المستدرك - كتاب الشهادات - الباب 6.
(2) سورة لقمان - الآية 5.
(3) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 99 - من أبواب ما يكتسب به - حسنة بعلي
بن إسماعيل وعدم البعد من أن تكون الرواية موثقة لأجل هذا الرجل.
206

في قول الزور.
نعم هنا كلام آخر وهو أن الظاهر من الآية أن لهو الحديث قسمان والمحرم
منه هو ما يشترى وتكون الغاية به اضلال الناس عن سبيل الله، وغاية ما تدل الروايات
هو كون الغناء داخلا فيها، ومقتضاه أن يكون الغناء قسمين محرم هو ما يوجب
الاضلال ومحلل هو غيره، ويمكن أن يقال: إن المراد بالاضلال عن سبيل الله ليس خصوص
الاضلال عن العقايد بل جميع الواجبات فعلا والمحرمات تركا من سبل الله وكل
شئ يوجب ترك واجب أو فعل محرم يكون صادا عن سبيل الله ومضلا عنه،
فلو تعلم أحد أحاديث لهوية ليحدثها على قوم يوجب تحديثها، ولو اقتضاء ترك
معروف أو فعل منكر يصدق عليه أنه اشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله
فحينئذ نقول: لولا الروايات المفسرة كان ظاهر الآية حرمة اشتراء لهو الحديث
أي الأخبار الموجبة بمدلولها لالهاء الناس واضلالهم عن سبيل الله، كما ورد في سبب
نزولها، أن النضر بن الحرث (1) كان يخرج إلى فارس فيشترى أخبار الأعاجم ويحدث
قريشا ويصرفهم عن استماع القرآن، فلم تكن شاملة للغناء الذي هو من كيفيات
الصوت ولا دخل له بمدلول الحديث ومضمونه، لكن بعد تفسيرها به وقلنا بدخوله
فيها بالتقريب المتقدم في الآية المتقدمة: يصدق على من تعلم الغناء للتغني أنه اشترى
لهو الحديث ليضل عن سبيل الله، أما لأنه بنفسه حرام وبإيجاد يخرج المغني و
السامع عن سبيل الله، وأما لأنه بذاته مع تجريده عن معاني الألفاظ ومع سماعه و
عدم فهم المعنى مما يترتب عليه ولو اقتضاء الصد عن سبيل الله والغفلة عن ذكر الله،
وربما ينجر به إلى فعل الكبائر وترك الواجبات كما عن النبي صلى الله عليه وآله الغناء رقية الزنا
(2) ومع العلم بأن ذلك من مقتضيات ذات الغناء وتعلمه للتغني: يصدق أنه تعلم للاضلال

(1) في تفسير مجمع البيان والكشاف وأبو السعود نضر بن حرث وفي تفسير البرهان
والمنهج والمقتنيات نضر بن حارث راجع المصادر المذكورة في تفسير قوله تعالى (ومن
الناس من يشتري الخ) سورة لقمان الآية 5.
(2) المستدرك - كتاب التجارة - الباب 78 - من أبواب ما يكتسب به.
207

أي تعلم ما يترتب عليه ذلك.
فلا يقال: إن التغني بالمواعظ والقرآن لا يترتب عليه ذلك، لأن هذا من
مقتضيات نفس الغناء لو جرد عن مداليل الألفاظ، والمفروض أن الغناء بذاته داخل
في الآية كما هو مفاد الأخبار، مع أن مقتضى اطلاق الأخبار أن مطلق الغناء داخل في
الآية وأوعد الله عليه النار، مع أنه قلما يتفق لشخص أن يكون غاية تعلمه للغناء أو
تغنيه الاضلال عن سبيل الله والصد عنه، فعليه يكون عد الغناء من الآية بنحو الاطلاق
على الاحتمال المتقدم في الاشكال كحمل المطلق على الفرد النادر جدا، فقوله:
الغناء مما أوعد الله عليه النار في الآية مع عدم دخوله فيها إلا ما هو نادر كالمعدوم
يعد مستهجنا قبيحا فلا بد وأن تحمل اللام على النتيجة أعم من كونها غاية أو لا،
فلا ينافي في ذلك ما ورد في شأن نزولها كقوله تعالى: فالتقطة آل فرعون ليكون لهم
عدوا وحزنا (1) وكقول الشاعر (لدوا للموت وابنوا للخراب)
والانصاف أن دلالة الطائفتين المتقدمتين على حرمة الغناء بذاته لا تأمل
فيها، وأما ما دلت على دخوله في قوله: والذين لا يشهدون الزور كصحيحة ابن
مسلم (2) عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله: والذين لا يشهدون الزور قال: هو الغناء ففي
دلالتها على الحرمة تأمل واشكال، ودلت على حرمته بذاته أيضا روايات كثيرة
ربما يدعى تواترها وسيأتي الكلام في بعضها كصحيحة ريان بن الصلت (3) قال:
سألت الرضا عليه السلام يوما بخراسان عن الغناء وقلت: إن العباسي ذكر عنك أنك ترخص
في الغناء فقال: كذب الزنديق ما هكذا قلت له سألني عن الغناء فقلت: إن رجلا
أتى أبا جعفر عليه السلام فسأله عن الغناء فقال: يا فلان إذا ميز الله بين الحق والباطل
فأين يكون الغناء قال: مع الباطل فقال: قد حكمت، والظاهر منها حرمته كما
يشهد به نحو التعبير فيها،
ونحوها في الدلالة أو أظهر منها رواية عبد الأعلى الموثقة على الأظهر (4)

(1) سورة القصص - الآية 7
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 99 - من أبواب ما يكتسب به.
(3) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 99 - من أبواب ما يكتسب به.
(4) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 99 - من أبواب ما يكتسب به.
208

قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الغناء وقلت: إنهم يزعمون: أن رسول الله صلى الله عليه وآله رخص في أن
يقال: جئناكم جئناكم حيونا حيونا نحييكم فقال: كذبوا أن الله عز وجل يقول:
ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين (الخ)، وكصحيحة علي بن جعفر (1)
عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال سألته عن الرجل يتعمد الغناء يجلس إليه قال:
لا، وفي رواية سعد بن محمد الطاطري (2) عن أبيه عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سأله
رجل عن بيع الجواري المغنيات فقال: شرائهن وبيعهن حرام وتعليمهن كفر و
استماعهن نفاق، والرواية إلى سعد موثقة بابن فضال، وعن الشيخ في العدة أن
الطائفة عملت بما رواه الطاطريون، وكصحيحة إبراهيم بن أبي البلاد (3) قال:
قلت لأبي الحسن الأول جعلت فداك أن رجلا من مواليك عنده جوار مغنيات قيمتهن
أربعة عشر ألف دينار وقد جعل لك ثلثها فقال: لا حاجة لي فيها، إن ثمن الكلب
والمغنية سحت، وسحتية ثمنها لأجل صفة التغني وكون الغناء حراما، وكحسنة
نضر بن قابوس (4) قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: المغنية ملعونة ملعون من أكل
كسبها، إلى غير ذلك.
ثم إنه ربما نسب إلى المحدث الكاشاني (5) وصاحب الكفاية الفاضل
الخراساني (6) انكار حرمة الغناء واختصاص الحرمة بلواحقه ومقارناته من
دخول الرجال على النساء واللعب بالملاهي ونحوها، ثم طعنوا عليهما بما
لا ينبغي، وهو خلاف ظاهر كلام الأول في الوافي ومحكي المفاتيح والمحكي عن
الثاني، بل الظاهر منهما أن الغناء على قسمين حق وباطل، فالحق هو التغني
بالأشعار المتضمنة لذكر الجنة والنار والتشويق إلى دار القرار، والباطل ما هو

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 99 - من أبواب ما يكتسب به.
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 16 - من أبواب ما يكتسب به.
(3) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 16 - من أبواب ما يكتسب به.
(4) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 15 - من أبواب ما يكتسب به.
(5) راجع مفتاح الكرامة في القسم الرابع من المتاجر المحظورة فيما نص الشارع على تحريمه.
(6) راجع مفتاح الكرامة في القسم الرابع من المتاجر المحظورة فيما نص الشارع على تحريمه.
209

متعارف في مجالس أهل اللهو كمجالس بني أمية وبني العباس قال في الوافي (1) ما
محصله: أن الظاهر من مجموع الأخبار اختصاص حرمة الغناء وما يتعلق به من الأجر
والتعليم والاستماع والبيع والشراء كلها بما كان على النحو المعهود المتعارف في
زمن بني أمية وبني العباس من دخول الرجال عليهن وتكلمهن بالأباطيل ولعبهن
بالملاهي من العيدان والقضيب وغيرها دون ما سوى ذلك كما يشعر به قوله عليه السلام
ليست بالتي يدخل عليها الرجال، ثم ذكر عبارة الإستبصار فقال: يستفاد من كلامه
أن تحريم الغناء إنما هو لاشتماله على أفعال محرمة، فإن لم يتضمن شيئا من ذلك
جاز وحينئذ فلا وجه لتخصيص الجواز بزف العرائس ولا سيما وقد ورد الرخصة به
في غيره، إلا أن يقال: إن بعض الأفعال لا يليق بذوي المروات وإن كان مباحا،
فالميزان حديث من اصغي إلى ناطق فقد عبده، وقول أبي جعفر عليه السلام إذا ميز الله
بين الحق والباطل فأين يكون الغناء، وعلى هذا فلا بأس بسماع التغني بالأشعار
المتضمنة ذكر الجنة والنار والتشويق إلى دار القرار إلى أن قال: وبالجملة لا يخفى
على ذوي الحجى بعد سماع هذه الأخبار تمييز حق الغناء من باطله، وأن أكثر ما
يتغنى المتصوفة في محافلهم من قبيل الباطل (انتهى).
وأنت خبير بأن ظاهر هذه العبارة بل صريحها صدرا وذيلا أن الغناء على
قسمين قسم محرم وهو ما قارن تلك الخصوصيات بمعنى أن الغناء المقارن لها حرام،
لا أن المقارنات حرام فقط ولهذا حرم أجرهن وتعليمهن والاستماع منهن، ولولا
ذهابه إلى تحريمه ذاتا لا وجه لتحريم ما ذكر، وقسم محلل وهو ما يتغنى بالمواعظ و
نحوها، فقد استثنى من حرمة الغناء قسما هو التغني بذكر الله تعالى كما استثنى
بعضهم التغني بالمراثي، وبعضهم التغني بالقرآن وبعضهم الحدي وبعضهم في العرائس،
وهذا أمر لم يثبت أنه خلاف الاجماع أو خلاف المذهب حتى يستوجب صاحبه الطعن
والنسبة إلى الخرافة والأراجيف، وقد اختاره النراقي في المستند (2) وبعض من تأخر عنه،

(1) كتاب المعايش والمكاسب - الباب 34 - من أبواب وجوه المكاسب المجلد 10
(2) في الفصل الثاني فيما يحرم التكسب ا ب‍؟ من المقصد الثالث من كتاب المطلق
الكسب والاقتناء في الغناء ص 343 -.
210

كما لا يستوجبه من استثنى القرآن وغيره، فالصواب أن يجاب عنه بالبرهان
كما صنع الشيخ الأنصاري (1)
فالأولى النظر إلى ما يمكن أن يستدل به على هذا
التفصيل.
فمنها دعوى قصور الأدلة على اثبات حرمة مطلق الغناء لعدم الاطلاق فيما تدل
على الحرمة، وعدم الدلالة عليها فيما يمكن دعوى الاطلاق فيها كقوله: الغناء شر
الأصوات والغناء غش النفاق ونحوهما (وفيه) أنه لا قصور في اطلاق كثير من الروايات
كالروايات المفسرة لقول الزور بالغناء (2) وقد تقدم كيفية دخوله في الآية والقول
بمعارضة تلك الأخبار لما فسره بقول أحسنت للمغني، وبما فسره بشهادة الزور،
لأن الحمل يقتضي وحدة معناهما، وما عرفت يدل على أنه غيره قد عرفت الجواب
عنه في بيان الأخبار المفسرة لها، مضافا إلى أن الحمل يقتضي الاتحاد ولو وجودا
فلو كان الغناء من مصاديقها يصح الحمل ويقال: إنه الغناء أو أن الغناء هو، فلا
تعارض بين الأدلة المفسرة، ولا يجوز رفع اليد عن الاطلاق بعد امكان أن يكون
الكل مندرجا فيه ولو لم نعلم وجهه، بل لا يجوز الغض عن الاطلاق ولو لم يندرج
فيه أو لم نعلم اندراجه، لامكان الالحاق حكما وكالأخبار المفسرة للهو الحديث
فإنها أيضا مطلقة بلا اشكال.
والقول بأن الغناء الخاص الذي يشتري ليضل عن سبيل الله ويتخذها هزوا
داخل فيها لا غير: قد عرفت الجواب عنه، ولزومه للاستهجان في الأخبار الدالة
على أن الغناء مما أوعد الله عليه النار بقوله: ومن الناس من يشتري (الخ) فلا ينبغي
الشبهة في اطلاقها، وكالمحكي عن الرضا عليه السلام بطرق عديدة منها ما رواه الصدوق
صحيحا عن الريان بن الصلت الثقة (3) قال: سألت الرضا عليه السلام يوما بخراسان

(1) في المسألة الثالثة عشر من النوع الرابع.
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 99 - من أبواب ما يكتسب به
(3) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 99 - من أبواب ما يكتسب به
211

عن الغناء وقلت إن العباسي (1) ذكر عنك أنك ترخص في الغناء فقال: كذب الزنديق
ما هكذا قلت له سألني عن الغناء فقلت إن رجلا أتى أبا جعفر عليه السلام فسأله عن الغناء فقال: يا فلان
إذا ميز الله بين الحق والباطل فأين يكون الغناء قال: مع الباطل فقال: قد حكمت
وتقريب الدلالة أن الظاهر من انكار الرضا عليه السلام الترخيص أن قول أبي جعفر
عليه السلام يدل على حرمته، وإلا فلو دل مقالته مع السائل بأن الغناء من الباطل الجائز
الارتكاب ولو مع حزازة: فنقل السائل عنه تجويزه نقلا بالمعنى فلم يمكن انكاره
عليه، فالانكار دليل على عدم كون الغناء مرخصا فيه في كلام أبي جعفر عليه السلام
وكان الرضا عليه السلام مستدلا على حرمته بقوله: وروى السائل خلافه كذبا عليه، ولا
شبهة في اطلاق الرواية. ومنه يظهر الجواب عما يمكن أن يقال: بأن التكذيب
راجع إلى عدم ترخيص أبي الحسن عليه السلام أو عدم ترخيصه بقول مطلق، فإن المراد
بالترخيص ليس نحو قوله: أنت مرخص فيه، بل ما يستفاد من كلامه، ولا شبهة في أنه لو لم يدل كلام أبي جعفر عليه السلام على التحريم لما قال الرضا عليه السلام: إنه كذب، و
الفرض أن كلامه مطلق، والانصاف أن انكار دلالتها في غير محله.
والعجب من النراقي حيث قال (2) إن الباطل لا يفيد أزيد من الكراهة و
مع ذلك قال: إن تكذيبه ليس للمنع بل لذكره خلاف الواقع، وذلك لأن ذكر ما يدل
على كراهته في مقام الجواب ترخيص له فأين خلاف الواقع حتى يصح التكذيب سيما
مع هذا التعبير الشديد ومنها رواية عبد الأعلى الحسنة الموثقة (3) فإن عبد الأعلى
هو ابن أعين وقد عده الشيخ المفيد من فقهاء أصحاب الصادقين والأعلام والرؤساء
المأخوذ عنهم الحلال والحرام والفتيا والأحكام الذي لا يطعن عليهم ولا طريق إلى
ذم واحد منهم ولا اشكال في إفادته التوثيق كما عن المحقق الداماد الجزم بصحة
رواياته قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الغناء وقلت إنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله

(1) في مرآة العقول (العياشي) وزاد بعد الزنديق الديوث (منه)
(2) راجع المستند - كتاب الكسب والاقتناء - في الفصل الثاني فيما يحرم
التكسب به من المقصد الثالث في الغناء
(3) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 99 - من أبواب ما يكتسب به.
212

رخص في أن يقال: جئناكم جئناكم حيونا حيونا (1) نحييكم فقال: كذبوا إن الله
عز وجل يقول: وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين لو أردنا أن نتخذ لهوا
لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق
ولكم الويل مما تصفون ثم قال: ويل لفلان مما يصف. رجل لم يحضر المجلس. وهي تدل
على حرمة الغناء بمثل تلك العبارة الغير اللهوية الغير الباطلة بل الشريفة على نسخة حيونا
ولو لم يكن محرما كان رخصه رسول الله صلى الله عليه وآله فلم ينكره أبو عبد الله عليه السلام ذلك
الانكار مع التمسك بالآية الدالة على قذف الله الحق بالباطل ليدمغه وتعقيبه بقوله:
ويل لفلان مما يصف.
والظاهر أن المراد به رجل غايب كان ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله الترخيص
فيه فلا شبهة في دلالتها على الحرمة ولا في اطلاقها لقول حق أو باطل، ومنها
صحيحة علي بن جعفر عن أخيه (2) قال سألته عن الرجل يتعمد الغناء يجلس إليه
قال: لا، إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة فلا مجال لانكار اطلاقها.
ومنها دعوى انصراف الأدلة إلى الغناء المتعارف المعهود في زمن بني أمية
وبني العباس كما هو من متمسكات الكاشاني والخراساني في جملة من كلامهما،
(وفيه) مضافا إلى عدم مجال لهذه الدعوى في بعض الروايات كصحيحة علي بن
جعفر الأخيرة الظاهرة في المنع عن الجلوس عند من يتغنى من غير أن يكون هنا
معاصي أخر كالمزامير وغيرها كما هو ظاهرها وكحسنة عبد الأعلى الدالة على أن التغني
بمثل ألفاظ التحية أيضا حرام ومن الباطل وهي مفسرة لسائر الروايات أيضا وشارحة
للمقصود من كون الغناء باطلا بأنه بذاته باطل ولهو وزور لا بملحقاته وبمدلول
الكلام المعروض له بل يدفع بها توهم الانصراف في سائر الروايات أيضا لحكومتها
على غيرها وتعميمها لو فرض الانصراف للحكومة كما لا يخفى على المتأمل: أن
كون غالب أفراده ما يتعارف في عصر الخبيثتين من اشتمالها على محرمات أخر

(1) وفي مرآة العقول جيئونا جيئونا نجيئكم والظاهر صحة ما في الوسائل (منه)
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 99 - من أبواب ما يكتسب به.
213

ممنوعة، كيف؟ وأن التغني بالأشعار عند الناس كان متعارفا في كل عصر، وربما
يتفق معه سائر المحرمات، وكون المتعارف عند سلاطين الطائفتين أو الأمراء في
عصرهم وسائر الأعصار ذلك: لا يوجب أن يكون نوع التغنيات كذلك حتى يدعى
الانصراف.
مضافا إلى أن كثرة أفراد طبيعة في قسم لا توجب الانصراف فإن الاطلاق
عبارة عن الحكم على طبيعة من غير قيد، فلا بد في دعوى الانصراف من دعوى كون
الكثرة والتعارف وأنس الذهن بوجه تصير كقيد حاف بالطبيعة وهو في المقام
ممنوع سيما في مثل مقارنات الطبيعة لا مصاديقها وأصنافها، مضافا إلى أن اللازم
من دعوى الانصراف إلى أشباه ما تتعارف في عصر الأمويين والعباسيين
الالتزام بتخصيص تحريمه بما يكتنف بجميع ما يتعارف في مجالسهم الملعونة من
دخول الرجال على النساء وشرب الخمور وارتكاب الأفعال القبيحة والفواحش وضرب
أنواع الملاهي والتلهي بالأشعار المهيجة المورثة لإثارة الشهوات ورقص الجواري
والغلمان إلى غير ذلك، ومع فقد بعضها يقال بالجواز، فلا وجه لتجويز خصوص ما
يكون من قبيل التغني بالقرآن والفضائل لقصور الأدلة، بناء عليه عن اثبات حرمته
ولو مع الأشعار الملهية والمهيجة لكون المتعارف في عصرهم أخص منه، ولا
أظن التزامهم به، فدعوى الانصراف كدعوى عدم الاطلاق في الضعف.
ومنها التمسك بروايات عمدتها صحيحة أبي بصير (1) قال: قال أبو عبد الله
عليه السلام أجر المغنية التي تزف العرايس ليس به بأس وليست بالتي يدخل عليها الرجال
كذا في الوسائل عن المشايخ وفي الفقيه (2) لكن في مرآة العقول (3) ليست
بسقوط (الواو)، بدعوى أن قوله: وليست بالتي (الخ) مشعر بالعلية أو دال عليها،
فتدل على أن المحرم قسم منه وهو المقارن للمعاصي كدخول الرجال على النساء (وفيه)

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 15 - من أبواب ما يكتسب به.
(2) الجزء الثالث من كتاب من لا يحضره الفقيه - باب المعايش والمكاسب والصناعات -
الحديث 20 -
(3) كتاب المعيشة - الباب 37 - كسب المغنية وشرائها.
214

أن في الرواية على نسخة اثبات الواو احتمالات، كاحتمال أن تكون الجملة حالية عن فاعل
تزف والمعنى أن أجر المغنية حلال إذا تزف العرائس ولم يدخل الرجال على النساء وأن
تكون الجملة بمنزلة التعليل فتدل على عدم حرمة الغناء بذاته ويحرم أجر المغنية
لا للغناء، بل لدخول الرجال وسماع صوتها ورؤية وجهها وسائر حركاتها الملازمة له،
وأن يكون المراد بها إفادة حرمة قسم من الغناء وهو المقارن لدخول الرجال عليهن.
فعلى الاحتمال الأول تدل على استثناء قسم خاص منه، وهو الذي في العرائس
مع الشرط المذكور.
وعلى الثاني تكون الرواية معارضة لجميع الأدلة على أن الغناء حرام و
مخالف مضمونها للاجماع.
وعلى الثالث توافق كلام الكاشاني وموافقيه على اشكال وهو أن الظاهر
من قوله: وليست بالتي (الخ) كون دخولهم عليهن بعنوانه موضوع الحكم،
لا عنوانا مشيرا إلى نوع خاص من الغناء أو مجالس خاصة، وهم لا يلتزمون بظاهر
الرواية، ولا وجه لحملها على خلاف ظاهرها، ولا ترجيح ظاهر في أحدا الاحتمالات
المتقدمة يمكن الاتكال عليه لو لم نقل بترجيح الأول حتى يلتئم بين الأدلة، أو الاحتمال
الثاني في نفسه لولا مخالفته لما ذكرنا، لأن الظاهر من قوله: لا بأس وليست بالتي يدخل
عليها الرجال: أن الفساد مترتب عليه وليس في الغناء بما هو فساد ولعل الحرمة
في دخولهم لأجل كونهم أجنبيا يحرم التغني عندهم لا لذات الغناء.
والانصاف أن طرح الأدلة الظاهرة الدلالة بمثل هذه الرواية المشتبهة المراد مع
اختلاف النسخ: غير جائز، سيما مع مخالفة مضمونها لجميع الأقوال سواء في ذلك
نسخة اثبات الواو واسقاطها، مع احتمال أن تكون هي عين رواية أخرى لأبي بصير
(1) قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن كسب المغنيات فقال: التي يدخل عليها الرجال حرام.

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 15 - من أبواب ما يكتسب به - ضعيفة بعلي
بن أبي حمزة.
215

والتي تدعى إلى الأعراس ليس به بأس وهو قول الله عز وجل ومن الناس من يشتري لهو الحديث
ليضل عن سبيل الله، التي يدعى دلالتها على أن قسما منه حرام، وهو المقارن لدخول
الرجال على النساء والتي تدعى إلي الأعراس، فعدم حرمته ليس لخصوصية فيها
بل لعدم دخولهم عليهن فيكون الحكم دائرا مداره
(وفيه) مضافا إلى ورود بعض ما تقدم من الاشكالات عليها أيضا ككون الظاهر أن الحكم دائر مدار عنوان دخول الرجال ومع عدمه يحل ولو بكلمات لهوية
ومقارنات محرمة ولم يلتزم به القائل: إن الظاهر منها التعرض لقسمين من الغناء وعدم
تعرضها لسائر الأقسام وليس فيها مفهوم وإلا لتعارض بين مفهوم الصدر والذيل،
وجعل الجملة الثانية كناية عن عدم دخولهم عليهن خلاف الظاهر، فلا تدل على
مدعاهم بوجه (نعم) فيها اشعار به لا يقاوم الروايات الدالة على أنه بذاته حرام
كصحيحة علي بن جعفر المتقدمة وحسنة عبد الأعلى بل وغيرها بعد تفسيره في
رواية عبد الأعلى.
وقد يقال إن الظاهر من رواية علي بن جعفر (1) عن أخيه عليه السلام قال سألته عن الغناء
هل يصلح في الفطر والأضحى والفرح قال: لا بأس ما لم يعص به، والمروي عن تفسير الإمام
عن النبي صلى الله عليه وآله (2) في حديث طويل ذكرت فيه شجرة طوبى وشجرة الزقوم والمتعلقون
بأغصان كل واحدة منهما قال ومن تغنى بغناء حرام يبعث فيه على المعاصي فقد تعلق
بغصن منه أي من الزقوم: أن الغناء على قسمين محلل ومحرم، فإن كان المراد من
محرمه هو ما يقترن بالمعاصي ثبت عدم حرمته بنحو الاطلاق، وإن كان المراد
منه غناء نهى عنه الشارع يكون عنوانا مجملا فيكون العمومات والاطلاقات مخصصة
ومقيدة بالمجمل والعام المخصص والمطلق المقيد به ليس حجة.

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 15 - من أبواب ما يكتسب به - مجهولة بعبد
الله بن حسن
(2) نقله صاحب المستند في الفصل الثاني فيما يحرم التكسب به من المقصد الثالث
من كتاب مطلق الكسب والاقتناء في الغناء
216

(وفيه) بعد تسليم المقدمات أن ذلك مسلم لو لم يعلم بأن الغناء على قسمين و
لم يتبين قسم الحلال من الحرام، وأما في المقام الذي علم أن له قسما محللا هو
الغناء في العرائس كما يأتي فلا يوجب قوله في تفسير الإمام اجمالا هذا بالنسبة
إليها مع ضعفها سندا ويأتي الكلام في رواية علي بن جعفر
وأما التشبث بما اشتملت على كلمة مجلس أو بيت، كرواية الحسن بن هارون (1)
قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: الغناء مجلس لا ينظر الله إلى أهله (الخ)، و
صحيحة زيد الشحام (2) قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: بيت الغناء لا تؤمن فيه الفجيعة
ورواية إبراهيم بن محمد عمن ذكره (3) عنه عليه السلام وفيها لا تدخلوا بيوتا الله معرض
عن أهلها بعد السؤال عن الغناء، لتأييد اختصاص حرمته بنوع خاص منه (ففيه ما
لا يخفى من الوهن) لعدم المفهوم فيها، وعدم دلالتها على الاختصاص، وعدم دلالتها
على اقترانه بغيره من المحرمات (نعم) فيها اشعار به، كما أن التشبث بأن ظاهر
الأدلة دخول الغناء في اللهو والباطل ونحوهما وهي غير محرمة بنحو الاطلاق فلا
دليل على حرمته: قد تقدم الجواب عنه في خلال ما تقدم الكلام في الأدلة،
فتحصل من جميع ذلك حرمة الغناء بذاته فلا بد من التماس دليل على الاستثناء.
ويمكن أن يقال باستثناء أيام الفرح منه كعيد الفطر والأضحى وسائر الأعياد
المذهبية والملية، لصحيحة علي بن جعفر (4) عن أخيه موسى عليه السلام قال: سألته عن
الغناء هل يصلح في الفطر والأضحى والفرح قال: لا بأس به ما لم يزمر به، والظاهر أنها عين الرواية المتقدمة إلا أن فيها ما لم يعص به وربما يحتمل أن يكون ما
لم يزمر به في الأولى مصحفا عن ما لم يؤزر به: وهو غير بعيد، فيكون إحديهما نقلا
بالمعنى، وفي نسخة يؤمر به، وهي خطأ، وكيف كان فالظاهر أن علي بن جعفر كان
عالما بحرمة الغناء لكن لما كانت أيام العيد والفرح مناسبة للتلهي والتفريح

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 99 - من أبواب ما يكتسب به الأولى ضعيفة بحسن بن هارون وغيره.
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 99 - من أبواب ما يكتسب به الأولى ضعيفة بحسن بن هارون وغيره.
(3) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 99 - من أبواب ما يكتسب به الأولى ضعيفة بحسن بن هارون وغيره.
(4) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 15 - من أبواب ما يكتسب به.
217

في الجملة صارت موجبة لشبهته، ويحتمل أن يكون وجه حصول الشبهة صحيحة أبي
بصير (1) المروية عن أبي عبد الله عليه السلام في تجويز أجر المغنية في الأعراس، فاحتمل
أن سائر أيام الفرح والأعياد كذلك فسئل عنه فيها، فأجاب عليه السلام بعدم البأس ما لم
يعص به أو ما لم يزمر به، وبعد عدم جواز حمل ما لم يعص به على ظاهره فإنه من
توضيح الواضح: فيه احتمالات، أبعدها ما احتمله الشيخ الأنصاري (2) وهو أن
المراد بالسؤال الصوت الحسن الأعم من الغناء المحرم، وبالجواب تجويز قسم منه
وهو ما ليس بغناء، وتحريم قسم وهو الغناء.
والانصاف أن هذا الحمل يساوق الطرح، ولعل ما دعاه إلى هذا الحمل البعيد
بنائه على تعارضها مع الروايات الكثيرة المستفيضة أو المتواترة فرأى أن التصرف
فيها أوهن من رفع اليد عنها، مع أن بينها وبين الروايات جمع عقلائي وهو حمل
المطلقات عليها وتجويز الغناء في أيام الأعياد المقتضية للسرور والفرح، فقوله: ما لم يعص
به أي ما لم يكن سببا لمعصية، أو ما لم يقترن بها، أو ما لم يتحد معها، كما لو كان التغني
بالفحش والكذب ونحوهما من المحرمات، وبالجملة الظاهر المتفاهم منها أن الغناء
في الأعياد وأيام الفرح لا بأس به بذاته ما لم يقترن بمعصية، وهو بوجه نظير ما ورد في بعض
الروايات من رفع القلم في بعض الأعياد، والمراد به أيضا على فرض صحته ما يناسب
أيام العيد والسرور كالتغني والتلهي لا مطلق المعاصي،
والظاهر أن المراد بقوله: ما لم يزمر به، ما لم يتغن في المزمار من زمر أو
زمر من التفعيل غنى بالمزمار، فتدل على جواز الغناء في الأعياد دون المزامير مع
احتمال أن يكون ما لم يؤزر فتوافق الأولى، لكن يشكل العمل بها لعدم قائل ظاهرا
باستثنائه فيها بل عدم نقل احتماله من أحد مع بعد تجويزه في العيدين الشريفين
المعدين لطاعة الله تعالى والصلاة والانقطاع إليه تعالى كما يظهر من الأدعية و
الأذكار والعبادات الواردة فيهما وفي الأعياد المذهبية بل بعض الأعياد الملية، وضعف

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 15 - من أبواب ما يكتسب به.
(2) في المسألة الثالثة عشر من النوع الرابع.
218

الرواية المشتملة على قوله ما لم يعص به بعبد الله بن الحسن المجهول وإن كان
كثير الرواية عن علي بن جعفر، والظاهر إتقان رواياته، وعن الكفاية أنه مروي
في قرب الإسناد للحميري باسناد لا يبعد الحاقه بالصحاح (1) وإن قال بعض المدققين (2)
ما رأيت ذلك في الكفاية في باب الغناء والمكاسب، وفي كتاب القضاء والشهادات،
وكيف كان لم يصل الاعتماد عليها بحد يمكن تقييد الأدلة سيما تلك المطلقات
المستفيضة بها، والرواية الأخرى صحيحة لكن قوله: ما لم يزمر به يحتمل وجوها،
منها ما تقدم، ومنها ما احتمله الشيخ الأنصاري أي لم يرجع به ترجيع المزمار،
أو لم يتغن به على سبيل اللهو، أو لم يقصد منه قصد المزمار، وليس ظهورها في
الأول معتدا " به، أمكن معه تقييد المطلقات الكثيرة فالأحوط بل الأقوى عدم استثناء
أيام العيد والفرح.
وأما المراثي والقراءة بالقرآن فربما يقال: باستثنائهما، واستدل عليه
بعمومات أدلة الابكاء والرثاء وقرائة القرآن بدعوى أن التعارض بينها وبين أدلة
حرمة الغناء من وجه ومقتضى القاعدة تساقطهما والرجوع إلى الأصل، ومقتضى ذلك
توسعة الجواز بكل مورد ينطبق عليه أو يلازمه عنوان مستحب كاكرام الضيف وادخال
السرور في قلب المؤمن وقضاء حاجته بل توسعة نطاقه إلى سائر أبواب الفقه فيقال:
بمعارضة كل دليل في المستحبات مع أدلة المحرمات إذا كان بينهما عموم
من وجه كالمقام بل يأتي الكلام في أدلة المكروهات مع الواجبات والمحرمات، وأنت
خبير بأنه مستلزم لفقه جديد واختلال فيه، ولم يختلج ذلك التعارض والعلاج في
ذهن فقهاء الشريعة، وليس مبنى فقه الاسلام على نحوه، وهو كاف في فساد هذا التوهم.
نعم لا بأس ببيان سر عدم وقوع التعارض بين أدلة المستحبات والمحرمات،
يظهر من الشيخ الأنصاري فيه وجوه وإن يترائى من تعبيراته أنه بصدد بيان
وجه واحد.

(1) الناقل عن الكفاية هو الشيخ الأعظم.
(2) هو العلامة الميرزا الشيرازي الثاني رحمه الله.
219

منها، أن مرجع أدلة الاستحباب إلى ايجاده بسبب مباح لا المحرم ويحتمل
أن يكون مراده منه انصراف أدلته إلى ايجاده بطريق مباح وكيفية مباحة، فلا تكون
مقدمته محرمة، ولا ينطبق عليه عنوان محرم، وهذا التعميم يظهر من التأمل في
كلامه، ويحتمل أن يكون مراده إهمال أدلته، فلا اطلاق فيها بالنسبة إلى مورد المحرم.
ومنها، ما ذكره في مقام بيان السر وحاصله أن أدلة المستحبات تفيد أحكاما
نحو الحكم الحيثي فلا ينافي طر وعنوان آخر من الخارج يوجب لزوم فعله أو تركه،
وبعبارة أخرى أن دليل المستحب يدل على استحباب شئ لو خلى ونفسه أي مع خلوه عما
يوجب لزوم أحد طرفيه.
ومنها، ما ذكره بقوله: والحاصل أن جهات الأحكام الثلاثة أعني الإباحة و
الاستحباب والكراهة لا تزاحم جهة الحرمة والوجوب، فالحكم لهما مع اجتماع
جهتيهما مع إحدى الجهات الثلاث.
وهذه الوجوه لا ترجع إلي واحد، لأن مبنى تزاحم المقتضيات على اطلاق الأدلة
وفعليتها وهو ينافي الوجهين الأولين، ومبنى انصراف الأدلة أو اهمالها غير مبنى كون
الحكم حيثيا غير فعلي، فكأنه أجاب عن الاستدلال؟ بواحد منها أو بأن حال أدلة المستحبات
لا تخلو من واحد منها.
(وفيه) أن دعوى إهمال جميع أدلتها في غاية البعد بل مخالفة للواقع ولظواهر
الأدلة، كما أن دعوى الانصراف في الجميع كذلك، ولا يمكن اثباتها سيما بعد كون
متعلق الأحكام في باب المطلقات نفس الطبايع من غير نظر إلى أفرادها
فضلا عن مزاحماتها، فالحكم إن تعلق بطبيعة كالغناء أو الرثاء أو القراءة ولم
يقيد الموضوع بقيد مع تمامية مقدمات الحكمة: يكون مطلقا أعني أن الطبيعة
بلا قيد موضوعه، فلا تكون الأفراد بما هي موضوع الحكم فيها، ولا ينقدح في ذهن
السامع أفراد نفس الطبيعة ولا أفراد طبيعة أخرى أو عنوانها حتى يقال: ينصرف
الحكم أو الموضوع إلى أفراد خاص أو صنف خاص من الطبيعة فضلا عن الأفراد الغير
المزاحمة لخصوص حكم آخر.
220

نعم ربما يتفق أن تكون الطبيعة مقارنة بحسب الوجود لشئ توجب أنس
الذهن أو تكون أفرادها من حيث الكثرة والمعهودية بوجه موجب للانصراف، و
لكن في مثل المقام لا وجه معتمد لدعواه، ويتلوهما في الضعف دعوى كون الاستحباب
حكما حيثيا في جميع الموارد، ضرورة أن الظاهر من كثير من الأدلة فعلية الحكم وأما
قضية تزاحم المقتضيات ففرع عدم سقوط الأدلة بالتعارض وإلا فلا طريق لاثبات
المقتضي.
وقد يقال في توجيهه بأن الحكم الاستحبابي معلق على عدم تحقق اقتضاء
الحرام، وأما التحريمي فلا تعليق فيه بالنسبة إلى اقتضاء الاستحباب لعدم مزاحمته
معه فحينئذ لا يعارض المعلق المنجز.
ويرد عليه، أنه مخالف لأدلة الاستحباب الظاهرة في الحكم الفعلي فإن ظهورها
في الفعلية كاشف عن عدم تحقق مقتضى التحريم وتحقق مقتضى الاستحباب، فاطلاق
دليله كاشف عن عدم الحرمة، واقتضائها كالعكس فلا وجه للحكم بتعليقية
أحدهما.
وقد يجاب عنه بأن دليل الحرام قرينة على هذا التعليق فإنه إذا تحقق في
أحد المتعارضين احتمال تصرف مفقود في الآخر تعين التصرف فيه وابقاء الآخر على
ظهوره وهو من الجمع المقبول، ففي المقام حمل دليل الاستحباب على التعليق ممكن
لأن فعلية الاستحباب متوقفة على عدم تحقق مقتضى الحرمة بخلاف دليل الحرمة فإنه
غير قابل للتعليق على عدم تحقق مقتضى الاستحباب، لأن مقتضاه لا يزاحم مقتضى
الحرام فالفعلية مع اجتماع المقتضيين للحرمة، فإذا كان دليل الاستحباب قابلا
للحمل على التعليق دون دليل الحرمة تعين حمله عليه وابقاء دليلها على ظاهره
(انتهى).
(وفيه) مضافا إلى أن ذلك ليس من الجمع المقبول فإنه هو الجمع العرفي
العقلائي لا العقلي الدقيق العلمي الذي لا سبيل للعرف إلى نيله كما فيما ذكره، و
لا دليل على أن الجمع بأي وجه ممكن أولى من الطرح وأولى من عمل التعارض بل
221

الميزان فيه عدم اندراج الدليلين في الخبرين المختلفين والمتعارضين الوارد في
أدلة العلاج بحسب نظر العرف وبالجملة هذا الوجه ليس موجبا لاخراج الأدلة عن
التعارض على فرضه: أن مقتضى الاستحباب يمكن أن يزاحم مقتضى الحرام في
بعض ملاكه فيخرج الحرام عن كونه حراما فعليه يمكن أن يكون التعليق في
دليل الحرام أيضا، ولا يتعين التصرف في دليل الاستحباب لتحقق احتمال التصرف في
كليهما فيبقى التعارض بحاله.
ويمكن أن يقال في المقام ونظائره إن الأحكام في المطلقات لم تتعلق إلا
بنفس الطبائع دون أفرادها، ولم تكن ناظرة إلى أحوال الأفراد فضلا عن كونها
ناظرة إلى طبيعة أخرى وأفرادها أو حال المزاحمات بين الأفراد أو المقتضيات في
حال انطباق العناوين على الموضوعات الخارجية وعليه يكون حكم كل عنوان
عليه فعليا من غير تعارض بين الدليلين، فإن مصب التعارض بين الأدلة هو مقام
الدلالة والمدلول، والفرض أن الحكم متعلق بالطبايع وكل طبيعة تغاير الأخرى
فلا مساس بين الدليلين وإلا الحكمين المتعلقين بالطبيعتين، فلا تعارض بين قوله
البكاء والابكاء مثلا مستحب وبين قوله: الغناء حرام في مقام الدلالات وتعلق الأحكام
بالموضوعات
وأما مقام انطباق العناوين على الأفراد الخارجية فخارج عن باب تعارض الأدلة
والدلالات، لعدم كون الأفراد من مداليل الأدلة في المطلقات، فالعناوين التي بينها
عموم من وجه بحسب التصادق خارج عن باب التعارض، فتحصل من ذلك أن حرمة
الغناء على عنوانه باقية فعلية واستحباب قراءة القرآن والرثاء على أبي عبد الله
الحسين عليه السلام كذلك من غير تعارض بين الدليلين أو تزاحم بين المقتضيين.
نعم العقل في مقام الامتثال يحكم بلزوم الاحتراز من باب حفظ الغرض
الأهم، فلو سمي هذا عدم مزاحمة مقتضى المستحبات لمقتضى المحرمات فلا بأس
به بعد وضوح المراد، فالترجيح في مقام الامتثال بحكم العقل غير مرتبط بمقام
جعل الأحكام على عناوين الموضوعات، هذا بحسب القواعد، وأما لو فرض مورد
222

يكون بقاء الاستحباب مخالفا لارتكاز المتشرعة يكشف ذلك عن قيد في دليل
الاستحباب، كما لو فرض أن اكرام الضيف بالمحرم لم يكن مستحبا بارتكاز
المتشرعة أو بدليل آخر يكشف ذلك عن قيد في دليل استحبابه، كما ورد في
صحيحة صفوان بن يحيى (1) عن أبي عبد الله عليه السلام لا تسخطوا الله برضى أحد من خلقه
(تأمل).
ثم لو قلنا بتعارض الأدلة فالترجيح لأدلة حرمة الغناء بوجوه تأتي الإشارة
إليها قريبا انشاء الله بنا على دخول العامين من وجه على فرض تعارضهما في أدلة
العلاج ولو مناطا، أو بإلغاء الخصوصية أو باستفادته من روايات العلاج، فتحصل
من جميع ذلك أو التمسك لجواز التغني بالقرآن والمراثي بالأصل بعد تعارض
الأدلة (غير وجيه) كما أن التشبث بتعارف التغني في المراثي في بلاد المسلمين من
زمن المشايخ إلى زماننا من غير نكير وهو يدل على الجواز غالبا كما قال به المحقق
الأردبيلي (2) (غير وجيه)، لأن التمسك إما بسماع المشايخ وعدم منعهم وانكارهم،
فلا حجة فيه بعد اختلاف الاجتهادات مع ممنوعية كون عملهم عليه، بل فيهم من
منعه أرقام من مجلسه، ولعل كثيرا منهم لا يمنعه لاشتباه في الموضوع والشك في
تحققه، كما أن الأمر كذلك غالبا بل الغالب عدم تحققه، أو يكون باتصال سيرتهم
إلى زمن المعصومين (ع)، فهو ممنوع لأن تلك المجالس المرسومة في هذه الأعصار
لم تكن معهودة قبل عصر الصفوية بهذا الرواج، وأما في عصر الأئمة (ع) وبعده
إلى مدة مديدة فلا شك في عدم تعارف انعقادها رأسا فضلا عن التغني فيها بمرئى
ومنظر من المعصومين (ع) حتى يكشف عدم الردع عن الجواز أو الاستحباب.
وأما ما أيد به مذاهبه من أن التحريم للطرب علي الظاهر ولهذا قيد بالمطرب وليس في
المراثي الطرب بل ليس إلا الحزن (ففيه) منع كونه للطرب بل الممنوع بمقتضى اطلاق الأدلة

(1) الوسائل - كتاب الأمر بالمعروف - الباب 11 - من أبواب الأمر والنهي.
(2) راجع شرح الإرشاد - في القسم الرابع من المتاجر المحرمة وفيما هو حرام في
نفسه - في الغناء
223

طبيعة الغناء الذي عبارة عن صوت مطرب ولو اقتضاء، وقد تقدم أن المواد غير دخيلة
في حرمة الغناء وموضوعه بلو لم يحصل الطرف في المراثي فإنما هو لمضامين الكلام،
وأما نفس الصوت بما هو مطرف مع كونه غناء فموضوع المحرم متحقق ولو فرض
منع مواد الكلام عن حصول الطرب فعلا، مضافا إلى ممنوعية عدم حصول الطرب أحيانا
فإن الغناء قد يكون محزنا والطرف خفة ربما تحصل من الحزن أو شدته.
بقي الكلام في الأخبار التي تمسك بها، كموثقة حنان بن سدير (1) قال: كانت
امرأة معنا في الحي ولها جارية نائحة فجاءت إلى أبي فقالت يا عم أنت تعلم أن معيشتي
من الله ثم هذه الجارية فأحب أن تسأل أبا عبد الله عليه السلام عن ذلك، فإن كان حلالا،
وإلا بعتها وأكلت من ثمنها حتى يأتي الله بالفرج فقال لها أبي: والله إني لأعظم أبا عبد الله
أن أسأله عن هذه المسألة قال: فلما قدمنا عليه أخبرته أنا بذلك فقال أبو عبد الله
عليه السلام: أتشارط؟ فقلت: والله ما أدري تشارط أم لا، فقال: قل لها: لا تشارط وتقبل ما
أعطيت، وصحيحة أبي بصير (2) قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: لا بأس بآجر النائحة التي
تنوح على الميت إلى غير ذلك بدعوى أن النوح لا يكون إلا مع التغني، أو أن مقتضى
الاطلاق شمول الغناء
(وفيه) منع عدم كون النوح إلا معه بل الظاهر أن عنوان الغناء غيره، وهما بحسب
الحقيقة مختلفان بل متقابلان، ففي المنجد: ناحت المرأة الميت وعلى الميت: بكت
عليه بصياح وعويل وجزع، ولو فرض أنه نفس الصوت الخاص لا البكاء فخصوصيته
مغايرة لخصوصية الغناء كما يشهد بها العرف، وتشهد بها رواية دعائم الاسلام (3)
عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: صوتان ملعونان يبغضهما الله، اعوال عند مصيبة، وصوت
عند نعمة، يعني النوح والغناء، ورواية عبد الله بن سنان (4) عن أبي عبد الله عليه السلام قال:

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 17 - من أبواب ما يكتسب به.
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 17 - من أبواب ما يكتسب به.
(3) المستدرك - كتاب التجارة - الباب 15 - من أبواب ما يكتسب به.
(4) الوسائل - كتاب الصلاة - الباب 24 - من أبواب القراءة - ضعيفة بإبراهيم
الأحمر.
224

قال رسول الله صلى الله عليه وآله: اقرأوا القرآن بألحان العرب وأصواتها، وإياكم ولحون أهل
الفسق وأهل الكبائر فإنه سيجئ من بعدي أقوام يرجعون القرآن ترجيع الغناء.
النوح والرهبانية، لا يجوز تراقيهم، قلوبهم مقلوبة وقلوب من يعجبه شأنهم، وعن
القطب الراوندي (1) في دعواته عن الحسن بن علي عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وعن
جامع الأخبار عن حذيفة اليمان عنه صلى الله عليه وآله نحوها (2).
والظاهر من مقابلة ترجيع الغناء والنوح أنهما مغايران كما هو كذلك عرفا
وخارجا، فلا تكون تلك الروايات شاهدة على مذهبه، فلو سلم اطلاقها فلم يسلم
مساوقتهما وملازمتهما فحينئذ يأتي فيها ما تقدم في الجواب عن أخبار استحباب
الابكاء والرثاء، ولو فرضت معارضتهما فلا ريب في ترجيح روايات حرمة الغناء عليها
لموافقتها للمشهور، فإن مقتضى اطلاق الأصحاب وعدم استثنائهم غير الأعراس و
الحداء: قصره عليهما أو على أولهما كما يأتي الكلام فيه، وإنما حكى عن بعضهم استثناء
مراثي أبي عبد الله المحقق الثاني في محكي جامع المقاصد فأخذه عنه بعض من
تأخر (3).
فالشهرة مع عدم الاستثناء وهي إما مرجحة أو موهنة للأخبار المخالفة لها، و
مخالفتها للعامة على ما حكي عن مذاهبهم أن التغني من حيث كونه ترديد الصوت
بالألحان مباح لا شئ فيه، ولكن قد يعرض له ما يجعله حراما أو مكروها،
وعن احياء الغزالي (4) عن الشافعي لا أعلم أحدا من علماء الحجاز كره السماع، و
قد حكى حمل بعضهم ما عن أبي حنيفة أنه يكره الغناء ويجعل سماعه من الذنوب
على النوح المحرم وموافقتها للكتاب بوجه لا يخلو من اشكال، وربما يستشهد

(1) المستدرك - كتاب الصلاة الباب 20 - من أبواب القراءة - في غير الصلاة.
(2) المستدرك - كتاب الصلاة الباب 20 - من أبواب القراءة - في غير الصلاة.
(3) راجع مفتاح الكرامة - في القسم الرابع من المتاجر المحظورة فيما نص
الشارع على تحريمه - في الغناء.
(4) الباب الأول في ذكر اختلاف العلماء في إباحة السماع من كتاب السماع و
الوجد.
225

للجواز بما عن الصادق عليه السلام (1) أنه قال لمن أنشد عنده مرثية: أقراء كما عندكم
أي بالعراق، ويتضح الجواب عنه مما تقدم مع عدم معلومية كيفية انشاده عنده و
كيفية القراءة بالعراق،
فالأقوى عدم استثناء المراثي والفضائل والأدعية، وكذا
عدم استثناء قراءة القرآن كما تدل عليه بالخصوص روايات:
منها رواية عبد الله بن سنان المتقدمة، ويظهر منها أن ألحان العرب المأمور
بقراءة نحوها غير ألحان أهل الفسوق والكبائر، وغير الترجيع بالغناء كما أن الواقع
كذلك وجدانا، فإن القراء في العراق والحجاز وسائر أقطار العربية يقرأون القرآن
بأصوات حسنة، وألحان عربية لا تكون من سنخ التغني وأصوات أهل الفسوق.
ومنها ما عن عيون الأخبار بأسانيده (2) عن الرضا عليه السلام عن آبائه عن علي
عليه السلام قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: أخاف عليكم استخفافا بالدين وبيع الحكم
وقطيعة الرحم وأن تتخذوا القرآن مزامير وتقدمون أحدكم وليس بأفضلكم
في الدين.
ومنها ما عن تفسير علي بن إبراهيم بسنده (3) عن عبد الله بن عباس عن رسول الله
صلى الله عليه وآله في حديث قال: إن من أشراط الساعة إضاعة الصلوات واتباع الشهوات والميل
إلى الأهواء إلى أن قال: فعندها يكون أقوام يتعلمون القرآن لغير الله ويتخذونه
مزامير ويكون أقوام يتفقهون لغير الله وتكثر أولاد الزنا ويتغنون بالقرآن إلى أن
قال ويستحسنون الكوبة والمعازف إلى أن قال: أولئك يدعون في ملكوت السماوات
الأرجاس الأنجاس والظاهر أن المراد باتخاذ القرآن مزامير قرائته على نحو ايقاع
المزامير فإن التصويت فيها لس قرآنا وقرائة

(1) نقطة صاحب المستند في كتاب مطلق الكسب والاقتناء في الفصل الثاني فيما
يحرم التكسب به من المقصد الثالث - في جوار الحداء ص 343.
(2) المستدرك - كتاب الصلاة - الباب 20 - من أبواب القراءة - في غير الصلاة.
(3) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 99 - من أبواب ما يكتسب به ضعيفة بعطاء
بن أبي الرياح وغيره.
226

ومنها يظهر المراد في روايات مستفيضة دالة على استحباب قراءة القرآن
بصوت حسن، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله (1) حسنوا القرآن بأصواتكم فإن الصوت
الحسن يزيد القرآن حسنا، وفي موثقة (2) أبي بصير قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: إذا
قرأت القرآن فرفعت صوتي جاءني الشيطان فقال: إنما ترائى بهذا أهلك والناس
فقال: يا أبا محمد اقرأ قراءة بين القرائتين تسمع أهلك ورجع بالقرآن صوتك فإن الله
عز وجل يحب الصوت الحسن يرجع ترجيعا، وما حكى عن بعض الأئمة من قرائته بصوت
حسن، كما عن علي بن الحسين (3) أنه أحسن الناس صوتا بالقرآن وكان السقاؤون
يمرون فيقفون ببابه يستمعون قرائته فإن المراد بالصوت الحسن مقابل اتخاذ القرآن
مزامير والترجيع به ترجيع الغناء والتغني به كما في الروايات المتقدمة وليس المراد
بالصوت فيها ما هو المصطلح لأرباب السماع والموسيقى بل المراد ما هو المتفاهم منه عرفا
وما هو معناه لغة، ولهذا وصفه بالحسن ولا ملازمة بين الصوت الحسن والغناء وإن لم يتصف
الصوت بالحسن إلا بتناسب بين قرعاته لكن ليس كل صوت متناسب قرعاته غناء.
ضرورة أن الألحان العربية متناسبة القرعات ومع ذلك لا تكون غناء كما جعلت
مقابله في الرواية المتقدمة ويشهد به الوجدان.
والمراد بالترجيع في موثقة أبي بصير ليس ترجيع الغناء كما تفسره الرواية
المتقدمة، ولو حمل على ترجيع الغناء صارت معارضة لجميع الروايات الدالة على
تحريم الغناء بل يصير مضمونها مخالفا للاجماع والضرورة، فإن الظاهر من التعليل
أن الصوت الحسن الذي يرجع به ترجيعا محبوب عند الله فلو كان المراد به الغناء
لزم منه أن يكون الغناء كذلك وهو كما ترى، وحملها على الغناء في القرآن
بتقييدها بالأدلة المتقدمة: غير وجيه، لأنه مضافا إلى منافاته للتعليل الظاهر في القاء
الكبرى الكلية مستلزم للتقييد الكثير المستهجن، وإن قلنا بجوازه في العرائس

(1) الوسائل - كتاب الصلاة - الباب 24 - من أبواب قراءة القرآن - الأولى مهملة بحسن بن عبد الله وأبيه والثالثة مرسلة.
(2) الوسائل - كتاب الصلاة - الباب 24 - من أبواب قراءة القرآن - الأولى مهملة بحسن بن عبد الله وأبيه والثالثة مرسلة.
(3) الوسائل - كتاب الصلاة - الباب 24 - من أبواب قراءة القرآن - الأولى مهملة بحسن بن عبد الله وأبيه والثالثة مرسلة.
227

والحداء، فلا شبهة في أن المراد بترجيع القرآن الصوت الحسن في مقابل ترجيع
الغناء، وهو الذي يحبه الله تعالى وورد به ترغيب أكيد، وهو الذي حكى عن رسول
الله صلى الله عليه وآله (1) أنه قال: لم تعط أمتي أقل من ثلاث: الجمال والصوت الحسن والحفظ،
فإن الغناء ليس من اعطاء الله تعالى ابتداء بل لا بد فيه من التعلم، والظاهر من الرواية
أنه كالجمال والحفظ.
ومما ذكرناه يظهر الجواب عن مرسلة الصدوق (2) قال: سأل رجل علي بن
الحسين عن شراء جارية لها صوت فقال: ما عليك لو اشتريتها فذكرتك الجنة
يعني بقراءة القرآن والزهد والفضائل التي ليست بغناء فأما الغناء فمحظور، فإن
التفسير لو كان للإمام عليه السلام فهي شاهدة جمع بين الأخبار كبعض ما تقدم وإن كان من
الصدوق كما هو الأقرب، فالصوت في الرواية محمول على الصوت الحسن فتصير
كساير الروايات، وأما الحمل على الغناء بدعوى أن الصوت قد يراد به الغناء كما
فسره به بعض اللغويين، وفي المنجد الصوت معروف، كل ضرب من الغناء، و
فسره به في رواية دعائم الاسلام المتقدمة: بعيد عن الصوات سيما مع تنكيره،
فإن الظاهر منه أن لها صوتا حسنا لا أنها تعلم بعض المقامات الموسيقية وبحورها،
بل الظاهر أن هذا الاصطلاح على فرض ثبوته متأخر عن زمن السجاد عليه السلام ولعله
صار مصطلحا في عصر الرشيد.
ثم إنه يظهر من المحقق في كتاب الشهادات (3) استثناء الحداء من
الغناء حكما وهو المحكي عن العلامة في القواعد (4) والشهيد في الدروس (5)
والخراساني (6) بل عنه دعوى الشهرة عليه، وفي شرح الفقيه للمجلسي

(1) نقله في مفتاح الكرامة - في القسم الرابع من المتاجر المحظورة فيما نص الشارع
على تحريمه.
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 16 - من أبواب ما يكتسب به - مرسلة معتمدة
(3) الشرايع - كتاب الشهادات - في المسألة الخامسة من الصفة الرابعة من صفات
الشهود.
(4) راجع مفتاح الكرامة - في القسم الرابع من المتاجر المحظورة فيما نص الشارع على تحريمه في الغناء.
(5) راجع مفتاح الكرامة - في القسم الرابع من المتاجر المحظورة فيما نص الشارع على تحريمه في الغناء.
(6) راجع مفتاح الكرامة - في القسم الرابع من المتاجر المحظورة فيما نص الشارع على تحريمه في الغناء.
228

الأول (1) أن ظاهر أكثر الأصحاب استثناء الحداء وفي الرياض (2) المستند (3) اشتهر
استثنائه لكن تأمل صاحب مفتاح الكرامة (4) في الشهرة وجزم في الجواهر بعدمها (5) و
احتمل تحققها على الخلاف، ولعله لاطلاق الأصحاب وعدم استثنائهم ذلك ما عدا
المحقق ومن عرفت ممن هو بعده، والانصاف عدم ثبوت الشهرة المعتمدة في
طرفي القضية.
وقد يستدل على الاستثناء أو يؤيده بما روي أنه صلى الله عليه وآله (6) قال لعبد الله
بن رواحة: حرك بالنوق فاندفع يرتجز وكان عبد الله جيد الحداء وكان مع الرجال
وكان أنجشة (7) مع النساء فلما سمعه تبعه فقال صلى الله عليه وآله لأنجشة: رويدك رفقا بالقوارير
يعني النساء.
(وفيه) مضافا إلى ضعف السند، أن الظاهر منها أن ابن رواحة ارتجز لتحريك النوق
والانشاد ببحر الرجز يخالف الغناء، ولا يحصل به الخفة والطرب الخاص بالغناء بل
يحصل منه التهيج الخاص بالحرب ونحوه، فيمكن أن يقال: فيها اشعار بعدم جواز
الحداء والتغني للإبل، فإن تركه والأخذ بالرجز مع مناسبة الأول للسوق مشعر
بممنوعيته، وأما قوله: وكان عبد الله جيد الحداء: اخبار من الراوي، ولا يدل على

(1) كتاب الحج - باب الحداء والشعر في السفر.
(2) في النوع الخامس من الفصل الأول مما يكتسب به في الأعمال المحرمة.
(3) في الفصل الثاني فيما يحرم التكسب به من المقصد الثالث في جواز الحداء
من كتاب مطلق الكسب والاقتناء - ص 343.
(4) في القسم الرابع من المتاجر المحظورة فيما نص الشارع على تحريمه - في
الغناء.
(5) في النوع الرابع فيما هو محرم في نفسه مما يكتسب به في حرمة تكسب المغنيات
(6) نقله في مفتاح الكرامة والجواهر في ذيل كلمات الفقهاء في المقام وهو
ضعيفة.
(7) أنجشة مولى للنبي صلى الله عليه وآله (قاموس)
229

حدوه بالتغني.
نعم في محكي مناقب محمد بن علي بن شهرآشوب (1) قال: وكان حادي
بعض نسوته صلى الله عليه وآله خادمه أنجشة فقال لأنجشة أرفق بالقوارير وفي رواية لا تكسر
القوارير، (وفيه) مضافا إلى أن الظاهر أن صدره من كلام ابن شهرآشوب لا رواية
عن المعصوم: أن المظنون أنه نقل بالمعنى حسب اجتهاده من قطعة من الرواية
المتقدمة مع أن في معنى الحادي كلاما يأتي عن قريب.
واستدل عليه بموثقة السكوني باسناده (2) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: زاد
المسافر الحداء والشعر ما كان منه ليس فيه خنا، واسناده عن جعفر بن محمد عن آبائه
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وفي شرح الفقيه للمجلسي (3) والفقيه المطبوع في عصرنا سنة
1376 (4) وفي الوافي (5) الخنا، وكذا في مجمع البحرين في كلمة حدا، وفسره
بالفحش قال: وفي بعض النسخ جفا، وذكر الحديث في مادة جفا أيضا، فالمظنون
أن يكون الصحيح الخنا بمعنى الفحش لكن جعل في نسخة الوسائل الجفا في المتن
والخنا فوق السطر مع علامة النسخة، وقال: في نسخة ليس فيه حنان ثم قال: و
الحنان من معانيه الطرب (انتهى) لكن لم أر شاهدا على ما ذكره (نعم) الحنين من
حن يحن جاء بمعنى الطرب وهو غير الحنان.
ثم إن الرواية موثقة لا اشكال فيها سندا فإن إسماعيل بن أبي زياد السكوني
كثير الرواية ومتقنها، وعن الشيخ في مواضع من كتبه أن الإمامية مجمعة

(1) المستدرك - كتاب الحج الباب 27 - من أبواب آداب السفر إلى الحج وغيره
(2) الوسائل - كتاب الحج - الباب 37 - من أبواب آداب السفر إلى الحج وغيره
(3) كتاب الحج - باب الحداء والشعر في السفر - ص 96.
(4) كتاب الحج - باب الحداء والشعر في السفر - ج 3 - ب 79
(5) كتاب الحج - باب 37 - حقوق صحبة السفر وآداب المسافر من أبواب آداب
السفر وأصناف الحج.
230

على العمل بروايته وقد صرح المحقق في محكي المسائل العزية بأنه من الثقات، والاجماع
على العمل برواياته اجماع على العمل بروايات الحسين بن يزيد النوفلي فإن رواية
السكوني من غير طريقه نادرة جدا، فيكون المنصرف من رواياته ما هي بطريقه
مع أنه أيضا ممدوح بل حسن، إنما الاشكال في دلالتها،
منشأه الشك في معنى الحداء
هل هو بمعنى سوق الإبل مطلقا بأية وسيلة كان كما هو ظاهر القاموس قال: حدا
الإبل وبها حدوا وحداء وحداء: زجرها وساقها، بناء على أن ساقها معنى آخر له
مقابل زجرها، أو سوقها بمطلق الصوت الأعم من الغناء كما يظهر منه في كلمة (دى
دى) قال: ما كان للناس حداء فضرب أعرابي غلامه وعض أصابعه فمشى وهو يقول
(دى دى) أراد يا يدي فسارت الإبل على صوته فقال له: ألزمه وخلع عليه فهذا أصل
الحداء (انتهى) (تأمل)، أو مشترك بين سوق الإبل مطلقا والتغني لها كما هو محتمل
الصحاح والمنجد ومجمع البحرين، ففي الأول الحدو سوق الإبل والغناء لها، و
قريب منه في تالييه أو هو سوق الإبل بالغناء كما هو محتمل عبارة الصحاح وبعده و
ظاهر الوافي والمسالك وشرح الفقيه للمجلسي والرياض والمستند ومجمع البرهان وغيرها
ففي الأول هو سوق الإبل بالترنم (1) وفي المسالك سوق الإبل بالغناء لها (2) ونحوه
غيره والظاهر منهم تفسيره مطلقا لا ما هو موضوع الحكم الشرعي أو مورد استثناء
الفقهاء أو هو مباين للغناء كما هو صريح مفتاح الكرامة (3) تمسكا بشهادة العرف
وكأنه مال إليه في الجواهر (4) فإن كان عبارة عن التغني للإبل فتكون الرواية

(1) كتاب الحج - باب 37 - حقوق صحبة السفر وآداب المسافر من أبواب آداب
السفر وأصناف الحج.
(2) في النوع الرابع من القسم الأول مما يكتسب به فيما هو محرم في نفسه في تفسير الغناء
(3) في القسم الرابع من المتاجر المحظورة فيما نص الشارع على تحريمه في
الغناء.
(4) في النوع الرابع في ما هو محرم في نفسه مما يكتسب به في حرمة تكسب المغنيات.
231

أخص مطلقا من أدلة التحريم ولا مانع من تقييدها لها سواء في ذلك النسخ المختلفة،
لأن كونه مطربا من لوازم الغناء، فلا يرجع إليه القيد ولو كان الحنان بمعنى الطرب.
إلا أن يقال: المأخوذ في الغناء هو المطربية الاقتضائية والمراد بالحنان هو
بالمطربية الفعلية، لكنه مع بعده يفيد استثناء الغناء إلا إذا أثر الطرب فعلا، وكذا
لو كان أحد معنييه التغني لها والآخر السوق بغير صوت، وأما لو كان أعم من
التغني بمعنى كونه إما مطلق سوق الإبل بصوت أو غيره بالتغني أو لا أو بمعنى سوقها
بمطلق الصوت: فتفسير الرواية أعم من وجه من روايات التحريم فيأتي فيها ما تقدم
من الكلام، وعلى فرض عمل المعارضة تقدم عليها روايات التحريم بوجوه،
مضافا إلى أنه على فرض الأعمية تصير مجملة لاحتمال رجوع القيد المجمل إليه
وإن لا يبعد ظهوره في الرجوع إلى الشعر لتأخره وكون الضمير مفردا وعدم احتمال
رجوعه إلى المتقدم فقط وكيف كان فالمتحصل مما ذكر عدم استثناء الحداء من الغناء.
نعم لا شبهة في استثناء زف العرائس منه في الجملة، لرواية أبي بصير المحكية
بطرق عديدة صحيحة ومعتمدة.
ففي صحيحته (1) قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: أجر المغنية التي تزف العرائس
ليس به بأس وليست بالتي يدخل عليها الرجال وليس في سندها من يتأمل فيه غير
أبي بصير وهو يحيى بن أبي القاسم بقرينة علي بن أبي حمزة في روايته الأخرى،
فإن الظاهر أن الروايات الثلاث عنه رواية واحدة، وهو ثقة على الأظهر فالاشكال
على سندها ضعيف.
وأضعف منه الاشكال على دلالتها، ضرورة أن حلية الأجر ملازمة عرفا لحلية
العمل، وفي روايته الأخرى المعتمدة (2) قال: سألت أبا عبد الله (ع) عن كسب المغنيات
فقال: التي يدخل عليها الرجال حرام، والذي تدعى إلى الأعراس ليس به بأس، و
هو قول الله عز وجل: ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله وفي
روايته الثالثة الضعيفة بحكم الخياط (3) عنه عليه السلام قال: المغنية التي تزف العرائس

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 15 - من أبواب ما يكتسب به.
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 15 من أبواب ما يكتسب به.
(3) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 15 من أبواب ما يكتسب به.
232

لا بأس بكسبها. فالحكم في الجملة ثابت لا اشكال فيه.
(ودعوى) أن تحريم الغناء بالأدلة المتواترة وفيها ما لا تقبل التخصيص كما تقدم
بل لعل قبحه عقلي لكونه موجبا للفجور والفسوق، فلا يمكن تخصيصها سيما بتلك
الرواية الواحدة التي يمكن الخدشة في سندها ودلالتها (غير وجيهة) لمنع إبائها عن
التقييد، ومجرد انطباق عنوان الباطل والزور عليه لا يوجب ذلك سيما في زف
الأعراس الذي يناسب نحو ذلك وليس حرمته أشد من الربا، ولا لسان أدلته أشد وأغلظ
من أدلته وهي مخصصة بموارد كالربا بين الوالد والولد والزوج والزوجة وغيرهما
وليس ملازما للدخول في المحرمات والفجور والفسوق بل لا يتفق في مجالس النساء
إلا نادرا، ولو فرض في مورد سببية له لا يحكم بالجواز لعدم اطلاق في دليل التجويز
من هذه الحيثية.
نعم الظاهر اختصاص الجواز بالمغنية لا المغني وبمجلس العرس المختص
بالنساء لا غير، بل الأحوط الاقتصار بزف العرائس لا غير، لأنه مقتضى الرواية الأولى
والثالثة، وأما الثانية وإن كان مفادها أعم لكن الظاهر عدم كونها رواية مستقلة
مع أن مفهوم غيرها أخص من منطوقها فيقيد به، والظاهر من التقييد بزف العرائس
في مثل المقام الاحتراز عن غيره فالأحوط الاقتصار عليه، بل لا يخلو من قوة، لكن
لا بذلك التضييق بل لا يبعد الجواز في مقدمات الزف ومؤخراته المتداولة.
نعم لا يستثني المجالس الأخر المستقلة في أيام الأعراس على الأحوط الأقوى،
كما أن الأحوط الاقتصار على خصوص حضور النساء وعدم التغني وأخذ الأجر مع حضور
الرجال، وإن كانت الروايات مشعرة بأن المراد بقوله ليست يدخل عليها الرجال
المجالس المعهودة التي تغنت المغنيات للرجال مقابل مجالس الأعراس، لكن
لا يكفي الاشعار لتقييد الروايات، لاحتمال أن يكون المنع لمطلق دخول الأجنبي
لكون صوتها بنحو التغني عورة، وإن لم نقل: بأن كلامها كذلك، بل الأحوط عدم
دخول المحرم أيضا لأن اسماع الغناء واستماعه محرم، ولو كان الاسماع لمحرم
وإنما الخارج زف الأعراس مع عدم دخول الرجال ومع وجود الرجال ولو المحارم
233

يكون التغني حراما وكذا أخذ الأجر عليه.
إلا أن يقال إن زف الأعراس إلى بيت الأزواج وتجويز الغناء لذلك ملازم
لسماع الأجانب فضلا عن بعض المحارم، فالتجويز للزف ملازم لتجويز الاسماع،
لكن مقدار الملازمة هو الاسماع الاتفاقي للعابر ونحوه ولا يلزم منه جوازه للداخل
لتلك الغابة، أو يقال: إن الرواية منصرفة عن المحارم وهو ليس ببعيد وإن كان
الأحوط ما ذكر، كما أن الأحوط عدم جاز أخذ الأجر للتغني المتحد خارجا مع محرم
كالتغني بالكذب والفحش (نعم) لا بأس بأخذ الأجر للغناء وإن اقترنت معه المحرمات
الخارجية، كما لو كان مقترنا بآلات اللهو وإن كانت المغنية ضاربة لها مع تغنيها
يجوز أخذه في مقابل تغنيها لا العمل المحرم المقارن له.
تنبيه بناء على ما ذكرناه في موضوع الغناء من اعتبار الحسن الذاتي والرقة
في الصوت في الجملة: لا يدخل فيه سائر الأصوات اللهوية كالتصنيفات المصطلحة
بالألحان المعهودة عند أهل المعاصي والفساق، فلا تكفي الأدلة الدالة على حرمة
الغناء بعنوانه لاثباتها لها لعدم صدقه عليها، بل لا تكون موجبة للخفة المعهودة
المعتبرة في الغناء وإن يحصل به السرور ونحوه، ولا تصح دعوى إلغاء الخصوصية
عرفا كما هو ظاهر.
نعم يمكن دعوى اندراجها في قول الزور ولهو الحديث بضميمة الأخبار المفسرة لهما
بالغناء بأن يقال إن الظاهر من الروايات المفسرة أن الغناء مندرج تحت عنوانهما واحتمال
الالحاق الحكمي أو الموضوعي الراجع إلى الحكمي نتيجة بعيد جدا، بل فاسد مخالف
للروايات كقوله: قول الزور الغناء (1) وقوله في جواب السؤال عن قول الزور:
الغناء (2) وكقوله: الغناء مما قال الله عز وجل: ومن الناس من يشتري (الخ (3)
وأوضح منها قوله: الغناء مما أوعد الله عليه النار وتلا هذه الآية ومن الناس (الخ) (4)
إلى غير ذلك من الروايات الظاهرة في اندراجه في مفادها، ولا شك في عدم
اندراج عنوانه بما هو فيه.

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 99 - من أبواب ما يكتسب به.
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 99 - من أبواب ما يكتسب به.
(3) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 99 - من أبواب ما يكتسب به.
(4) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 99 - من أبواب ما يكتسب به.
234

وقد مر أن الأقرب في وجه الاندراج أن يقال: إن إضافة القول إلى الزور تارة
تكون باعتبار بطلان مقوله، وأخرى باعتبار بطلان كيفية الصوت أو الصوت بالكيفية
الباطلة، ولولا قرينية الروايات لكانت الآية وكذا الآية الأخرى ظاهرة في الاعتبار
الأول، لكن بعد قيام القرينة يكون مفادها أعم فيكون معنى الآية والعلم عنده
تعالى يجب الاجتناب عن قول هو زور بمقوله أو بعارضه الذي هو صوت باطل، فاندراج
الغناء فيه من قبيل اندراج مصاديق العناوين فيها، فالحكم متعلق بالصوت الزور
والصوت اللهوي فيندرج فيه سائر الأصوات اللهوية، ويؤيده ما أرسل في مجمع
البحرين (1) قال: وروي أنه يدخل في الزور الغناء وسائر الأقوال الملهية
إلا أن يناقش فيه بأن غاية ما تدل الروايات اندراج الغناء في الآية، ولم يظهر
منها كيفيته ولا يكون الاندراج بالنحو المذكور للظهور المستند إلى الكلام ولو
بمؤنة الاخبار، لعدم قرينيتها لكيفية الاندراج، فيمكن أن يكون ذلك بنحو من
الكناية أو غيرها من أنحاء الدلالات الخفية التي لا يعلمها إلا المخاطب بالكتاب
العزيز وأهل بيته الخاص به وبالجملة لم يظهر من الروايات أن اندراج
الغناء في الآيتين بعنوان اللهو من حيث الصوت حتى يشمل سائر الأصوات اللهوية
والحاصل أنه ليس نحو الاندراج بما تقدم إلا مظنونا بالظن الخارجي الغير الحجة،
لا المستند إلى الظهور ولو بقرينة، ولم يقم دليل على نحو الاندراج.
ويمكن الاستدلال على حرمتها بما دل على حرمة مطلق اللهو كما هي ظاهر
جملة من الفقهاء، كالمحكي عن المبسوط والسرائر والمعتبر والقواعد والمختلف
وغيرها وإن كان ظاهر جمع آخر خلافها، ففي المقنع (2) والهداية (3) والفقه الرضوي
(4) ومحكي الغنية (5) عطف سفر الصيد على سفر المعصية (بأو) الظاهر في مغاير تهما،

(1) في لغت (زور)
(2) باب 15 - الصلاة في السفر من أبواب الصلاة.
(3) باب 53 - صلاة المسافر من أبواب الصلاة.
(4) باب صلاة المسافر والمريض.
(5) راجع مفتاح الكرامة - كتاب الصلاة - في صلاة المسافر.
235

وظاهر الخلاف (1) والنهاية (2) أيضا عدم كونه محرما. قال في الأول سفر الطاعة
واجبة كانت أو مندوبا إليها مثل الحج والعمرة والزيارات وما أشبه ذلك فيه التقصير
بلا خلاف، والمباح عندنا يجري مجراه في جوازه التقصير، وأما اللهو فلا تقصير
فيه عندنا.
وكيف كان يمكن أن يستدل عليها برواية حماد بن عثمان (3) عن أبي عبد الله
عليه السلام في قول الله عز وجل،: فمن اضطر غير باغ ولا عاد، قال: الباغي باغ الصيد و
العادي السارق، وليس لهما أن يأكلا الميتة إذا اضطرا إليها، هي عليهما حرام ليس
هي عليهما كما هي على المسلمين، وليس لهما أن يقصرا في الصلاة وقريب منها ما روي
عن عبد العظيم الحسني (4) في أطعمة الجواهر والمستند وفيها، والعادي: السارق و
الباغي: الذي يبغي الصيد بطر أو لهوا.
بتقريب أن المتفاهم عرفا من تحريم الميتة ونحوها على من خرج لسفر الصيد
لدى الاضطرار حتى عند خوف الموت، سواء قلنا بعدم جواز أكله حتى يموت أو قلنا
بوجوب حفظ نفسه بأكل الميتة، وهي محرمة عليه ويعاقب على أكلها كالمتوسط
في أرض مغصوبة على بعض المباني: إن حرمة السفر صارت موجبة لذلك، وأن الترخيص
لدى الاضطرار منة من المولى على عبيده، ومع حصول الاضطرار بسبب أمر محرم
وبسبب طغيان العبد على مولاه منعه عن ذلك التشريف، فبمناسبة الحكم والموضوع
عرفا أن المنع عند الاضطرار، وهذا التضييق والتحريج إنما هو لارتكاب العبد قبيحا
ومحرما، ولو كان السفر مباحا رخصه الله تعالى وذهب العبد لترخيصه، فلا يناسب

(1) كتاب صلاة المسافر - مسألة 1
(2) كتاب الصلاة - في باب الصلاة في السفر.
(3) الوسائل - كتاب الأطعمة والأشربة - الباب 56 - من أبواب الأطعمة المحرمة
ضعيفة بمعلى بن محمد.
(4) الوسائل - كتاب الأطعمة والأشربة - الباب 56 - من أبواب الأطعمة المحرمة
لا يبعد حسنها.
236

المنع عنها عند الاضطرار لسد رمقه، يشهد له مقارنته للسارق.
والظاهر أن ذكر الباغي والعادي مثال لمطلق العاصي المتجاوز الطاغي بل
عنوانها أعم لكل ذلك، وأن التفسير لبيان بعض المصاديق كما فسر الباغي بالخارج
على الإمام العادل أيضا في مرسلة البزنطي (1) عن أبي عبد الله عليه السلام وفسر العادي بالمعصية
طريق المحقين، وعن تفسير الإمام (2) بالقول بالباطل في نبوة من ليس بنبي وإمامة
من ليس بإمام، وعن تفسير العياشي (3) الباغي الظالم والعادي الغاصب، ويشهد له
أن الآية الكريمة نزلت في البقرة (168) والأنعام (146) والنحل (116) بمضمون
واحد، وفي المائدة (4) فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم.
ومن نظر في الآيات الأربع لا يشك في أنها بصدد بيان حكم واحد ويكون المراد
من قوله: غير باغ ولا عاد هو المراد من قوله: غير متجانف لإثم، أي غير متمائل له،
وتكون الآية الأولى بصدد تفصيل ما أجمل في الأخيرة أو ذكر مصاديقها والظاهر من
مجموعها أن الترخيص بما أنه للامتنان مقصور على من لم يكن اضطراره بسبب البغي و
التمايل إلى الإثم، والخارج على الإمام عليه السلام اضطره إليه تمايله إلى الإثم المنتهي
إلى تحققه والخارج إلى التصيد كذلك، وحمل قوله: غير متجانف لإثم على الميل
إلى أكل الميتة واستحلالها، وحمل الحال على المؤكدة بعيد عن ظاهر الكلام وعن
ظاهر سائر الآيات الموافقة لها في الحكم، فتحصل مما ذكرناه حرمة الخروج
إلى الصيد.
فيضم إلى ذلك ما دلت على أن التقصير في سفر الصيد لكونه مسير باطل وكونه لهوا

(1) الوسائل - كتاب الأطعمة والأشربة - الباب 56 - من أبواب الأطعمة المحرمة -
مرسلة معتمدة.
(2) المستدرك - كتاب الأطعمة والأشربة - الباب 40 - من أبواب الأطعمة المحرمة.
(3) المستدرك - كتاب الأطعمة والأشربة - الباب 40 - من أبواب الأطعمة المحرمة.
237

كرواية ابن بكير المعتمدة أو الصحيحة (1) قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل
يتصيد اليوم واليومين والثلاثة أيقصر الصلاة قال: لا، إلا أن يشيع الرجل إخاء في
الدين فإن التصيد مسير باطل لا تقصر الصلاة فيه، وموثقة زرارة (2) عن أبي جعفر
عليه السلام قال: سألته عمن يخرج عن أهله بالصقورة والبزاة والكلاب يتنزه الليل و
الليلتين والثلاثة هل يقصر من صلاته أم لا قال: إنما خرج في لهو لا يقصر. الحديث
فينتج أن اللهو والباطل محرم، وبالجملة يستفاد من رواية حماد بن عثمان المفسرة
للآية حرمة سفر الصيد بالتقريب المتقدم ومن الروايات المعللة لعدم التقصير بأن التصيد
مسير باطل وأنه خرج لللهو أن اللهو محرم.
لكن اثبات حرمة سفره برواية حماد مشكل لضعفها بمعلى بن محمد، فإنه
مضطرب الحديث والمذهب بنص النجاشي والعلامة ويعرف حديثه وينكر عن ابن
الغضائري، وقول النجاشي: كتبه قريبة، لا يوجب الاعتماد عليها، ومجرد كونه
شيخ الإجازة لا يكفي في الاعتماد، إذ لا دليل مقنع عليه مع عدم ثبوت كونه شيخا،
مضافا إلى امكان المناقشة في بعض ما تقدم من استفادة الحرمة من الآيات وامكان
ارجاع سائر الآيات إلى الأخيرة. وحملها على الاحتمال المتقدم كما حملها عليه
المفسرون بل في الجواهر (3) الاتفاق ظاهرا على تفسير المتجانف للإثم: بالميل
إلى أكل الميتة استحلالا أي اقترافا بالذنب، وغير ذلك كامكان المناقشة في استفادة
حرمة مطلق اللهو بنحو قوله: إنه مسير باطل، أو إنه خرج للهو لاحتمال دخالة
خصوصيات سفر الصيد اللهوي في الحكم كالخروج مع البزاة والصقورة ونحوهما،
فالغاء الخصوصية: مشكل (تأمل)، فاثبات حرمة اللهو مطلقا بما ذكر مشكل أو ممنوع.
ويمكن الاستدلال عليها بوجه آخر وهو اثبات كون اللهو باطلا إما باندراجه

(1) الوسائل - كتاب الصلاة - الباب 9 - من أبواب صلاة المسافر.
(2) الوسائل - كتاب الصلاة - الباب 9 - من أبواب صلاة المسافر.
(3) في لواحق الأطعمة والأشربة - في المسألة التاسعة - في المضطر وكيفية
الاستباحة
238

فيه أو مساوقته له، فيجعل صغرى لكبرى حرمة كل باطل، فينتج حرمة مطلق
اللهو، أما الصغرى فتدل عليها رواية عبد الله بن المغيرة (1) رفعها قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وآله في حديث: كل لهو المؤمن باطل إلا في ثلاث: في تأديبه الفرس، و
رميه عن قوسه، وملاعبته امرأته فإنهن حق، والمستفاد منها مضافا إلى أن كل
لهو باطل ما عدا الثلاث: إن أمثال المستثنى مما لها غاية عقلائية داخلة في اللهو،
وأن اللهو الحق منحصر في الثلاث.
وموثقة عبد الأعلى (2) قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الغناء وقلت: إنهم
يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله رخص في أن يقال: جئناكم جئناكم حيونا حيونا
نحييكم فقال: كذبوا إن الله يقول وما خلقنا السماوات (الخ).
بتقريب أن أبا عبد الله عليه السلام استدل على بطلان زعمهم بالآيات الكريمة، ولا يتم
الاستدلال إلا باندراج الغناء في اللهو اندراج اللهو في الباطل الذي أزهقه الله بالحق ودمغه
فلو كان اللهو مرخصا فيه وكان حقا، أو كان على قسمين منها ما رخص فيه لم ينتج المطلوب
فلا بد في تمامية الاستدلال أن يكون كل غناء لهوا وكل لهو باطلا لينتج أن كل غناء
باطل، ثم جعل النتيجة صغرى لكبرى هي كل باطل مزهق مدموغ ممنوع فينتج كل غناء
ممنوع بحكم الله تعالى فأنتج منه: أنه كيف رخص رسول الله صلى الله عليه وآله ما منعه تعالى.
فتحصل منه مساوقة اللهو للباطل، أو اندراجه فيه كما ظهرت كيفية دلالتها على حرمة
الباطل أيضا. ورواية محمد بن أبي عباد (3) وكان مستهترا بالسماع ويشرب النبيذ
قال: سألت الرضا عليه السلام عن السماع فقال: لأهل الحجاز فيه رأي وهو في حيز الباطل
واللهو أما سمعت الله يقول: وإذا مروا باللغو مروا كراما. وظاهرها أن السماع
منطبق عليه العناوين الثلاثة وإن لم يظهر منها مساوقة العناوين، (نعم) لا تخلو

(1) الوسائل - كتاب السبق والرماية - الباب 1 - مرفوعة ومجهولة بعمران بن موسى
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 99 - من أبواب ما يكتسب به.
(3) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 99 - من أبواب ما يكتسب به - مجهولة
بحسين بن أحمد وغيره.
239

من اشعار على مساوقة الباطل واللهو كما تشعر بها الروايات المتقدمة التي في
بعضها أن التصيد مسير باطل، وفي بعضها إنما خرج في لهو: والعمدة في الباب موثقة
عبد الأعلى، وأما الكبرى فتدل عليها الموثقة بالتقريب المتقدم.
وصحيحة الريان بن الصلت (1) قال: سألت الرضا عليه السلام يوما بخراسان وقلت:
إن العباسي ذكر عنك: أنك ترخص في الغناء فقال: كذب الزنديق ما هكذا قلت
له. سألني عن الغناء فقلت: إن رجلا أتى أبا جعفر عليه السلام فسأله عن الغناء فقال: يا
فلان إذا ميز الله بين الحق والباطل فأين يكون الغناء قال: مع الباطل فقال: قد حكمت
وقد تقدم وجه دلالتها على حرمة الغناء ويدل ذيلها على أن حرمة الباطل كانت مفروغا
عنها، وإنما ألزم أبو جعفر عليه السلام الرجل السائل بأن الغناء من الباطل فيكون حراما، إذ
لا شبهة في أن الرجل كان سؤاله عن جواز الغناء وعدمه، فإن جوازه كان معروفا
عند العامة كما تقدم فصار موجبا للشبهة، فأجاب بعدمه مستدلا بأنه باطل. تدل عليها أيضا جملة من الروايات الدالة على أن الشطرنج وغيره من الباطل.
كموثقة زرارة (2) عن أبي عبد الله عليه السلام أنه سأل عن الشطرنج وعن لعبة شبيب
التي يقال لها لعبة الأمير وعن لعبة الثلاث فقال: أرأيتك إذا ميز الله بين الحق و
الباطل مع أيهما تكون؟ قال: مع الباطل قال: فلا خير فيه. ولا ريب في أن قوله:
فلا خير فيه يراد به الحرمة لقيام الضرورة على حرمة الشطرنج والقمار بأقسامه.
ومرسلة يعقوب بن يزيد (3) عن أبي عبد الله عليه السلام قال: الشطرنج من الباطل
ونحوها غيرها وظاهر تلك الطايفة أن الباطل معلوم الحرمة ولذا كان في مقام بيان
حرمة المذكورات اكتفى باندراجها فيه كما تقدم في رواية الريان من قوله قد حكمت
لكن يمكن المناقشة فيما تقدم بأن يقال: إن الاستشهاد بالآيات لا يكون من قبيل
الاستدلال المنطقي والاستنتاج من صغرى وكبرى في مقابل الخصم الغير المعتقد
بإمامته، للزوم كون الاستدلال حينئذ بالظاهر المتفاهم عرفا حتى يجاب به الخصم

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 99 - من أبواب ما يكتسب به.
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 102 - من أبواب ما يكتسب به.
(3) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 102 - من أبواب ما يكتسب به.
240

ولا ريب في أن الظاهر من الآية الأولى المستشهد بها في الرواية: أنه تعالى لم يخلق
شيئا لعبا بل لغاية بما يليق بذاته المقدسة.
ومن الثانية أنه تعالى لم يتخذ اللهو، وقد فسر بالمرأة والولد والصاحب، و
لو يراد أعم منها يكون المعنى أنه لم يتخذ مطلق اللهو، وبمناسبة السابقة أنه تعالى
غير لاه كما أنه غير لاعب.
ومن الثالثة أنه تعالى مضافا إلى تنزهه عما ذكر يجعل الحق غالبا وقاهرا
على الباطل بإقامة البينة عليه كما فسرت بها، ومن يكون كذلك لا يكون لاهيا،
وهو وجه المناسبة بينهما.
وفي تفسير البرهان عن يونس بن عبد الرحمن رفعه (1) قال: قال أبو عبد الله (ع):
ليس من باطل يقوم بإزاء الحق إلا غلب الحق الباطل وذلك قوله تعالى: بل نقذف
بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق. ولا يبعد أن تكون الرواية غير مرفوعة،
لأن يونس لاقى أبا عبد الله عليه السلام وإن قال النجاشي: أنه لم يرو عنه وإن لاقاه، لكن مع
ورود ما هو ظاهر في روايته عنه (ع) لا حجة على كونها مرفوعة، ولعل النجاشي لم يطلع
على روايته عنه لندرتها، كما أن ظاهر النجاشي أنه رأى أبا عبد الله عليه السلام مرة واحدة بين
الصفا والمروة مع أنه في رواية العبيدي (2) سمعت يونس بن عبد الرحمن يقول: رأيت أبا عبد الله عليه السلام يصلي في الروضة بين القبر والمنبر ولم يمكنني أن أسأله عن شئ، ولا دلالة
فيها أيضا أنه لم يرو عنه مطلقا، ونعم مستند النجاشي على عدم روايته قول البرقي
في الرواية المتقدمة: رفعه.
وفي تفسير البرهان عن أيوب بن الحر (3) قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام:
يا أيوب ما من أحد إلا وقد يرد عليه الحق حتى يصدع قلبه، قبله أم تركه، وذلك قول

(1) في تفسير قوله تعالى (بل نقذف بالحق الخ) سورة الأنبياء الآية 18 -
(2) راجع - ج 3 - تنقيح المقال للمامقاني - في ترجمة يونس بن عبد الرحمن
مولى علي بن يقطين.
(3) في تفسير قوله تعالى (بل نقذف بالحق الخ) سورة الأنبياء الآية 18 -
241

الله عز وجل في كتابه: بل نقذف (الخ)، فظهر أن الآيات الثلاث اخبار عن تنزهه
تعالى عن اللعب واللهو وأنه تعالى يقذف الحق والحجج الدالة عليه على الباطل
فيدمغه، فلا يستفاد منها بحسب ظاهرها حرمة الغناء ولا اللهو والباطل، مضافا
إلى أن اللعب واللهو والباطل عناوين مختلفة لعل بينها عموما من وجه ومعه
لا يمكن الاستنتاج القياسي كما لا يخفى، وعليه يمكن أن يكون الاستشهاد لمجرد
مناسبة بين تنزيه الله تعالى عن عمل اللهو والباطل وتنزيه رسول الله صلى الله عليه وآله عن
ترخيص الغناء، فلا يصح الاستدلال بها على حرمة مطلق اللهو.
نعم فيها اشعار على عدم ترخيصه مطلقه، أو أن الغناء غير مرخص فيه لكونه
لهوا، لكنه ليس بحيث يمكن الاستناد إليه على حرمة مطلقة، لاحتمال أن يراد
بها أن الذي يبطل الباطل لا يرخص الغناء وما هو بمنزلته، وليس كل لهو وباطل
كذلك وأما رواية ابن المغيرة (1) الدالة على أن كل لهو المؤمن باطل (الخ) فهي
مع الغض عن سندها من أدل الدليل على أن مطلق الباطل ليس بحرام، لأنها
دلت بواسطة استثناء المذكورات أن ما يترتب عليها الأغراض العقلائية كتأديب
الفرس: لهو باطل ما سوى الثلاثة، والضرورة قائمة بعدم حرمة أمثالها.
ثم إنه لا بد من حملها على أن كل لهو المؤمن باطل حكما، وإلا فما له
غاية عقلائية ليس بباطل موضوعا، ولا يمكن الحكم بالحرمة لما عرفت فيكشف
منها أن الباطل منه ما يكون محرما، ومنه غير محرم بل مكروه، وأما ما ذكرناه
من دلالة الروايات على مفروغية حرمة الباطل ولهذا استشهد لحرمة الشطرنج و
غيره من أنحاء القمار والغناء بكونها باطلا فبعد فرض التسليم لا بد من حملها على
معهودية حرمة قسم خاص من الباطل، وإلا فمطلقه لم يكن معهودا حرمتها بل
كثير منه معهود حليته بلا شبهة، مضافا إلى احتمال أن تكون الروايات الواردة في أن الشطرنج والسدر ونحوهما باطل: أشار إلى انسلاكها في قوله تعالى: لا تأكلوا
أموالكم بينكم بالباطل، كما يشعر به قوله: لا خير فيه، وتشهد به جملة

(1) الوسائل - كتاب السبق والرماية - الباب 1.
242

من الروايات المفسرة للآية الكريمة بالقمار.
كصحيحة زياد بن عيسى الحذاء (1) قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قوله عز
وجل: ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، فقال: كانت قريش يقامر الرجل بأهله أو ماله
فنهاهم الله عز وجل عن ذلك، وفي رواية أخرى عنه عليه السلام (2) يعني بذلك القمار، وقريب
منها غيرها وبالجملة لا دلالة في تلك الروايات على حرمة مطلق الباطل أو اللهو بل تدل إما
على حرمة أكل المال به، أو على حرمة نوع خاص.
ثم لو فرض قيام الدليل على حرمة الباطل، لكن كون الغناء والأصوات
اللهوية منه عرفا محل اشكال، لأن الباطل بمعنى الفساد الذي لا يترتب عليه الأثر،
والذي لا مصرف له، والذي لا غرض فيه، وشئ منها لا ينطبق على الغناء ونحوه مما
هو متعلق الأغراض العقلائية، ولولا منع الشارع الأقدس لما عد نحوه في الباطل والهزل
واللغو فالاستدلال على حرمته بحرمة تلك العناوين على فرض ثبوتها: غير وجيه و
استدل على حرمة مطلق اللهو بجملة من الروايات:
منها رواية سماعة (3) قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: لما مات آدم عليه السلام شمت به
إبليس وقابيل فاجتمعا في الأرض فجعل إبليس وقابيل المعازف والملاهي شماتة بآدم
عليه السلام فكل ما كان في الأرض من هذا الضرب الذي يتلذذ به الناس فإنما هو من ذلك.
ولا يخفى ما فيه فإن قوله: من هذا الضرب إشارة إلى المعازف والملاهي فكأنه ضروب
الملاهي والمعازف التي يتلذذ بها الناس من ذلك، والملاهي جمع الملهاة، فلا تدل
على حرمة مطلق اللهو ولا الغناء.
ومنها ما عن المجالس للحسن بن محمد الطوسي بسند ضعيف (4) عن أبي

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 35 - من أبواب ما يكتسب به.
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 35 - من أبواب ما يكتسب به.
(3) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 100 - من أبواب ما يكتسب به - ضعيفة بعبد الله
بن قاسم.
(4) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 100 - من أبواب ما يكتسب به - ضعيفة بعبد الله
بن علي لأنه مشترك وفي سندها أبو الصلت وهو لم يوثق.
243

الحسن علي بن موسى (ع) عن آبائه عن علي عليه السلام قال: كل ما ألهى عن ذكر الله
فهو من الميسر، وفيه مضافا إلى بعد أن يراد بالكلية جميع صنوف الملهيات و
الحاقها بالميسر حكما، لأن الالحاق الحكمي بلسان الالحاق الموضوعي غير مناسب
للبلاغة ومجرد اشتراكها في الالهاء لا يصحح الدعوى، فلا يبعد أن يكون المراد بالكلية
صنوف المقامرة كما ورد كل ما قومر عليه فهو ميسر (1) إن المراد بالملهي عن
ذكر الله ليس الغفلة عن التوجه إليه تعالى بالضرورة، فلا يبعد أن يكون المراد به
ما يوجب الغفلة عنه تعالى بحيث لا يبالي بالدخول في المعاصي كما هو شأن المقامرات
واستعمال الملاهي، أو كان المراد غفلة خاصة تحتاج إلى البيان من قبل الله تعالى.
وبهذا يظهر الكلام في رواية أعمش (2) عن جعفر بن محمد عليه السلام في حديث
شرايع الدين حيث عد فيها من جملة الكبائر الملاهي وقال: والملاهي التي تصد
عن ذكر الله عز وجل مكروهة كالغناء وضرب الأوتار، وقوله: مكروهة يراد بها
التحريم أو تكون بالنصب، ويكون المراد أنها تصد عن ذكر الله كرها واستلزاما
بلا إرادة من الفاعل (تأمل) وذلك لأن التمثيل بالغناء وضرب الأوتار لإفادة سنخ
ما يكون صادا عن ذكر الله تعالى. فإن ضرب الأوتار والغناء ونحوه توجب في النفس
حالة غفلة عن الله تعالى وأحكامه، ويكون الاشتغال بها موجبا للوقوع في
المعاصي كما ورد في الغناء، أنه رقية الزنا (3) وفي البربط، من ضرب في بيته أربعين
صباحا سلط الله عليه شيطانا إلى أن قال نزع منه الحياء ولم يبال ما قال ولا ما قيل فيه (4)
وفي رواية (5) فلا يغار بعدها حتى تؤتى نسائه فلا يغار وقال الله تعالى: (6) إنما يريد الشيطان

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 35 - 104 - من أبواب ما يكتسب به.
(2) الوسائل - كتاب الجهاد - باب 46 - من أبواب جهاد النفس ضعيفة بأعمش
وغيره.
(3) المستدرك - كتاب التجارة - الباب 78 - من أبواب ما يكتسب به.
(4) المستدرك - كتاب التجارة - الباب 79 - من أبواب ما يكتسب به.
(5) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 100 - من أبواب ما يكتسب به.
(6) سورة المائدة - الآية 92.
244

أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة، فلا دلالة فيها على حرمة مطلق اللهو.
ومنها رواية الفضل بن شاذان المروية عن العيون وهي حسنة أو صحيحة
ببعض طرقها، (1) وفيها في عد الكبائر، والاشتغال بالملاهي، (وفيه) أن الظاهر
منها آلات اللهو لا مطلق الملهيات إلى غير ذلك مما هي دونها في الدلالة، فتحصل
من جميع ذلك عدم قيام دليل على حرمة مطلق اللهو ولا على مطلق الأصوات
اللهوية.
نعم الأحوط الاجتناب عن بعض صنوف الأصوات اللهوية كالتصانيف الرائجة
بألحان أهل الفسوق، لاحتمال مساواتها مع الغناء في دخولها في الباطل الذي ورد فيه:
إذا ميز الله بين الحق والباطل فأين يكون الغناء في صحيحة الريان بن الصلت (2)
واحتمال إلغاء الخصوصية من الغناء والحاقها به ودخولها في التي تصد عن ذكر الله
وألهت عنه، وإن كان للمناقشة فيها مجال والله العالم بالحال
المسألة الثالثة الغيبة حرام بالأدلة الأربعة والظاهر أنها من الكبائر، و
يمكن الاستدلال على كونها كبيرة بقوله تعالى: ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب
أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه (3) بناء على أن ذيل الآية الكريمة تنبيه
على تجسم على المغتاب في الآخرة بصورة أكل لحم ميتة أخيه، وهو ايعاد بالعذاب
كما تدل على أصل تجسمها الآيات والأخبار الكثيرة. وفي المورد بعض الروايات:
مثل ما عن النبي صلى الله عليه وآله (4): أنه نظر في النار ليلة الاسراء فإذا " بقوم يأكلون
الجيف فقال يا جبرئيل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحم الناس، وتشعر به
أو تدل عليه ما عن جامع الأخبار عن النبي صلى الله عليه وآله (5) اجتنبوا الغيبة فإنها أدام كلاب
النار وبناء على أنه تعرف الكبيرة بايعاد الله العذاب عليها ولو لم يكن ايعادا بالنار صريحا

(1) الوسائل - كتاب الجهاد - الباب 46 - من أبواب جهاد النفس
(2) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 99 - من أبواب ما يكتسب به.
(3) سورة الحجرات - الآية 12.
(4) المستدرك - كتاب الحج - الباب 132 - من أبواب أحكام العشرة.
(5) المستدرك - كتاب الحج - الباب 132 - من أبواب أحكام العشرة.
245

كما يظهر من صحيحة عبد العظيم الحسني (ع) المفصلة التي فيها كثير من الكبائر، (1)
أو كان المراد من ذيلها التنزيل الحكمي بمعنى أن الغيبة بمنزلة أكل لحم ميتة الأخ
في الحكم بناء على أن أكل الميتة من الكبائر كما تدل عليه حسنة الفضل بن شاذان (2) عن
الرضا عليه السلام في كتابه إلى المأمون، وفيها عدا كل الميتة من الكبائر، ومعلوم أن
ميتة الآدمي إما داخلة في اطلاقها، أو أكلها أعظم من ميتة غيرها، ويدل على هذا
الاحتمال بعض الروايات:
مثل ما عن تفسير الإمام العسكري عليه السلام (3) اعلموا أن غيبتكم لأخيكم
المؤمن من شيعة آل محمد صلى الله عليه وآله أعظم في التحريم من الميتة قال الله عز وجل: و
لا يغتب بعضكم بعضا (الخ). والظاهر أن قوله أعظم في التحريم من الميتة مبني على ما
قلناه: من أعظمية حرمة ميتة الانسان سيما الأخ من غيرها في ارتكاز المتشرعة، وإن
أمكنت المناقشة في الاستدلال بالآية على كونها كبيرة بل على أصل تحريمها، بأن
من المحتمل أن يكون المراد بذيلها تنظير الغيبة والتفكه بأعراض الناس بأكل لحم
ميتة الأخ في تنفر الطباع السليمة عنه وانتقاض أعراضهم كأكل لحومهم، فيكون
ارشادا إلى حكم العقل، فلا تدل على التحريم فضلا عن كونها كبيرة، وتدل على
هذا الاحتمال أي كونه تنظيرا وتشبيها موضوعا جملة من الروايات:
كما في مجمع البيان (4) في شأن نزول الآية قال: نزلت في رجلين من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وآله اغتابا رفيقهما وهو سلمان وأسامة إلى أن قال: فقال لهما: ما لي أرى
خضرة اللحم في أفواهكما قالا: يا رسول الله ما تناولنا يومنا هذا لحما قال: ظللتم
تأكلون لحم سلمان وأسامة.

(1) الوسائل - كتاب الجهاد الباب 46 - من أبواب جهاد النفس.
(2) الوسائل كتاب الجهاد - الباب 46 - من أبواب جهاد النفس.
(3) المستدرك - كتاب الحج - الباب 32 - من أبواب أحكام العشرة.
(4) في تفسير قوله تعالى (ولا يغتب بعضكم بعضا الخ) سورة الحجرات الآية 12 -
246

وعن جامع الأخبار (1) قال صلى الله عليه وآله كذب من زعم أنه ولد من حلال
وهو يأكل لحوم الناس بالغيبة.
وعن القطب الراوندي (2) مر رسول الله صلى الله عليه وآله بناس من أصحابه فقال لهم:
تخللوا فقالوا: ما أكلنا لحما فقال: بلى مر بكم فلان فوقعتم فيه.
وعن العيون (3) ومعاني الأخبار (4) بإسناده عن الرضا عليه السلام عن أبيه عن الصادق
عليه السلام قال: إن الله يبغض البيت اللحم إلى أن قال: إنما البيت اللحم البيت الذي تؤكل
فيه لحوم الناس بالغيبة. ولا يبعد أن يكون الاحتمال الأخير أقرب إلى فهم العرف
وإن كان انكار دلالتها على أصل التحريم مكابرة، فدلالتها على الحرمة غير قابلة
للانكار لظهورها وسياقها وعدم فهم مجرد الارشاد منها.
نعم لا تدل على كونها كبيرة لما قلناه من أقربية الاحتمال الأخير، ولا أقل
في عدم ظهورها في أحد الأولين.
ويمكن الاستدلال على كونها كبيرة بقوله تعالى. إن الذين يحبون أن
تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم (5) إما بدعوى أن الغيبة ملازمة
لحب شيوعها (تأمل) أو بدعوى أن المراد من حب شيوعها ولو بملاحظة ورود
الآية في ذيل قضية الإفك: هو نفس إشاعتها أو يقال: إن حب شيوعها إذا كان كذلك
فنفس الإشاعة أولى به، وبدعوى أن المراد بتشييع الفاحشة إظهارها وافشائها،
واحتمال أن يكون المراد به حب شيوع نفس الفاحشة والمعصية بين المسلمين:
بعيد عن ظاهر اللفظ وسياق الآية وإن كان الاستدلال بنفس الآية للمدعى لا يخلو
من تكلف وتعسف فالأولى الاستدلال بها بضميمة بعض الروايات.
كمرسلة ابن أبي عمير (6) عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من قال في مؤمن ما رأته

(1) المستدرك - كتاب الحج - الباب 132 - من أبواب أحكام العشرة.
(2) المستدرك - كتاب الحج - الباب 132 - من أبواب أحكام العشرة.
(3) الوسائل - كتاب الحج - الباب 152 - من أبواب أحكام العشرة.
(4) الوسائل - كتاب الحج - الباب 152 - من أبواب أحكام العشرة.
(5) سورة النور - الآية 19 -
(6) الوسائل - كتاب الحج - الباب 152 - من أبواب أحكام العشرة.
247

عيناه وسمعته أذناه فهو من اللذين قال الله عز وجل: إن الذين يحبون أن تشيع
الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم ومرسلاته بحكم الصحاح لكن في محكي أمالي الصدوق روايتها عن ابن أبي عمير عن محمد بن حمران عنه عليه السلام وهو إما النهدي الثقة وهو الأقرب
بناء على أن ابن أبي عمير لا يرسل إلا عن ثقة والظاهر أنها عين المرسلة أو من آل أعين
وهو حسن لو لم يكن ثقة باعتبار عده ابن أبي عمير في محكي الأمالي بسند صحيح
من مشايخه مع أبان بن عثمان وهشام بن سالم، بل يمكن الاستشهاد على وثاقته
بارسال ابن أبي عمير عنه على هذا الاحتمال، لكن يحتمل أن يكون إرساله عن
هشام كما في الرواية الآتية ولا بأس به بعد وثاقة هشام، وكيف كان فالرواية
صحيحة دالة على أن مطلق الغيبة داخل في الآية الكريمة فتدل على أن المراد
بالآية ليس الحبب فقط ولا الشياع بمعناه المعروف، بل مطلق الاظهار وكشف الستر
ولو كان المراد به الالحاق الحكمي بلسان الالحاق الموضوعي كما سنشير إليه في
استماع الغيبة فلا يضربا لاستدلال على المطلوب.
وكما في تفسير البرهان عن تفسير علي بن إبراهيم (1) قال: حدثني أبي عن
ابن أبي عمير عن هشام عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من قال في مؤمن: ما رأت عيناه و
سمعت أذناه كان من الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب
أليم في الدنيا والآخرة. وفي مجمع البحرين (2) وروى فيما صح عن هشام عن أبي عبد الله عليه السلام، وعليه فلا شبهة في كونها من الكبائر ولو فسرت بما أو عد الله تعالى
عليه النار.
ويمكن الاستدلال على كونها كبيرة بالأخبار الكثيرة البالغة حد التواتر
اجمالا المشتملة على الايعاد على النار والعذاب من رسول الله صلى الله عليه وآله والأئمة الطاهرين
(3) بناء على أن ايعادهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله كما دلت عليه الروايات بل هو

(1) في تفسير قوله تعالى (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة الخ) سورة النور -
الآية 19 -
(2) في لغة (شيع)
(3) راجع المصادر المذكورة سابقا.
248

من الواضحات، وبناء على أن ايعاد رسول الله صلى الله عليه وآله بالعذاب والنار يكشف عن كون
المعصية كبيرة كما يظهر من صحيحة عبد العظيم الحسني (1) حيث استدل أبو عبد
الله عليه السلام فيها على كون ترك الصلاة متعمدا كبيرة بقول رسول الله صلى الله عليه وآله: من ترك
الصلاة متعمدا من غير علة فقد برئ من ذمة الله وذمة رسوله، فالخدشة في كونها
كبيرة في غير محلها.
وما في رواية ضعيفة عن جابر (2) قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله في مسير
فأتى على قبرين يعذب صاحبهما فقال: إنهما لا يعذبان في كبيرة أما أحدهما فكان
يغتاب الناس (الخ): غير صالحة لمعارضة ما تقدم، كما أن ما عن الصدوق وغيره بل
عن الأصحاب كما في مجمع البيان وعن الحلي (3) أن الذنوب كلها كبيرة وإنما
الصغر والكبر بالإضافة كأنه في غير محله، لمخالفته للاعتبار والعقل والكتاب و
الروايات بل ما نسب إلى الأصحاب غير ثابت.
نعم للكبائر مراتب كما تشهد به الكتاب والسنة والعقل، وليس المقام محل
تحقيق المسألة والعهدة على محله.
ثم إن الظاهر اختصاص الحرمة بغيبة المؤمن فيجوز اغتياب المخالف إلا أن تقتضي
التقية أو غيرها لزوم الكف عنها، وذلك لا لما أصر عليه المحدث البحراني (4) بأنهم كفار
ومشركون اغترارا بظواهر الأخبار وقد استقصينا البحث معه في كتاب الطهارة عند القول
بنجاسة المخالف وقلنا: إن الاسلام ليس إلا الشهادة بأن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وآله،

(1) الوسائل - كتاب الجهاد - الباب 46 - من أبواب جهاد النفس.
(2) المستدرك - كتاب الحج - الباب 132 - من أبواب أحكام العشرة.
(3) راجع - مجمع البيان في تفسير قوله تعالى (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه الخ)
سورة النساء - الآية 31.
(4) الحدائق - كتاب التجارة - المسألة السادسة من المقام الثالث (في أن المخالف
يجوز غيبته لأنه ليس بمؤمن).
249

وذكرنا الوجه في الأخبار الكثيرة الدالة على أنهم كفار أو مشركون، بل لقصور أدلة حرمة
الغيبة عن اثباتها بالنسبة إليهم، أما مثل الآيتين المتقدمتين فلأن الحكم فيهما
معلق على المؤمنين والخطاب متوجه إليهم.
وتوهم أن اختلاف الايمان والإسلام اصطلاح حادث في عصر الأئمة عليهم السلام
دون زمان نزول الآية الكريمة: فاسد جدا.
أما أولا فلأن الأئمة لا يقولون بما لا يقول به الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله كما هو من
أصول المذهب، وتدل عليه الروايات فلا يكون الايمان عند الله ورسوله صلى الله عليه وآله غير ما
عند الأئمة (ع).
وأما ثانيا فلأن الايمان كان قبل نصب رسول الله صلى الله عليه وآله عليا عليه السلام للولاية عبارة
عن التصديق بالله ورسوله، ولم يكن قبل نصبه أو قبل وفاته على احتمال مورد التكليف
الناس ومن الأركان المتوقف على الاعتقاد بها الايمان، لعدم الموضوع له، وإما بعد
نصبه أو بعد وفاته صلى الله عليه وآله صارت الولاية والإمامة من أركانه، فقوله تعالى: إنما
المؤمنون إخوة (1) هو جعل الأخوة بين المؤمنين الواقعيين غاية الأمر أن في زمان
رسول الله صلى الله عليه وآله كان غير المنافق مؤمنا واقعا لايمانه بالله ورسوله صلى الله عليه وآله، وبعد ذلك
كان المؤمن الواقعي من قبل الولاية وصدقها أيضا، فيكون خطاب يا أيها المؤمنون
متوجها إلى المؤمنين الواقعيين وإن اختلفت أركانه بحسب الأزمان، من غير أن يكون
الخطاب من أول الأمر متوجها إلى الشيعة حتى يستبعد، سيما إذا كان المراد بالمؤمن
الشيعة الإمامية الاثني عشرية.
وأما الأخبار فما اشتملت على المؤمن فكذلك، وما اشتملت على
الأخ لا تشملهم أيضا لعدم الأخوة بيننا وبينهم بعد وجوب البراءة عنهم وعن
مذهبهم وعن أئمتهم، كما تدل عليه الأخبار واقتضته أصول المذهب، وما اشتملت على
المسلم فالغالب منها مشتمل على ما يوجبه ظاهرا في المؤمن، كرواية سليمان بن

(1) سورة الحجرات - الآية - 10
250

خالد (1) عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله المؤمن من أئتمنه المؤمنون على أنفسهم
وأموالهم والمسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه والمهاجر من هجر السيئات وترك
ما حرم الله، والمؤمن حرام على المؤمن أن يظلمه أو يخذله أو يغتابه أو يدفعه دفعة.
ورواية الحرث بن المغيرة (2) قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: المسلم أخو المسلم
هو عينه ومرآته ودليله، لا يخونه ولا يخدعه ولا يظلمه ولا يكذبه ولا يغتابه. ورواية
أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وآله في وصيته له (3) وفيها قال: يا أبا ذر سباب المسلم فسوق، و
قتاله كفر، وأكل لحمه من معاصي الله، وحرمة ماله كحرمة دمه قلت: يا رسول الله
وما الغيبة قال: ذكرك أخاك بما يكره.
ويمكن أن يقال: إن هذه الرواية كرواية عبد الله بن سنان (4) قال: قال
أبو عبد الله عليه السلام: الغيبة أن تقول في أخيك ما قد ستره الله عليه، وغيرهما مما فسرت الغيبة
حاكمة على سائر الروايات، فإنها في مقام تفسيرها اعتبرت الأخوة فيها، فغيرنا
ليسوا بإخواننا وإن كانوا مسلمين فتكون تلك الروايات مفسرة للمسلم المأخوذ
في سايرها، بأن حرمة الغيبة مخصوصة بمسلم له أخوة اسلامية ايمانية مع الآخر،
ومنه يظهر الكلام في رواية المناهي وغيرها.
والانصاف أن الناظر في الروايات لا ينبغي أن يرتاب في قصورها عن اثبات
حرمة غيبتهم، بل لا ينبغي أن يرتاب في أن الظاهر من مجموعها اختصاصها بغيبة
المؤمن الموالي لأئمة الحق (ع) مضافا إلى أنه لو سلم اطلاق بعضها وغض النظر عن
تحكيم الروايات التي في مقام التحديد عليها فلا شبهة في عدم احترامهم بل هو
من ضروري المذهب كما قال المحققون، بل الناظر في الأخبار الكثيرة في الأبواب
المتفرقة لا يرتاب في جواز هتكهم والوقيعة فيهم، بل الأئمة المعصومون، أكثروا
في الطعن واللعن عليهم وذكر مسائيهم.

(1) الوسائل - كتاب الحج - الباب 152 - من أبواب أحكام العشرة
الأولى ضعيفة بأبي كهمس والثانية مجهولة بمثنى الخياط والثالثة مجهولة بعدة رواة تكون
في سندها والرابعة مرسلة غير معتمدة.
(2) تقدم آنفا تحت رقم 1.
(3) تقدم آنفا تحت رقم 1.
(4) تقدم آنفا تحت رقم 1.
251

فعن أبي حمزة (1) عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت له: إن بعض أصحابنا يفترون
ويقذفون من خالفهم فقال الكف عنهم أجمل ثم قال يا با حمزة إن الناس كلهم أولاد
بغاة ما خلا شيعتنا (الخ). والظاهر منها جواز الافتراء والقذف عليهم لكن الكف
أحسن وأجمل لكنه مشكل إلا في بعض الأحيان، مع أن السيرة أيضا قائمة على
غيبتهم فنعم ما قال المحقق صاحب الجواهر (2) إن طول الكلام في ذلك كما فعله
في الحدائق من تضييع العمر في الواضحات.
ثم إن الظاهر دخول الصبي المميز المدرك للحسن والقبح المتأثر عن ذكر
معايبه فيها، لاطلاق الأدلة وصدق الأخ عليه، وكذا المؤمن والمسلم بعد كونه
معتقدا بما اعتقد به المسلمون كما هو الغالب في المميز المسلم مع اندراجه في
الموضوع لو شك في الصدق بالآية الكريمة قال تعالى: يسألونك عن اليتامى قل:
اصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم (3) مع أن الشك في غير محله والآية
نزلت على طبق العرف واللغة وليس فيها تنزيل وتأويل. (نعم) الأدلة منصرفة
عن غير المميز وعن المجنون والله العالم.
وينبغي التنبيه على أمور:
الأول قد عرفت الغيبة بتعاريف في كتب اللغة، والفقه وفي الأخبار، ففي الصحاح
اغتابه اغتيابا إذا وقع فيه، والاسم: الغيبة، وهو أن يتكلم خلف انسان مستور
بما يغمه لو سمعه، فإن كان صدقا سمي غيبة، وإن كان كذبا سمي بهتانا، ونحوه
في مجمع البحرين، وفي القاموس وغابه: عابه، وذكر بما فيه من السوء كاغتابه، و
الغيبة فعلة منه تكون حسنة أو قبيحة، وفي المنجد: غابة غيبة واغتابه اغتيابا: عابه

(1) الوسائل - كتاب الجهاد - الباب 73 - من أبواب جهاد النفس - ضعيفة بأبي
حمزة.
(2) في النوع الرابع فيما هو محرم في نفسه مما يكتسب به في بيان حرمة الغيبة.
(3) سورة البقرة - الآية 218 - 219
252

وذكره بما فيه من السوء وعن المصباح اغتابه: إذا ذكره بما يكرهه من العيوب وهو حق
والاسم: الغيبة، فإن كان باطلا فهو الغيبة في بهت. وعن النهاية هو أن يذكر
الانسان في غيبته بسوء مما يكون فيه، وفي منتهى الإرب ما ترجمته: الغيبة ذكر السوء
خلف شخص وهي اسم الاغتياب إن كان صدقا، وإن كان كذبا سمي بهتانا، وقريب
منه في معيار اللغة، وفيه وعن بعضهم اغتابه ذكره في غيابه بما فيه من حسن أو
عيب، وفي مجمع البيان الغيبة: ذكر العيب بظهر الغيب على وجه تمنع الحكمة
هذه نبذة من كلمات اللغويين، فقد ترى عدم توافقها واختلافها في جهات لا داعي
في الخوض فيها.
وقال الشهيد الثاني في رسالته (1) وأما بحسب الاصطلاح فلها تعريفان:
أحدهما المشهور، وهو ذكر الانسان حال غيبته بما يكره نسبته إليه مما يعد
نقصانا في العرف بقصد الانتقاص والذم، والثاني التنبيه على ما يكره نسبته إليه الخ
(انتهى)
وعن جامع المقاصد (2) أن حد الغيبة على ما في الأخبار أن يقول في أخيه: ما
يكرهه لو سمعه مما فيه، وعن النراقي الأول في جامع السعادات (3) الغيبة وهي أن
يذكر الغير بما يكرهه لو بلغه، وعن أربعين البهائي (4) قد عرفت الغيبة بأنها التنبيه
حال غيبة الانسان المعين أو بحكمه على ما يكره نسبته إليه مما هو حاصل فيه و
يعد نقصانا بحسب العرف قولا، أو إشارة أو كناية. تعريضا أو تصريحا (انتهى) وفي
المستند (5) هي أن يذكر الانسان من خلفه بما فيه من السوء فلو لم يكن من خلفه

(1) في مقدمة كشف الريبة - في تعريف الغيبة لغة واصطلاحا.
(2) راجع مفتاح الكرامة - في القسم الرابع من المتاجر المحظورة فيما نص الشارع
على تحريمه في الغيبة.
(3) ج 2 - في المقام الرابع من الباب الثالث - في ذكر رذيلة الغيبة وبيان
حقيقتها - من أنواع الرذائل.
(4) في ذيل حديث ثلاثين
(5) في الفصل الثاني فيما يحرم التكسب به من المقصد الثالث - في حرمة الغيبة.
253

لم يكن غيبة، وحكى الشيخ عن بعض من قارب عصره وهو النراقي الأول ظاهرا (1)
أن الاجماع والأخبار متطابقان على أن حقيقة الغيبة أن يذكر الغير بما يكرهه لو
سمعه وأنت خبير بأن تلك التعاريف أيضا مختلفة لا ترجع إلى أمر واحد.
والظاهر أن كلمات الفقهاء بل اللغويين غالبا مشوبة بمضامين الأخبار و
مستفادة منها، ويشهد له ما في المجمع فإنه بعد تعريفه بما في الصحاح قال: وتصديق
ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله ثم حكى قوله: أتدرون ما الغيبة (الخ). فيشكل الاستناد
إليها في تشخيص اللغة والعرف الساذج مع أن اختلافها بما ترى يمنع عن الاستناد إلى
شئ منها، فالأولى عطف النظر إلى ما يستفاد من أدلة الباب من تشخيص القيود
المعتبرة في الموضوع المورد لتعلق الحرمة عليه، أو ما يمكن الاستناد إليه من فهم
العرف والعقلاء في مفهومها.
ولا شبهة في أن بعض القيود المأخوذة في الأخبار شرعية كاعتبار الأخوة
الايمانية بين المغتابين كما هو المذكور في جميع الروايات التي بصدد بيان حدها
وحقيقتها، وتحتمل شرعية بعض آخر أيضا كاعتبار تحقق العيب فيه مقابل البهتان،
فإن الظاهر عدم اعتباره في معناه اللغوي والعرفي كما هو ظاهر كلام المصباح حيث
قال: وإن كان باطلا فهو الغيبة في بهت، وظاهر كلام الطبرسي المتقدم، والتعريف
المحكي عن الشهيد الذي نسبه إلى المشهور، وكذا تعريفه الآخر، والظاهر منه
حصر معنى الغيبة لدى الفقهاء بهما، وأن عدم هذا القيد مفروغ عنه لديهم
بل لدى غيرهم: وظاهر معقد الاجماع المتقدم، وظاهر عنوان الوسائل حيث قال:
باب تحريم اغتياب المؤمن ولو كان صدقا (2) بل لعله ظاهر جملة من كلمات اللغوي
مثل الجوهري والطريحي فإن قوله والاسم الغيبة وهو أن يتكلم خلف انسان مستور
بما يغمه لو سمعه: ظاهر في كونه بصدد بيان ماهية الغيبة، فبعد بيان ماهيتها بذلك
وبقوله قبله اغتابه اغتيابا: إذا وقع فيه قسمها إلى قسمين قسم يقال له الغيبة، وقسم يقال

(1) في المسألة الرابعة عشر - من النوع الرابع - في حرمة الغيبة.
(2) الوسائل - كتاب الحج - الباب 152 - من أبواب أحكام العشرة.
254

له البهتان، فالمقسم غيبة، والقسم كذلك، فالغيبة على ما هو ظاهر كلامه وكلام من
عبر بمثله لها معنى عام مشترك بين البهتان والغيبة بالمعنى الخاص فيرجع كلامهم إلى كلام
صاحب المصباح الذي كالصريح في ذلك بل يمكن الاستظهار من كلام الجماعة أن هذا
التقسيم للغيبة أمر حادث اصطلاحي فلو نوقش في الظهور فلا أقل من الاحتمال القريب وما
ذكرناه محتمل القاموس أيضا حيث كان من دأبه ذكر المعاني المتعددة لشئ متعاقبا
فقوله: غابه عابه وذكره بما فيه، لا يبعد أن يكون من قبيل تعداد المعاني لا العطف التفسيري
نعم ظاهر المنجد أن العطف تفسيري لعدم جعل علامة التعداد بينهما، و
ما ذكرناه هو الظاهر من شأن نزول لا يغتب بعضكم بعضا (الخ) على ما في مجمع البيان (1)
قال: وقوله: لا يغتب بعضكم بعضا نزل في رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله اغتابا
رفيقهما وهو سلمان وأسامة بعثاه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ليأتي لهما بطعام، فبعثه إلى
أسامة بن زيد خازن رسول الله صلى الله عليه وآله على رحله فقال: ما عندي شئ، فعاد إليهما فقالا:
بخل أسامة وقالا لسلمان: لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار مائها ثم انطلقا يتجسسان عند
أسامة ما أمر لهما به رسول الله صلى الله عليه وآله فقال لهما: ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما
قالا: يا رسول الله صلى الله عليه وآله ما تناولنا يومنا هذا لحما قال: ظللتم تأكلون لحم سلمان و
أسامة فنزلت الآية (انتهى) ومعلوم أن سلمان وأسامة لم يكونا على ما وصفاهما، فقد
نزلت الآية حسب هذا النقل في مورد التهمة.
وظاهر الطبرسي الجزم بكون النزول لذلك، ولا يخلو هذا النحو من الارسال
من مثله من نحو اعتبار، وهو مقتضى اطلاق صحيحة هشام (2) ومرسلة ابن أبي عمير
(3) عن أبي عبد الله عليه السلام من قال في مؤمن: ما رأته عيناه وسمعته أذناه فهو من الذين
قال الله (الخ) فإن اطلاق ما سمعته أذناه يشمل غير الموافق للواقع، كما أن الآية الكريمة
واردة في قضية الإفك ومربوطة بها، فراجع الكتاب العزيز وإن كان اطلاقها يشمل
البهت وغيره، وهو الظاهر من بعض الروايات، مثل ما عن المجالس بسنده (4) عن

(1) في تفسير قوله تعالى (لا يغتب بعضكم بعضا الخ) سورة الحجرات - الآية 12.
(2) الوسائل - كتاب الحج - الباب 152 - من أبواب أحكام العشرة - الثالثة ضعيفة بعلقمة بن محمد.
(3) الوسائل - كتاب الحج - الباب 152 - من أبواب أحكام العشرة - الثالثة ضعيفة بعلقمة بن محمد.
(4) الوسائل - كتاب الحج - الباب 152 - من أبواب أحكام العشرة - الثالثة ضعيفة بعلقمة بن محمد.
255

أبي عبد الله عليه السلام وفيها: ولقد حدثني أبي عن آبائه عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: من اغتاب
مؤمنا بما فيه، لم يجمع الله بينهما في الجنة أبدا، ومن اغتاب مؤمنا بما ليس فيه فقد
انقطعت العصمة بينهما وكان المغتاب في النار خالدا فيها وبئس المصير.
ورواية داود بن سرحان (1) التي لا يبعد الاعتماد عليها قال: سألت أبا عبد الله
عليه السلام عن الغيبة قال: هو أن تقول لأخيك في دينه ما لم يفعل وتبث عليه أمرا قد
ستره الله عليه لم يقم عليه فيه حد بناء على أن المراد من صدرها أن تنسب إليه ما لم
يفعل مما كان مقتضى الديانة تركه، كأن يقول: ظلم فلان، مع أنه لم يفعل ذلك
كما هو ظاهره، والرواية المحكية عن جامع الأخبار عن سعيد بن جبير (2) وفيها
من اغتاب مؤمنا بما فيه ثم ساق، كما في رواية المجالس المتقدمة آنفا، وعن مكارم
الأخلاق (3) في رواية قلت: يا رسول الله وما الغيبة قال: ذكرك أخاك بما يكره و
عن سنن البيهقي (4) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله قال: أتدرون ما الغيبة قالوا:
الله ورسوله أعلم قال: ذكرك أخاك بما يكره فإن مقتضى كونه في مقام التحديد أن يكون مطلق ذكر الأخ بالمكروه غيبة كان فيه أم لا.
نعم هنا روايات لعلها صارت منشأ توهم اعتبار هذا القيد حتى عند بعض أهل اللغة:
منها رواية مجالس الشيخ (5) واخباره عن أبي ذر في وصية له، وفيها يا أبا ذر
سباب المسلم فسوق إلى أن قال: قلت: يا رسول الله وما الغيبة قال ذكرك أخاك بما
يكره قلت: يا رسول الله فإن كان فيه الذي يذكر به قال: إعلم أنك إذا ذكرته بما فيه
فقد اغتبته، وإذا ذكرته بما ليس فيه فقد بهته. بدعوى أن مقتضى المقابلة بينهما

(1) الوسائل - كتاب الحج - الباب 154 - من أبواب أحكام العشرة - عدم بعد
الاعتماد لمعلى بن محمد.
(2) المستدرك - كتاب الحج - الباب 132 - من أبواب أحكام العشرة - مرسلة
(3) ص 263 -
(4) في ج 10 - ص 247.
(5) الوسائل - كتاب الحج - الباب 152 - من أبواب أحكام العشرة.
256

أن يكونا عنوانين متباينين.
(وفيه) أن مقتضى جوابه عن السؤال عن ماهية الغيبة بأنها ذكرك أخاك
بما يكره في مقام التحديد: أن ماهيتها عبارة عما ذكر، كان فيه أم لا، وكان سكوته
عن ذكر القيد دليلا على عدم دخالته فيها، وكان عند أبي ذر أيضا مفروغا عنه أن ذكره
بما ليس فيه غيبة، وإنما سئل عن القسم الآخر هل هو غيبة أو لا، وهو شاهد على أن
ذكر ما لا يكون فيه داخل فيها عرفا بل يكون دخوله أظهر ولم يحتج إلى السؤال
فحينئذ لا يبقى ظهور لذيلها في مقابلها تقابل التباين لو سلم ظهوره في نفسه بل الظاهر
من الصدر والذيل أن ماهية الغيبة مطلق ذكر السوء وإذا لم يكن فيه يكون مع ذلك بهتانا
فيرجع إلى قول صاحب المصباح، فإن كان باطلا فهو الغيبة في بهت.
وإن شئت قلت: إن ظهور التحديد في الاطلاق أقوى من ظهور التقابل في
كونه على نحو التباين مع أنه ليس بظهور بل اشعار لولا الاحتفاف بما ذكر.
ومنها رواية عبد الرحمن بن سيابة (1) والسند إليه صحيح وهو لا يخلو من مدح و
حسن قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: الغيبة أن تقول في أخيك: ما ستره الله عليه
وأما الأمر الظاهر مثل الحدة والعجلة فلا، والبهتان أن تقول فيه: ما ليس فيه.
(وفيه) مضافا إلى احتمال أن تكون هي عين روايته الأخرى (2) عنه عليه السلام قال: إن
من الغيبة تقول في أخيك: ما ستره الله عليه، وأن من البهتان أن تقول في أخيك: ما ليس
فيه، الظاهرة في أن التعريف لقسم منهما ولهما قسم أو أقسام أخر فتشعر أو تدل على أعميتها:
أن الظاهر منها أنه بصدد بيان أمر آخر وهو اعتبار كون ما يكره مما ستره الله عليه مقابل
الأمر الظاهر كالحدة، لا بصدد بيان ماهية الغيبة مطلقا، ومعه لا يستفاد منها اعتبار كونه فيه،
وذكر البهتان بما ذكر لا يدل على مقابلتهما بنحو التباين بل يصح ذلك ولو لاشتماله
على زيادة هي الافتراء.
بل التحقيق أن بين عنواني الغيبة والبهتان عموما من وجه، فإن الغيبة عرفا

(1) الوسائل - كتاب الحج - الباب 154 - من أبواب أحكام العشرة.
(2) الوسائل - كتاب الحج - الباب 152 - من أبواب أحكام العشرة.
257

ذكر السوء خلف المغتاب، كان فيه أم لا، والبهتان الافتراء عليه، كان حاضرا " أم
غائبا، فلا تقابل بينهما بالتباين ويصح التقابل بينهما لما ذكر، فلا تدل الروايات على أن التقابل بالتباين فلا معارضة بينها وبين ما تقدمت مما هي في مقام تحديد الغيبة
كما لا يخفى، وبه يدفع توهم عدم امكان تعلق حكمين وإرادتين على عنواني
الأخص والأعم. فإنه على فرض صحته إنما هو في الأخص المطلق، لا من وجه، بل
ولا مطلق الأخص المطلق، بل فيما إذا أخذ عنوان الأعم في الأخص كالرقبة والرقبة
المؤمنة، لا فيما كانا كذلك بحسب الانطباق، وبما ذكر يظهر حال غيرها مما تشعر بذلك.
كرواية منسوبة إلى يحيى الأزرق (1) وهو مجهول، والرواية ضعيفة وإن كان
الراوي عنه أبان وهو من أصحاب الاجماع لما قررناه في محله من عدم تصحيح نقل
أصحاب الاجماع من بعدهم (نعم) رجحنا العمل بخصوص مرسلات ابن أبي عمير دون
غيره ودون مسنداته. قال: قال لي أبو الحسن عليه السلام: من ذكر رجلا من خلفه بما هو
فيه مما عرفه الناس لم يغتبه، ومن ذكره من خلفه بما هو فيه مما لا يعرفه الناس
اغتابه، ومن ذكره بما ليس فيه فقد بهته.
ورواية ابن سنان (2) قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: الغيبة أن تقول في أخيك:
ما ستره الله عليه وأما إذا قلت: ما ليس فيه فذلك قول الله عز وجل: فقد احتمل
بهتانا وإثما مبينا، بل مرسلة الحسين بن سعيد (3) عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: من
قال في مؤمن: ما ليس فيه حبسه الله في طينة خبال حتى يخرج مما قال فيه وقال: إنما
الغيبة أن تقول في أخيك: ما هو فيه مما ستره الله عز وجل فإذا قلت فيه: ما ليس فيه
فذلك قول الله عز وجل في كتابه: فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا. فإنها مع إرسالها
محمولة ولو جمعا بينها وبين ما في مقام التحديد على ما هو صرف غيبته بلا انطباق
عنوان آخر عليه، وأما إذا لم يكن فيه فمشمول مع ذلك لقوله تعالى: احتمل

(1) الوسائل - كتاب الحج - الباب 154 - من أبواب أحكام العشرة.
(2) الوسائل - كتاب الحج - الباب 152 - من أبواب أحكام العشرة.
(3) المستدرك - كتاب الحج - الباب 133 - من أبواب أحكام العشرة.
258

بهتانا، مضافا إلى احتمال أن يكون فيها بصدد بيان قسم من الغيبة وهو الذي ستره
الله عليه وكان فيه، لا بصدد بيان ماهيتها الكلية.
فالأظهر عدم اعتبار هذا القيد في عنوان الغيبة، فلو كان لعنوانها أثر خاص
يترتب على من اغتاب مؤمنا بما ليس فيه كما لو قلنا: بوجوب الاستحلال منه أو
الاستغفار له. والظاهر أن اعتبار كراهة المغتاب كما هو ظاهر جملة من كتب اللغة
كالصحاح والمصباح ومعيار اللغة ومجمع البحرين وجملة من تعاريف الفقهاء
كالتعريفين المتقدمين عن رسالة الشهيد الثاني والمحكي عن أربعين البهائي وعن
جامع المقاصد قائلا: إن حقيقة الغيبة على ما في الأخبار أن تقول في أخيك: ما
يكرهه مما هو فيه والاجماع المنقول المتقدم الذي حكاه شيخنا الأنصاري عن بعض
من قارب عصره ولعله أول النراقيين أيضا: من تخلل الاجتهاد.
ودعوى دلالة الروايات عليه كما صرح به المحقق الثاني في عبارته المتقدمة
وادعى الشيخ الأنصاري (1) دلالة جملة من الأخبار عليه قال: وعلى هذا التعريف دلت جملة
من الأخبار مثل قوله وقد سأله أبو ذر عن الغيبة أنها ذكرك أخاك بما يكرهه، وفي نبوي
آخر قال: أتدرون ما الغيبة قالوا: الله ورسوله أعلم قال: ذكرك أخاك بما يكرهه
(انتهى). والأقوى عدم اعتباره في ماهية الغيبة كما هو ظاهر القاموس، ونهاية ابن
أثير، ومنتهى الإرب، والمنجد، ومجمع البيان، وعن بعض أهل اللغة، وهو صريح
النراقي في المستند، لا في مفهومها العرفي وهو واضح لصدقها على ذكر السوء و
لو لم يكرهه صاحبه ولهذا يقال: إنه غير كاره لاغتيابه أو راض به من غير تأول، ولا
بحسب الأخبار فإن مقتضى اطلاقها عدم اعتباره.
كرواية داود بن سرحان (2) وروايتي عبد الرحمن بن سيابة (3) ورواية يحيى الأزرق (4)

(1) في المسألة الرابعة عشر - من النوع الرابع - في حرمة الغيبة.
(2) الوسائل - كتاب الحج - الباب 154 - من أبواب أحكام العشرة.
(3) الوسائل - كتاب الحج - الباب 152 - 154 - من أبواب أحكام العشرة.
(4) الوسائل - كتاب الحج - الباب 154 - من أبواب أحكام العشرة.
259

وعبد الله بن سنان (1) المتقدمات، وغيرها مما في الوسائل (2) والمستدرك (3)
بل ومرسلة ابن أبي عمير (4) وصحيحة هشام (5) عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من قال في
مؤمن: ما رأته عيناه وسمعته أذناه فهو من الذين قال الله: إن الذين (الخ) بل ورواية
عقاب الأعمال (6) وفيها: ومن مشى في عيب أخيه وكشف عورته كانت أول خطوة خطاها
وضعها في جهنم، وكشف الله عورته على رؤس الخلائق.
فإن الظاهر أن المراد بما ذكر فيهما هو الغيبة لا عنوان آخر غيرها كما
تمسك بهما الفقهاء في حرمتها، وأما النبويان المتقدمان في كلام الشيخ، فالنسخ
التي عندنا من الوسائل (7) والوافي (8) والمستند (9) حاكيين عن مكارم الأخلاق،
وفي مجمع البحرين (10) وكشف الريبة (11) للشهيد قائلا: وقد جاء على المشهور
قول النبي صلى الله عليه وآله فساق الحديث، والمحكي عن جامع السعادات للنراقي (12) وعن
سنن البيهقي (13) (ذكرك أخاك بما يكره) لا بما يكرهه، كما في نقل الشيخ.

(1) الوسائل - كتاب الحج - الباب 152 - من أبواب أحكام العشرة.
(2) كتاب الحج - الباب 152 و 154 - من أبواب أحكام العشرة.
(3) كتاب الحج - الباب 132 و 133 - من أبواب أحكام العشرة.
(4) الوسائل - كتاب الحج - الباب 152 - من أبواب أحكام العشرة.
(5) الوسائل - كتاب الحج - الباب 152 - من أبواب أحكام العشرة.
(6) الوسائل - كتاب الحج - الباب 152 - من أبواب أحكام العشرة.
(7) الوسائل - كتاب الحج - الباب 152 - من أبواب أحكام العشرة.
(8) الباب 14 - من أبواب مواعظ رسول الله صلى الله عليه وآله ج 14 ص 56 - في
وصايا النبي لأبي ذر ومواعظه.
(9) في الفصل الثاني فيما يحرم التكسب به من المقصد الثالث - في حرمة الغيبة.
(10) في لغة (غيب)
(11) في المقدمة - في تعريف الغيبة لغة واصطلاحا.
(12) في المقام الرابع من الباب الثالث - في ذكر رذيلة الغيبة وبيان حقيقتها من أنواع الرذائل - ج 2 -.
(13) ج 10 - ص 247.
260

ولعله رواهما عن الجواهر (1) وهو من غلط النسخة أو سهو قلمه الشريف والنسخة
الصحيحة ما نقلناه، والمظنون أن يكون لفظة يكره على صيغة المجهول فتساوق
مع ما في منتهى الإرب على ما تقدم، ولو قيل باحتمال كونها على صيغة المعلوم
محذوفا مفعولها قلنا مع بعده في الجملة: إن غاية الأمر تكون مجملة لا تصلح لتقييد
المطلقات المتقدمة.
واحتمال انصراف الأدلة عما إذا رضي المغتاب أو لم يكرهه سيما أن ترك
الغيبة من حقوق الأخوة ومع عدم الكراهة أو الرضا بها يكون بمنزلة الاسقاط
(في غاية أوهن والضعف) ضرورة أن افشاء ما ستره الله تعالى على عباده من نحو
المعاصي والقبائح والأعراض لا يجوز حتى على الفاعل أو الموصوف إذا أوجب هتكه
وهتك عرضه فضلا عن غيره، وهو ليس من الحقوق التي جاز اسقاطها، وليس كل
ما سمي حقا بين الأخوين جائز الاسقاط، فإن عدم الخيانة أيضا " عد من الحقوق،
ولعل الشارع لا يرضى بكشف ستر المؤمن مطلقا، رضي به أم لا.
وفي الحديث: صونوا أعراضكم (2) وظني ورود ما دلت على عدم جواز
هتك المؤمن عرضه، وأن عرضه ليس بيده، وفي الحديث ليس أن يذل نفسه وأن
الله تبارك وتعالى فوض إلى المؤمن كل شئ إلا اذلال نفسه (3) (تأمل) وبالجملة دعوى
الانصراف لا وجه لها. وقلة الوجود لا توجب الانصراف بل المناسبات تقتضي قوة الاطلاق
والانصاف أن رفع اليد عن اطلاق الآيات والروايات والتشديدات والاهتمامات الواردة
في حرمة غيبة المؤمن وإذاعة سره وهتكه وتعييبه وغير ذلك: غير ممكن فالأظهر
الأقوى عدم اعتبار هذا القيد، وليس الكلام هاهنا في المتجاهر والمتهتك الذي
لا يبالي بما قيل أو يقال فيه.

(1) في النوع الرابع فيما هو محرم في نفسه مما يكتسب به - في بيان حرمة الغيبة.
(2) راجع مجمع البحرين - في لغة (عرض).
(3) الوسائل - كتاب الأمر بالمعروف - الباب 13 - من أبواب الأمر والنهي و
المستدرك - الباب 11 -
261

ثم على ما ذكرناه من عدم اعتبار كراهته يسقط البحث عن أن المراد
بكراهته كراهة وجوده أو كراهة ظهوره أو كراهة ذكره، وأن المراد بالموصول
هل هو نفس النقيصة أو الكلام الذي يذكر الشخص به إلى آخر ما قاله الشيخ الأنصاري
(1) فإنها مبنية علي ثبوت الرواية بنحو ما نقلها، أو ترجيح احتمال البناء للفاعل
وكلاهما غير سديد، أما الأول فقد تقدم. وأما الثاني فالأرجح بالنظر البناء للمفعول
فتكون الرواية مطابقة لسائر الأدلة المستدل بها لحرمة الغيبة، ولو نوقش فيه فلا
ترجيح للاحتمال الآخر فتكون مجملة كما تقدم.
ثم إن قيد مستورية العيب أيضا
ليس من قيود موضوعها عرفا ولغة كما تشهد به جميع الكلمات المتقدمة من اللغويين،
والتعاريف المتقدمة من الفقهاء فإنه ليس في واحد منها ذكر عن اعتباره.
نعم ربما يقال بظهور كلام صاحب الصحاح والمجمع في اعتبار ه حيث قالا: و
هو أن يتكلم خلف انسان مستور بما يغمه لو سمعه فإنه ظاهر في التكلم بشئ
مستور. وأنت خبير بما فيه، فإن المراد بالإنسان المستور هو العفيف قال في الصحاح:
ورجل مستور وستير أي عفيف والجارية ستيرة وفي القاموس: الستير: العفيف
كالمستور ونحوهما في المنجد، والظاهر أن هذا القيد في تعريف الصحاح والمجمع
مأخوذ من الرواية المنقولة عن رسول الله صلى الله عليه وآله: من ألقى جلباب الحياء عن وجهه
فلا غيبة له (2) رواها في المستدرك عن القطب الراوندي ورواها الشهيد عن النبي
صلى الله عليه وآله وعن سنن البيهقي عنه صلى الله عليه وآله، وفي المستدرك عن اختصاص الشيخ المفيد عن أبي الحسن الرضا عليه السلام، فقد ظهر من كلمات اللغويين والفقهاء في مقام التحديد و
التعريف عدم اعتباره في مفهوم الغيبة فحينئذ تدل الآية أو الآيات والروايات باطلاقها
على حرمتها في عيب مستور وغيره ولا بد في استثنائه ومقدار ذلك من التماس دليل
صالح لتقييدها وكان الأولى ذكره وكذا ذكر بعض ما تقدم في المستثنيات والأمر سهل.

(1) في المسألة الرابعة عشر - من النوع الرابع - في حرمة الغيبة.
(2) المستدرك - كتاب الحج - الباب 134 - من أبواب أحكام العشرة.
262

ومن الروايات التي يمكن الاستدلال بها على الاستثناء رواية عبد الله بن سنان
(1) قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: الغيبة أن تقول في أخيك: ما قد ستره الله عليه، و
قريب منها رواية عبد الرحمن بن سيابة (2) ويحتمل أن يكون المراد بما ستره الله
عليه ما يكون مستورا " تكوينا مقابل المكشوف تكوينا، فمثل العمى والبرص و
العور وطول القامة وقصرها مكشوف ولو فرض ستره بساتر كالعمامة والقميص و
نحوهما ومثل الجبن والبخل والحرص والطمع مستور ولو فرض كشفها بالآثار و
الظاهر ضعف هذا الاحتمال ولو بقرينة سائر الروايات الآتية.
والأقوى الأظهر أن المراد بها مستوريتها عن الناس مقابل مكشوفيتها بينهم
فالبرص المستور عن أعين الناس يكون مما ستره الله تعالى عليه، والبخل المكشوف
لديهم بآثاره مما كشفه الله تعالى وهو من العيب الظاهر وهذا هو الموافق لسائر
الروايات، كرواية داود بن سرحان (3) قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الغيبة قال
هو أن تقول لأخيك في دينه ما لم يفعل وثبت عليه أمرا " قد ستره الله عليه لم يقم عليه
فيه حد، ورواية عبد الرحمن بن سيابة (4) حيث مثل فيها للأمر الظاهر بمثل الحدة
والعجلة، وأوضح منهما رواية يحيى الأزرق (5) قال: قال لي أبو الحسن عليه السلام: من
ذكر رجلا بما فيه مما عرفه الناس لم يغتبه، ومن ذكره بما هو فيه مما لا يعرفه الناس
اغتابه فالميزان هو المستورية والمعروفية بين الناس.
ولا يخفى أن المعروفية في مقابل عدمها ليست المعروفية بين جميع الناس،
بل المراد هو المعروفية العرفية كمن كان معروفا في بلد أو طائفة وقبيلة بل عند جمع معتد
به، فحينئذ يقع الكلام في أن المعروفية في بلد مثلا توجب جواز غيبته مطلقا حتى
في بلد آخر ولدى أشخاص أخر كان العيب مستورا " عنهم، أو أن الجواز مقصور بغيبته
لدى العارفين فإذا صار معروفا لدى الناس جازت عندهم فقط، أو أن الجواز وعدمه

(1) الوسائل - كتاب الحج - الباب 152 - من أبواب أحكام العشرة.
(2) الوسائل - كتاب الحج - الباب 154 - من أبواب أحكام العشرة.
(3) الوسائل - كتاب الحج - الباب 154 - من أبواب أحكام العشرة - الثالثة ضعيفة بيحيى الأزرق.
(4) الوسائل - كتاب الحج - الباب 154 - من أبواب أحكام العشرة - الثالثة ضعيفة بيحيى الأزرق.
(5) الوسائل - كتاب الحج - الباب 154 - من أبواب أحكام العشرة - الثالثة ضعيفة بيحيى الأزرق.
263

دائر مدار علم السامع وعدمه ولو لم يكن معروفا لدى الناس، وبعبارة أخرى
المعروفية عند الناس عرفا موضوعة للجواز مطلقا، أو لدى العارفين، أو أن الموضوع
للجواز معلوميته لدى المستمع فتكون الغيبة المحرمة عبارة عن كشف ستر المؤمن
فمع علم السامع لم يكن ذكره كشفا لستره ومع جهله يكون كشفا ولو كان مكشوفا
لدى غيره بل في بلده ولدى الناس.
لعل الأقرب بنظر العرف ولو بمناسبة الحكم والموضوع هو الأخير، لصدق
الستر عليه بالإضافة إلى هذا الشخص، وليس المراد بالستر الستر من جميع الناس
حتى يكون الكشف عند واحد كافيا لجوازها.
إلا أن يقال: كما أنه ليس المراد به الستر من جميع الناس كذلك ليس المراد
بمثل قوله: مما ستره الله عليه، الستر عن واحد واثنين مع مكشوفيته لدى أهل
بلده ففي مثله لا يصدق أن ذلك مما ستره الله عليه، كما أنه إن كان مستورا " لدى
الناس وقد علم به واحد أو اثنان لا يقال: إن الله تعالى كشف عيبه، فالستر والكشف
وإن لم يكونا هو الكشف والستر لدى جميع الناس لكنهما لدى العرف عبارة عن
حصولهما بنحو معتد به بحيث يقال: إنه معروف بذلك لدى الناس، فحينئذ يقال
ستره الله عليه أو كشف الله ستره فلا يجوز ذكره حتى لدى العارف به إلا مع
معروفيته به.
إلا أن يقال: إن العرف ولو بمناسبات يفهم من مثل الرواية أنه ليس لأحد
كشف ما ستره الله على عبده، ولا ذكره، ولو لم يكن كشفا ولم يكن مستورا "، و
أنه تعالى نهى عن بث الفاحشة وإشاعتها، وأما إذا لم يكن للذكر أثر في الطرف و
يكون ذكره وعدم ذكره سواء بالنسبة إلى كشف الستر والعورة فالرواية قاصرة عن اثبات
حرمته، وبعبارة أخرى المفهوم منها أن العبد لا بد في ذلك أن يكون تابعا لله
تعالى في أصل الستر ومقداره فإن ستره الله مطلقا ستره كذلك وإن كشفه كشفه
بمقداره، لا أزيد، لكنه مشكل بعد اطلاق الكتاب والسنة وبعد أخذ عناوين في
الروايات المجوزة مما يرى العرف عناية القائل بها نحو قوله: قد ستره الله عليه
264

لم يقم عليه فيه حد، فإن الظاهر أن المراد بعدم قيام الحد مقابل قيامه: هو بيان
تحديد مقدار الانتشار، وأنه إذا صار محدودا " يصير لا محالة معروفا بذلك وانتشر
عيبه فلا يكون ذكره غيبة، فالظاهر منه العناية بذكر التحديد وليس قيام الحد و
عدمه موضوعا كما لا يخفى، سيما مع قرينية سائر الروايات، وكذا قوله: وأما
الظاهر مثل الحدة والعجلة فلا: ظاهر بمؤنة المثال في أن الميزان انتشار صفته كانتشار
عجلته وحدته فإنهما لا يخفيان على نوع من عاشره وأوضح منهما رواية الأزرق التي علق
فيها الحكم على معرفة الناس، فالغاء الخصوصية من تلك الروايات مشكل بل
ممنوع.
وملخص القول في مفادها: أن في رواية العياشي (1) بعد الجزم بعدم كون
المراد مما ستره الله عليه الستر التكويني كما تقدم احتماله، وبعد معلومية
أن المراد المستورية أو المكشوفية لدى الناس. احتمالات:
منها أن يكون الستر المطلق موضوعا للحرمة مقابل الكشف في الجملة،
فإذا كان العيب مستورا " عن الناس مطلقا يكون ذكره غيبة محرمة، وإذا لم يكن
كذلك ولو بظهوره عند بعض الناس لا يكون ذكره غيبة مطلقا.
ومنها مقابل ذلك وهو أن يكون الستر في الجملة موضوعا لها مقابل الكشف
المطلق لا بمعنى كشفه لدى جميع الناس، بل بمعنى كشفه عند من يعرف هذا الرجل
بمعنى أن كل من يعرفه يعرفه بهذا العيب، فإذا كان مستورا " عند بعض يكون
ذكره غيبة.
ومنها أن يكون المراد بالستر ومقابله الستر والكشف العرفي أي الستر
بمقدار يقال عرفا: أنه مستور عن الناس، والكشف كذلك فلا ينافي علم بعض و
لا جهله، وهذا الأخير أقرب الاحتمالات بل هو المتعين بملاحظة سائر الروايات، فإن
رواية داود بن سرحان كالصريحة في هذا الاحتمال، ضرورة أن قبل قيام الحد
كان العيب معلوما عند بعض كالقاضي والشهود بل ومأمور الاجراء، فيظهر منها

(1) الوسائل - كتاب الحج - الباب 152 - من أبواب أحكام العشرة.
265

عدم الاكتفاء بهذا القدر من المعلومية، بل لا بد من انتشار نحو انتشاره بجريان
الحد، كما أن هذا النحو من الانتشار ليس انتشارا مطلقا ولا مقابله مستورية مطلقة
وكذا الحال في سائر الروايات، وبالجملة أن الظاهر منها هو الانتشار والاستتار
العرفيان.
ثم المتيقن منها أنه عند الانتشار والمعروفية عند الناس عرفا لا يكون غيبة
عند العارفين، ويحتمل أن يكون مقتضى اطلاقها جوازها لدى غيرهم، لكنه لا يخلو
من اشكال لعدم الاطلاق في مفهوم رواية عبد الله بن سنان إن قلنا: بأصل المفهوم،
لكونها في مقام تحديد الغيبة وأما اطلاقه بالنسبة إلى العارف وغيره: فغير ظاهر،
وكذا الحال في رواية عبد الرحمن بن سيابة بطريق الحسن بن محبوب، بل هي
أولى بعدم المفهوم لقوله: إن من الغيبة أن تقول (لخ)، وكذا في رواية داود بن
سرحان فلا اطلاق في مفاهيم هذه الروايات، ورواية الأزرق مع ضعفها لا يبعد أن
يقال فيها: إن الظاهر من قوله ذكر رجلا بما عرفه الناس، ذكره عندهم، كما أن
المراد بالجملة الثانية أن يذكره عند غير العارفين، فاطلاقها أيضا مشكل.
بقيت رواية واحدة هي رواية عبد الرحمن بن سيابة بطريق يونس (1) فمع
تسليم اطلاقها وعدم القول بانصرافها إلى ذكره عند من يعرفه بذلك: لا يمكن رفع
اليد عن اطلاق الآيات والروايات الكثيرة بها مع كون الراوي عن يونس بن عبد
الرحمن محمد بن عيسى، وقد استثناه ابن الوليد من رجال يونس وتبعه الصدوق و
ضعفه جمع، ونحن وإن لم نقل بضعفه لكن العمل برواياته في خصوص مورد الاستثناء
مشكل سيما في مثل المسألة، وعدم ورود توثيق ممن يعتمد على توثيقاته في
عبد الرحمن بن سيابة بل رماه صاحب المدارك على ما حكي بالجهالة وإن لا يخلو
من مدح ما، وكيف كان يشكل تقييد الاطلاقات بمثلها فالمسألة مشكلة، والأحوط
ما ذكر بل لا يخلو من قوة.
نعم ما هو المتيقن من مضمون الروايات لا بأس بالعمل به.

(1) الوسائل كتاب الحج الباب 154 من أبواب أحكام العشرة.
266

وأما قصد الانتقاص فالظاهر اعتباره في مفهومها عرفا فمن ذكر عيب مريض
عند الطبيب ليعالجه من غير قصد التعييب والانتقاص لا يقال: إنه اغتابه في العزف،
وتشهد له كلمات كثير من اللغويين كالصحاح والمجمع حيث فيهما: اغتابه اغتيابا
: إذا وقع فيه فإن معنى وقع فيه وقيعة: أن يذكره بسوء ففي المنجد: وقع في
فلان: سبه وعابه واغتابه، وكنهاية ابن أثير ومنتهى الإرب ومعيار اللغة والمنجد
وصدر كلام القاموس وما في ذيله والغيبة فعلة منه تكون حسنة أو قبيحة: لا ينافي
صدره، لاحتمال أن يكون مراده تقسيم الغيبة إليهما فتكون الحسنة غيبة المتجاهر
بقصد المنع عن المنكر مثلا بل لا يبعد أن يكون هذا ظاهر كلامه ولعله يرجع إلى
كلام الطبرسي حيث قيد ذكر العيب بقوله: بوجه تمنع الحكمة، أو أن يكون
مراده أن لها معنيين أحدهما تعييبه وذكره بالسوء وثانيهما ذكره بما فيه من
الحسن، أو يكون مراده أن الغيبة عبارة عن تعييب غيره سواء كان التعييب بشئ
قبيح أو حسن فإذا عابه بشئ ولو كان حسنا واقعا اغتابه، بل لعل الاعتبار مقتضى
كلام كل من قيده بما يكرهه من حيث ملازمة الاكراه نوعا للذكر في مقام الانتقاص
وعدمه نوعا في غيره كمقام التلطف والترحم ونحوهما وهو صريح التعريفين في رسالة
الشهيد والمحكي عن البهائي بل مقتضى سائر التعاريف بناء على ظهور ما يكرهه في ذلك.
وكيف كان المتبادر من الغيبة اعتبار هذا القيد في مفهومها فيكون جميع
الأدلة التي علق فيها الحكم علي عنوانها ظاهرة فيه، مضافا إلى ظهور جلها لولا كلها
مع الغض عما ذكر في اعتباره، كآية تحريمها بمناسبة ذيلها فإن الظاهر من أكل لحم
الأخ هو ذكره على سبيل الانتقاص وهو الظاهر من جميع الروايات الواردة بهذا
المضمون، كما هو الظاهر من قوله: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم (1)
فإن ذكر السوء والجهر به عبارة أخرى عن التعييب سيما مع استثناه من ظلم، و
قوله تعالى: ويل لكل همزة لمزة (2) كما عن أهل اللغة والتفسير والمتفاهم منهما

(1) سورة النساء - الآية 147.
(2) سورة الهمزة - الآية 1.
267

عرفا، وقوله: إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة (الخ) (1) وهو المتفاهم من جل
الروايات لفظا وسياقا وبمناسبات الحكم والموضوع فراجع ما وردت في حرمتها،
وما وردت في وجوب ردها تجد صدق ما ذكرناه.
نعم هنا بعض روايات يمكن أن يكون منشأ توهم عدم اعتباره:
منها رواية الفضيل (2) عن أبي الحسن موسى عليه السلام قال: قلت له: جعلت فداك
من إخواني يبلغني عنه الشئ الذي أكرهه الرجل فأسأله عنه فينكر ذلك، وقد
أخبرني عنه قوم ثقات فقال لي يا محمد: كذب سمعك وبصرك عن أخيك فإن شهد
عندك خمسون قسامة فقال لك قولا فصدقه وكذبهم، ولا تذيعن عليه شيئا تشينه به و
تهدم مروته فتكون من الذين قال الله: إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين
آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة.
بدعوى أنها في صدد بيان حرمة الغيبة ومقتضى اطلاق صدرها أن مجرد ما
يوجب شياع الفاحشة حرام وداخل في مفاد الآية أو يقال: إن سلم عدم كونها في
مقام بيان حرمة الغيبة لكنها في مقام بيان حرمة إذاعة الفاحشة.
ومقتضى اطلاق صدرها حرمة ذكر عيب الغير سواء كان بقصد الانتقاص أم لا،
فيكشف من اطلاق الرواية اطلاق الآية والمعنى المراد منها وهو أن المراد بإشاعتها
مطلق فعل ما يوجب شياعها سيما مع ذكر الآية بنحو التفريع على الرواية والمتفرع
على شئ يتبعه في الاطلاق والتقييد.
مع امكان أن يقال: بقيام قرينة عقلية على التعميم وهي أن لا فائدة في التنبيه
على دخول القاصد لإشاعة الفاحشة في عموم الآية، وإنما يحسن التنبيه على أن قاصد
السبب أي فعل ما يوجب إشاعة الفاحشة قاصد لإشاعتها بالحمل الشايع وإن لم يكن
قاصدا لها بالحمل الأولى، وكيف كان فمطلق ذكر عيب الغير سواء كان بقصد الانتقاص
أم لا بل ولو كان بقصد الترحم والتلطف داخل في اطلاق الصدر، واطلاقه كاشف

(1) سورة النور - الآية 18
(2) الوسائل - كتاب الحج - الباب 157 - من أبواب أحكام العشرة.
268

عن معنى الآية سمي غيبة أم لا.
وفيه مضافا إلى أن ما رمناه في المقام هو تحصيل مفهوم الغيبة عرفا أو ما يعتبر في
عنوانها بدليل شرعي ليترتب عليه أحكامها الخاصة، وقد علمت أن الرواية ولو مع
استشهادها بالآية قاصرة عن اثبات عنوانها: أن اطلاق صدرها لما لم يقصد الانتقاص
ممنوع، فإن الظاهر من مجموع الرواية سيما قوله عليه السلام: ولا تذيعن عليه شيئا تشينه
وتهدم مروته: أن النهي متعلق بذكر عيوبه لشينه وهدم مروته ولا أقل من أن يكون
ذكره ملازما له، ومعه لا ينفك قصده عن قصد التعييب ولو بالحمل الشايع، فلا
تشمل ما إذا كان قصده من ذكره عدم التعييب بل ذكره عند الطبيب لعلاجه، وعند
الغني للترحم عليه، وعند الحاكم لدفع الظلم عنه، لعدم صدق أنه شانه وهدم مروته
واغتابه وعابه، وليس المراد من قصد الانتقاص قصد عنوانه ولا من حب شيوع الفاحشة
في الآية حب عنوانه جزما، بل المراد حب شيوع ما هو فاحشة بالحمل الشايع وقصد
الانتقاص كذلك، فلا ينبغي الاشكال في أن الظاهر من الرواية أن من ذكر عيب الغير و
أذاعه وشانه وهدم مروته: داخل في الآية كما لا شبهة في أن مفاد الآية ليس إلا حرمة
افشاء الفاحشة وهو الظاهر عرفا من قوله: يحب أن تشيع الفاحشة في فلان أو في
الذين آمنوا، فحينئذ يكون ما في الرواية داخلا في الآية من غير تصرف فيها.
وأما ما أفيد: من القرينة العقلية ومن تفريع الآية على الرواية وتبعيتها
في الاطلاق (فغير وجيه) لأن ذكر الآية إنما هو لإخافة المكلف عن العذاب الأليم
الموعود لمن يشيع الفاحشة في المؤمن، لا التنبيه على أن قاصد السبب قاصد للمسبب
وليس ذكر الآية تفريعا على نحو سائر التفريعات حتى يقال: تتبعها في الاطلاق بل
الظاهر أن ذكرها لمجرد التنبيه على ايعاد الله تعالى والتذكير بأن إذاعة عيب
الناس موجبة للعذاب الأليم، والانصاف أن الرواية بعيدة عن افهام ما ذكر: من الوجه
العلمي والفني
ومنها مرسلة ابن أبي عمير (1) عن أبي عبد الله عليه السلام وصحيحة هشام عنه عليه السلام قال: من قال

(1) الوسائل - كتاب الحج - الباب 152 - من أبواب أحكام العشرة.
269

في مؤمن ما رأته عيناه أو سمعته أذناه فهو من الذين قال الله عز وجل إن الذين يحبون (الخ)
بالتقريب المتقدم: من أن ظاهر اطلاق الصدر شموله لكل قول في مؤمن، ومن
اطلاقه يكشف أن المراد بالآية معنى أعم مما هو ظاهرها أي مطلق ذكر الغير
بالعيب بأي قصد كان، ولا يأتي في هذه الرواية ما في الرواية المتقدمة وهو دعوى
ظهورها في تعييب الناس.
(وفيه) أن فيها احتمالين: (أحدهما) أن يكون المراد بقوله ذلك الحاق
القائل في مؤمن بالآية موضوعا كما هو ظاهر فهو من الذين قال الله (الخ)، فيدور
الأمر حينئذ بين التصرف في ظاهر الآية بما يشمل مطلق الذكر ولولا لحب شيوع
الفاحشة ولو بالحمل الشايع وحفظ اطلاق الرواية، وبين القول بقرينية الآية للمراد
من قوله: من قال في مؤمن (الخ) بأن من اغتاب مؤمنا أو من عيب مؤمنا فكذا،
ولا شبهة في رجحان الثاني فإنه ظهور لفظي حاف بالكلام، مانع عن الاطلاق،
مع أن التصرف في الآية بما ذكر من أبعد التصرفات بل مناقض لظهورها بخلاف
حمل الصدر الاغتياب والتعييب، بل لا يبعد أن يقال: إن قوله من قال في مؤمن
(الخ) ظاهر في نفسه فيه فضلا عن محفوفيته بالآية.
(وثانيهما) أن يراد به الالحاق الحكمي وعليه أيضا لا يراد الحاق مطلق القول في
مؤمن بل بمقتضى المناسبة بين الملحق والملحق به يراد الحاق اغتياب المؤمن وتعييبه
به حكما، مضافا إلى أن الالحاق الحكمي خلاف ظاهر الرواية كما أشرنا إليه.
ومنها الروايات الواردة في تفسير الغيبة كرواية عبد الرحمن بن سيابة (1)
وداود بن سرحان (2) وعبد الله بن سنان (3) ومرسلة أبان (4)، فإن مقتضى اطلاقها
عدم الفرق بين قصد الانتقاص وعدمه.
(وفيه) أن ظاهرها أنها بصدد بيان أن المستور غيبة دون غير المستور، لا بصدد

(1) الوسائل - كتاب الحج - الباب 154 - من أبواب أحكام العشرة.
(2) الوسائل - كتاب الحج - الباب 154 - من أبواب أحكام العشرة.
(3) الوسائل - كتاب الحج - الباب 152 - من أبواب أحكام العشرة.
(4) الوسائل - كتاب الحج - الباب 154 - من أبواب أحكام العشرة.
270

بيان أن المستور كذلك مطلقا، وبعبارة أخرى أنها بصدد بيان حكم آخر وهو
إن ما ستره الله غيبة لا ما هو أمر ظاهر وأما أن ما ستره الله مطلقا أو بقيد يكون
كذلك فليست في مقام بيانه.
وإن شئت قلت: إنها ليست بصدد بيان ادخال ما ليس بغيبة عرفا ولغة فيها
تعبدا بل بصدد بيان اخراج قسم منها عنها فلا اطلاق لها في الجهة المنظورة، و
أما ما عن النبي صلى الله عليه وآله: أنها ذكرك أخاك بما يكره (1) فالظاهر منه بناء على
البناء للمجهول أن الغيبة ذكر السوء، والمتفاهم منه عرفا هو تعييب الغير كما هو
المتفاهم من قوله تعالى: لا يحب الله الجهر بالسوء (2) وعلى البناء للمعلوم منصرف
إلى التعييب والانتقاص، لأن ذكره على غير جهته كذكره عند الطبيب ونحوه
لا يكون مما يكرهه، ولو فرض نادرا كراهته فالرواية منصرفة عنه، والانصاف أن
اعتبار هذا القيد آية ورواية وعرفا مما لا ينبغي أن ينكر.
ثم إن الظاهر انصراف الأدلة وكلمات الأصحاب واللغويين عن الذكر عند
نفسه بلا مخاطب أو سامع.
ودعوى اطلاقها بتقريب أن قوله في تفسير الغيبة: ذكرك أخاك بما يكره
وقوله: إذا ذكرته بما فيه فقد اغتبته ونحوهما من قبيل قوله: ذكر الله حسن فكما
لا يعتبر في ذكر الله أن يكون عند مخاطب كذلك في المقام، (ودعوى) أن نكتة
حرمة الغيبة هي الفساد المترتب عليها من كشف ستر المؤمن وحصول العداوة بين
الأحبة ونحوهما: غير ثابتة لامكان النهي عنها مضافا إلى ذلك لحفظ لسان المغتاب بالكسر
وعدم اعتياده بالفحش والتعييب وتنزيه نفسه عن التفكه بأعراض الناس، فلا مانع
من اطلاقها.
(ممنوعة) ضرورة أن المتفاهم من جميع الأدلة بل وكلمات القوم هو الذكر
عند الغير والقياس بذكر الله الذي بين العبد وخالقه مع الفارق ما لا يخفى، والانصاف

(1) راجع سنن البيهقي ج 10 - ص 247 - مكارم الأخلاق - ص 263
(2) سورة النساء - الآية 147 -
271

أنه مع خلو الأذهان عن الاحتمالات العقلية والمناقشات العلمية لا ينقدح فيها من الأدلة
إلا التعييب عند الناس، بل الظاهر اعتبار هذا القيد في مفهومها العرفي فلا يقال لمن
ذكر غيره عند نفسه: اغتابه وعابه فما أفاده شيخنا الأنصاري (1): أن ظاهر الأكثر
دخول ذكره عند نفسه في تعريف الغيبة وحكى عن بعض معاصريه التصريح به:
غير ظاهر فإن التعاريف المتقدمة وكلمات اللغويين منصرفة عنه بل بعضها ظاهر في
عدم الدخول كما أن الأدلة كذلك.
نعم مع الغض عن الانصراف أو الظهور المذكور فالظاهر الدخول لما تقدم
من عدم دليل على أنها عبارة عن هتك ستر مستور.
أما غير رواية داود بن سرحان أي روايتي ابني سنان وسيابة ورواية يحيى الأزرق
فلما تقدم: من أن الستر في مقابل الكشف النفسي المطلق، لكن بنظر العرف،
فعليه إذا قال في أخيه: ما يكون مستورا عند الناس يكون مشمولا للموضوع المأخوذ
فيها، لصدق أنه قال في أخيه وذكر أخاه، فإن الذكر والقول لا يتوقف صدقهما على
وجود سامع ومخاطب.
وأما رواية داود وإن اشتملت على البث وهو النشر والإذاعة الغير الصادقين على
ذكره لدى نفسه فربما يقال بما أنها في مقام التحديد: تدل على الحصر سيما مع
ضمير الفصل وتعريف المسند إليه، لكن الظاهر أنه ليس فيها العناية بعنوان البث و
النشر بل العناية بعنوان ما قد ستره الله عليه ولهذا ذكر فيها مقدار الستر وهو ما لم
يقم عليه حد، وإلا كان اللازم منه أن يكون البث والإذاعة محرما وهو لا يصدق مع
الذكر عند واحد أو اثنين أو ثلاث.
وتوهم أنه بدليل آخر كما ترى فإنها لو كانت في مقام بيان حدها بجميع جهاتها
كانت حاكمة على سائر الأدلة مضافا إلى أنها متعرضة للأفعال المحرمة بل ما تكون
موجبة للحد فلو كانت في مقام التحديد من جميع الجهات كان لازمه قصرها بها و
معارضتها لسائر الأدلة وهو (كما ترى)، مع امكان أن يقال: إن صدر الرواية

(1) في المسألة الرابعة عشر من النوع الرابع. في حرمة الغيبة.
272

غير مذكور فلا يعلم أنه سأله ما الغيبة مثلا أو كان سؤاله بنحو لم يفهم منه القصر المدعى،
ويؤيده ارجاع الضمير المذكر، فالقول الفصل هو ما تقدم: من الانصراف والظهور.
فهل يعتبر فيها أن يكون المغتاب مذكورا بنحو التعيين فلا يكون ذكر
أحد الشخصين بنحو الابهام غيبة فضلا عن ذكر مبهم في غير محصور.
والتفصيل أن المذكور بنحو الابهام كقوله: أحدهما كذا أو واحد من التجار كذا،
إما أن يكون معينا بحسب الواقع أو لا، وعلى الأول، إما أن يكون معلوما عند
القائل أو عند المخاطب أو عندهما، أوليس معلوما عند واحد منهما. الظاهر شمول الأدلة
لجميع صور المعين واقعا حتى المجهول عندهما فإنه لو قال زيد كذا وكذا وكان مشتبها
في غير محصور: يصدق أنه ذكره أخاه بما يكره، فإن صدق ذكره لا يتوقف على
عدم كونه من أطراف الشبهة ولا على علم المخاطب والمتكلم به، فكما أن قوله: لعن الله قاتل
زيد: لعن عليه، كان في أطراف المشتبه أم لا معلوما لدى القائل أم لا، كذلك لو ذكره
بسوء ودعوى انصراف الأدلة عن بعض الصور ناشئة من دعوى أن الغيبة عبارة عن هتك
ستر مستور كما عليه شيخنا الأنصاري، فمع عدم مقبولية الدعوى الثانية تدفع الأولى
أيضا، وقد تقدم ما في الثانية.
نعم لا شبهة في عدم حرمة غيبة من يكون مشتبها مطلقا أو في غير محصور
عند السامع فضلا عن مجهوليته عندهما، لا لقصور الاطلاقات أو كون الغيبة بمعنى
كشف الستر، بل لقيام السيرة على عدم الاجتناب عنها وورود نحوها في الأخبار و
آثار الأخيار. والظاهر أن المراد بعدم الحصر ليس ما يقال في أطراف العلم الاجمالي
بل الأمر في المقام أوسع.
وأما غير المعين واقعا كما لو قال: أحدهما بخيل وكانا بخيلين أو كانا غير بخيلين
بناء على عدم توقف صدق الغيبة على اتصاف المغتاب بالمذكور، فهل يكون غيبة
بأن يقال: إن أحدهما صادق على كل واحد من المعنيين بنحو ولهذا لو قال: اضرب
أحدهما يكون ضرب كل واحد منهما امتثالا فلو لم ينطبق عليه لما يكون كذلك،
فيصدق عليه أنه ذكر أخاه بما يكره لعدم الفرق بين ذكره تعيينا أو أخذ عنوان في
273

موضوع الكلام منطبق عليه بل يكون مغتابا لكل منهما لانطباق العنوان عليهما
(تأمل) أو لا يكون غيبة لعدم ذكر هذا بعينه ولا ذاك بعينه بل اغتاب أحدهما لا بعينه
وهو غير مشمول للأدلة. وجهان، لا يبعد ترجيح عدم الجواز في المحصور ولو بإلغاء
الخصوصيات والمناسبات.
ثم إن هنا مشكلة وهي أنه لا شبهة في شمول الأدلة للاغتياب بنحو العام الاستغراقي
كأن يقال: أهل بلد كذا، أو طائفة كذائية كذا، فإنه ينحل إلى ذكر كل واحد من
أهل البلد والطائفة، لكن ورد في روايات كثيرة في أبواب متفرقة تعييب طوائف
وأهل بلدان مما يكون ظاهرها الاستغراق والعموم والاطلاق.
ويمكن أن يقال: إنها مع ضعف كثير منها محمولة على محامل ككون النظر
إلى أهل بلدان وطوائف في تلك الأعصار التي كانت أهاليها من الكفار أو المخالفين
أو على أمر اقتضائي كقوله في بعض الطوائف: أن لهم عرقا يدعوهم إلى غير الوفاء
أو كانت الصفة ظاهرة فيهم كما ورد في طائفة أنهم خلق مشوه إلى غير ذلك من
المحامل.
الأمر الثاني فيما استثنى من الغيبة وحكى بجوازها بالمعنى الأعم، قال
الشهيد في كشف الريبة (1): اعلم أن المرخص في ذكر مساءة الغير هو غرض
صحيح في الشرع لا يمكن التوصل إليه إلا به فيدفع ذلك إثم الغيبة، وعن جامع
المقاصد (2): أن ضابط الغيبة المحرمة كل فعل يقصد به هتك عرض المؤمن أو
التفكه به أو اضحاك الناس منه، وأما ما كان لغرض صحيح فلا يحرم كنصح المستشير
والمتظلم وسماعه، والجرح والتعديل، ورد من ادعى نسبا ليس له، والقدح في مقالة
باطلة خصوصا في الدين (انتهى).
فإن أرادا بما ذكرا من الضابط قصور اطلاق أدلة الغيبة عن شمول مورد
يكون للمغتاب غرض صحيح، أو انصرافها عنه كما هو محتمل كلام الثاني وإن كان

(1) في الفصل الثالث - في الأعذار المرخصة في الغيبة.
(2) راجع المكاسب للشيخ الأنصاري في المسألة الرابعة عشر من النوع الرابع.
274

بعيدا عن ظاهر الأول. (ففيه) منع لعدم قصور في الآية الكريمة بل سائر الآيات و
كثير من الروايات فلها اطلاق من غير انصراف عن المورد المدعى، كما لا ينصرف
أدلة سائر المحرمات نحو حرمت عليكم الميتة (الخ) وإنما الخمر والميسر (الخ)
عن موارد الصلاح.
وإن أرادا أن مصلحة احترام المؤمن أو مفسدة حرمة الغيبة لا تزاحم سائر
المصالح مطلقا، لكون مصلحة حرمة المؤمن ومفسدة الغيبة ضعيفة لا تقاوم سائر
المصالح المزاحمة كما هو ظاهر الشهيد ومحتمل جامع المقاصد (ففيه) منع كلية
ذلك، لأن الغيبة من كبائر الذنوب كما تقدم، وقد علم اهتمام الشارع بتركها من
أدلة الباب والتعبيرات الواردة فيها وفي حرمة المؤمن، كما هو أحد الطرق إلى
كشف أهمية الأحكام، فلا شبهة في أن مفسدتها أهم من كثير من المصالح سواء رجعت
إلى المغتاب بالفتح أو بالكسر أو غيرهما، (نعم) هو ثابت في الجملة فلا بد من النظر
في الموارد الخاصة.
وإن أراد أن الدليل قائم على استثناء مطلق موارد يكون للمغتاب فيها غرض
صحيح فالظاهر فقدان ذلك بهذا العنوان العام.
نعم وردت روايات وأدلة في موارد خاصة لكن لا يمكن إلغاء الخصوصية عنها
إلى كل ذي مصلحة وملاك، مع أن عمدة ما وردت فيها الأدلة المرخصة المتجاهر
بالفسق والمتظلم والترخيص فيهما ليس للتزاحم وتقديم جانب المقتضي ظاهرا فلا وجه
لاحتمال إلغاء الخصوصية.
فالأولى صرف الكلام إلى موارد الاستثناء وكذا موارد يقال أو يحتمل أن
يقال بترجيح مقتضاها على مقتضى الغيبة بعد ما لم يكن في الباب ملاك كلي وضابط
عام، كما يظهر من العالمين المتقدمين من دعوى الكلية، فمن الأول ما إذا كان المغتاب
متجاهرا بالفسق، وهذا في الجملة لا اشكال فيه.
وتدل عليه روايات كثيرة (1)، كالمستفيضة المتقدمة الدالة على أن الغيبة

(1) الوسائل - كتاب الحج - الباب 152 - 154 من أبواب أحكام العشرة.
275

أن تقول في أخيك ما ستره الله عليه وأن ما يعرفه الناس والأمر الظاهر مما فيه
فليس بغيبة، فإنها غير مختصة بالعيوب الخلقية كالشلل والعور كما يظهر من رواية
داود بن سرحان ويدل عليه اطلاق غيرها، والمراد بالمتجاهر بالفسق والفاسق المعلن
بفسقه أن يتجاهر به بمرئى من الناس وعند جماعة معتد بها، والجهر عند أخصائه
وأصحابه ليس مرادا إلا إذا كانوا عددا كثيرا معتدا به، كما أنه ليس المراد التجاهر
عند جميع أهل البلد بل إذا جهر بملأ من الناس يصدق أنه معلن ومتجاهر، فإذا
شرب الخمر في السوق بمرئى من العابرين يكون متجاهرا فتشمله الروايات
كقوله: إذا عرف الناس وإذا كان ظاهرا، ومفهوم ما ستره الله عليه لم يقم
عليه حد.
وحسنة هارون بن الجهم بأحمد بن هارون (1) عن الصادق جعفر بن
محمد عليهما السلام قال: إذا جاهر الفاسق بفسقه فلا حرمة له ولا غيبة، ورواية
أبي البختري (2) عنه عن أبيه عليهما السلام قال: ثلاثة ليس لهم حرمة صاحب هوى مبتدع
والإمام الجائر والفاسق المعلن بالفسق، وما عن المفيد في الإختصاص (3) عن
الرضا عليه السلام قال: من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له، وعن القطب الراوندي عن
النبي صلى الله عليه وآله مثله (4) وما عن السيد فضل الله الراوندي (5) بإسناده عن رسول الله صلى الله عليه وآله
قال: أربعة ليس غيبتهم بغيبة: الفاسق المعلن بفسقه والإمام الكذاب إن أحسنت
لم يشكر وإن أسأت لم يغفر والمتفكهون بالأمهات والخارج عن الجماعة الطاعن علي
أمتي الشاهر عليها بسيفه، وما عن علي عليه السلام: (6) من قال في أخيه المؤمن مما فيه
مما قد استتر عن الناس فقد اغتابه، إلى غير ذلك مما له أدنى دلالة على المقصود.

(1) الوسائل - كتاب الحج - الباب 154 - من أبواب أحكام العشرة.
(2) الوسائل - كتاب الحج - الباب 154 - من أبواب أحكام العشرة - ضعيفة بأبي
البختري.
(3) المستدرك - كتاب الحج - الباب 134 - من أبواب أحكام العشرة
(4) المستدرك - كتاب الحج - الباب 134 - من أبواب أحكام العشرة
(5) المستدرك - كتاب الحج - الباب 134 - من أبواب أحكام العشرة
(6) المستدرك - كتاب الحج - الباب 132 من أبواب أحكام العشرة.
276

كموثقة سماعة بن مهران (1) عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال: من عامل الناس
فلم يظلمهم وحدثهم فلم يكذبهم ووعدهم فلم يخلفهم كان ممن حرمت غيبته و
كملت مروته وظهر عدله ووجبت أخوته، فإن دلالتها على المقصود مبنية على أن يكون المفهوم من قوله: من عامل الناس فلم يظلمهم وسائر الفقرات هو الإيجاب
الكلي حتى ينطبق علي من لم يبال في دينه والمجاهر بالفسق، وعلى أن الجزاء كل
واحد من الفقرات الأربع مستقلا حتى يكون مفاد الرواية أن من جاهر بفسقه
لا تحرم غيبته ولم تكمل مروته (الخ).
وأما إن كان المفهوم منها الإيجاب الجزئي، أو كان الجزاء مجموع الأمور
الأربعة حتى يكون المفهوم سلب المجموع الصادق على ثبوت بعضها: فلا دلالة لها عليه.
(ودفع) الاشكال الأول بأن شمولها لمطلق الفاسق غير مضر بعد خروج غير المعلن بالأخبار
والاجماع (مدفوع) بأنه موجب لخروج الفرد الشايع الكثير وابقاء النادر القليل
ولو بالنسبة (تأمل).
وصحيحة ابن أبي يعفور (2) قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام بما تعرف عدالة الرجل
بين المسلمين إلى أن قال: والدلالة على ذلك كله أن يكون ساترا لجميع عيوبه حتى
يحرم على المسلمين ما وراء ذلك من عثراته وعيوبه وتفتيش ما وراء ذلك ويجب عليهم
تزكيته واظهار عدالته في الناس (الخ) كذا في الفقيه (3) والوسائل وفي الوافي (4)
وعن غيره حتى يحرم على المسلمين تفتيش ما وراء ذلك من عثراته وعيوبه، وكذا
نقلها الشيخ الأنصاري أيضا، وعلى هذه النسخة لا ربط لها بما نحن بصدده، وأما على
ما في الفقيه فيمكن أن يقال: إن المراد بحرمة عثراته وعيوبه على المسلمين حرمة

(1) الوسائل - كتاب الحج - الباب 152 - من أبواب أحكام العشرة.
(2) الوسائل - كتاب الشهادات - الباب 41 -
(3) ج 3 - الباب 17 - في العدالة.
(4) كتاب الحسبة والأحكام والشهادات - باب عدالة الشاهد من أبواب القضاء و
الشهادات ج 9
277

اظهارهما وذكرهما كما يحرم عليهم تفتيش سائر عيوبه، فإن كان مفهوم قوله:
ساتر الجميع عيوبه أنه كاشف بجميعها أو بعضها ينطبق على المتجاهر، لكن الأظهر
أن المقابل للساتر لجميع عيوبه الذي لا يصدق إلا على الساتر عن جميع الناس: عدم
الساتر كذلك فينطبق على الأعم من المتجاهر، وتخصيصه بالمتجاهر بالدليل يأتي فيه
الاشكال المتقدم، مع أن الالتزام بجواز تفتيش عثرات المتجاهر مشكل.
ورواية علقمة بن محمد عن الصادق عليه السلام وفيها: فمن لم تره بعينك يرتكب
ذنبا ولم يشهد عليه عندك شاهدان فهو من أهل العدالة والستر وشهادته مقبولة وإن
كان في نفسه مذنبا، ومن اغتابه بما فيه فهو خارج عن ولاية الله تعالى ذكره داخل في
ولاية الشيطان، بناء على ترتب عدم جواز الاغتياب على كونه من أهل الستر، فإذا
لم يكن كذلك بل كان متجاهرا بذنبه يجوز غيبته. لكن بعد تسليم كون من اغتابه
عطفا على الجزاء وتسليم ترتب هذه الجملة على أهل الستر وتسليم أن مقابل أهل
الستر المتجاهر بالفسق: لا تدل على المقصود، لأن مفادها أن من كان كذلك تكون
غيبته موجبة للخروج عن ولاية الله والدخول في ولاية الشيطان وبانتفائه ينتفي هذا
الحكم أي كون غيبته بهذا الحد من العظمة بحيث يخرج مغتابه عن ولاية الله و
يدخل في ولاية الشيطان ومع انتفائه لا يلزم ثبوت جواز الغيبة فهو نظير أن يقال: من
شتم فقيها يخرج عن ولاية الله حيث لا يدل على جواز شتم غير الفقيه بل غاية ما يدل انتفاء
هذه الخاصة عند انتفاء الفقاهة.
ثم إن كان المستند في جواز غيبة المتجاهر بالفسق مثل حسنة هارون بن
الجهم ورواية أبي البختري وما بمضمونهما يشكل الحكم بالجواز بمجرد الاجهار
بفسق، لاحتمال أن يكون المراد من قوله إذا جاهر الفاسق بفسقه وقوله: الفاسق
المعلن بالفسق هو الذي لم يستتر فجوره ولا يبالي بظهور كل فسق، سيما مع ما يقال:
إن المصدر المصاف يفيد العموم بناء على أن الفسق مصدر أو اسم مصدر وكان بحكمه
فيه، وما يقال: إن المفرد المحلي أيضا كذلك ولا أقل أن يكونا بحكم المطلق
فيكونان مساوقين لقوله: من ألقى جلباب الحياء عن وجهه، فإن ارتكاب فسق واحد
278

علنا مع الاستحياء عن سائر الفسوق: لا يوجب القاء جلباب الحياء، وبالجملة فرق
عرفا بين قوله: إذا جاهر الفاسق بفسق والفاسق المعلن بفسق، وبين ما في الروايتين،
فإن ذلك لا يصدق مع اجهار فسق ما.
لا أقول: إن الصدق يتوقف على اجهار جميع فجوره بنحو الاستغراق وإن كان
ذلك مقتضى ما تقدم من العموم أو الاطلاق بل أقول: إنه يتوقف على أن لا يعتني بالناس
في ذنوبه وألقى جلباب الحياء عن وجهه فحينئذ يصدق العناوين عليه عرفا من غير توقف
على الاجهار بالجميع.
نعم إن كان المستند فيه المستفيضة المتقدمة المفسرة لها كقوله: هو أن
تقول:: لأخيك في دينه ما لم يفعل وتبث عليه أمرا قد ستره الله عليه لم يقم عليه فيه حد
وغيره مما مر يكون الجهر بفسق ما موجبا لصدق عدم كونه مستورا وكونه مما
يعرفه الناس.
ثم إن مقتضى اطلاق الأدلة مثل حسنة هارون بن الجهم وغيرها جواز اغتياب
المتجاهر في غير ما تجاهر به، لكنها معارضة بالمستفيضة المتقدمة تعارض العامين
من وجه فإن قوله: الغيبة أن تقول لأخيك ما ستره الله عليه باطلاقه شامل لمن تجاهر
في فسق آخر، ومع تعارضهما فالترجيح للمستفيضة لكونها موافقة للكتاب والسنة
المعلومة، بل يمكن أن يقال: بعدم التعارض بينهما فإن العرف ولو بملاحظة ارتكازاته
ومناسبات الحكم والموضوع يجمع بين الطائفتين بأن المتجاهر يجوز غيبته فيما تجاهر
به دون ما استتر به، ولا ينقدح في الأذهان التنافي بينهما وإن كانت النسبة العموم من وجه.
وإن شئت قلت: إن الروايات المفصلة بين الأمر الظاهر والمستتر أقوى ظهورا
من المطلقات في الاطلاق بل لأحد انكار اطلاقها أو دعوى انصرافها إلى الجواز فيما
تجاهر به، بأن يقال: إن تجويزها كأنه معلول هتك عرض نفسه فإذا كان هاتكا له
لا يجب على غيره الكف عنه دون ما إذا كان مستترا غير هاتك فلا يجوز لغيره هتكه،
وكيف كان فالأحوط الأظهر عدم جوازها فيما لم يجاهر به من غير فرق بين ما كان
أدون مما جاهر به أو لا، فما أفاده الشيخ الأنصاري (1) من الحاق الأدون به غير ظاهر.

(1) في المسألة الرابعة عشر من النوع الرابع - في الغيبة فيما استثنى منها.
279

وهل تجوز فيما جاهر به في محيط لم يجاهر به وكان متسترا عنه فيه: الأحوط عدمه، بل
لا يبعد دعوى انصراف الأدلة عنه ولو بمناسبات مغروسة في الأذهان، وبملاحظة
الروايات المستفيضة الواردة في الاهتمام بأعراض المسلمين وحرمتها وعدم جواز إذاعة
سرهم واحتقارهم وإهانتهم.
ثم المراد بالمتجاهر من أن متجاهرا بالفسق غير مبال عن ظهوره لدى الناس
فمن جاهر بفسق مع توجيهه لدى الناس بوجه يمكن صحته ولو بعيدا: لم يكن متجاهرا
جائز الغيبة ولو علم كذبه في محمله، فضلا عما إذا احتملت صحته ولو بعيدا، فلا بد في
الحكم بالجواز من احراز كونه متجاهرا بالفسق بما هو فسق من غير احتمال الصحة أو
احتمال اعتذاره بعذر غير معلوم الفساد لم علم من طريق العقل والنقل احترام المسلم
والاهتمام بشأنه وأن عرضه كدمه لا بد فيه من الاحتياط، ولا يجوز التمسك بالأصول
في جواز الوقيعة فيه بدعوى أنه مع احتمال كونه متجاهرا بالفسق تكون الشبهة
في العمومات مصداقية ومعها يكون الأصل البراءة، فإنه مخالف لمذاق الشارع
الأقدس، ولما يستفاد من الأخبار الكثيرة: من كثرة الاهتمام بأعراض المؤمنين،
مع أن الأصل عدم كونه متجاهرا أو عدم تحقق موضوع الجواز فإن الجهر به حادث
مسبوق بالعدم فيحرز به موضوع حرمتها نعوذ بالله من تسويلات الشياطين وحفظنا
وإياكم من الوقيعة في أعراض المسلمين.
ثم إن مقتضى اطلاق الأدلة آية ورواية حرمة غيبة الفاسق الغير المتجاهر و
لو كان مصرا بفسقه، خلافا للطريحي في مجمع البحرين (1) فجوز غيبته متمسكا
بعدم عموم في الغيبة من طرقنا والعمومات كلها من طرق العامة، وبالجملة من
الروايات الدالة على اختصاص التحريم بمن يتصف بصفات مخصوصة كصحيحة ابن أبي يعفور، وموثقة سماعة بن مهران المتقدمتين بل يظهر منه أن الحكم بالجواز
معروف حيث قال: وبما ذكرناه يظهر أن المنع من غيبة الفاسق المصر كما يميل
إليه كلام بعض من تأخر ليس بالوجه، وربما يؤيد كلامه ببعض الروايات الضعيفة

في لغة (غيب).
280

كالمروي عن النبي صلى الله عليه وآله لا غيبة لفاسق أو في فاسق (1) وعنه صلى الله عليه وآله: قال: قولوا
في الفاسق ما فيه كي تحذره الناس (2).
وفيه ما لا يخفى سيما في انكاره العموم من طرقنا فإن الآيات الكريمة المتقدمة
لا قصور في اطلاقها فقوله: لا يغتب بعضكم بعضا مطلق في مقام البيان بلا ريب كما أن
جملة من الروايات التي من طرقنا مطلقة يظهر للمتأمل المراجع، ولا ضير في نفي
العموم الاصطلاحي، ومراده أعم من الاطلاق.
وأما صحيحة ابن أبي يعفور فمع اختلاف النسخ في نقلها ولعل الأصح نسخة
الوافي (3) لا تدل على جواز غيبته بل تدل على جواز تفتيش عثراته وهو عنوان آخر
غيرها، مع أن الالتزام بجواز تفتيش عثرات المتجاهر في غاية الاشكال، مضافا
إلى احتمال أن يكون مقابل ساتر عيوبه كاشف عيوبه أو كاشف بعضها وهو منطبق
على المتجاهر لا الفاسق المصر، ودلالة موثقة سماعة مبنية على أن يكون كل من
الجمل الثلاث في الشرط مستقلا، ويكون المقابل لكل جملة ايجابا جزئيا، ويكون
كل جملة من الجمل الأربع في الجزاء مستقلا ولا يكون المجموع جزاء واحدا، و
كل ذلك محل اشكال، مع أنه على فرض تمامية دلالتها معارضة بحسنة داود بن سرحان
بل وروايتي عبد الرحمن بن سيابة وغيرها، والترجيح لهذه الطائفة لموافقتها
للكتاب أو المرجع اطلاقه، وبهذا يظهر الكلام في سائر الروايات المتشبث بها مضافا
إلى ضعفها، فالأقوى عدم جواز غيبة الفاسق ولو كان مصرا بفسقه.
وربما يتمسك لجواز غيبة الفاسق أو المتجاهر برواية ابن أبي يعفور بطريق
الشيخ (4) وهو ضعيف وفيها: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا غيبة لمن صلى في بيته ورغب

(1) المستدرك - كتاب الحج - الباب 134 - من أبواب أحكام العشرة.
(2) راجع كشف الريبة للشهيد الثاني في الفصل الثالث في الأعذار المرخصة للغيبة -
في العذر الرابع؟.
(3) كتاب الحسبة والأحكام والشهادات - باب عدالة الشاهد من أبواب القضاء و
الشهادات ج 9 -
(4) الوسائل - كتاب الشهادات - الباب 41.
281

عن جماعتنا ومن رغب عن جماعة المسلمين وجب على المسلمين غيبته
وسقطت بينهم عدالته ووجب هجرانه (الخ). وهي كما ترى أوجبت الغيبة في ترك
المستحب أو فعل الحرام إن كان الاعراض حراما.
(وفيه) مضافا إلى أن مفادها غير المطلوب لعدم التزامهم بوجوب غيبة الفاسق
أو المتجاهر محمولة على المورد الذي كان الاعراض عن جماعة المسلمين مخالفة
لإمام المسلمين أو في مظنتها ولعل الحكم سياسي، لأن الظاهر أن الاعراض عن
جماعة المسلمين في عصر رسول الله صلى الله عليه وآله أو ما قاربه كان اعراضا عن والي المسلمين
ومظنة للتوطئة على ضد الاسلام، وفي مثله يجب على المسلمين الوقيعة في المعرض
وهجرانه ونحو ذلك، وما ذكروا لا يلائم بعض فقرات الحديث لكن لا محيص
عنه هذا مع أنه منقول بطريق صحيح مع خلوه عن هذه الزيادة.
ومنه تظلم المظلوم واظهار ما فعل به الظالم وإن كان متسترا به وهو في الجملة مما
لا اشكال فيه بل جوازه في الجملة من الواضحات ضرورة أن نصب الوالي والقاضي في البلاد
من قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين للانتصاف من الظالم ورفع الظلم عن المظلوم
وعدم تضييع حقوق الناس ولا زال رفع الناس أمرهم وشكواهم إلى ولاة الأمر والقضاة
من غير نكير.
وقد رفع الأنصاري شكواه من سمرة بن جندب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله واغتابه
عنده في دخوله في داره بلا استيذان ومع كون نسوته على حال غير مناسبة لدخوله
عليهن ولم يمنعه عن اغتيابه وذكره بالسوء (1) (تأمل) ورفع الناس أمرهم وشكواهم
إلى أمير المؤمنين عليه السلام إلى ما شاء الله، بل رفع الأمر إلى الولاة والقضاة في دفع
الظلامة مستلزم غالبا لاطلاع حواشيهما وأصحابهما عليه ولم يعهد المنع منه، وقد
أوجب الله تعالى أداء الشهادة وحرم كتمانها وهو مستلزم في كثير من الموارد لكشف
ستر الناس واغتيابهم وهذا القدر مما لا شبهة في جوازه، إنما الكلام والاشكال في
جوازها مطلقا عند الحاكم وغيره للانتصاف من الظالم أو لا، وفي مورد الظلامة

(1) الوسائل - كتاب احياء الموات - الباب 12 -
282

وغيره في سائر عيوبه إلى غير ذلك من الموارد المشتبهة التي لا بد من التماس دليل
على تسويغها، وقد استدل على المطلوب بل على اطلاقه بأمور:
منها قوله تعالى: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا
عليما، (1) والاستدلال به لأصل المطلوب يتوقف على كون الاستثناء متصلا وكون
الاستثناء من الجهر بالسوء، وكان تقديره لا يحب الله الجهر إلا جهر من ظلم، فيكون
بقرينة الاستثناء في مقام بيان الجهر بالسوء فيؤخذ باطلاقه لأنواع الجهر بالسوء
كالشتم والدعاء بالسوء والغيبة، ويتوقف اطلاع المطلوب على احراز كونه في مقام
بيان عقد الاستثناء أيضا، ويمكن الخدشة في جميع ذلك، لعدم دافع لاحتمال كون
الاستثناء منقطعا سيما مع عدم امكان استثناء من ظلم من ظاهر الكلام فيحتاج إلى تقدير.
وما يقال: إن الأصل في الاستثناء الاتصال إن لم يرجع إلى ظهور في الكلام
لا يتبع ويشكل دعوى الظهور في المقام بعد كون الاتصال متوقفا على التقدير وهو
خلاف الأصل أيضا وقد حكي عن ابن الجني أنه منقطع (2) وعن ابن عباس (3) وجماعة أخرى
قراءة من ظلم معلوما وعليه يكون منقطعا ويكون المعنى، لكن من ظلم لا يخفى أمره
على الله تعالى، بقرينة سميعا عليما، أو كان التقدير لكن من ظلم جهر بظلامته و
من ظلم جهر بظلمه، وعدم دليل على أن الاستثناء يكون من الجهر والتقدير، إلا جهر
من ظلم، لاحتمال كون التقدير في المستثنى منه ويكون التقدير، لا يحب الله الجهر
من أحد بالسواء إلا من ظلم، أو جهر أحد إلا من ظلم، فيكون في مقام بيان الأشخاص
لا الأقوال كما هو ظاهر عبارة تفسير القمي (4).
فكأنه قال: لا يجوز من أحد الجهر إلا ممن ظلم، وأما أن كل جهر لا يجوز
فلا اطلاق لاثباته بل في مقام الاهمال من هذه الجهة فلا تدل الآية على حرمة الغيبة

(1) سورة النساء - الآية 147.
(2) راجع مجمع البيان - في تفسير الآية المتقدمة.
(3) وسعيد بن جبير والضحاك وعطاء بن السائب وغيرهم.
(4) ص 145 - في تفسير الآية المتقدمة.
283

حتى يتشبث بالاستثناء لتجويزها، ولو سلم الاطلاق في المستثنى منه كما لا تبعد دعوى
الفهم العرفي على تأمل فلا يسلم في المستثنى، لعدم احراز كونه في مقام البيان فيه،
فلو دلت على أن كل من ظلم يجوز له الجهر بالسوء لا تدل على جواز التقول
بكل سوء والاجهار بكل قول وعند كل أحد ومع معلومية الظالم وذكره باسمه،
لعدم اطلاق في عقد الاستثناء، كما لعله يشهد له ما روي في مجمع البيان (1) عن أبي جعفر عليه السلام قال: في معناه أقوال: أحدها لا يحب الله الشتم في الانتصار إلا من ظلم
فلا بأس له أن ينتصر ممن ظلمه مما يجوز الانتصار به في الدين عن الحسن والسدي،
وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام ونظيره، وانتصروا من بعد ما ظلموا قال الحسن:
ولا يجوز للرجل إذا قيل له يا زاني أن يقابل له بمثل ذلك من أنواع الشتم (انتهى)
وهو مبني على عدم اطلاق فيها لا في المستثنى منه ولا في المستثنى.
نعم ظاهر رواية العياشي (2) عن أبي عبد الله في قول الله: لا يحب الله
الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم قال: من أضاف قوما فأساء ضيافتهم فهو ممن
ظلم فلا جناح عليهم فيما قالوا فيه، ورواية الطبرسي في مجمعه (3) عنه عليه السلام في قوله
تعالى: إن الضيف ينزل بالرجل فلا يحسن ضيافته فلا جناح عليه أن يذكر سوء ما
فعله، اطلاق الآية وشمولها لأنواع الظلم وجواز غيبة الظالم مطلقا
لكنهما مع ضعفهما معارضتان بما عن أبي جعفر عليه السلام آنفا فإن الظاهر منها
عدم جواز غيبة الظالم وإنما يجوز الانتصار منه بما يجوز في الدين (تأمل)
ومنها قوله تعالى: ولمن أنتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل
على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق (4) وهو أوضح دلالة وأشمل
مفادا من الآية المتقدمة سواء كان المراد من الانتصار طلب النصر كما هو أحد معانيه

(1) في تفسير الآية المتقدمة.
(2) الوسائل - كتاب الحج - الباب 154 - من أبواب أحكام العشرة - مرسلة.
(3) في تفسير الآية المتقدمة.
(4) سورة الشورى الآية 39 - 40.
284

يقال: انتصر على خصمه إذا استظهر أو الانتقام من الظالم.
أما على الأول فلأن مقتضى اطلاقه جواز الاستنصار وطلب النصر من كل من
يرجو منه ذلك، واليا كان أو غيره، ولازمه جواز ذكر مساءة الظالم وغيبته عند من
يرجو منه النصر، كان الظالم متجاهرا أم لا، والسامع عالما بمسائته أم لا.
وأما على الثاني فلأن جواز الانتقام من الظالم مستلزم لجواز الانتصار من الغير
وإلا فقلما يكون المظلوم بنفسه يمكنه الانتقام من ظالمه، والانتصار ملازم لذكر
مساءة الظالم كما مر، ولا أقل من أن اطلاق الانتصار يقتضي جواز انتقامه بمعاونة
الغير كعشيرته وقبيلته إذا لم يمكنه بنفسه وهو ملازم للغيبة.
ثم إن مقتضى ظاهر الآية جواز إعانة الغير إذا استعانه المظلوم لدفع ظلامته
والانتقام من الظالم، فإذا جاز للمظلوم الانتقام من الظالم وتوقف نوعا على الاستعانة
بغيره كعشيرته وأحبته وغيرهما جاز لهم نصره بظاهر الآية ولو بملازمة عرفية (نعم)
لا يجوز لهم التعرض للظالم بأغراضهم لا لكونهم آلة ووسيلة للانتقام للمظلوم هذا
على المعنى الثاني وأما على المعنى الأول فالأمر أوضح.
وربما يقول: أن لا اطلاق في الآية من جهة كيفية الانتصار بل هي بصدد بيان أن
لكل مظلوم يجوز الانتصار والمتيقن منه جواز الاستنصار من الوالي والقاضي (وفيه)
أن الآية سيقت لبيان جواز الانتصار بعد الظلم مقابل الظلم الابتدائي فلا اشكال في
اطلاقها من هذه الحيثية.
إلا أن يقال: إنها بصدد بيان عدم السبيل للمظلوم دون الظالم، وبيان
صرف مقابلتهما، فلا اطلاق فيها من جهة كيفية الانتصار، لكنه أيضا غير
وجيه، لأن الظاهر منها أنها بصدد بيان الجملة كما تشهد به الآيات المتقدمة
عليها وإنما ذكرت الجملة الثانية تطفلا، وعلى ما قررناه يمكن الاستدلال عليه
بمثل قوله: فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم (1) وقوله: والذين إذا أصابهم البغي
هم ينتصرون (2) على كلام وتأمل واشكال.

(1) سورة البقرة - الآية 190.
(2) سورة الشورى - الآية 37.
285

وربما يقال: إن تجويز الانتصار والانتقام للمظلوم بنفسه من الظالم يوجب
الهرج والمرج، وإنما نصب الوالي والقاضي للانتصاف والانتصار وتنظيم أمور الناس
ومعه كيف يطلق ذلك للناس بأنفسهم، لكنه اعتبار ضعيف مخالف للاطلاق بل و
الاعتبار الصحيح، وقد وقع نظيره في الشرع كتجويز التقاص للدائن وتجويز
الدفاع عن النفس والعرض والمال، ودفع المشرف على بيت الرجل، وقتل من
سب النبي صلى الله عليه وآله أو أحد الأئمة (ع) إلى غير ذلك. فهل ترى من نفسك وجوب
القعود عن دفع السارق المهاجم على عرض الرجل وماله وعدم جواز دفعه ثم بعد
فعله ما فعل يقال للمظلوم: لك الرجوع إلى المحاكم الصالحة وبالجملة لا وجه
للاستبعاد بعد قيام الدليل.
وأما المؤيدات التي ذكرها الشيخ الأنصاري (1) كدليل نفي الحرج، وأن
في تشريع الجواز مظنة الردع وغيرهما: فلا يخفى ما فيها من عدم صلاحيتها للخروج
عن اطلاق أدلة التحريم كما اعترف به،
كما لا يجوز غيبة من ترك الأولى بالنسبة
إلى شخص كما لو ترك بعض مراتب الضيافة ما لم يصل إلى الهتك والتحقير والإهانة.
أو استقضى حقه وكان الأولى تركه فضلا عن تارك الأولى الذي غير مربوط به كالغيبة
في ترك المستحب ونحوه وإن أمكن الاستدلال على الجواز بروايات:
منها ما عن تفسير العياشي (2) عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله: لا يحب الله
الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم قال: من أضاف قوما فأساء ضيافتهم فهو ممن
ظلم فلا جناح عليهم فيما قالوا فيه، وقريب منها باختلاف مرسلة الطبرسي (3)
بأن يقال: إن الأمر دائر بين أحد التصرفين أما التصرف في الرواية وحمل
اطلاقها على ما إذا ظلم المضيف ضيفه وحفظ ظهور عنوان الظلم في الآية، فإن
إسائة الضيافة أعم من وقوعها على نحو الظلم، أو التصرف في الآية وحمل الظلم
فيها على الأعم مما هو المتفاهم عرفا وحفظ اطلاق الرواية، والثاني أولى، لأن ظهور

(1) في المسألة الرابعة عشر - من النوع الرابع - في الغيبة فيما استثني منها.
(2) الوسائل - كتاب الحج - الباب 154 - من أبواب أحكام العشرة.
(3) الوسائل - كتاب الحج - الباب 154 - من أبواب أحكام العشرة.
286

المفسر حاكم على المفسر بالفتح بل الظاهر من قوله فهو ممن ظلم الالحاق الحكمي بلسان
الالحاق الموضوعي، وإلا فمفهوم الظلم غير محتاج إلى البيان، فالرواية بلسانها
مفسرة للآية ومنقحة للموضوع أو ملحقة لمطلق الإسائة في الضيافة بالظلم، ويتم
المطلوب بدعوى إلغاء الخصوصية عن الضيافة واسراء الحكم إلى سائر ما يكون
إسائة ولو بنحو ترك الأولى، والحمل على مورد الظلم حتى يكون قوله: فهو ممن
ظلم من توضيح الواضح: فبعيد، لكن الخروج عن الأدلة المحكمة بمثل هذه
المرسلة الضعيفة غير ممكن مع امكان أن يقال: إسائة الضيافة أخص من ترك الأولى
بل لعلها لا تنطبق إلا على الضيافة بنحو توهين وتحقير وهو ظلم وليس تطبيقه على
ذلك توضيح الواضح.
ومنها رواية حماد بن عثمان (1) قال: دخل رجل على أبي عبد الله عليه السلام فشكا
إليه رجلا من أصحابه فلم يلبث أن جاء المشكو فقال أبو عبد الله عليه السلام: ما لفلان
يشكوك فقال: يشكوني أني استقضيت منه حقي قال: فجلس أبو عبد الله مغضبا ثم
قال: كأنك إذا استقضيت حقك لم تسئ أرأيتك ما حكى الله عز وجل: ويخافون سوء
الحساب أترى أنهم خافوا أن يجور عليهم لا والله ما خافوا إلا استقضاء فسماه الله
عز وجل سوء الحساب فمن استقضى فقد أساء. كذا في الوسائل والكافي على نقل
المجلسي في مرآة العقول (2) لكنه قال: وفي بعض النسخ القديمة بالصاد
المهملة في الموضعين وفي الوافي (3) عن الكافي والتهذيب بالصاد المهملة في
جميع المواضع.
أقول وأظن كونه بالضاد المعجمة في الموضعين الأولين لأن الدائن في مقام

(1) الوسائل - كتاب التجارة - الباب 16 - من أبواب الدين والقرض - لا يبعد
الاعتماد عليها وعدم البعد لمعلى بن محمد.
(2) كتاب المعيشة - الباب 25 - في آداب اقتضاء الدين ج 3 - ص 389 -
(3) كتاب المعايش والمكاسب باب اقتضاء الدين (127) من أبواب أحكام الديون
والضمانات ج 10 -
287

الدفاع عن الشكوى لا يناسب أن يقر بالاستقصاء وسوء المطالبة بل المناسب أن يقول:
إني استقضيت حقي فلا وجه لشكواه وقول أبي عبد الله: كأنك إذا استقضيت يناسب
المعجمة طبقا لمقالة الدائن ثم لما كان الاستقضاء على كيفيتين إحديهما بلا استقصاء
وثانيتهما معه قال أبو عبد الله عليه السلام: لم يكن كل استقضاء غير سوء بل منه ما ينطبق
عليه سوء الحساب والاستقصاء فيه فمن استقصى فقد أساء، فالمناسب للموضع
الأخير بل لما قبله المهملة، ويؤيده أن مطلق الاستقضاء ليس إسائة كما هو واضح.
وكيف كان لا دلالة للرواية على المقصود أي جواز الغيبة في ترك الأولى،
لأن الشكوى إن كان بمعنى تظلم المظلوم وذكر سوء ما فعل به كما فسر به في اللغة:
فالظاهر منه كون المطالبة كانت مقرونة للظلم كالإهانة والتحقير وغيرهما فتدل على
جواز غيبة الظالم عند مثل أبي عبد الله عليه السلام الذي يرجى منه دفع الظالم وظلمه
سيما أن المشكو كان من أصحابه، وإن كان أعم فلا دلالة فيها على أن الشاكي
اغتابه لامكان الشكوى عنه بما لا يرجع إلى الانتقاص والغيبة مضافا إلى أن الظاهر
من سياق الرواية وغضب أبي عبد الله وتطبيق الآية: أن مطالبته كانت بوجه منطبق
عليه عنوان الظلم كالاستقصاء من الفاقد الموجب لخجلته وهتكه.
ومما ذكرناه من معنى الشكاية والاحتمالين فيها يظهر النظر في الاستدلال
بمرسلة ثعلبة بن ميمون (1) عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان عنده قوم يحدثهم إذ ذكر
رجل منهم رجلا فوقع فيه وشكاه فقال له أبو عبد الله عليه السلام وأنى لك بأخيك كله و
أي الرجال المهذب (نعم) ظاهر وقع فيه أنه اغتابه فقوله: شكاه يصير ظاهرا
حينئذ في تظلمه وذكر سوء ما فعل به، ولا يدل ذيله على أن شكواه كان في ترك
الأولى لأن حقوق الأخوة بين واجبات ومستحبات، وترك شئ منهما مخالف للأخوة
وكون الرجل مهذبا نعم لا يخلو نحو تعبيره من اشعار بترك الأولى لكنه لا يصل
إلى حد الدلالة والظهور المتبع، مضافا إلى عدم دليل على أن الرجل المذكور عنده

(1) الوسائل - كتاب الحج - الباب 56 - من أبواب أحكام العشرة
288

كان معروفا لدى الحضار فلعله شكا رجلا مجهولا للتشفي أو لدعاء أبي عبد الله عليه السلام
له في دفع صنيعته به أو لعله كان متجاهرا بالفسق والظلم.
ومن الثاني أي ما لا يكون من قبيل الاستثناء وكان من باب التزاحم أو
يحتمل فيه ذلك موارد كثيرة ذكرها القوم. وجملة القول فيها أنه لا بد في الحكم
بالجواز في كل مورد من احراز كونه من باب التزاحم باحراز المقتضي والملاك في
الطرفين، واحراز أهمية مقتضى المقابل لعنوان الغيبة عن مقتضاها أو احراز
التساوي بينهما أو احتمال الأهمية أو التساوي في مقتضى المقابل لها، وعدم احتمال
الأهمية في الطرف أي في مقتضى الغيبة مع فقد احتمالها في مقابلها فحينئذ يحكم
العقل بجواز ارتكابها لا لما أفاده الشيخ الأنصاري ومن تبعه: من تبعية الحكم
لأقوى المصلحتين وعدم حرمة الغيبة شرعا في مورد أهمية الغير، فإنه خلاف التحقيق
في باب التزاحم في مقام الامتثال.
(والتحقيق) أن الحكمين المتزاحمين في مقامه بقيا علي فعليتهما مطلقا إلا
أن العقل يحكم بمعذورية الفاعل والمكلف عن ترك المهم بالاشتغال بالأهم أو ترك
أحد المتساويين بالاشتغال بالآخر، فترك الحكم الفعلي ومخالفته قد يكون لعذر فلا
يعاقب عليه وقد يكون لا لعذر فيعاقب عليه، ولهذا لو ترك المتزاحمين فيما يمكن
له تركهما استحق العقوبة على ترك كل واحد لمخالفته الحكم الفعلي بلا عذر مع
قدرته على اتيانه، والتفصيل ورفع الاشكالات المتوهمة يطلب من محله. وعلى ما
ذكرناه: من فعلية المتزاحمين لا بد في ارتكاب كل من احراز العذر فيه ومع احتمال
الأهمية في أحدهما يكون ارتكابه بعذر محرز دون مقابله لعدم احرازه فيه.
ثم إن احراز الأهمية في الموارد الخاصة أو احتمالها قد يكون بحكم العقل
كأهمية دم المؤمن من الوقيعة فيه، وقد يكون بالنقل كما لو دلت الأدلة على أن
فلانا أشد من فلان، أو يحرز من اهتمام الشارع بشئ أكثر من الآخر بحسب
لسان الأدلة وكيفية التعبير فيها أو بعده في الكبائر دون الآخر إلى غير ذلك.
ثم إنهم تعرضوا لموارد لا بأس بذكر مورد منها لورود روايات فيها وهو
289

نصح المستشير، وجوازها في مورده بنحو الاجمال والايجاب الجزئي ثابت كما
لو أحرز في مورد أهمية النصح من الوقيعة في المؤمن، كما لو فرض أن في تركها
يبتلى المؤمن بمفسدة عظيمة بل في بعض الموارد يجب النصح ولو لم يستشره ولعله
مراد الشيخ الأنصاري أيضا وإن أوهم ذيل كلامه بخلافه، وكيف كان لا بد في الحكم
بجوازها في مطلق موارد النصح أو مطلق نصح المستشير من احراز وجوب النصح
مطلقا أو مع الاستشارة وعدم جواز رد الاستشارة وترك النصح ولو بالسكوت و
احراز كونهما من باب التزاحم واحراز أهمية النصح من الوقيعة في المؤمن أو
احتمالها على نحو ما تقدم.
وأما لو كان بين الدليلين التعارض فالظاهر عدم جواز الغيبة سواء قلنا باندراج
العامين من وجه في باب العلاج أم لا، لأن عموم الكتاب مرجح لأدلة حرمة الغيبة
على الأول، ومرجع مع سقوط الدليلين على الثاني، ولا تعارض الأخبار الكتاب و
إن كان بينهما عموم من وجه ولا يسقط العام الكتابي بالمعارضة معها، لأنه مع كونه
مخالفا لارتكاز المتشرعة، ولبناء الفقهاء ظاهرا يمكن استفادته من أدلة العلاج
كرواية الميثمي (1) وغيرها.
وإن شئت قلت: إن الأخبار الواردة (2) بأن ما خالف قول ربنا زخرف أو باطل
أو لم نقله شاملة للعامين من وجه في مورد تعارضهما، وإنما الخارج منها ما يكون
بينهما جمع عرفي، ومعه يخرج موضوعا عن مخالفته في محيط التشريع على ما
ذكرناه في ميزان المعارضة ومحلها ومحطها، ولو قيل: إن الحكم في المتعارضين
متعلق بالطبايع والعناوين، والتعارض بينهما بالعرض، وهو خارج عن الأدلة الدالة
على أن ما خالف قول ربنا كذا، قلنا: مضافا إلى أن الظاهر دخوله فيها ولو بإلغاء
الخصوصية أو المناط القطعي أنه لو سلم ذلك لكن المستفاد من الأدلة ولو
بمناسبات أن الخبر لا يعارض الكتاب ولا يسقط عموم الكتاب بمعارضته فلاحظ.

(1) الوسائل - كتاب القضاء - الباب 9 - من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضى به.
(2) الوسائل - كتاب القضاء - الباب 9 - من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضى به.
290

نعم الظاهر أن المورد من باب تزاحم المقتضيين وتحققه في كل من العنوانين
مطلقا، لكن الشأن في أصل وجوب نصح المستشير أو نصح المؤمن مطلقا وعلى
فرض وجوبه في أهميته من الغيبة وفي كليهما نظر، أما الأول فلعدم الدليل عليه ألا
روايات قاصرة الدلالة عن اثباته.
كصحيحة عيسى بن أبي منصور (1) عن أبي عبد الله عليه السلام قال: يجب للمؤمن
على المؤمن أن يناصحه ونحوها صحيحة الحذاء (2) وصحيحة معاوية بن وهب (3)
والظاهر منها ثبوت حق للمؤمن على المؤمن فإن الظاهر من يجب له عليه ثبوته عليه،
وأما كون ذلك شرعا على نحو الوجوب والالزام فلا دلالة عليه، فهو كسائر الحقوق
الثابتة للمؤمن على المؤمن، ومادة الوجوب لو كانت ظاهرة في الوجوب الاصطلاحي
لكن في مثل هذا التركيب ظاهرة في الثبوت ففرق بين قوله: وجب عليه كذا و
قوله: وجب للمؤمن على المؤمن كذا فإن الثاني غير ظاهر في الالزام، مع أن ظهور
المادة في الوجوب مطلقا محل كلام.
وكرواية جابر (4) عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله: لينصح الرجل
منكم أخاه كنصيحته لنفسه. وفي دلالتها على الوجوب بعد الغض عن ضعف سندها نظر
لأنها في مقام بيان مقدار النصيحة وكيفيتها بعد الفراغ عن حكمها فلا تدل على وجوبها
ورواية تميم الداري الضعيفة (5) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: الدين نصيحة قيل: لمن
يا رسول الله قال: لله ولرسوله ولأئمة الدين ولجماعة المسلمين، وأنت خبير بعدم
دلالتها على الوجوب بل سياقها سياق الاستحباب وهنا طائفة أخرى بلسان آخر.
كموثقة سماعة (6) قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: أيما مؤمن مشى في حاجة

(1) الوسائل - كتاب الأمر بالمعروف - الباب 35 - من أبواب فعل المعروف - الرابعة ضعيفة بعمرو بن شمر.
(2) الوسائل - كتاب الأمر بالمعروف - الباب 35 - من أبواب فعل المعروف - الرابعة ضعيفة بعمرو بن شمر.
(3) الوسائل - كتاب الأمر بالمعروف - الباب 35 - من أبواب فعل المعروف - الرابعة ضعيفة بعمرو بن شمر.
(4) الوسائل - كتاب الأمر بالمعروف - الباب 35 - من أبواب فعل المعروف - الرابعة ضعيفة بعمرو بن شمر.
(5) الوسائل - كتاب الأمر بالمعروف - الباب 35 - من أبواب فعل المعروف -
ضعيفة بتميم الداري وغيره.
(6) الوسائل - كتاب الأمر بالمعروف الباب 36 - من أبواب فعل المعروف.
291

أخيه فلم يناصحه فقد خان الله ورسوله، ونحوها روايات وهي لا تدل على
وجوب النصيحة مطلقا أو عند الاستشارة بل على أنه لو مشى في حاجته يجب عليه
نصحه وأما وجوب المشي في حاجته أو وجوب نصيحته فلا ولعله مع علمه بابتلائه بالمعصية
كالغيبة لا يجوز له المشي فيها، وكذا ما ورد في خصوص المستشير كقوله: من استشاره
أخوه المؤمن فلم يمحضه النصيحة سلبه الله لبه، فلا يدل على الوجوب بل ظاهره الاستحباب،
مع أن ما وردت في نحو هذا المساق مما لو حظ فيها حال جماعة المسلمين وجمعيتهم
لا اطلاق فيها لحال وقوع ضرر أو حرج أو هتك ونحوها على بعض آخر من المسلمين.
فوجوب نصح المسلم على فرضه حكم حيثي لا اطلاق له لحال ايقاع هتك لمسلم آخر
بعد كون الملحوظ فيه حال المؤمنين وعدم ترجيح بعض على بعض.
ثم لو سلم دلالتها على الوجوب واطلاقها ومزاحمة المقتضيين لكن الظاهر
من أدلة الغيبة ومثل التعبيرات الواردة فيها: أن ملاكها أقوى من ملاك النصح ولا
أقل من أن ذلك الاهتمام صار موجبا لاحتمال أهمية ملاكها، فالأقوى ملاحظة
الموارد ففي كل مورد تحرز أهمية النصح أو تحتمل كما أشرنا إليه يحكم بجوازها
دون مطلق الموارد، ومما ذكرناه وفصلناه يظهر حال سائر الموارد التي استثنى منها
فلا داعي لتطويل الكلام بذكرها والله الهادي.
الأمر الثالث يحرم استماع الغيبة بلا خلاف كما في الجواهر (1) ومكاسب
شيخنا المرتضى (2) وإن قال في مفتاح الكرامة (3) إن الأصحاب تركوا ذكره
لظهوره. وتدل عليه جملة من الروايات كالنبوي المعروف المنقول عن تفسير
أبي الفتوح الرازي (4) أنه قال: السامع للغيبة أحد المغتابين، وقال الشهيد في

(1) في النوع الرابع فيما هو محرم في نفسه مما يكتسب به - في بيان حرمة
الغيبة واستماعها.
(2) في المسألة الرابعة عشر من النوع الرابع - في الغيبة - في حرمة استماعها.
(3) في القسم الرابع من المتاجر المحظورة - فيما نص الشارع على تحريمه - في
الغيبة.
(4) المستدرك - كتاب الحج - الباب 136 - من أبواب أحكام العشرة.
292

كشف الريبة (1) قال رسول الله صلى الله عليه وآله: المستمع أحد المغتابين وقال علي عليه السلام: السامع
للغيبة أحد المغتابين (انتهى) وعن الغزالي عن رسول الله صلى الله عليه وآله: المستمع أحد
المغتابين (2) وفي خبر المناهي: نهى عن الغيبة والاستماع إليها (3).
وعن جامع الأخبار (4) وقال صلى الله عليه وآله: ما عمر مجلس بالغيبة إلا خرب من
الدين، فتنزهوا أسماعكم من استماع الغيبة، فإن القائل والمستمع لها شريكان
في الإثم، وهذه إن كانت من مرسلات الصدوق فلا تخلو من اعتبار، ولكن من المحتمل
بل الظاهر أن تكون عطفا على قوله: عن سعيد بن جبير، فتكون من غير المرسلات
المعتمدة. وعن كتاب الروضة (5) عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: الغيبة كفروا المستمع
لها والراضي بها مشرك، وعن الشيخ المفيد في الإختصاص: (6) وعن أمير المؤمنين
عليه السلام: أنه نظر إلى رجل يغتاب رجلا عند الحسن عليه السلام ابنه، فقال: يا بني نزه
سمعك عن مثل هذا، فإنه نظر إلى أخبث ما في وعائه فأفرغه في وعائك، كذا في
المستدرك في باب تحريم اغتياب المؤمن، ولكن فيه في باب وجوب رد غيبة المؤمن
(7): وفي الاختصاص: قال نظر أمير المؤمنين (الخ).
والظاهر أن أصل الرواية ما في باب الاغتياب وإنما أسقط عنها في الباب المتأخر،
فتكون مرسلة غير معتمدة لعدم انتسابه إلى الإمام (ع) جز ما بل الظاهر أن إرسال
المفيد جز ما غير إرسال الصدوق كذلك، حيث لا نستبعد الاعتماد على مرسلاته، لأن
المفيد كان من أهل النظر والاجتهاد، ولعل انتسابه جزما مبني على اجتهاده،

(1) في الفصل الأول في أقسام الغيبة - في أن حرمة استماع الغيبة كالغيبة.
(2) ج 3 - احياء العلوم ص 128 -
(3) الوسائل - كتاب الحج - الباب 152 - من أبواب أحكام العشرة.
(4) المستدرك - كتاب الحج - الباب 132 - من أبواب أحكام العشرة.
(5) المستدرك - كتاب الحج - الباب 136 - من أبواب أحكام العشرة.
(6) المستدرك - كتاب الحج - الباب 132 - من أبواب أحكام العشرة.
(7) الباب 136 - من أبواب أحكام العشرة.
293

بخلاف طريقة الصدوق وأبيه، وكيف كان ليست المرسلة معتمدة. مع أن في متنها
اشكالا، لأن نهيه عليه السلام ابنه (ع) إن كان من استماع الغيبة المحرمة والعياذ بالله
كانت الرواية مخالفة لأصول المذهب، ضرورة أن الحسن بن علي (ع) لا يستمع
إليها، وإن كان من الاستماع الجائز فلا تدل على المقصود، فهي مطروحة أو غير
دالة.
وعن الشيخ ورام بن أبي فراس عن جابر (1): ولما رجم رسول الله صلى الله عليه وآله
الرجل في الزنا قال رجل لصاحبه: هذا عقص كما يعقص الكلب، فمر النبي صلى الله عليه وآله
معهما بجيفة فقال: أنهشا منها قالا: يا رسول الله ننهش جيفة قال: ما أصبتما من
أخيكما أنتن من هذه وعن الشيخ أبي الفتوح في تفسيره عن أبي عم أبي هريرة
نحوها بنحو أبسط (2) ولعل تلك الروايات مع كثرتها ومعروفية الحكم ودعوى
المشايخ عدم الخلاف ووضوح الحكم كافية في ثبوت أصل الحرمة.
مع امكان الاستدلال عليها بجملة من الروايات الظاهرة ولو بمناسبة الحكم
والموضوع في أن هتك ستر المؤمن وكشف عورته وسوأته وإذاعة سره محرم و
مبغوض ذاتا، وأن النهي عن الغيبة إنما هو بلحاظ مراعاته وحفظ عرضه ومستوريته عن
الكشف، لا أقول: إن حرمتها مقصورة عليه، بل أقول: إن المستفاد من جملة من الروايات
كما وردت في تفسير الغيبة بأن تقول في أخيك ما قد ستره الله عليه وكذا مما دلت
على حرمة إذاعة سره.
كصحيحة عبد الله بن سنان (3) قال: قلت له: عورة المؤمن على المؤمن حرام
قال: نعم قلت: يعني سفلته قال: ليس حيث تذهب إنما هو إذاعة سره، وحسنة
منصور بن حازم (4) قال: قال أبو عبد الله عليه السلام قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من أذاع الفاحشة
كان كمبتديها. إلى غير ذلك، وما نرى من اهتمام الشارع الأقدس بشأن المؤمن

(1) المستدرك - كتاب الحج - الباب 132 - من أبواب أحكام العشرة.
(2) المستدرك - كتاب الحج - الباب 132 - من أبواب أحكام العشرة.
(3) الوسائل - كتاب الحج - الباب 157 - من أبواب أحكام العشرة - الثانية حسنة بعلي بن إسماعيل.
(4) الوسائل - كتاب الحج - الباب 157 - من أبواب أحكام العشرة - الثانية حسنة بعلي بن إسماعيل.
294

وعرضه أكيدا: أن هتكه وكشف سره مبغوض ذاتا، وأن النهي عن الغيبة وإذاعة
السر لمبغوضيته الذاتية لا لصدوره من مكلف، فإذا كان كذلك كان الاستماع إليها
محرما، إذا لزم منه إذاعة سره وكشف ستره لدى المستمع، فإن كشف السر كما يتقوم
بالذكر ونحوه يتقوم بالاستماع ونحوه، وبالجملة إذا كان هتك ستره مبغوضا، وحفظ
عرضه مطلوبا ذاتا كحفظ دمه كما هو مستفاد من الروايات الواردة في الأبواب المختلفة،
فهو ملازم لمبغوضية الذكر والسماع جميعا، لأن الكشف قائم بالتكلم والاستماع
فإذا علم السامع أن المتكلم يريد كشف الستر المبغوض وجوده ذاتا في الخارج،
وكان المبغوض قائما بطرفين وأمكن له دفع تحققه وجب عليه ذلك، وحرم عليه
الاستماع لأن المفروض أن المبغوض ليس صدوره من المكلف، بل وجوده في الخارج
نحو قتل النفس المحترمة، بل لا يبدع الالتزام بوجوب منع المؤمن عن افشاء سر
نفسه وهتك عرضه ووجوب منع الطفل عن هتك ستر المؤمن وكشف سره.
نعم على هذا الوجه لا تثبت حرمة مطلق استماع الغيبة بناء على ما تقدم:
من أن حرمتها لا تختص بمورد كشف الستر، إلا أن الظاهر عدم التفصيل بينهما
(تأمل).
بل يمكن أن يقال: إن ما ذكر لا يكفي لاثبات الحرمة لعنوان الاستماع،
فإنه سبب أو ملازم للمحرم، وما هو محرم كشف الستر اختيارا إلا أن يقال:
إن الكشف المبغوض صار سببا لجعل الحكم على الغيبة والاستماع، (تأمل) أو
يقال: إن ذلك التحليل والتجزية عقلي، والعرف يفهم من الأدلة حرمة الاغتياب
والاستماع المتحدين مع الكشف (تدبر).
ويمكن الاستدلال للحرمة بل لكونه كبيرة بمرسلة ابن أبي عمير المنقولة
مستندة أيضا بسند صحيح وآخر حسن أو صحيح (1) عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من قال في
مؤمن: ما رأته عيناه وسمعته أذناه فهو من الذين قال الله عز وجل: إن الذين يحبون
أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم، بدعوى أن الظاهر من قوله:

(1) الوسائل - كتاب الحج - الباب 152 - من أبواب أحكام العشرة.
295

فهو من الذين (الخ) هو أن المغتاب م صداق حقيقي للآية الكريمة، والتنزيل
الموضوعي بلحاظ الحكم خلاف ظاهره، لأنه مجاز يحتاج إلى التأويل والدعوى،
فتكون الرواية مفسرة للآية بتعميم الحب للعمل الناشئ من الرضا والإرادة وتعميم
الشياع لمطلق النشؤ والنشر الشاملين للذكر عند واحد كما هو مقتضى اطلاق
الرواية.
فيصير مفاد الآية شاملا لكل عمل اختياري موجب لنشو الفاحشة ورفع الستر
عنها في الجملة، فتشمل السامع كما تشمل المغتاب بلا افتراق بينهما، لأن السامع
أيضا عمل بفعله الاختياري وهو الاستماع ما هو موجب لنشو الفاحشة ورفع الستر
عنها، وليس مفاد الآية حرمة إشاعة الفاحشة حتى يقال: إن الإشاعة عرفا من فعل
المغتاب، بل مفادها حب شيوعها وهو أعم من الإشاعة، وبالجملة بعد تحكيم
الرواية على الآية تفسير أو توضيحا تدل الآية على حرمة الاستماع وكونه من الكبائر
ويمكن أن يناقش فيه بأن الظاهر من الرواية وإن كان الاندراج الحقيقي
لكن حمل الآية على ما ذكر والتصرف في الحب والشياع بما ذكر خلاف ظاهر بل
ظاهرين فدار الأمر بين ارتكاب خلاف ظاهر واحد شايع في الشرع والعرف وهو
التنزيل الحكمي بلسان الاندراج الموضوعي مع قيام قرينة عقلية عليه وهو
عدم كون الاغتياب داخلا في مفادها وجدانا، وبين ارتكاب خلاف ظاهرين بعيدين
عن الأفهام غريبين عن الأذهان بلا قيام قرينة في نفس الآية الكريمة، ولا شبهة في
تعين الأول فعليه يكون مفاد الرواية تنزيل المغتاب منزلة الذين يحبون أن تشيع
الفاحشة، نعم مقتضى اطلاقها كون الغيبة كبيرة دون استماعها.
واستدل المحقق التقي (1) في تعليقته على المكاسب على حرمته بفحوى
الأخبار الكثيرة الدالة على حرمة الرضا بوقوع المحرم وأن على الداخل إثمين
إثم الرضا وإثم الدخول، فإن المراد في المقام حرمة الاستماع على وجه الرضا بفعل
المغتاب (انتهى).

(1) هو العلامة الميرزا الشيرازي الثاني رحمه الله.
296

ولو تم ما أفاده أمكن الاستدلال عليها بكونه من الكبائر لأن قوله في صحيحة
أبي الصلت الهروي (1) عن الرضا عليه السلام: ومن رضي شيئا كان كمن أتاه، وما عن
أمير المؤمنين عليه السلام، الراضي بفعل قوم كالداخل معهم فيه (2). يدلان على كونه من
الكبائر باطلاق التنزيل، لكن الشأن في دلالتها، فإن الظاهر منها أن المحرم
عنوان الرضا بفعل محرم وهو شامل للرضا الذي له مظهر كما فيما نحن فيه، ولا
تدل على حرمة عنوان آخر مغائر له وهو الاستماع، ولو كان على وجه الرضا.
فإن الاستماع كذلك ينحل إلى الرضا الذي هو أمر قلبي والاستماع الذي من عمل
الجوارح، ولا تقتضي حرمة العنوان الأول حرمة الثاني، لا باللفظ ولا بالفحوى، و
لا ملازمة بين حرمة الرضا بالغيبة مع حرمة استماعها على وجه الرضا، ولو تم ما
ذكره يكون على الداخل ثلاثة آثام: إثم أصل الدخول والعمل وإثم نفس الرضا
حسب الروايات وإثم الدخول على وجه الرضا بالفحوى المدعى، وهو كما ترى
مخالف للروايات.
مع أن ما ذكره من أن المراد في المقام حرمة الاستماع على وجه الرضا بفعل المغتاب
غير ظاهر، بل المراد في المقام حرمة الاستماع مطلقا ولو استمع مع انزجاره عن فعل
المغتاب وكراهته به، فكما أن الغيبة محرمة مطلقا ولو مع التنفر عنها، كذلك
الاستماع، وليس المراد بالرضا هو الإرادة والاختيار وغيرهما من مبادئ الفعل
الاختياري، كما لا يخفى على المتأمل.
وأما روايات وجوب رد الغيبة فهي أجنبية عن الدلالة على حرمة الاستماع، كما
هي أجنبية عن الدلالة على جوازها، بل تدل على أنه لو سمع الغيبة يجب عليه الرد،
بل قلنا في بعض المسائل السابقة: إن مقتضى أدلة النهي عن المنكر الدفع عن
المنكر الذي علم باشرافه على الوجود، فكيف يجوز تمكين المغتاب على الغيبة
وكشف ستر المؤمن بعذر إرادة الرد، وقد استدل شيخنا الأنصاري (3) على كونه

(1) الوسائل - كتاب الأمر بالمعروف - الباب 5 - من أبواب الأمر والنهي.
(2) الوسائل - كتاب الأمر بالمعروف - الباب 5 - من أبواب الأمر والنهي.
(3) في المسألة الرابعة عشر - من النوع الرابع - في الغيبة في حرمة استماعها.
297

من الكبائر بالنبوي: السامع للغيبة أحد المغتابين لولا ضعف سنده، وفيه نظر
يظهر بعد ذكر محتملات الرواية.
فمنها أن يكون المغتابين على صيغة الجمع، وكان القائل بصدد ادراج السامع
في المغتابين حكما بلسان الادراج الموضوعي، وتنزيله منزلة المغتاب فيكون
المراد أنه واحد منهم حكما، كما لو قال: زيد أحد العلماء مع فرض عدم
كونه عالما، فكأنه قال: السامع بمنزلة المغتاب، فعلى هذا الفرض تمت دلالتها
لاطلاق التنزيل، إلا على اشكال مشترك بين الاحتمالات تأتي الإشارة إليه، لكنه
بعيد لعدم فائدة في ذكر الجمع لإفادة هذا المعنى، بل لو قال: السامع مغتاب كان
أولى وأدل، كقوله: الفقاع خمر والطواف بالبيت صلاة.
ومنها أن يكون على صيغة التثنية، ويراد به تنزيل السامع منزلة المتكلم
بالغيبة، سواء أريد به أنه بمنزلة القائل بتلك الغيبة التي سمعها، أو أريد أنه بمنزلة
المتكلم بها، وأن السامع كأنه المتكلم بها، وعليه أيضا تمت الدلالة، لكن هذا
اللسان كأنه ينافي التنزيل بلسان اثبات الموضوع، لأن لسان اثباته يقتضي أن يكون
بايقاع الهو هوية لا الاثنينية والتغاير كما في الرواية.
ومنها أن يراد به جعل العدل للمغتاب فكأنه قال: السامع مغتاب آخر عدل
المغتاب وعليه أيضا لا تبعد تمامية دلالته، بأن يقال: إن اطلاق العدلية يقتضي
الاشتراك في جميع الآثار والأحكام.
ومنها أن يراد بهذا الكلام الحكاية عن تنزيل سابق عليه، فإذا كان السامع
منزلا منزلة المغتاب يصير المغتاب اثنين: الحقيقي والتنزيلي، والسامع أحدهما،
وهو الفرد التنزيلي، وعلي هذا الاحتمال يشكل الاستدلال لعدم وقوفنا على دليل
التنزيل، وكيفية دلالته، حتى نتمسك باطلاقه، ويكفي في الحكاية التنزيل
ببعض الآثار كأصل الحرمة، إلا أن يقال: إن حكاية العدلية بقول مطلق كاشف
عن التنزيل كذلك، وهو لا يخلو من وجه كما لا يخلو من تأمل.
ومنها أن يراد به التنبيه على أن الغيبة كما يتوقف تحققها على المغتاب
298

يتوقف على السامع، وهو شريكه في الإثم، وليس حال السامع حال المضروب
المتوقف تحقق الضرب عليه، بل هو دخيل في كشف ستر المؤمن وهتكه، وهو أحد
المغتابين بهذا الاعتبار، وعليه لا يكون في مقام بيان التنزيل حتى نتمسك باطلاقه
على كونه من الكبائر إلا أن يقال: يكفي كونه في مقام بيان كونه شريكا فيتمسك
باطلاق الشركة في الإثم على المطلوب إلا أن يناقش: بأنه ليس في مقام بيان
الشركة في الإثم أيضا، بل بصدد بيان سر كونه مأثوما، بأنه باستماعه مأثوم
والمغتاب بكلامه، فهو في مقام بيان أصل المأثومية مقابل عدم الإثم.
وهذا الاحتمال غير بعيد عن ظاهر اللفظ والاعتبار، فتحصل مما ذكر عدم
ظهور الرواية في التنزيل المطلق، حتى يستفاد منها كون الاستماع من الكبائر،
هذا مضافا إلى ورود اشكال آخر، وهو أن عمدة ما دلت علي كون الغيبة كبيرة
مرسلة ابن أبي عمير المتقدمة، وقد عرفت أن الأظهر فيها تنزيل المغتاب منزلة الذين
يحبون أن تشيع الفاحشة، ومقتضى التنزيل المذكور أنها كبيرة.
وعليه يمكن أن يناقش في دلالة ما يدل على تنزيل المستمع منزلة المغتاب
على كون الاستماع معصية كبيرة، بأن يقال: إن التنزيل في لسان رسول الله صلى الله عليه وآله
بأن المستمع أحد المغتابين يصح مع اشتراك المستمع للمغتاب في أحكام حال التنزيل
ومقتضى اطلاقه اشتراكهما في جميع الأحكام في حال الدعوى والتنزيل، وهو
لا يقتضي اشتراكهما في الأحكام النازلة المتعلقة بالمغتاب بعد التنزيل والدعوى،
فإن صحة الدعوى واطلاق التنزيل لا تقتضيان أزيد من ثبوت جميع الأحكام حال
التنزيل، ومن المتحمل أن يكون تنزيل المغتاب منزلة الذين يحبون أن تشيع
الفاحشة، واثبات حكم حب شياعها عليه بعد تنزيل المستمع منزلة المغتاب، إلا
أن يقال: إن الغيبة لو كانت كبيرة كانت كذلك من أول الأمر، ولا يمكن انفكاك
الكبيرة عن أصل المعصية، لكنه غير ثابت لأن الأحكام مجعولة وضعا وتكليفا،
ويمكن أن تكون الغيبة ذات مفسدة ضعيفة في أول البعثة، فجعلت محرمة، ثم حدثت
فيها مفاسد أخرى شديدة، كالمفاسد الاجتماعية، فجعلت كبيرة وأوعد عليها النار
299

الأليم، فدعوى عدم امكان التفكيك تحتاج إلى بينة مفقودة في المقام.
ودعوى أن رسول الله صلى الله عليه وآله العالم بالأحكام الآتية لا محالة ينزل الشئ
منزلة الآخر في جميع الأحكام السابقة واللاحقة فالاطلاق يقتضي ترتبها عليه مطلقا
(غير سديدة) لأن طريق علمه الوحي الإلهي، والمفروض عدم الايحاء إليه، ولو قلنا:
بأنه عالم بها لإحاطته باللوح المحفوظ فهو علم غير عادي ليس مناط جعل الأحكام
في ظاهر الشريعة، ولا شبهة في تدريجية الأحكام نزولا واجراء وفعلية، وبالجملة
الدعوى عدم الاطلاق بالنسبة إلى الأحكام المفقودة حال التنزيل وعدم ثبوته إلا
في الأحكام المحرزة حاله.
وإن شئت قلت: إن غاية ما أثبتناه بحكم الاطلاق في قبال مدعى كفاية
التنزيل بلحاظ أظهر الآثار: أن جميع الأحكام الثابتة للمنزل عليه ثابت للمنزل،
وأن أظهرية الآثار لا توجب رفع اليد عن الاطلاق إلا مع الانصراف، وأما أن الاطلاق
يقتضي ثبوت أحكام غير ثابتة للمنزل عليه حال التنزيل للمنزل في ظرف ثبوتها
للمنزل عليه فلا.
بل يمكن الاشكال في التنزيلات الواردة في لسان الأئمة عليهم السلام بناء
على كشفها عن تنزيل رسول الله صلى الله عليه وآله بعين ما تقدم (نعم) لو كان التنزيل منهم،
والدعوى والمجاز منهم، لا كاشفا عن تنزيله صلى الله عليه وآله يؤخذ باطلاقه، ولا ينظر إلى
كيفية ثبوت الأحكام للمنزل عليه، ووجهه واضح.
بل يمكن أن يقال: إن التنزيل بنحو الاطلاق في لسان الأئمة المتأخرين عن
عصر الوحي يكشف عن التنزيل المطلق في لسان رسول الله صلى الله عليه وآله ولو قلنا بالكشف،
لأن التنزيل لو كان في بعض الأحكام لكان عليهم البيان بعد كون النقل لبيان
الحكم الشرعي، فمع تمامية مقدمات الاطلاق يؤخذ باطلاق الكاشف، ويكشف
اطلاق المنكشف، فبقي الاشكال فيما إذا نقل تنزيل من رسول الله صلى الله عليه وآله من غير
طريقهم عليهم السلام، فتحصل من جميع ما ذكرناه أن الاستدلال بالنبوي لكون
الاستماع كبيرة: غير وجيه بوجوه.
300

ثم إن المحرم هل هو استماع الغيبة المحرمة، فتكون حرمته تابعة لحرمتها
أو هو محرم مستقل في قبال الغيبة، من غير تبعية لها في الحكم. يمكن الاستدلال
على استقلاله، وعدم تبعيته بالأخبار.
منها: حديث المناهي (1) وفيه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله نهى عن الغيبة والاستماع
إليها، ونهى عن النميمة والاستماع إليها، بأن يقال: إن الظاهر أن النهي متعلق
باستماع طبيعة الغيبة، لا الغيبة المنهي عنها كما أن النهي عن الغيبة لم يتعلق
بالغيبة المنهي عنها.
وإن شئت قلت: إن الظاهر أن متعلق النهي في الأول ومتعلق المتعلق
في الثاني شئ واحد، وهو نفس طبيعتها، وكما أن مقتضى الاطلاق في قوله:
نهى عن الغيبة حرمتها سواء حرم استماعها على المستمع أم لا فكذلك مقتضى
اطلاق قوله: والاستماع إليها حرمته سواء حرمت الغيبة على المغتاب أم لا،
وبذلك يعلم عدم تبعيته لها في الحكم، إلا أن يناقش في اطلاق حديث المناهي
بأن يقال: إن نفس مناهي الرسول صلى الله عليه وآله ليست بأيدينا حتى يمكن الأخذ باطلاقها
والرواية الحاكية عنها إنما جمع فيها شتات الأحاديث والنواهي الواردة بألفاظ
غير مذكورة فيها، وإنما هي في مقام عدها بنحو الاجمال والاهمال، وليس فيها
اطلاق، وبالجملة لا اطلاق في الحاكي لكونه في مقام عد أصل المناهي بنحو
الاهمال، ولا أقل من عدم احراز كونه في مقام بيان كل عنوان بخصوصياتها،
ولا علم لنا بالمحكي عنه.
ومنها ما عن جامع الأخبار عن سعيد بن جبير (2) قال صلى الله عليه وآله: ما عمر مجلس
بالغيبة إلا خرب من الدين، فتنزهوا أسماعكم من استماع الغيبة، فإن القائل و
المستمع لها شريكان في الإثم، بأن يقال: إن اطلاق قوله فتنزهوا أسماعكم
يقتضي عدم جواز الاستماع مطلقا، وكونه تفريعا على الجملة السابقة المذكورة

(1) الوسائل - كتاب الحج - الباب 152 - من أبواب أحكام العشرة.
(2) المستدرك - كتاب الحج - الباب 132 - من أبواب أحكام العشرة.
301

فيها الغيبة المحرمة لا يوجب التقييد أو الانصراف، وأما قوله: فإن القائل (الخ)
إنما هو بصدد بيان أن طبيعة المغتاب والمستمع شريكتان في الإثم، لا أن كل مستمع
شريك مع من اغتاب عنده حتى يقال: إن المفروض جواز اغتياب المغتاب ومعه
لا إثم عليه حتى يشترك السامع معه فتكون هذه الفقرة قاصرة عن اثبات الحرمة
في الفرض لا دالة على جوازها.
وإن شئت قلت: إن المراد بقوله ذلك دفع توهم أن السامع لا يكون مغتابا
فلا إثم عليه فقال: إن الإثم كما هو ثابت للمغتاب ثابت للسامع أيضا فهما شريكان في الإثم،
إلا أن يناقش ويقال: إن المتفاهم من صدرها وذيلها والتفريع المذكور أنها متعرضة
للغيبة المحرمة ولا اطلاق لها يشمل المحللة وقوله: إن القائل (الخ) فيه احتمالان
أحدهما ما ذكر، وثانيهما أن كل مغتاب شريك مع يستمع غيبته في الإثم،
ولا ينافي ذلك تعلق الحكم بالطبايع، لأن من يستمع غيبة المغتاب أيضا من الطبايع،
ثم على فرض أن تكون الرواية بصدد دفع التوهم المتقدم لا اطلاق فيها، فإنها
حينئذ بصدد بيان ذلك، لا حكم الموضوع حتى يكون لها اطلاق.
ومنها ما عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: الغيبة كفر والمستمع لها والراضي بها مشرك (1)
بدعوى اطلاق المستمع للغيبة المحللة واختصاص الراضي بها بالغيبة المحرمة
لقيام القرينة، ولم تقم في المستمع، إلا أن يقال: إن عطف الراضي بها على المستمع
لها وحمل محمول واحد عليهما قرينة على وحدة المراد منها. والانصاف عدم
اطلاق في الروايات فإنها بين مهملة ومنصرفة إلى المحرمة، وأما النبوي المتقدم
فقد عرفت أنه محتمل لمعان، فعلى بعضها يدل على جواز الاستماع للغيبة المحللة،
وعلى بعضها يدل على عدم الجواز، وعلى بعضها لا يدل على شئ منهما.
فإن قلنا: بأن المغتابين على صيغة الجمع وقلنا: بأن الظاهر منه عدم تنزيل المستمع
منزلة غيره بل تنزيل استماعه منزلة تكلمه كما لا يبعد، أو قلنا: بأنه على صيغة التثنية
لكن جعل السامع عدلا للمغتاب،. والعدلية باعتبار أن استماعه بمنزلة تكلمه أو

(1) المستدرك - كتاب الحج - الباب 136 - من أبواب أحكام العشرة.
302

قلنا: بأنه كاشف عن تنزيل آخر وهو تنزيل استماعه منزلة تكلمه، تدل الرواية
على حرمة الاستماع إلا في مورد جاز له الاغتياب. وإن قلنا: بتنزيل المستمع منزلة
المغتاب وباقتضاء الاطلاق التنزيل في المحرم والمحلل تدل على جواز الاستماع إذا
جاز للمغتاب الاغتياب، وإن قلنا: إنها بصدد بيان أصل الاشتراك، ودفع توهم
اختصاص الحرمة بالمغتاب، فلا تدل على شئ منهما، فهي مجملة من حيث اللفظ و
المعنى، وإن كان الأرجح تثنية الصيغة.
ويمكن أن يستدل على حرمة استماع الغيبة المحللة فيما إذ ألزم منه كشف
ستر المؤمن وإذاعة سره بأن كان السامع جاهلا بالعيب: بما تقدم: من أن المستفاد
من طوائف من الروايات حرمة عرض المؤمن، ومبغوضية انتهاكه ذاتا، ولو كان
مسلوب الإضافة عن الفاعل المختار والمكلف العاقل، وكما أن المغتاب لا يجوز
عليه هتك المؤمن بقوله كذلك لا يجوز للسامع كشف ستره باستماعه، فلو جاز ذلك
على القائل لا يلزم أن يكون جائزا على المستمع لعدم رفع احترام المؤمن بنحو
الاطلاق، ولهذا لا يجوز لسائر الناس اغتيابه بمجرد جوازه لواحد منهم، فالمرفوع
احترامه بالإضافة لا مطلقا.
ولو قيل: لازم تجويز الشارع اغتياب أحد للمغتاب تجويز استماعه وإلا كان
ذلك لغوا، يقال: لا ملازمة بينهما، لامكان أن يغتاب عند من جاز له استماع غيبته
بل له استماع الغير بغير اختياره كما يتفق ذلك كثيرا، فله أن يسمع غيره فجأة والمقصود
في المقام اثبات جواز الاستماع اختيارا، فلا ملازمة بين جواز الغيبة وجواز الاستماع
الاختياري، وهذا الأخير أوجه ما في المقام في حرمة استماعها مطلقا، لكنه أيضا
لا يخلو من اشكال لعدم احراز حرمة من أجاز الشارع غيبته والقدر المتيقن من الأخبار
المشار إليها هو مبغوضية هتك غير من أجاز المولى هتكه ولو في الجملة، ولا دليل
على حرمة هتكه ذاتا بنحو الاطلاق، ولا يستفاد ذلك من الأخبار المتقدمة، لأن
المستند لما ذكرناه ليس اطلاق دليل أو عمومه، بل هو مستفاد من مجموع الأخبار
استنقاذا، وأما عدم جواز غيبته لغير من أجيز فالاطلاق أدلة حرمة الغيبة من غير
303

مقيد، لا لهذا الوجه فتحصل مما ذكر عدم دليل معتمد على حرمة استماع الغيبة
المحللة.
ثم لو شككنا في أن الاغتياب كان على وجه الحلال أو الحرام قد يقال:
إن مقتضى أصالة الصحة في قول المغتاب عدم جواز رده وردعه بل بمقتضى أماريتها
تكشف عن جوازها واقعا، فيجوز للسامع استماعها لأن من آثار جوازها واقعا جواز
الاستماع أو من آثار عدم حرمتها واقعا عدم حرمة استماعها، هذا على فرض الترتب
بين الحكمين الواقعيين وعلى فرض عدم احرازه تجري أصالة الصحة ومعه لا تجري
الاستصحابات الموضوعية أو الحكمية الحاكمة بعدم جواز الاستماع على فرض جريانها
لحكومتها عليها ومعه لا مانع من جريان أصل البراءة عن الاستماع.
لكن في جريان أصالة الصحة في مثل المقام اشكال، لأن الدليل على الأصل
المذكور ليس الأبناء العقلاء أو هو مع سيرة المتشرعة والقدر المتيقن منهما هو
الأفعال التي لها وجهان وجه صحة وضعية ووجه فساد كذلك أعم من العقود و
الايقاعات وسائر الأفعال كالصلاة والصوم وتجهيز الموتى وغيرها، وأما في مطلق
الأفعال كما لو دار الأمر بين كون الفعل الصادر مباحا أو لا، أو القول الكذائي
مباحا أو لا، أو قبيحا أو لا، فلم يثبت بناء العقلاء أو المتشرعة على الحمل على الحلال
الواقعي وترتيب آثاره عليه، سيما في مثل المقام الذي قد يستلزم الحمل على المباح
الواقعي لحمل فعل مسلم آخر على الفساد والحرمة، فإذا قال: ظلمني زيدا وجاهر
بالفسق يكون حمل قوله على الصحة واقعا مستلزما للبناء على ظلمه أو جهره به.
إلا أن يقال: إن الحمل على الصحة في المقام حمل عليها باعتقاده، لا على
الصحة الواقعية أو على الصحة من حيث، وهو لا ينافي البناء على صحة عمل المغتاب
بالفتح، لجواز التفكيك بين اللوازم في الظاهر، وهما كما ترى مخالفان لحجية
أصالة الصحة ببناء العقلاء لعدم التفكيك في بنائهم، ولا شبهة في أن بنائهم في العقود
والايقاعات ونحوهما مما لها وجه صحة وفساد وضعا على الحمل على الصحة الواقعية
لا الاعتقادية وترتيب الآثار الواقعية لا الاعتقادية والحمل على الصحة الاعتقادية
304

في مورد والواقعية في آخر تفكيك في بنائهم بلا دليل، والتفكيك في اللوازم و
إن كان لا مانع منه ونحن بنينا على عدم حجية مثبتات أصالة الصحة لكن التفكيك
في المقام مشكل فإن البناء على صحة قول من قال: إن زيدا متجاهر بالفسق واقعا
والبناء على عدم تجاهره واقعا كأنهما لا يجتمعان (تأمل) وبالجملة أن بناء العقلاء أو
سيرة المتشرعة في مثل المورد غير محرزين وإن نفى الشيخ الأنصاري في الرسالة
(1) الاشكال عن جريانها في الأقوال، واختار الجريان في الاعتقادات أيضا
قال في الأقوال: الصحة فيها تكون من وجهين الأول من حيث كونه حركة
من حركات المكلف فيكون الشك من حيث كونه مباحا أو محرما ولا اشكال في
الحمل على الصحة من هذه الحيثية، ثم ذكر الوجه الثاني والوجوه التي فيه وتمسك
في بعضها بأصالة الصحة مع أن الظاهر عدم ابتنائه عليها فراجع. وقال في الاعتقادات
إذا كان الشك في أن اعتقاده ناشئ عن مدرك صحيح من دون تقصير عنه في مقدماته أو
من مدرك فاسد لتقصير منه في مقدماته فالظاهر وجوب الحمل على الصحيح لظاهر
بعض ما مر: من وجوب حمل أمور المسلمين على الحسن دون القبح (انتهى ملخصا)
وأشار ببعض ما مر إلى أدلة لفظية ناقش فيها رحمه الله.
وقال المحقق التقي (2) في تعليقته على المكاسب يظهر مما ذكروه في تصرف بايع
الأمة ذي الخيار في أمته المبيعة باللمس ونحوه: من أنه يحمل على الفسخ حملا
لتصرفه على المباح فإن التصرف في المبيع مع عدم الفسخ محرم بل يحكم بفسخه
قبل اللمس آنا ما لأن إرادة الفسخ باللمس تقتضي وقوع الجزء الأول منه محرما و
هو مناف لظهور حال المسلم في كون عمله سائغا جائزا مع أن الأصل عدم الفسخ
فيعلم من ذلك كون أصالة الصحة معتبرة عندهم من باب الأمارية المقتضي للتقدم
على الأصول (انتهى).

(1) راجع خاتمة الاستصحاب من الرسائل - في الأمر السادس من المسألة الثالثة
في أصالة الصحة في فعل الغير.
(2) هو العلامة الميرزا الشيرازي الثاني رحمه الله.
305

وأنت خبير بأن هذا النقل لا يصلح لاثبات حجية أصالة الصحة لعدم ثبوت اجماع
أو شهرة به وقد عرفت حال بناء العقلاء والسيرة مع أن حجية هذا النحو من المثبتات
كأنها مقطوعة الفساد، وهذا نظير اثبات دخول الوقت بأصالة الصحة إذا شك في
صحة صلاته لأجل الشك في دخوله.
نعم استدل المحقق المذكور في مورد آخر على وجوب حمل فعل المسلم
على السائغ بقوله تعالى في قضية الإفك: ولولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات
بأنفسهم خيرا وقالوا هذا فك مبين (1) قال رحمه الله: والضمير في سمعتموه راجع
إلى ما عبر عنه بما ليس لكم به علم في الآية اللاحقة دل بمقتضى كلمة لولا الدالة على
التنديم والتوبيخ على أن المسألة التي تنسب إلى الغير مما ليس للمخاطب به علم
يجب الحكم بكونه إفكا وكذبا، وفيه دلالة على كون أصالة الصحة في فعل المسلم
من باب الظن النوعي وبقوله: فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون (2)
دل على أن المدعين محكومون بالكذب ما لم يعلم صدقهم بإقامة الشهود وبقوله:
لولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم (3)
والضمير في إذ سمعتموه أيضا راجع إلى المرجع في الآية السابقة فيقتضي الحكم بكون
ما ليس للانسان به علم مما ينسب إلى غيره بهتانا (انتهى).
وأنت خبير بأن الآيات الشريفة غير مربوطة بحمل فعل المسلم على الصحة بناء
على ما هو المعروف: من أنها واردة في عايشة، فإن مورد أصالة الصحة ما إذا وقع
فعل من فاعل ولم يعلم أنه وقع على وجه الصحيح أو الفاسد، وفي المقام لم يقع فعل
مردد بينهما بل كان الانتساب إفكا وكذبا وكان السامع شاكا في صدور الفعل منها
لا في صحة فعلها بعد صدوره، فالتعيير والتوبيخ إنما هو على انتساب فاحشة إلى الغير
بلا علم بل لعل مجرد انتساب قبيح إلى الغير بلا علم داخل في الافتراء والإفك أو ملحق به.

(1) سورة النور الآية 12.
(2) سورة النور الآية 13.
(3) سورة النور الآية 16.
306

فالآيات الكريمة واردة في توبيخ من أشاع الفاحشة في المسلم بلا حجة وعلم،
فهي غير مربوطة بأصل الصحة، ولو كانت القضية مربوطة بمارية القبطية زوجة رسول
الله صلى الله عليه وآله وكانت عايشة آفكة لم تدل الآيات على وجوب حمل فعل المسلم على الصحة
أيضا بل واردة فيما ذكرناه، إذ لم يصدر فعل منها مرددا بين الصحيح والفاسد.
إلا أن يقال: إن الإفك في مارية راجع إلى مبدء ولدها، وهو مردد بينهما،
والتوبيخ لأجل عدم حمل فعلها على الصحة، لكنه كما ترى بعيد عن ظاهر الآيات
كما لا يخفى، فإن الظاهر منها أن القول بلا علم وحجة افتراء وإفك، وأن التوبيخ
ورد لذلك، لا على القول مع الحجة والعلم على الخلاف، بل يحتمل أن يكون مبنى
التوبيخ قيام الاستصحاب العقلائي أو الشرعي على عدم صدور القبيح بناء على أن
البناء على العدم كاف في اثبات كون النسبة إفكا (تأمل) بل لقائل أن يقول: إن
الآيات تدل على عدم حجية أصالة الصحة في الأقوال، وإلا فمقتضى جريانها فيها و
أماريتها على الواقع ثبوت الواقع بها، فيخرج الموضوع عن الافتراء، ولا وقع
للتوبيخ مع حجيتها.
ثم لو قلنا: بجريان أصالة الصحة في الأقوال والأفعال مطلقا فالقدر الثابت
منها ومن بناء العقلاء هو البناء على الصحة الواقعية وترتيب آثارها في خصوص مورد
المشكوك فيه ومورد جريان الأصل فإذا شك في صحة الصلاة وفسادها تحمل على
الصحة واقعا ويترتب عليها آثارها، وأما لو كانت صحتها ملازمة لعنوان آخر فلا
يثبت بها فلو صلى وشك في صحتها من أجل دخول الوقت وعدمه تحمل على الصحة
الواقعية لكن لا يثبت بها دخوله ولا كون المصلي على طهر أو لباسه من محلل اللحم لو شك
فيها، فعليه لا يترتب على صحة قول المغتاب جواز الاستماع، لأن جريان أصالة الصحة في
قوله بما أنه فعل صادر منه وحركة من حركاته فيحمل على أنه مباح من هذه الجهة
لكن لا يثبت بها أن مقوله موافق للواقع وأن المغتاب بالفتح جائز الغيبة أو متجاهر
مثلا، فإن جواز الاستماع مترتب على كون المغتاب بالفتح جائز الغيبة أو على كون
قوله كاشفا عن كون غيبة المغتاب من مستثنيات حرمتها وليس مترتبا على صحة
307

فعل المغتاب وليس من آثار صحة فعله بما أنه حركة من حركاته.
وبالجملة أن المستثنى من حرمة استماع الغيبة ولو لفقد الدليل على حرمته
هو موارد الاستثناء من حرمة الاغتياب واقعا وبجريان أصالة الصحة لا يثبت الاستثناء
الواقعي.
إلا أن يقال: إن جواز الاستماع مترتب على جواز الاغتياب واقعا وأصالة
الصحة في قول المغتاب تثبت إباحة اغتيابه لأن مقتضى أصالة الصحة فرضا إباحة
الاغتياب واقعا فيترتب عليه جواز الاستماع لكنه مدفوع.
أولا بأنه لا دليل على ترتب جواز الاستماع على عنوان جواز الغيبة
وإباحتها، بل الثابت أن في موارد استثناء الغيبة يستثنى الاستماع بناء على أن المستمع بمنزلة المغتاب، ومفاد التنزيل أن كل مورد جازت الغيبة للمغتاب
جاز استماعها، لا أن جواز الاستماع مترتب على عنوان الإباحة ولا تصلح أصالة
الصحة لاثبات كون المورد من موارد الاستثناء، وأما قوله: إذا جاهر الفاسق بفسقه
فلا حرمة له ولا غيبة لا يدل على أن حرمة الاستماع مترتبة على حرمة الغيبة بل ظاهرها
أن المتجاهر لا غيبة له ولا يكون استماع ذمه استماع الغيبة لو قلنا باستفادة ذلك
منه أيضا، وأما استفادة ترتب حكم على حكم فلا.
وثانيا أنه قد اتضح فيما مر أن الحكم بجواز الاستماع في موارد جواز
الاغتياب إنما هو لأجل عدم الدليل على حرمته فتجري أصالة البراءة والإباحة، و
معلوم أن جريان أصالة الصحة في فعل المغتاب لا يفيد في احراز موضوع جريانهما
وليس جريانهما من الآثار الشرعية للإباحة الواقعية كما لا يخفى.
ثم على فرض عدم جريان أصالة الصحة أو معارضتها لأصالة الصحة في فعل
المغتاب بالفتح على القول بجريانها، فالظاهر جريان الاستصحاب الموضوعي في
بعض الأحيان كاستصحاب عدم كون المغتاب متجاهرا أو ظالما، لأن الاستثناءات من
الغيبة أمور مستقلة غير مرتبط بعضها ببعض فمع معلومية عدم كون المغتاب بالفتح
من موارد سائر المستثنيات وشك في كونه من مورد منها كما لو شك في كونه
308

متجاهرا وعلم بعدم كونه داخلا في سايرها يجري استصحاب عدم كونه متجاهرا
ويحرز موضوع عدم جواز اغتيابه وسماع غيبته بالأصل والوجدان فيحكم بحرمتهما
فإن كان أثر مترتبا على حرمته يترتب عليها كوجوب الرد إن قلنا: أنه مترتب على
الغيبة المحرمة وقلنا بوجوبه، فباستصحاب عدم كونه متجاهرا يحرز غيبته فيحكم
بلزوم ردها بالأدلة الدالة على لزوم رد الغيبة المحرمة لترتيب الآثار الشرعية مع
الواسطة على الموضوع، لا بالاستصحاب فقط بل به وبالأدلة الاجتهادية المترتبة
بعضها على بعض كما قرر في محله.
وهل يجوز أو يجب نهيه عن الغيبة بأدلة النهي عن المنكر باستصحاب
عدم كون المغتاب بالفتح متجاهرا مثلا أو لا. لا اشكال في أن مجرد استصحاب
عدم كونه متجاهرا لا يترتب عليه وجوب النهي عن المنكر، لأن موضوعه صدور
فعل منكر صادر عن فاعل على وجه المنكر عنده، ولهذا لا يجب النهي في موارد
اختلاف الاجتهادات أو الاختلاف في تشخيص الموضوعات، فباستصحاب عدم
كونه متجاهرا أو استصحاب كونها محرمة عليه لا يثبت كونه منكرا عنده حتى
يترتب عليه حكمه.
إلا أن يقال: يجري الاستصحاب التعليقي في القول الصادر منه بأنه لو كان
صادرا منه قبل تجاهره بالفسق بنظر القائل وعدم مسوغ آخر كان منكرا عنده والآن
كذلك، لكن جريان الاستصحاب التعليقي في غير التعليقات الشرعية ممنوع، ويمكن
اجراء الاستصحاب التنجيزي بأن يقال: إن غيبة فلان كان منكرا لدى القائل في زمان و
الآن كذلك فيحرز به موضوع وجوب النهي عن المنكر بناء على أن وجوب النهي
عنه متعلق بالعنوان الكلي واعم من الرفع والدفع.
نعم لو كان وجوبه مقصورا على رفع المنكر الموجود لا يصح استصحاب
العنوان الكلي لاثبات منكرية الوجود الخاص إلا بالأصل المثبت، وبالجملة
استصحاب كون الغيبة منكرة يفيد على فرض وجوب النهي عن طبيعة المنكر
سواء صارت قطعة منها أو فرد منها موجودة، أم كانت في معرض الوجود،
309

فإذا جرى استصحاب كون الغيبة الكذائية منكرة وعلمنا بوجود طبيعة الغيبة أو
بمعرضيتها للوجود يترتب عليها وجوب النهي عن المنكر، وهذا هو الأقوى كما
ذكرناه فيما سبق، هذا حال القواعد العامة وإن لا يخلو الاستصحاب المذكور من
كلام.
لكن قد وردت في المقام جملة من الروايات لعل استفاضتها وكثرتها
تغنينا عن النظر إلى اسنادها وضعف غالبها وهي على طائفتين:
إحديهما ما أخذ فيها عنوان نصر المؤمن وعونه وخذلانه وعدم نصره وعونه
وهي الغالب منها، كرواية وصية النبي صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام (1) وفيها: يا علي من
اغتيب عنده أخوه المسلم فاستطاع نصره فلم ينصره خذله الله في الدنيا والآخرة،
ورواية أبي الورد (2) عن أبي جعفر عليه السلام قال: من اغتيب عنده أخوه المؤمن فنصره
وأعانه نصره الله وأعانه في الدنيا والآخرة، ومن لم ينصره ولم يعنه ولم يدفع عنه
وهو يقدر عليه نصرته وعونه خفضه الله في الدنيا والآخرة، ونحوهما روايات
أخر.
والانصاف أن هذه الطائفة قاصرة عن اثبات الوجوب والحرمة ولسانها يناسب
الرجحان والكراهة كما في أشباهها ونظائرها فإن معنى الخذلان على ما في كتب
اللغة والمستفاد من موارد الاستعمال، ومنها هذه الروايات هو ترك النصر والإعانة
فكأنه قال: فمن لم ينصر المؤمن لم ينصره الله في الدنيا والآخرة، فكما أن من
قوله: من نصره نصره الله في الدنيا والآخرة لا يستفاد وجوب النصر كذلك من مقابله
لا يستفاد الحرمة، وقد وردت أمثال تلك التعبيرات أو أشد منها في مرتكب
المكروه.
نعم هنا روايات علق الحكم فيها على الخذلان والنصر مطلقا،

(1) الوسائل - كتاب الحج - الباب 156 - من أبواب أحكام العشرة.
(2) الوسائل - كتاب الحج - الباب 156 - من أبواب أحكام العشرة مجهولة
بأبي الورد.
310

كرواية سليمان بن خالد الصحيحة (1) بأحد طريقيها عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وآله: المؤمن من ائتمنه المؤمنون إلى أن قال: والمؤمن حرام على المؤمن أن يظلمه أو يخذله أو يغتابه أو يدفعه دفعة، وصحيحة الفضيل بن يسار (2) قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله، ومرسلة ربعي بن
عبد الله (3) عنه عليه السلام قال: المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يغتابه ولا يغشه
ولا يحرمه.
وصحيحة أبي المعزا (4) عنه عليه السلام قال: المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله و
لا يخونه (الخ) ودلالتها على الحرمة لا تنكر لكن الخذلان بمعنى ترك النصر و
الإعانة على ما في اللغة وهو بهذا المعنى العام لا يمكن الالتزام بحرمة تركه
كما لا يمكن الالتزام بوجوب الإعانة والنصر الشاملين لأنحائهما نفسا ومالا
ويدا، وفي جميع الموارد فإن عدم وجوبهما بهذا المعنى الوسيع من الواضحات، و
بناء المسلمين من الصدر الأول إلى الآن على إهمال النصر بهذا المعنى الوسيع فلو كان
واجبا لصار ضروريا مع كثرة الابتلاء به، فلا بد إما من التصرف في النصر و
الخذلان بحملهما على مورد خاص كنصرة في وقوع ظلم عليه وهو أيضا محل اشكال أو منع
أو حمل الروايات على الاستحباب والكراهة المهتم بهما والتعبير بما فيها لإفادة
شدة الاهتمام كما ورد نظيره بل أشد منه في حقوق الأخوة المستحبة.
ففي رواية المعلي بن خنيس (5) عن أبي عبد الله عليه السلام قال قلت له: ما حق المسلم على
المسلم قال: له سبع حقوق واجبات ما منهن حق إلا وهو عليه واجب إن ضيع منها
شيئا خرج من ولاية الله وطاعته ولم يكن لله فيه نصيب قلت له: جعلت فداك وما هي؟
قال: يا معلى أني عليك شفيق أخاف أن تضيع ولا تحفظ وتعلم ولا تعمل قلت: لا
قوة إلا بالله، قال: أيسر حق منها أن تحب له ما تحب لنفسك وتكره له ما تكره لنفسك ثم عد

(1) الوسائل - كتاب الحج - الباب 152 - من أبواب أحكام العشرة.
(2) الوسائل - كتاب الحج - الباب 152 - من أبواب أحكام العشرة.
(3) الوسائل - كتاب الحج - الباب 152 - من أبواب أحكام العشرة.
(4) الوسائل - كتاب الحج - الباب 122 - من أبواب أحكام العشرة.
(5) الوسائل - كتاب الحج - الباب 122 - من أبواب أحكام العشرة
311

حقوقا لم يكن شئ منها واجبا بالضرورة كارسال خادمه إلى منزل ليخدمه وعيادة مريضه و
شهود جنازته وإعانته بنفسه وماله ولسانه ويده ورجله، والانصاف أن من تدبر في هذا
السنخ من الروايات ليطمئن بأن غلظة التعبيرات لإفادة الاهتمام لا لإفادة الوجوب أو الحرمة.
والطائفة الثانية ما أخذ فيها عنوان لرد كالمروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله (1)
أنه قال في خطبة له: ومن رد عن أخيه غيبة سمعها في مجلس رد الله عنه ألف باب من
الشر في الدنيا والآخرة فإن لم يرده عنه وأعجبه كان عليه كوزر من اغتاب، ورواية
المناهي (2) وفيها: إلا ومن تطول على أخيه في غيبة سمعها فيه من مجلس فردها عنه
رد الله عنه ألف باب من الشر في الدنيا والآخرة فإن هو لم يردها وهو قادر على ردها
كان عليه كوزر من اغتابه سبعين مرة.
وفيهما دلالة على الوجوب لكن أولاهما ظاهرة في أن ترك الرد والاعجاب
بالغيبة محرم ولم يظهر منها أن تركه بنفسه محرم أو الرد واجب، ولو كان المراد
أن من ترك الرد كان عليه وزر من اغتاب صارت مخالفة للرواية الثانية بل هما مخالفتان
على أي تقدير، لأن الظاهر من الأولى أن وزره كالمغتاب ومن الثانية أنه كوزره
سبعين مرة ولا يصح حملها على الراد الغير المعجب، ضرورة عدم امكان زيادة وزر
غير المعجب عليه مع اشتراكهما في ترك الرد.
إلا أن يقال: إن المراد بالمثل في الأولى مشابهة وزرهما سنخا وهو لا ينافي
زيادة أحدهما على الآخر مقدارا وهو بعيد، أو يقال: إنهما متعارضتان في حد الوزر
لا في في أصله وهو أيضا مشكل ومعاملة الاطلاق والتقييد أشكل والانصاف أن اثبات
وجوب الرد بهما مشكل متنا فضلا عن ضعفهما سندا سيما مع بعد كون وزر غير الراد
للغيبة أكثر من المغتاب سبعين مرة.
وتؤيد عدم وجوبه رواية أبي الدرداء (3) قال: قال رجل من عرض رجل عند

(1) الوسائل - كتاب الحج - الباب 156 - من أبواب أحكام العشرة.
(2) الوسائل - كتاب الحج - الباب 152 - من أبواب أحكام العشرة.
(3) المستدرك - كتاب الحج - الباب 136 - من أبواب أحكام العشرة مجهولة
بأبي الدرداء.
312

النبي صلى الله عليه وآله فرد رجل من القوم عليه فقال النبي صلى الله عليه وآله: من رد عن عرض أخيه كان له
حجابا من النار، فإنه لو كان الرد واجبا على من سمعها كان النبي صلى الله عليه وآله وسائر الحضار
يردون عليه إلا أن يقال: إنه واجب كفائي وهو كما ترى مخالف لظاهر الروايات
وأما عدم نهيهم عنه لعله لعذر كعدم احتمال التأثير أو انتهائه برد الرجل، ويؤيده
أيضا عده في خلال الحقوق التي جلها أو كلها غير واجب في رواية محمد بن جعفر
العلوي (1) عن آبائه عن علي عليه السلام قال: رسول الله صلى الله عليه وآله: للمسلم على أخيه
ثلاثون حقا ثم عدها.
فتحصل مما ذكر أنه لا دليل معتد به على وجوب النصر ولا على حرمة الخذلان
ولا على وجوب الرد أو حرمة تركه إن كان له عنوان آخر غير النهي عن المنكر،
وأما لو كان المراد النهي عن المنكر فلا شبهة في وجوبه مع شرائطه، لكن حمله
عليه خلاف الظاهر ظاهرا، كما أن الانتصار والنصر عنوان آخر غير النهي عن
المنكر وغير الرد.
ثم إن مقتضى اطلاق الأدلة سواء قلنا بوجوب النصر والرد أو قلنا
باستحبابهما عدم الفرق بين العلم بوجود العيب في المغتاب بالفتح وصحة كلام
المغتاب والعلم بعدمه والشك فيه، كان له حالة سابقة معلومة أم لا، وكذا عدم
الفرق بين العلم بجواز غيبته للمغتاب والعلم بعدمه والشك فيه، كان له حالة سابقة
أم لا، إلا أن الظاهر انصرافها عما إذا علم جواز اغتيابه للمغتاب وبقي سائر الصور
تحت اطلاقها (وتوهم) أن خروج جائز الغيبة يوجب أن تصير الشبهة في مورد الشك مصداقية
(يدفعه) أن المدعى اطلاق الأدلة لموارد الشك والانصراف منحصر بصورة العلم
بالجواز وقيام الاستصحاب في مورد جريانه مقام العلم الموضوعي وأن يخلو من وجه
لكنه مشكل في المقام بل مطلقا.
نعم ما ذكرناه إنما هو في غير الحاكم والقاضي المعدين للانتصاف فيجوز
لهم سماعها ولو في موارد الشك ولا يجب عليهم الرد لأن نصبهما لذلك.

(1) الوسائل - كتاب الحج الباب 122 - من أبواب أحكام العشرة ضعيفة.
313

ثم إن اطلاق الأخبار حاكم على أصالة الصحة في قول المغتاب بناء على جريانها
وعلى الاستصحاب لو كان جريانه مقتضيا لجواز الغيبة. (نعم) يمكن أن يفرق بين
المتجاهر بالفسق وغيره بأن يقال: إن لسان أدلة تجويز غيبته نفي الموضوع و
هو حاكم على أدلة وجوب النصر وحرمة ترك رد الغيبة فإذا شك في بقاء المتجاهر
على صفته يستصحب الموضوع وينقح به موضوع أدلة لا غيبة فيخرج عن موضوع
أدلة وجوب النصر والرد.
ثم إن اطلاق الأخبار يقتضي وجوب النصر والرد بأي نحو ممكن أو أي نحو شاء ولو
بتكذيبه ومعارضته بالمثل (نعم) في بعض الموارد تعارض تلك الأدلة مع أدلة أخرى بالعموم
من وجه فلا بد من العلاج ونحوه، هذا بناء على استفادة الحكم الالزامي من الأدلة،
وأما بناء على استفادة الحكم الاستحبابي كما رجحناه في أدلة النصر فلا يستفاد
منها الاطلاق لصورة استلزام شئ موهن للمغتاب كتكذيبه وتحقيره ومعارضته
بالمثل، لأن تلك الأدلة الواردة في شأن المؤمن واستحباب نصره وعونه لما وردت
لمراعات حال العموم لا اطلاق لها يشمل حال استلزام عون مؤمن لترك عون مؤمن
آخر فضلا عما استلزم تحقيره وتوهينه فعليه تحمل الروايات على نصر المؤمن بما
لا ينافي المدارات مع المؤمن المغتاب بالنصيحة والموعظة الحسنة واللسان اللين لا
التكذيب والتوهين. وربما يتشبث بالاستصحاب وحمل فعل المؤمن على السائغ
لجواز تكذيب المغتاب أو وجوبه بأن كلامه إفك وبهتان بل حمل أخبار النصر
والرد عليه بالخصوص، بل يتشبث بالآيات الواردة في الإفك لذلك حيث إن مفادها
توبيخ المستمعين الجاهلين بترك تكذيب القائل وانتسابه إلى الإفك والبهتان.
ويرد عليه أن استصحاب عدم صدور الفعل عنه مع أنه ينفي موضوع أصالة الصحة،
لأن موضوعها الفعل الصادر عنه المردد بين الصحيح والفاسد فلا ينبغي التمسك بهما
في مورد واحد لا يثبت كون كلامه مخالفا للواقع وأن المتكلم به كاذب إلا بالأصل
المثبت، فإن بين عدم وقوع الفعل من الفاعل وكون كلام المخبر كذبا والمخبر
كاذبا ملازمة عقلية، (نعم) لا مانع من مقابلة المغتاب بنفي وقوع الفعل عنه بجريان
314

الاستصحاب وهو غير تكذيبه، وكذا الحال في أصالة الصحة على فرض جريانها
لأنها ليست حجة في اللوازم والملازمات بل غاية مفادها لزوم ترتيب آثار الواقع
على المجرى وفي المقام يجوز ترتيب آثار الصحة الواقعية على فعل المغتاب بالفتح
لكن ليس عدم موافقة كلام المغتاب للواقع وكونه كاذبا من آثارها.
وأما الآيات الكريمة فأجنبية عن أصالة الصحة ومخصوصة بموردها أي القذف
ولهذا يحد الشهود إذا كانوا أقل من الأربعة للقذف، ولولا النص والفتوى لكان
الشك في جواز الحكم بالكذب والبهت في غير مورد نزولها وهو نساء النبي صلى الله عليه وآله
لخصوصية في عرضه صلى الله عليه وآله ولا يمكن إلغاء الخصوصية عنه.
إلا أن يقال: باشعار قوله: ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا بعدم
الاختصاص أو دلالته عليه، وعلى أن حال إن الآيات عير مرتبطة بأصالة الصحة لما
ذكرناه: من أن موضوعها الموجود بعد الفراغ عن وجوده لا المشكوك فيه سيما
المحكوم بالعدم بحكم الاستصحاب.
الأمر الرابع في كفارة الغيبة الأولى بيان مقتضى القواعد والأصول والاحتمالات
المتصورة مع قطع النظر عن النصوص الخاصة ومفادها تفصيلا فنقول: يحتمل بحسب
التصور أن يكون الاستحلال والاستغفار الواردان في بعض الروايات واجبين نفسيين
حتى الأول منهما فكان المقصود بالاستحلال هو إظهار ذلة المغتاب لدى المغتاب
بالفتح فكما أنه بغيبته أهانه وحقره أراد الشارع أن يحقر ويذلل نفسه بالاعتذار
لديه والاستحلال عنه ارغاما لنفسه.
ويحتمل أن يكونا واجبين شرطيين لصحة التوبة فتكون صحتها موقوفة
عليهما أو على أحدهما تخييرا أو تعيينا فتكون نفس الاستحلال شرطا لا تحليل المغتاب
بالفتح ويحتمل أن يكون ا واجبين لتكفير الغيبة بهما أو بحدهما مستقلا من غير
احتياج إلى الاستغفار والتوبة، ويحتمل في الاستحلال أن يكون واجبا للتوسل به
إلى تحليل المغتاب فيكون تحليله مكفرا للسيئة أو شرطا لصحة التوبة أو مطلوبا
نفسيا، وأيضا يحتمل في التحليل أن يكون من قبيل غفران الذنب لا اسقاط الحق
315

ويحتمل أن يكون من قبيل اسقاطه، فالتصورات المذكورة في الاستحلال لا يتقوم على
كون اغتياب المؤمن موجبا لثبوت حق على المغتاب.
ثم في الاستحلال والاستغفار على التقديرات المذكورة احتمالات أخر
ككون الاستحلال فقط واجبا، أو الاستغفار فقط، أو كليهما، أو واحد منهما، أو
التفصيل بين امكان الاستحلال وعدمه، أو وصول الغيبة إلى المغتاب وعدمه، أو
ترتب فساد عليه وعدمه إلى غير ذلك.
ثم إنه لا اشكال في جريان البراءة مع الشك في وجوبهما مستقلا أو في
كونهما شرطا لصحة التوبة. بناء على أن التوبة واجبة نفسا لا لتكفير السيئة،
وبناء على جريان البراءة في الشك في الأقل والأكثر، ولا في أن الأصل الاشتغال
بناء على أن التوبة لتكفير السيئة ومحوها أو لاسقاط حق الله تعالى العقوبة بناء
على ثبوت حق من الله تعالى على العباد في المعاصي لأن استحقاق العقوبة بارتكاب
الغيبة صار ثابتا على العبد، أو أن حق الله ثابت بارتكابها على ذمة العبد ولا بد
في اسقاطه من اليقين به وكذا لا بد عقلا من اليقين بالمؤمن من العقوبة، لكن
مقتضى اطلاق أدلة التوبة والاستغفار آية ورواية البالغة حد التواتر أن تمام
الموضوع لتكفير السيئات هو التوبة عنها أو مع الاستغفار من غير دخالة شئ
آخر فيه.
نعم الظاهر اعتبار عدم حق الناس على التائب كما يدل عليه بعض الأخبار،
ومع الشك في كون الغيبة من حق الناس يجري استصحاب عدم تعلق حق عليه
فيحرز به موضوع صحة التوبة من غير أن يكون مثبتا لأن اطلاق الأدلة يقتضي أن يكون توبة العبد مكفرة لسيئته، والأدلة الدالة على اعتبار عدم حق الناس عليه:
لا توجب تقييدا في عنوان التوبة بل يكون عدم ثبوت الحق عليه بمقتضاها موضوعا
لصحة التوبة، بل هو أولى بالجريان من جريان استصحاب كون الشخص على وضوء
لصحة الصلاة كما هو مورد أدلة الاستصحاب مع ورود لا صلاة إلا بطهور فيها، وبالجملة
مقتضى الاستصحاب عدم ثبوت حق على المغتاب فتصح توبته بمقتضى اطلاق الأدلة،
316

بل لا يبعد جواز التمسك بدليل الرفع مع الغض عن الاستصحاب فينقح به الموضوع
والتفصيل يطلب من محله، هذا حال القواعد،
وأما الأخبار فمنها ما هي مربوطة
بالاستحلال وهي على طوائف:
منها ما تدل على أن عدم الاغتياب وستر عورة المؤمن حق للمؤمن على المؤمن
وهي روايات، أوضحها دلالة رواية الكراجكي (1) عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: للمسلم
على أخيه ثلاثون حقا لابراء له منها إلا بالأداء أو العفو وفيها ويستر عورته إلى أن
قال: ويحب له من الخير ما يحب لنفسه ويكره له من الشر ما يكره لنفسه ثم قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: إن أحدكم ليدع من حقوق أخيه شيئا فيطالبه به
يوم القيامة فيقضى له وعليه، فإن الظاهر منها صدرا وذيلا أن تضييع حق ستر العورة
وعدم الغيبة موجب لنحو عهدة للمغتاب لابراء له إلا بالعفو وأن من يدع من حقوق
أخيه شيئا يكون مطالبا به فيحكم له عليه يوم القيامة فهي صريحة في ثبوت حق
له عليه بتضييع حقه يحتاج إلى العفو:
ومنها ما دلت على أن الله لا يغفر ذنب المغتاب حتى يفغر صاحب الغيبة له (2)
وفي بعضها لا تغفر إلا أن يحلله صاحبه (3) وفي بعضها من كانت لأخيه عنده مظلمة
في عرض أو مال فليستحلها (4) وفي بعضها لا يعذب الله مؤمنا بعد التوبة والاستغفار إلا
بسوء ظنه واغتيابه للمؤمنين (5)، ومقتضى تلك الروايات بعد قرينية بعضها لبعض أن
بالغيبة يثبت حق للمؤمن على أخيه وتحليله شرط صحة توبته أو قبولها وأن
الاستحلال لأجل برائته من حقه والبراء لأجل صحة توبته وغفران الله جل ذكره له.

(1) الوسائل - كتاب الحج - الباب 122 - من أبواب أحكام العشرة ضعيفة
بحسين بن محمد بن علي الصيرفي.
(2) المستدرك - كتاب الحج - الباب 135 - من أبواب أحكام العشرة - والوسائل - 155.
(3) المستدرك - كتاب الحج - الباب 135 - من أبواب أحكام العشرة - والوسائل - 155.
(4) راجع كشف الربية - للشهيد الثاني - في الفصل الخامس في كفارة الغيبة.
(5) المستدرك - كتاب الحج - الباب 132 - من أبواب أحكام العشرة.
317

كما تشهد به ما عن أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة (1) أن قائلا قال بحضرته:
أستغفر الله فقال ثكلتك أمك أتدري ما الاستغفار. والاستغفار درجة العليين وهو اسم
واقع على ستة معان: أولها الندم على ما مضى، والثاني العزم على ترك العود إليه أبدا
والثالث أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله أسلس ليس عليك تبعة (الخ)
والظاهر أن الأولين عبارة عن حقيقة التوبة والأوسطين شرط صحتها أو قبولها والأخيرين
شرط كمالها، والحاصل أن هذه الطائفة تدل من بين الاحتمالات المتقدمة في صدر
البحث على أن الاستحلال للتوسل به إلى التحليل والبراءة من حق الغير وهي شرط
صحة التوبة أو قبولها.
ومنها ما هي مربوطة بالاستغفار، كرواية حفص بن عمر (2) عن أبي عبد الله
عليه السلام قال سئل النبي صلى الله عليه وآله ما كفارة الاغتياب قال: تستغفر الله لمن اغتبته كلما ذكرته،
كذا في الوسائل وفي مرآة العقول عن نسخة كما ذكرته وعن الجعفريات (3) من
ظلم أحدا فعابه فليستغفر الله له كما ذكره فإنه كفارة له وعن أمالي الشيخ المفيد بسنده
(4) عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: كفارة الاغتياب أن تستغفر لمن اغتبته، وعن كشف
الريبة عنه صلى الله عليه وآله (5) كفارة من استغتبته أن تستغفر له، ولعل نسخة الوسائل في
رواية حفص غير صحيحة وكانت مصحفة عن (كما ذكرته) لتشابههما خطا، وعلى
فرض صحتها يمكن أن يراد به كلما اغتبته أي تستغفر الله له في كل مرة اغتبته
فتوافق سائر الروايات، أو يراد به أن في كل ذكر من المغتاب والتوجه إلى اغتيابه

(1) في الحكم والمواعظ - ابن أبي الحديد - ج 4 - ص 467 - ط مصر - و
ج 4 - ص 640 - ط بيروت و ج 2 - ص 469 - ط طهران - وعبده - ج 2 - ص 125 -
ط بيروت - و ج 2 - ص 243 - ط مصر.
(2) الوسائل - كتاب الحج - الباب 155 - من أبواب أحكام العشرة.
(3) المستدرك - كتاب الحج - الباب 135 - من أبواب أحكام العشرة.
(4) المستدرك كتاب الحج - الباب 135 - من أبواب أحكام العشرة.
(5) في الفصل الخامس - في كفارة الغيبة.
318

يستغفر الله له مرة، ولا يجب عليه تكراره إلا أن يغفل عنه ويتذكر لاغتيابه مرة
أخرى فيجب مرة أيضا.
وكيف كان توهم تلك الروايات تكفير الذنب بالاستغفار له من غير احتياج
إلى التوبة والاستغفار لنفسه، لكن الظاهر المتفاهم منها أن الاستغفار له كفارة و
براء مما عليه من حق أخيه وظلمه إياه، وإن شئت قلت: إن تلك الروايات لا تصلح
لمعارضة أدلة وجوب التوبة أو تقييدها.
ثم إن هذه الروايات معارضة للروايات المتقدمة فإن مقتضى ما تقدمت توقف
صحة التوبة على غفران المغتاب وتحليله، ويؤكدها ظهورا قوله: والغيبة أشد من
الزنا ومقتضى هذه الروايات تكفيرها بالاستغفار له وكونه غير أشد من الزنا نافلا شبهة
في تعارضهما وعدم جمع مقبول بينهما.
نعم لا يبعد أن تكون موثقة السكوني (1) عن أبي عبد الله عليه السلام شاهدة جمع
بين الطائفتين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله من ظلم أحدا ففاته فليستغفر الله فإنه كفارة
له، فإن الظاهر منها ولو بقرينة سائر الروايات أن المراد الاستغفار لصاحبه لا لنفسه
بل لعله المتفاهم من نفسها ولو بالارتكاز، فإن الظاهر أنه مع فوت المظلوم يكون
الاستغفار لمراعات حاله نظير الصدقة من ماله إذا فاته، فتكون الرواية موجبة
لحمل ما دلت على وجوب الاستحلال والاستغفار منه على صورة وجدانه وعدم فوقه
كما هو ظاهر سوقها أيضا، ومع فوقه يكون الاستغفار له مرتبة من أداء حقه ولا مانع
منه ظاهرا.
نعم يمكن الاشكال على رواية السكوني بأن مقتضاها أن الاستغفار موجب
للبراءة عن الحقوق المالية أيضا عند فقد صاحب الحق وهو كما ترى،
ويمكن أن يجاب عنه بأن الظاهر من كون الاستغفار كفارة أنه كفارة الظلم من
حيث هو لا الضمان الحاصل باليد أو الاتلاف فلا تنافي بينها وبين ما دلت على وجوب
التصدق في المال، وبالجملة أن تلك الرواية مع اعتبارها سندا حاكمة على الطائفتين

(1) الوسائل - كتاب الجهاد - الباب 78 - من أبواب جهاد النفس.
319

من الروايات ومفسرة لها وقرينة على المراد منها.
وأما رواية مصباح الشريعة (1) الدالة على التفصيل بين وصول الغيبة إلى
صاحبها وعدمه: فلا تصلح للاستناد إليها لعدم ثبوت كونها رواية فضلا عن اعتبارها
بل لا يبعد أن يكون كتابه من استنباط بعض أهل العلم والحال ومن انشاءاته، هذا
كله مع الغض عن اسناد الروايات والقرائن القائمة في متونها وإلا فأبواب المناقشة
في الاسناد والدلالة في كثير منها مفتوحة، حتى في الصحيفة المباركة السجادية
فإن سندها ضعيف، وعلو مضمونها وفصاحتها وبلاغتها وإن توجب نحو وثوق على صدورها
لكن لا توجبه في جميع فقراتها واحدة بعد واحدة حتى تكون حجة يستدل بها
في الفقه وتلقى أصحابنا إياها بالقبول كتلقيهم نهج البلاغة به لو ثبت في الفقه أيضا
إنما هو على نحو الاجمال وهو غير ثابت في جميع الفقرات
هذا مع امكان المناقشة في دلالتها أيضا لأن ما يمكن أن يستدل به هو الفقرة
الثانية المبدوة بقوله: اللهم وأيما عبد من عبيدك أدركه مني درك أو مسه (الخ)
ولا شبهة في لزوم تأويلها وحلمها على ترك الأولى ونحوه وإلا فظاهرها مخالف
لأصول المذهب وحملها على التلقين بغيره أو على الشرطية مع عدم تحقق تاليها
بعيد، ولا أقل من تساوي احتمال ذلك واحتمال إرادة الحقوق الغير اللازمة، مع أن
طلب ارضائه من الله تعالى لا يدل على لزومه، مضافا إلى عدم دلالتها على أن كل مظلمة
لا بد فيها من الاسترضاء، فإن غاية ما يدل عليه أن في الأذى والظلم ما يكون من
قبيل الحقوق ويحتاج إلى الاسترضاء، لا أن كل مظلمة كذلك.
فقوله أيما عبد أدركه مني درك ظاهر في الضمانات المالية وقوله: أو مسه
من ناحيتي أذى أعم ما يوجب القصاص وغيره، وقوله أو لحقه بي أو بسببي ظلم
أعم من الجميع فحينئذ قوله: ففته بحقه أو سبقته بمظلمته لا يدل على أن كل ذلك
موجب لثبوت حق عليه بل يدل على أن ما فاته بحقه أي ما هو موجب لثبوت حق كالضمانات
يحتاج إلى الاسترضاء لا أن كل أذى ومظلمة يحتاج إليه، وعلى هذا سقط احتمال

(1) المستدرك - كتاب الحج - الباب 132 - من أبواب أحكام العشرة.
320

دلالة سائر الفقرات عليه أيضا، ومن بعض ما ذكر يظهر الكلام في دعاء يوم الاثنين
(نعم) لا يأتي فيه الاحتمال الأخير لذكر خصوص الغيبة فيه، لكن احتمال الحق
اللازم فيه أبعد بل غير صحيح لذكر بعض ما لا يكون كذلك جز ما فيه.
نعم لا تبعد دعوى العلم أو الوثوق والاطمينان بصدور بعض الروايات، وعليه
يمكن أن يقال: إن مقتضى العلم الاجمالي بصدوره لزوم الأخذ بأخصها ومع التباين
بينها يجب الاحتياط.
لكن يمكن أن يقال مضافا إلى أن كثرة الروايات في مثل المقام الذي يرجع
جميعها إلى عدد معدود، لا توجب الوثوق بالصدور فضلا عن العلم به فعليك بالرجوع
إليها حتى ترى أن كثيرا منها مرسلات عن النبي صلى الله عليه وآله يحتمل أخذ بعض الرواة
عن بعض، ومضافا إلى أن مضامين الروايات مختلفة وجوبا واستحبابا ومعه لا علم
بتكليف الزامي: أن موثقة السكوني الحاكمة على جميعها تمنع عن تنجيز العلم
الاجمالي، وأما الرواية المذكورة فلا مناص عن العمل بها لكونها معتمدة موثقة
لكن في دلالتها على المطلوب اشكال، لأن قوله: ففاته، قرينة على أن الظلم الذي
يجب الاستغفار لصاحبه هو ما يمكن جبرانه عند وجود المظلوم وليس مطلق الظلم
مما يكون له جبران وكون الغيبة كذلك أو الكلام، بل لا تدل على وجوب الجبران
عند عدم فوت صاحب المظلمة لعدم تعرضه له.
إلا أن يقال: إن الظاهر وجوب الاستغفار له فيدل على وجوب أداء الحق،
ويمكن أن يقال: إن الأمر دائر بين الأخذ باطلاق قوله: من ظلم أحدا وحمل الاستغفار
له على الاستحباب، لعدم قائل ظاهرا بوجوب الجبران في مطلق الظلم، أو حمل
الظلم على ما يكون له جبران وابقاء الأمر على ظاهره، وكيف كان لا دليل معتمد على
وجوب الاستحلال أو الاستغفار للمغتاب فإن ماله دلالة قاصرة سندا وغالبها قاصرة
سندا ودلالة، وبعض ما هو معتمد كرواية السكوني قد عرفت حالها مع احتمال أن يكون الاستغفار المذكور هو الاستغفار لنفسه عن ذنبه وأن المظنون أن يكون
الاستغفار لصاحبه كما أشرنا إليه لكنه ظن خارجي لا حجية فيه (تأمل)
نعم لو كانت روايات الاستغفار له تام السند لكان احتمال قرينيتها على المراد
321

فيها قريبا. وهنا احتمال آخر في متن الرواية وهو احتمال كون
(ففاته) تصحيف (فعابه) كما في رواية الجعفريات المتقدمة
لتشابههما كتبا، واحتمال العكس أبعد وعليه تخرج الرواية
عن شهادة الجمع ولا يرد عليها الاشكال المتقدم
في الحقوق المالية بل لعله صار قرينة على
غلط النسخة، لكن الانصاف أن
هذه الاحتمالات لا يعتنى بها
والله الهادي
كتبها العبد المفتاق إلى الله الكريم مؤلف هذه الوجيزة السيد روح الله
ابن السيد مصطفى الخميني عفى الله عنهما.
322